نصوص أدبية

نصوص أدبية

نهوضٌ قادمٌ نحوَ العراقِ

وحاديةٌ لمشوارِ اتْفاقِ

*

بهِ الأزمانُ تَرعى احتفالا

تُناصرهُ ميادينُ السباقِ

*

كطيرٍ من رمادِ البينِ يَحيا

يُجابهُها بواهبةِ انعتاقِ

*

ويُغريها بمبتدئٍ عريقٍ

يُعلمها مَراسيمَ العِناقِ

*

بعاصمةٍ من التفتيتِ ترقى

مُحصنةً بممنوعِ افتراقِ

*

بلادٌ كلّ ما فيها جميلٌ

وإشراقٌ بأوديةِ انبثاقِ

*

على الأزمانِ سادتْ واسْتقامتْ

بحاضرنا تواصَتْ باعْتراقِ

*

تواجهُنا الحوادثُ باحْترابٍ

وتدعونا لواهبةِ الوفاقِ

*

بها صُحفٌ من الويلاتِ تُسقى

كتبناها بواهبةِ انْهراقِ

*

طوَيْناها بلا ألمٍ وشكوى

تُبادلنا الأسى بدمٍ مُراقِ

*

تشنّأ جَمعُها برؤى التلاحي

فأضْحى حَيْفها حلوَ المَذاقِ

*

مَشيْناها على مَضَضٍ لشأوٍ

وما بَرحتْ تنادي للتلاقي

*

فهلْ وصلتْ لمأواها بليلٍ

وهلْ عرفتْ مراسيمَ الصَداقِ

*

تعمْرَمَتِ المساوئُ والخَطايا

وأنجبتِ التفاعلَ بالخِناقِ

*

كأنَّ سلوكَنا مَحضُ افْتراءٍ

وأنَّ وجودَنا إبنُ الخَلاقِ

*

سَنهزمها إذا جارتْ ودامَتْ

بأجْيالٍ أتَتْ روحَ انْدفاقِ

*

مَعالمُها تراءتْ من بَعيدٍ

مُرصّعةً برائعةِ اتْساقِ

*

هيَ البغدادُ ما عَرَفتْ قنوطاً

إذا خَمَدتْ سَتسعى للحاقِ

*

لها وطنٌ به الأوطانُ تَرقى

مَسيرتُها مُؤجِّجَةُ اخْتراقِ

*

عليها صالتِ الدنيا وجارتْ

وما تَعِبَتْ وعاشتْ بارْتفاقِ

*

غشيمٌ في مواطنها تردّى

جهولٌ إذ يراها كالوثاقِ

*

تحيّاتي إلى بَغدادَ روحي

مُعَطرةً بأحْلامِ ائتلاقِ

*

سَلوا عنّا زماناً عاشَ فينا

سيُخبركمْ ببرهانِ اعْتناقِ

*

أرى الدنيا عراقاً مُستنيراً

بألبابٍ مُناهِضَةِ النفاقِ

*

سَنعلو فوقَ هاماتِ البرايا

نذكّرها بمانعةِ انْمحاقِ

*

ألا تبّتْ يدا زمنٍ عَضوضٍ

سَنَرْدعهُ بأجْيالِ انْطلاقِ

*

تواصى كلّ موجودٍ بفعلٍ

يؤسسُ مَعلماً فوقَ المَحاقِ

*

بنا رَجحتْ ودامتْ في سُطوعٍ

مُدوّرةً مُسوّرةَ الطِواقِ

*

بها الأذهانُ كمْ بلغتْ مُناها

وبيتُ حِكْمَتِها قمرُ اسْتباقِ

***

د. صادق السامرائي

المَـجْــدُ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ، والــشِـيَـمُ

فـي جَـوْهـرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِـمُ

*

لــمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولــدَ الأمَــلُ

فـي الكعــبـةِ، ازدانَــتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـــاءَ أنْ يَصطفي للمُصطـفى، عَـضُـداً

بــــه المَـسِـيـرَةُ، نِــبْــراسٌ ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ، فـي يــــوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ مِــــنْ عَـــليـائــهِ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلـــهِ، أنْ يــخــتـــارَ فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ، لـِـوالِـدهــــا أزْرٌ، بـــه شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـــورٌ، فــي اقـتـِرانِـهـما

وبـارَكَ الـمُــصطفـى، فانْـهـالـت الـنِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ أحـــداثٌ، مُـــؤرَّخَــــةٌ

ولـلــمَـواقِــفِ رأيٌ، فـــيــه تـنـحَــسِــمُ:

*

لــمّـا فـدَيْـتَ رســـولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تــصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَـكـرُهُـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قــدْوَتَـه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ، لــهــا قِــدَمُ

*

خُـلِـقْــتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَــداً

لأن كــفَّــكَ، فـــي وضـح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّــبْـرِ أمْــنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَــبْـقــريـةُ، مُـذ فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله، إذ أصـبحَـتْ لـلـعَــدلِ، تـحــتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَــدٍ، الـعَــوْزُ ألـجَـأهــا

حـتـى وأنــت تُـصَلـي، نـالـهــا الـكَــرَمُ

*

وفي القضاء، انـحَـنى كلُّ الـقُضاةِ لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيـه، فـزالَ الـشــكُ والـوَهَــمُ

*

أنـصفْـتَ حـتى عَـلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ ) صـِراط، فــيـه نـلــتَــزِمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبــيـت الـمال صار لــه

حـديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَـعــنَـويَّـةُ، قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

في نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهـَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لــه

صدىً يُــعــززُ فـــي الأخــلاق نـهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مــا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الأعـداءُ تَــنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كــفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكــهُ

قــبـل الــنِـزالِ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُــمُ

*

بـه، قَـطعـتَ جــذورَ الشِـركِ، مُــرتَـجِتـزاً

واسـتسـلـمَ الخَـصمُ، لا سـيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيــتَ، بإيـمانٍ وتــضـحـيــةٍ

فـانْهارَ مِـن وَقْـعِـهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَــفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلـحَـمَـةٍ

إذ كــلـمـا قَــيـل: ذا الــكـرّارُ، هـالَـهُــمُ

*

إذا رجَــزْتَ، فـلِـلأجـواءِ هــيْـــبَــتُـهـــا

ولـِلــحَـمـاســةِ، فـــي أصـدائهــا حِــمَـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصــمُ، فــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قــبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَـفْــسَ رسـول الله، حـيـن دعــا

في (خندق) الحَـسْـمِ،حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَـعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَةُ الـنصـرِ، فـي قــوْلٍ يـُـجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ،وقـد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُـمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى، زالَ عـنه الـوَهْـمُ والـعَــتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ، فـي الــذي كــسـَـبــوا

ثـمّ اقـتـدوا بـك، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَالجُـنـدُ لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا: لا فــتـىً إلّاكَ، بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى : انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ، بالإيــجـاب كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، لو جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجــواءَ، يَــسْـمُ بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَــدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ، والآفـــاقُ تَــشـــهَـــدُه

قـد حَـرّكَ الـوعيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلـعـلـم، والآدابُ تَــصـحَــبـُـه

(أيـن الأسِــرَّةُ،والـتـيـجـانُ)، والـخَــدَمُ

*

عَــقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشـــجـاع بــلا

ســـيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفــرســان مـوهـبـة

والـمقـتـدون بـهـم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بـلـغْـــتَ فـــي صِـلــةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـــلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثـقتْ

بـــهِ الـعُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عــقيلاً، إذ أشــارَ الى:

(أم البـنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ تَــنْــتَـظِـمُ

*

فكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افـتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابـو الحـسَـنيـن، الـعِـزَّ في عَـمَلٍ

بــه الـكــرامـةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفــيّــةَ، لا تــفــريــقَ فــــي زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَــتَّـسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المـصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

نـاديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُـــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيــث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

(وجع الحرية)

 عندما ارتديت ثيابي في يوم الإفراج عنا شعرت أنها لشخص آخر غريب عني، وكذلك ضوء النهار الذي استقبلني في باحة السجن ومن ثم خارج البوابة الأمامية التي نسيت أي أمل بعبورها نحو الحياة الاعتيادية، وأني سوف أرى اناسًا يمشون في الشوارع بكل حرية، دون قيود ولا أوامر ولا تهاوي العِصي الغليظة لدى تعليقنا بالفلقة حتى نفقد الوعي. لوهلة كدت أطلب من السجان أن أبقى في زنزانتي حيث اعتدت التأرجح ما بين الحياة والموت، دون السماح بالاتكاء على أي حائط ولا القيام بأي حركة لمدة اثنتا عشرة ساعة، لأنني لا أدري إن خرجت في أي اتجاه أمضي، فقد ضاعت مني اتجاهات مدينتي وشوارعها وميادينها ومناطقها، حتى أني خشيت ألا أستطيع المشي ولو لعدة أمتار حتى أعثر على سيارة أجرة تقلني إلى منطقة الكرادة، فلا بد من الابتعاد عن مبنى السجن الكبير مسافة كافية كي لا يخشى ركوبي السائق الذي لزم الصمت طول الطريق متوجسًا من هيئتي الغريبة، وقد بدوت في المرآة الجانبية الصغيرة، والقريبة من جلستي إلى جواره، بقصة شعري الغريبة والمضحكة عن عمد وبقسمات وجهي المتورم أشبه بشبح خرج من قبر شخص مات مقتولًا دون أن يعرف سبب مقتله.

 ظلت السيارة تجوب بي الشوارع، من سجن (أبو غريب) نحو منطقة العامرية، ومن اليرموك نحو تمثال الفارس العربي، ولمَا مرت من أمام جهاز المخابرات شعر السائق بما اعتراني من رجفة سرت في كل أنحاء جسدي الذي تغور فيه أوجاع الجروح والرضوض والكدمات، فمد يده نحو ركبتي المرتجفة كي يهدئني، كما لو أنه اعتاد فعل ذلك، وحاول الإسراع قدر ما يستطيع كي يبعد عني شبح الاعتقال مجددًا، ثم أوقف السيارة إلى الرصيف المحاذي لمتنزه الزوراء، خشيت أن يطلب مني النزول، إلا أنه التفت نحوي مبتسمًا، وقد بدا لي في مثل عمري، بملامح تنم عن طيبة أصبحت غريبة عني، ثم قال أنه سوف يجلب لي عصيرًا وشيئًا آكله، على حسابه، فقد بدا له أني لا أملك نقودًا، مع ذلك قبَل أن يوصلني. تجرأت وأخبرته أني أشتهي سيجارة الحرية أكثر من أي شيء آخر.

 أخذت أتنقل بنظراتي عبر سياج الزوراء وشارع دمشق العريض بجانبيه من أمام محكمة بداءة الكرخ ومعهد الفنون الجميلة، وأكثر ما شد انتباهي الزي العسكري الذي يرتديه الشباب، كما لو أنه (مودة) أشبه ببناطيل (الجارلس) الفضفاضة وياقات القمصان العريضة والسوالف الطويلة في السبعينات، إلا أن قرار إطلاق السراح أكد أننا في عقد الثمانينات.

 رحتُ أحدق في كل صورة تمر السيارة من أمامها في (علاوي الحلة) و(الصالحية) و(حافظ القاضي)... صور كثيرة، في كل الزوايا تقريبًا، متباينة الأحجام، منها صورة كبيرة جدًا، شعرت أنها تحتويني وتحتوي كل المدينة، وتغشى حتى قطع القماش السوداء المعلقة إلى الأسوار وبعض الحوائط، تنعي الشهداء في قواطع جبهات المدن الحدودية جهة الشرق.

 لم يحاول السائق أن يتكلم معي كلمة واحدة، فتواطأت معه على الصمت، وكأن كلًا منا يتلمس رجفة الخوف الذي يراود الآخر، لكن عندما وصلنا منطقة الكرادة لم أستطع تمالك نفسي أكثر، فأجهشت ببكاء ربما أكون اختزنته على مر سنوات، وكأني أشم عبق أمي وأبي بعد عمر من الغياب، دفء البيت ورائحة البخور التي كانت والدتي تحب أن تعَطر بها مكان جلستها بصورة خاصة، أمام المدفأة النفطية التي يعلوها دورق الماء المغلي (الكتلي) يرتكز فوق فوهته دورق الشاي (القوري) (المهَيَل). كانت تنتظر عودتي المتأخرة بصبر وعينين قلقتين من أسى اعتقال جديد يبعدني عنها لفترة لا تعرف أمدها، أو من تفتيش يقلب البيت رأسًا على عقب حتى أُنهكت من ترتيبه كل حين، إلا أنها لم تعد تقول شيئًا تحاول من خلاله إثنائي عن الطريق الذي اخترته منذ أن كنت في السادسة عشر من عمري، تكتفي فقط بالتنهد الحزين الذي راح يغور في أوصالي مثل سكين حاد حتى استطعت تذكر شارع بيتنا، بعد أن مررنا بعدة أحياء ومحلات وشوارع، فأخذت ذاكرتي تسترجع أسماءً كثيرة غابت عني، رغم أنها كانت فيما مضى بمثابة الشرايين والأوردة المتشعبة في أوصالي. كان الدمع يغَبش نظراتي المتطلعة إلى ذلك التوهان الجميل، وكأن السائق تعمد أن يروي بعض حنيني إلى عمرٍ آخر أوجعني مدى غربتي عنه، كما لو أن القيود تواصل حزَ جسدي والضربات توالي طعن أضلعي وعظامي بألمٍ مبرح لا يرضى أن يفارقني.

 أشفق السائق على نظرات ذهولي فتخلى عن الصمت أخيرًا وأخذ يتلو على مسامعي أسماء (البوشجاع)، شارع (السيد إدريس) (الزِوية)، (رخيتة)، (أبو قلام)، محلة (البو جمعة)... كان يبدو كمن يستغل الفرصة كي يتغزل بصفات محبوبة سكنها الحزن منذ سنوات، فيما أواصل النحيب مثل الثكالى ممن يفقدنَ أحباءهن في حرب تقيم مجالس العزاء هنا وهناك كالوباء المنتشر بسرعة في أوصال المدينة، بينما لا يحق لذوي القتلى منا تحت وطأة التعذيب الجهر بذرف الدموع لدى تشييع الجثامين نحو المقابر. كنت شبه أكيد أن السائق الذي لم يستطع كبت دموعه لدى اقتراب عثوري على بيت والدي، كما لو أني اغتربت عنه منذ كنت صغيرًا أكاد لا أعي في الدنيا شيئا، مبتلى باعتصار الفقدان الذي يقبض على حسراتي الحرى بعد أن طال كتمانها، وأن له حكاية لعلها تفوق حكاية هزائمي على أيدي الرفاق مرارة، مع ذلك لم يفضِ بمواجعه، وبدَوري لم أشأ أن أضيف نزيف ألم آخر إلى غصة اختناقي.

 عندما ترجلت أخيرًا أمام باب بيت والدي لم يرضَ الانتظار حتى آتي بالنقود من الداخل، فقط أخبرني أن أحرص ألا أعود إلى (هناك) مجددًا مثلما حدث لأخيه الصغير، فلم يصله خبر عنه سوى شهادة وفاة، واكتفى بهذا القدر دون شرحٍ أكثر، ثم مضى بالسيارة سريعًا كما لو أنه شارك بجريمة شنعاء ويخشى اكتشاف أمره.

 أولمّا عبرتُ الباب الخارجي لبيت أهلي الكبير، والذي كان يبدو لي مثل قلعة شامخة لا يمكن لشيء النيل منها، ولا حتى الزمن، هجست أكثر فأكثر أني أمام واقع مغاير لكل ما ألفت، واقع ليس لمناضل منبوذ مثلي القدرة على تغييره ولا حتى التغاضي عنه، ودوي قصف غارة جديدة يكاد يدك الأرض من تحت قدميّ كما لو أنه يصدني عن الدخول كي أستأنف حياتي من جديد.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

حين انتخبَ الفؤاد

رايةَ السلامِ مستقرّاً

أشرعْتُ بابَ القلب

لتدخلَ الحمامةُ البيضاء

مسكنَها

في عشِّها اللازورديّ

الموشَّح بالزهرِ

والنهرِ

ونخلِ الله....

**

وحينَ حلَّقتْ بعشِّها

صوبَ النجومِ البارقاتِ

بالقبابِ

وحروفِ الرفع

تساقطَتْ مجراتٌ

في حضنِي،

وأشعلتْ فتيلَ مصباحي

فامتلأتْ أزقتي

بمهرجانِ النورِ

والحبورِ

والسطورِ الفائضةِ

بالكلامِ

منْ عسلٍ مصفّى

ألقيتُه

على لسانِها الأخضر

فانطلقتْ سِرباً

منَ الحمامِ

فوق هامتي

وهدلتْ...

لكي أنامَ على فراشٍ

منْ أمان...

***

عبد الستار نورعلي

 

كنت واهمًا

أبكي ضياع الأوطان

احتجَ الكلبُ، فهز لي الذيلَ

بالنفي..

تأملت الهزَ

وأدركت وهمي

باكيا ضياع الأنسان.

**

كنت واهما

أبكي ضياع الأوطان

فكان الحقُ، أن أبكي الإنسان

**

أسكرُ

فالليل عراء

والخمرةُ دفءٌ

في عري الرب.. رداء.

**

أوهمني العمر

أن أرجعَ يوما أطرق بابك

فكانت غربان تحمل نعشك…

وتحرس أبوابك

أوهمني ...

أوهمني الدربُ إليك

لكني أبكي طوال الدرب

وهذا العمر

أبكي... موت الإنسان

لن يبقى فيك، سوى بعض قلوبٍ

وملايين الغربانِ

**

في الغيمة روحي

كتابٌ للربِ

يقرأه.... فيغضب مني

فينزلني مطرا

كما أنزل ادم.

قد أفيق غدا

أو لا أفيق

وأنتَ مازلت تحدثني

عن حفلة عرس بثوب خليفه.

***

كريم شنشل

سار الصديقان الجديدان جدًا، الختيارة والختيار، بضع خطوات في قمّة الجبل، وكان مِن المُتّفق عليه فيما بينهما أن يفترقا، قُرب محطتها باتجاه بيتها في السفح الأول، في حين ينطلق هو باتجاه محطته في الاتجاه المحاذي، للانطلاق نحو بيته الوحيد في الجانب المقابل من الجبل ذاته. قبل أن يفترقا خطر في باله أنهما.. هُما الاثنان.. كما جرى الحديث بينهما على حافة مرض لا دواء له إلا المشي والانطلاق في الدروب الطويلة المُمتدّة. أرسل نظرة مُتخابثة نحو مرافقته وقال لها " إنني سأنزل هذا الجبل العالي سيرًا على القدمين. صحتي تحتاج المشي بالضبط كما تحتاج شرب الماء الزلال والنوم الحلال". هنا حدث ما توقّعه منها، فأردفت ما قاله بكلمات كانت غامضة مبهمة نوعًا ما، وأكثر من ذلك نقلت له ما أراد أن يستمع إليه. وهو أنها سترافقه. همس لنفسه قائلًا:" فعط الفخّ". وهكذا حظي بردّها المتوقع المنشود. سأرافقك. ردت بنوع من الخفر وتابعت أنا أيضًا أحتاج إلى مثل ما تحتاج إليه.

انطلق الاثنان نازلين الجبل الاشمّ، هو إلى جانبها وهي إلى جانبه وحرص على الا يسبق أحدهما الآخر. شكا لها من صعوبة أن تعيش وحيدًا، فبكت له قائلة إن أصعب ما في الكون أن تعيش وحيدًا. قال لها إن مشكلة الطعام والشراب تأتي أولًا في صلب معاناة الوحدة بعد امتلاء، فأكملت وغسل الملابس يأتي في مكانة لا تقل أهمية. هكذا ابتدأ التوافق المُضمر فيما بينهما، هي المرأة الملآى بقايا انوثة رغم الشيخوخة المُداهمة وهو الشيخ المليء شبابًا رغم افتضاض العالم كلّه عنه بما فيه الابناء.. ثلاث اناث وذكر واحد. " كلهم متزوجون"، قال فأرسلت ابتسامة مَن اكتشف مَن يُشبهه على الأقل. وقالت " بي مثل ما بك يا شيخ الشباب".

هذا التوافق فيما بينهما شدّ من عزيمتيهما، فانطلقا يغذان الخطى نازلين متنقلين من رباع إلى رباع. وكان كلّ منهما يستذكر أن له في تلك المنحدرات المتتالية ذكريات، فما يكاد هو يقول هُنا كانت لي ذكريات مع عازفة عود سمينة.. كان ذلك حانوتها، حتى تشرع هي في سرد ما ادخرته ذاكرتها عن تلك العازفة، فذكرت أن رجالات حيها كانوا يدعون تلك المرأة عازفة العود لتحيي الاعراس والافراح والليالي الملاح. تلك المرأة تمتّ إلى أبناء عائلتي بشيء من القرابة. قالت فردّ. لقد نادتني عندما كنت طفلًا صغيرًا ارتجف تحت المطر لتدفئني في دكانها.

تابع الاثنان انطلاقهما. حكاية تُفضي إلى أخرى. ويدًا تقترب من يد. وكانا كلّما توقفا قُبالة مطبخ أو مغسلة روى أحدهما للآخر حكايته معها. ليكمل الآخر تلك الرواية بحديث طليّ يعيد الماضي وكأنما هو لمّا يمض. وما زال ماثلًا... ويغذي الحاضر بنسغ الحياة باستمرارها وكينونتها.. وحتى بوجودهما هما الشيخان الشاهدان الوحيدان في ذلك الدرب على أن ما كان لم يكن وهمًا وخيالًا وإنما كان كينونة ووجودًا.

