نصوص أدبية

نصوص أدبية

تقديم: هناك نوع من البكتريا تستطيع أن تنشطر إلى مالا نهاية، وهي بهذا السلوك تضمن الخلود، لقد فكرت كثيرا في رواية تنشطر فوجدت أن قصّة الومضة يمكن أن تلد قصة والقصة تلد قصة طويلة والمجموع بالتالي يؤلّف رواية أو رواية قصيرة ولابدّ في حالة الانشطار هذه أن يحتفظ الحفيد - حفيد الومضة -  ببعض سمات أبيه وجدّته، يتجلّى ذلك في بعض مقاطع من السّرد والحوار.

***

المهرّج

قصّة ومضة

تذكّر، وهو يشعر بقوة خارقة رهيبة، عضة كلب هجين له وهو طفل، فأدرك أنّه الآن، في هذه اللحظة، يمكن أن يحرّك يده اليمنى فيتحوّل المشاهدون إلى كلاب، وعندما فعل، وصاروا كلابا عجز عن أن يعيدهم إلى صورتهم الأولى.

الانشطار الأوّل:

القصة الطويلة

أنا والجار والكلب

ربما هناك خطأ ما..

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب.. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت 2 المقابل لبيتي، كان منزلي على وفق التصنيف البلدي، يحمل الرقم السابع، بدت علاقتنا طيبة جدا. فالجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا يتطفل

ويقابل الجميع بابتسامة ودودة

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل ّيوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فألقى الكلب نظرة خاصة عليّ وزمجر بوجهي.. كاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. وظلّ يصيح:

That’s shy T

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ وينسجم مع رائحة بدني.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة. ثمّ أخذت أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح مهتاجابطريقة شرسة، ويوازي خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعر الأمر قليلا من الاهتمام في الأيام الأوّل حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة..

مصادفة ذات يوم ترجّل جارنا من السيارةكان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشدّ حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة، في هذه اللحظة، تململ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، ونطّ من الباب الخلفي إلى الأرض.

كـأنّه اغتنم فرصة لا يودّ أن تضيع..

رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنّه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدٍّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد ولعلّي أقرؤ ذاكرته البعيدة..

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذائي وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كلّه، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمد رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok? هل من شئ؟

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

- لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

- نعم نعم اطمئن

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي.. أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفضل المعطف الثخين، و حثّني فيما لو كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت أن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سألني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعد دقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

- التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

- لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

- إذن قهوة بالحليب.

- الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

- السكّر أم ماذا؟

- أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

- أنا أفضّل القهوة من دون حليب أو سكر.

- بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جرّبه له طعم حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

- عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

- لا شكر على واجب بالمناسبة أودّ أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

- لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

- كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كلّ يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

- أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع ربّما رائحتي لا تعجبه!.

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

- إنّه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضهم وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادرها، وما عليّ إلّا أن أجاريَه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

- أنا معك.. صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

- قلت من أي بلد أنت؟

- من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

- تذكّر.. هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر ؟هل قتلت أحدا كلبا أو بشرا أو آذيت؟.. تذكّر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

-  حسنا سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف:

- ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

-  أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

- مجاملة.. مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهم يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم:

- وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنّه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

- لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

وجدتها لعبة.

حقا إنها لعبة مثل شريط سينمائي تختلط فيه كلّ مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط.. ولا الطيور الجارحة والحمام.. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها، والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم قط.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي الكلب أنمار حارس بستاننا الكبير.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الواسع فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطة تعجبني أكثر من غيرها جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن.. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد.. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها-  حالما يخيم الظلام -  بعض الرجال من أقاربنا ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا - حالما تفرغ من الخبز في التنور-  ألقيه أمامه فيهزّ ذيله ويلتهمه بشغف.

أُحسّ أنه يبتسم لي ويضحك..

منتهى الخيال.. في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث.. تتكلّم مثلنا نحن البشر.. ، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي تتواصل بالأصوات والإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البرّ وعاد معه كلب ضخم ذو ملامح شرسة ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما.. بقدومه أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة للمزاح واللهو.. أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا أوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض الكلب الجديد الذي لم يجد أهلي له اسما بعد وراح ينبح نباحا حادا

قرأت غضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يحيطونني

أنا في حضن أمي التي أخذت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

البيت القلعة كلّه يتحرك

بعض الأمان يخيّم حولي

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلفُّ به زندي الممزق وخدي. أثر الناب أسفل العين.. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمتّ. يحمدون الله على أنّي أستديع الرؤيا.. وأهل البيت يلهجون بأضحيَة مقابل البلاء.. شكرا لله على دفع الشرّ، لم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فك الخروف الضحية الذي عملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

هل حقّا قتله؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني بنفسه، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكَلَب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك هل هناك بيت في نهر جاسم لا تسمع فيه نباحا يشتت ظلام اللصوص.. الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح كما يقول أبي؟ وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة) كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة، تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلبه قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود:

- هل وجدت ضالتك؟

- هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

- لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. أسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها في الوقت نفسه أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

- ليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب T

قبل أن أعترض واصل:

- أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آذاك.

أضحك في سري لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود.. السرّ أنّ الفيل أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. مخلوق رقيق لا يأكل القاذورات العيب فيه ضعفه.. عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لكنت أختار جسد ملك. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة - حسب شهادة علم عاصرني-  مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة..

قلت معترضا:

- افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

- مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أيّ اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

- كلها حوادث عابرة.

- هذا كل شئ

- ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

- لم أبادر أحدا بأيّ أذى عن عمد

- ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

- سأحاول أن أتذكر

- عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

- حسنا إلى لقاء.

3

كان علي أن أكمل اللعبة التي بدأتها. أستطيع أن أتوقف في أية لحظة تعجبني لكني أجد لذة في المضي بعيدا معها.

تشاجرت

ضربت أحدا

ضربني

زوايا مخفية مظلمة.. حالكة الظلام في حياتي لا أرغب في أن أكشفها لكي لا أدان.

في الحرب كنت أطلق النار. ربما قتلت. رصاصتي أحدا وربما طاشت، ولا أظنّ أن الجندي أو الضابط الذي قتلته يعرفني حتى يلتقيني في حياة أخرى

أجمل شئ في الحرب أنّ القاتل والمقتول لايعرف أحدهما الآخر

وقد لايفهم أحدهما لغة الآخر فلا انتقام في حياة تالية..

إذن فصل الحرب يُمكِنُ أن يطوى فلا أحد يعرف في أيّ حياة جديدة له من قتله ولا قتل من. وقد جاءت هذه المرّة من رحلتي الطويلة.

هناك شخص أمامي.. شاب مزعج.. وسيم الصورة بذئ اللسان. كنا في الصحراء.. خليط من مصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض المشارقة نشتغل في تعدين الحديد

نأكل ونشرب وننام..

نلعب الورق

كلّ منا يحسن ويسئ الظنّ بالآخرين.

أمّا مسؤولنا فكان من أهل البلد، كنت أتودّد إليه، مدفوعا بخوفي من المجهول، وكان معضم الذين معنا في القاووش يظنونني جاسوسا للسيد المدير الذي يؤمن بقائده وفلسفة البلد العنفية..

التعالي.. والغرور

كنت أشعر بالذنب وأحيانا بالضعة، وكان أكثر مما يزعجني أن أرى ذلك الشاب، يحكي حين يتحدث مع الآخرين بالألغاز. يلعن يوما جاء فيه الى بلد ليس من شئ فيه سوى النقود. أناس لايقدّرون إلا من يتمسّح بهم. طيشه الزائد عن الحدّ جعلني أفسّر أقواله لمزا بي.:

تحيّة الصباح التي يلقيها أحدنا على الآخر

 سلام الطريق

أيّة حركة أو إشارة وكلام أجده لمزا مبطنا يشير به إليّ.

لا أنكر أنّه وقح

صريح

ثرثار إلى حدّ الغثيان.

وقد اضطررت في أحد الأيام ونحن نقف في طابور لاستلام وجبة الغداء إلى الشجار معه.

أيّ سبب

كان يقف خلفي في انتظار دوره، فتراجعت إلى الخلف متعمدا فسقطت الصينية من يده وتناثرت الصحون على الأرض. فصاح بي صيحة تردد صداها بين الجدران.

لا أعرف.. واثق من نفسي أنّي لا أقدر على أن أبتكر شيئا خارجا عن موهبتي.

قلت:

- لاتزعق مثل الحمار..

شعر بإهانة ثقيلة، وصاح:

- خسيس

- قذر

- جاسوس

عندئذٍ

والكلمة الأخيرة استفزّتني كثيرا

سقطت في غضبي، نسيت كلّ شئ..

اندفعت نحوه، وهويت بصينيّةٍ أحملها بين يديّ على رأسه، بكلّ قوّة هويت على رأسه، فتمايل ثمّ ترنح، لم يتدخّل العمّال ممن كان حاضرا من أهل البلد أمّا العمّال الأجانب فقد تزاحموا حولنا، سحبوني إلى الواجهة.. وأخذوه إلى زاوية بعيدة..

كان الأجانب الذين أعيش معهم في القاووش، ينفردون بنا.. يلوموننا نحن الإثنين.. يهمسون في حديثهم أنّ البلد لا يتحمّل أيّ شجار سوف تنتشر عدوى التمرّد من الأجانب - وإن كانت تافهة - إلى أهل البلد.

بعد ساعة استدعى المسؤول خصمي ثمّ طلب مقابلتي.. قلت له إنّه يثرثر ويستفزّ، يتهمني بصفات لا تنطبق عليّ يظنّ أنّي أرفع التقارير إليك عن العمال، إنّه استفزّني إلى حدّ بعيد.. ومع الخشونة المعهودة عن المسؤول بحقّ الأجانب فإنّه تعاطف معي، كان شبه مقتنع بأقوالي، فالتفت إليّ وقال ببعض الزهو:

- لا عليك سأنقله إلى العنبر الثاني وسيعمل في صهر المعادن.

بهذه الصيغة انتهى فضّ النزاع

وقد

سمعنا ضجة ذات يوم في عنبر صهر المعادن، فعلمنا أن خصمي تعرض لحادث في رجله وتناثرت أخبار هنا وهناك تروي أنّه فقد ساقه.

إسفت..

أسفت جدا.

ولم ألم نفسي.

كنت فقط أستردّ كرامتي.

4

مرّ على حديثنا في الهاتف بضعة أيام، ثم استقبلني السيد مارتن في بيته، قبل لقائنا أخبرني أنه أرسل T إلى بيت أخته إذ سوف يغادر إلى لندن بضعة أيام. الحق لم أرتح للفوضى التي رأيت عليها الصالون.. بقايا لوز وفستفق على الطاولة المستطيلة وثمة علبة كوكا كولا وقنينة بيرة فارغة.

فوضى

إهمال

عبث

وأجمل مافيه أنه يتجلّى في تمثال لبوذا من الفخار اللماع ينتصب على منضدة صغيرة جنب التلفاز بيديه المتشابكتين وعينيه اللتين تشملان العالم بلمحة وادعة بعيدة.

كأني شممت رائحة الكلب، أو هو إحساسي الخفي، لا أشكّ بأنفي، وعليّ أن أقتنع أن في الببيت رائحة حيوان لا أرتاح لها..

كان يعود من المطبخ بالقهوة وعلبة من حليب اللوز:

شكرا أشربها سادة

قل ماهو الجديد؟

تذكرت حادثة لي مع شخص.. شجار ضربت فيه شابا بقسوة

رائع لعله البداية.

متى حدث ذلك؟

منذ أكثر من عقد في إحدى الدول العربية.

تناولت رشفة من الفنجان على مضض أو مجاملة فقد زكمتني رائحة البيت والكلب:

- هناك حيث جعلتني رمال الصحراء أخرج عن طوري.

بدا مهووسا بالتفصيل:

ماهو سبب الشجار؟

كان ذلك الشاب ينظر إليّ بنظرات الاحتقار يظنني جاسوسا أراقب العمّال وحين نكون في مجموعة نلعب الورق ونتسامر يروح ينظر إليّ نظرات غريبة ويتحدّث بالألغاز حتّى جاء يوم فقدت قدرتي على الصبر فهويت على رأسه بصينية الطعام وبسبب الشّجار نقله المسؤول إلى مكان ذي خطورة، وفقد رجله.. (ومن دون أن ألتقط نفسي) ماذا ترى؟

Fantastic-

استغربت من انسجامه مع القصة:

- حقيقي؟

- طبعا.. لعلنا نعثر في قصتك على السبب

- ولم هذه الحادثة بالذات؟

 - هي الأقرب للواقع، راح يضيّق حدقتي عينية، كما لو كان يستعرض الواقعة:وما الذي عرفت عنه فيما بعد؟

- يقال إنهم رحلوه أو طردوه.

- نسيت أن أسألك عن اسمه هل تتذكره؟

- رشاد أنور

=فتمتم بعدي بلهجته الإنكليزية وهو يفتح شدقيه مع الحروف فيتقلص مع حركة فمه خدّه الأيسر:

Rashad Anwar-

- حسنا ياسيدي سأكتبه لك

- لو سمحت.

كانت هناك احتمالات تجعلني أظنّ اللعبة لا تطول فصاحبي مثل محقق قدير تتبع الحادثة بصيغة تناسب أفكارا تجول برأسه،، وصاغها حسب رغبته، هاهو يتأمل كلامي ويردد بصوت مهموس رشاد أنور:

- هذا كلّ مالدي فهل تجده يستحقّ التأمّل.

- طبعا اسمع ياصديقي أنا يهمني كلبي. إنه بمثابة ابني. قد يرحل أبناؤك إلى بلد بعيد، وربما تنفصل عنك زوجتك. الكلب عندي مثل الابن بل إنّك حين تتركه في مكان بعيد تجده يعود إليك.. وفي مبدأ التناسخ أن الأرواح الشريرة تدخل بعد الموت في مخلوقات أقل منها، عقابا لها، لكي تتطهر وأظن رشاد أنور دخل في جسد T.

قد أسخر من نهاية اللعبة، وربما تعجبني، هناك واقعتان في حياتي واحدة مع كلب كاد يقتلني والأخرى في أوروبا مع كلب يبدو هادئا مع الجميع ويرحب بكل من يلتقيه ويتنرفز حين يراني، والأدهى نظراته ذات المعنى الغامض لي:

- لا أعرف ماذا يجول برأسك فهو مجرد افتراض

- إسمع ياصديقي حين أعود من لندن يرجع إلي T سأخاطبه باسم رشاد أنور وأرى أي انطباع يطرأ عليه؟

- أنت تجعلني أشك في أني أنا أو أنت بمستوى كلب أو

فقاطع بضيق:

- أو حشرة قلها ولا تتردّد لِمَ لا الطبيعة حسب مبدأ التناسخ تعاملنا من دون فوارق قد ننسى جميع حياتنا الماضية ونحن نعيش حياة جديدة هناك بعض الاستثناءات نتذكر فيها بعض الماضي مثل حالة رشاد أنور.

أضحك في سري في الوقت نفسه أعترف الآن أني انفعلت وكان الأجدر بي ألا ألجأ إلى العنف

ضربتُ رشاد انور وبسببي بتروا رجله وطردوه.

أصبح كلبا وبعد سنوات التقاني فعضني

والكلب فرخ الذئب.. أيّه روح هي عادت إلى الحياة من جديد فتذكرت ماضيها؟

وبعد سنوات أموت فتحل روحي في كائن آخر:من سوء حظّي إني أقرف

أقرف الآن على الأقل من أن أصبح قطّا يأكل فأرا

نمرا يفترس خنزيرا

أو أسدا ألتهم فرخ الذئب الذي هاجمني عندما كنت طفلا

حيرة فاقعة باهتة

أصبح الحديث معه مملا.. النهاية بهذا الشكل لم تعد تعجبني فنهضت مستأذنا وبسطت إليه يدي

- الآن علي أن أغادر

- وأنا سأرى إذا ثبت حسب قراءتي أنّه رشاد أنور فسأبعثه إلى منظمة الرفق بالحيوان لأنني لا أرغب أن أعيش مع حيوان يتذكر حياته السابقة !

فتساءلت باستغراب:

- هل تتذكّر المخلوقات حيواتها السّابقة.

- بعض الحالات النادرة نعم وربّما منها حالة رشاد أنور.

شدّ على يدي فغادرت وقد اكتشفت أني كنت على خطأ فاللعبة التي ظننتها جميلة مليئة بالفنطازيا أصبحت مملة في نهاياتها لاطعم لها.

29\5\2023

الإثنين

انتهيت من الكتابة الساعة 11 ليلا

***

الانشطار الثاني

المتحوّلون

مع ذلك فقد اتصلت بالسيد مارتن بعد أسبوع

ربما هناك خطأ ما…

خطأ في أّنّي أخفيت عنه حقيقة خجلت منها، وخفت..

لا أريد أن يكرهني الناس بمختلف أشكالهم وألسنتهم إذ يرونني صاحب موهبة تستطيع أن تتلاعب بهم

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت ذا لبرقم 2 المقابل لبيتي، كنت أسكن في المنزل السابع على وفق التصنيف البلدي، وبدت علاقتنا طيبة جدا. الجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا ينطفل

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل يوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فزمجر الكلب بوجهي وكاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. كان يصيح:

That’s shy T-

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها مع أيّ أحدٍ من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ.

لحدّ الآن تجاهلت الماضي القديم، فأنا بحكم الخبرة أعمل في سرك، شغلي بالضبط الأول مع الكلاب والثانويّ مروض أسود، أجعلها ناعمة أمامي، ذليلة.. حالما أرفع سوطي وأثبت عينيّ بعيونها.

موهبتي التي ضمرت بمرور الأيام.

لا أظنني أختلق أو أدعي زورا هناك أعضاء إذا لم تستخدمها تضمر، إما تتلاشى قوّتها أو تختفي، يداك.. رجلاك.. عيناك يمكن أن تتعطّل حين تهملها، وقد أعرضت عن مهنتي التي كادت تسبب لي المشاكل من جديد حتّى جاء كلب الجيران فأحيا الماضي البعيد جدا..

كأنّه استخلصني منه!

اصطفاني..

أحياه في الوقت الذي أظنني فقدت فيه موهبتي ولست أتذكر منها أيّة لمحة.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة الأمر الذي دفعني إلى أن أجيد فنّ السيرك والتعامل فيما بعد مع الحيوانات غير الأليفة. ثمّ أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح بطريقة شرسة، ويتتبع خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعرالموضوع في البدء قليلا من الاهتمام حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة ظهرت بعد أن ماتت موهبتي أو هو من سلالة كلب عاش قبل عشرين عاما فزمجر بوجهي لأنّي عجزت أمامه فلم أعده كما كان. ؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة

مصادفة

ذات يوم ترجّل جارنا من السيارة كان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشد حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة في هذه اللحظة، نطّ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، وجرى من الباب الخلفي إلى الأرض. رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد

يعرفني حقّ المعرفة

نظرته

التفاتته إليّ

هل أقرؤ في وجهه بعض السخرية؟

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذاني وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى.. أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كله، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمدّ رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

نعم نعم اطمئن.

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفعل المعطف الثخين، و حثّني فيما كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت بأن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سالني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعدها بدقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

إذن قهوة بالحليب.

الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

السكر أم ماذا؟

أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

أنا أفضل القهوة من دون حليب أو سكر.

بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جربه له طعم

حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

لا شكر على واجب بالمناسبة أود أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كل يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع، (وأردفت من دون توقّف)عجيب أمر يثير الدهشة حقّا.. والحق أقول لك إن مهنتي السابقة مروض أسود في السيرك!

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

آه حقّا.. عملتَ في السرك؟

بضع سنوات!

هنا في بريطانيا

- لا في الشرق

لم أدخل في تفاصيل عن هربي من السيرك، كان ينظر إليّ بدهشة:

إنه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضها وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادر، وما علي إلا أن أجاريه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

أنا معك صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

قلت من أي بلد أنت؟

من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

تذكر هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر هل قتلت أحدا ؟ كلبا؟ أو بشرا ؟ أو آذيت تذكر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

يا عزيزي سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف.

ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

 أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

مجاملة مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهمٍ يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم، ولم أنس قطّ أنني مارست الموهبة الوهم ذات يوم فقلبت المشاهدين إلى صورة أخرى لبشئ الوحيد الذي أخفيته عن نفسي والآخرين ئلا أدين نفسي باعترافي..

وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

إنّها لعبة جديدة تفرض نفسها عليّ

 مثل شريط سينمائي تختلط فيه كل مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم، وأقرف من سلوكهم.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي أنمار.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الكبير فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطّة جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أقول اعترافي بغض النظر عن تلاعبي بالجينات لا عن بحث علمي ولفائدة ما بل مجرد هواية اكتشفتها وأنا أمارس مهنتي في السيرك. فأيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها- حالما يخيم الظلام-  بعض الرجال ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا حالما تتم الخبز في التنور ألقيه له فيهز ذيله ويلتهمه بشغف.

أحسّ أنه يبتسم لي ويضحك

منتهى الخيال..

في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي أصوات وإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البر وعاد معه كلب ضخم ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما. أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا اوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض وهو ينبح نباحا حادا

قرأت عضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يجيطونني

أنا في حضن أمي التي راحت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

أهل البيت القلعة كلهم يتحركون.

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلف به زندي الممزق وخدي. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمت. ولو كانت في عيني لعميت.. هكذا يقولون.. وما علينا إلا نذبح أضحية شكرا لله على دفع الشرّ، ولم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فكّ خروف، نحر فرحا بسلامتي وعملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني.. يطرد الشرّ، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكلب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك لم يخل بيتنا تماما من كلب، هناك الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح وهل هناك بيت في نهر جاسم يخلو من كلب كما يقول أبي؟وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة)كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلب قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود؟هل وجدت ضالتك؟

هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. اسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها لكنني أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

Tليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب

قبل أن أعترض واصل:

أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آنذاك.

أضحك في سري.. لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود في الوقت نفسه أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. رقيق لا يأكل القاذورات لكنه ضعيف عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لرحت أختار جسد ملك.. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة. ربما هذا هو الدافع الذي جعلني أفجّر هوايتي في لحظة ما

أغتنم الضحك

والتصفيق

والاستحسان

فأتلاعب بالآخرين من دون أن يحسّوا..

قلت معترضا:

افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أي اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

كلها حوادث عابرة.

هذا كل شئ

ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

لم أبادر أحدا بأي أذى عن عمد

ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

سأحاول أن أتذكر

عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

حسنا إلى لقاء.

3

حدث ذلك بعد حرب الخليج الثانية

قبل أن تسير بي الأحداث إلى مسائل معقدة ترآى لي ذلك اليوم البعيد بصورة سفر على أمل أن أحيط بالعالم والناس، وفي السفر اكتشفت موهبتي..

لقد جعلتني موهبتي، في حبّ الكلاب والخوف منها، أهاجر

أحبّ السفر

وأتعلم مهنة تجعلني لا أبتعد عن الحيوان.

من حسن حظيّ أني وجدت وظيفة صباغ ومنظف على متن أحد البواخر، المهنة تدعونا لأن نعشقها. حين ترسو الباخرة في ميناء ما، أجلس فوق الماء علىكرسي خشبي معلق أكشط الزنجار عن الحديد الملاصق للماء وأصبغ الخط العائم فوق الماء. وإن فرغت من عملي أغادر الماء إلى الداخل. مهنة سهلة جدا، يقال أنها غير مريحة، فالصباغ على البواخر يقضي عمره مع البحارة لايستقر على بر من البصرة إلى الهند ومن الهند إلى اليابان، لامكان. متى يستقر عامل البحر ويتزوّج؟لا أرغب أن أجعل الأمور أصعب مما هي عليه.

بعد رسونا في اميناء بومبي سمعنا بالحصار. معنى ذلك أننا لا يمكن أن نعود، أو يمكن أن نعودبعد فترة، كل يتصرّف حسب هواه، لم نعرف كيف تسير الأمر فقبطان الباخرة ومساعده غادرا إلى بلد أوروبي يطلبان اللجوؤ،. كان معي نقود تكفيني لأكثر من شهر. عملة صعبة.

ولا أفكر باللجوء

لا أعرف هل سيرسلون أحدا إلينا يعود بنا.

للوهلة الأولى

أصبنا بالصدمة

نزلت إلى الساحل أفكّر في مصيري، هل أقتطع تذكرة وأعود إلى البلد. رحت أتجول في المدينة أغيب مع عالم الحيوانات. زالمطاعم الشعبية، البائعون المتجولون، مرقصو الأفاعي، القرود السائبة، ليست هي المرة الأولى التي أزور فيها الهند، فما بين حربي الخليج الأولى والثانية زرت على نفس الباخرة ميناء بومبي.

وقد شخص أمامي سرك مفتوح/مدخله سهل فيه مروض أفاع يجلس أمام قفص مغلق بداخله أسد ومدربه. وقفت أمام المدرب الذي كان يغازل أفاعيه: سألني:

هل من أمر؟

وأاندفع مدرب الأسود من داخل القفص:

العرض يبدأ في المساء.

فعرفت أنّه هو الذي يملك القرار:

هل يمكنك أن تدربني؟

فقال الآخر الذي سكنت الأفعى في حضنه:

من أي بلد أنت؟

العراق البصرة..

فهتف الاثنان بحماس: أناس طيبون!

أزاح مدرب الأسود الحاجز الحديديّ ثمّ خرج من القفص، وقال بابتسامة واسعة:

كان جدي أب أبي يعمل في البصرة بائع توابل في سوق تسمونه سوق الهنود.

فتجرأت لأقول برجاء:

االبلد أصبح في حصار، ولا أريد أن أعود من دون شئ، هناك رغبة لديّ في أن أعود ومعي حرفة لذيذة تنسي الناس همومها وتدر عليّ بعض المال، سأتكفل بطعامي، وأعطيكم مايفيض عن ثمن التذكرة مقابل تدريبي على بعض مالديكم.

فتأملني صاحب الأفاعي:

الأفاعي موجودة في كل مكان، يمكن أن تتقن التعامل معها.

ورفع مروض الأسود يده فصمت الآخر ثمّ ربت على كتفي: سأعلمك التعامل مع الأسود لكنك لن تستفيد منها. إنّك لن تأخذ إلى بلدك أسدا أو فيلا الحيوانات الأليفة السائبة في كل مكان ولن تكلفك معيشتها شيئا.. مارأيك؟

منذ اليوم الأول بدأت مع الفرقة الطيبة عملي. عرفت أنّهما أخوان ذو الأفاعي (لاهار) وأخوه مروض الأسود ومرقص القرود والكلاب (جامار) أصبحا صديقي، كانا متدينين يذهبان إلى المعبد وقد صحبتهما مراتِ فرأيتهما يسكبان الحليب على تمثال وتماثيل يععبدانها، كنت أتحدث معهما بإنكليزية بائسة، ولا أعرف هل يعبدان بوذا أم إله آخر، ومن حسن حظي أني صاحبت جروا صغيرا لا صاحب وجدته في الطريق ينظر إليّ نظرات بريئة لا تخلو من انكسار.

عشت ثلاثة أشهر في السرك، أكلت طعامهم، ونمت في المكان نفسه تعلمت منهم أشياء كثيرة، مانوا بحدود خمسة. رجل آخر في حدود الستين لا يتكلم كثيرا.. شغلته أن يقف أمام أمام أيٍّ من النظارة فيخرج من جيبه شيئا ما قلم رصاص.. عملة معدنية.. منديلا.. وأكثر المشاهد سخرية ساعة طلب من أحد الواقفين أن يسحب سحاب بنطالة فأخرج منه لباس سبدة.. تعلمت من السيد (ابهير) خفة اليد، مع ذلك كنت بالكاد أتفاهم معهم بلغتي التعبي، وحين مرّت أربعة أشهر على بقائي في السيرك خشيت أن آتي على بقية نقودي، فعزمت على العودة.

قال لي جامار وهو يشد على يدي:

الجرو (زان) تعلق بك، سيفتقدك. زإن الكلاب أكثر تحسسا من البشر.

فضحكت وقد أشرت إلى الجرح تحت حاجبي:

إن لم يكن فرخ ذئب!

في تلك اللحظة راودني خاطر السندباد الذي حالما يستقر في بلد يحنّ إلى بغداد، ليس هو الحنين، ولا الرغبة في العودة، فالهند عالم فسيح، دنيا مبسوطة يمكن أن تلهو بها عن أيِّ مكان كان إلّا أن السندباد كان يسافر ويرجع عبر البحر أما أنا فقد سافرت يسفينة وسوف أعود إلى بلدي بالطائرة.

هذا هو الفرق!

لقد قدمت بمهنة جديدة تجعلني أكسب بعض النقود في بلدٍ يكاد يموت جوعا.

4

هكذا عدت إلى البلد بآية أخرى

لم أتعب نفسي فأبحث في رمال الزبير عن أفاع لجأت إلى السِّحر في خفّة يدي والكلاب. ووجدت ضالتي أيضا في الكلاب السائبة التي تعجّ بها مدينة البصرة. صادقت جروا جميلا بياضه مشوب بحمرة خفيفة. أجعله أمام الناس يمشي على رجليه، أو ينبح نباحا خفيفا.. ولم أنس أن أخيط له بدلة صغيرة ذات هيئة فيل صغير أدفعه يمشي، ويسادير ثمّ أنزع البدلة عنه فيقف على أربع، يستقبل تصفيق الناظرين ويحيهم بوقفة على رجليه من دون يديه وينبح نباحا خفيفا لينتهي عرضه.

يقف في مكانه..

فألف بعدها بين الحشد لأختار متطوعا يقف أمامه فأضع تحت حزامه خيطا رفيعا ثمّ أسحبه فتقع الأبطار على لباس داخلي أنثوي..

تصفيق وضحك

والناس في الختام يلقون في قبعتي النقود.

كان الحصار خانقا

مرعبا

مثل طاعون

مرض خبيث

جرب ينهش جلودنا

مع كلّ تلك البشاعة أرى الناس يعرعون بعد كلّ عرض إلى قبعتي فيلقون فبها نقودا.

لا أدري

هناك من يفضّل أن يستغني عن وجبة الطعام فيلقي بنقوده في قبعة المهرج.

ازدادت شهرتي، وازددت حضوة، دوائر الدولة الحساسة تجاهلتي. لم يطالبني أحد برشوة، الدولة لا تشكّ في ودائرة الأمن تجدني حدثا يشجع الناس على تحدي الجوع والحصار. كنت أقيم عروضي الغريبة في الهواء الطلق افي الساحات وعلى الأرصفة العريضة.. والحدائق.. والأسواق.. انتقلت من بلد إلى ولففت المدن، فأحبني الناس وأحبتني الدولة حتّى جاء يوم شعرت فيه بشئ غريب.

قوة رهيبة.

تجلى ذلك في يدي ونظراتي قسمات وجهي.

الجرو الصغير واقف كالتمثال جنبي.

تذكرت فرخ الذئب وعضاته

القرية

وليف النخلة الذي فركوا به جرحي

ضحكت فغرق الجمهور في التصفيق والصفير

عندئذ

تجلّت قوتي الرهيبة

تجمّد وجهي

 و

حامت

نظراتي بين الجمهور

لفّت

فعرفت أنّ قوتي الغريبة يمكن إن تحوّل الجمهور الواقف ومن ينظر إليّ من العابرين

إلى كلاب

كلاب حقيقية تنفي كلّ ماقيل من علاقة البشر بالقرود

فحركت يدي اليمنى:

واحد

إثنان

ثلاثة

فجأة

تحوّل المشاهدون إلى كلاب:

الرجال

النساء

الأطفال

الكهول..

راحت الكلاب تنبح بشكل عفويّ فوضويّ..

بعضها يزمجر ويتطلع في ّ بلغة التهديد بصوت أميِّزه قريب الشبه من زمجرة فرخ الذئب.

ولكي أتدارك الأمر

فأجعلهم يشعرون بالإهانة سارعت لتدارك الأمر. يمكن أن يحسَّ كلُّ واحد منهم - لو سارعت وأعدتهم إلى طبيعتهم الأولى-  أنّه مرّ بلحظات غاب فيها عن الوعي. ليس هناك أمامي من حلّ آخر..

رفعت يدي اليمنى وطوّحت بها في الهواء.

مرّةً

ثانيةً

أخرى

بقيت الكلاب تنبح جذلة

وبقيت منها مجموعة تزمجر وتعوي عواء مرعبا.

ربما هي يدي اليسرى. قلت مع نفسي، فرفعتها

وطوّحت بها

كما فعلت من قبل باليمنى

لكن

كلّ شئ مضى خارجا عن إرادتي

الجرو الذي تبنيته غادر مكانه واندس بين الكلاب المتحوّلين كَأَنَّه لايعرفني

في هذه اللحظة الحرجة تجلت لي حقيقة حادة كالشفرة:أقدر أن أحوّل الناس إلى كلاب بحركة من يدي لكنّي لا أقدر أن أعيدها إلى صورتها الأولى.

ماذا عليّ أن أفعل سوى أن أداري على جريمتي.. أهرب.

ابعد

أتلاشى

أخشى أن تنتقم منّي بعض الكلاب، فيها من أراه سعيدا يرغب في أن يتمسّح بي، والأخرى تهمّ بمهاجمتي لتنتقم.

الهرب

الهرب

تركت كلّ شئ ورائي.. أطلقت لساقي العنان فكانت الكلاب تركض خلفي، لابدّ من أن أجري، أقفز ساقية، أعبر إلى حقل

أصعد شجرة

فأضلل الكلاب

وأخشى من دوائر الدولة نفسها. المسؤولون الذين استسنوي ووجدوا فيّ صورة تشيع البهجة والفرح في وقت الكآبة واليأس، يرونني الآن بعد العرض الأخير مجرما.

أهنت الجنس البشري كلّه. ز

دنّست العالم كلّه.

لم تبق أمّة من الأمم على الأرض إلا وتدينني.

وجدت نفسي في هذه الدنيا وحدي.

تخفّيت

لبست أكثر من اسم

زوّرت..

ثمّ خرجت إلى بلدان أخرى

أواجه العالم

لأنسى هوايتي الأولى، فخرجت إلى بلد آخر، بصيغة أخرى..

5

ظلّت قضيّة السيرك تطاردني

إذ أنّي بعد الصحراء قدمت إلى بريطانيا، أظهرت جميع أوراقي، وأغلقت ملف السيرك وخفّة اليد، عملت صباغا في البيوت بدلا من الرحيل الدائم، لا أريد أن أتذكّر الكلاب والجرو المحبوب (قوس قزح) الذي عمل معي في البصرة وبقية المدن. فقد أقسمت على تفسي أن أبدو بشخص آخر.

لعلّ الذي دفعني هو عامل الخوف

الخوف من الضمير

من أهل بلدي

من العالم كلّه الذي انتقمت منه بحركة من يدي.

قد يتهمني أخد بأنّي رأيت نفسي أفضل من الجميع فحولتهم مإن لم أتعمّد الإيذاء إلى حيوانات.. لايهمّ نوع الحيوان.. فيل.. أسد.. نمر.. كلب كما حدث فعلا.. المهم حسب رأي الآخرين أنّي لا أقدر أن أحوّل نفسي عنئذٍ يميل ميزان العدل إلى إدانتي.

لذا

عليّ أن أعترف..

أعترف إل من يصغي إليّ ويقرّ بفعلي ولا يراني أهلوس..

أدرت قرص التلفون، وكنت خلال لحظات أتحدّث مع السيد مارتن:

- هل من جديد.

نعم كدت أنسى أو نسيت.. أو خفت أن أقول الحقيقة ولعلك تسمعني.

كان في منزلي بعد دقائق، فرحت أشرح له ما أخفيته عنه وعن العالم وسرّ انتحالي اسما ولقبا آخرين. كان ينصت إليّ باهتمام، والدهشة تعلو قسماته، وفي آخر المطاف، خاطبته برقّة متناهية:

- سيدي الآن ارتحت.. نفثت كلّ ما يجول بنفسي أمامك، فهل تصدّقني؟

فهزّ رأسه جادا، وقال:

- أتدري ماذا فعلت؟

- ألا تظنّها جريمة؟

- أبدا لا.. إنّك اختصرت الزمن من حيث لا تدري، وعكست فلسفة التناسخ؟

- كيف لم أفهم قصدك؟

- حينما تموت تحلّ روحك في وليد جديد.. باختصار الماضي يدخل في الحاضر أمّا أنت فقد جعلت الحاضر يتداخل في الماضي..

- يعني أنا لست شريرا.

- قطّ لا وما عليك إلّا أن تمارس هوايتك عد إليها.. واستجمع قواك الخفيّة.. أنظر.. غدا السبت في مركز المدينة يحقّ لكلّ إنسان أن يستعرض.. إذهب إلى هناك وسأمون مع الحاضرين لأراك تمارس هوايتك ولا يهمّ بعدها أن تعيد الأحياء إلى ماكانوا عليه، ولن أخاف أن أكون مع الناس..

ونهض يستأذن باإنصراف، وشدّ على يدي قائلا:

إلى اللقاء غدا لتكن هناك الساعة العاشرة..

أغلقت الباب خلفه، واسندت ظهري على المصراع ألتقط أنفاسي.. والرغبة تراودني في أن أذهب غدا إلى السّاحة العامة في مركز المدينة لأمارس هوايتي من جديد، فلن أخشى بعدُ من أن يدينني أحد إذا ما انقلبت بفعل تأثيري الأشياء إلى صيغة أخرى!

انتهيت من كتابة الانشطار الثاني صباح الخميس 5 \6\2025

***

مهرج السيرك

قصة ومضة

بقف مهرج السيرك وسط الساحة العامة.. يتجمهر حوله المارة.. يحسّ أنّ موهبته تسطع بقوّة أكبر بعد سبات عميق.. بستطيع أن يحول النظّارة إلى حيوانات وطيور.. يسألهم بلكنته الغريبة إن كانوا يرغبون أن يجرّبوا حياة جديدة فيتفجرون بضحك متواصل. فيروح يحرك يدع وبواصلون الضحك.. . .

***

د. قصي الشيخ عسكر

 تمّت الرواية مساء الأحد

8\6\2025

بـصـوتـك لـــو نـطـقتِ بـهـا أذوب

ويـشـرق مــن حـلاوتـها الـغـروبُ

*

لــثـمـتِ بــهـا وبـالـتـحنان روحـــا

مـعـانـي الــوجـد مـنـها لا تـغـيبُ

*

"حـيـاتـي" قـلـتـها فـانـسـاب نـهـرٌ

بـعـمـق الـقـلـب شـريـاني يـجـوبُ

*

فــقــولـيـهـا وقــولــيــهـا كــثــيــرا

بــفــجــرٍ أو إذا بـــــدأ الــمـغـيـبُ

*

وزيـديـهـا بـحـلـو الــصـوت لـحـنـاً

يــذوب لـحسنه الـصخرُ الـمهيبُ

*

كتبتُ الحرف يتلو الحرفَ شوقي

كـخـطـرِكِ إثـــرُهُ مـسـكٌ وطـيـبُ

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

لم تكن صباحات نهر الألب تشبه سواها. هنا، حيث يتعانق الضباب الخفيف مع أشعة الشمس صباحًا، وتتسلل الحياة من بين أهداب الأشجار كشاعر يستفيق على قصيدة لم تُكتَب بعد. كنت أركض كعادتي، لا أطلب من هذا الطقس سوى أن يغسلني من ضجيج العالم، أن يترك على روحي أثر العشب النديّ والصمت الطافح بالهدوء، حيث تهب نسائم الصباح العذبة من بين أغصان الأشجار، فتداعب وجهي برقة الأم الحنون، وتنساب بين أنفاسي كأنها ترتيلة سرّية تبعث في الروح سكينة لا توصف.

الضفة كانت ساكنة، ساكنة كقلبٍ صابر، لا يعكر هدوءها سوى خطوات العدّائين وتحياتهم الخفيفة، تلك التي تشبه تعاويذ صداقة عابرة، لكنها تمنحك دفعة روحية لا يستهان بها. شعرت بنفسي أندمج في هذا الإيقاع، أركض بجسدٍ حاضر وعقلٍ تائه بين فروع الصفصاف وندى الصباح.

لكن شيء ما أوقفني.

كان الصوت أول ما اخترق جدار انسجامي... بكاء. لا، لم يكن مجرد نشيج عابر، بل صوت طفل صغير، هشّ، لا يزال يتعلم كيف يعبر عن ألمه.

تلفّتُّ حولي. لا أحد. الشاطئ خالٍ إلا من بعض المارّين، وكلهم يواصلون خطواتهم وكأن شيئًا لم يكن. لم يلتفت أحد. كأن البكاء لم يلامس آذانهم.

ترددت لحظة، ثم استأنفت الجري، لكن روحي لم تواصل معي. كانت عيني تبحثان، قلبي يصغي، وقدماي تقوداني لا إراديًا نحو الصوت، حتى وصلت إلى شجرة بلوط معمّرة، تقف بجذعها الملتوي كأنها أمّ أنهكتها السنون.

وهناك، خلفها، كانت هي...

طفلة صغيرة، بالكاد تتجاوز الرابعة، ترتجف بصمتٍ مرتبك، تمسح دموعها الصغيرة بكمّ ثوبها، وتنظر حولها بعينين تحملان من الرعب أكثر مما ينبغي لقلبٍ بهذا الصغر أن يحتمل.

اقتربتُ منها ببطء، وركعت أمامها. هامسة

"هالو يا حلوه، ما الامر...أين أمّكِ، صغيرتي؟"

رفعت رأسها نحوي، لم تنطق. فقط نظرت إليّ نظرة من اعتاد أن يختبئ من الصراخ، من الهجر، من الخوف.

حينها، فهمت.

ربما لم تكن هذه أول مرة تختبئ فيها، لكنّها المرة الأولى التي اختبأت فيها واكتشفت أن لا أحد عاد يبحث عنها.

رفعت كتفيها بحركةٍ واهنة، كأنها تقول: لا أعلم. كان في عينيها رجاء خفيّ أن أفهم صمتها. انحنيت قليلاً وسألتها بنبرة هادئة، لا تُخيف ولا تُقلق:

ــ ألم يكن بابا أو ماما معكِ؟

أومأت برأسها إيجابًا، ثم خطت نحوي بخجل وتردّد، وفي عينيها البريئتين سؤال خافت: هل أنتِ سيئة؟

ابتسمتُ. كيف لطفلة بهذا العمر أن تحمل هذا الحذر؟ تذكّرت في تلك اللحظة تحذيرات الكبار لأطفالهم من الغرباء، أولئك الذين يُختصر العالم فيهم بخطرٍ مجهول. فقلتُ لها، بنبرة حنونة كنسمة:

ــ بالطبع لا... أنا هنا فقط لأساعدكِ في العثور على ماما، سويّة.

رفعت يدها الصغيرة ومسحت دموعها بكمّها، ثم حين وقفت قبالتي تمامًا، لمحت في زرقة عينيها الطفولية وهج طمأنينة خجول. أشارت بأصبعها نحو بقعة قريبة، كان العشب فيها لا يزال مثنيًّا تحت أثر أجساد جلست عليه منذ لحظات، وقالت:

ــ كنّا هنا... أنا، وماما، وأخي بَني، نتناول فطورنا.

ــ وأين هم الآن؟ لماذا أنت وحدك؟

أطرقت برأسها، ثم رفعت عينيها نحوي وقالت بصوت خافت ممزوج بشيء من الاعتياد المؤلم:

ــ ماما وبابا يتشاجران دائمًا. وفي البيت، حين أسمع صراخهم، أختبئ في دولاب الملابس... وهنا، عندما بدأ الشجار، لم أجد سوى هذه الشجرة لأختبئ خلفها. ماما طردت بابا، فذهب إلى البيت او، لا أدرى. ولا أعرف إلى أين ذهبت ماما مع بَني...

تجمّدتُ في مكاني. كيف يُثقل هذا الصراع اليومي قلب طفلة؟ كيف اعتادت الاختباء بدل أن تُحضن؟ ومع ذلك، تماسكتُ. وقفت قرب المكان الذي دلّتني عليه، وقلت بلطف:

ـ لا تقلقي، ماما ستعود قريبًا. فلنجلس هنا، حيث كنتِ معها، ومع بَني، ومع بابا.

ابتسمت ببراءة، وسبقتني إلى المكان. كانت قد هدأت قليلًا، وبدت ملامحها أكثر صفاءً. نظرت إليّ وسألت، قبل أن أسألها نفس السؤال:

ــ ما اسمك؟

فكّرتُ في اسم لا يُربكها، اسم فيه أنسٌ وقرب، فتذكّرت النحلة مايا، فقلت:

ــ اسمي مايا. وأنتِ؟

رفعت ذقنها وقالت بثقة طفولية:

ــ اسمي صوفيا.

يا له من اسمٍ جميل... صوفيا!

ــ هل بيتكم قريب من هنا؟

هزّت رأسها موافقة. شعرت براحة تسري في صدري، وربما شعرت هي أيضًا بنوعٍ من الأمان القريب. راودني شعور أن أمها، حين لم تجدها قربها، ربما ظنّت أنها عادت إلى البيت. لكن شيئًا في قلبي ظلّ يتساءل:

كيف لأم أن تترك طفلتها وحيدة في مكان مفتوح، لا تدري ما قد يأتي عليه من خوفٍ أو برودة أو بشر؟

جلستُ قرب صوفيا، والعشب لا يزال يحتفظ بحرارة من جلسوا قبلنا، كأنّه لم ينسَ أجسادهم بعد. كانت السماء تتسلل منها خيوط شمس خافتة، والهواء يحمل رائحة النهر التي امتزجت برائحة كريمة الحليب اليابسة على فم صوفيا.

راحت تعبث بأطراف ثوبها، وكأنها تخيط صمتها بخيوط من الطمأنينة الجديدة. أما أنا، فكنت أغرق في دوامة من التفكير:

ما العمل الآن؟ كيف أساعدها؟ لا أستطيع أن أتركها وحدها، ولا يمكنني أن أسلّمها لمجهول أكثر منها جهلاً به.

لكن الشرطة؟

كان مجرد التفكير في الاتصال بالشرطة كفيلاً بأن يبعث فيّ قلقًا غامضًا... لا أدري لماذا. ربما شيء ما في ملامح صوفيا، في ارتجاف صوتها وهي تتحدث عن "دولاب الملابس"، جعلني أشعر أن تدخل السلطات سيحوّل هذه البراءة إلى ملف، هذا الحدث إلى تقرير، وهذا الخوف إلى تحقيق روتيني، ربما يؤثر على مستقبل الطفلة.

أخرجت هاتفي لأطلب النصيحة من زوجي، ثم ترددت لكيلا أعكر طمأنينتها. نظرت إلىَّ صوفيا وكأنها تحاول قراءة افكاري، كانت قد بدأت ترسم بعصا صغيرة خطوطًا على تراب العشب، رسومات عبثية لبيت وشجرة ووجه يشبه أمها، دون أن تدري أنها تختزل المأساة في تراتيل الطفولة.

سألتها برقة:

ــ هل تتذكرين طريق البيت؟

هزّت رأسها مجددًا. عيناها هذه المرة كانتا أقل خوفًا، كأنها علّقت في وجهي أملًا جديدًا. فكّرتُ:

ربما أرافقها حتى البيت. فقط لأتأكّد أنها بخير. لن أتركها، ولن أُدخلها دهاليز البيروقراطية المقيتة.

مددت يدي إليها، فنهضت وأمسكت بي دون تردّد. كنا على وشك المغادرة، حين سمعت صراخًا خافتًا... صوت امرأة.

توقفنا. التفتُّ، وصوفيا تجمّدت، كأن الصوت اخترقها. كانت الصرخة تنبع من خلف الكثبان الرملية على بعد خطوات، ثم تلتها شهقة، فبكاء مكتوم.

اسرعتُ الخطى، وبقيت صوفيا خلفي، تركض بخطى متعثرة.

وما إن اجتزت الكثيب، حتى رأيت امرأة شاحبة الوجه، مبعثرة الهيئة، تحمل طفلًا رضيعًا بين ذراعيها وهي تجثو على الأرض، تصرخ باسمها

ــ صوفيا!

التفتَت الطفلة فورًا، صرخت من قلبها:

ــ مامااااا!

ركضت نحوها، والمرأة فتحت ذراعيها بلهفة الأم حين تلتقي الحياة بعد موت. ارتمت صوفيا في حضنها، وهما تبكيان دون أن تُقال كلمة.

وقفت متسمّرة، قلبي يئنّ، لا فرحًا فقط، بل بقلق دفين.

اقتربتُ، ببطء، وعيناي تحاولان قراءة ملامح تلك المرأة:

كانت منهكة، لكن عينيها كانتا ممتلئتين بشيء أشبه بالهشاشة الخجولة... أو الندم.

نظرت إليّ بامتنان لا صوت له، ثم همست وهي تضم طفلها الآخر إلى صدرها:

ــ ظننت أنها عادت إلى البيت...

ثم أطرقت، ولم تضف شيئًا.

في تلك اللحظة، لم أشأ أن أعاتبها، ولا أن أطلب تفسيرًا. فهمتُ كل شيء، أو على الأقل، ما يكفي لأصمت.

عدت بخطاي إلى الوراء، دون أن أستدير. كانت صوفيا لا تزال تلوّح لي، بعينين تغمرهما البراءة، وكأنها تقول:

شكرًا لك مايا لأنك لم تكوني سيئة.

وخلف صوفيا وأمها، تركتُ تلك البقعة محاطةً بدمعة صمتٍ ثقيل، يشبه ما بعد العاصفة. في قلبي كان امتنان صغير لأني وصلت في الوقت المناسب، ولأن صوتًا واحدًا ـ بكاءً صغيرًا ـ كان كافيًا ليهزّني من أعماقي.

وأنا أعبر طريق العودة على ضفة النهر، لم تغب عن بالي، بل حاصرتني صورة أولئك الأطفال الذين لا تأتي أمهاتهم، ولا يسمعون أسماءهم تُنادى وسط الخوف... أطفال غزة، الذين اعتادوا الصراخ ثم الصمت، والركض ثم الاختباء، والبكاء دون أن تسبقهم يدٌ حنونة أو تتبعهم نظرة أمٍّ خائفة.