عندما تعب الاثنان توقّف كلّ منهما قُبالة الآخر، مُرسلًا نظرة استفسارية.. سألتها عيناه " هل أنت متأكدة من أننا كنّا هنا؟"، فردّت عيناها" ألم تُجب الذكريات على ما فاضت به ذاكرة كلّ منّا؟"، أطربه أنها أجابت على السؤال بسؤال مُفحم، وتابع الطريق.. كان يودّ ألا ينتهي ذلك الطريق، وكان السؤال المُلحّ رغم كلّ ما ضمّته تلك المسيرة مِن تفاهم واضح وجليّ. ترى هل يوجد بها مثل ما بي.. أم هي ضريبة كلامية تدفعها لي لقاء اقتراحي ذاك في أعلى الجبل؟". وبدا أن المسير الطويل أخذ مأخذه من كلّ منهما.. هما الاثنان، فظهر الاعياء على قدمي المرأة المُسنة المرافقة، وما إن ترنّحت في حالة من التعب والارهاق هتفت " يمّا.. أشعر أنني سأسقط"، عندها مدّ يده مستعينًا بما تبقّى بها من قوة شباب وعنفوان وأمسك بيدها هاتفًا بها" تروّي.. لا تصرخي.. أنت معي لا يمكن أن تسقطي"، مُساعدته لها مكنتها مِن العودة إلى انتصابها السابق الأول. وأدنت وجهها مِن وجهه كأنما هي تُريد أن تشكره وتُقدِّم له أسمى آيات الشكر والعرفان لمساندتها تلك.. هكذا انطلق الساعيان في طريقهما الوعر حينًا السهل آخر. انطلقا غير عابئين بما اعتور طريقهما مِن عثرات وعقبات فقد كان كلّ منهما يسند الآخر حين يتهاوى من طول الطريق وشدة الاعياء. وقد حصل معه بعد أن سرت في جسدها دماء القوة لمساندته إياه، في أحد مقاطع المنحدر الصعب، ما سبق وأن حصل معها، كان ذلك عندما ترنّح متهاويًا وتبدّت له نهايته الوشيكة في أسفل الجبل. فما أن تداعى بجسده الناحل حتى شعر بيد الهية وقويّة تمتد إلى يده بقوة عملاقية.. وتنتشله في اللحظة الأخيرة.. لحظة ما قبل النهاية. أرسل نظره إلى تلك اليد يودّ أن يتبيّن صاحبها ليشكره ويُقدّم له آيات عِرفانه وتشكراته الخالص. ليفاجأ بانها هي مُرافقته المُسنة مَن مدّت إليه يدها وسحبته من متاهته .. نهايته المحتّمة.

واصل الاثنان انطلاقهما هذه المرة بخُطى مَن تأكد أنه لم يعد وحيدًا في انحداره الجبلي، وكان كل منهما يُرسل ابتسامة إلى الفضاء المجهول وتعلو وجهه علامة سؤال " ترى هل انتهى زمن الوحدة وما تخلله من مشاكل قلة الطعام وغياب مَن يغسل الثياب؟"، وبقي هذا السؤال يراود كلًا منهما إلى أن خطرت لها هي.. وليس هو هذه المرة.. أن تلعب لعبتها الخاصة وأن تضرب ضربتها الحاسمة. همست في أذنه سائلة إياه:" ها نحن وصلنا إلى منتهى الجبل وأسفله.. ترى إلى أين ستتجه.. "، فردّ عليها قائلًا بنوع من التخابث سأواصل طريقي حتى نهايتها"، هنا وجّهت إليه ضربتها القاضية الأخيرة.. فإما تصيب وإما تخيب. اصطنعت هيئة مَن لا يهمه ماذا سيحدث وفي خاطرها أن تجري له الامتحان الأخير، فإما يُكرم وإما يُهان.. وهذا ما سينطبق عليها بالطبع قبل انطباقه عليه. قالت أنا سأتوقف هنا وسوف أنتظر الحافلة الطالعة إلى بيتي هناك في الناحية الجبلية المحاذية لناحيتك"، انتابته حالة من البرود فقد كان يتوقّع بعد كلّ ما حصل أن تقول له سأرافقك. انطوى على أحزانه القديمة. ودعها وواصل طريقه وهو ينظر إلى الامام.. لقد كان منطلقًا انطلاقة من حدّد هدفه ورآه بأم عينه.. وقد كان يراها أشبه ما تكون بوصلة توجّهه إلى ناحيته الصحيحة المنشودة.. أصابته حالة من الجنون المفاجئ فأخذ يجري شاقًا عُباب الدرب الطويل.. وكان كلّما واصل الجري أرسل ابتسامة غطّت الجبل من اسفله الى أعلاه.. فقد كان يشعر بقدمين قويتين تُشبهان قدميه تجريان.. وتكادان تطيران.. في الطريق ذاته..

 ***

قصة: ناجي ظاهر

 

إحساس غريب يلازمها منذ استيقظت هذا الصباح، صالت وجالت لكي تقنع نفسها أنها مجرد وساوس شيطانية لابد أن تتخلص منها، لكن للأسف فشلت، تساءلت حائرة كيف تسكنها الوساوس في هذا البيت الذي تربت فيه وكبرت في أحضانه، كيف تضيق الطرق بها ووالدها الرجل البطل الذي لا يشبهه أحد وأنه مادام على قيد الحياة فهي وأخواتها بأمان، لكن بقت تردد لما هذه الوساوس اللعينة تفسد يومها وبهجتها، كانت تتمتم بهسيس الروح ونبض الخطوات المتردد، دارت حول نفسها مرات ومرات، حاولت أن تشغل نفسها لتخفف عنها قلقها وتوترها، تحاول التخلص من ثقل هذا الوسواس بالبسملة والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، رن هاتفها وجاءها صوت غريب يخبرها أن والدها بالمستشفى وهو يتواجد بغرفة الإنعاش في حالة حرجة، أسرعت نهال إلى الخارج دون أن تخبر أحدا في البيت بهذه الفاجعة المدمرة وقد تملكتها رعشة في عظامها وانتفاضة شديدة في خلاياها، لم توقظ أحدا من أهلها، رأته ممدا وموصولا بأجهزة طبية كثيرة تأملته عسى أن يفتح عينيه في أي دقيقة، دلكت رجليه ويديه بكل رقة ونعومة، علمت أن مواطنين أبلغوا عن سائق مغمى عليه داخل حافلته، وبعد تفقد هاتفه جرى الاتصال بمنزله، لم تكن يداه دافئتين، لكن لما تشعر بهذه البرودة تدب في أنامله ببطْء ومصممة على أن تسري في كل جسده، حركت أحاسيسها الكلمات الحائرة، أين اختفت تلك البهجة وأنت صانعها؟ يا أبي العزيز، من يرسم البسمة على وجهي غيرك ؟ وأراك وحدي ترسمها بتلقائية وبراعة. أبلغت نهال أهلها دون أن تنقل لهم إحساسها بالقلق، وحالته ليست سوى أزمة خفيفة وستمر بسلام، وأصرت على أنها هي من ستبقى معه وتهتم به. ظلت تنظر إليه طويلا وتدعو الله أن يشفيه وأن يساعدها على تجاوز هذا الموقف المؤلم العصيب، تحلت بالعقل والحكمة على مدى سبع أيام متتالية حتى انتفضت مبتهجة من نومها على الكرسي بجوار السرير لما رأته يتململ من اغفاءته العميقة ويحاول أن ينزع قناع الأكسجين، هالها شحوب وجهه، احتضنت برفق يده المستسلمة بين راحتيها، شعرت وكأنها أمام العد التنازلي لكل شيء جميل رسمه بحياتها، وماهي إلا لحظات حتى عاودته الألام، سارع إليه الأطباء وأعادوا إليه قناع التنفس، وبعد محاولات مضطربة عديدة وسريعة نفذ قضاء الله، وقفت متسمرة في مكانها فاقدة الشعور بالزمان والوعي بالمكان وتمنت أن تنسل روحها من جسدها وتدفن معه، صراخ بداخلها يخنقها، يبكيها، وهي تتذكر آخر كلماته أن أمها وأخوتها أمانة عندها، لا تشعرهم بفقدانه وغيابه عنهم، فوجودها إلى جانبهم يعني وجوده، وعندما ينام نومته الأخيرة سيكون مرتاحا لأنه تركهم معها، تنهدت في صبر والدموع تغالبها ولكن تأبي أن تنزل من محجريها، شعرت بمرارة الحياة وآلامها، وقساوة لياليها الطويلة، كيف تبدأ من بعده؟ لقد استأمنها أمانة كبيرة لا تقوى على حملها وهي الأنثى الوحيدة المدللة عنده، أودعت في الأيام الأولى حافلة والدها لدى صديق له اقترح أن يعمل عليها ويأتيهم كل مساء بالحصيلة ويأخذ هو أجرته اليومية، ولم يكن في أسرتها من يمكنه سياقتها لانشغالهم بالدراسة التي حرمت منها بعدما لم يحالفها الحظ فتوقفت لمساعدة والدتها في تربية ورعاية أخواتها الذكور، مرت الأيام وعلمت نهال أن صديق والدها يسرق مبلغا معتبرا من ما يتحصل عليه من العمل في الحافلة صارحت والدتها بالأمر وتأسفت كثيرا أن يكون هذا جزاء من أكرمه والدها، إنه زمن العجائب، والله يرحم من عرف قدره وكفّ الناس شره، كان الظن أنه سيساعدهم ويقف معهم وإذا به يأكل بالباطل خيرهم ويخدم غيرهم وصاروا هم المساكين، لقد تقدم إليهم بلطف كصديق أمين على مال صديقه الراحل، لقد انقلب إلى شخص انتهازي، استغلالي، لقد عانت نهال وأسرتها منذ وفاة والدهم من كل رأس مطاطية وراءها ألف بلية فكان آخر المعروف ضرب الكفوف والنميمة ونشر الأكاذيب، لذا قررت أن تتولى سياقة حافلة أبيها والعمل عليها بنفسها، قد يكون الأمر في البداية غريبا لكن الناس سيتعودون عليه خشيت أمها أن يرفضها مجتمع السائقين وسطهم وينبذونها ويناصبونها العداء، فاقترحت بيع الحافلة واستغلال ثمنها في مشروع آخر، رفضت نهال أن تفرط في شيء واحد من أشياء والدها فهي تعيش في تفاصيل أشيائه الصغيرة والكبيرة، وطلبت من أمها عدم التفريط في ملابسه فهي من سترتديها عند العمل، حصلت نهال على رخصة قيادة مركبات الوزن الثقيل حيث كانت قد تدربت على سبيل اللهو والمرح على يد والدها من قبل لذا لم يكن الأمر صعبا عليها، لقد تهيأت جديا للعمل، وكانت ذكرياتها معه تمدها بالصلابة والقوة، فكم أراد الآخرون أن يمحو المعالم الطيبة والأصيلة والمعاني الجميلة التي زرعها فيها فكانت تهرب إلى تلك الذكريات الأبدية التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف ومهما كانت السحب معتمة ستنزل الأمطار غزيرة تروي القلوب التي لا تعرف إلا الحب وتزيل الحزن عن المشاعر وستنبت الروح النقية من الانفعالات الوقتية رياحين عطشى للنقاء بعيدا عن الزيف والنفاق، وبياض يطله ندى الفجر يبدأ به الشرفاء يومهم متوكلين على الله

نهضت نهال مبكرة فارتدت ملابس والدها، جاكيت وبنطلون جينز أسود، جمعت شعرها خلف رأسها ووضعت قبعته وساعته وقفازه الجلدي ونظارته الشمسية، وأخذت كل ما يحمل ذكراه الجميلة، تأملت شكلها الجديد في المرآة أطلقت بروح فكاهية عدة رمشات خاطفة كأنها عصفور يوشك على الطيران لحق بها ابن خالتها العاطل عن العمل بعد تخرجه من الجامعة بدأ الركاب في الصعود الى الحافلة المتوجهة لولاية تبعد أكثر من خمسين كيلومترا، كانت تتوقف في كل المحطات وكان شعور النساء والبنات نحوها بالفخر والاعتزاز، فيما نظر إليها الركاب من الرجال بفضول لطريقة قيادتها وباستغراب من دقة تحكمها، وبإعجاب أيضا من انضباطها وحسن تصرفها، لم يكن الأمر سهلا على الكثير من السائقين إذ كان من الصعب في مجتمع ذكوري تقبل مثل هذه التجارب من أول وهلة، لذلك كانت المصيبة التي أرقتها أنهم كانوا غير راضين بوجودها وسطهم، فدبروا لها كل أنواع المكائد لدفعها إلى بيع الحافلة التي بدت من نظافتها الداخلية والخارجية وتعطيرها عروسا أتت من كوكب آخر، إنه تقليد تربت عليه منذ نعومة أظافرها، إذ كان هذا أسلوب والدها اليومي في العمل، لم يقف تفكير نهال عند حد معاملتها الطيبة مع الركاب، الصغار والكبار، حتى رجال الشرطة يحيونها في ذهابها وإيابها احتراما وتقديرا لها حيث لم ترتكب أي مخالفات، إنها مثالا لمن خطت بأقدام ثابتة مسارها في زحمة الهاربين من الأوطان إلى منافي الخوف لأن ذاكرتها تحفظ بأيام حلوة، تعلمت كيف تكلم الآخر بعناية وإحساس فهي أميرة والدها التي تحفها الورود وتذوب من أجلها الشموع وتسهر لراحتها عيونه وتلبى طلباتها ورغباتها في الحال، وتتضاءل مشاكلها وهمومها في حضنه الآمن، أمدها بالقوة والثقة بالنفس في الصغر فوجدت نفسها في الكبر واقفة تجابه الرجال وقوتهم بما تربت عليه من قيم ومبادئ، ثاقبة البصيرة حادة البصر، تعرف جيدا ما تريده، ملتزمة، ورغم فقدانها الحضن والسند والدافع إلا أنها كلما نظرت في المرآة قبل خروجها إلى العمل تراه في جسدها، في روحها، في تصرفاتها، إنها تكمل مسيرته في الحياة، كل شيء منتظم، رتبت أمور عائلتها واهتمت بوالدتها لكن طموحها كان كبيرا وخاصة لما صادفت سيدات وشابات يطلبن معرفة تجربتها وانطلاقتها في العمل المحتكر من الرجال، كانت تبتسم وهي تؤكد على معاني الإرادة والعزيمة. استشعرت نهال دوافع داخلية للتفكير في تنويع مجال عملها، ففتحت مرأب بالطابق الأرضي أسفل منزلها بعد شراء حافلات متوسطة الحجم، بما تسنى لها جمعه من أموال إلى جانب ما تركه والدها في البنك، لقد نالت موافقة العائلة بعد استشارتهم ومباركة والدتها التي كانت على ثقة كاملة أنها لن تهدر حقوق اخوتها، وأنها ستكون حريصة أشد الحرص على تضخيم مدخرات كل فرد منهم تأمينا لهم من تقلبات الزمن. قامت بكل الاجراءات واختارت فتيات يافعات وبعض السيدات لقيادة الحافلات وحرصت على تحذيرهن من بعض المضايقات والمعاكسات وحالات التنمر، وأكدت على ضرورة الثقة بالنفس والشجاعة والالتزام بالأدب مقابل ما قد يواجهنه من قلة أدب بعض الركاب وحتى تجاوزات السائقين، كما فتحت نهال المجال أمام تشغيل الفتيات كمحصلات داخل الحافلات، وأخريات يعملن في محل جعلته مطعما لتقديم الوجبات السريعة والمشروبات الساخنة والباردة لكل المتواجدين بالمحطة من السادسة صباحا إلى الثامنة مساء ويتولى أحد السائقين توصيلهن إلى باب منازلهن استأجرت محل آخر كان مهمل جعلته عيادة صحية صغيرة على رأسها طبيبة وبعض الممرضات وأخريات لتنظيم دخول المرضى وتنظيف المكان، لقد وفرت لجمع كبير من النساء والفتيات فرص العمل والكسب بكل عزة وشرف بعيدا عن أي مساومات رخيصة، كانت تمني النفس بتحقيق أجمل الأحلام وأطيب الآمال بحياة كريمة كلها تفاؤل بالسعادة والخير لكل النساء والفتيات، لأنها تعلم ما أحوجهن إلى العمل في زمن غلبتهن الدموع واكتوين بنار الألم وعانين الضيق وشر الأحزان ضبطت نهال شؤونها ونظمت أعمالها خاصة المطعم الذي قدم أشهى المأكولات التقليدية التي يعشقها أهل المدينة أعدتها أيادي نساء محترفات للمسافرين والعائدين في ساعة متأخرة إلى بيوتهم التي ذكرتهم بالزمن الجميل، ولم تغلق باب العيادة في وجه فقير محتاج للرعاية الطبية الأولية، لقد فرضت منطقها في العمل بشكل قانوني محترم حتى صار من كانوا يتنمرون بها من الرجال يستشيرونها في كل صغيرة وكبيرة، ويوما أتاها أحد كبار السن الذي ألفته راكبا إلى جانبها سائلا إن كان لديها متسع من الوقت آخر النهار إذ يريد أن يفاتحها في موضوع، رحبت نهال. في المساء وجدته ينتظرها داخل المطعم الذي كان يطل على أرض فضاء مهملة منذ سنين، بادرها بأنه ممتن لها طيلة السنين حيث لم تأخذ منه أجرة ركوبه الحافلة أو ثمن وجبة الأكل بالمطعم ولا مقابل العلاج بالعيادة لقد أسعدته كثيرا في وقت حرمته الحياة طويلا من الأشياء الجميلة التي كان يتمناها في صغره، كان يرى في أولاده زينة الحياة، ومن أجلهم ركب المخاطر وخاض الدروب الشاقة، ولم يكن يدري أن مقابل سهر الليالي والتضحيات سيكون رحيلهم عنه بعيدا إلى الخارج، انتظرهم طويلا بدون جدوى، كلما مرت سنة زاد جفاؤهم، لم يعد يسمع صوتهم منذ سنوات، ماتت زوجته ولم يحضروا جنازتها، مؤخرا أجرى فحوص طبية وعلم أنه مصاب بالسرطان ويريد الآن أن يرتب أموره قبل أن يداهمه الأجل، تأثرت نهال وتزاحمت دموعها في مقلتيها، حدثت نفسها متسائلة باستنكار أي قلب يرضى بهذه الأفعال، إنه العقوق، ثم تذكرت جارتها التي انقطعت عنها أخبارها وكانت الشرطة قد اقتحمت بيتها بعد أن اشتم الجيران رائحة تخرج من البيت ووجدوها ميتة، وأخبروا ابنها الطبيب المقيم في أمريكا بوفاتها، واصل الشيخ حديثه بعد أن لاحظ شرودها للحظات موضحا لنهال أن الأرض التى بجوار المحطة كانت مزرعة وجنة خضراء ثم صارت مكبا للقمامة، وهو لا قدرة له على تحمل مسؤوليتها وأرهقه المرض، ثم اقترح عليها أن يبيعها نصف الأرض ويجعل النصف الآخر صدقة جارية يبني عليه مسجدا، أما الأمر الآخر الذي أراده فهو البحث عن من يراعيه في حالته الصحية الحرجة وعمره المتقدم، وافقت نهال على شراء نصف قطعة الأرض، وشرعت في اجراءات بناء المسجد، وأحضرت الشيخ إلى بيتها وتكفلت بحضور جلسات العلاج الكيماوي بينما تناوب أخوتها على ملازمته والاهتمام به، وسرعان ما أتمت نهال بناء المسجد وفندق صغير يطل على حديقة واسعة غرستها أشجار وورودا. مر عام وخفت حدة المرض تدريجيا عن الشيخ أحمد فانتهز الفرصة وسافر لأداء فريضة الحج بصحبة أثنين من أخوة نهال، وعند عودتهما اقترحت نهال أن تأخذه إلى مكان جميل لم يره منذ فترة طويلة، أجلسته بجانبها كما جرت العادة في الحافلة وانطلقت، شاهد المسجد الذي نذره صدقة جارية وقد اكتمل وكذلك المزرعة التي عادت إليها الحياة، تنهد عميقا وهو يتأملها طويلا، كم كان يتمنى أن تكون ذريته كلها بنات، فلا يعرف أحد قيمتهن إلا أوقات الشدائد، باركها وأثنى عليها في وقت أحس بدوار قوي أراد أن يقاومه فأغمى عليه، نقلته نهال إلى المستشفى وعلمت أن حالته صارت حرجة جدا ولا يسع أحد عمل شيء إلا الدعاء له، أفاق الحاج أحمد وهو يجهل ما حدث له فأخبرته أنها حالة ارهاق وما عليه إلا أن يبقى لفترة بالمستشفى ووعدته أن لا تتركه أبدا. التزمت نهال بوعدها وأخوتها الجميع تناوبوا عليه وآنسوه في وحدته وبعد أيام انتقل الى رحمة الله تكفلوا جميعا بالدفن، شردت نهال وعيناها تترقرق بالدمع على فراق الأحبة الذين ألفت وجوههم وحضورهم، وتأسفت على من لا يميزون بين ما لهم وما عليهم وتزاحمت حولهم أشواك الأنانية وحب الذات حتى نسوا من بفضلهم أصبحوا في هذا المقام، ويغفلون عن حقيقة أن القادم أليهم سراب بعد أن فقدوا الأصل وفضلوا شوارع الغربة البائسة المتمردة التي عزلتهم عن كل نفس جميلة في أوطانهم. مرت الأيام والشهور ووجدت نهال أنه من الأجدر تسمية مكان الصدقة الجارية باسم الحاج أحمد، أما المحطة وكل ما يحيط بها باسم والدها الحاج محمد.