صوفيا وُجدت، واحتضنتها أمها من جديد، أما أولئك الصغار في غزة، فقد انكسر حضن الأم تحت الركام، وغاب صوت الأب في لهب القصف، وأصبحت بقايا الشجرة التي يختبئون خلفها، آخر ما تبقّى لهم من معنى الطفولة.

في غزة، لا يكفي أن تعود الأم... لأنها في الغالب لن تعود.

ولا يكفي أن تصغي للبكاء... لأنّ البكاء هناك بلا انقطاع، بلا صدى، بلا مجيب.

فهل يسمع العالم صوفيا غزة؟؟؟

أم أن الطفولة عندهم مجزأة ولم تكن يومًا كافيةً لتوقظ ضمير أحد؟

**

سعاد الراعي

 

في حَرِّ يومٍ قائِظٍ يَشوي الجَسَدْ.

جَلَسَ حِماريَ العَزيزِ (أبو الحَيرانِ) جَلسَةَ الأسَدْ.

قَالَ لي:-

يا (ابنَ سُنْبَه)، أَيُّها السَيّدَ السَنَدْ.

إِنَّ العِراقَ اليَوْمَ يَعيشُ بضيقٍ ونَكَدْ.

و إِنّي أَرى أعمارَنا تفنى وتَضيعُ بَدَدْ.

فَلا مُستقبَلَ لأَبناءِ العِراقِ ولا رَشَدْ.

أَربابُ السياسَةِ أَضاعوا منّا البلَدْ.

دَبَّ الخَرابُ في بلادِنا وكلُّ شيءٍ فَسَدْ.

فصارَتْ بلادُ الرافدينِ خَيمَةً بلا عَمَدْ.

كَسَفيْنَةٍ بلا رُبَّانٍ ولا شِراعٍ ولا وَتَدْ.

يَا أَهلَ العراقِ يا أَهْلَ النَخْوَةِ والجَلَدْ.

يَا أَهلَ العراقِ يا أَهْلَ العُدَّةِ والعَدَدْ.

فمَا أَنتُمّْ صَانِعونَ بِحَقِّ الفَردِ الصَمَدْ ؟.

قُلْتُ:-

يَا حَبيْبي وقُرَّةَ عَيْني يَا (أَبَا الحَيرانِ) يَا فَهَدْ.

مَا عَسَانا أَنْ نَفْعَلَ غيرَ الصَّبْرِ والجَلَدْ.

قِيَمٌ ضَاعَتْ في بِلادِنَا وكَذَا ثَرواتُ تَلَدْ.  (تَلَدَتْ ماشِيَتُهُ: تَوالَدَتْ).

حَالُ العراقِ صارَ فاشِلاً وخائِبَاً بِلا حَسَدْ.

بَلَدٌ يُهَرَّبُ مِنْهُ النَفْطَ كأَنَّهُ مَاءً مِنْ ثَمَدْ.  (ثمد الماءَ: استنبطهُ من الأرض).

كُنّا في العراقِ نَقُولُ: مَنْ جَدَّ وَجَدْ.

وَ مَنْ رَامَ العُلا كَمَنْ زَرَعَ فَحَصَدْ.

وَ اليَومُ لايَنالُ الدُنْيَا؛ إِلّا مَنْ بالوسَاطَةِ صَعَدْ.

ارتَشى بمالِ السُحْتِ كُلُّ زَنيْمٍ للمَالِ عَبَدْ.

تَسَلَّقَ المناصِبَ وعلى الفُقَراءِ تَنَمْرَدْ.

قُلْتُ:-

يَا (أَبا الحَيْرانِ)، يَا حِمَاريَ الحَبيْبِ إِهْدَأْ وَلا تَتَوَقَّدْ.

إِهْدَأْ قَليْلاً ؛ فَلِكُلِّ حَالٍ وَقْتٌ يَفْنَى ويَنّْفَدْ.

لَعَلَّ بَعّْضَ السياسيينَ يُصلِحوا مَا قَدّْ فَسَدْ.

وَ عَسَى أَنْ يَعودَ العِرَاقُ زاهِراً كَسَالِفِ العَهَدْ.

انْتَفَضَ شَقيْقُ رُوحِي (أَبو الحَيْرانِ) انْتِفاضَةِ الأَسَدْ.

وَ قَالَ:-

مُعَنِّفاً لي بِنَبْرَةٍ كَلِسَانِ نارٍ مُتَّقِدْ.

هَلّْ تَرجُو خَيّْراً مِمَنْ بَاعَ الضميرَ وللمَالِ صَلّى وسَجَدْ ؟.

قُلْتُ:-

فَدَيْتُكَ رُوْحِيْ يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ هَوِّنْ عَلَيْكَ رُبَمَا... قَدّْ... وقَدْ !!.

فَقَدّْ قَطَّعْتَ نِيَاطَ قَلبي ومَزَّقْتَ الكَبَدْ.

فَمَا العَمَلْ فَقَدّْ أَصْبَحْنَا كَقَطِيْعِ مَاعِزٍ بِلا رَشَدْ ؟؟.

يَسُوسُنَا مَنْ بالعَمَالَةِ والفَسَادِ اشْتَمَلَ والتَحَدْ !.

شَعّبُنَا يَقْتُلُهُ الفَقّْرُ والجَهْلُ والمرَضُ الكَمَدْ. (يَعِيشُ فِي كَمَدٍ وَغَمٍّ: في حُزْنٍ شَدِيدٍ).

مَدَارِسُنَا تَدَاعَتْ وصَارَتْ هَبَاءً وفَنَدْ.

دَمَّروا التَعليْمَ والأَخْلاقَ وضَيَّعُوا ثَرَواتَ الحَفيْدِ والوَلَدْ.

تَاجَروا بالتَعّْلِيْمِ فَضَاعَ حَقُّ مَنْ جَدَّ واجْتَهَدْ.

بَعّْدَ التَّخَرُجِ مِنَ الجَامِعَاتِ صَارَ شَبَابُنَا هَدَدْ.

مُهَنْدِسُونَ وفَنّْيونَ وصُنَاعِ عُدَدْ.

وَ كَفَاءآتٌ سَقَاها الفَقْرُ جُرُعَاتِهِ وعَلَى صُدُرِهِمْ سَجَدْ.

حَمَدْتُ اللهَ سَاجِداً ؛ أَنَّ حَمِيْرَ العِرَاقِ بالحِكمَةِ لها سَدَدْ !!. (لَهُ رَأْيٌ سَدَدٌ: سَديدٌ، صَائِبٌ).

أَنَّ حَمِيْرَ العِرَاقِ بالحِكمَةِ لها سَدَدْ !!.

***

محمد جواد سُنْبَه - كاتب واعلامي عراقي

أيها العارفُ بأسرارِ الورق،

الساكنُ في جُبَّةِ المعاني،

الحافي على سطورِ التنهيدة،

لماذا انحنيتَ فجأةً،

كأنكَ هويتَ مع أولِ رعشةِ خذلان؟

*

أأنتَ الذي كنتَ تتيم يدي؟

أم أنكَ كنتَ غريبًا يلبسُ هيئةَ الألفة؟

ألم نكن نتواطأ معًا على العتمة؟

ألم أرسم بكَ اقواس النسيانِ فوقَ الجراح،

وأعلِّقُ على سنِّك الهزيلِ دُموعَ المدنِ الميتة؟

*

لماذا إذن

حين استوحشتُ الدربَ من صمتِهم،

حين اختنقَ الحرفُ في صدري كصرخةٍ مشنوقة،

تراجعتَ؟

تلعثمتَ؟

بل، ارتعدتَ كطفلٍ رأى أباه يبكي؟

*

حتى أنتَ...؟

يا من كنتَ آخِرَ أعمدةِ المعنى،

خنتَني مثلهم؟

*

أكانوا كثيرينَ إلى هذا الحدّ،

حتى خِفتَ أن يضعوكَ في قفصِ الإتهام ؟

أم أنكَ، مثلهم، لا تحتملُ البوحَ حينَ يسيل دمًا؟

*

لقد كتبتُ بكَ أسماءَ الذين غابوا،

ونزف حبركَ في دفاترِ الذين اشتروا الخلودَ بنصفِ خطوة ،

سقيتُك من دمعِ وطني حين وقف على شرفةِ الانتظار،

ومرَّت القافلةُ دونَ أن تخلّفَ له ابنًا ولا ظِلًّا.

*

كيف تُرعِبُكَ الآنَ الكلمات

كيف تفرُّ من يدي كافعى الندم؟

أكنتَ خائفًا؟

من مَنْ؟

من صدى الحقيقة؟

من أن أكتبَ أن البلادَ لم تعدْ وطنًا،

بل قبرًا فسيحًا يُدعى ، "نحن"؟

*

ألا تدري أني خبّأتُك مرّةً تحتَ وسادتي،

لأنك كنتَ أغلى من ميراث أبي؟

ألا تذكر كيف هربنا معًا من حروفِ الرقابة،

وأدخلنا الحرفَ في سراديبِ المجاز،

وجعلنا الورقَ يشهقُ كالعرّاف،

والجملةَ تنهضُ من بينِ الأنقاضِ كقيامة؟

*

لماذا إذن،

حين أردتُ أن أكتبَ الحقيقةَ عاريةً،

وقفتَ بيني وبينَها،

كأنكَ أغمضتَ عينيَّ قبلَ أن ترى المدينةَ تُذبح؟

*

ليتني لم أؤمن بك،

ليتني ظللتُ أكتبُ بالفحمِ على الجدرانِ

أصرخُ في المدى،

أرسمُ وجهَ الشهيدِ على الندى،

دون أن تَرتعدَ أنتَ في يدي،

مثلَ خائنٍ يمسحُ بصماتِه عن جريمةٍ مخفية .

*

حتى أنتَ؟

حتى أنت، يا قلمي،

خُنتَني مثلهم؟

*

سأكسرُك...

لا، بل سأدفنكَ في دفتري الأخير،

وأكتبُ فوق قبرِك بالحرفِ الدامي ،

"هنا يرقدُ القلمُ الذي خان الحُرقة،

حين أرادت أن تصيرَ قصيدةً لا تموت."

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

كأنك وُلدتَ بحكمة الريح وأسرار الماء،

كأنك سراجٌ يضيء ليل الحيرة،

تُسند الغيمَ على كتف السماء، فيهطل معنى.

*

تُعلّم النجومَ أن ترتّل أسماءها،

وتصوغ للعشق وطناً في الأرضِ.

تدندن لحن الرًوح الأول،

وتفتح بابًا آخر للكون،

بابًا تشعّ منه فصوص الحكمة،

وتتدلّى كقلادةٍ من ياقوتٍ أزلي.

*

كيف حال الكلمة في حلق العدم؟

تسألُ سؤالًا يتمخض عن ولادة الكون،

وتزرع في الصمت نبوءةً.

*

تمدّ يديكَ عاليًا،

فتصير السماء هلال عيد

والأرضُ شعائر ذبحٍ عظيم.

*

يا ترجمان أشواقي

من أين أتيتَ بكل هذا العطر؟

كيف جمعتَ بين مسك الشرق

وأريج الغرب،

وحملتَ حضاراتٍ كاملةً في قلبك؟

*

غزيرٌ ضياؤك

كعالمٍ يتَسعُ لأحفاد نوح قبل الطوفان

كصحراء تعرف كيف ترشدُ التائهين،

كخرزٍ أزرق يحمل خزانةَ الأساطير.

*

تكتب وأنت تشدّ الغيب إلى عينيك،

تُطرّز الكلمات على جناح طائر،

ليُحلّق بها إلى أرواحٍ لم تُخلق بعد.

وتغيب، كريحٍ صامتة،

تترك أثرَكَ في الرمل،

وفي قلبي وحدة الوجود.

*

سبحان من علّمك أسرار المعاني

يا من تأتي كالنور

وتذهب كالغيم،

تضيء الليل باليقين،

وتروي العطش بحروفٍ من زمزم.

أنتَ كنزٌ مخبوءٌ في خرائط الروح،

ومئذنةٌ عاليةٌ تهدي كل من ضلّ السبيل.

*

عميقٌ أنت

كصوتِ نايٍ يسحرُ خصر المساء،

رقيقٌ كوشاحٍ من حريرِ الشرق،

أبديّ كوشمٍ سومري على يدِ العشق.

كأنّك جسيم الكمّ ترقب أقدارَ العابرين،

كأنّك خيلٌ مزينةٌ بذهبِ الصحراء،

وجبلٌ يحملُ سرَّ الكلمة،

أوجناحٌ يرفرفُ به عاشق الطيران

بين الأرض والسماء.

*

يا من رأيت الحبَّ سفينةً

تعبرُ من بحر الذات إلى شطآن الوجود،

والقمر قرطاً يتدلى على أذن الليل،

والمطر صوتاً يهمسُ في قلب الأرض.

أنتَ زمردٌ في يدِ الصوفيّ،

ومسكٌ في معابد العشق،

ومئذنةٌ تُنادي كلّ من ضلّ الطريق.

أنت الخريطة،

وأنت الطريق،

وأنت الغريب الذي وجدت جنته في كل شيء.

***

ريما آل كلزلي

 

السُّلَيمانيَّة الأُولى

مَخَافَةُ الرَّحمنِ رَأْسُ المَعْرِفَةْ!

والجَاهِلُوْنَ يَرْتَعُوْنَ حَاسِرِيْ رُؤُوْسِهِمْ،

في بَيْضَةٍ أُدْحِيَّةٍ مِنَ السَّفَهْ!

2

إِذَا تَـمَلَّقَتْكَ مَذْلَةٌ:

«هَلُمَّ، طِفْلَ صَبْوَتِـيْ أَنَا،

نَـكْمُنْ بِجُبِّ يُوْسُفٍ،

نَمْلَأْ كُؤُوْسَنَا أَغَانِيًا،

تَعَالَ، قَلْبَ قَلْبِيْ..

لَا تَـخَفْ ولَا تُـرَعْ...

نَبِـعْ خُيُوْلَـنَا غَدًا لِلطَّاعِنِيْنَ في الحِمَى،

نَبِـعْ عُقُوْلَـنَا بِعَقْلِنَا هُنَا..

مَا هَمَّنَا..

ولَا نَدَعْ!...»

*

إِذَا...

إِذَا...

لَا تَلْتَفِتْ لِوَجْهِهَا،

لَا تَرْتَشِفْ مِنْ صَوْتِهَا!

فَطَالَـمَا، في عَيْنِ كُلِّ ذِيْ جَنَاحٍ،

تُنْصَبُ الشِّرَاكُ،

تُوْقَدُ النُّجُوْمُ لِلشُّعُوْبِ في مَدَاخِلِ البِيَعْ!

3

مِنْ حِكْمَتِـيْ شَوَارِعٌ تَسِيْلُ،

تَسْقِيْ صَوْتَهَا

في كُلِّ سُوْقٍ قَسَّهَا،

أو صَلْتَهَا

مُنَادِيًا:

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

*

«مُغَنِّـيًا وأَصْنَجًا بِثَغْرِهِ»(1):

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

*

يَظَلُّ فَاغِرًا سُؤَالَـهُ كَالزَّوْبَعَةْ!

كَذلِكُمْ مَنْ يَأْكُلُوْنَ مِنْ ثِـمَارِ قَحْطِهِمْ،

ويَشْبَعُوْنَ مِنْ رَحِيْقِ جُوْعِهِمْ،

ثُـبًى.. ثُـبًى،

مِنْ كُلِّ مُنْحَلِّ الوِكَاءِ إمَّعَةْ!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّانية

هُوَ المِجَنُّ،

ظَاهِرًا وبَاطِنًا، لِلسَّالِكِيْنَ بِالكَمَالِ،

جُنَّةٌ مِنَ الغَرِيْبَةِ الَّتي أَنْفَاسُهَا الحَيَّاتُ في النَّايَاتِ،

مَنْ هَفَا،

هَفَا..

لَهُ تَصُبُّ رَأْسَهَا،

وتَسْكُبُ الرَّبِيْعَ في الخَرِيْفِ؛

بَيْتُهَا: يَسُوْخُ في المَوَاتِ،

سُبْلُهَا: مَشَتْ في دَاجِيَاتِ الأَخْيِلَةْ!

فَكُلُّ دَاخِلٍ عَلَيْهَا لَا يَؤُوْبُ،

كُلُّ عَابِرٍ إِلَيْهَا غَيْرُ عَابِرٍ مَدَى الحَيَاةِ لِلْحَيَاةِ،

كَيْفَ؟

وهْوَ عَاشَ عَاشِقًا لِلَبْوَةٍ ضِرْغَامَةٍ،

لِدِفْءِ نَهْدَيْهَا يَشُفُّهُ الوَلَهْ!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّالثة

تَقَلَّدِ الجَمَالَ مِنْ جِيْدِ الغَزَالْ

قُمْ، يَا غَزَالُ، واكْتُبِ الحَقَّ الزُّلَالْ

بِلَوْحِ قَلْبِكَ الحَرِيْرِ،

تَمْتَلِئْ خَزَائِنُ السَّحَابِ بِالثِّـمَارِ والغِلَالْ

تَفِضْ مَعَاصِرُ الكُرُوْمِ بِالجَمِيْلَاتِ

اللَّوَاتِـيْ مِنْ عُيُوْنِهِنَّ

لَاحَ مَا اشْتَهَيْنَ مِنْ مَعَادِنِ الرِّجَالْ!

2

طُوْبَى لِـمَنْ تَقَطَّرُ السَّحَابُ مِنْ نَدَى مَحَّبَتِهْ!

لَا تَبْرَحُ النُّجُوْمُ في سَمَاوَاتِ النَّعِيْمِ

تَقْتَفِيْ مَا تَقْتَفِيْ مِنْ وَارِفَاتِ جَنَّتِهْ

إِذَا اضْطَجَعْتَ،

لَا تَخـَافُ طَارِقًا،

ولَا تُرَاعُ مِنْ فَحِيْحِ بَغْتَتِهْ

يَصُوْنُ رِجْلَكَ الأَمَانُ

في حَفِيْفِ مُوْرِقَاتِ دَوْحَتِهْ

مِنْ سَارِقٍ أو مَارِقٍ بَيْنَ الرُّؤَى بِشِكَّتِهْ

إِنَّ الحَكِيْمَ وَارِثٌ مَجْدًا،

ومَوْرُوْثُ السَّفِيْهِ مِنْ رَمَادِ مَا احْتَـبَى مِنْ رِمَّتِهْ!

***

السُّلَيمانيَّة الرَّابعة

الحِكْمَةُ الرَّأْسُ،

الَّذِيْ..

«كَأَنَّهُ رَأْسُ حَضَنْ

في يَوْمِ غَيْمٍ ودَجَنْ»

*

لِأَنَّهُمْ مِنْ خُبْزِ شَرٍّ يَطْعَمُوْنَ،

خَمْرِ ظُلْمٍ يَشْرَبُوْنْ

لِأَنَّهُمْ مِثْلُ الظَّلَامِ لِلظَّلَامِ يُوْفِضُوْنَ،

لَا يَعُوْنَ مَا بِهِ سَيَعْثُرُوْنَ

في طَرِيْقِهِمْ إِلَى سَيْفِ الـمَنُوْنْ

مَهْمَا يَكُوْنُوْا،

أو تَكُنْ،

فَفَوْقَ كُلٍّ احْفَظِ الفُؤَادَ،

وابْعَثْ فِيْهِ كُلَّ سَاعَةٍ

تَارِيْخَهُ مُجَدَّدَا

لِأَنَّ مِنْهُ فِيْكَ تَخْرُجُ الحَيَاةُ لِلْحَيَاةِ،

لَا تَدَعْ سَمَاءَهُ،

بِعَيْنِ أَنْجُمِ الغَرَامِ،

صَخْرَةً،

أو كَالفَضَاءِ فَدْفَدَا!

***

السُّلَيمانيَّة الخامسة

ومَرْأَةٍ،

لَهـَا شِفَاهٌ نَاطِفَاتٌ بِالعَسَلْ

حَدِيْثُـهَا مِنْ عِطْرِهَا،

وعِطْرُهَا أُسْطُوْرَةٌ حَدِيْثَةٌ مُنْذُ الأَزَلْ

لكِنَّهَا كَالسَّيْفِ ذِيْ الحَدَّيْنِ،

يَمْضِيْ بَيْنَ قُبْلَتَيْكُمَا بِلَا خَجَلْ

ورِجْلُهَا تَخُوْضُ في دِمَاءِ قَلْبِكَ الذَّبِيْحِ،

يَا لَرِجْلٍ مِنْ قُبَلْ!

2

اِشْرَبْ عُلَاكَ،

بَيْرَقًا مِنَ الشُّمُوْخِ،

هكَذَا هَامُ الجِبَالِ،

مُذْ أَبـَتْ عَلَى الدُّنَى ولَمْ تَزَلْ!

يَنْبُوْعُكَ السَّمَاءُ

لَا جُبُّ المِيَاهِ/

ظَبْيَةٌ بِزَمْزَمَ ارْتَوَتْ،

وأَرْوَى في شَمَارِيْخِ الزَّمَانِ والقُلَلْ

لَا صَدْرَ تُغْوِيْ حَلْمَتَاهُ

طِفْلَ ثَغْرِكَ العَتِيْقِ في المَسَاءِ،

لَا قَوَامَ نَخْلَةٍ-

تَعَثْكَلَ البَرْحِيُّ مِنْ شُمُوْسِهَا-

تُرْضِيْ هَوَاكَ، يَا فَتَى،

ولَا الكَفَلْ!

***

السُّلَيمانيَّة السَّادسة

اُنْجُ كَظَبْيٍ مِنْ فَمٍ فَرَّاسَةٍ،

أو مِثْلَ عُصْفُوْرٍ نَجَا مِنْ عَصْرِ أَمْعَاءِ القَدَرْ!

اِذْهَبْ إِلَى مَدَارِسِ النَّمْلِ الحَكِيْمِ،

ادْرُسْ بِهَا مَنَاهِجًا في عِلْمِ تَدْبِيْرِ الحَيَاةِ،

عِلْمِ صَبْرٍ صَابِرٍ،

ولَاتَ حِيْنَ مُصْطَبَرْ!

إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى تَنَامُ، يَا كَسْلَانُ، هكَذَا؟!

وحَوْلَكَ الضَّجِيْجُ،

مِلْءَ مَسْمَعِ الأَصَمَّيْنِ،

الحَدِيْدِ والحَجَرْ؟!

بِمَرْأَةٍ، لَيْسَتْ بِأُنْثَى حُرَّةٍ،

يُسْتَعْبَدُ المَرْءُ الكَرِيْمُ،

يَجْتَدِيْ رَغِيْفَ عِزٍّ يَابِسٍ!

أَ يَحْضُنُ الإِنْسَانُ نَارًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ،

فَلَا يَصْلَى بِمَسٍّ مِنْ سَقَرْ؟!

أَمْ هَلْ تُرَاهُ:

إِنْ مَشَى عَلَى الجَحِيْمِ،

فَوْقَ قَرْنِهِ تَـمَشَّى (مَالِكٌ)،

رِجْلَاهُ تَرْجُوْ بَارِدًا،

بِهِ تُسَرُّ،

أو تُغَرْ؟!

***

السُّلَيمانيَّة السَّابعة

حَدَّقْتُ في أَحْدَاقِ لَيْلـِيْ مَرَّةً،

إِذَا غُلَامٌ صَاعِدٌ في شَارِعِ الظَّلَامِ صَوْبَ فَجْرِهِ،

بِلَا حِذَاءٍ أو حَذَرْ

كَالثَّوْرِ يَعْدُوْ نَحْوَ مَنْحَرِ الحَجِيْجِ في (مِنًى)،

حَتَّى إِذَا أَتَاهُ،

خَارَ، لَاعِنًا تَارِيْخَهُ،

وأُمَّةً خَانَتْهُ في (بَحْرِ البَقَرْ)!

أو مِثْلَ طَيْرٍ هَاوِيًا لِفَخِّهِ،

تَتْلُوْهُ في أَهْوَائِهِ طَيْرٌ أُخَرْ

فَقَبَّلَتْهُ غَادَةٌ في آخِرِ الضِّيَاءِ

قُبْلَةَ الوَدَاعِ،

ثُمَّ وَارَتِ السَّمَاءَ مِنْ وَرَائِهَا عَلَيْهِ

في غَيَابَةِ النَّهَرْ

وعَطَّرَتْ سَرِيْرَهَا بِعُوْدِهَا ومُرِّهِ،

بِمَا فُنُوْنُهَا هَمَتْ،

ومَلْثِ مَا رَوَتْ مِنَ الرُّؤَى...

أَغْوَتْهُ،

طَوَّحَتْ بِنَجْمِهِ ضُحًى،

فَهَلْ تُرَى مِنْ نَاهِدَيْهَا لِلْغَزَالِ مِنْ مَفَرْ؟!

ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ

ارْتَوَتْ مِنَ النِّصَالِ كُلُّهَا،

حَتَّى ثُـمَالَةِ المِيَاهِ في صَفَا العُمُرْ

وهكَذَا أَدْرَكْتُ، آخِرَ السُّؤَالِ:

أَيْنَ يَذْهَبُ الذَّبِيْحُ مِنْ أَحْفَادِ (قَيْسٍ)،

كُلَّمَا انْبَرَتْ لَهُ سِكِّيْنَةٌ لَيْلِيَّةٌ صَقِيْلَةٌ

مِنَ الحِوَارِ والحَوَرْ؟!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّامنة

الحِكْمَةُ الَّتي بَنَتْ قَصْرًا لَنَا،

الحِكْمَةُ الَّتي سَمَتْ مَنْحُوْتَةً

عَلَى شِفَاهِ المُرْسَلَاتِ والرُّسُلْ

الحِكْمَةُ الَّتي أَتَتْ بِعِيْدِنَا،

ورَاحِنَا،

يَفُجُّ فِيْنَا صُبْحُهَا،

شَعْشَاعَةً وصَافِيَةْ

ورَتَّبَتْ مَوَائِدَ الأَعْرَاسِ في أَعْصَابِنَا،

مِنْ كُلِّ بَحْرٍ لِلرُّؤَى،

مِنْ بَرِّ كُلِّ قَافِيَةْ

هَا أَرْسَلَتْ بِهَامِهَا،

أَعْلَى شُمُوْخِ شِعْرِهَا،

أَعْلَى قُصُوْرِهِ الأُوَلْ

نَادَاكَ مِنْ أُمِّ الذُّرَى نَئِيْمُهَا:

* المَوْتُ والحَيَاةُ فِي يَدِ اللِّسَانِ،

أَيُّهَا الإِنْسَانُ،

لَا تَقْطَعْ يَدَكْ!

* وَبِّخْ حَكِيْـمًا؛

كَيْ يُحِبَّ في الرَّبِيْعِ ثَوْرَتَكْ!

* حَارِبْ أَصِيْلًا؛

كَيْ يُخِبَّ في الصَّهِيْلِ مُهْرَتَكْ!

* يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ،

لَا تَحْزَنْ ولَا تُحْرِقْ دَمَكْ!

فَلَوْ نَخَلْتَ جَاهِلًا،

بَيْنَ السَّمِيْدِ والحَسَكْ

لَظَلَّ صَامِدًا عَلَى آبـَائِهِ،

مِنَ النِّفَاقِ والأَفَكْ!

*  خُبْزُ الكَذِبْ

لَذِيْذَةٌ حُرُوْفُهُ،

وبَعْدُ،

يَمْلَأُ الكِتَابَ بِالكُرَبْ!

* كَمُضْجَعٍ في قَلْبِ بَحْرٍ،

أو كَمُضْجَعٍ بِرَأْسِ سَارِيَةْ

يَنْدَاحُ مَضْجَعُ الهَوَى،

في نَبْضِ شِعْرٍ عَاشِقٍ،

بِمُهْجَةٍ مِنَ الضِّيَاءِ عَارِيَةْ!

* تُفَّاحَةٌ مِنَ الذَّهَبْ

في كَوْكَبٍ مِنْ فِضَّةٍ،

لَا آدَمٌ لَهـَا،

ولَا حَوَّاءُ..

مَا لَهـَا نَسَبْ

قَصِيْدَةٌ لِفَيْلَسُوْفٍ مِنْ طَرَبْ!

* إِنْ جَاعَ فَجْرًا مَنْ تَرَاهُ بَاتَ قَاتِلَكْ

أَطْعِمْهُ قُرْصًا مِنْ دِمَائِكَ الَّتي لَيْلًا سَفَكْ

ولْتَسْقِهِ مَاءً،

إِذَا مَا المـَاءُ جَفَّ في العُرُوْقِ،

والبُرُوْقِ،

أو هَلَكْ

تُغْرِيْ بِقَلْبِهِ الجَحِيْمَ،

تَبْتَنِـيْ قَلْبَ النَّعِيْمِ مَهْجَعَكْ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) من أغاني (اليَمَن)، للشَّاعر (مهدي علي حمدون)، مقطعٌ بليغ: «أَصْنَجْ بِجَنْبِهْ مُغَنِّي».  وأَصْنَج- أو أَسْتْنَج، بلهجات (فَيْفاء)- تعني: أَصَم.  وقد وردت هذه الكلمة- المستعملة في محكيَّات جَنوب الجزيرة العَرَبيَّة- على أنها: «أَصْلَج»، في تراثنا المكتوب.  ومعلوم أنَّ العَرَبيَّة تَرَحَّلت إلينا عبر المشافهة إلى الكتابة، فوقع خلطٌ كبير، وتصحيفٌ واسع، ساعدت عليه إشكالات الخطِّ العَرَبي؛ فرُبَّ مسموعٍ أصحُّ من مكتوب.

كان الليل ساكنًا، لكن عقل أنور لم يعرف السكون. في ركنه المعتاد من المكتب، جلس ببدلته المنزلية الرمادية، وأمامه كومة من الأوراق والصور والمستندات القانونية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، لكنه لم يشعر بالزمن. منذ شهر، لم يعش غير هذه اللحظة: لحظة الحسم، التي ستحدد مصير قضية ظلت تلاحقه ليلاً ونهارًا.

كان أنور محاميًا مخضرمًا، شارف على التقاعد بعد ثلاثين عامًا من المرافعات. هذه القضية لم تكن فقط قضية قانونية؛ كانت قضية كرامة. الفتى الذي مات في حادث سيارة كان ابنًا لجاره القديم، الذي عرفه طفلاً ثم شابًا يحلم بدراسة الطب. اصطدمت أحلامه بسيارة يقودها ابن رجل أعمال شهير، كان في حالة سكر، وقيل إنه كان يسابق رفيقه في شارع ضيق.

مسح أنور جبينه، ثم وقف لينظر من نافذته. الشارع مظلم، ورذاذ خفيف ينقر الزجاج. عاد إلى مكتبه وأخذ يراجع الملف بندًا بندًا، شاهد الصور، قرأ تقارير التشريح، راجع الشهادات. ثم أخرج من درجه مستندًا سريًا، شهادة خادمة كانت تعمل لدى أسرة المتهم، قالت فيها إنها رأت الشاب يتسلل إلى المرآب ليلاً بسيارته الفارهة. كانت هذه الشهادة، رغم خطورتها، غير رسمية، وقد رفضت لاحقًا المثول أمام المحكمة.

دخلت زوجته سعاد تحمل كوبًا من الشاي بالنعناع، اقتربت منه بلطف وقالت:

– أنور، أرجوك، إن لم تنم الليلة، لن تكون قادرًا على المرافعة غدًا.

ابتسم لها، وربّت على يدها بحنان.

– هذه القضية يا سعاد... هي آخر ما سأخوضه في هذا العالم المليء بالخداع. أريد أن أخرج مرفوع الرأس.

صباحًا، بدت قاعة المحكمة أشبه بمسرح متوتر. عيون الصحافيين، كاميراتهم، همسات الحضور... كلها كانت تترقب ما سيقوله المحامي أنور.

وقف شامخًا، بصوته الهادئ، بدأ يلقي مرافعته، معتمدًا على ترتيب منطقي محكم. استعرض مراحل التحقيق، ثغرات رواية الدفاع، تقرير الطب الشرعي، وفجّر المفاجأة: تحليل الدم أثبت وجود نسبة كحول عالية في دم المتهم.

– "أيها القاضي المحترم، لا نبحث عن الانتقام، بل عن الحقيقة... هل يجب أن يموت شاب بريء دون محاسبة؟ هل العدالة تفرّق بين الفقير والغني؟"

كان الجمهور مشدودًا، حتى هيئة المحكمة بدت متأثرة. أنور شعر بالاطمئنان، حين التفت نحو والد الضحية الجالس في الصف الأول، رأى في عينيه بريق أمل.

في نهاية اليوم، أعلن القاضي أن النطق بالحكم سيكون في جلسة الغد. خرج أنور من المحكمة كمن خرج من معركة رابحة.

في المساء، جلس مع سعاد يشربان الشاي. ابتسم وقال:

– أشعر أنني فعلت ما بوسعي. القضية واضحة، وكل شيء في مكانه.

قالت زوجته:

– هذا أكثر ما أحبه فيك... إيمانك بعدالة الكلمة.

قبل جبهتها. ثم صعد إلى مكتبه، تفقد الملف مجددًا، أغلقه بعناية، ووضعه في الدرج السفلي. ترك النافذة مواربة. لم يكن يتوقع أن أحدًا سيتسلل إليه، فالثقة كانت تملأ قلبه.

في صباح اليوم التالي، كانت المحكمة أكثر ازدحامًا. جلس أنور في مكانه بثقة، وعيناه على القاضي الذي بدأ تلاوة الحكم:

– "بناءً على المعطيات المتوفرة، وبعد دراسة الأدلة والشهادات... تقرر المحكمة: تبرئة المتهم لعدم كفاية الأدلة."

كأن شيئًا انكسر في أنور. لم يفهم... ما معنى "عدم كفاية الأدلة"؟ لقد سلّم كل ما في الملف، كل وثيقة، كل صورة...

بجانبه، ابتسم المحامي الخصم وقال بصوت خافت:

– أحيانًا... لا يكفي أن تكون الأدلة موجودة، بل أن تبقى في مكانها.

بدأت الشكوك تنهشه. راجع ذاكرته: هل سلّم المستندات كاملة؟ هل... ترك الملف؟

ركض نحو سيارته، انطلق بسرعة نحو منزله. دخل المكتب، بحث في الأدراج، لم يجد الملف. كل شيء كان كما تركه، ما عدا شيء واحد: النافذة مفتوحة أكثر مما كانت عليه، والملف... مفقود.

في تلك اللحظة، فهم أنور. لم يكن الأمر صدفة، ولم يكن فقط إهمالًا. لقد دُبّر كل شيء. ربما أحدهم دخل ليلًا، سرق الملف، وربما بترتيب من الطرف الآخر.

جلس على كرسيه، وضع يده على جبينه. لم يشعر بالغضب... بل بشيء أعمق: الخيانة. خيانة للنظام الذي آمَن به، للقانون الذي خدمه، للحياة التي عاشها من أجل الدفاع عن المظلومين.

سعاد دخلت ووجدته مطرق الرأس. اقتربت وسألته:

– خسرتم القضية؟

هزّ رأسه ببطء.

– بل خسرنا العدالة.

في الأيام التالية، لم يغادر أنور البيت. كان صامتًا، يقرأ الجرائد، ويراقب التلفاز. صور المتهم الشاب وهو يبتسم أمام الكاميرات، التصريحات التي تمجّد "انتصار البراءة"، كلها كانت خناجر تغوص في صدره.

ذات صباح، قرر أن يكتب مذكراته. جلس إلى المكتب، وبدأ في تدوين عنوان الفصل الأول: "كيف تُسرق العدالة في وضح النهار؟"

***

حسن لمين - كاتب مغربي

في عالـمي اليومَ لا ديـنٌ ولا قِـيَـمُ

والكلُّ مُـجـتـمعٌ والـرأيُ مُـنـقَـسِـمُ

*

وعـالـمي اليومَ أمـريكا تُـسـيّـسهُ

لا شـيءُ يُـلـزمُـها والـكُـلُّ يَـلـتـزمُ

*

بـمَـنطقِ الـعِهـر أمـريكا تَـعامُـلها

فهي الوحيدةُ مَـنْ يـعفـو ويَـنـتَـقِـمُ

*

ترى الحقوقَ بما تـقضي مَصالحُها

وفي تَـقـاطـعـِها لا شـيءَ تـحـتـرمُ

*

ومَـنْ يُـخـالِـفُها يـلـقى عُـقـوبَـتَـهُ

وهي الـضليعةُ بالارهابِ مَـا تَـسِـمُ

*

لها صكوكٌ من الغُـفرانِ تَـمنحها

للـمجرمين اذا في ركـبها انـتـظموا

*

كلُّ الـجـرائمِ والفوضى بـعالـمنا

من ذلكَ الـبـيتِ وكـرِ الـشرِ تُـسـتَـلَمُ

*

في بيـتها الابيض الـشـيطانُ سـاكنُهُ

يـحـكي جـرائـمَها مُـذْ أُسّـسـتْ عَـلمْ

*

وإنْ رَجِـعـنا الى الـتأريخِ نـسـألُهُ

أيـنَ الـهـنودُ رجالُ الارضِ أينَ هُـمُ

*

فـدولة الـعِـهرِ أمـريكا بها شَـبـقٌ

سـاديّـةُ الـطبعِ في شـهواتها عَـرَمُ

*

كم من جـرائمها الـنكراءِ شـاهـدةٌ

ومـجلـسُ الامـنِ إنْ قالتْ فهمْ غَـنَـمُ

*

لا بُـدّ من رادعٍ يـلـوي شَـكيمتها

كفى الـشعوبَ الى الطاغوتِ تـحتكِمُ

*

أرى بهــيـأتها مـن أنّـهـا دولٌ

وهي الـغُــثاءُ وإنْ قـالـتْ تَـقُـلْ نَـعَـمُ

*

واللهُ أقـوى مِن الـباغي ودولـتِهِ

مـنـهُ الـقرارُ إذا مـا جـاءَ تـنـحـسِـمُ

*

كـلُّ الامـورِ اذا دارتْ دوائـرها

في سُــنّـةِ الله أن الظُــلـمَ مُـنـهـزمُ

*

ودولـةُ الـعِـهـرِ أمريكا لها أجلٌ

من قـبـلها أُهْـلِـكَتْ في بـغـيها أُمَـمُ

***

الحاج عطا الحاج يـوسـف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الجمعة في 6 / 6 / 2025

بين التراقي سنابل عجاف

ورائحة الدم في الخناجر

تفوح كحلم الأيتام في كل مكان

تجثو نظراتي اليائسة نحو بلادٍ هزيلة

سفكت بسيوف الخذلان

اتشرد كشاعرٍ ضائع بين ازقة المجاز

لم تنبأه القصيدة

تاركًا اشيائي المرغوبة

تتكسر كخبز ٍ يابسٍ فوق أصابع الجياع

حبيبتي يغني الكناري على اكتافها الناعمة

اتركها بلا رأفةٍ ورحمة

حبيبتي لا تبكي

سرحي ضفائرك الجميلة

وبرزي زنديك الحريرين

وساقيك العاجيين

امضي الى رجال ذوي شوارب لامعة

يحترفون الغزل كبحارة يجوبون البحار

يتسكعون سكارى بين دهاليز نهديك الدافئة

كأسي امتلأتْ سهواً من جرار السندباد

سكرتي عنوان وعيي وملاذي الجنون

فغرامي متعفن بدخان المدينة

وابجديتي عارية الحياء

مثل بنات الليل

أكثر من الشتائم المجنونة

في الشوارع والحانات

ومستنقع الزنازين

اترك قهر المواعيد

لمن يعزفون الترف

**

لم أنل نصيب اسمي

في هذا الوطن المختنق

بانفاس الخونه

ذبابة على الباء ذبابة على الالفِ

وناموس يمتص ماتبقى من اسمي

وما تبقى من دماء وطني

أين البصيرة يا شعبي

اذرعكم مربوطة بحبالِ العبودية

تتحكم فيكم السلطات المخصية

افيقوا من خطب القساوسة الأفاكين

حطموا قيودكم وامضوا نحو الحرية

يا ثوار شعبي لنتبادل الادوار

لكم دور السجان وللسجان العذاب

يا مساكين شعبي لكم دور الجلاد

اجلدوا مؤخرات القردة بالحذوة

(وبولوا) على وجوهٍ قذرة

اكلوا الحصاد والزرع

والماء وملحه

الاقحوان وعطره

لم يتركوا غير الدم

والعظام وبقايا من الأسنان

***

باقر الموسوي

 

أنا الجميلة كما أنا:

ابنةُ الضوءِ والعاصفة، نقشُهما

وسامُ صبرٍ محفورٌ على ملامحي.

القدرُ كتابٌ يخطّ وجهي،

وفمه من تحوّلاتِ حكايتي.

*

كيف يكونُ الوجعُ في آخر النهار،

وله سيرةٌ وخرائط؟

هل في ارتقائي شقوق؟

في مصابيحي عبث؟

لا.

في وجعي صعود،

وفي محوي نهوض.

*

فالوقتُ ليس عبثًا في الفصول،

ولا صانعَ تجاعيدَ في وجهي:

لا فوز له إلّا ما منحتُه،

ولا مفتاحَ بيده إن لم أمهّد له.

*

هكذا، يقرأون سيرتي:

لا وطنَ في مرايا الزيف،

لا مساحيقَ في أرضي،

ولا حتى غفوةٌ في صمتي.

*

ناطقٌ، ناطقٌ هو،

فصيحٌ، فصيحٌ هو زمني.

أنا كما أنا.

دربي هو الطريق،

والنشيد هو القافلة،

والوشم حقيقةُ ملامحي.

*

العزّ ليس بمنأى،

ولا الضفافُ بأبعدَ من مرامي.

لا يشكّلني سوى النهار

تبنّيت أدواره،

تدرّجتُ في ملامحه:

عينٌ ترقب،

واحتضانٌ للحضن،

وسؤالٌ للتربة والأعالي،

ودعاءٌ للسجود،

وهدايةٌ للطريق.

*

هناك:

أنصاري،

وأرضي،

ومرآتي كدربي: أفتخر بها.

هناك،

كُلّي.

***

نوال الوزاني

احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.

- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.

شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.

كانت تعبر زقاقا مظلما حين تعثرت بذيل فستانها الأبيض. أمسكت يد بمعصمها. يد باردة تتعرق، بينما حر الأنفاس يدنو من رقبتها.  تسارعت دقات قلبها وهي تركض في غير اتجاه ثم تدلف إلى مقهى بوراس. تتعالى الزغاريد وإيقاع الدف. يد مخضبة بالحناء تلامس بطنها المنتفخ. مهلا، ليست حناء بل دما.. دم؟ انتفضت من نومها فارتخت يد باردة.

رحل!

على حجرها تهدهد الصبي لينام، وتبحث سبل التخلص من عمه الجلف. طلبها للزواج فرفضت. راودها فتمنعت، وصاحت منذرة بفضح سلالة ابن الحرام الذي يأكل لحم أخيه ميتا.

- الولية مجنونة!

وفي مقهى بوراس أسند ادعاءه بضائقة طوقت عنق والدها بحبال الديون. إنهم مجانين! غير أنها لم تكترث. في حضنها قرة عين سيكون عزاء الحاضر، وثمرة صبرها العلقمي. لن يكون لها شريك فيه. هو ظلها وسندها، وأمنية كل أرملة صغيرة في مهب الريح!

كبر قرة العين واشتد عوده. لا يثير وساوسها إلا حرصه على أن يجالس عمه في مقهى بوراس. في النهاية هو عمه، والظفر لا يطلع من اللحم. أقنعت نفسها بأن الزمن يسدد بصيرة الغافل، ولا يقطع حبل القرابة، ليجد المرء يوما من يهيل عليه التراب، ويغفر له زلاته. بيد أن الزمن كان له رأي آخر!

تمددت على الفراش بصعوبة، بينما أسرعت الجارة لوضع جبيرة على الكاحل ولفه برباط محكم. غشت عينيها سحابة من دمع خفيف لكنها تكابر.

الولد سر أبيه، وطيفه الحاضر كلما استبد بها القلق. نظراته، وشروده المستمر كأنه يلتمس في أحلام اليقظة بابا سحريا. جل تصرفاته تشي بأنه هو! حتى نشوة الكيف سرت إليه كاللعنة. جذبته يومها من ياقة قميصه، وألقت حقيبة الظهر قبل أن تركلها:

- إلى أية هاوية يجرك عمك الجلف هذه المرة؟

-الشمال.

- ولِم؟

- سأهاجر.

- إلى أين؟

- لا يهم، إذا أردت البقاء هنا مغروزة كالوتد فهذا شأنك!

يحلفون برأس وليهم المدفون أعلى التلة، أنهم لم يروا قط أشرس منها لما داهمت المقهى. جحظت أعينهم المحمرة، وطار من الأدمغة خدر الكيف وهم يتحاشون ضربة منجل أفلت منها بأعجوبة. ركضت خلفه فتعثرت بأذيال ثوبها. شدت على الكاحل بمنديل ثم واصلت مشيتها المكابرة.

لم يرها أحد بعد ذلك، لكنهم عاينوا زجاج قلب يتحطم!

***

حميد بن خيبش

يا زهرةً من عطر الكواكب،

يا ميسم الضوء في غيم الوجود،

يا من وُلدتِ من رحم الدعاء،

ومن حليب الكبرياء،

ومن سُهاد العيون المشرعةِ على فردوسٍ ،

بك إكتمل...

*

كوني مختلفة،

كالآية التي تنزلُ في صمتِ الجبل،

كالنهر الذي لا يثني عن مجراه سوى أمرِ السماء.

لا تُشبهيهنَّ، لا تكرري الملامح المستهلكة،

ولا تنقشي وجهكِ بكحلٍ ليس منكِ،

بل اصنعي من روحكِ مرآة،

ومن خطواتكِ قصيدة لا تُقرأ إلا بماء القلب.

*

كوني راقية،

لا كمن يتصنّعن الرقيّ في تفاصيل زائفة،

بل كمن تُنبت سنابلَ المعنى في أرضٍ قاحلة.

ارفعي حاجبَ الكبرياء لا استعلاءً،

بل تذكيراً بأنّكِ سيدةُ الوقت حين يتأخّر الزمن،

وأنّكِ حارسةُ الضوء في المدن المطفأة.

*

انثري الخير،

كأنّكِ النسيمُ العابرُ على جراحِ الغيم،

مرّي ولا تُفسدي،

امسحي على الجبين المكسور ولا تسألي،

فمن عرف العطاء لا ينتظر شكراً،

ومن أعطى النور لا يطلبُ إلا ألّا يُطفأ.

*

كوني الجمال،

لكن لا كما يراه العابرون في واجهات الزجاج،

بل كما تعرفه الأرض حين تُورق،

وكما تهمس به الأشجار للريح.

كوني جمالاً يليق بالصمت،

يليقُ بالمعرفة،

يليقُ بالقلب إذا صدق.

*

لا تكوني متاحة،

فالماء إن انسكب في كل وعاء فقد طعمه،

كوني كالنجم، بعيداً بما يكفي ليشتاق إليه العاشقون،

ومضيئةً بما يكفي ليدلّي بكِ المارقون طريقهم.

ضعي الكرامةَ تاجاً،

ولا تمضي إلا إن استحقّ الطريقُ خطوك.

*

كوني ملكة،

لكن لا تطلبي عرشاً من ذهب،

ابني عرشكِ من حكايا الأمهات،

من دعوات الجدّات،

كوني ملكةً تمشي في السوق بثوب القطن،

وفي قلبها قصورٌ من المعنى،

وعلى كتفها نسرٌ من الحلم.

*

كوني الأخلاق،

ولا تسمحي لظلّكِ أن يخطئ درب الشمس،

إن ناداكِ الليل، فقولي له: "أنا بنت الفجر"،

وإن راودكِ الطين، فاغسلي يديكِ بماء الزهر،

*

ولا تنسي،

أنّكِ أمانةُ الوجع،

ووصيّةُ أمٍّ كانت ترى فيكِ خلاصَ الحلم،

وبابَ النجاة من صخبِ العالم،

فلا تبيعي نقاءكِ بثمنٍ بخس،

ولا تمنحي قلبكِ لمن لا يعرفُ قراءةَ النبض.

*

يا ابنتي،

كوني كما تشائين،

لكن لا تنسي أن تكوني كما أرادكِ الله،

طاهرة، قويّة، سامقة،

جميلةٌ كالصلاة،

وأصيلةٌ كالحقيقة.

***

مجيدة محمدي - تونس

 

كديكِ الفجرِ للحُسنى ينادي

على عَربِ الحَواضِرِ والبَوادي

*

يؤذّنُ في رُبى يَمَنِ النشامى

فتنهدمُ القصورُ على النوادي

*

لِإحدى الحُسْنَييْنِ ألا هَلمّوا

فقد وَجَبَ التيمّمُ في العَتادِ

*

كأنّ بلالَ كَبّرَ مستعيدا

مُعلّقةَ الفوارسِ للجِيادِ

*

أَذانَ الحقِّ في أُذُنِ الصحارى

بِحيَّ على الصلاةِ معَ الجِهادِ

*

لكي يقْتصَّ من شرِّ البرايا

سكارى الوهْمِ في أرضِ المَعادِ

*

صدى صوتِ الشهامة أم صهيلٌ

يشقُّ الصمتَ في دُنيا العِبادِ

*

صَهيلٌ للأصائِلِ أم رُعودٌ

لِصولاتِ الخيولِ كما العَوادي

*

(لِيَحْيى) صوتُ من أحيا مراراً

بصَيصَ النارِ في قلبِ الرَمادِ

*

على جَبَلِ الرُماةِ أراهُ يعدوا

(سريعاً) في مقارعةِ الأعادي

*

أبى إلّا الوقوفَ مع اليتامى

قراراً دونَه خرطُ القَتادِ

*

يخطُّ إمامُهُ عهدَ الغيارى

ويسخرُ من سماسرةِ الحِيادِ

*

فصبراً صادقَ الوعْدِ المفدّى

وطوبى للتوهّجِ والعِنادِ

*

فَيا جَبَلاً تَألَّمَ للعَطاشى

سترويكَ الروائحُ والغَوادي

*

أميرَ البحرِ هل للبحرِ معنى

سوى الطوفانِ أو وَجَعِ النفادِ

*

فدى قَدَميْكَ حكّاماً تماهوا

مع الأعداءِ في أقصى البلادِ

***

د. مصطفى علي

 

في مدينة ألمانية صغيرة، كان أحمد يجلس في صفوف معهد لتعليم اللغة، محاولاً التأقلم مع عالمٍ جديدٍ ومختلف تماماً عن حياته السابقة. أمامه كانت تقف إلسا، معلمة اللغة، امرأة في الأربعينيات من عمرها، ملامحها مفعمةٌ بالرصانة والقوة، إلّا أنّ عينيها تحملان نظرة حذر، خاصةً عندما تتحدّث معه. وجهها الناعم، ذو الحمرة الطبيعية، وشفتاها الصغيرتان، تضفيان لمسةً رقيقةً إلى ملامحها، في حين كانت نظارتها المستديرة تخفي عينين رماديتين، لم تفقدا بريق الجِدّ الذي يظهر في محادثاتها. كان يشعر بأنها، على الرغم من صرامتها الظاهرية، تخفي شجناً عميقاً؛ لمس هذا من كلمات الشكر الرقيقة التي يتلقاها منها، وهو يساعدها، بعد انتهاء الحصص، في جمع أغراضها العديدة وحملها إلى سيارتها.

مع توالي الأسابيع، بدأ أحمد يلتقط إشاراتٍ صغيرة: طريقة تصحيحها لنطقه، إصرارها على نبرة الصوت الصحيحة، وكيف تأخذ ركناً هادئاً، بين الحصص، لتقرأ كتاباً. كان يلاحظها بصمت، بينما كانت تدرك نظراته دون أن تقول شيئاً. عيناها تظهران مزيجاً من الحذر والفضول.؛ شيءٌ ما، في هذا الرجل، يثير فضولها. ربما هي نظرته العميقة، أو ربما شروده الدائم، والطريقة التي يحاول بها إخفاء قصةٍ يبدو أنها أثقل من أن تُحمل. سألته ذات مرة وهما يخرجان من المعهد: "كم مضى على وجودك في ألمانيا؟". "عشرة أشهر"، أجابها وأكمل: "لكنها بطول سنين"

- وهل تعمل هنا؟

- ليس بعد، أحاول أ تقان اللغة أولاً، ثمّ البحث عن عملٍ مناسب. في سوريا كنت صحفياً، لكن هنا...

"لكن هنا أنت مجرّد لاجئ"، أكملت إلسا الجملة، ثم أضافت بسرعة: "آسفة، لم أقصد". ابتسم أحمد ابتسامةً خفيفةً: "لا، أنتِ محقّة. هناك كان لي مهنةٌ، هويةٌ، لغةٌ أتحدّث وأكتب بها. هنا، وبعد عشرة شهور، ما زلت أتعلّم كيف أقول للناس مرحبا". فتحت إلسا صندوق سيارتها، ووضع أحمد الأغراض بداخله. "شكراً لك"، قالت بابتسامةٍ مهذبة، "أراك في الدرس القادم". مضت إلسا بسيارتها، ومشى أحمد باتجاه محطة الترام، يستعيد كلمات إلسا، وأسئلتها، وسرح ذهنه بعيداً، إلى ليلةٍ مظلمةٍ قبل سنة... كان الظلام يخيم على نوافذ المدينة المقفلة، ولا يُسمع في الليل البهيم سوى أصوات القذائف ورشاشات البنادق التي لا تتوقف. وأحمد يراجع ذاكرة هاتفه المحمول، يتأكد أنه لم يبق فيها أي صورة، أو مقطع فيديو يو3ّق جرائم النظام، بعد أن جمع أوراقه وأقراصه المدمجة وأتلف ما يمكن أن يقع بين أيدي أجهزة الأمن؛ يسابق الزمن كي يحمل حقيبته الصغيرة ويتسلل، تحت عباءة الليل، هارباً، قبل أن يقبضوا عليه.

زوجته جيهان تقف عند باب الغرفة، وجهها شاحب كقطعة ورق تجيب عن طلبه الملحّ: "سمر، الأمر جدّي وخطير، مفترق طرق. وأنا أتمنى إن نكون دائماً معاً."

- ابق هنا إذن، أنت صحفيٌّ ناجح، وأنا مدرّسة في الجامعة. ما الذي ينقصنا لنكون في سعادة؟"

- سمر، لن نعيد الجدال، المسألة لم تعد مسألة مبدأ فقط، المسألة الآن مسألة واجب، واجب الأسرة تجاه أحد أفرادها، واجب الزوجة تجاه زوجها."

"لا أستطيع، أحمد. أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني ترك كل شيء؟"، نظرت إليه بعينين دامعتين واحتضنته بقوة: "اذهب أنت، وسألحق بك. لا يمكنني المغادرة الآن"

شعر أحمد، حينها، أن الطرق قد بدأت تفترق بينهما، وأن المسافة التي ستفصلهما قريباً قد تكون أكبر من مجرد حدود جغرافية.

مرّت شهور قاسية على أحمد بعد انتهاء الدروس، الأيام تشبه بعضها، والأمسيات طويلة يقضيها وحيداً، يفكّر في حياته السابقة، وما آلت إليه الأمور، يتحدّث بالساعات مع زوجته، يسألها عن قدومها، ويكون جوابها: "عندما يحين الأوان".

بعد خمسة أشهر، بدأت الحياة تفتح لأحمد طريقاً جديدةً. في أحد الأيام، تلقى اتصالاً غير متوقّع من إلسا، تخبره عن حاجة بلدية قريتها إلى عمّالٍ موسميين، وأنها ترى في هذه الفرصة بوابةً يدخل منها إلى أعماق اللغة ويكتسب مهاراتٍ تساعده على الانسجام في هذا العالم الجديد. اصطحبته بسيارتها، وساعدته في تقديم أوراق العمل، ولكن ما لم يخطر بباله، هي الدعوة التي تلقاها لقضاء مساء السبت في منزلها. في تلك الليلة، تلقّى رسالةً من زوجته، كانت رسالةً اعتيادية، مثل كلّ رسائلها اليومية، تسأله عن أحواله وتخبره عن حياتها، دون أي ذكرٍ للحاق به. قرأ الرسالة بنظرات باردة تشبه كلماتها الباردة، نظر إلى النجوم المنتشرة في السماء... "غداً سيبدأ عملٌ جديد، تجربةٌ جديدة، وفصلٌ جديدٌ من حياتي، وبعدها سأزور معلّمة اللغة في بيتها... أول إنسان يدعوني إلى بيته منذ أن قدمت إلى هنا"

كانت الطاولة الصغيرة معدّةً بعناية في شرفة المنزل المطلّة على حديقةٍ صغيرة، بتنسيقها البديع تعكس روح صاحبتها. لم يكن المشهد مجرّد دعوةٍ للعشاء، بل كان أشبه بمشهدٍ من روايةٍ تُكتب تفاصيلها بعناية. أحمد، الذي لم يتوقع يوماً مثل هذه اللحظة في حياته، وجد نفسه أمام تجربةٍ جديدة تحمل في طياتها مزيجاً من الحميمية والغرابة. إلسا، المرأة التي كانت دائمًا تحفظ مسافة بينها وبين الآخرين، فتحت له باباً إلى عالمها الخاص. أحضر معه باقة زهور وكتاباً عربياً مترجماً، هديّةً صغيرة، قال: "منزلك جميل وأنيق"، ابتسمت إلسا، وهي تضع الزهور في المزهرية: "تنازل عنه زوجي عند الانفصال" توقفت لحظة، ثمً تابعت: "المنزل كبير، لامرأةٍ وحيدة". "معك حق، المساحات الصغيرة تمنحنا شعوراً أكبر بالأمان"، أكّد أحمد كلامها، فنالت كلماته إعجابها، دون أن تظهره.

تناولا العشاء، وتحدّثا عن الطعام، والعادات المختلفة، والأماكن التي زارها، والكتب والموسيقى. قال لها مبتسماً: "في سوريا، الطعام هو إحدى الطرق لإظهار الحبّ والاهتمام"، ضحكت إلسا وقالت: "في ألمانيا أيضاً، في عائلتي على الأقل.  كانت جدتي تقول دائماً إن الطعام الجيد يفتح القلوب المغلقة"

كانت تلك الأمسية لحظةً فارقةً، مشهداً سيتردّد داخل أحمد كنبضٍ لا ينقطع. كانت المرأة التي رآها، بكل هذا الجمال والأناقة، غير إلسا معلمة اللغة. ظلّ يتذكر تفاصيلها الصغيرة؛ كيف تميل رأسها عندما تستمع باهتمام، ضحكتها الخافتة عندما يقول شيئاً مضحكاً، لمعان عينيها في ضوء الشموع. تساؤلات عديدة كانت تعصف برأسه: "ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟".

في أحد الأيام، بينما كان يعمل في حديقةٍ عامة، رنّ هاتفه. كان رقم سمر. "مرحباً،" أجاب، محاولاً إخفاء توتره. "أحمد، كيف حالك؟" جاء صوتها واضحاً رغم المسافة. "بخير، والحمد لله. كيف حالك أنت ووالدتك؟" "نحن بخير. والدتي تتحسن ببطء. أحمد... أردت أن أخبرك أنني حصلت على ترقيةٍ في الجامعة. أصبحت رئيسة القسم في الكلية". "مبارك،" قال أحمد، محاولاً أن يبدو متحمساً. "أنت تستحقّين ذلك." انتهت المكالمة وأغلقت الخط. لم يتسنّ له حتى أن يخبرها عن عمله. تنهّد، وارتعش لفكرةٍ مؤلمةٍ تركتها مكالمة زوجته المقتضبة. في خضمّ هذه المشاعر المتضاربة، وجد نفسه يفكّر في إلسا، في الراحة التي شعر بها في منزلها، في الطريقة التي تفهمه بها، رغم لغته الركيكة. كان يعلم أن هناك فجوةً كبيرةً بينهما: في العمر، في الثقافة، في الخلفية، لكن كان هناك أيضاً شيءٌ يجمعهما، شيءٌ أعمق من العلاقات العادية، وأعلى من الاختلافات الظاهرية. بفضولٍ وشوق، وشيءٍ من الشجاعة، كتب لها رسالةً نصّية: "أدعوك مساء السبت القادم للعشاء في مكان تختارينه. سكني المشترك لا يليق بضيفةٍ مميزةٍ مثلك". ضغط زرَّ الإرسال، ثم انتظر ردّها وكأنّ الزمن قد توقّف عند تلك اللحظة.

مع الوقت، بدأ حذر إلسا يلين؛ زياراته لها في البيت صارت أمراً اعتيادياً، رحلات السبت إلى المناطق القريبة أصبحت عادةً مشتركةً بينهما. كانا يستكشفان الغابات والمتاحف والحقول، يتحدثان عن الأدب والموسيقى، وعن تجارب حياتهما المختلفة. أحمد، الذي كان يشعر دائماً بالغربة، وجد في تلك اللحظات شيئًا يشبه الوطن. إلسا، المطلّقة منذ سنتين بعد زواجٍ دام عشرين عاماً، بدأت ترى فيه إنساناً لا يُمثّل تهديداً، بل إمكانيةً جديدةً للسعادة.

في إحدى رحلاتهما، قرّرا زيارة غابةٍ واسعة، أشجارها معمّرةٌ، تتشابك فروعها في الأعلى لتشكّل سقفاً أخضر كثيفاً. "هذه الغابة تذكّرني بحكايات الأطفال، كنت أتخيّل، دائماً، أنّ الساحرات والأقزام يختبئون بين هذه الأشجار"، قالت إلسا وهي تمشي بجانب أحمد على درب ضيق مغطّىً بأوراق الخريف. ضحك أحمد، وقال: "يبدو أن الخوف من المجهول شعورٌ إنساني مشترك". كانت السماء تتلبّد بالغيوم، وتحوّلت الرياح إلى عاصفة، وبدأ المطر ينهمر بغزارة. التجآ إلى جدارٍ حجريٍّ قديم، استند أحمد على الجدار، محدّقاً بإلسا، كان شعرها الأشقر ملتصقاً بوجهها، وعيناها تلمعان من الإثارة والخوف.  قال أحمد: "هذا يذكّرني بمشهدٍ من رواية فيوض الربيع[1]. كانا، أيضاً، في عمق الغابة حين فاجأتهما العاصفة، فالتجآ إلى الكهف[2]". نظرت إليه إلسا، وكأنها ترى شيئاً جديداً في عينيه: "وماذا حدث بعد ذلك؟" ابتسم أحمد ابتسامةً غامضة: "ستعرفين عندما تقرئين الرواية".

عند العودة، سألت إلسا فجأةً، وهي تتأمّل قوس قزح: "ماذا حدث بعد ذلك؟"، انتبهَ انها ما زالت تفكّر بتلك العاصفة، أجابها بكلمةٍ واحدة: "تبعها". "تبعها؟" همست لنفسها غير متأكّدةٍ من المعنى. استعاد أحمد في خياله تفاصيل الرواية، كأنّه يستعيد شيئاً دفيناً في قلبه. "أحياناً تُظهر الطبيعة ما نحاول أن نخفيه"، قالها بهمس، وابتعد خافضاً عينيه. نظرت إليه بصمت، ثم تابعت طريقها.

تلك اللحظة ظلت ترافق إلسا؛ كان في كلماته، وفي نظراته شيءٌ ما، جعلها تشعر بخفقان قلبها يتسارع، وبينما كانت جالسةً على السرير، فتحت هاتفها تبحث عن رواية تورغنيف وتقرأ ملخّصها. أدركت معنى الكلمة التي قالها أحمد بحذر: "تبعها". شعرت كأنّ الغرفة قد امتلأت بنورٍ خفيٍّ. كتبت له رسالةً على الواتساب: "لقد كان يومًا مميزًا بفضل وجودك... سانين!"، ضغطت زر الإرسال، وشيءٌ ما في داخلها كان ينبض بفرحٍ. بعد دقائق، وصل رد أحمد: "وأنتِ جعلت هذا اليوم لا يُنسى... جيما[3]." ابتسمت إلسا؛ كان هناك شيء حميم في تبادل هذه الأسماء، كأنهما يتشاركان سراً لا يعرفه أحدٌ غيرهما. ذلك المساء كان بدايةً لشيءٍ جديدٍ بينهما، شيءٍ جعل العلاقة تتجاوز حدود الصداقة؛ الكلمات أصبحت أقرب، النظرات أكثر عمقاً، لكن خلف تلك اللحظات الدافئة كانت التحديات تلوح في الأفق. كانا يلتقيان كلّ أسبوعٍ تقريباً، يتشاركان الوجبات والأحاديث والضحكات؛ لكنْ كلاهما كان يحمل أعباء الماضي، وكلاهما كان يخشى المستقبل.

في إحدى أمسيات الشتاء، كانت إلسا تجلس بجانب نافذتها، تتأمّل الحديقة الصغيرة التي بدأ الثلج يتراكم على أطرافها، وأحمد يقف بجانبها ملامساً مسند الكرسي، يحمل كوباً من القهوة بين يديه وكأنه يحاول الاحتماء بحرارته. كان الليل هادئًا، لكنّ داخلهما كان يعجّ بصراعات كثيرة.

"أتعرف، أحمد؟"، أكملت إلسا حديثاً كانت قد بدأته، ونظرتها شاردة عبر زجاج النافذة، "زوجي لم يكن يحتاج إلى سببٍ كبير لينهي كلّ شيءٍ بيننا. ربما كنتُ السبب، ربما كان هو، لا أعرف؛ لكني كنت دائماً أشعر أنّ هناك زاويةً في حياته لا يُسمح لي بالدخول إليها، ثم اكتشفت أنّ تلك الزاوية كانت مكاناً لامرأةٍ أخرى."

- هل تعتقدين أنّ الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحبّ امرأةً أخرى، يخونها؟ أم أنه فقط يتبع قلبه؟

- الخيانة ليست في الحب، أحمد. الخيانة في التخلّي. في أن تترك شخصاً كان يثق بك، مهما كانت الأسباب.

- لكن ماذا لو كان الحب الجديد حقيقياً؟ ماذا لو كان أقوى من كلّ شيء؟

- الحب الحقيقي لا يُبنى على أنقاض علاقةٍ أخرى. إنه يحتاج إلى أرضٍ صلبة، وليس إلى قلبٍ ممزّق.

شعر أحمد بأنّ شيئاً ثقيلاً يحاصره من الداخل، يكاد يخنقه. نظر إليها طويلًا. لم يتوقّع أن يكون الحديث بهذه الصراحة. حاول أن يجد كلماتٍ ليقولها؛ لكنه شعر أنها لحظة تتطلب أكثر من المواساة. "إلسا..." قال بتردّد. "أظن أن الأمر صعب جداً عليكِ. لكن هل هذا يجعلكِ تشعرين أن لا مجال للبدء من جديد؟". ابتسمت إلسا ابتسامةً خفيفة. "البدء من جديد؟"، قالت وهي تتأمل بريق الكوب بين يديها. "هل تعرف ما هو الجزء الأصعب يا أحمد؟ أنني لستُ متأكدة ممّا إذا كنت أريد أن أبدأ من جديد. أحيانًا أشعر أنّ الماضي هو جدارٌ لا يمكن تجاوزه، وأحياناً أخرى أعتقد أنه مجرد ظلٍّ يلاحقني".  أحمد كان صامتًا، يشعر بارتباكٍ. حديثها هذا جعل فكرة مصارحتها بمشاعره أكثر تعقيداً. كيف يمكنه أن يعترف بما يشعر به وهي تتحدث عن جرحها القديم، وهو نفسه يعيش مع عقدة زواج لم يكتمل في مداه؟

- زوجتي رفضت أن تلحق بي. هل هذا يجعلني خائناً إذا أحببت امرأةً أخرى؟

- ربما هي لم تلحق بك لأنها تخشى أن تفقد نفسها هنا؛ كما أنني أعرف كيف يشعر الإنسان عندما يُترك. زوجي تركني من أجل امرأةٍ أخرى، ولم يكن الأمر عن الحب فقط، بل عن الأنانية.

- أحيانًا أشعر أنني أعيش بين عالمين، وبنفس الوقت لا أنتمي إلى أيٍّ منهما. هل هذا يجعلني أنانياً؟

- السؤال الحقيقي، أحمد، هو: هل تستطيع أن تختار؟ لأن البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية.

"أعتقد أن الماضي لا يتركنا بسهولة؛ لكنني أظن، أيضاً، أنّ لكلّ إنسانٍ الحق في محاولةٍ ثانية"، قالها أحمد بصوتٍ هادئ، محاولًا أن يخفي اضطرابه الداخلي. كانت الكلمات قليلةً، لكنها تحمل ثقلًا عاطفياً كبيراً، كلّ كلمةٍ كانت تحفر في أعماقه. الليل كان شاهداً على صراعٍ بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين ما يمكن أن يكون وما يجب أن يكون. نظرت إليه إلسا، بعينيها اللتين تعكسان سنواتٍ من التجارب: "وأنت؟ هل تستطيع البدء من جديد؟". لم يكن سؤالها مجرّد فضولٍ بسيط، كان مرآةً وضعتها أمامه، تعكس حقيقته المجردة، شعر أنه عارٍ أمام هذا السؤال. أخذ نفساً عميقاً، ثم قال: "لا أعرف. أحيانًا أعتقد أنني أُمسك بحبلين في نفس الوقت، لكنني لا أستطيع التخلي عن أي منهما. وأحيانًا أشعر أنني أضيع بينهما.". ابتسمت إلسا مرةً أخرى؛ لكنها، هذه المرة، كانت ابتسامةً حزينة، ترافقت مع نظرةِ مباشرة في عيني أحمد: "ربما أننا جميعاً نحاول الإمساك بأشياءٍ نعلم أننا قد نخسرها في النهاية. لكن السؤال هو: هل نخسرها لأننا لا نحاول بما يكفي، أم لأننا نحاول أكثر مما ينبغي؟"

في تلك الليلة، ظلت ابتسامة إلسا ونظرتها تتردّدان في خياله، كان يعلم أنها محقّة، وأنه لا يمكنه الاستمرار هكذا. أخرج هاتفه وفتح تطبيق الواتساب؛ كان آخر اتصالٍ مع سمر قبل أسبوعين. كتب لها رسالةً طويلة، يشرح فيها مشاعره، ويخبرها أنه لا يستطيع الاستمرار في هذه العلاقة المعلقة. كتب أنه أحبّها بصدق، ويقدّر السنوات التي قضاها معها، لكنّ طريقيهما تباعدا: "أنتِ بنيتِ مستقبلكِ هناك، وأنا بدأت في بناء حياةٍ هنا. لا أريد أن نستمرّ في خداع أنفسنا. لم يعد هناك مستقبلٌ مشتركٌ بيننا. أتمنى لكِ كلّ الخير والسعادة، وآمل أن تتفهمي قراري."، ضغط زر الإرسال، شعر أنّه ينهي جزءاً عزيزاً من حياته.

مرّت الأيام، إلسا تفعل ما بوسعها لتدمج أحمد في الحياة الجديدة؛ لكن، للحقيقة، ليس بدافع الإيثار فحسب، فقد اعتادت وجوده، وأحاديثه، ونقاشاته، وحتى صمته وشروده. أما أحمد فكان يحاول أن يوازن بين ما يريد وما يفرضه عليه ضميره. تلقّى رسالةً من زوجته، كانت كلماتها تفيض بالاتهامات، ما يشي بكبريائها الجريحة؛ تطلب منه أن يعيد التفكير بقراره "المتسرّع"؛ لكنّ تلك الكلمات، التي كانت تشبه محاولةً مترفّعة لاستعادة شيءٍ ضائع، لم تستطع أن تخفي حقيقة تخلّيها عنه في لحظاته الأصعب. أرسل لها ردّاً سريعاً، يحسم الأمر ويُخبرها بأنه وجد حقيقته مع إلسا، وأنه لن يظلّ عالقاً في علاقةٍ لا تحمل له سوى القيود.

في أوائل الربيع قرّرا، أحمد وألسا، زيارة قصر التنين، أحد المعالم التاريخية الشهيرة في المنطقة. كان القصر، بأبراجه العديدة، يبدو في الأفق مثل أسطورةٍ نُسجت تفاصيلها بين الجبال السبعة المشرفة على نهر الراين. أثناء عبورهم النهر، كانت إلسا تقف بجانبه على سطح العبّارة، شعرها الأصفر يتمايل مع الريح في مشهدٍ مغلّفٍ برومنسيةٍ آسرة، كإحدى أميرات القصر الذي تروي لأحمد أساطيره وحكاياته الساحرة.

صعدا سفح الجبل في دربٍ متعرّجٍ تحفّ به الكروم، توقفا عند مزرعةٍ صغيرةٍ تديرها عائلة محلّيّة، حيث قدّم لهما المزارعون كأسًا من النبيذ الطازج. ارتشف أحمد الكأس ببطءٍ. إلسا، بابتسامةٍ خفيفة، حذرته من تأثير النبيذ، لكنه تجاهل تحذيرها، واستسلم للنشوة الخفيفة التي بدأت تتسرّب إلى روحه.

وصلا متعبين أخيراً، دخلا القصر وتجوّلا في غرفه وقاعاته، مستمعين إلى المعلومات التاريخية التي يرويها المرشد السياحي. "أخبرت زوجتي أنني لا أستطيع الاستمرار في علاقتنا المعلّقة"، قال أحمد فجأة. نظرت إليه إلسا بدهشة: "حقاً؟ وكيف كان ردّها؟". "أعتقد أنها تشعر أيضاً أن علاقتنا بحكم المنتهية".