ترعرع مشروع نهال وفتحت بيوتا كثيرة يسترزق أهلها الرزق الحلال، وفي يوم دخلت بيتها ووجدت كل أفراد عائلتها يتبعونها بملء العيون تشع منها السعادة وتغشى وجوهم البهجة والسرور، وبادرتها أمها بأنه قد حان وقت تغيير ملابس والدها، وتعد نفسها لانطلاقة جديدة، طاوعت نهال أمها بضرورة تغيير ملابسها لأنها اهترأت لكنها ستبقى على نفس النمط والأسلوب والفكر الذي زرعه فيها والدها، دعت والدتها وتمنت أن يصلح كل الآباء من أحوالهم من أجل صلاح أبنائهم، وأن يعلم الأبناء كلهم مقدار تضحيات آبائهم ويقدروها حق قدرها، وبقيت نهال تنتظر أن يكشفوا عن سر سعادتهم الغامرة، أخبرتها والدتها أنه أتى أناس يطلبون يدها، وترجتها أن لا ترفض هذه المرة، فهي تريد أن ترى أحفادها، إنه رجل كما تحبه وتتمناه أي فتاة، يهتم بأهله وبكل من حوله، ويتمتع بكل المواصفات الجيدة وحسن الأخلاق والتربية الأصيلة، فكانت همزة الوصل بينهما والاستمرارية هو العمل من أجل الآخر بعيدا عن الأنانية وحب الذات، فهناك الكثير على قارعة الطريق محتاجين أن يأخذ أحد بيدهم إلى البدايات الصحيحة ونقطة الانطلاق بدون أخطاء في حقهم أو في حق الآخرين، والنظر إلى الحياة بنظرة أحادية لا معنى لها في الوجود، فكل شيء له عدة زوايا وأبعاد، وتخطي الحواجز مهما كانت العقبات، لكل شيء نهاية مهما كان نوعها، لقد تيقنت نهال أنه لابد أن يغير الناس ما بأنفسهم بنفسهم أذا أرادوا تغيير مستقبلهم، وأن يجعلوا بإيجابيتهم للحياة طعما يميزهم، فكثيرة هي الأحزان التي تعكر الحياة رغما عن البشر، وما عليهم سوى أن يسعوا لتلوين أيامهم بألوان مضيئة، فالتعلق بأشياء جميلة تستحق فعلا المجازفة، إنه العناد مع الحياة، وآلامنا تمنحنا قدرة الاستمرار على الحياة.

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

     

في صدع الليل

أعلّق قلبي بين النجوم

أراقب الريح تسري خلسةً

على وجوه الشوارع المهجورة

كلصٍ، يسرق همسات الفجر،

يترك خلفه آثاراً من الحنين،

ويبقى الليل شاهداً على سرقته.

***

من بعيد،

يتنفس الغيمُ أحماله،

وأنا بينهما

أحاول أن أستعيد نفسي

من حطام السنين.

*

ما زالت المدينة تغني للصمت،

تخفي جراحها بين أضلعها،

تستعيد ذكرى

كلما لامسها الغروب.

*

وحيدة في دروبنا،

كم مرةٍ عبرنا ذات الجسر

ومشينا ذات الطريق

دون أن نلمس الماء؟

دون أن نجرح التراب

هل يكفي أن نحتضن الفجر

لننسى سواد الليالي؟

أم أن الظلال تحب الليل

كما تحب الزهور الندى؟

*

وجهك،

مثل لوحة لم تُكتمل بعد،

يلامس ضوء الفجر

في انتظار لحظة تجلًّ

ليكتب الحلم.

*

عندما تهب العواصف،

يرقص السكون.

وأنا،

أبحث عن صوتكِ

في زحمة الصمت،

أحمل غبار الأيام

وأرميه في مهب الريح.

*

كم مرةٍ نادتنا الأرض

ونحن ما زلنا نسير

دون أن نلتفت؟

أيا تلك العيون التي تختبئ في الضباب،

استريحي،

فالمساء لن يأتي اليوم

ولا غداً.

***

جاسم الخالدي

لم أكن أتوقع أن يأتي اليوم الذي أتحدث فيه عنك ...

أو أكتبك في مساحة سطري الذي ازدحم بكل شيء إلا منك ...

 تساؤلات كثيرة تتكاثر في داخلي.. كيف أكتب عن شيء لم أعرفه يوماً؟، ولم يعرفني يوماً؟

بقيت لوقت طويل في زاوية قلمي رغم إنك كنت تطوف في مداراتي، وكنت كلما يجرفك المد نحوي تشيح بوجهك؛ وأباغتك باعتذاري قبل أن تبادر بعذرك...

أنت الذي كنت تختار روادك، ولم أكن يوماً أنا منهم، وأنت الذي كنت تجالس حضورك، وكنت أنا الغياب الطويل في كل مرة ...

أنت الذي لم تنتظرني يوماً، ولم تفتش عني على جانبي الطريق الممتد من حدودي وحدودك، وأنت الذي لم تنظر إلي كأن وجودي وهمي في حضرة كل الوجوة المكتملة...

ما لا أفهمه لماذا يصطدم حرفي بك عند منصة الورق، ثم يتلاشى ظلك خلف ضبابية الوجوه؟، ولماذا بعد كل هذا أرى انعكاس ضوئك على مرايا صوتي كالحلم، ثم تعيدني إلى مقولة إنه أضغاث أحلام...

هل تتصور إننا أنا وأنت ما نحن إلا تقاطعات طرق في كل شيء لم يجمعنا سوى لون حرف على صفيح سطر، والغرباء على طاولة حوار وجوار ...

أعلم إنك حين لمحتني في ذات مساء انقبض قلمك واكفهرت ملامحك كمن أراد أن يلقي بشذر من مداد لغة، وأعلم إنك تحيد بأبجديتك حتى لا تلتقي بجغرافية نبضي...

ما أعجز عن تفسيره هو من الذي أخبرك إنني أرقب مرورك عبر فصل البكاء، ومن بين زحام اللغة.

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان..

كان الوقت منتصف الليل، وقدْ خيّمَ السكونُ على القرية وأخذت الأنوار المنبعثة من كوى البيوت تنطفئ تدريجيا، إشارة إلى بدء وقت النوم إلا كوّة واحدة ظلّت ساهرة، يتسرّب عبرها ضياء ضعيف من مصباح نفطي ليلتقي بالضياء المنبعث من نجوم لا حصر لها، كانت تتألق في تلك الساعة على صفحة السماء الصافية.

لمْ يشعرْ الشاعر بحاجة إلى النوم، فقد كانت عيناه تتطلّعان إلى شعاع المصباح الصغير. أمّا أفكاره فقد كانت تطوف في عوالم بعيدة بُعْد َ تلك النجوم، التي توشك أن لا تدركها الأبصار لبعدها السحيق، وأحسّ على حين غفلة بصفاء جميل يغمر كيانه، وانبعث في أعماقه شعور قويّ بأنّهُ قد تحرّرّ نهائيا ً من الجسد، وبأنّ روحه اتخذت شكل طائر غريب له القدرة على اختراق المسافات والأزمنة بسرعة فائقة كلمح بالبصر.

وانطلقت روحه كالبرق تعبر بوّابات الأزمنة واحدا واحدا حتّى حلّقت أخيرا في سماء الزمان الأول. وعلى حين غرَة انبعثت فيها الأشواق البدائية الصافية في مراحل الخلق الأولى وغابت في جمال الإطلالة ألأولى للأشياء. فالأرض ما تزال في فرحها الطفولي تعيش بهجة الخلق الجديد، والكائنات الحيّة قد اتخذت مواقعها، التي أعدّها لها الخالق في خارطة الخلق: الطيور في الفضاء، الحيتان والأسماك في البحار، والوحوش الكاسرة في الغابات وهكذا دواليك.

حلّق الشاعر فوق السهول والوديان والمياه. كان كلّ شئ يجري مثلما أراد له الخالق، واستمرّ في التحليق بموازاة الأرض حتّى أبصر على مسافة غير بعيدة شبحين ضخمين، توقّف عن التحليق وهبط إلى الأرض ليستقرّ على ربوةٍ صغيرة وأخذ يراقب الشبحين، وفي هذه الأثناء سمع تغريداً جميلاً ينبعث من فوقه، رفع رأسه فلمح طائرين جميلين. كان الطائران يحركان أجنحتهما في إيقاع جميل ويطلقان أصواتا ً جميلة احتفاء ً بإطلالة اليوم الجديد. امتلأ قلبه بفرح ٍ صاف ٍ وأخذت بلبّهِ روعةُ المشهد، حتّى أنّهُ نسي كلّ شئ من حوله ِ وانتقلَ بأحاسيسهِ إلى دنيا من الالوانِ والأضواءِ تنبعث من أعماقها نغماتٌ تحملُ دفءَ وانسيابيّة الحياة البدائية وغاب في سحر تلك الدنيا واستغرقَ في متعها الجمالية، لكنّهُ سرعانَ ما انتزعهُ صراخٌ مروّعٌ من تلك الدنيا، وعاد ليجد نفسه فوق الربوة، وصوّب بصره في اتجاه مصدر الصراخ، فلمحَ أحد الشبحين ممدّدا ً على الأرض يلفظُ أنفاسه الاخيرة. أمّا الشبح الثاني فقد وقف عند رأس ضحيته يتأملها حتّى سكنَ فيها الحراكُ نهائيا. بعدها استدار ناحية الشرقِ وانصرف.

اقترب الشاعر من القتيل، تفرّس في وجههِ وفي أعضاءِ جسمه، فعرف فيه ذلك الإنسان، الذي تحدّثتْ عنه الكتب القديمة: هابيل الذي قتله أخوهُ قابيل حسدا ً.

في تلك اللحظة انطفأ سحر الوجود في نفسه وتحوّل العالم في مخيّلته إلى خرائب تعصف فيها رياح سوداء مجنونة.  فقرر أن يغادر عالم الزمان الأول وعالم الجريمة الأولى، وهكذا عبر بوّابة الزمن الأول إلى الزمن الثاني. كان العالم في الزمان الثاني ما يزال جميلا لم يفقد من جدّته الكثير. تنقّل الشاعر من مكان إلى آخر يمتّع نظره بجمال الطبيعة الخلاّب، حتّى وجد نفسه أخيرا على سفح جبل، تلفّت حوله فأبصر عددا ً من الرجال، يحملون في أيديهم رماحا، يطاردون رجلا وامرأة. كان الرجل وزوجته يلتقطان الحجارة الصغيرة ويقذفان بها الرجال المهاجمين، وهكذا تمكّنا من مشاغلتهم بعض الوقت، حتّى خارت قواهما وهما على مقربة من كهفهما، فاضطرّا للإستسلام.

أمّا الرجل فقد ربطت يداه ورجلاه بحبال الجنّب بعد أن طرح ارضا. ثمّ أنهال عليه الرجال بالرماح طعنا وهو يصرخ ويستغيث إلى ان خمدت أنفاسه. أمّا زوجته فقد كانت تحاول أنْ تخلّص نفسها من أيدي الرجال، الذين امسكوا بها بقوّة. لكن من أين لها أن تنقذ نفسها من أيدي الكثرة المسلّحة وهي المرأة الضعيفة العزلاء من السلاح. وبسرعة فائقة تمّ الفصل الاول من الجريمة، ليبتدأ الفصل الثاني منها. كانت المرأة قد طرحت أرضا في الحال وهي تطلق صرخات حادّة، رددتها جنبات الجبل. كان الرجال يهمّون باغتصابها. إلا أنّها كانت تدفعهم عنها بيديها ورجليها، حتّى خانتها قواها فلم تعد قادرة على المقاومة. وهكذا اغتصب شرف الإنسان بعدما اغتصبت حياته. ذهل الشاعر لفظاعة ما رآه وقال في نفسه:

إنّ الزمن الثاني أسوأ بكثير من الزمن الأول. وجاءه الصوت من داخله:

لم ترَ بعد أيّ شئ. ما زلت في الأزمنة السعيدة. انّ هناك ما هو أسوأ بكثير.

وانطلقت روح الشاعر تعبر بوّابات الأزمنة على غير اتّفاق، حتّى وجدت نفسها في زمان لا يبعد كثيرا عن الزمن الحالي، تلفتت حولها، كان العالم قد تغيّر كثيرا. فقد خرج الناس من الكهوف وانطلقوا جماعات في مشارق الأرض ومغاربها، نقلوا الحجارة من الجبال، كسروها وشيّدوا منها القصور والقلاع الضخمة، فنشأت بذلك المدن وحكوماتها.

طاف الشاعر بمدن عديدة، فاسترعى انتباهه التفاوت الكبير القائم بينها. فمن مدنٍ غنيّة حدّ الفحش إلى أخرى فقيرة حدّ الإقداع، ومن مدن أسكرها الجبروت إلى أخرى أذلّها الضعف.

وقال الشاعر في نفسه:

نفس التقسيم الأزلي للعالم، نفس المعاناة ما زالت قائمة. وحلّقت روحه بعيدا، حتّى حطّت في آخر المطاف على أحد الأسوار المهدّمة، نظرت أمامها فانتابها الرعب من هول ما رأت: اجساد بشريّة تركت في العراء طعما لوحوش البرّ والطيور الجارحة، بيوت هجرها أهلها وسكن فيها الصمت، وحدّث الشاعر نفسه مرّة أخرى:

يا لها من مدينة بائسة، لم يترك فيها الجبروت أثرا للحياة. إنّها صورة عن حقيقة عالم المدن، الذي يسكنه هوس الحرب، فلأترك هذا العالم الى عالم القرى، ربما يكون الأمر مختلفا تماما هناك.

وفي غمضة عين وجد نفسه في سهل فسيح، ورمى ببصره محدّقا في المدى البعيد، فلاحت له على البعد مجموعة أشباح، لم يستطعْ أن يتبيّنها، فرأى أن يختفي في مكان غير بعيد عن طريق مرورها، ليتسنى له مراقبتها عن كثب. اقتربت الخطوات حتّى اصبحت على مسافة جدّ قريبة منه. رفع رأسه يختلس النظر فوقع بصره على أربعة رجال.. ثلاثة منهم يمتازون بمتانة البنية، أمّا الرابع فقد كان بيّن الهزال، فقرّر أن يتابعهم ليعرف ما هي قصتهم، وظلّ يقتفي آثارهم ساعات طوالا، وهم يجرون من مكان الى آخر ابتغاء صيد يظفرون به، إلّا أنّ كلّ محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح. وفي طريق عودتهم قرّر الثلاثة الأقوياء أن يقتلوا رفيقهم الرابع الضعيف ويتقاسموا لحمه فيما بينهم. أحاط الثلاثة بصاحبهم من كلّ جانب وسدّوا عليه منافذ الهرب، ثمّ جرّوه بشدّة إلى شجرة ضخمة، وربطوه إلى جذعها. كان المسكين يتوسل إليهم ان يتركوه، إلا أن مسامعهم كانت مغلقة في تلك اللحظة، التي استيقظت فيها الوحوش النائمة في أعماقهم مدفوعة بحمّى الإفتراس، فغرسوا حرابهم في جسده النحيل، واحسّ الشاعر وكأنّ تلك الحراب كانت تنغرس في جسده هو.

في هذه الأثناء مزّق السكون صراخ مروّع، انطلق من أحد البيوت في القريّة، والذي حمله النسيم من بيت إلى آخر، حتّى أوصله اخيرا إلى بيت الشاعر، الذي كان غارقا في تأملاته البعيدة. انتبه مذعوراً لدى سماعه الصراخ وقال في نفسه:

ماذا من جديد؟ أيتها السماء

***

جميل حسين الساعدي

بَلانا الدَّهْرُ في قَوْمٍ حُثَالَةْ

أَراهُمْ مُدْمِنُونَ عَلَى السَّفالَةْ

*

أَلا كُفُّوا عَنِ التَّهْويشِ حالاً

فَرَكْبُ الحَقِّ ماضٍ لا مَحالَةْ

*

سَيَأْخُذُ بِالنَّواصِي دونَ بُطْءٍ

فَلا خَوَرٌ هُناكَ ولا إطالَةْ

*

وَمَنْ أَفْعالُهُ كانَتْ صِحاحاً

مُحَالٌ أنْ يَخافَ مِنَ العَدالَةْ

*

فَأَخْذُ الحَقِّ لا يَعْني انْتِقامًا

وَلكِنْ لِلْحَياةِ هُوَ الكَفالَةْ

*

كَفاكُمْ تَنْدُبُونَ فُلُولَ جَيْشٍ

عَقيدَتُهُ الجَرائِمُ وَالضَّلالَةْ

*

لَقَدْ خانَ الأَمانَةَ دونَ رَيْبٍ

وَنَحْو الشَّعْبِ ما أَدَّى الرِّسالَةْ

*

لَقَدْ تَرَكَ الثُّغُورَ إِلى الأَعادي

بِقَتْلِ الشَّعْبِ قَدْ أَبْدى بَسالَةْ

*

وَفي هَدْمِ البُيُوتِ غَدا خَبِيرًا

وَجَمْعُ العَفْشِ باتَ لَهُ وَكَالَةْ

*

وَصارَ مُكَلَّفاً يَحْمِي وَضِيعاً

لَهُ رَسَمُوا مِنَ الأَقْداسِ هَالَةْ

*

كأنَّ أُصولَهُ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ

وَقَدْ خافُوا عَلى تِلْكَ السُّلالَةْ

*

فَسَخَّرَهُمْ لِخِدْمَتِهِ عَبيدًا

طَعامُهُمُ الشَّعيرُ أَوِ النُّخَالَةْ

*

بِرَغْمِ فَسادِهِ أَضْحى جَلِيًّا

لَقَدْ هامُوا بِهِ حَتَّى الثُّمالَةْ

*

لأَجْلِ حِذاءِهِ راحُوا فِداءً

وَقَدْ ماتُوا مُقابِلَ بُرْتُقالَةْ

*

وعاثُوا فِي البِلادِ وَدَمَّرُوها

فَكافَأَهُمْ وَأَعْطاهُمْ جَعَالَةْ

*

قلاعُ الظُّلمِ إنْ مَكَثتْ طَويلاً

فَفي يومٍ يَتِمُ لها إِزالَةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أَمْوُاجٌ فِينِيقِيَّة ٌ

تَلِدُ رَذَاذاً..

يَنْهَالُ زَهْرُ اللَّوْزِ

عَلَى عُنقِ اللَّيْلِ

**

الفَرَاشَاتُ عَشِقَتْ قَمَراً

صَرْخَةٌ حُلُمٌ

تَوَرَّدَ في نَبْضِي

**

نَسِيمٌ ثَمِلٌ

يُشْعِلُ الرَّمَادَ

زِلْزَالٌ يَخْتَالُ بِوَقْتِي

رِيحٌ تغزلُ شِرْيَانِي قِيثَارَةً

**

اِسْتَوْقَفَنِي لَحْظُكَ

اِغْتَالَنِي وَمْضُكَ

يـاااااااغَيثاً يَرِقُّ لهُ الصَّخْرُ

أَعْشَقُكَ حُراً

اِنْهَمِرْ وَطَنَاً

**

مَا بَيْنَ شَغَافِي وَالحَنِينِ

بَيْنَ القَطْرَةِ والقَطْرَةِ

رَفْرِفْ مُسْتَحِيلاً

***

سلوى فرح - كندا

 

من قبضة

كفي اليمنى

ساصنع برتقالة

لطفلة جائعة

على رصيف

الازمات ومن

نبضات قلبي

ساصنع نجوما

لتضيء بها

اروقة شراينها

المرهقة

2 -

احيانا الوقت

يمسي مراة لقلبك

واحينا اخرى

سياجا من الاسمنت

المسلح حول حقل

امالك احلامك

ورؤاك واحينا اخرى

جسرا جسرا

بين النهر الذي

يجري في عروقك

وبين بحر الرغبات

المضيئة والامنيات

3 -

قرب سياج

حقل الامنيات

التقيت بغزالة

مضيئة العينين

فاعطيتها قنديلا

كرستاليا وشمعة

واعطتني نظرة حرى

من عينيها

اللوزيتين .

***

سالم الياس مدالو

شاءت الظروف أن تلتقيه أثناء وجودها على الرصيف البحري تنتظر بشغف كبير مرور سيارة أجرة تقلها سريعا إلى الجامعة، كانت على عجلة لتسليم بحثها لنيل شهادة الدكتوراه.

"نيهال " وحيدة والديها، أمها إنسانة هادئة الطباع، طيبة القلب، محافظة، من عائلة أصيلة ووالدها صاحب مصنع الشكولاتة، سمى مصنعه باسم وحيدته من فرط حبه لها، هي قرة عينه، رباها تربية صحيحة، وشارك أمها في توعيتها بالتقاليد والأصول تمضي في الحياة دون متاعب أو اعوجاج، فشبت تتحلى بالأخلاق النبيلة، وتميزت بالعفوية والخجل.