وقفا في إحدى شرفات القصر، كان وادي الراين يخترق الحقول والغابات مثل شريطٍ فضيٍّ يزيّن ثوباً أخضر، والقرى على جانبيه مثل حبات الياقوت الأحمر، المنظر يثير في النفس إحساساً بالجمال لا يمكن مقاومته، وشعاع الشمس يتسلّل بين الأوراق ليعكس على وجه إلسا ألوانًا ذهبية. تلفّت أحمد نحوها، رأى في عينيها فرحاً هادئاً؛ لكنه عميق، كأنّ الطبيعة نفسها تعكس ما في داخلها، وتدفعه إلى التعبير عن شيءٍ لا يستطيع قوله بالكلمات. اقترب منها قليلاً، مسّ شفتيها القرمزيتين بقبلةٍ شفافة، تكاد لا تُحَسُّ؛ لكنها كانت كافيةً لتترك أثراً عميقاً في نفسها. إلسا، رغم أنها نجحت في إخفاء ردّ فعلها، وتابعت النظر إلى الطبيعة كأنّ شيئاً لم يحدث، لكن داخلها، كان شعورٌ عذبٌ، كأنما نورٌ نقيٌّ يتسلل إلى روحها. لم تغمض عينيها، ولم تهتز شفتاها أو جفناها، وكانت لا تزال تنظر نحوه نظرتها المحدّقة ذاتها، لكنه لاحظ أن صدرها ارتفع أكثر اثناء تنفّسها، قالت بنبرةٍ متماسكة: "ماذا يعني هذا؟". انحنى أحمد برأسه قليلاً، وكأنّ كلماتها أثقل من أن يواجهها مباشرة: "إلسا، أعلم أن ما بيننا ليس بسيطاً. وأعلم أنني لا أملك الحق في أن أطلب منك أي شيء، لكن تلك القبلة، لم تكن مجرّد لحظةٍ عابرة. شعرتُ بشيءٍ حـقيقيٍّ… عميق.". تحرّكت إلسا ببطء، تحاول أن تُخفي أثر كلماته على وجهها: "حقيقي؟ ربما كان كذلك بالنسبة لك، ولكن ماذا عني؟ كيف أسمح لنفسي أن أكون ظلاً يقف في طريقك وأنت لا تزال مرتبطًا؟". رفع نظره نحوها، وكأنّ كلّ كلمةٍ تخرج منه تأتي من أعمق مكانٍ في روحه: "ظلٌّ؟ أنتِ كلّ شيءٍ عدا ذلك، إلسا. وجودكِ أعاد لي شيئاً كنت أظن أنني فقدته إلى الأبد؛ لكنني لا أريد أن أجعلكِ تشعرين أنكِ في موقفٍ مستحيل". تدير وجهها نحو الأفق، تتحدّث وكأنها تخاطب الطبيعة التي أمامها: "الأمر ليس عنك فقط، أحمد. إنه عنّي أيضاً. لا أستطيع أن أخوض هذا الطريق وأنا أعرف نهايته. رأيت ما تفعله مثل هذه العلاقات... إنها لا تمنح سوى الألم". يقترب منها قليلاً، صوته هادئ لكنه مليءٌ بالصدق: "ولكن ماذا لو كنتُ أحاول أن أجد طريقاً جديداً؟ ماذا لو شعرتُ أنّ حياتي تحتاج إلى شيء أعمق؟". تنظر إليه إلسا مرةً أخرى، عيناها تلمعان بالثقة والحزم: "هل تقول لي هذا لأنك تحبني؟ أم لأنك تشعر بالوحدة؟ هناك فرقٌ كبير، أحمد، وأنا لن أكون حلاً لوحدتك". يتنفس ببطء، يدرك وزن كلماتها، لكنه لا يتراجع: "أحبكِ، إلسا. وهذا ليس عن الوحدة أو عن الفراغ. إنه عنكِ. عن كيف تجعلين العالم يبدو مختلفاً، عن كيف أشعر بأنني على قيد الحياة عندما أكون بقربك". كان يتحدّث بسرعة، يؤكد لها، بشغفٍ، حبّه العميق. سألها بكلماتٍ واضحةٍ لا تقبل الرفض: "قلتِ مرةً أن منزلك واسعٌ عليك، ما رأيك أن أستأجر الطابق الثاني؟ أريد أن نعيش معاً". اقتربت إلسا من حافة الشرفة، عيناها تجولان في الأفق، لكنّها لا ترى سوى انعكاسات داخلها..."أحتاج إلى وقت، أحمد. هذا كله جديد وسريع. أحتاج إلى التفكير". "أفهم ذلك،" أومأ أحمد، محاولاً إخفاء خيبة أمله. "سأنتظر"، قال وهو يدرك أن اللحظة تبتعد عنه ببطء، وأنه قد يخسرها دون أن يستطيع إيقاف ذلك.

لم يتواصل إلسا وأحمد كثيراً في الأسبوع الذي تلا زيارة القصر، كان يحترم رغبتها في الحصول على مساحةٍ للتفكير، على الرغم من أن الانتظار كان يمزّقه من الداخل، وكان يتساءل كثيراً إن كان قد تسرّع وأفسد كلّ شيء بتلك القبلة. في هذه الأوقات القاسية تلقّى رسالةً من سمر تقول فيها بلغةٍ تعليمية، أشعرته بالتقزّز: "قدّمتُ إجازةً بدون مرتّب، وسآتي لأنقذك من نزوتك مع تلك العجوز، وربما تغيّر رأيك ونعود معاً". شعر بأن روحه تنسحق تحت وطأة كلماتها؛ ولم يجد رغبةً حتى في الردّ، "المسافة بيننا بعدت كثيراً، كأني لم أعرفها من قبل!"، قال في نفسه بأسىً ومرار. تنهّد بعمق، وضع يديه على ركبتيه كما لو كان يحاول إمساك نفسه من الانهيار، وبدل أن يكتب رداً على رسالة زوجته، اتصل بإلسا: "اسمعيني إلسا، زوجتي اختارت منذ البداية وتخلّت، وليس أنا… هي جزءٌ من معاناتي… أن تقف مع القاتل من أجل منصب، أو منافع أخرى، فهذا تخلٍّ. أن أكون مطلوباً من أجهزة النظام، وأهرب إلى هنا، وترفض هي التنازل عن مركزها الوظيفي، فهذا أقسى من التخلي... إن كنتُ رفضتُ أن أحكي عنها في البداية، فكيلا أستدرّ العطف منك، أو من غيرك، وها أنا أحكي، الآن، كي أبرّر ذاتي، كي لا أخسرك، إلسا...  أن تأتي سمر أو لا تأتي، لم يعد يعنيني، هي ستأتي لأنها تريد أن تكسب كلّ شيء، هي ستأتي كي تظلّ ممعنةً بحصاري، هي ستأتي لكي أظلّ مربوطاً إلى خياراتها، هي ستأتي لتبرّر، بوجودي معها، خيارها الأناني.. أشعر أنها شريكةٌ باضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري"

أنهى أحمد حديثه دون أن يمنح إلسا فرصةً للرد، كان مهموماً، يشعر بثقلٍ لا يبرح صدره. رغم إدراكه لصدق المشاعر التي تجمعهما، يعلم أن الظروف التي تفصل بينهما أقوى من أن تُتجاهل. لقد بات واضحاً له أنّ الحبّ، شأنه شأن الحقيقة، يحتاج إلى من يدافع عنه، كي لا يطغى عليه الظلم. وبات يعلم أيضاً أن الحياة لا تنتظر القرارات المؤجّلة، فهي تمضي دون أن تلتفت، تاركةً خلفها قصصاً غير مكتملة وأحلاماً لم تتحقق.

***

قصة قصيرة

الكاتب منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 25.05.22025

.........................................

[1] فيوض الربيع، رواية للكاتب الروسي إيفان تورغنيف

[2] مشهد الكهف، مشهد مفصلي في الرواية، حيث ان سانين تخلى بعده عن خطيبته ويتبع ماريا، زوجة صديقه.

[3] ، جيما، هي خطيبة سانين، وحبيبته الإيطالية.

دموع ضوء تعتلى جبين الفنار، تَلمَح صمت موج مهاجر تحت قبعة الليل، تكتحل مشاعر المساء بهمهمات الظلام، تعزف لحن اللقاء على شفا الغربة،، يتسلل الوقت أثير عتمة، يتأرجح الهذيان برهام الشجن، كي لا يتنفس الموج هدير الغرق، تتسلق غيوم اللهفة منسأة برد ناعسة الذكرى، متّشحة ريحا مجونا، ماكرا يتوارى خلف لازورد البحر سطوع ضباب، جريحة أنات لؤلؤة تستيقظ توا عند انسكاب حلم محارات موءودة البرق، تصرخ دلافين الوجد بصمت أقاصي الحزن، ما بين نشوة نجوم الحواس وثمالة الغرام تتراقص نغمات ناي، يكاد يتلألأ الغزل دموعا تعتصر فؤاد حورية البحر في أماسي الرحيل، تنهيدة وداع هذيان الحنين، يتأنى طيف عاشق مسافر، لا يبدو أنّهُ سيفارق ميناء عشقه، ربما دمعة برق تضئ ملامح أشرعة الهجرة، أو رشفة غسق تروي آهات الغياب، علّه يطل ضيفا في مرافئ البقاء يؤنس ساحل الانتظار بهمس ضجيج التلاقي، كلما يختلسنا الزمن من أوهام العمر نضيع بشغف العتاب ونتمتم رب مصير نام قدره، لتستردنا شواطئ الدروب!!.

***

إنعام كمونة

  2/6/2025

قصائر1(10)

قدَماي

لن تعبرا حدودَ الوطن.. معاً

تجنّسَتْ إحداهُما مع الغُرباء

واستأصلوا من الأخرى

كاملَ الجنسية

**

2

ارتَحِلْ، قدرَ ما تشاء

فأنتَ.. لمّا لم تجد في نهايةِ الطَواف

مربَطَ الحَبل

تَمَسّكتَ بالنوايا..

كعابثٍ بالرَمل.

**

3

الصراخُ في داخلي..

بلا صَوت

صَداهُ خلّفَ في جَبهَتي

بضعَةَ خُطوط

يجعَلُها الابتسام..

في غاية ِ الغَباء

**

4

في صراعي معي،

نَزَعتُ أجنحَةَ السِنين

لأخرجَ منتصراَ

بأقلّ النُدوب

راضياَ..

بسُخريةِ الحُفَر

**

5

لا بريقَ في عَينَيها..

لا دموع

كلّ رغبتِها

أن يختَفي الباحثونَ عنها

كسلعةٍ مكسورة

في قمامةِ العُقول

**

6

ناوَلَني كأساً.. كأنّ روحَهُ فيها

يا صاحبي

كفَفتُ عن الثَمالة

لم تعُد أوردَتي تُطيق

لا تصِدّ

هكذا هَمَسَتْ..

جُموعُ الملائكة

**

7

أعودُ مراراً

مراراً..

بلا كلَل

الى نَخلةٍ أرضَعَتني

بلا فِطام

**

8

لم تكفِني الأعوام

لأمخرَ المُحيطَ الذي في داخلي

أخفيتُ أيضا.. جميعَ اكتشافاتي

لأبسطَ الخرائطَ القديمة

في كلّ عيد

**

9

الشمعةُ التي احترَقَتْ لغيري

صنَعتُها..

وحينَ أحترِقْ

سيَرجمونَني..

بما سالَ منّي

**

10

سأعودُ.. حتماً

قلتُها بحُرقَة

بعدَ أن قَضَمتُ آخرَ يومٍ..

في حرّيتي.

**

11

لا تُحدّثيني عن الشَوق

كعشتار..

أخبري قلبَكِ أن يرتدّ.. مثلي

لنحترق

بلا ثعابين.. وتُفّاح

**

12

عندما صارَ الوطنُ سجناً

لم أجدْ سجيناً معي

كان جميعُ الناسِ..

سجّانين

**

13

توقّدتُ كالجَمْر

تحتَ أمطارِ تشرين

حين لامسَ شعرُكِ المُخضَلّ جبهَتي

يدعوني..

الى وليمةِ حُبّ

بلا بلل

**

14

في باب سليمان*

آثارُ أقدامي على ضِفةِ النَهر

الطينُ يحفظُ الذكرى

لكنّهُ ظامئ

رحَلنا عنهُ..

أنا.. والماء

**

15

لستُ جاحداً

ظننتُ أني عرَفتُ ذاتي

بعدَ ارتقاءٍ وهُبوط

ثم اكتشفتُ أخيراً

جَهلي بنفسي

**

د. عادل الحنظل

.......................

1 دأبتُ أن أسمّي نصوصي هذه قصصا قصيرة جداً تماشيا مع ما هو مألوف في هذا النمط من الكتابة الأدبية. لكنني لم أجد في هذا المسمّى ما يعبّر عن أسلوبي الذي أسير عليه، فلا يحوي أي نص على جوهر القصة التي تمتاز بحدث يبدأ وينتهي بصرف النظر عن عديد الكلمات. والنصوص هذه ليست أيضا من الشعر رغم بعض اللمسات هنا وهناك فيما يشبه تركيز الشعر المنثور. لهذا ارتأيت أن أعدل الأسم الى قصائر تعبيرا عن قصر النصوص وتكثيفها بلا إضفاء سمة الشعر أو القصة.

* باب سليمان هي القرية التي ولِدتُ فيها وتقع جنوب مدينة البصرة

بارداً صارَ فِنجانُ قَهوتِها

تَلاشَتْ رَغوتُهُ

غابتْ في تَفاصيلِ العَتمَةِ

لكنَّ الجَوَى طَفقَ

في فضاءاتِ الخَواءِ يَجولُ

وئيداً كانَ الزَّمنُ يَجري

يحملُ على كَاهلِهِ

أثقالَ عمرٍ

وعُهوداً من الخيباتِ

تَسلَّلَ منِّي الشَّجَى

يبحثُ عن بقايا ملامِحِها

قالت من غير أن تَنطَقَ

وحضرتْ من غيرِ أنْ تأتي

فصارَ الغيابُ حُضوراً

وأصبحَ الصَّمتُ

أبلغَ من الكَلامِ

حكايةُ فِنجان قَهوةٍ

من غَيرِ سُكَّرٍ

إن ترتشفْ مِنهُ

فعلى ثناياهُ أنهارٌ من العَسلِ

تَفيضُ

آثارُ شفاهٍ على الحَوَافِ

تَارةً يَرسِمُها شَغفٌ

وتارةً تُبعثرُها الأوهامُ

أيقظني صَقيعُ الفُراقِ ذاتَ صَباحٍ

فأدفأتْني مَلامِحُ ذِكرى

حين جاءَ المساءُ

*

كُلَّما إنطفأ الوَهْجُ

في فِنجانِ قَهوتِها

أشعلَ الوَجدُ في حَناياهُ

جذوةً أبداً لا تَخمَدُ

مرَّاً أتجرعُه حيناً

وحيناً منِّي الآهاتِ يَغترفُ

يُتقنُ كُلَّ الأسرارِ

والبوحُ من غيرِ حروفٍ

على الأطرافِ يَرتَسمُ

فنجانُ قهوةٍ على سَطحهِ

حِكاياتٌ شَتَّى

وصورٌ رتَّبتهَا أقدارُ المَرايا

وفي أعماقِه أمواجٌ ولَظَى

وفي الغورِ بقايا ثُمالَة

مَأتمٌ من أحزانٍ

وتأوهاتٍ وأنينٍ

رفيقُ الدَّربِ في الأفرَاحِ يَغتَبِطُ

وفي الأتراحِ وجومٌ وابتئاسٌ

قالوا تَنسى

إن تعشقْ أخرى

فكيفَ أنسَى وهي

في كُلِّ وجوهِ نِساءِ الدُّنيا؟

ضَوءٌ خافتٌ في الرُّكنِ يَخبو

وشبحُ كَهلٍ يَتراءى

وعلى الطَاولةِ العَتيقةِ

وردةٌ يتيمَةٌ ذابِلةٌ

وفِنجانُ قهوةٍ

فارقَته منذُ دُهورٍ

ارتعاشاتُ الرَّغوةِ

***

بقلمي: جورج عازار

إيه ...

ما الذي خلفّته؟!

سلالة انشطارية

أحفادها

يترصّدون

ليصطادوا  بشراهة

عزّلا

لا حرز لهم

إلّا من تميمة

لقول توارثوه

لعلّه

ينجّهم

من السقوط في قعرها

غواية تزيّن

قباحة الصيادين

**

تعسا

لسلالة

تعلّقت خطاياها

سفها

بذيل

غراب مسكين

**

ولأنهم يتناسلون

ولأنهم

يلوذون بحكمته

أضحى

المسكين

منتوف الريش

**

كان عليه

أن يتغاضى

ويتركه

لحيرته

ولو أنه فعل

ربما

لرُدِمت بئر

لا تزال تفور

غليانا

لتصهر

أحلاما قانية السحنة

**

ليتك لم تهتد

وليته

لم

يمنحك حكمته

أمنية

يطلقها أدراج الريح

حفيد أثقلته آثام

لسلالة

تبتكر عثرات

تبحث

عن حكمة جاد بها غراب

مبتلى

***

إبتسام الحاج زكي

خرجت تلك الليلة من بيتك وأنت تحملين سعادة العالم بين يديك. كنت مبتهجة ومسرورة كطفلة يوم العيد. لدرجة أنك سلمت على جارتك التي كنت لا تطيقينها لأنها كانت بالنسبة اليك فضولية الى درجة الكره. لأنها تتدخل في خصوصيات جيرانها. لكن ذلك اليوم، كنت سعيدة، ترقصين من الفرحة كالفراشة في فصل الربيع.

ونسيت ساعتها ما قالته لك جارتك في يوم من الأيام، عندما تدخلت في حياتك الخاصة، وقالت لك من باب النصيحة حسب رأيها" يجب عليك ألا تتأخري كثيرا خارج بيتك، سيتكلم الناس.." يومها كرهتها كره المظلوم للظلم. لكن، تلك الليلة، كانت ولا كل الليالي، استغربت كيف جلست الى جارتك وحكيت لها عن خصوصياتك التي كنت ترفضين أن تتدخل فيها. قلت لها" سأسافر مع زوجي الى الخارج. وسنقضي عطلة الصيف هناك." لست أدري لماذا حكيت لها ذلك. وأنت تعرفينها جيدا وتعرفين نظراتها الحادة التي تنغرس في جلدك وتخترقه. قلت لي يومها "أنا لا أومن بهذه الخزعبلات...حكيت وكفى". وتابعت دون أن تنظري الي، كأنك تخافين من نظراتي " كنت سعيدة، جدا، جدا، وكنت محتاجة الى أن يشاركني أي أحد سعادتي. هذا ما وقع." وانسحبت من امامي كمن يشعر بالذنب.

ما ان غادرت بيت جارتك، حتى رن هاتفك، وفجأة، تغيرت ملامح وجهك الذي كان شعلة من الفرح، واستوطن المكان صمت رهيب وثقيل. رفضت العودة الى بيتك وتهت وسط الزحام. بعينين مفتوحتين لكن بدون هدف. مكالمة جعلتك تتهمين جارتك من جديد بأنها حسدتك لما حكيت لها. وأنها امرأة تصيب بعينيها ...تغير كلامك عن العين والحسد وعن جارتك. لم أفهم ماذا أصابك ولم أعرف محتوى تلك المكالمة التي جعلتك تتوهين عن سعادتك وكأنك وسط عاصفة رملية قلبت كيانك كله.

تركت الحرية لقدميك، عدت الى أمكنة الأمس القريب وتهت بين حيطانها ونباتها وأشجارها وسكانها وكلابها. شوارع أصبحت غاصة بالمارة حتى التخمة. أجساد تتمايل في كل اتجاه مثل أوراق الخريف التي تهجر عشها وتتنكر للونها الأخضر الجميل وتضيع بين الأقدام. سألتك وأنا أحمل خوف العالم بين ضلوعي" ماذا أصابك؟ من الذي هاتفك؟" تركتني بلا جواب. ومشيت طويلا وبدون هدف محدد. كان دماغك عند نقطة الصفر. سألت نفسك وأنت ماشية "هل يمكن أن يصل الدماغ الى نقطة الصفر؟ هل يمكن للدماغ ان لا يفكر في شيء معين؟" كانت أنوار المدينة تتراقص أمام خطواتك وآهاتك، كأنها نجوم. توقفت قليلا ربما تذكرت أنك تركتني بلا جواب وقلت لي" لقد كان قاسيا معي، قال لي بأنه يفضل ألا أسافر معه. وسكت."

تذكرت ساعتها يوم التقيت به، كان وسيما ورقيقا، تقدم نحوك وأنت تنتظرين سيارة أجرة وقال لك " كم الساعة من فضلك؟"

التفت اليه وأجبته بسرعة شديدة "انها الساعة الواحدة." وندهت على تاكسي وابتلعتك زحمة المكان وضجيج السيارات.

لكن ذلك اللقاء، كان بداية للقاءات متكررة. حيث ظلت صورته عالقة بمخيلتك. كأنك تعرفينه منذ زمان. وبخت نفسك ساعتها وقلت "لماذا لم أنتظر قليلا؟ لماذا ذهبت بسرعة؟".

كان لصوته تأثير كالسحر، حيث يتغلغل بين الضلوع ويستقر في القلب ويحدث بلبلة جميلة ورعشة قاتلة. ربما كان ذهابك بتلك السرعة هو نوع من الهروب من سحره الأخاذ. وتكررت اللقاءات بينكما، في نفس المكان وفي نفس الساعة. هل للقدر يد في ذلك؟ ربما سألت نفسك هذا السؤال. لقد اصابك سحره. كنت سعيدة، وكنت تحاولين أن تتظاهري باللامبالاة. لكن هو كان صبورا ويتودد اليك بكل أدب. ربما لمح تعبيرات وجهك التي فضحتك رغم صمتك الطويل.

وقفت قرب محل لبيع الملابس الجاهزة، نظرت كثيرا لكن نظراتك كانت فارغة. استوطنتك تلك المكالمة التي غيرت مزاجك صباحا وجعلتك تفقدين صوتك وتجف دموعك في مآقيك. تمهلت قليلا ونظرت طويلا الى الفراغ الذي امامك، كنت هادئة، لكن كان هناك بركان بداخلك ممكن أن ينفجر في أي لحظة. أخذتك ذكرياتك الى اللحظات الهادئة التي قضيتها معه، تبتسمين تارة، وتستوطن ملامحك غابة من الحزن تارة أخرى. كأنك تعاتبين نفسك على لقاءك به أول مرة. تعاتبين نفسك على العيش معه. تعاتبين نفسك على الاستمرار وأنت تنزفين دما ودموعا. سألت نفسك من جديد، لقد تعبت نفسك منك، كنت قاسية معها قساوة الجلاد الذي ينفرد بضحيته ويهلكها ضربا حتى يهجر اللحم العظم:" هل لتربيتي دخل في حياتي الحالية؟ لماذا أقبل الصفعة تلو الصفعة، وأظل متعلقة به؟"

استحال ليلك الى طريق طويل، حالك هجرته النجوم، ولا أثر لبصيص نور في الأفق. همست لنفسك "لماذا يحدث لي كل هذا؟".

عدت الى بيتك، وأنت منهكة من التعب. ولجت غرفتك بشكل آلي وغيرت ملابسك بشكل آلي، قررت أن تهتمي بنفسك ولا تتركيها للإهمال والنسيان.

هاجمتك ساعتها كل الذكريات التي كانت تشعل النار في روحك وعقلك، ذكريات كنت تجملينها وتجعلينها تتفوق على الألم حتى تستطيعين العيش. لكن كانت هناك ذكرى من تلك الذكريات احتلت مكانا ما في وجدانك، و رفضت الانسحاب. طفت الى السطح بشكل قوي، وفرضت نفسها عليك كأنها تريد أن تقول لك "كمن كنت طيبة وساذجة. " لم تنسي، يوم غضب وغادر البيت، كأنه غادر حياتك. لأنك كنت تحبينه بشكل غير طبيعي. قلت لي يومها، انه كان هائجا كثور أخرجوه لينتقم من كل من يعترض طريقه. كان يرفع صوته ويضرب بيديه على المكتب ويعاتبك. قلت لي يومها، أنه قال لك بصوت قاسي جدا" لست في مستوى أن أتناقش معك. لا تفهمين كلامي، تتكلمين كجاهلة.."

كأنك لم تسمعي شيئا، وكأنك لم تتذكري شيئا. اتجهت صوب الحمام، وتركت الحرية للماء تنساب على جسمك، وشعرت ساعتها أنك أقوى من كل الذكريات الأليمة، وتمدد جسدك بكل الهدوء الذي افتقده العالم ورحت في نوم عميق على أمل أن يأتي الغد بسرعة، ذلك الغد الهارب منك.

***

أمينة شرادي

 

تساؤل؟

تسأل صاحبي، فقلتُ لهُ:

إني أراكَ تحيطُ نفسكٌ بالحروفِ

وأظنُها حمّالة ًتواقةً متناغمه

وأراكَ تجهدُ نفسكَ في الغيومِ

متسائلًا:

ماذا بها

ما حولها

ما الخاتمه؟

وتريدُ بعدَ الصبرِ أن تبقى

على ما كنتَ في

أوضاعكَ المتلائمه!

مهلًا فكلُ قراءةٍ

تغريكٌ أو تلهيكَ

قد تبدو لغيركَ صادمه

وتكون في منأى من القلق الشفيف

والحزنُ يحرسُ بابهُ ويلازمه!

فاجعل لنفسكٌ إن رغبتٌ

أملًا يليقُ بها فتحسنُ خاتمه!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

طَفَرٌ.. طَفَرْ

تدري وأدري ما الطَّفَرْ!

*

خَبَرٌ.. خبرْ

صُحُـفٌ تَمُـــرْ

على الجراحِ بلا خبرْ!

*

بَشَرٌ.. بشرْ

هل في الأطِبَّاءِ بَشَرْ؟!

*

حَجَرٌ..حجرْ

طفلٌ بكفِّهِ

يَدْحَرُ الشِّرْكَ البهيم

ويَحملُ الوطن الأغرْ!

*

خطرٌ.. خطرْ

لُكَعٌ سريع الانِتحالِ ...

وباحتيالٍ قد خَطَرْ!

*

حُفْرٌ .. حُفرْ

وقَعَ الذي

للشعب أوّل من حَفَرْ!

*

بَـقَرٌ..بـقرْ

ترعاها (جارتنا)

وتَمْلَحُهَا (قَطَرْ)!

*

ضررَ.. ضررْ

الضر يأتي

من (تَجَمُّع - مُؤْتَمَرْ)!

*

وتَـــرٌ..وتـــرْ

قلبي على (بلدي) انفطر!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

من كتاب: (رمال القلق)

 

هل كنتُ أنا نفسي،

عندما مشيتُ في طُرُقٍ من طينٍ وذكريات،

أحمل جسدي كأنه وثيقةُ نفي،

وأقدامي تُعاني من سُكرِ الجهات؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين لامستُ خدَّ الغيم،

واعتذرتُ من النهر لأنني لم أكن ماءً؟

حين قبّلتُ المرآة،

فانشقّ وجهي عن وجهٍ آخر،

أغرب من الحُلم،

أصدق من الكذبة التي ألبستني اسمي؟

*

أأنا مَن ابتكرَ خرافته؟

أم كنتُ المروِيَّ في الأسطورة؟

مجرد بطلٍ تخلّى عنه السردُ في المنتصف،

فسقطَ من الورق؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

عندما قلتُ،  "أنا"،

وصوتي خرجَ من فمِ الغياب؟

كأنّ اللغة خانتني،

كأنّ الحروفَ تبخّرت في حلقي،

وتركتني مجرّد صدىً يبحثُ عن كهف.