عرفت "نيهال "بين زميلاتها بالبساطة والتواضع وبالقيم العالية، لم يغرها أنه لديها الشيء الكبير والكثير ذات القيمة الغالية تعلم أن والديها أرادا أن يوفرا لها بجهدهما كل ما يحقق لها المتعة الكاملة في الحياة . توقف التاكسي أمامها فاستقلته سريعا، كان الطريق مزدحما وحركة المرور بطيئة، عيناها لا تغادر ساعة يدها قلقا رن هاتفها وكان والدها يطمئن عليها، أخبرته أنها عالقة في الطريق المزدحم، لامها والدها لأنها لم تستقل سيارتها في وقت مبكر أو تتصل به فيرسل لها السائق من الشركة، أخبرته بلطف أن عليها كما تعلمت منه أن تباشر حياتها معتمدة على نفسها وجهدها لتشعر بقيمة نفسها، في الأثناء كان سائق التاكسي يسترق السمع تدخل بأدب جم في الحوار ليطمئنها أنه سيوصلها حيث تريد في الوقت المناسب، بدا السائق كمن يريد أن يرسم لنفسه طريقا إليها وعلى حسابها، كان شابا وسيما، أنيقا يعشق الحياة السهلة ويريدها تأتيه دون جهد منه على صينية من الذهب، ودفعه ذلك إلى أن يبدي اهتمامه بها دون تردد عبر حوار فضولي بخصوص حياتها الشخصية، بدت له عفوية فجعلها ترتاح إليه وكانت عيونه الزرقاء تسحبها وتجذبها إليه شيئا فشيئا حتى أوصلها إلى باب الجامعة، ولم ينس أن يعطيها رقم هاتفه ويخبرها أنه في خدمتها دائما ليأخذها أينما أرادت، شكرته، غادرت وشعور غريب قد اعتراها سرعان ما ترعرع في زاوية من قلبها، شعور تعيشه لأول مرة رغم أنها ليست المرأة التي يذوب في حسنها الشباب، أغلب صديقاتها تزوجن وأنجبن، أما هي فبقى كل همها نيل أعلى الشهادات الجامعية وكأنه الهروب من واقع يضطرها أن تصنع من نفسها الأنثى القوية بعلمها على الأقل في نظر نفسها وأهلها، هي تعلم أن معظم الشباب يبحثون عن الجميلات الرشيقات وهي للأسف لا تملك هذه الصفات ولا تتمتع بتلك المؤهلات وليس لها سوى صفة المرأة الأنثى المؤمنة بأن الحياة لا تعطي كل شيء، مؤمنة بالنصيب وبما قسمه الله تعالى لها، ولكن كان شيئا ما بداخلها يمنعها ويصد اندفاعها نحو آدم طيلة سنوات، ربما كان خوفها من غدر عابر أو هجران درامي عن قصد أو ربما خوفا من ما قد تحمله مأدبة الغيب من أطباق تجمع بين أوراق الحب وأشواكه، لقد تعوّدت على حياتها البسيطة الخالية من التجديد، أيامها الصورة طبق الأصل من شهورها، تصحو على ما تنام عليه وتمسي على ما تصبح، عاشت في روتين يومي إلى أن بدأ القدر يصب عليها بضعا من قطراته الزهرية وكل يوم يمر يزيد في نفسها إعجابا بسائق التاكسي الذي كانت تلجأ إليه كثيرا ليوصلها حيث تريد لقد استطاع أن يجد لنفسه طريقا إلى قلبها، أخبرها أنه كان في البداية ينوي في صغره السفر للعمل في الخارج، لكن لم يكن هناك من يعتني بأمه ويرعي شؤون أخواته البنات، وكان هذا هو السبب وراء تركه مقاعد الدراسة في سن مبكرة واللجوء للعمل على سيارة الأجرة التي ورثها عن أبيه، كان الأمر صعبا فقد كان الحمل ثقيلا عليه أن يقوم بتجهيز اخواته وتزويجهن، وهو ما حرمه من فرصة أن ينتبه لحياته، سألته بكل خجل عن ما إذا كان فكر في الارتباط، ابتسم " مالك " وأكد لها أنه الآن يفكر حقيقة حيث أنه يشعر فعلا أنه وجد نصفه الآخر، في هذه المرة شعرت نيهال أن قدرها يأخذها إلى موطن لم تكن لتقصده غير أن القدر كان أقوى، وتمنت في نفسها أن يكون هذا اللقاء وثبة جديدة نحو حياة ربما تكون الأفضل لها، ظلت روحه تلازمها وتستحضرها في كل وقت، لقد أحبت في ملامحه صور العزة والكبرياء، رأته منحوتة ربانية في أحسن تقويم، وجميل الخلق .

عاشت نيهال متعة اللحظة التي تمنتها طويلا عندما استسمحها أن يتقدم لها، كانا يشعران بأنهما قد تعرفا جيدا على بعضهما بما يكفي، حدقت نيهال فيه تتأمله في خجل ووجدت نفسها انتقلت إلى عالم آخر ألوانه زاهية، معالمه واضحة وخطوطه مستقيمة، غلبها حياؤها أكثر ونطقت بصعوبة أن عليها أن تصارح أهلها أولا، غادرته سريعا قبل أن تكشفها الفرحة التي لم تسعها، لم تستطع إخفاء مساحة ابتسامتها العريضة أو احتواء محيط سرورها، أحست بنفسها أميرة في عرشه، تتقرب منه ويتقرب منها، تعجب به ويشتاق إليها، تحن لقربه ويحن لرفقتها، ألفته وألفت حنانه وعطفه، لقد سكن بدفء مشاعره في معاقل اهتماماتها، أحبت سحر عينيه، أغرمت به وهي تراه فارس الأحلام، أخذت ترسم أحلامها معه على أوسع مدى.

دخلت منزلها على غير العادة مبكرة، واستغلت أول فرصة لقاء مشترك حتى صارحت والديها بالأمر، كانت مفاجأة أن يسمعا منها ذلك بعد أن كانت ترفض كل من يتقدم لخطبتها، سألها والدها عنه وعن عائلته، فأخبرته بحقيقة ما كانت تعرفه عنه وعن مستواه الدراسي، تراجع الأب عن امتعاضه بالأمر ثم تنازل عندما لاحظ في عيني ابنته خلال حديثها عن الشاب الكثير من الحب والإعجاب لم يرهما من قبل، تبادل مع أمها نظرة اتفاق، لم يشاءا تحطيم فرحتها وإفساد سعادتها.

صارح مالك والدته بما كان، وأدركت أنه يكون قد وجد أخيرا الفتاة التي طالما بحث عنها، وتمنت أن تكون هي من ترحمها من مواصلة مهمة البحث الشاقة عن عروس بمواصفاته، تأملته وهو في غمرة فرحه وبوحه عن معني القسمة والنصيب الذي لا يعترف بشروط قسرية أو مواصفات معينة، وكيف أن المرأة الصارخة الجمال تجلب كثرة المشاكل بجمالها، الغيرة، الإسراف في الإنفاق على طلباتها وكثرة مصاريفها ..لقد رفضته الجميلات الثريات، والجميلات الفقيرات يشعرنه بالنقص والتعاسة، أما ذات الجمال العادي فقد تكون ربة بيت ممتازة وزوجة صالحة تعينه على هموم الحياة، حينها اختلط الأمر على الأم وهي ترى كيف يغير الله تعالى الأحوال فلقد كان مقياس الجمال من قبل أحد أهم أولوياته، حسنا لقد تأكدت الأم أن وليدها يكون أجاد اختيار من ستكون شريكة حياته، واطمأنت عندما علمت أن من اختارها قلبه ابنة عائلة محترمة وغنية وأنها وحيدة والديها. في المساء تذكرت الأم ما كان من قول وليدها أن الجانب المشرق في مستقبل حياته هو عند اختياره وتفضيله الثراء على الجمال، فالثراء يجلب كل الأشياء الجميلة، تذكرت أيضا عندما هزت رأسها وهي تستدرك قوله بأن المرأة والزوجة الصالحة جميلة في روحها وفي اعتنائها بزوجها وطيب عشرتها وصلاح أمرها وإجادة تدبيرها وحسن تربية أبنائها، ليس مهما الجاه والمال والشهرة، المهم أن يرضى كل طرف بنصيبه وبمن يشاركه حياته على الحلوة والمرة، ولا يطمع فيما ليس له، ومن يرضى بقليله عاش وطابت معيشته، إن الحسن والجمال يزولان بمرور الوقت وليس هناك ما هو أسرع من الوقت، ومن يرضى بالنصيب يرتاح مع الحبيب .

علم والد نيهال أن الشاب مالك من عائلة محترمة ولا تشوبها شائبة، فارتاح ووافق على مقابلتهم، فكان اللقاء وتم الاتفاق على مراسم العرس، لم يثقل والد نيهال على الشاب بالتكاليف وقد امتنت والدة مالك لموقفه، وفي طريق العودة أوصت ابنها بصيانة الأمانة فالله أكرمه بهم، إنهم عائلة تستحق كل الاحترام والتقدير ولا يجوز استغلال طيبتهم والتلاعب بهم .

تمت مراسم الزواج وانتقل العروسان للعيش في أرقى أحياء المدينة/ واستلم مالك منصب عمل محترم في شركة والد زوجته، فتغيرت حياته سريعا للأفضل، وبعد سفر ممتع عاد العروسان لتباشر نيهال عملها بالجامعة، وهناك التقت زميلاتها بعد فراق طويل واخبرتها أنه تزوجت حديثا، تعجبت زميلاتها من أمرها حيث لم تلاحظ عليها ما يبدي جمال وفرحة المرأة بعد الزواج، بادرتها نيهال بعفويتها الممزوجة بالتفاخر أن زوجها لا يحب كثرة المساحيق والمبالغة في الزينة ويفضل البساطة، لم تقتنع زميلتها بالكلام وابتسمت ابتسامة خفيفة تحمل معاني خبيثة، لقد وثقت نيهال في صدق مشاعر زوجها وكان بالنسبة لها مثالا.

شعرت نيهال ذات يوم بوعكة استدعت أن يرافقها زوجها إلى الطبيبة، وعنده علمت أنها حامل، انفجرت فرحتها من فرط سعادتها التي لا توصف، ولكن لم تر نفس الفرحة في عيون زوجها، شكّت أن يكون هناك ما يزعجه فكان رده الصادم أنه لم يعد نفسه بعد ليكون أبا، كان يأمل أن يتمتعا ببعضهما ويستمتعا بحياتهما زمنا أطول، طمأنته بكل الود أن لا شيء سيتغير فظروفهما جيدة ولا تستدعي عناء كل هذا التفكير .

مرت الأيام، وعادت نيهال مجددا إلى الطبيبة تشكو من انتفاخ غريب في ثديها، نصحتها الطبيبة أن تؤجل الفحوص إلى ما بعد الولادة حيث لم يبق أمامها سوى بضعة أيام فقط، كان أمر الانتفاخ الغريب محل قلق أهلها ولكن لم يكن كذلك بالنسبة لزوجها، لم ينزعج ولم يهتم كثيرا للأمر، التمست نيهال له العذر فقد يكون ضغط العمل وكثرة أسفاره وراء هذا التغير . أنجبت نيهال ولدا وكان شديد الشبه بأبيه، وسعدت وأهلها بالمولد كثيرا، وبقدر هذه السعادة كانت صدمتها بعد اطلاعها على نتائج الفحوص العاجلة التي أجرتها دون تأخير، إنها مصابة بسرطان الثدي ولا بد من استئصاله، لم تستطع إرضاع صغيرها، ولم تتمكن من البقاء بجواره طيلة فترة الفحوص المرهقة والعلاج الطويل التي قضتها معزولة بالمستشفى حيث بقت وحيدة، تعاني مواجهة اجتياح طوفان صقيع ملون بالخداع المفروش بخيوط العنكبوت وزيف المشاعر الرمادية، لم يزورها زوجها مرة واحدة منذ علم أنها معرضة لاستئصال ثديها، وبئس ما تعلل بكثرة الأعمال برغم أن والدها كان يخبره أن ابنته بحاجة إلى وجوده بجوارها وقريبا منها، تفطن والد نيهال لخبث ونفاق مالك بعدما أبان عن طمعه أن يتكفل والد زوجته بفضل علاقاته الواسعة بمعالجتها، فقرر أن يخصص من يراقب تصرفاته وحركاته داخل وخارج المصنع.

لم يدم الأمر طويلا حتى أحست نيهال في لحظة انفراد بفكرها أن انقطاع زوجها عن زيارتها قد قتل فيها براءة مشاعرها الغضة المتخمة بالحياء، وقضى على رومانسية روحها العذراء، واغتال العفوية الراقدة بين خلجات أحاسيسها وذبح البشائر الراقصة الني كان يعدها بها، هل يستلذ بمرارة مرضها؟ هل يرضيه الحزن الساكن بعينيها المتعبتين؟ أكاذيب سوداء عاشتها معه، شعرت أن نواياه كانت عارية من نبل الحقيقة الصادقة، وإن المشرط البارد الصدئ استأصل حبها قبل ثديها، أقبل عليها والدها يتأمل نظراتها المنطلقة من فجوات العيون الغارقة في اليأس، وجسمها كيف صار ضعيفا ، وهيكلا هزيلا ملثما بالأكفان الصفراء والندم المخضب بعطن الموت، استمر علاجها طويلا حتى نجت من المرض فتكا ومن الموت قهرا على ما كان، وبقي لها والدها سندها الذي سخّر من أجلها كل علاقاته ليضمن لها السفر لمواصلة العلاج بالخارج، وعمد قبل ذلك من تجريد زوجها من كل صلاحياته ومسؤولياته المالية بالمصنع، ولكن مالك كان كل ما يهمه أنه مازال يتمتع بالرفاهية التي يقدسها على كل شيء آخر.

قضت نيهال فترة علاج تكميلي وأيام نقاهة ناجحة، ووجدت بعد عودتها ابنها " سرور" قد كبر ولم يكن قد رآها من قبل بما يكفي كي يتذكرها، أوصت والديها أن لا يخبرا زوجها بعودتها فقد قررت أن تذهب إلى بيتها تتفقده، فتحت لها باب البيت شابة شقراء جميلة في العشرين من عمرها، وجدتها حامل، سألتها من تكون، فأخبرتها أنها زوجة مالك ! وبدورها سألتها الشابة الشقراء: وأنت، من تكونين ؟ فأخبرتها أنها جاءت تسأل عن صديقة لها اسمها نيهال تسكن في هذا المنزل، وافقتها الشابة الشقراء بإيماءة خفيفة برأسها وأضافت إنها ماتت.. ومالك هو صاحب هذا البيت. كان كابوسا ثقيلا يكتم أنفاس نيهال ويخنقها، وهكذا تحجرت الآمال المرجوة على خشبة المستحيل وشعرت بنفسها مسكينة تنظر إلى جثتها التي قتلت بطيبة قلبها وحسن نيتها وبفعل الأكاذيب وبظلم من صدّقت أنه أفضل زوج وبأنه كان جائزة الدنيا الكبرى لها، لم يعد حبها كما كان، أصبح كغريب دخل مدينة في وقت متأخر من الحياة، لقد اغتال أحلامها وعيشها وحبها له والآن يسلبها رغبتها في الحياة، لكنها قررت أن تستحضر القدرة والثقة بنفسها التي أودعها والدها فيها منذ صغرها، عزمت أن لا تستسلم أمام احتضار أحلامها، يكفيها وجود والديها بجانبها وابنها سرور الذي تنتظرها معه حياة طويلة، لن تستسلم لدموعها الصامتة ولا لسواد كوابيسها، ستمضي في الحياة من أجل كل من أحبوها.

عادت إلى بيت والديها وأخبرتهم بما كان، وكان أبوها على علم مسبق بأمره منذ الأيام الأولى من مرضها بل وأخبرها أنه كان يحاول كثيرا معه كي يكتب البيت باسمه، ولكنه أرجأ الموضوع لحين تمام شفائها وعودتها سالمة، فبيدها وحدها اتخاذ القرار، وقررت نيهال بيع البيت والسيارة التي في حوزته، واللجوء للقضاء لطلب الطلاق أو الخلع، لم تعد تريده في حياتها، وابنها سيبقى في رعايتها، قام والدها على الفور بكل الاجراءات اللازمة دون أن يلجأ إليه، ثم قرر الاستغناء عن خدماته بالمصنع، وفي قمة صدمته وجد نفسه في لحظة بدون عمل ولا بيت ولا أسرة، لجأ إلى بيت أمه الذي رفض يوما أن يسكنه، إنه الآن يعود إلى الصفر، أما هي فقد أصبحت أكثر وعيا ونضوجا وإشراقا، امرأة صامدة تضع الكحل بعينيها وأحمر الشفاه القاني، وتمشط شعرها المسدول لتداعبه نسائم الصباح وتتعطر بأفضل العطور، تنسى ما مرت به من غدر وخيانة وترمي خلفها تراكمات الكآبة والبؤس، تصم أذنيها عن أكاذيب وافتراءات البشر، تدفع أحزانها إلى ركن قديم منسي، تتحداه بنظراتها الواثقة وهو يتبعها بسيارته الأجرة القديمة، يرجوها أن تعود إلى حياة سبق أن رماها بعرض الحائط، إنها تتحداه بثقتها في نفسها وقوة شخصيتها، إنها الآن الدكتورة المنتصرة على خشبة الحياة، تغني مع الطيور وترقص على إيقاع الأمطار، مودعة الماضي، متأنقة للقادم، تواصل حياتها بنفس جديدة وبإنسانية ستبقى دوما جميلة في القلب والروح .

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

إلهي

أأصدقُ أخبارَهم

أنهم أخضعوكَ

لغسلِ دماغِ!

فنسيتَ المائدةَ

وضيعتَ البقرةَ

وقيل فتحوا لكَ

حساباتِ بنوك

فرزقتهم

وأشعلتَ لنا

نارًا موقدة

ونسيتَ مئة وخمسين مليون جائعٍ

وضحايا الحروب

والمشردين

وألغيت المغفرة

أغرقت أطفالًا في النهرِ والبحرِ

طلبوا الفرح،

وأبقيت على الخضراء والبيضاء

والسائرين في الشوارع

أبناء العاهرة

إلهي

تركت كارتلات الذهب

ولاحقتني

على كأسٍ

أُسْكِرُ فيه ملائكتك

فقد أثقلوا كتفي

وملأوا كبدي قيحًا

وأسكنوا روحي

امرأةً حائرةً

إلهي

أأصدقُ الأخبارَ

أنهم دفعوا لك

ومنحوكَ دبابةً

لقتلي في الآخرة

إلهي

العدلُ حياةٌ

وليس قبورٌ في الحياة والآخرة

إلهي

وما زلتُ في النورِ قبلَ الظلام

وفي الفرحِ قبل الحزن

أحبك

وسأحرقُ بعد الموتِ روحي

كي لا تتعبَ

وتوقِد من حطبِك

في الآخرة

إلهي

نحن البشرَ

فقاعاتٌ متساوية

نفخت بنا الروحُ

وأوقدت لنا

نارٌ صالية

أهو ذنبُ

الفقاعات إلهي

أو النارِ

أم النفخِ والتسلية!

إلهي

لماذا محيت السنابلَ بالحقولِ

ونفختَ بالجرادِ أفواجًا

وتصالحتُ مع الزانية

يا إلهي

لا أطلبُ

سوى الكأسِ يبقى

وبصيصٍ من النظر

وقليلِ السمع

كي أبقى أسجِّلُ أخبار

حلفك َ مع الطاغية.

***

كريم شنشل

 

مَدينتُنا أصِيبَتْ بالجَفاءِ

وإهْمالٍ لواهِبةِ الرَجاءِ

*

مُقدّسةٌ ولكنْ شانَؤها

أحاطوها براعيَةِ العَداءِ

*

كأنَّ مَسيرَها أضْحى وَجيعاً

وأنَّ حَياتها رَهْنُ البَلاءِ

*

مُعَسْكرةٌ بأتباعٍ لبُغضٍ

مُقيّدةٌ بمولعَةِ الجَلاءِ

*

بمَخطوفٍ ومَقتولٍ ومَنعٍ

وتغييبٍ لواعيَةِ النِداءِ

*

ضَحاياهمْ بها كَثُرتْ ودامَتْ

فَتاواهُمْ مُبهْرَجةُ العَماءِ

*

أرى بُدَعاً أضاعَتْ ما بديْنٍ

وسارَتْ مِثلما جَهَرتْ بداءِ

*

ألا اتْخَذوا رُموزاً لابْتزازٍ

تِجارَةُ ديْنِها برؤى المُرائي

*

خِطاباتٌ تَغالى مُحْتواها

فكفّرتِ المُجاهِرَ بالسَواءِ

*

مُبجّلةٌ مَدينتُنا ولكنْ

تُدنِّسُها الأعاجِمُ بالهُجاءِ

*

مَجاهيلٌ إذا مَرَقوا أجادوا

بعاديةٍ مُدمّعَةِ الأداءِ

*

فكلُّ جَريْمةٍ فيها تَوالَتْ

مُؤزّرةً بأسْبابِ الثناءِ

*

وَجيعٌ مِنْ قَساوَتِها تَعالى

وأيْتامٌ براعيةِ البُكاءِ

*

ترامَتْ فوقَ تُرْبَتِها المَنايا

وغابَ الأمنُ في وقتِ الضياءِ

*

بها الأيّامُ لوْ تدري أُصِبْنا

كأنّ الناسَ في بلدِ الفناءِ

*

غَريْبٌ في مَحافِلها تَمادى

يُخاطِبًها كمَعْدومِ الحَياءِ

*

ويَنأى عَنْ مَواطنها بحِقدٍ

ويَرْدَعُها بمَسْفوحِ الدِماءِ

*

لماذا تَخْطفوا رَجُلاً بَريْئاً

وتَرْموا جُثّةً حَتفَ العراءِ

*

ألا تبّتْ مَذاهبكمْ وخابَتْ

أضَلّتكمْ فَتاوى الأشْقياءِ

*

لجَورٍ مُسْتَدامٍ كمْ سَعَيْتمْ

وعِشْتمْ في مَعاقلِ إنْزواءِ

*

فما وَعِيَتْ بَصائرُكُمْ بَديْها

ولا عَرَفتْ خطاباتَ السَماءِ

*

مَدينةُ أمّةٍ في عُقرِ دارٍ

تَنالُ بكَيْدِكمْ سُوءَ الجَزاءِ

*

تشوّهَ وَجْهَها والعَينُ شاحَتْ

فهل أضْحَتْ مُخرَّبةَ البناءِ

*

مَعالمُها مِنَ العُدوانِ ناءَتْ

مُهدَّمةً مُجرَّدةُ السناءِ

*

رموزُ رَقائها ذُبحَتْ بغَدرٍ

وأمْسَتْ في مَداراتِ القَضاءِ

*

هي العلياءً عاشتْ حينَ سَرّتْ

فَكيفَ لها بحاديةِ انْطِواءِ

*

تغيّبَ سِحْرُها وبَدتْ بسوءٍ

مُكبّلةً بمَأمورِ الوَراءِ

*

سَمِعتُ صَريخَها في بَحْرِ كَهْفٍ

بهِ القاطولُ مُنتَجَعُ الإباءِ

*

وأوْلَتُها أضاعَتْ إبْتداءً

تُهاجمُها نَواطيرُ الجَفاءِ

*

ومُسْتشفى بها سَقمٌ مُقيمٌ

يُقيّدُها لفقدانِ الدواءِ

*

فكمْ عَجَزتْ وكمْ أشقتْ مَريضاً

وما عَرَفتْ مَساراتَ الشفاءِ

*

مَدارسُها بها الإهْمالُ يَطغى

شَوارعُها مُمَزّقةُ الرداءِ

*

بَناها إبنُ هارونٍ لجَيشٍ

كجَوهرةٍ لبُرهانِ العَلاءِ

*

وعاصمَةٍ لمِشوارِ انْطلاقٍ

تسرُّ الناظرينَ إلى البَهاءِ

*

تلوّى شأنُها حَتى تقوّى

فَحلّقَ فوقَ آفاقِ الفَضاءِ

*

هيَ الدُنيا بمُخْتَصَرِ المَعاني

وساحَتُها مَيادينُ احْتواءِ

*

ثراها مِنْ بُناةِ الفِكرِ يُسْقى

تُعطّرهُ المَنايا بالثواءِ

*

ومِنْ نَسْلِ الخليفةِ دامَ حُكمٌ

بهِ الفَوضى أطاحَتْ باللواءِ

*

بها الأتراكُ قد سادوا وقادوا

فأضْحى صُبْحُها وطنَ المَساءِ

*

تّهدَّمتِ القصورُ بما أتاها

وأصْبَحَتِ المَعالمُ كالهَباءِ

*

خَرائِبُ فِكرةٍ قتلتْ كفيلاً

فصارَ الليلُ مَسموعَ العَواءِ

*

تَلاحى كلُّ موجودٍ بقَصْرٍ

فحَطمَ هَيْكلاً مِثلَ الإناءِ

*

خليفةُ مَجْدِها مُرْدى بإبْنٍ

أصابوهُ بعاديةِ الغَباءِ

*

بها المُعتزّ مقتولٌ بظلمٍ

ومَرموضٌ ومُحْتَضِرٌ بماءِ

*

ألا ذَهبوا وما بَقيتْ قصورٌ

كأنّ القومَ في زمنِ السِباءِ

*

تَسمّرْ أيّها المفتونُ فيها

وتاجرْ في مَرابِعها بباءِ

*

أرى الدنيا بما وَهبتْ أغاضتْ

فعِشْ أملاً وحاذرْ مِنْ رياءِ

*

كأنّ زمانَها أفنى مُناها

وقد سَكبَتْ نبيذاً مِنْ وعاءِ

*

فلا حَمداً ولا شكراً جَميلاً

ولا فَرَجاً لداهِمَةِ الطواءِ

*

يُسائلني لماذا الإهْمالُ فيها

وأخْشى مِنْ جَوابٍ كالطلاءِ

***

د. صادق السامرائي

(1) رأيتُ جميعَ الكائناتِ

رأيتُ جميعَ الكائناتِ بِعينِها

وأجملُهنَّ الساقياتُ خمورا

*

أتينَ الى روحي يُبشرنَ بالجوى

وبالطلِّ اذ تأوي الطيورُ طيورا

*

أتى فلكُ الأكوانِ حوليَ دائراً

لِيسكرَ قلبي في الهوى ويدورا

*

وحتى أرى نخلَ السماواتِ طائراً

وأقطفُ منه مُرطِباً وتمورا

*

رأيتُ وعيناها رؤايَ ، وخافقي

سرى بِجناحِ الفرقدينِ أميرا

*

ويُطلقُني حبُّ الجَمالِ الى المدى

واِنْ كنتُ في قاعِ الجحيمِ أسيرا

*

لذا كانَ وجدي دونَ حدٍ قبستُهُ

مِن النارِ ماءً في الفؤادِ ونورا

*

وأوكلَني بالنوِّ أسري لقلبِها

وأمطرُهُ حتى يشبَّ سعيرا

***

(2)

..أَفِقْ فيكَ روحي

أفقْ فيكَ روحي لو تنامُ تنامُ

أَفقْ لا تغِبْ انَّ المنامَ حِمامُ

*

هنالكَ نهرٌ سادرٌ في صهيلِهِ

!!هنالكَ نجمٌ بارقٌ وظلامُ

*

هنالكَ حبّي أيقظَ الكونَ عزفُهُ

هنالكَ قلبي : جَنَّةٌ وغرامُ

*

هنالكَ نخلٌ نرجسيٌ اذا بدا

!يعاينُ ظلَّ الماءِ ، كيفَ يُلامُ؟

*

أفِقْ لا تبددْ نشوةً اثرَ نشوةٍ

أنا كلُّ ما يعطي الكرامَ كرامُ

*

تعالَ ولا تصخبْ مع الناسِ هوَّموا

فعنديَ في الصحوِ الجميلِ هيامُ

*

لدي دروبٌ سوفَ تدري بِسحرِها

فآفاقُها بَعدَ المرامِ مرامُ

*

وأفعالُ كلِّ العاشقينَ جِنانُها

وأقوالُ كلِّ العاذلينَ كلامُ

***

شعر: كريم الأسدي ..

يَرنو الى الأفقِ، مَنْ فاقَ الطموحُ به

وللقــوافـي صـداهــا، حـين تـزدهِـرُ

*

مــبادئ الحَـزْمِ فــي اعـتاب نهْضتِهـا

إنْ زانَها الصِدقُ يخشى قربَها الضَررُ

*

الشــأنُ لا يـعـلو فــي تَـزْويـقِ بُـردَتِـه

إنْ لــم يـكن لـه مِـن عِــزّ العُـلا صُـوَرُ

*

إذا المُـباهــاة، عــن نــقْصٍ تَـفاعُـلها

ســرعان ما تُـفْـصِحُ الأحداثُ والهَـذَرُ

*

لا يـحجبُ الســرَّ مَـن كانت سَــرِيرَتُه

ســوءَ الفِـعال، وفـي الأوهام يَسْتَـتِـرُ

*

رســالة الحُـبِ، عينُ الحب تـقرؤها

كم مُـقْـلَـةٍ تَــدَّعي، والقــلبُ يَـنْـبَهِــرُ

*

يا صاعــدا جَـبلَا، إن كـنت فــي ثـِقَةٍ

تَـعـلو، وإن مسَّـك الوسواسُ تـنْحَـدِرُ

*

كــم مِــن وِســامٍ زَها فَخْراً بحامِله

وكــم وسام بــلا حَـقٍّ، به اشتهروا

*

بعض الوجوه بِنور الوَعي مُــشرقــة

وربَّ صَــمْـتِ حَــكـيـم ٍ، وَزْنُــه دُرَرُ

*

(مــا كــل مــا يتمنى المرءُ يـُـدركُه)

لــكــنه باقــتـحـام الصَـعـْـبِ يـُخْـتَـبَـرُ

*

سُـــمْـرُ القَـنـا، اذا ما الاتقانُ فارقـهـا

تَــسْــمو عــليـها سِهامٌ، زادُها الخِـبَـرُ

*

انْــشودَةُ الــمَـجْـدِ، في أرجوزةٍ بَعَـثَتْ

رِســالةً، تـوحي انّ الحــقَّ يـَنـتَـصِـرُ

*

إنْ كــان لــلـعَــزْم إيـــمـانٌ يــوثّــقـــه

فـــوحــدةُ الصــف، إيــمانٌ بـه ظَـفَـرُ

*

تــاجُ العُــروبةِ يدعــو الشمْلَ مؤتَـلِـقاً

وفـــي الوفــاقِ وحُـب الخــيـر يَــنْغَـمِـرُ

(من البسيط)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

لكَ أن تمُرَّ على السهولِ نسيمًا

لتزيحَ عن وجهِ الحياةِ همومًا

*

تشدو لآمالِ الحقولِ بشائرا

وتشيدُ في عرشِ الحياةِ نجومًا

*

خُذْ من يدي إرثَ السنين وعبئها

واكتبْ على ذاك الجدار رسوما

*

وامنحْ جراحي فرحةً تتجددُ

يروي بها الدمعُ الحزينُ كرومًا

*

فالحبُّ يزهرُ كلَّما نبتَ الأسى

ليكونَ للجرح العتيق وسوما

*

والعشقُ أنْ يسمو الغرامُ سحابةً

تُغني ربوعَ العاشقينَ نعيمًا

*

بلّغْ عن الروحِ التي أهدتْ ندىً

قدْ كابدتْ وجعَ السنينِ عظيما

*

بدماءِ حقلٍ ظلَّ يورقُ رغمَ ما

عاثَتْ بهِ ريحُ الطغاةِ ظُلوما

*

غرسٌ تحدّى النارَ حتى أثمرَتْ

بعد انتظارٍ لم يعره عميما

*

وروى الأسى عهداً تليداً زاهرًا

وعدًا يُعيدُ إلى السماء نجومًا

*

فأتيتُ بالشمسِ التي في راحتي

وحملت قلبا ما يزال كليما

*

واكتبْ على دربِ الفداءِ مؤرَّخًا

مجدَ الشعوبِ إذا استحالَ عظيما

*

آليتُ أنَّ الحقَّ يبقى رايتي

ودليلُ دربي في الحياةِ قويمًا

*

لكنَّهُ عهدُ السماءِ لشعلةٍ

أهدتْ شعوبَ العالمين نعيما

*

فأتيتُ بالشمسِ التي في راحتي

أرنو بها نحوَ الدُّجى تسليما

*

وأقولُ للشمسين إنّي ها هنا

سيفُ العراقِ إذا استفاد ظليما

*

فأنا الذي يزهو العراق بفضله

ويعود بعد الغابرين سليما

*

وملأتُ كأسَ الصبح عطرا ناضرا

حتى غدا وجه الحياةِ وسيما

*

وطني بحارُ الخيرِ تجري في يدي

ونخيلُهُ ظلٌّ يُعانقُ ريما

***

جاسم الخالدي

 

تشبهني قصائدي...

مثل ظلٍّ أعمى يتعثر في ممرات الذاكرة،

كأنني أكتبها وهي تكتبني،

تُحاورني الأبيات،

تُمارس طقوسها في صمتٍ مُريب،

كأرواحٍ خرجت من نافذة الحلم

لتتسكع في أزقة اللغة.

كل كلمة

مصيدة،

كل فاصلة

حفرة في طريق لا ينتهي.

*

تشبهني قصائدي،

حين أنثرها على بياض الورق

كغيمٍ شارد يبحث عن موطئ ماء،

وحين تتكدّس فوق بعضها

مثل حقائب مليئة بذكريات لا تخصّني،

أخاف منها

كما أخاف الأقنعة على وجوه العابرين .

*

تشبهني قصائدي...

في فوضى العناوين التي تجهل مقصدها،

في حزن الحروف التي أُتْعبها السير في متاهة نفسي،

وفي ارتجافة الكلمات

وهي تتهجّى حقيقة لم أجرؤ على نطقها.

*

كم مرة حاولت الفرار منها؟

لكنها تطاردني كظلٍّ يتنفسني،

تندسّ بين أنفاسي

وتحفر في أعماقي أخاديد من وجعٍ قديم.

هي أنا...

لكنها ليست أنا،

صدى بعيد لنبضٍ يصرخ

في قلبٍ لا يعرف صوته.

*

تشبهني قصائدي،

حين أكرهها،

وحين أحبّها

كما يُحبّ منفي مدينةً لا ينتمي إليها.

كل بيتٍ فيها

وطنٌ غامض،

كل مقطعٍ

جرحٌ يزهر.

*

تشبهني،

بملامحها غير المكتملة،

بتناقضاتها،

بأسئلتها التي لا تنتظر إجابة.

هي وجهي الآخر،

وجهٌ يطلّ من شقوق الذاكرة،

يرسمني بالكلمات

ويمحو نفسه.

*

تشبهني قصائدي...

وأنا أتأملها

كغريبٍ ينظر إلى صورته

في مرآة نسيها على الطريق...

***

مجيدة محمدي - تونس

إلى حفيدتي تعانق البحر أوّل مرّة

***

لارَا

مِثلُ رَفّةٍ

خُطاها كنقر البيانو

تتسارع نحو البحر

يَعْشوْشبُ الرّملُ

يُزهر

مِن تحتِ قدميها

*

لارَا

جَذْلى تحتضِن البحر

بين المَوجة والموجة

تَغطِسُ حينًا

تطفو حِينًا

وسِربٌ من صَغيراتِ السّمك

يَنسابُ يُرفرف حولها

يُلاعبها

إحداهنّ تكاد تُمسكها

فتنزاحُ بين يديها

وتمضي بعيدا في اللُجّة

*

ترنُو لارَا في المدَى

نحوَ المدَى

حيثُ لاح أزرقُ البحر

يُلامس أزرقَ السّماء

في لازَوَرْدِ عينيها

لارا

***

سُوف عبيد

في مطار عمّان الدولي، وفي منتصف التسعينات، كان الليل قد أرخى سدوله والساعة تشير إلى التاسعة مساءً. تجمع القادمون إلى عمّان بالمئات، وكانت تقف وسط الحشود مع طفليها، تحيطهم ضوضاء المسافرين وصفوف المنتظرين أمام شباك فحص جوازات الواصلين. في ذلك الزحام، تقدم أحد موظفي المطار نحوها بخطى واثقة، وابتسامة مليئة بالاحترام، طلب منها أن تتجاوز صفوف المنتظرين لإنهاء إجراءات الدخول سريعًا. ادهشتها شهامة تصرفه، فشكرته بحرارة.

لم يكن في ذهنها سبب واضح لذلك التقدير والاحترام والتميز الاستثنائي، الا انها عزتها الى مظهرها المحتشم، ولباسها الإسلامي الملتزم الذي غطى كل جزء منها، من رأسها حتى أطراف قدميها، والذي يمكن ان يكون قد ترك انطباعًا جليلًا ومهيبًا. لقد بدت كما صورتها في جواز السفر اليمني الذي حملته خلال رحلتها إلى عمّان.

استقبلتها أختها وزوجها سلام، اختها التي لم ترها منذ عقدين، بفرحة غامرة. امتلأ البيت بحفاوة اللقاء، ودفء الكلمات، وكرم الضيافة. بعد العناق والحديث الطويل، أفصحت عن نيتها السفر مع طفليها طلبًا للجوء في إحدى الدول الأوروبية. طلبت مساعدتهم للحصول على فيزا لإحدى الدول كخطوة أولى للوصول الى الهدف، خاصة، وأنها تحمل جواز سفر يمني، وهو أمر، ربما، يجعل المهمة صعبة.

أبدى سلام كامل استعداده للمساعدة دون تردد. وخلال أيام التحضيرات، وبينما كانت الامسيات المليئة بالأحاديث والذكريات، فجرت أختها نبأ غير متوقع، حين قالت بهدوء:

"سلام مسافر إلى بغداد فجر الغد، وهو يريد اصطحابك معه لزيارة والدتنا".

كانت كلماتها صاعقة، أشعلت في ذهنها سيلاً من التساؤلات والمخاوف. مضت سنوات طويلة منذ ودّعت والدتها عند مطار بغداد الدولي. ها هي أمام فرصة قد تكون الوحيدة لرؤيتها مجددًا. لكنها كانت تعرف جيدًا ما تعنيه بغداد لها رغم ولعها وحبها لها.. وشغفها في رؤية والداتها.. ولكن بغداد الان بالنسبة لها، مدينة مليئة بالمخاطر، خاصة وهي من السياسيين المطلوبين لأجهزة أمن النظام الصدامي الحاكم.

غاصت في بحر أفكارها، تائهة بين الرغبة في لقاء والدتها والخوف من عواقب الزيارة. لم يمهلها ذهنها الكثير من الوقت حتى قطعت أختها حبل تفكيرها قائلة:

"لا تخافي. أنت تحملين اسمًا وجواز سفر أجنبيًا. سلام لا يمكن أن يغامر هكذا إلا إذا كان واثقًا من النجاح. السفرة كلها سوف لن تستغرق سوى يوم واحد، بل أقل من ذلك".

لكن ماذا عن الأولاد؟ سألتها بقلق. فأجابتها: "سيبقون معي. لا تقلقي بشأنهم".

رغم كل تلك التطمينات، ظلّ قلبها مثقلًا بالهموم. فكرت في الاحتمالات التي قد تُفسد خطة الرحلة الى بغداد.. عيون الحراس عند نقاط التفتيش، النظرات والاسئلة المحتملة التي قد تؤدي الى الشك في شخصها وهويتها.. وسواها من الأسئلة.. فكرت أيضًا في زوجها، وفي إخباره بما تنوي وما ستقدم عليه. فهي ستترك طفليها  في عمّان وتغامر بمصير مجهول.

أمام كل تلك الأفكار، بدت أختها مطمئنة بشكل يثير الدهشة. قالت لها بحزم: "سيكون كل شيء على ما يرام. لا داعي لإبلاغه الآن؛ أخبريه عندما تعودين بالسلامة". ثم أضافت بابتسامة: "نامي، فغدًا سيكون يومًا طويلًا".

كان سلام يتابع الحديث بصمت، لكنه قطع الصمت بنبرة مليئة بالثقة:

"أنا أتحمل كامل المسؤولية. سأوصلك إلى الوالدة وأعيدك إلى أطفالك بسلام. ولن يحدث شيء".

نظرت إليه مليًا، تقرأ ملامح وجهه، تبحث عن ذرة تردد أو خوف، لكنها لم تجد سوى الإصرار هكذا هو كما عهدته أيام الدراسة.

تنهدت بعمق، ثم قالت:

"هذه فرصة العمر بالنسبة لي، رغم ما تحمله من مخاطر. من يدري متى أستطيع رؤية والدتي إن لم أغتنم هذا الظرف؟"

كانت تعلم أنها تقامر بكل شيء، لكنها كانت على استعداد لخوض هذه المغامرة.

في فجر اليوم التالي، كانت الرحلة قد بدأت. رحلة ليست فقط نحو بغداد، بل نحو ذاكرة عمرها عقدين، نحو حضن أم كانت بعيدة لكنها لم تغب يومًا عن القلب. بينما كانت السيارة تقطع اولى الكيلومترات، كان قلبها يخفق بالأمل والخوف معًا.

تذكرت وجه زوجها، شريك روحها، وهو يودعهم بصمت مكسور وقلب مثقل بالألم. لم تستطع أن تنسى ملامحه الحزينة وهو يغلق باب المنزل خلفه، محاولاً أن يخفي دموعه وآهاته عن أعينهم. كان ذلك المشهد محفورًا في ذاكرتها ولما يزل.. صورة لن تفارقها أبدًا، تتوارى ملامحها رويدًا رويدًا كلما ابتعدت بهم سيارة الأجرة عن الدار، وهي متجهة إلى مطار عدن الدولي. كان الوشاح الذي يلف رأسها قد تشبع بالدموع، في حين نسجت عيونها خيطًا واهيًا بين لحظات الوداع القاسية وعالم الذكريات الذي بات ملاذًا، بالرغم من هشاشته، أمام واقع لا مفر منه.

لم يستطع الزوج مرافقتهم، ليس بقراره، بل لظروف قاهرة حالت دون ذلك. وعدها بأنه سيبذل قصارى جهده لتجاوز تلك العقبات والالتحاق بهم قريبًا، لكن وعده لم يكن كافيًا ليبدد مخاوفها. تضاربت مشاعرها بين ألم الفقد وأمل اللقاء. تساءلت وهي تغرق في دموعها: هل سأراه مجددًا؟ متى وكيف؟ أسئلة كبرت معها لتصبح ثقيلة كالصخر، تحجب عنها الرؤية نحو المستقبل الذي تتمناه.