*

هل كنتُ أنا،

أم كنتُ إرثًا لعابرين نسوا أن يُطفِئوا الشمعة،

فاشتعلت بي الأزمنة؟

*

في الصباحاتِ التي لم تأتِ،

وفي الليالي التي لم تذهب،

كنتُ أعدُّ صمتي حجارة،

وأبني منها سلّماً إلى ذاتي.

فإذا بي أصلُ إلى لا أحد.

إلى لا أنا.

إلى ما قبل الاسم.

إلى الطين الأول،

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين خانتني الصور،

وأصبحتُ تأويلاً لمجازٍ ضائع؟

و سؤال مشاة الأبدية الذي لا يجيبون عنه.

*

هل كنتُ أنا نفسي،

أم كنتُ كلّ من رآني

ووضع في عينيّ حلمًا لا يخصني؟

*

هل كنتُ أنا نفسي،

حين نظرتُ إلى الطفل في داخلي

ووجدته يشبهني أكثر مني؟

*

يا ذاتي،

يا مُراوغةً كالغيم،

هل أستطيع أن أحبكِ،

وأنتِ لا تستقرّين في أي مرآة؟

*

سأظلّ أسأل،

كلّما انقسمَ الصباح إلى وجوه،

وكلّما ناداني شيء من بعيدٍ يشبهني،

هل كنتُ أنا نفسي،

أم كنتُ شبحًا يتقن التقمّص،

*

وهل…

في كلّ ما عبرتُه من لحظات،

كانت الحياة تمشي بي

أم كنتُ أنا مَن يَحلم بالحياة؟

..........................

ذلك الشيخ كوّم الأسئلة،

ثم، مضى .................

***

مجيدة محمدي - تونس

 

أصدّقُ الأغنية أم

هسيس الموج ...اصدّق؟

اصدّق رسائل الحبّ... والأشعار القديمة ..

أم أصدّق الشهقة تمزّق موت العالم ..؟؟

**

قل لي:

هل أصدّق ..الامنيات المعلّقة

أم أصدّق هروبك إلى ظلالك؟؟

هل اصدّق مجازك..؟...

أم تحيّات الصّباح الباردة ..؟؟

انا أصدّق:

هسيس الموج

الشهقة

هروبك الآمن..

التّحيات الباردة

أصدّق كلّ هذا

وأُكذِّبُني.........

***

حياة بن تمنصورت

 

أُراقِبُ طَيْفَكِ قادِمًا لِيَأْسِرَني،

ويأخذَني بعيدًا، دونَ أَنامِلِ يديكِ…

أذابَ رحيقُ الشوقِ في دمي،

أمنياتٌ تجري في شراييني،

داعَبَتْ أهدابَ جفنيكِ،

غَرَسْتُها على تضاريسِ يدي،

وأبحرتُ بها صوبَ مرافئِ الصبرِ…

*

أُفَتِّشُ عنكِ،

هِمتُ على وجهي في المنافي،

أرتشفُ من أحزاني طَوْرًا،

ومن أشواقي أُخرى،

علّي أرسو

عندَ شاطئِ عينيكِ…

*

كمْ تمنيّتُ أن أبلغَ

مَنابعَ الأمطارِ،

وأُحلّقَ في حُلمِكِ بعيدًا،

حتى تغورَ كلُّ العيونِ،

وتجفَّ الأنهارُ…

لأعودَ مرةً أخرى،

أُفَتِّشُ عنكِ

ما بينَ أماني العيدِ

وبيْنَ مياسِمِ الأزهارِ…

*

أُراقِبُ فراشةَ عيدِكِ

وقد حطّتْ على راحتيكِ،

أُداعبُها،

فتُشيرُ لي بجناحيها نحوَ البحرِ…

*

أهرَعُ صوبَ شواطئِهِ،

أُعانقُ أمواجَ الرغبةِ

تحتَ دوائرِ الماءِ،

فتلسعُني قناديلُ الوهمِ،

لترميني عندَ مغارةِ خريفِ العمرِ،

مُكَبَّلًا بسلاسلِ الخرافةِ…

*

أُراقِبُ يديكِ،

تَضفِرانِ من حُلْمي

جدائلَ لحورياتِ البحرِ

***

جواد المدني

 

مثلما

لا تجرح النحلة الوردة

هكذا

هو عنفي

2

الليالي أم سرّهن الدفين

بل لأيّ مما ائتمنت تخون

*

كلما يدعيك حلم غريب

كذّب القلب مارأته العيون

*

حسبك الليل سادرا بالأماني

تدعيه هواجس وظنون

*

حيثما تحتفي النجوم بسر

يعتري الليل خاطر مجنون

*

يستفزّ الماساة من كل عصر

يجتليها فتستكين القرون

3

الزمن من دون ضمير

يعيش معنا

لا يهجرنا

ثم بعد مشوار

يعقر ارجلنا

يشوه وجوهنا

في النهاية

يرمينا الى الحفر

4

بيني وظلي

خكاية غريبة

راهنته ان اتبعه بوما

فيتبعني يوما آخر

لم أخلف وعدي

فجاة منذ بضعة ايام لم يتبعني

اشك في ان يكون ضل الطريق

هل ارداه رصاص طائش

اما ان يغيب فلا تحملني رجلاي إليه

فذلك ابعد عن ظني

5

مادمت سآكل خبز الزقوم

كي أحلف أني

ساظل أسير عينيك

وحدهما

فلا أضل طريقي

فالاولى

ان تجعلي قيدي

شريطا من الامس

فترهنيني

عند ساقية

تحرسها فراشة شاردة الالوان

6

للوردة مثل النورس

أغنية يكملها الموت

***

قصي الشيخ عسكر

أنثرُ الأوراقَ للريحِ

بحثًا عن همسةٍ من صوتك،

أجدُ كلمةً خطَّها دمُك،

تزهرُ بينَ السطورِ نداءً،

وتُشعلُ في القلبِ وهجَ الخلود.

وإذ بي أسمعُ صدى الحروفِ يجيبني:

أنا الفكرُ الحرُّ، لا ينحني،

أمضي كنورٍ يتحدّى الدجى.

تصفَّحوا التاريخَ، تجدونني

جذوةً تتقدُ في دربِ الحياة.

حُلمي حياةٌ تُعمِّرُ الأرض،

وصوتي نشيدُ التغييرِ العميق،

فما زلتُ أنبضُ في الكلماتِ حياةً،

وأبعثُ في الدروبِ ضياءً.

وإن غابَ صوتُ الجسدِ،

يظلُّ الفكرُ شعلةً لا تنطفئ.

في دربٍ معتمٍ، في الطرقاتِ الوعرة،

كنتُ أمشي...

أواجهُ العواصفَ الدامية،

براعمُ الربيعِ تلفحها ريحٌ مجهولة،

والنجومُ تائهةٌ في ليلٍ بلا صمامٍ ولا أمان.

لكنني أقسمتُ أن أقاوم،

وقفتُ صامدًا أمامَ موجِ البحرِ الهائج،

لم يرعبني سيوفُ الطغاةِ الجُدد.

ولا أزيزُ الرصاص،

يشقُّ الهواءَ كصرخةٍ مذعورةٍ

تترددُ في أعماقِ الزمن،

ولا سيوفُ الطغاةِ الجُدد.

حملتُ قيثارتي وغنّيتُ نشيدَ الحرية،

ورسمتُ على راحتي أوراقي،

لتكونَ جسرًا بينَ الأجفانِ الساهرة.

أفرشُ الورودَ بينَ الأشواك،

أزرعُ شجرةً بعدَ شجرة،

ترقبُ بزوغَ فجرٍ ذهبي،

يشرقُ متلألئًا في الأفق.

علَّ العصافيرَ تجدُ الأمان،

ويحملُ الهواءُ العليلُ نَفَسَ الحقيقة،

لمن لا يزالُ يحلمُ بالضياءِ.

لكنني كنتُ أخشى الغدر،

من القريبِ... ومن البعيد،

فالرياحُ العاتيةُ تعصفُ كلَّ يوم،

تقتلعُ براعمَ الحقولِ دونَ رحمة،

ويُطوِّقُني الشكُّ كليلٍ طويل.

فجأةً... دخلتُ نفقًا معتمًا،

حُجِبَت الشمسُ عن عيني،

ولفَّني صمتُ الظلام،

لكنني أبصرتُ الأفقَ البعيد،

فما دامَ في الأرضِ إنسانٌ كريم،

سيولدُ الفجرُ رغمَ الجراح.

قلتُ في نفسي:

الموتُ أهونُ مِن حياةِ مذلّةٍ،

إن خُنتُ يومًا نجومَ المسيرِ.

أقسمتُ،

أن أُبقي صوتي حيًّا،

حتى ولو مزّقته الريحُ ومضى.

تكالبت سياطُ القهرِ على جسدي،

تتغلغلُ في أعماقي كنارٍ حارقة،

فاستجمعتُ صوتي كي يعلو على الألم،

فانقضَّ سوطُ العذابِ كمن يلتهمُ ظلي،

متوغّلًا في أعماقي.

فحينها، قطّعوا يدي... وثقبوا خاصرتي،

كأنهم أرادوا دفنَ حُلمي،

لكن الحلمَ لا يُدفن،

جذورهُ تمتدُّ في الأرض.

تكالبَ السوطُ على جسدي،

يتوغّلُ نحوَ أعماقي،

فاستجمعتُ إرادتي في صوتي،

وهتفتُ:

خذوا جسدي...

لكنني لن أُفشي السِّرَّ!

سأظلُّ أمضي، وفي يدي كلمتي،

وفي روحي عهدي،

وفي صدري حكايةُ وطنٍ لن يموت.

لكنكم لن تطفئوا صرختي!

لن أتركَ الحرفَ يذبلُ في رمادِ الصمت،

وهبتُ روحي... كي تزهرَ الحياة.

***

سهيل الزهاوي

- هل قررتَ أين ستدفن؟

- نعم، في المقبرة القديمة. هناك على الأقل سوق أسبوعي يؤنسني ضجيج باعته. أكره صمت المدافن لأنه يزيد الوضع بؤسا.

- ومن قال أنك ستشعر بالوحدة؟

بدا الأمر نكتة قبل شهر، أما الآن فهي تُجري معي الترتيبات اللازمة للرحيل. دنيا بنت كلب! ولأنني ابن ناس فبطن الأرض خير من ظهرها هذه الأيام. طمأنت جاراتها بأنها أعراض شيخوخة مزمنة، وأن ثلاثين عاما من العشرة تشهد على لحظات جنوني. تأوهت إحداهن وهي تسرد فجيعة الترمل. الوحدة سم زعاف ينهش قلبها منذ رحيله.

- من يذهب للموت برجليه؟

- أنا !

طرقت باب جلول الفأر، وجددت وصيتي للمرة العشرين بأن يضع أسفل اللحد حجارة مبلطة. إلى أن ينخر الدود عظامي فمن حقي الاستمتاع بنومة هادئة. وبعد أن ينصرف المشيعون يتولى بيديه اللئيمتين غرس نبتة صبار عند رأسي. أرجو أن ينغرز شوكها في لحوم السكارى والمشردين، ويخدش أكف الطامعات في خيوط كفني، لجلب الحبيب ورد المطلقة.

لو كان للجنين في بطن أمه حكمة شيخ مثلي لما خرج! من يشتري هذا التعب من دنيا لئيمة وبنت كلب؟ ابتسم كعادته وهو يبلع ريق التشفي. متى يزيح هذه الجيفة عن كتفيه؟ تعوّد في سائر الأيام ألا يبدأ عمله إلا حين تفرغ النسوة من موشح لطم وندب ونواح، وأحيانا بعد أن تمر قسمة التركة في أحسن الظروف. لم يعترض مساره المهني شيخ مثلي، يفاوض ويساوم، ويعيد النظر في تصميم داره الآخرة!

انحنى جلول ليسحب نعله البلاستيكي، ثم جذبني بسأم معتاد. ماذا تتوقع من حفار يحصي عجائز البلدة وشيوخها؟ غنيمته هذا الصيف اثنتا عشرة جيفة، ما بين ميت حتف أنفه، أو غريق في السد المجاور. همس في أذني شامتا:

-لا تنس أن تحرر في الشيك مبلغا معتبرا!

عدت إلى البيت مساء فوجدتها منقبضة. على التلفاز نشرة الأخبار السعيدة، حيث تصطف الكوارث والجوائح قبل أخبار الفن والغولف. الكل سعداء، بمن فيهم المذيعة التي تحافظ على ابتسامتها وسط قتلى وجرحى زلزال مدمر في مكان ما. ألم أقل لكم أنها دنيا بنت كلب؟ تهتز طربا أو تثور غضبا، فيكون لحمنا ودمنا قربانا لتخف وطأة الحياة!

نمت قبيل الفجر بعد مشاهدة فيلم ويستيرن من الستينات. كالعادة يحاول راعي البقر أن يضع حدا لاعتداءات السكان الأصليين على المستعمر الطيب. أحب الريش الذي يضعه الهندي على رأسه، كأنه يحلق بالذاكرة إلى مدى لا تبلغه البنادق والأكاذيب. من الطريف أن أمريكا تطلق على قطع عتادها الحربي ألقاب زعماء وقبائل من الهنود الحمر، لكنها في الآن نفسه تدفن وجودها تحت نعالهم. ذاك هو سر المقبرة!

الموت لا يخيفني، فهو مجرد ستارة ترخي ظلا للحقيقة كي لا تنغص على الأحياء بعدنا وجودهم؛ فنحن في النهاية سنموت جميعا، لكن من حقي أن أخطط لرحلتي كما أشتهي، وهذا ما لا تحاول هي أن تفهمه.

-قال خطيب المسجد يوما أن القبر أول منازل الآخرة، وأنا أشتهي منزلا يليق براحتي الأبدية. سواء كان المرء عاقلا أو مجنونا فله نهاية تنتظره.

-لكنك تستعجل النهاية، ولك حياة عليك أن توفيها حقها.

-لا حق للحياة عندي سوى أني قبلت بها مرغما. ألا تري كيف يفضل أحدهم الانتحار بدل أن يواجه أخطاءه ونزواته؟ لقد عشتها ورضيت بها، وهذا يكفي!

مالت على كتفي لحظة ثم أجهشت بالبكاء.

-أعلم أن هموم العيش سحبتهم واحدا تلو الآخر، لكنها سنة الحياة. نربيهم كما ربانا الآخرون لتحلق الأجنحة في الأفق الغادر.. أفق النسيان واللامبالاة.

-قلبك من حجر!

-كل القلوب تنبض فذاك قدرها، لكن الإنسان يشتهي طول حياته أن يهز شجرة الخلود، ويقضم من ثمرتها فرارا من قدره.

هكذا هم الأبناء، يتوقعون أن العمر سيمهلهم حتى يرتبوا أحلامهم جيدا، ثم ينقلبوا فراخا من جديد. لكن وطأة الحياة لا تسعفهم. ألم أقل لك أنها دنيا بنت كلب؟

رأيت في المنام أني محمول على الأكتاف. أكتاف عريضة كلوح مصقول، لكن ليس فوقها رؤوس. نعم لا رؤوس ولا ملامح. الموت رحلة معدومة الهوية، فكل ما تصطحبه هو عملك، هكذا قال الشيخ، فإما أن تتنعم بثمار جهدك النبيل، أو تصرف أبديتك متقلبا على الجمر، نعم، كالذي تقلبت عليه أم كلثوم وهي في انتظاره!

ناديتها فلم تجب. سحبت الغطاء مازحا لتنهرني لكنها لم تفعل. وضعت كفي على الجبين المتغضن بتجاعيد السنين، فسرت قشعريرة تمنيتها.

ألم أقل لكم أنها دنيا بنت كلب؟

***

 حميد بن خيبش

لا النّصرُ آتٍ ولا الديّانُ ناصرُنا

وتلك أُخرى لمِن هادوا على العرَبِ

*

واللّيلُ في نصفِنا يرتاحُ مُنتَصِفًا

وما اكْتفىْ الفجرُ من راجيهِ بالطّلبِ

*

والنّصرُ في أصلهِ فجرٌ وإن طلعَ الـ

أصلُ تلا النّصرُ شمسًا دونما حُجُبِ

*

ونحنُ في كثرةٍ لكنْ متى رُبحَ ال

وَغَى بمَفْخرةِ الأموالِ والعَقِبِ

*

ونحنُ من يعربٍ أكرمْ بهِ نسبًا

لكنْ متى اعْترفَ الميدانُ بالنَّسَبِ

*

ونحنُ من صفوةِ الأخلاقِ جَبْلَتُنا

لكنْ متى كفَتِ الأخلاقُ للغَلَبِ

*

وعندنا الذّكرُ نتلوهُ وإن غلبَتْ

عليه فينا بناتُ اللّهوِ والطّربِ

*

وعندنا أحمدٌ -صلّوا عليه- وإنْ

عزا له الحُمْقُ ما فينا من التّعَبِ

*

والمجْدُ كاتبُنا حتّى وإن هجَر ال

الحيَّ ولم يبقَ منهُ غيرُ ذي الكُتبِ

*

والدّهرُ صاحبُنا حتّى وإنْ سبَق ال

أكوانَ فيما علينا انْصبَّ من غضبِ

*

واللهُ في صفّنا حتّى وإن حكمَ الْ

بلادَ من سوّرَ الإيمانَ بالذّهبِ

*

وكلُّ هذا ويأبى النّصرُ مدَّ يدٍ

لنا ونأبىْ جدالَ النّصرِ في السّببِ

*

لكنّنا نَقبَلُ الإصغاءَ إنْ شرحَ الْ

خُسرانُ أسبابَهُ في حلّةِ الكذِبِ

*

فإنْ يقُلْ غيرَ ما تهوىْ مسامِعُنا

قلنا أصابَ أعادينا منَ العرَبِ

*

فوحدةُ العُرْبِ قيدُ كلّ منهزمٍ

في كسرِهِ عتقُه من تهمةِ الهَرَبِ

*

ووصفةُ الحقّ آه كلّ مرتجفٍ

في حرقِها العذْرُ للموصوفِ بالذّنَبِ

*

ويُبهجُ اللّيلَ ما نُبديه من حججٍ

ويُعجزُ الفجرَ ما نُلقيهِ من خُطبِ

*

فيمكثُ النّصرُ في صَفْحاتِ هازِمنا

ويتبعُ الخُسْرَ أسرابٌ من الكُربِ

*

أينَ زمانُك يا بن العاصِ ها رجعَ الْ

روميُّ في يدِهِ رُمحٌ من اللّهَبِ

*

والصّفرُ من زحمةِ الأصفارِ في وطني

الكبير يشكو فيُحصى الموتُ بالنّسبِ

*

هادوا ولمّا نهُدْ والهَودُ يصحبُهُ

ما يفتنُ الفجرَ من علْمٍ ومن أدَبِ

*

والنّصرُ في جسمهِ يجريْ دمٌ وهوا

بنكهةِ التّينِ والزّيتونِ والعِنَبِ

*

أنفاسُهُ من هوا قُدسٍ ومَطْعَمُهُ

من طُهرٍ امتدّ من سينا الى حَلَبِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

على النافذة

آثر بارز لشفتين.

لا المطر الغزير

ولا الغبار الكثيف

تمحوه

- صورة لشفتين

صادقتين

- لمقاتل

لم يرجع أبدا.

- لشاعر

لم يدرك بأن الحب

سراب غريزة الوجود.

- من أم

تودّع ابنها،

مستيقنة

انها لن تراه ثانية

إذا رجع.

- لعامل

إلى منزل

بناه بساعديه

قبل أن يدمر،

وقد ظل

جدار الشباك واقفا..

كلما تبقى

خلف أثر الشفتين:

طلقات طائشة،

ديوان محروق،

زوج من النعال،

واطار صورة مكسورة-

للذكريات

***

سوران محمد

........................

A kiss

On the window

The traces of lips

visible

neither the heavy rain

nor the thick dust

wiped it away

a  shape of honest lips

-of a soldier

never to return.

-of a poet

who did not realize that love

a mirage of existential instinct.

-of a mother

In her last meeting with her son,

convinced

that she would never see him

when he returned.

of a worker

to the home he built

before it was destroyed

but the window still unbroken...

all that remained

behind the traces of lips:

unfeeling bullets

a burnt collection,

a pair of slippers,

a broken image of memories

............................

ماچ

پەنجەرەکە

شوێنی  دوو لێوی

 لەسەر بوو

نە لێزمەی باران،

نە تۆزی ڕۆژگار

نەیسڕیبووەوە..

وێنەی

 دوو لێوی ڕاستگۆ:

- هی خەباتکارێ

کە هەرگیز نەگەڕایەوە.

- هی شاعیرێ

کە نەیزانی

عيشق سەرابێکە

غەریزەی بوون

دەینەخشێنێ.

- هی دایکێ

لە  خواحافیزیی کوڕەکەی،

کە دەیزانی

ئەو دێتەوەو

چیتر ئەم نابینێتەوە.

- هی کرێکارێ

بۆ مەنزڵێ

دوای خاپوور بوون

تەنیا دیواری پەنجەرەی

 دوو لێوەکە

وەك خۆی مابوو..

لەمدیوی پەنجەرەشەوە:

قەوانێکی بەتاڵ،

 دیوانێکی سووتاو،

جووتێ نەعل،

چوارچێوەی وێنەی-

یادگارییەکان...

بەجێما مابوو

*

 كلُّ ليلهْ

 

الحبيباتُ يرجعنَ ليْ

وأنا أتسامرُ والموجَ عندَ الفراتْ

كلُّهنَّ أتينَ الى ضفتي

طالعاتٍ مِن القاعِ نحويَ

أوْ هابطاتٍ مِن النجمِ وهو يحدِّقُ في سرِّ نهرِ الفراتْ

منازلُهنَّ ضياءْ

منازلُهنَ مآلاتُ ماءْ:

مرَّةً في الغيومْ

مرَّةً في النجومْ

مرَّة في قلوبِ النباتْ

مرَّة في شغافِ البناتْ

وأقربُهنَّ الى الروحِ روحي الجميلةُ والناطقهْ

فبِهنَّ الحياةُ حياةْ

وبِهنَّ الضفافُ بِكلِّ اريجِ ضفافِ الفراتِ مشتْ

لِتُقبِّلَ هذا الفتى

وايّانَ راحَ وأنّى أتى

ستأتيهِ أرواحُهنَّ بأجسادِهنْ

وتأتيهِ أجسادُهن بأرواحهنْ

تميسُ ـ وقد وقّعَ الماءُ والنورُ فيها ـ ترانيمَ ممسوسةً عابقهْ..

***

شعر كريم الأسدي

...........................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في الثاني والعشرين من آيار 2025، في العراق

 

في أواسط خمسينيات الزمن الجميل، كان للسينما سحر لا يُقاوم في عيون الصبية، أولئك الفتية الذين لم تُرهقهم بعدُ هموم الحياة، لكنها كانت تعني لهم أكثر من مجرد شاشة تتحرك عليها الاحداث، كانت نافذتهم إلى عوالم لا تُحصى، ومتنفسًا رحبًا يهربون إليه بعد عناء يوم دراسي طويل أو خلال عطلة تكاد لا تسع أحلامهم الصغيرة.

مع انحدار الشمس نحو المغيب، كانوا يتقاطرون نحو ساحة "السعدي" كما لو أنهم مدفوعون بنداء خفي، يحملون كتبهم ودفاترهم، جادون في مراجعة دروسهم استعدادا للامتحان، لكن ما يختلج في صدورهم شيء آخر؛ السينما، حلم المساء، ورجاء الطفولة. يناقشون خطتهم اليومية: من سيذهب؟ كيف؟ وبأي نقود؟

ولأن جيوبهم وياقات دشاديشهم التي يخبئون فيها نقودهم خوفًا من ضياعها، كانت خاوية في الغالب، أو لا تحمل إلا الفتات، كانوا يفرغون ما لديهم من قطع معدنية على الأرض، يحصونها بأعين يملؤها الرجاء. فإن استوفت ثمن تذكرة واحدة، حينها يبدأ الطقس المعتاد/ القرعة. من سيكون سعيد الحظ الذي تُفتح له أبواب الفردوس المظلم؟ من سيجلس وحده في مقعد متآكل، يحدّق في الشاشة بانبهار، ليعود إليهم راويًا ما رأى؟ غير مكتف بالسرد، بل عليه ان يمثل، يصرخ، يبكي، يضحك، يُقلّد البطل والشرير، وكأنهم جميعًا كانوا هناك.

ولكن، إذا حضر عادل، صاحب الدهاء والعيون اللامعة، انقلبت المعادلة؛ فما من مأزق إلا وخرج منه بفكرة ماكرة، تُدخلهم جميعًا إلى السينما.

كانت السينما، بجدرانها العالية التي تعانق السماء، أشبه بقلعة حصينة يحرسها الزمن، ويصعب اقتحامها على من لا يملك الثمن. يحيطها سور مرتفع يتجاوز الثلاثة أمتار، كجدارٍ امام الفقراء بين الحلم ومرآه. غير أن القدر، كما لو أنه يهوى مداعبة الصغار، حيث زرع نخلة معمّرة بجانب السور، باسقة، يمتد جذعها كذراع أمّ حنون تحتضن مغامرة. كانوا يلقّبونها بـ „العمة"؛ تلك العجوز الطيبة التي لا تخذلهم حين يشتد الحنين إلى الشاشة الكبيرة.

عادل، الفتى الذي خُلق وفي يديه موهبة التسلق، نظر إلى أصدقائه بعينين تشعّان مكرًا وضوءًا، وقال مبتسمًا بثقة لا تعرف التردد:

"سأدخلكم جميعًا... وبتذكرة واحدة."

دخل أولًا من الباب الرئيسي، قطع الحارس تذكرته وسمح له بالعبور. وما إن خفتت الأضواء وبدأت الإعلانات، حتى غادر القاعة بذريعة شراء مشروب او شيء آخر. اعطاه البواب بطاقة خروج مؤقتة، بطاقة صغيرة، لكنها مفتاح الخطة الجريئة.

استغل عادل تبدّل البواب وزحام الداخلين، خرج حيث ينتظره أصحابه خلف السور. ناول أحدهم البطاقة، بينما هو تسلّق النخلة بخفة من اعتاد معانقتها، قفز إلى سطح الحمامات، ثم انزلق إلى داخلها، وخرج بهدوء وكأنه كان يقضي حاجته، عاد إلى القاعة وجلس عند صديقه بعض الوقت، ثم كرر الدور نفسه من جديد.

بهذه الحيلة البديعة، دخلوا واحدًا تلو الآخر، وكلٌّ منهم يختزن دهشة الطفولة في قلبه. لم يكن الفيلم وحده ما يستحق المشاهدة... بل الرحلة إليه كانت، بحد ذاتها، عرضًا لا يُنسى.

في إحدى مغامراته هذه، والتي أبهرت الصبية وعلّمتهم أن الفقر لا يقف في وجه الذكاء، خرج عادل، كعادته، يحمل بطاقة الخروج الصغيرة بين أصابعه كمن يحمل مفاتيح كنز، عازمًا على تكرار خطته في إدخال أصدقائه إلى السينما الواحد تلو الآخر. غير أن الحظ هذه المرّة لم يبتسم كما عهدوه، فقد تنبّه أحد الحراس لشيء ما. لاحظ بعين متشككة أن عدد المقاعد المشغولة في القاعة لا يتطابق مع عدد التذاكر المقطوعة، وما إن لمح عادل يغادر مجددًا بحجته المعتادة لشراء طعام، حتى أوقفه، وجرّه إلى مكتب الحرس.

في المكتب، تعالت الأصوات، توالت عليه التهديدات كالصفعات، وانهالت عليه الأسئلة كالسياط، أحدهم هدّده بالشرطة، وآخر لوّح بيده وكأنه يهمّ بضربه، لكن عادل، بعينيه الذكيتين وصدره المرفوع، على صغر سنه، لم يزده الخوف إلا صلابة. وقف أمامهم منتصبًا كفرسان الحكايات، بعينين تشعّان كبرياءً، وقال بثقة:

الواثق

"اشتريت تذكرتي وهذه بطاقة خروجي، لم أخالف قانونكم، وإن كنتم ترون غير ذلك، فهاتوا شرطتكم... سأشتكي عليكم!"

ثم رمى البطاقة في وجوههم وقال باحتقار العظماء:

"خذوا بطاقتكم، لا أريد مشاهدة فيلمكم، ولن أدخل "سينماكم" بعد اليوم

خرج بخطى ثابتة، لا يلتفت، كأنما خرج من معركة لا من السينما. لم تكن الهزيمة في نظره أن يُطرد، بل أن يَخذِل أصدقاءه، وهو الذي لطالما كان رسول أحلامهم إلى الشاشة. لقد أنجز مهمته، أدخلهم جميعًا، وخرج وحده، منتصرًا بروحه، وفخورًا بأنه جازف من أجل لحظة فرح تقاسمها معهم.

ومنذ ذلك اليوم، ظلّت صورته محفورة في ذاكرتهم، لا تمحوها الأيام ولا يغشاها النسيان. يتناقلون حكايته كلما اجتمعوا، يروونها لأبنائهم وأحفادهم بفخر وحنين لتلك الأيام الجميلة، وسط ضحكات ناعمة وإعجاب لا يخبو بذكائه، كما تُروى بطولات الأساطير الخالدة.

وهكذا ظلّ عادل حيًا في ذاكرتهم، قلبًا لا يعرف الهزيمة، وعقلًا يفتح الأبواب المغلقة.

***

سعاد الراعي

الى روح الانسان والشاعر الحقيقي

موفق محمد

***

قبلَ أَنْ أُغادرَ البلادَ

كنتَ قدْ بكيتَ عليَّ

وأَنا الآخرُ

كنتُ بكيتُ عليكْ

وفي تلكَ اللحظاتِ الفاجعةِ

ومن خللِ غيوم الدمعِ

ونشيجِ القلبِ الراعفِ

قُلتَ لي:

- كيفَ تستطيعُ إحتمالَ

بردَ المنافي

ومخالبِ الغربة القاسية؟

لحظتها اجبتك

غاضباً ومشتعلاً:

- بردُ الغربةِ

وثلوجُ المنافي

ولا ذلُّ الطغاةِ القساة

وتهديداتِ القتلة

ومخاوفِ المخبرين

الذينَ يتجسسون

حتى على انفاسِنا

وكرياتِ دمِنا

وأَصابعِنا وقلوبِنا الواجفةْ

ولاتنسَ وشاياتِ العسسِ

والدركِ والجندرمةِ الواقفةِ

فوقَ خلايانا ومساماتِنا

واكبادِنا النازفةْ،

وإِياكَ تنسى نهيقَ

ونباحَ الشعراءِ المداحينْ

وسمومَ الكَتَبةِ المأجورينْ

وطعناتِ الظلاميينَ والطائفيينْ

والغزاةِ المتوحشينْ

وكتّابَ التقاريرِ من الذؤبان

والغلمان والخصيان

وابناء الزنا والخنا

والمتعة الـمُقْرِفَةْ

وأَرجوكَ صديقي لاتنسَ

خياناتِ الأَعدقاءْ

والتافهينَ والسُفهاءْ

وذوي القلوبِ المريضة

والضمائرِ الواقفة

قابَ قتلينِ

وقاب موتينِ

وقابَ قبرينِ

من الظنون والشكوك العاصفة

ولا تنسَ الجناةَ والزناةَ والرواةَ

وافاعيلَ البغايا والخطايا والمطايا

والنوايا الزائفةْ

**

ها أنا أرتجفُ الآنْ

في مجاهيلِ الزمانْ

وثلوجِ الغربةِ المُلتهبةْ

وأَرى أَولاديَ

وأصدقائي النبلاءْ

وأَرى وطني الأوَّلَ

في التلفازِ محروقاً

ومخنوقاً بين نارينِ

وأَرى شعبي شريداً

ووحيدا وشهيداً

في مهبِّ العاصفةْ -

وحتى بلدي الآخرُ

من الشًبّاكِ أَراهُ

وكم يحُزنُني

أَنَّهم كلُّهم عاجزون

أَنْ يمنحوني لحظةَ دفءٍ

وحنانٍ ولمسةَ عاطفةْ

ولذا أَشعرُ

أَنَّكَ تتعمد أن توهمني

بانَّكَ قد عشت َ كلَّ شيءْ

وشفتَ كلَّ شيْ

في الوطنِ العليلْ

وفي غيابةِ الحبِّ

وفي هاويةِ الجُبِّ

والفرح القليلْ

وفي الظلامِ الطويلِ

وأَعني: ظلامَ العراقِ

الطويييييييييييييييلْ

حيث الخراب والجحيم

والخسائر النازفة

وبعدها الكثيرالكثييير

والمُذلُّ والأَقلّ ُمن القليلْ

وها نحنُ الآنَ

والعالمُ والوجودُ

والناسُ والكائناتُ

والطبيعةُ والخليقةُ

والحقيقةُ والحياةْ

نعيشُ بآخرِ الأنفاس

ونمضي الى قيامةِ العدمِ

الثقيلِ الثقيييييييييييييييييلْ

وياأَيَّها الرجلُ الأًصيلْ:

وياأَيُّها الشاعرُ النبيلْ

ماأَروعكَ وماأَبهاكَ

لأَنَّكَ كنتَ قادراً

على تَخيّلِ وتَحَمّلِ

قسوةِ وكذْبَةِ

وغربةَ العيش

في مكانٍ اسمه:

الوطن الجميل

ولازلتَ مُخْلصاً للشعرِ

ومازلتَ مُهَيّئاً للحُلْمِ

بأَشياءَ هائلةٍ

كالعودةِ للبيت في أَيِّ وقتٍ

وإمتلاكِ فسحةٍ من الأمل

وعشقِ امرأةٍ كانتْ تنتظرُكَ

على أحرٍّ من العطرِ

والزهرِ والجمرِ والحبِّ

والشغفِ المستحيلْ

تُرى يا صاحبي

وحبيبي وخِلّي

ويا صديقي البابليُّ

العتيدُ والعنيدُ

والعاشقُ الحلّي

مَنْ فينا السعيد؟

ومَنْ فينا الوحيد؟

مادامَ كلانا الآن

هُنا ...أَو هُناااكَ

حيثُ الغربةُ السوداءُ

تسكنُنا وتقهرُنا وتذبحُنا

منذُ النطفةِ الأُولى

ومنذُ الصرخةِ الأُولى

ومنذُ الدمعةِ الأُولى

ومنذُ الرحلةِ الأُولى

ومنذُ الوحشةِ الأُولى

ومنذُ الميتةِ الأُولى

وحتى قيامتِنا الأَخيرة.

***

سعد جاسم

 

ماذا لو انسكبت الذاكرة من رؤوسنا مثل ماءٍ في إناءٍ مثقوب؟

ماذا لو صرنا نَصحو فجأةً، غرباء عن أنفسنا،

ننظر في المرآة كما لو كانت نافذةً لشخصٍ آخر؟

ليس لنا ماضٍ نستند إليه،

ولا جرحٌ قديم نتحسّسه كلّما مرّت ريح.

*

كأم تغمض عينيها عن طفلها

لن نعرف اسم أول حبّ،

ولن نميّز ملامح من رحلوا،

ولن نفهم لماذا نبكي حين نسمع لحنًا معينًا،

أو لماذا نخاف من غرفٍ بعينها.

*

سننسى كيف كانت الأم تضع يدها على جبيننا إذا اشتعلت الحمى،

وسننسى أن ضحكة الاب كانت موسيقى خفيّة،

نُطفئ بها الليل.

*

سنفقد طريق العودة إلى الأماكن الصغيرة،

زقاق المدرسة،

بائع الكعك،

شجرة التين التي كانت تؤمن بأسرارنا أكثر من أهلنا ،

*

سنفقد أصدقاءنا القدامى ،

لأنّ الذاكرة لن تجد لهم عنوانًا.

سنراهم في الشوارع، فنبتسم كمن يرى وجهًا مألوفًا في حلم،

ثم نُكمل المسير دون أن نعرف لماذا اقشعرّ الجلد.

*

سننسى كيف كنّا نضحك حين نركض تحت المطر،

وكيف كنّا نرتبك أمام من نُحب،

سننسى الأخطاء الجميلة التي علمتنا الحياة،

والكلمات الغبية التي قالتها قلوبنا بصدق.

*

ولكن، هل سنجني شيئًا؟

ربما،

*

ربما سنحبّ الناس بلا ذاكرة سابقة،

سننظر إلى الوجوه كأنها لوحات بلا توقيع،

جميلة، دون أن نعرف لماذا.

سنصافح العالم بأيدٍ بيضاء،

لا تذكر من طعنها،

ولا من ضمّها.

*

سنبدأ القصّة من سطرها الأول،

بدون ندم،

بدون توقّعات.

*

لكن، ماذا عن الحنين؟

من أين يولد حين تُخرس ذاكرته؟

أين يسكن من لا ماضٍ له؟

وأين يذهب مَن لا أحد يتذكّره؟

*

ستسقط أسماءنا،

ويسقط وجه الايمان كما تعلّمناه،

فنبحث عنه في كل تفصيلة،

في قوس قزح،

وفي صراخ المواليد،

وفي يدٍ لا نعرفها، تمسك بنا حين نتعثّر.

*

أيّ ألمٍ هو ألّا نعرف لماذا نحزن؟

أن نستيقظ بانقباضٍ في القلب،

ولا نجد لصاحبه صورةً أو اسمًا أو سببًا.

*

كحبيبةٍ غضوب، نتمنى ان تعود،

وتدخل علينا بنظراتٍ ساكنة،

وتفرش على الطاولة كل الصور،

كل اللحظات،

كل الخسارات،

كل الضحكات.

لنعود، نحن، بكلّنا،

تمامًا كما نحن.

***

مجيدة محمدي

في اليوم الأول للحرب،

تعرّت نخلتنا من خضرتها،

طعنةٌ في الجذع،

وسقوطٌ مبكر.

*

في اليوم الثاني،

تحوّل موقدُنا إلى كومة رماد،

تتناثر حوله بقايا ريشٍ،

وعظام، وأحشاء.

*

في اليوم الثالث،

صار بابُنا مدخلاً لموضعٍ ناءٍ

في أول القرية.

*

في اليوم الرابع،

التقيتُ صدفةً بجنديٍّ

يحمل على كتفه جذع نخلة.

تأملتُه جيدًا، فعرفتُه:

كان جذع غرفتنا التي تُركت دون سقف.

*

في اليوم الخامس،

وجدتُ غرباء

يتربعون على سجادة

كانت أمي قد علّقتها على السياج

لتطهّرها من بقايا خوفي.

*

في اليوم السادس،

سلّمتُ على نخلتنا،

فردّت عليّ ببقايا حشفها اليابس.

*

في اليوم السابع،

لم أجد البيت، ولا النخلة.

وجدتُ أطلالًا كانوا يسمّونها "الوالدة".

*

في اليوم الثامن،

عدتُ طفلاً لأحمل الحطب،

فصفعني ظلّي،

وقال: تأخّرتَ كثيرًا على موتك.

***

د. جاسم الخالدي

يرتادُ الوهمُ سلاسلَ أصداءِ التجوالِ

ويُنادي فيحارُ بأيِّ قناعةِ ترتيلٍ ينثالُ

مُهَجٌ تفترشُ الوصلَ سبيلا

شَبَحٌ يرفضُ أنْ يُرخي حبلا

أسفٌ يتفتّلُ أسمالا

سَئمتْ أجرتْ شَرْخاً في الرأسِ المعصوبِ

جَرَحتْ في وصلٍ خدّا

صاحتْ مَنْ يغمُسُ في جُرْحٍ نابا

مَنْ يُجري خلفَ بحورِ الهمِّ شِراعا

آهٍ لو ماجَ اليمُّ وأقلعَ طودا

أوقدَ في الكوّةَ نبراسَ المشكاةِ

غضبٌ يجري في أصلِ الويلِ

من ضَجَرِ العبءِ المُزري

حيثُ الريحُ مراوحُ موجاتِ القهرِ الفِطري

وحمولةُ أثقالِ الوصلِ

مِرسالاً ورسولا

يدخلُ في طقسِ النَفَسِ البحري

عِرْقاً من شجرِ الدرِّ المختومِ رحيقا

يتدلّى مشدوداً قنديلاً بحريّا

ثُعباناً أسودَ ذبّاحَ الأجراسِ

حالَ الراهبِ مقطوعِ الرأسِ

يتقلّبُ في آهاتِ البحر صعوداً ونزولا

سهماً لعبورِ مصدّاتِ الرملِ

معصوبَ العينِ كليلا

ويموتُ عليلا.

***

د. عدنان الظاهر

نيسان 2025

(مادمتَ قد خربتَ حياتكَ هنا.. في هذا الركنِ الصغيِر،

فهي خرابٌ أينما كنتَ في الوجودِ)... كافافيس

***

العلامةُ الفارقَة

فرشتُ علاماتي الفارقةِ

وألقيتُ أسميَّ

رفعتُ رنينَ حروفهِ كطيٍر محتدمٍ من لونِ ترابهِ

العالقُ على الطلعةِ

في نقطةِ حدودِ

أتيتُ من تاجِ النخلةِ من أصغرِ جنياتِ السواقي الغافيةِ بين الأضلعِ

فرشتُ كلَّ الخرائطِ ، بحرائقِها النائمةِ بين إيقاعاتِ النسيانِ

هي الحدودُ وأنا الطيُر

تعكزتُ على لسانِ العربِ الطويلِ

الشاهقُ على كلِّ شفةٍ

الحائمُ فوقَ قلوبِنا من محيطِ الماءِ

إلى تخومِ البراري

الراسيَ كوهج الشمسِ فوقَ خرائبِ المدنِ

**

2- أغلال

تدحرج

لسانيَّ المقطوعَ هائجاً على كلِّ رصيفٍ بلا كلماتِ

يلوحُ بكابوسِ النهارِ

ثمةَ بحرٍ بزرقةٍ متعاليةٍ

ٍوثمةَ أطلالٍ بعيدة

الشمسُ ساطعةُ تتوهُج فوقَ بندقيةٍ بلا ساترٍ

ما العلاقةُ بين سطوعِ الشمسِ وفوهةِ بندقيةٍ باردةٍ ؟

تلكَ التي تتلعثمُ بها جدرانِ المنازلِ

التي اندستْ كحليبٍ يشربَهُ الطفلُ بقنينةٍ مِنْ أسمالِ الحروبِ

بينما أيامُنا عناوينٌ بارزةٌ تشبهُ زاويةَ السائلِ والمجيبْ

على شاشةِ أعمارِنا

بين وابلٍ من عتمةٍ المساءِ

**

3 - ممرّ

للنارِ ممرٌ يخرمُ في الأفقِ

للصورةِ تتكللُ بالجدارِ

كهفٌ في الجدارِ

حجرٌ ملقى مِنْ زمنٍ سحيقْ

تفاجئُني نتبعُ دهراً

منهكاً بما فاتَ

مثقلاً بما يأتي في الطريقِ

**

4- حاجزٌ

عصافيٌر ترفرفُ

أم لغطُ العيونُ يعتلي سرجَ الهواءِ

ينشرُ من عصبِ الخوفِ رفيفَ الوداعِ

والهواءُ ثملٌ على وسائدِ الموتِ يصقلُ دروعَ الوغى

ُمدى تتبخترُ بيننا وقاماتٌ قلاع

**

5- هواءٌ لا يتذكرْ

يداكَ العاريتانِ من ملامحِي

ِالناصعتانِ من غبارِ الهزائم

يداكَ التي فتحتَ فوهةَ الألمَ وجلستَ تراقبَه

يداك َتلكَ المترعتانِ بكلِّ ما لا يذكر

يداكَ التي كلما نفضتُهما بعنايةِ

تطايرَ الشرر

تركتَني على مفرقِ الطريقِ

والهواءُ يدخلُ بتأشيرةِ العدمِ

***

رضا كريم

 

حصار

محض اختيار

خوفا

على طهر أنفاسها

قصيدتي المكنونة

بأخاديد خطوة

بإحكام

سُبِكت عثراتها

ففطرتها

لا تروق لصانعي العثرات

**

ولأنها استعصت

وأبت إلّا انحيازا لحروفها

ها هي

تحلّق بطهر أنفاسها

لئلّا تطالها

نتانة أنفاس مسخ

**

أليس من هدوء؟!

وكأنها

فتحت أبوابا تنثُّ روائح سامّة

تأتي

على السائل

وتلتهم السؤال

**

إلّاها عباءتي

تلملم

ولتغدو

بوصلة لخطوة حيية

لكنها عصّية

على الاحتواء

***

إبتسام الحاج زكي

شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.

قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.

يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.

رن هاتفه إشعارا باستلام رسالة. ألقى نظرة على الخلطة المروعة من حروف وأرقام، فإذا هو رجاء من رفيق السكن بأن يدبر له مبلغا لسداد فاتورة علاج. تظاهر بالفهم وهو يجيب بخلطة مماثلة. حروف وأرقام بدأت كمزحة على الهاتف، واستقرت لغة لإنسان التيه. أعجبته مفردة التيه، فتخيل نفسه جرذا يحفر متاهته الخاصة بسعادة بالغة. لعلها الحياة في إحدى معانيها التي تأبى السير باستقامة.

اضطرب نور الشمعة فانكفأ مجددا على خياله، يعتصر حبكة لقصته الجديدة. فجأة شق السكونَ هدير محرك يقترب. فتح باب القسم بحذر فإذا بسيارة تتوقف وينزل منها بضعة شبان. حيوه بلطف زائد ودعوه لوليمة.

 لكني مشغول قليلا. هل يمكن التأجيل لليلة أخرى؟ -

- في الحقيقة نود استشارتك في أمر مهم. لن نأخذ من وقتك الكثير.

تأرجحت بهم سيارة رونو عدة مرات وهي تلتهم الطريق الترابي. مازح السائق قائلا أنه أفضل من شوماخار، ولو شارك في سباقات الفورمولا لكان له شأن آخر. طمأنه أحدهم بأنه قادر على السير فيها ليلا وهو مغمض العينين.

-طمأنك الله بالخير!

أثارت الفرملة سحابة غبار، فتريث قليلا قبل أن ينزل. لاحت من البوابة مائدة بالبهو عليها صنوف الحلوى والشاي. تظاهر بالاحتشام كعادته، فأقسموا أن يدخل أولا، إذ لا أحد غيرهم بالدار. حاول أن يفك رباط حذائه فمنعوه. مد يده إلى طبق حلوى وارتشف من كأس الشاي قبل أن يسأل عن سر هذه الدعوة المستعجلة:

- نريد أن تعلم الإسبانية.

-جميل، وأنا أيضا!

تبادلوا نظرات استغراب قبل أن يسأل أحدهم:

- ولكنك أستاذ!

-صحيح، غير أن الأستاذ لا يُدرس كل لغات العالم. أنا على سبيل المثال أدرّس العربية والفرنسية. بإمكانكم تعلم الفرنسية إن شئتم.

-  لكننا نرغب في تعلم الإسبانية.

-ولماذا الإسبانية تحديدا؟

- لأننا..

تبادلوا مرة أخرى نظرات تشي بالتردد في كشف سر خطير، لكن سرعان ما رد أكبرهم سنا:

- في الحقيقة يا أستاذ نحن عازمون على الحريك*. دبّرنا كل شيء، إلا أن الوسيط أخبرنا بضرورة تعلم شيء من الإسبانية للإفلات من قبضة خفر السواحل.

مد أحدهم يده خلف وسادة، وأخرج دليل تعليم الإسبانية للمبتدئين، ومجموعة قصص للأطفال.

- هل يكفيك هذا؟

- سألقي نظرة وأحسم موقفي غدا..

- لن تُخيب رجاءنا بالتأكيد، فأنت ترى أن البلدة لا تصلح إلا مقبرة للموتى. مُجبرون على ركوب الخطر في سبيل طرف د الخبز**.

- والبحر هو الآخر مقبرة.

- لكن ميتة واحدة خير من مرارة العيش بالتقسيط!

ملأوا جيوبه بالفستق، وربتوا على كتفه ليكون لهم سندا في هذا الهروب الأليم.

فتح باب الحجرة، ثم استأذن العفاريت لإضاءة شمعة يحذوها أمل!

***

حميد بن خيبش

......................

(*): لفظ دارج يحيل على الهجرة السرية.

(**): لقمة العيش في الاصطلاح الدارج بالمغرب.

حِين دَعَوْهُ لِيَقْرَأَ شِعْرًا

فِي أُمْسِيَةٍ شِعْرِيَّةْ

اِحْتَارَ اَلشَّاعِرُ مَاذَا يَخْتَارْ

مِمَّا كَتَبَهُ مِنْ أَشْعَارْ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدَ عَنْ شُهَدَاءٍ رَحَلُوا

دُونَ خِيَارْ

أَوْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِمَّا دَوَّنَهُ

عَنْ تَخْرِيبِ دِيَارٍ،

وَسُيُولِ دَمَارْ

عَنْ عَالَمِنَا اَلْغَارِقِ

بِالدَّمْعِ وَبِالنَّارْ

مَاذَا يَقْرَأُ؟

هَلْ تُجْدِي اَلْأَشْعَارْ؟

هَلْ تَكْبَحُ كُلَّ نَوَايَا اَلْأَشْرَارْ؟

هَلْ تَحْمِينَا

مِنْ كَارِثَةٍ تَأْتِي

أَوْ إِعْصَارْ؟

**

كَانَ اَلشَّاعِرُ مُنْغَمِسًا فِي اَلْأَفْكَارْ

وَهْوَ يُتَمْتِمُ

هَلْ يَبْدَأُ مَا يَقْرَأْهُ

بِقَصَائِدِ حُبٍّ لَاتَفَهَمُهَا

مَعْشُوقَتُهِ

فَتَغَارْ

كَانَتْ فِي وَلَهٍ تَرَقَبُهُ

وَهِيَ تُتَمْتِمُ خَلْفَ اَلْأَشْجَارْ

أَتَمَنَّى أَنْ يُجْدِي اَلشِّعْرُ،

وَأَنْ تُجْدِيَ اَلْأَشْعَارْ

***

شعر: خالد الحلّي

في نصوص اليوم