كان قرار السفر ضرورة فرضها الواقع. عطلة المدارس كانت توقيتًا مثاليًا لتنفيذ الخطوة دون أن يُثير غيابها وأطفالها الريبة. لكن قلبها ظل مثقلاً بالذكريات الموجعة، خاصة بعد ما خلفته حرب صيف 1994 بين شطري اليمن. كانت تلك الحرب بمثابة الطعنة التي قسمت حياتهم إلى ما قبل وما بعد. الآثار النفسية الثقيلة التي ظهرت بوضوح على الاولاد، ولا سيما ابنها البكر، الذي كان أكثرهم تأثرًا. لم يكن يتجاوز الصف الرابع الابتدائي حينما هاجروا للعمل في اليمن بعد سنوات من الدراسة والعمل في بلغاريا. لكن الحياة في بلد تحكمه التقاليد الصارمة والدين المتزمت، والتي كانت قاسية عليه، بحيث لم يستطع التكيف مع القيود المفروضة على التعبير عن وجهة النظر الحرة والمغايرة للسائد آنئذ.. حتى أن السنوات الست التي قضاها في اليمن كانت بالنسبة له كابوسًا لا يكاد ينتهي، لتأتي الحرب وتجعل الواقع أكثر سوءًا.

قرار الرحيل إلى المجهول لم يكن سهلاً. ان أول عقبة واجهتها كانت انتهاء صلاحية جوازات السفر العراقية للعائلة، وهو أمر لا يمكن تجاوزه بسهولة بسبب المحاذير السياسية والأمنية المتعلقة بالنظام العراقي الذي لا تزال معارضته تشكل خطرًا عليها. تدخلت إحدى زميلاتها في العمل، والتي كانت تتمتع بنفوذ قوي، لمساعدتها في استصدار جواز سفر يمني لها وللأولاد وبأسماء زائفة. ثم ان السفر من مطار عدن وبجواز سفر يمني، يتطلب المزيد من الحذر. كان عليها أن تتخفى تحت العباءة اليمنية الصارمة، والتي يكملها النقاب والبرقع والجوارب والقفازات، لتبدو كجزء من الصورة التي يرسمها المجتمع اليمني التقليدي للمرأة الملتزمة.

السؤال الأكبر ظل معلقًا: إلى أين؟

كان الأهم هو الخروج من دوامة اليمن بأي وسيلة. جاءت الإجابة عبر الأردن، حيث تقيم أختها المتزوجة من أردني زميل دراسة سابق في بلغاريا. هذا الرابط ساعد في تسهيل الخطة، لكن تبقى أمامها عقبة أخيرة: عبور مطار عدن، الذي كانت إجراءات التفتيش فيه صارمة إلى حد الاختناق.

تطوع أحد زملاء زوجها لتحمل مسؤولية تأمين المرور. ورغم كل التدابير الاحترازية، لم يكن المرور سهلاً. حين وقفت عند بوابات التفتيش، شعرت أن قلبها يوشك على التوقف. الخوف كان جاثمًا على صدرها، يكاد يكشفها رغم شجاعتها الظاهرة. حتى أولادها، الذين أدركوا حجم المخاطر، كانوا ملتصقين بها، يحاولون إخفاء وجوههم تحت قبعاتهم الصغيرة.

عبرت المرحلة الأولى بنجاح، لكن التوتر لم يهدأ. في صالة الانتظار، جلست بجوارهم إحدى زميلات العمل التي تعرفت على الأطفال. أثارت الزميلة شكوكها عندما لاحظت تنكرها بزي لم يعتده أحد منها، خاصة أنها كانت مثالاً للأناقة في العمل. طلبت منها بلهجة مرتجفة ألا تكشف سرها، ففهمت قصدها

عندما استقرت هي وأطفالها أخيرًا على مقاعد الطائرة، تنفست الصعداء، لكنها لم تدم طويلاً. قبل إقلاع الطائرة بقليل، صعد ثلاثة رجال من أمن المطار لتفقد ركاب الطائرة او لغرض اخر.. الامر الذي اشعرها وكأن العالم بأسره قد توقف.. وما صعودهم الا مقصودا.. ومن اجلها. انكمشت على نفسها، تمسك أيدي أطفالها المرتجفة، وكأنها تحاول بث الطمأنينة في قلوبهم. كان الوقت يمر ببطء قاتل، كل ثانية تحرق روحها كالجمر. شعرت أن مصيرهم معلق بخيط رفيع.

وأخيرًا، نزل رجال الأمن من الطائرة. أغلقت الأبواب، وأقلعت الطائرة. عندها فقط، تنفس الأطفال بارتياح، وهتفوا بفرح عفوي: "هورا!" وكأنهم قد انتصروا في معركة مصيرية. ضمتهم إلى صدرها، ودموع الفرح تمتزج بدموع القلق. نظرت من نافذة الطائرة وهي تردد في قلبها دعاءً صامتًا: أن يجتازوا فضاء اليمن بسلام، وأن تكون هذه بداية رحلة جديدة نحو الأمان.

شعر زوج أختها بشيء من شرودها العميق، فتوجه إليها بنبرة صوته الهادئة والواثقة التي كانت دومًا ملاذًا للطمأنينة والثقة لمن حوله. أراد أن يخفف عنها، ربما لينتشلها من دوامة أفكارها، أو ليبدد بعضًا من قلقها الممزوج بالحنين، فتحدث عن المسافة الطويلة التي تفصلهم عن بغداد وعن محطاتها المتعددة. بدت كلماته كنسيم بارد يلامس أطراف الحيرة ويبدد الهواجس التي كانت تأخذ بتلابيبها. ابتسمت له امتنانًا لنبله. لقد أدركت في أعماقها أن تلك الرحلة لم تكن لتكتمل لولا شجاعته التي جعلت منه بطلها دون منازع.

حين وصلوا إلى محطة "طربيل"، كانت الحدود الفاصلة بين الأردن والعراق أشبه بعالمٍ جديد يفتح أبوابه ببطء. إجراءات الخروج من الأردن مرت بسلاسة، لكن ما أن اقتربوا من نقطة التفتيش العراقية، حتى انطلق سباق من الهمسات والحركات المتسارعة. موظفي الجمارك تسابقوا نحو السيارة وهم يتهامسون: "خليجية؟". لم تفهم ما يجري حتى التقطت أذنها حديثًا عن السيارة، ومحاولة أحدهم لعرض "شراء نوبة التفتيش"* مقابل مبلغ مالي لزميله المناوب

نزل الجميع من السيارة لاستكمال الإجراءات. كانت جوازاتهم اليمنية والأردنية كافية لإثارة فضول رجال الحدود، الذين طرحوا أسئلة لا تنتهي عن صلة القرابة، وسبب الزيارة، ووجهتها ومدتها. استغرقت هذه المرحلة وقتًا بدا كأنه يمتد بلا نهاية، حتى جاء دورها للتوجه إلى قسم النساء. هناك، استقبلتها نساء شابات من موظفي التفتيش، كل منهن تحمل في نظراتها مزيجًا من الفضول والريبة.

إحدى المفتشات استوقفتها بسؤال فاجأها: "هل أنتِ يمنية حقًا؟ لم أرَ يمنية بهذه الأناقة والترتيب من قبل." أرادت أن ترد على هذه الملاحظة التي شعرت أنها تحمل في طياتها عنصرية خفية، لكنها آثرت كتمان انفعالها. أجابت بجفاء واضح وبلهجة يمنية خالصة، محاولة الحفاظ على هويتها دون أن تُفصح عن مشاعرها.

انتهت إجراءات التفتيش الشخصي بعد طلبات لا تنتهي شملت العطر وغيره حتى مشبك الشعر لم يسلم من التسليب. شعرت براحة عميقة حين تجاوزا هذه المرحلة، وأخبرها سلام بأنهم قد اجتازوا العقبة الأصعب في الطريق إلى بغداد. تحدث بصوته الواثق عن أمان الطريق نهارًا، وخطورته ليلًا، حين تسيطر عليه عصابات وقطاع طرق يشكلون تهديدًا حقيقيًا للمسافرين قد يصل الى حد الخطف والقتل.

فتحت زجاج النافذة بجانبها، وأخرجت جزء من راسها لتستنشق الهواء الذي حمل لها رائحة العراق. بغداد، عروس العواصم العربية، كانت في انتظارها. تدفقت ذكريات طفولتها وصباها أمام عينيها كلوحة مرسومة بألوان متداخلة، تزدحم فيها اللحظات السعيدة والحزينة، حتى آخر مشهد وداعٍ جمعها بوالدتها ودموعها.

حين اقتربوا من حيهم الذي تركته حينذاك، شعرت وكأنها تعود إلى قلب الزمن، حيث توقف كل شيء عند آخر لحظة غادرت فيها المكان. عرفته رغم تغير ملامحه، لكنه ظل ينبض بذكريات لا تموت. فجأة، اجتاحها شعور بالغيبوبة، وكأن الزمان والمكان تآمرا ليسلباها قواها. مال رأسها إلى الخلف، لكن صوت سلام أعادها إلى الواقع: "لقد وصلنا، اجمعي قواكِ."

ساعدها على النزول من السيارة، وقادها بخطى ثابتة نحو الباب. استقبلتهم زوجة أخيها، التي لم ترها من قبل، بابتسامة دافئة. طلب لها سلام قدحًا من الماء، وعندما هدأت قليلاً، تساءلت بلهفة: "أين أمي؟"

تفاجأت زوجة الأخ من سؤال الضيفة، إذ ظنّت في بادئ الأمر أنها أخت سلام. ولما كانت تخشى وقوع صدمة مفاجئة قد تهدد صحة والدتها عند معرفتها بعودتها بعد سنوات من الغياب، فقد رتّبت مسبقًا مع شقيقها، قبل قدومها إلى العراق، أن يُمهّد لحضورها بطريقة مدروسة. اتفقا على الادعاء بأن المرأة التي ترافق سلام هي أخته، ليترك للوالدة فرصة اكتشاف الحقيقة بنفسها دون تعجل.

وللتغلب على هذا الالتباس، بادر سلام بتوضيح الأمر قائلًا: "إنها أم يسار". حينها، استدركت زوجة الأخ الموقف، وأعادت الترحيب بها بحرارة، موضحة أن والدتها قد خرجت إلى السوق برفقة ابنها، وأنهما سيعودان قريبًا.

لم تكد تلتقط أنفاسها حتى عانقت عيناها صورة والدها الراحل المعلقة على الحائط. ابتسامته الحنونة كانت وكأنها ترحب بها من عالم آخر. انفجرت بالبكاء، وقبل أن تستجمع قواها، سمعت وقع خطوات أمها تقترب. هبت واقفة لتحتضنها، وانهارت على الأرض تقبّل قدميها. لم تستوعب الأم هذا المشهد، فظنت أنها أخت سلام. لكن صوتًا مرتعشًا اخترق الصمت: "ماما، أنا أم يسار، ابنتك!"

سقطتا أرضًا متعانقتين، والدموع تروي لحظة اللقاء بعد سنوات طويلة من الغياب. كانت الأم تتفحص ملامح ابنتها بذهول، وكأنها تقرأ في تفاصيل وجهها فصول الغربة والمعاناة. شكرت الله، وسجدت ركعتين حمدا له.

بالاتفاق مع العائلة، تقرر التكتم على أمر الزيارة لأسباب أمنية تضمن سلامة العودة إلى الأردن. ومع حلول الليل، اكتمل جمع الأسرة، وحضرت الأخت الأخرى وعائلتها. امتلأت الأجواء بفرحة اللقاء، وتبادلت الأحاديث عن أحوالهم وعن الرحلات التي اعتادت عليها، بحثًا عن الأمان المفقود.

رغبت بتفقد ما تركته من صور ووثائق، وكأنها تريد الإمساك بخيوط الماضي لتعيد ربطه بحاضرها. لكنها صُدمت عندما أخبروها أن والدتها، خوفًا على سلامة العائلة، دفنت كل ما يتعلق بها تحت الأرض، على أمل الحفاظ عليها وعليهم من أيدي الأمن. لكن رطوبة الأرض أتلفت كل شيء. حاولت أن تخفي حزنها، وفهمت دوافع أمها وعذرتها.

بقيت الأم بجانبها طوال الليل، تتفحص يديها وأصابعها، وكأنها تقرأ فيها تعب السنين. كان وداع الفجر يقترب، فاحتضنت والدتها، وأوصت الجميع بأن يحافظوا عليها، فهي أعز ما تملك. حين انطلقت السيارة، شعرت أن قلبها بقي هناك، مع أمها، فيما جسدها يتجه بعيدًا.

نظرت إلى سلام، وقد ملأتها مشاعر الامتنان، وقالت له بصوت خافت: "لقد منحتني أعظم هدية في حياتي. سأحملها معي حتى قبري."

***

سعاد الراعي

عندما تقرع طبول اليأس فتتراقص الأزمنة الشاحبة فوق نعش القلوب المتحجرة، وتتعثر الخطوات على أرض تميد ودروب تتصدع، وصخور الوجد تتفلق عن ألف سؤال يحوم حول المستحيل، تطحنها رحى الأحداث وتذرها وجعا خلف المدى،  تبحث" وحيدة" وسط كون الأشياء الجميلة فيه مستحيلة، حاولت أن تفهم هذا الكون حولها لكن كان كل مبرر تضعه تجد السؤال يزيد غموضا وتعقيدا حتى في أبسط صياغته، يسحبها إلى أراضي المستحيل ويحرضها على السباحة في عوالم مبهمة وهي وحيدة تطحن بذور الخيبة التي علقت بسيرتها وروحها، وتذرها رياح اليأس لمخطط لم تكن جزء منه في يوم من الأيام، نظرت " وحيدة " طويلا إلى وجه المرأة التي ربتها، إطلالة وجهها تحمل أسئلة لا جواب لها في مجتمع لا يرحم، سعادة طفولية زائفة مؤقتة عاشتها وهي تحمل بداخلها خوفها من المجهول، أخبرتها متبنيتها وهي لا تزال في سن صغيرة بالحقيقة، هي ليست أمها الحقيقية، أمها كانت ضحية زوج منحرف وأسرة مفككة ومجتمع قاسي، دخل زوجها وشقيقه السجن بتهمة القتل مع سبق الإصرار، ووجدت أمها وزوجة عمها وأولادهم كلهم وعماتهم جميعا بدون أي مصدر للقوت، ولا سبيل لدفع أيجار البيت، كانوا من النازحين حديثا من الريف إلى المدينة، لم تجد حماتهم من حيلة إلا استغلال سذاجتهن وغفلتهن عن شؤون المدينة للمتاجرة بأجساد الفتيات الغضة لإعالة هذا العدد الكبير،  إنهن بعيدات عن الأهل، ومجتمعهن يرفض عودة الفتاة بأولادها إليهم، وقعت أم وحيدة فيما لم تكن تحسب له حسابه، حملت من أحدهم، وبحثت عن من تعطيه مولودها، حتي تعرّفت على سيدة لطيفة وطيبة بالصدفة وارتاحت لها، ثم أخبرتها أن زوجها لا ينجب وهي لا تستطيع أن تتركه بعد عشرة عمر طويلة، اقترحت أن تعطيها المولود ذكرا كان أو أنثى، بعد الموافقة أخبرت زوجها أنها ستجلب طفلا تقوم بتربيته، سألها زوجها من أين ستأتي به فأخبرته أنه ابن خطيئة، وستتستر على الأم والعائلة، أصغت وحيدة لحديث متبنيتها صالحة بمرارة شديدة ولكلامها الذي أصابها كالوجع الذي يحل بالجسد، إنها معاناة شديدة تضيق بها الروح، وجدت نفسها مضطرة تمشي دربا وتصبر على ألم أشواك لم تغرسها وعلى آلام أخرى لم يكن لها دخل فيها، عليها أن تتحمّلها وتتقبلها كصديق ورفيق لصيق كاللازمة المتلازمة، فقد اختارت لها المقادير أن تكون واحدة من أبناء الخطيئة لما تواطأت الضحية من الآثم والظروف لتكون هي البذرة المنبوذة في المجتمع، ذرفت صالحة دمعا حارا أحرق مقلتيها حزنا على الفتاة التي ربتها التي ليس عليها أي ذنب فيما تتألم بسببه، ولكن وحيدة أرادت أن تهوّن عليها الأمر بأن وجودها في أسرة محترمة كانت هي السبب في انفصالها عن زوجها، أخبرتها صالحة أنها كانت تعلم منذ البداية أن عائلة زوجها المحافظة سترفض الطفلة غير مبالين بها، وأنه من أجلها خرجت للعمل في تنظيف البيوت والمدارس، وتحمّلت الإهانة فوق إهانة حتى يشتد عودها، تعلم وحيدة أنها تحصد وحدها نتائج أخطاء من لن تسامحهم، ولذا تخشى مواصلة السير نحو مستقبل مجهول بلا هوية حقيقية، وفي نفس الوقت تملكها شعور بالشفقة على المرأة التي ربتها وضحت بسمعتها من أجلها في حين كان يمكن أن تحافظ صالحة على زوجها وبيتها، صارحتها أن شقيق زوجها كان يبيت النية لتطليقها مسبقا اعتقادا بأنها السبب في عدم الانجاب وتزويج أخيه بفتاة أخرى من عائلة زوجته، إنه النصيب المسطر، وهكذا يتم تقييم الفعل وفقا لشخصية الفاعل، علت ابتسامة نادرة خفيفة وجه وحيدة وبدت أقرب إلى السخرية ممن لم يخجل بعار فعلته وزج به في السجن مجرما بتهمة القتل العمدي، وقد كان لا يتردد أن يكيل التهم بالباطل على من تعمل لتعيل أطفالها، هذا هو حال جان من المجتمع الذي فيه وراء كل جريمة رجل حين لا يكون عيبا أي جرم يرتكبه أو حرام يقوم به، أما المرأة فأي حركة تقوم بها فهي جرم، إذن إنها حالة لا يدرك خطورتها إلا المتعاطفين معها، ولا يتلظى بحرارة نارها إلا من يقع في شباكها، وتبقى الطفولة البريئة هي الضحية وهي من تدفع ثمن استهتار الآخرين بالعواقب، فتتغير الملامح ويختفي الجمال الطفولي. أمتنت وحيدة كثيرا لفضل مربيتها صالحة عليها، لم تحرمها شيئا من حقوقها حتى أدخلتها الجامعة، حينها واجهت فيها حرج الاسم الناقص من اللقب العائلي وتعرضت للتنمر حتى من أقرب الصديقات، ونظرات النقص في عيون الأساتذة، من أجل كل هذا عقدت العزم أن تعمل من أجل حبيبتها مربيتها، إنه مسار قد يبدو مظلما ولا يعلم عواقبه إلا الله ولكن عليها أن تسلكه، لم تعد وحيدة تلك الطفلة الحالمة التي ترتدي ملابس صدقات المحسنين، أو تلك الفتاة المتعبة التي تنام وتسند رأسها على كتبها الممزقة القديمة التي تحصل عليها أمها من أبناء معارفها والجيران، ستبدأ العمل حتى تعتق أمها من ذلك البيت البائس الذي يستغل مالكه جهد صالحة في خدمة زوجته الجميلة مقابل الروايات الجميلة باللغة الأجنبية التي تحضرها لأبنتها وحيدة التي كانت تعشق قراءتها. وعلى حافة الوقت الهادر كنهر صامت تمضي وحيدة إلى المجهول البعيد خائفة، أنها على مشارف العشرين من عمرها، هل يمكنها أن تجد لنفسها غدا عملا وسط مجتمع ينهش بعضه لحم الساذجات بشراسة ثم لا يبالي، احتضنتها أمها صالحة وهي تهدئ روعها أنه مهما كان الآخرون يتربصون بأحلامك، ومهما شحذوا سكاكينهم وأظهروا أحقادهم، ومهما زرعوا الطريق شوكا، فإن الطفلة التي تنام بداخلك قد كبرت أظافرها، وقد آن الأوان أن تشحذ سيوفها لتدافع عن كيانها ووجودها، وأن لا تسمح لأحد أن يملأ وقتها بقبح أرائه وعفن أفكاره،

مضت الأيام سريعة وبدأت عملها مندوبة مبيعات لمنتجات إحدى الشركات الأجنبية الكبيرة بفضل إجادتها للغات الأجنبية، لم تكن مرتاحة بعد تسليم ملفها، لاحقتها نظرات من حولها المثيرة للشكوك، والعيون يقفز منها خبث الشياطين، وكلما ضاقت تذكرت حديث أمها صالحة فتزيدها شجاعة على المواصلة وحماسة على الاستمرار. لقد هرمت والدتها صالحة وضعفت قواها بعدما ضحت من أجلها بالكثير، وباعت الدنيا وما فيها لتربيها في أفضل حال ولتنشئتها في وضع جيد مهما حكمت عليها الظروف. ذات صباح ارتدت وحيدة أجمل ملابسها وقد ظنته صباحا ليس مثل الصباحيات الكئيبة السابقة، لقد حققت نجاحا لافتا للشركة وقيل لها أن تنتظر مكافأة مالية كبيرة، تهيأت لإسعاد والدتها، والمفاجأة أن تم الإعلان عن نسب النجاح إلى عاملة أخرى هي زوجة مدير الشركة، انزوت وحيدة بعيدا وعيون المدير تلاحقها، يتأملها، يرسم تفاصيلها، تنهش نظراته جسدها الممشوق حتى وإن كان لا يعنيه إنه يحمل في اعتقاده وصمة الماضي، أعلن المدير إقامة حفل كبير بالمناسبة في اليوم التالي وطلب من وحيدة أن تكون مشرفة عليه وأن تتعامل مع الضيوف الأجانب، لم تشعر وحيدة بالارتياح ولكن تجاهلت وساوسها واعتبرتها مجرد هواجس لابد من التخلص منها وأن عليها أن تتريث في أحكامها وأفكارها لتحسن التدبير والتصرف فربما تغيرت أفكار بعض الناس وخاصة أصحاب المناصب الكبيرة، فالقيل والقال منسوب دائما للطبقة المتواضعة والبسيطة. في مساء نفس اليوم انتبهت وحيدة على صوت أنين صادر من غرفة والدتها، كانت تقبض بشدة على صدرها من الألم، لم تكن المرة الأولى ولكنها أقوى بكثير من المرات السابقة، لم يكن لوحيدة المال الكافي للفحوص والعلاج والعملية الجراحية بعدما تبين أنها تعاني من أزمة قلبية، العلاج في المستشفى الحكومي سيتطلب الانتظار لفترة طويلة، تذكرت المكافأة المالية التي كانت تنتظرها يمكن أن تحل مشكلتها وتخرج أمها من أزمتها الصحية، توجهت إلى الصيدلية لإحضار دواء مسكن وهي تحمل بأفكارها أول إغفاءاتها وتلك اللمسات الناعمة الني كانت تهدهد شعرها، ، لقد تركت والدتها وراءها بالمنزل منحسرة على أنها دخلت معها مستنقع الحياة الذي لا يرحم من أجل أن تلبسها السعادة وتكسبها الشجاعة التي تمحي بها كل بغيض، وزرعت في نفسها أفكارا هي رصيدها للقادم، ، وصادفت في غمرة انشغالها وسرعة خطواتها صاحب البيت في مواجهتها يحاول أن يتحرش بها دون مقدمات، عابت عليه وذكرته أنها في سن ابنته وأنهم يدفعون له الايجار بانتظام فلا داعي لهذه التصرفات الصبيانية، صرخ فيها وأطلق القذر العنان لينهال عليها بأبشع الشتائم والأوصاف، ونهاها عن التشبه بابنته فلا مجال للمقارنة بين بناته وبنات الحرام، وأنه ليس لهم مكانا وسط مجتمع له أصوله وعاداته، غادرت وحيدة المكان خائفة وعادت إلى البيت دون أن تحصل على الدواء لوالدتها، وبررت ذلك بأنها وجدت الصيدلية مغلقة، ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد لأن الشوارع خالية ومظلمة، أعدت وحيدة مشروبا ساخنا من بعض الأعشاب المهدئة ارتاحت عليها والدتها، وفي الصباح اشترت وحيدة الدواء، ثم توجهت لاستشارة الطبيب الذي استعجل إجراء العملية في أسرع وقت قبل أن تصاب عضلة القلب بالدمار الشامل، زاد قلق وحيدة أكثر على أمها فليس لها أحد آخر في هذه الدنيا سواها، ستفعل المستحيل من أجلها، ربما كانت المكافآت ستحل مشكلة تقديم الدفعة الأولى للمستشفى، أسرعت إلى العمل وقد بدا أنها تأخرت عن الحفل، ولكنها لم تجد أي مظاهر للحفل بل وجدت صاحب الشركة بمفرده ينتظرها، تجاهل انشغالها، فعرفت أنها دخلت شبكة العنكبوت، لم يعبأ بتوسلاتها وأنه يخطئ الظن بها فهي ليست من النساء اللائي يبعن أجسادهن، قهقه طويلا وتساءل بخبث عن أمها التي باعت جسدها، ثم طلب منها ألا تخاف فلا أحد يمكنه أن يلومها أ ويسأل عن ما تعمل، الشرف لا ينفع من لا أصل لهم، وألح عليها أن لا تكترث لأمر الأخرين لأنها لا تعني لهم شيء، رفضت بشدة، فلاحقها وهمّ بالاعتداء عليها بالقوة، أبصرت قضيب الستائر موضوع جانبا معد للتعليق فضربته به ضربة أوقعته في الأرض، فتشت جيوبه تبحث عن المكافأة، وجدت مبلغا كبيرا فأخذته، تذكرت وهي تهم بالخروج ما قرأته في الروايات التي كانت تقرأها، فمن الممكن أن تقبض عليها الشرطة بتهمة يلفقها لها المدير فلجأت إلى حيلة قبل أن يفيق وهي أن تجرده من كل ملابسه وقامت بتصويره عاريا في مكتبه، ثم غادرت مسرعة.

في اليوم التالي جن جنون الرجل واتصل بها يأمرها بالحضور إلى الشركة، فبادرته بأنها قدمت استقالتها، توعدها بأنه لن يتركها في حالها، تمكنت أن تجر لوالدتها العملية الأولى وخفّ الألم عليها، وبقيت العملية الثانية التي يجب أن تجريها بعد مرور سنة على الأولى، بدأت وحيدة تشعر أن الدنيا تضيق عليها أكثر، وجدت عملا آخر لا يتطلب تقديم ملف تفصيلي عن المتقدم له فرضيت به على الفور، كانت تعود لبيتها كل مساء فتدون على الكمبيوتر مذكراتها اليومية التي تحمل أقصر درجات الاستنكارفي بحث الكثيرين عن الرذيلة، وتتساءل عن سبب سعي بعضهم لإسقاط الأنثى ذلك المسقط الجنسي المعيب للمجتمع الذي يعشعش في دخيلته البحث عن اللذة في الحرام، كتبت كثيرا لتفرغ مظاهر المعاكسات والمتناقضات في مجتمع تكاد تعمه الفوضى، المخدرات في الشوارع، اطفال صغار هجروا المدارس لبيع الحبوب المهلوسة، مطاردات الشرطة لا تنتهي، أمهات يقمن بصبغ شعور صغارهن بألوان قوس قزح وتستعرضنهم لممارسة الجنس دون الخوف من احتمال أن تكون هناك فضيحة الحمل، أمهات يبعن ضمائرهن من أجل الحصول على ما يشاهدنه في مواقع التواصل من أبهة زائفة ومتع زائلة، الجميع يبيع كل شيء، لا يهم كيف أو متي أو بكم المهم " المال" ولا تعني هنا كلمة الشرف لهم شيئا، أنهم أصحاب ضمائر نائمة وأكثرها ميتة، يعبثون بمستقبل أبنائهم وبنات غيرهم، المهم تحقيق المكسب المالي الذي يتحصلون عليه في الظروف الصعبة. كانت وحيدة تفرغ كتابتها باللغة الأجنبية في موقع أوروبي، دأبت على الكتابة كل ليلة بعد عودتها من العمل كانت سعيدة بالأمر رغم تعاستها طوال اليوم بسبب ما تلقاه من مضايقات وتحرشات.. ومساومات، إنه مرض استفحل حتى استحال أن يفيد معه العلاج. تتذكر وحيدة يوم أبلغتها احدى الموظفات أن المدير يريدها وأردفت "أنه برفقة مدير شركة للأدوية وتناهي إلى سمعي أسمك، وكان الحديث يدور حولك.. " بادرها المدير فور دخولها مكتبه بالسؤال عن ملفها الإداري الذي لم تودعه بعد، تعللت بانه لم يسألها عليه أحد، تأملها بنظرات استهزاء وتوجه إليها بكلمات يقصد أحراجها وتجريحها أن مثلها لا يهم وضعه، فالأمر واضح، عرفت إلى أين يريد أن يقود الحديث، تشجعت وتجاهلت الموضوع، وأرادت استيضاح الأمر، فكان أن طلب منها المجيء إلى العنوان المكتوب في ورقة سلمها لها للمشاركة في موعد مهم مع أحد العملاء، وجدت وحيدة نفسها تحارب في معركة خاسرة، إنها تواجه حملة تكالب كل الكلاب المشردة في صورة أخرى ببدل محترمة، لم يبق الأمر إذن محصورا في الطبقة المتوسطة والبسيطة أو الفقيرة، لقد اصبح الجميع يتباهى بالآثام في العلن، لا فائدة من الركض في نفس المكان، إنه نفس السيناريو يتكرر معها وليس هناك من يسند ظهرها، عبثا تبحث عن ما قرأته في الكتب، المشاعر النبيلة، والمواقف الشريفة، الأخلاق الحسنة.. إنه صراعها الدائم مع الحياة التي تحياها ولا تعيشها،  ضاعت أهدافها التي طالما حلمت بها رفقة أمها صالحة، صارت الحياة بالنسبة لها فوهة فرن كبير ينصهر فيه جسدها وأحلامها وأفكارها، أتعبتها ضغوط البشر، فكتبتهم ووصمتهم بكل تفاصيل الرذيلة فيهم، لم يعد يهمها ما يقولون عنها فما دام الإنسان لا يريد أن يتخلص من أسر شهوته العابرة، فضّلت أن تسير قليلا حتى يحين موعدها المقرر الذي تراه مقززا، تعلم جيدا أن الأفاعي تلاحقها أينما وجدت، وأنها منبوذة في المجتمع، لذلك سئمت أقاويل الناس، وضاقت بأشكالهم المقيتة، انتبهت على وصول رسالة على هاتفها، إنه صاحب دار نشر بالعاصمة الفرنسية باريس، يدعوها إلى حضور التوقيع على طباعة ونشر كتابها بعد أن حققت كتاباتها عدد مشاهدات وقراءات قياسية، وأنه يمكنها أن تحصل على التأشيرة وتذكرة السفر من مقر السفارة الفرنسية، لم تصدق وحيدة نص الرسالة المفاجئة وكأنها في حلم تخشى أن تستفيق منه، لقد جاءتها الرسالة في وقتها بالضبط، أسرعت إلى بيتها وأخبرت أمها فاستبشرت ونصحتها بالسفر وطالبتها بتحقيق ما كانت تطمح إليه وأن لا تدع أحد يستغلها مهما كان، اعترفت لها وحيدة أن نجاحها كان بفضلها، والكتابات التي كانت بتوقيع الفتاة الغامضة التي تعيش في الزوايا العتمة قد آن الأوان أن ترى النور، لقد تغير موعد المساء، وتغير مساره، ستذهب لاستلام التأشيرة لها ولأمها وستشتري لها تذكرة السفر معها فما أصبح لهما بقاء وليس لهما متكأ سوى جدران مهترئة، وليس لهما من نصير، إلى متي يبقين مرتجفات، خائفات، يعانين برد الحياة وجوعها وسياطها وقوانينها، الحب هنا لا يساوي بين الجميع، أنهما تدفعان ثمن خطأ لم ترتكبنه.

أخبرت وحيد ة الشركة أنها لن لا تستطيع أن تحضر مساء بزعم أن والدتها مريضة، وعليها أن تأخذها للطبيب، وربما في غضون اسبوع تعود للعمل، كانت وحيدة قد أنهت خلال هذه الفترة كل أمورها ولم تخبر أحدا حتى صاحب البيت. وفي صباح شتوي بارد توقفت سيارة في ساعة مبكرة أمام منزلها ونقلت الحقائب بكل هدوء دون أن تثير انتباه الجيران، انطلقت السيارة إلى المطار، وقبل السفر اتصلت وحيدة بصاحب البيت تخبره بمغادرة المنزل وان أجرة البيت داخل مظروف في صندوق بريده، حينها أحست وحيد براحة نادرة فلقد أتمت المهمة بنجاح.

وصلتا باريس واتجهتا إلى الفندق المقرر ثم عقدت لقاء مع صاحب دار النشر ووقعت عقدها ونالت حقوقها المالية وأخبرته أنه ستقيم في فرنسا إلى الأبد فسره ما سمع وساعدها على إيجاد مسكن ومنصب عمل، والأهم أنه لم يسألها عن أصلها و فصلها، ما كان يهمه هو انتاجها، شعرت لأول مرة بأن كيانها غير مرتبط باسمها، ولم تجد من يساومها لأنها مجهولة النسب. ظل مدير الشركة مصدوما بمجرد علمه بخبر سفرها إلى " وجهة غير معلومة " وكانت الصدمة الكبرى عندما بثت مختلف القنوات الفضائية والصحف الأجنبية خبر نجاحها وانتشار كتابها، لقد حققت ما تريده بدون مساومات، حافظت على عزتها وشرفها بعيدا عن كل من أراد استغلالها بعبارات مبتذلة سئمت سماعها كأسطوانات أصابها الشرخ وظلت تتردد دون أي معنى، إنها تولد من جديد على أرض جديدة.. وبعيدة، لا تحمل أي هوية بين أوراقها، تحمل دينها وأمها ومسقط رأسها، ستكون المرأة الناضجة التي يمكنها أن تصمد.

أثناء سيرهما في شارع "ساندوني " الباريسي الطويل تأملت صالحة وجها ابنتها وحيدة فرأت ما لم تكن تراه من قبل، رأت بريقا جذابا وتألقا جميلا في عينيها ولمحت مسحة فرح حقيقية على وجهها، احتضنت وحيدة يدي أمها صالحة وهي تعترف أنه أخيرا وجدت ملاذها وملجأها الدائم الذي ينسيها هموم طفولتها المجروحة، أنها مع والدتها في عاصمة الجن والملائكة، ربما سيكتب لهما أن تكونا بجانب الملائكة، لا يريدان العيش بين وجوه أنذال ترسم الشرف ويمزقون أثواب الشرف ويمزقون معه الأمنيات، ويحيلون الابتسامات الدافئة إلى صقيع، هنا يجدن حرية الاختيار، لا مساومات من أجل لقمة العيش، ولا إساءات لأحد كونه ابن خطيئة، عبرت الأم صالحة عن عميق مشاعرها بسعادتها إلى جانب ابنتها، حيث تذيب نظرة واحدة منها كل مشاكل الدنيا وضنكها، الانسان عظيم بمواقفه تجاه الآخرين مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه دون تهميش، المرء يقاس بفكره وعطاءه وعمله وأخلاقه، تشعر الأم من فرط سعادتها أنها تود أن تغني وترقص مع المطر، وتودع ذلك الماضي التعيس الذي لاحقهما طويلا، ستتأنقا لأيامهما القادمة دون أن تلتفتا خلفهما.

***

قصة قصيرة

صبحة بغورة              

 

يقولون إن الغيمَ يسبقُ حامله

وتأتي إلينا من بعيدٍ قلاقله

*

وتنثرُ مما جادَ فيها وتشتكي

فصولٌ بنا مرت ولم نرِ نازله

*

وأجملُ ما فيه انتظار وغبطةٌ

اذا همرت أرجاءَنا وهي قاحله

*

كأن وميضَ البرقِ حينَ انبلاجهِ

بريقُ عيونٍ ساحراتّ مخاتله

*

تلاطفني عمدا وللشيب حرمة

تقول حذار من كثير المجامله

*

وأصغي لها صغي الشغوف لعازف

وانظر فيها بين عطف وفاصله

*

وتفضحني في القول رقة شاعر

واخفي الذي في القلب حين أماطله

*

وتخذلني عيناي حين لقائه

فافركها عمدا لكي تبدو هاطله

*

فلا أنا ممن مستجيب لذي الهوى

ولا انا بالصمت الرهيب اجادله

*

فان كانَ وصفي عاجزا قلتُ آسفا

فهذا الذي بالنفسِ والنفسُ ناحله

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

اوتار قيثارة قلبي

تتمايل بلحن مضيء

لكل حفيف ورقة

ولكل زقزقة

عصفورة

مضيئة

حين الفجر وحين

اكتمال القمر

2 -

بهجة الفراشات

والنحلات في

الحقول المضيئة

ترسم على

مرايا قلبي

شمسا شفقا

ازرقا وقوس قزح

3 -

قوس قزح

الصباح

يدخل من

نافذة قلبي

ليعكس على

مراياه

روعة الحقول

روعة الينابيع

وبهجة الشجر

***

سالم الياس مدالو

 

في رؤيةِ النائمِ

نزعَ البيتُ لسانَهُ

وغرقَ الحجرُ بالحياد

لم يعدْ للكلماتِ صوتاً

لم يعدْ لها رنينَ الخلخالِ

لم يعد لها إغواءَ السفرْ

*

فقدَ البيتُ وهجَهُ

لمْ يعدْ للحجرِ

لبياضَه الكلسيِّ نبضْ

عاجزٌ يتوكأ على بقايا ظلالٍ

كأنه يمخرُ بها عبابَ أجلٍ

ليعانقَ أجلْ

*

نسيَّ البيتُ مكانَهُ

فقدَ عنواناً

نحتتهُ الريحُ عنوتاً

بينَ مساماتِ الزمنْ

بابٌ زرعتِ الأمطارُ الدربَ نحوَهُ

حكايا يسهرُ على أطرافِها النخلْ

*

فقدَ البيتُ ظلَهُ

صارَ بأحيائِه أثراً يتعكزُ على أثرْ

***

رضا كريم

 

بسيطة، كانت الأحلام

كالطين وبقايا السنابل

كما الماء والقصب

نعجنها لنبني بيوتنا

على ضفّة النهرِ

غير ابهين

بأرواح من غرقوا

نداءاتهم ليلاً

تلويحاتهم أول الفجرِ

يهدهدها أنين أمي

تغني ليغدو الكون قابلاً للعيش

والمنافي قابلةً للحبّ

لتسكن الأرواح من تيهها الأبدي

كي أنام وأحلم بالسفر

إلى حضنها الأخضر

بلون الحقول

في قرانا القصية

*

أليس الأجدر أن نعرف الأسماء أولاً

أسماء من مروا كالظلالِ

أسماء من لم يعودوا

أسماء جميع المنسيين

والغرقى

والمنتظرين

أليس الأجدر، أن نعرف المسافات

تلك التي علينا قطعها

لنعرف كم متنا،

ونحن على قيد الوجع

إيه يا حبيبتي.

*

يا حبيبتي

كم غرقنا

والحلم نهر

يفيض بنا

وينهار الجسر

تعوم الحروف به

تتلألأ بضوء القمر

ولجلجة عينيك

بلحظة شغف

لقبلة تحت المطر

تربط روحينا رغم

ما أراد الدهر

لعناق أبعد من الزمن

وأجفل من وشوشتك

كصراخ بأذني يفزعني

أتحبني؟

أصمت

وأنا بعينيك مبتسما

ألعق شفتيَّ

ونغرق ببعضنا ضاحكين

مراهقة اللحظة بهذا الزمن

لنرسم قُبلاً على مد الثواني

نجوم تفيض تضيء لحظات الوَجْد

تعالي

لنبقى في الصمت لحظة

نعيش وجد بها

ويغسلنا المطر

تعالي

للعاصفة لحن حين تئن

وحين يصحو الرعد بعدها

ويحملنا الماء صوب الشجر

لا يجفلنا برق ولا رعد

ونحن نتوسد ظلينا

تحت القمر

***

كريم شنشل

3-9-2024

 

وضع سلته في جانبه الأيسر واخرج من جيب دشداشته البالية حزمة من أكياس النايلون افترش الأرض بقطعة منها، ثم افرغ محتويات سلته في سطل مملوء بالماء تعلوه ورود جميلة اقتطفها من الحدائق العام وقام بتنسيقها ورصفها في باقة وعرضها بما يعتقد ستجلب له موردا جيدا.

جلس الصغير ينتظر.. فتح عينية على ظل يخيم عليه..

ماذا تفعل هنا؟ وقبل ان يجيب الصغير

صرخ في وجهه مأمور البلدية..

ألم اقل لك ماذا تفعل هنا؟

قال له وهو يرتجف من الخوف ودموعه تكاد تتفجر من عينيه الجميلتين:

ابيع الورد..

ومن أين جئت بهذا الورد؟ هل سرقته؟

لا، أنا لم اسرقه، إنه في كل مكان،

ولماذا تبيعه، ألم يكن ذلك سرقة؟

الجميع يقطف الورد..

يقطفون واحدة كي شمونها او يقدمونها لمن يحبون.. ولكنهم لا يبيعونه.

ليس لدينا ما نبيعه، وليس لدينا مورد نعتاش عليه.. ولا احد يشغل الصغار، فكيف نعيش؟

هذه الورود ليست للبيع.. ثم إنك تعرقل سير المارة، قم من هنا...

وهو يلمل سلته ويعيد اكياس النايلون الى جيبه.. مرت سيدة وسمعت اطراف الحوار ووقفت تتأمل الصغير وهو يمسح دموعه بكبرياء وثقة وقالت:

بكم كل هذا الورد يا صغيري؟

لم يجب على سؤالها، أمسك بباقة الورد وسلمها إلى مأمور البلدية  وافرغ ماء السطل.. وقال للمأمور:

خذ، يمكنك الآن أن تبيع الورد بدلا مني.. وغادر الرصيف..!!

***

د. جودت صالح

1 / 1 / 2025

 

بين يد الله،

حيثُ الأبدُ لا يعرف التردّد،

والزمنُ انحناءةُ طيفٍ في مرايا النور،

تسكنني الطمأنينةُ

كغيمةٍ تُلقي ثِقلَها على صدرِ الأفق،

ولا تسأل عن المطر.

*

سلامٌ لا يُدركه الكلام،

يتسللُ كنسيمٍ قديمٍ من بين أوتارِ الروح،

يعيدُ تشكيلَ العالمِ في داخلي،

أبصرُ فيه الوجودَ،

كأنهُ فكرةٌ مكتملة،

لا نقصَ فيها ولا اكتمال.

*

أحنُّ إلى الطين،

ذاك الذي عجنَ بين أصابعِ البداية،

رائحةُ الأرض حين تستفيقُ من حلمِ المطر،

وصوتُ الخطى الأول،

حين لم يكن للحياةِ تفسيرٌ

إلا الانحناءُ لتقبيلِ الجذور.

*

كلُّ خطوةٍ على الترابِ

رسالةٌ تُرسَلُ منّي إلى الأبديّة،

وكلُّ نسمةٍ تعبرُ وجهي،

وعدٌ يعودُ إليَّ من السماءِ،

بأنَّني لن أضيع.

*

هنا،

في حضنِ الترابِ الطريِّ،

في عروقِ الأرضِ التي تشربُ ندى الوجع،

أصيرُ سطرًا من قصيدةِ الله.

أصيرُ الحرفَ الذي يبحثُ عن نهايتهِ،

ولا يصلُ أبدًا.

*

سلامٌ يسكبُ ذاتهُ في الكَونِ،

كأنَّ الروحَ نسمةٌ هائمة،

تعرفُ أنَّ بين يد الله،

لا فراغَ هناك،

فقط امتلاءٌ

بحنينٍ يعيدني

إلى الترابِ الذي وُلِدتُ منه،

إلى الطينِ الذي يعشقُ

كلَّ شقوقي.

*

يا طمأنينةَ الخلقِ الأول،

علّمي قلبي أن يسكن،

علّميه أن يُصغي إلى صمتِ الله،

إلى الحنينِ الذي لا يفنى،

إلى الترابِ

الذي هو بدايةُ النهايات،

ونهايةُ البدايات.

***

مجيدة محمدي

 

لماذا الحياةُ

تقاسمها الزيفُ والسيفُ والخوفُ... آلهةٌ وطغاةُ

يبيعُ أقساطها للعبيدِ سماسرةٌ، أباطرةٌ، مسخُ أنبياءٍ وأمواتُ

لماذا

نصيبنا منها عناقُ الفراغِ، سحر الخرافة والذكرياتُ

ذكريات الذين مرّوا على الأرضِ فوق السيوف وتحت السيوفِ

وألّه سيفَ الطغاةِ الرواةُ

*

لماذا؟

حياتنا وهمٌ والخرافة واقعُ

أفراحنا اكتمال السرابِ

خدعة الكلماتِ لإخفاءِ موت بطيء وأمسٍ مريضٍ وجرحٍ فائضٍ بالعذابِ

وغزاة يطردهم غزاةُ

ونحن الذينَ هزمتنا مبادئنا

عشنا في الظل خلف الهزيمة لأن الناس أقنعةٌ

ونرفض أن نرتدي الأقنعة

لماذا

خلقنا من المطلق الرحب

ونرضى قيود الأساطير

لنصبح في وهمها أمتعة

*

خُلقنا من هبة الريح والعواصف أجنحةً تسابقُ أجنحة

لكنّ حياتنا

نزيف بين حربٍ وحربٍ

ونحن الجنودُ ونحنُ الضحايا ونحن الأيادي والأسلحة

*

لماذا الله غايتُنا

هو القصدُ هو الغرضُ

لكنّ شيوخنا خَللٌ

أدياننا مرضٌ وإيماننا مرضُ

لماذا

كل الذين وعدونا الخُلدَ

قصفوا أعمارنا وانقرضوا

*

لماذا طريقنا إلى الحبِّ

مُسيّجةٌ بالجسد وما ترك الحور فينا من بصمة النار في الطين

لماذا

لنا ألف وجهٍ ووجهِ

نحبُّ الجواري، نسبُّ الجواري

نحبّ البلادَ، نسبُّ البلادْ

نحبُّ الفرح، ونقضي أعمارنا في حدادْ

نحبُّ الإله ونسعى إليه ونعبده من طريق الفسادْ

*

لماذا

هم اشتعال الحياةِ نورا ونارَا

ونحن الهشيمُ ونحن الرمادْ

*

لماذا مازلنا من أوّل الماءِ في الكهف

كهفٍ من الطينِ، كهف الرعاةِ

ننهشُ أيّامنا في عنادْ

وما زلنا من عهد نوحٍ وهودٍ وعادْ

لم ندرك المعنى إلاّ غموضًا

ولم ندرك الفرق بين العبيد وبين العبادْ

*

لماذا

طريقنا إلى السراط المستقيم

مُعوجّة، ملتوية بلا خرائط أو فضاءٍ أو أفقْ

من نفقٍ إلى نفقْ

نفتش عن شمس تضيء الغموضَ، تضيء الطرقْ

*

لماذا

نقدّس الله، الملائكة، القرآنَ

ونحتقر الحياةَ، نحتقر الإنسانَ

نعيش في خيمة الموتِ

نهين دنيانا وننتظر آخرة لا تأتي

*

لماذا؟؟؟

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

 

القصيدة الأولى:

ضيّعتِنـي فـــي لحظةٍ مجنونـةٍ

مـِن بعدما قــــدْ أينعتْ آمــــالُ

*

لغة الحديثِ تهشّمتْ في لحظةٍ

فعلى فمــــــي كلماتُها أوصالُ

*

وبكيتُ مثْلَ الطفْلِ أمسحُ أدمعا

نطَقَتْ بما لـــمْ تفصحِ الأقوالُ

*

فتأمليها إنّها الشعْـــــــرُ الذي

في صدْقِهِ تتكشّفُ الأحــــوالُ

*

أمّــا الذي سطّرتُهُ بدفاتـــري

مِـنْ قبْلُ فهـــوَ تصوَرٌ وخيالُ

*

الشعرُ ليسَ هو الحروفُ وإنّما

لغة الجوارحِ دمعـــها السيّـالُ

*

صمْتي صراخي ضحكتي شعرٌ بهِ

أشدو كمـــا يتصرَفُ الأطفالُ

*

دنيايَ عاطفةٌ وحسٌ مُرهــفٌ

فلكـــــــلِّ حالٍ فُسحـةٌ ومجالُ

*

فلتقرأينــــي هـكـــــذا بتجـــردٍ

مـــا كــلُّ شئٍ باللسانِ يُقـــــالُ

*

إنّي عشقتُـكِ فوقَ كـــُلِّ تصوّرٍ

وحسبتُ أنّكِ للوفــــــاءِ مثــالُ

*

فسلكتُ درْبَ الوالهين مُغامرا

لــمْ تُثنِني ألأخطـارُ والأهوالُ

*

لكن غدرتِ وقدْ جعلتُكِ قبلتي

والحبُّ إنْ ذهبَ الوفــــا قَتّالُ

*

فوددْتُ أنّي كنتُ مَحْوا لمْ أعِشْ

يوما فلا ذكرى ولا أطــــلالُ

*

حطّمتُ من زمنٍ تماثيلَ الهوى

لمّا هوتْ مِنْ قبضتي الأغلالُ

*

ما كنتُ أعرفُ بعْدَ أنْ حطّمتُها

أنَّ التـــــي احببتُـها تِمْثــــــالُ

*

ضيّعتِنـــــي لكنّمــا انْقذتِنــــي

فنجوتُ مِـنْ كيْدِ التـــي تغْتالُ

*

أنا إن صفحتُ فذاكَ سرُّ طبيعتي

فالصفْحُ عنـدَ الإقتدارِ جمــالُ

*

وإذا غفرتُ فكـلّ شئ ممكــنٌ

إلا الرجوعُ إليكِ فهْـوَ مُحــالُ

***

القصيدة الثانية:

قالت عشقتُك قلت لا.. لا تعشقي

إيّاك أنْ تتسرّعـــــــي وترّفقــي

*

لا تجعلي منّي لعشقــــك كعبــةً

أنا كنتُ وهما في حياتكِ صدّقي

*

لا تقرأي كُتبي القديمــــــة إنّها

بعضٌ من الأحلام لــــمْ يتحققِ

*

ودعيك مِن سحْرِ الهوى لن تقدري

أنْ تنقليني مثْــــل نقْــــل البيدقِ

*

إرمي شباكك سوفَ لنْ تتمكّني

منّــي بمكـــــرٍ أو ببعضِ تملّقِ

*

فأنا كظلٍّ لســتُ أُمسَكُ بل أنــا

مترجـرجٌ مُتحركٌ كالزئبـــــقِ

*

أنا آخرُ العشّاقِ من زمن الهوى

كمْ حاولوا حَرْقـــي ولمّا أُحْرَقِ

*

قد مزّقوا كتبي ولكنْ فــي دمي

بعضٌ مِن الأوراقِ لــــمْ يتمزّقِ

*

قد عدتُ أنزفُ حاملا جرحي معي

وألفُّ حولَ الجُرْحِ خرقةَ بيرقي

*

وعلى فمي من أمسِ بعضُ قصائدٍ

أشدو بها متمترسا فــي خندقــي

*

وأقولُ صبرا يا جميلُ على الذي

لاقيتَ فـــي هذا الزمانِ الأحمقِ

*

ما عـــادَ بحرٌ يستثيرُ مشاعري

ويهزّ أشواقـــــــي لموجٍ أزرقِ

*

أمّا الريــــاح فقدْ سئمتُ هبوبها

فلكمْ شكا منها وولولَ زورقـي

*

جعلوا حياتي أمسِ سجنا مُظلما

فهربتُ من سجني الكئيبِ الضيّقِ

*

بالحبّ قد حرّرتُ نفسي صادقا

مــــن عالم مُتحجّــــــرٍ متزندقِ

*

فحملتُ مطرقتــي لأهدمَ ناقمــا

كــــلّ التماثيلِ التي لمْ تنطـــــقِ

*

زمــــــن الهوى ودعتـــهُ فكأنّهُ

حلمٌ تلاشى فـــي صُباحٍ مُشرقِ

*

سأعيشُ بالذكرى وللذكرى فما

مِنْ خمرة في الكأسِ أو في دورقي

*

لا ترسميني مثلمــــا تبغيننــــي

مــــا كلُّ شيئٍ في حياتي منطقي

*

فإذا وجدتِ بأنني غيــــر الــذي

قـــــدْ كنت تنتظرينهُ لا تقلقــي

*

قولي باني قــــدْ ولدتُ حجارةً

لمْ أدرِ ما معنى الهوى.. لم أعشقِ

*

أمّا كتاباتـــــــي التــي أرسلتها

فلتهمليها أو إذا شئتِ احرقـــي

***

جميل حسين الساعدي

 

لَـسْتُمْ شُــيُوخًا كُـنْتُمُ هَــامَانَا

لَــوْلَاكُمُ فِــرْعَوْنُكُمْ مَــا كَــانَا

*

أَلَّـهْـتُمُ عَـبْدًا حَــقِيرًا تَــافِهًا

وَسَــبَقْتُمُ الـخَنَّاسَ وَالشَّيْطَانَا

*

وَرَكِـبْتُمُ الدِّينَ الحَنِيفَ مَطِيَّةً

كَيْ تَحْجُزُوا عِنْدَ البُغَاةِ مَكَانَا

*

وَجَــعَلْتُمُ سُــبُلَ النِّفَاقِ شَرِيعَةً

لِـتُزَيِّنُوا الإِجْـرَامَ وَالــطُّغْيَانَا

*

فُــقْتُمْ مُسَيْلِمَةَ الكَذُوبِ ضَلَالَةً

كَــفَّرْتُمُ مَــنْ أَعْــلَنَ العِصْيَانَا

*

فسَجَاحُ لَمْ تَرْضَ الخَنَا لَوْلَاكُمُ

عَـلَّمْتُمُوهَا الـفُحْشَ وَالبُهْتَانَا

*

هُـمْ كـالثَّعَالِبِ ذَبَّلَتْ أَجْفَانَهَا

كَــيْ تُظْهِرَ التَّقْوَى أَوِ الإِيمَانَا

*

أَوْ كَــالْقِطَاطِ تَــنَكَّرَتْ بِعَمَائِمٍ

لِــتَصِيدَ خَــلْفَ المِنْبَرِ الفِئْرَانا

*

فــرُؤُوسُكُمْ كَالقَرْنَبِيطِ تَثَاقَلَتْ

وَأَظُـنُّ أَنَّ قِــطَافَهَا قَــدْ حَانا

*

تَبًّا لَكُمْ يَا مُجْرِمُونَ قَدِ انْتَهَى

عَصْرُ الضَّلَالِ فَهَيِّئُوا الأَكْـفَانا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

رواية قصيرة

القسم الأول

طبيب العائلة الدكتور مجدي نعيم يطمئنني

يفتح لي أملا جديدا بعد أن يئست تماما

في الوقت نفسه ذكرتني تطميناته والفكرة التي طرحها باختراعي القديم

فيها هو يرجعني إلى عشر سنوات خلت

وقتها

لم أكن أعرف أنّي ذهبت بعيدا في مغامرتي الجديدة القديمة.. إذ حين تصل الثقة بالنفس إلى درجة بعيدة ثمّ يجد الإنسان نفسه في مأزق

حقيقيّ فمن الصعب عليه أن يتخلّى عن أيّة فكرة مهما كانت

عظيمة أم تافهة لأنّ بعض الأفكار العظيمة قد تنقلب إلى تافهة

تفتك بصاحبها، وبعض التوافه تصبح عظيمة في يوم ما..

وهذا ما حدث لي بالضبط.

كنت هاويا من هواة الإلكترونيات وعلم الاتصالات..

قبل عشرين عاما في ذلك الوقت فكرت أن أخترع لعبة ذات سمات معينة أنا الان في العقد الرابع، حينها كان عمري تسعة عشر عاما، لا أنكر أنّ طموحي لم يكن متواضعا قط. فقد بدأت بلعبة صغيرة.. لعبة طفلة لابنة أختي (جالا)، صنعتها من البلاستك بشكل لطيف، سمراء ذات شعر ناعم طويل وعينين عسليتين، جعلتها ترتدي فستانا أنيقا أردت أن يكون أزرق موافقا لذوقي غير أن أختي اعترضت. قالت إنّ الثياب الزرقاء تناسب الأولاد لا البنات وفصّلت بنفسها بدلة أنيقة... فستانا أصفر ذا ورود حمراء بسترة ذي لون نهدي، وعملتُ لها شريحة نموذجيّة من مكونات بسيطة، أربع مكونات إلكترونية تخصّ الصوت، تضحك أو تبكي.

تبتسم وتعبس حين تسمع كلاما رقيقا او خشنا

والأهم:

لدى اللعبة (تونة) جهاز خاص بظهرها تخفيه البدلة حين تضغط عليه جالا عليه تضحك الدمية ضحكات أنيقة، وتركتها تكتشف بنفسها السرَّ الثاني، فحالما تضغط على الزر في صدر الدمية تبكي، وتبول، عندئذ شهقت أختي مذهولة ممّا تراه:

- ستجعل (جالا) تذهب كل دقيقة إلى الحنفية فتملأ دميتها حتّى لا نجد مكانا في البيت غير ذي بلل!

كانت تلك الدمية أوّل اختراع لي

وعندما تقدمت في الدراسة عملت شيئا جديدا

صنعت أقنعة تضحك حين تبتسم لها

وتبكي حالما تعبس

فنون كثيرة استطعت أن أنمّي موهبتي من خلالها في أثناء الدراسة الثانوية، وقد نلت إعجاب أساتذتي في الجامعة، فقدمت بعض الاختراعات الطريفة، وكان آخرها مشروع تخرجي...

فكّرت طويلا، ولمح في خاطري الدمية القديمة التي عملتها ذات يوم لابنة أختي (جالا)

هذه المرة لن أفوّت الفرصة، سأطوّر الدمية...

ستكون سيدة أقصر منّي قليلا

امرأة ناضجة أجعل من يرها يظنّها امرأة حقيقية.

أعجب أستاذي البروفيسور (إلياس) وشكّ في أنّي أقدر على أن أنجز المشروع، وكان في يدي مخطط واجهته به في مكتبه بعد أن استأذنت أن نكون وحدنا. قلت:

- سيدي الأستاذ هل تهتمّ بالشّكل؟

- في بعض الحالات.

- من رأيي أن تكون بيضاء.

-  لِمَ البياض؟

- الشائع في معظم الدول العالم أن الدمى بيضاء.

فقاطع بهزة من كتفه:

- أنت نفسك تريد أن توعز إليها قناعات شرقيّة فليكن اللون أبيض يميل إلى السّمار ليصبح مطابقا للفكر والمشاعر التي تخصّ الأنثى الشرقيّة.

تساءلت وغمرني إعجاب:

- كيف فاتني ذلك.

واستدرك أستاذي:

- والمشاعر؟ كيف تغذيها بها.

-  سأحاول أن أتتبع عبر تحليلات الأصوات لنساء مختلفات في حالة الغضب والفرح والحزن وحالات مختلفة أخرى لأكوّن من الأحاسيس المتعدِّدة إحساسا لامرأة ما في دمية تكاد تشبه البشر.

فاعتدل البروفيسور قليلا وكان يسأل بنغمة رزينة:

-  ماذا عن العمر؟

- للنساء؟

- من مختلف الأعمار.

فقلص البروفيسور حاجبيه:

- والفتاة؟

سيدي أنا الآن في الثالثة والعشرين من عمري سأحاول أن أجعلها عبر تلك المشاعر التي أدمجها بحزمة واحدة آنسة في الثانية والعشرين.

راح البروفيسور يهزّ رأسه ويقول:

-  أشجعك فكرة جديدة لكنّي لست واثقا من نجاحها مائة بالمائة.

فقاطعته متلهفا:

كم تخّمن لو سمحت؟

فابتسم وقال:

ستون بالمائة!

عندئذ تنفّست الصعداء، وأدركت أنّي يمكن أن آتي بشيء جديد.

2

ربّما أنساق مع المظهر الخارجيّ إلى حدٍّ ما

ولعلّني أُعْنَى بكثير من التفصيلات أيضا.

وها أنا أخطّط للمظهر الخارجيّ.

طولي 172 سنتمرأ

إذن

يكون طولها 170، هذا يكفي، أقصر منّي بسنتمترين. لا أدري.. لا أحبّ أن تعلو عليّ. كأنّ َهناك هاجساً يوحي إليّ أنّي لا بدّ أن أتفوّق من حيث الطول، وقد بدأت من أعلى، أفضّل أن يكون الشعر أسود فاحما ببعض البريق، طويلا ينحدر على الكتفين، يمكن أن يتغيّر وضعه بتسريحات أخرى، تختارها هي بإرادتها عندما تقف أمام المرآة ولعلها تطلب ذات يوم الذهاب إلى صالون الحلاقة..

كلّ شيء محتمل…

الشّكل الخارجي ضروري جدّا كونه يجعل الطرف الآخر لا يظنّها دمية بل آنسة تتكلّم.. تنفي.. وتثبت.. تعترض وتوافق أريد أن أخوض تجربة جديدة وأزرع في سيل الإلكترونات أحاسيس مختلفة أستنسخها من الجنس اللطيف.

وقد تطلب ذلك جهدا كثيرا خلال الأشهر الستة الأخيرة قبل حلول الامتحان.

أخذت عينات عبر التسجيل والمتابعة لنساء من مختلف الأعمار.

لا أخفي

كنت أتجسس عليهن

أسجل انطباعات وحالات غضب لكثير من النساء:

القريبات والبعيدات

حزن

فرح

بكاء

ضحك

استخدمت الهاتف النقال

ولجأت إلى أشرطة قديمة

وتابعت الأغاني العاطفية والمشاهد السينمائيّة والأشرطة الجنسيّة الممنوع... رغبات السيدات والنساء فصنعت الشريحة الصغيرة من تلك المشاعر المتضاربة.

قرأت في النصوص القديمة طبعا لا أحبّ قراءة الفلسفة والتاريخ لكنّ التجربة أجبرتني.. قرأت أن الإنسان مخلوق من متناقضات، حرارة وبرودة، مالح وحامض وحلو، نقص وكمال، فاستندت تجربتي إلى عامل التناقض أو ما يلخّصه الجميع بعاملي الخير والشّرّ.

عندما اكتملت التجربة مارست امتحاني الأوّل مع اللعبة الإنسان.

لا شكّ أني كنت أعمل تجربتي بمعزلٍ عن الجميع.. لا أستثني أهلي، رحت أغلق باب غرفتي وأستمع إلى الأصوات المختلفة التي أجمعها سرّا من النساء، في بعض الأحيان أستغل زيارات صديقات أمّي وأختفي فأنصت لما يدور بينهن وأسجّل، مشاعرهن من خلال الأصوات. في الوقت نفسه تابعت الأخبار المعنيّة بالعلم وعالم الروبوتات، وما يجري في أروقة عالم الإلكترون الخفيّة، راح ذهني يتوقّد بعد أن سمعت عن تجربة جديدة أُجريت في الصين، فاخترع العلماء هناك سيدة تتحدّث مع الأطفال تقصّ القصص لهم وتلبّي حاجاتهم.

فازدادت يقينا أنّي أقدر أن أتخطّى مرحلة الروبوت، إلى مرحلة الروبوت الإنسان، فجعلت من الشكّل عبر الاتصال بالمعامل التي تعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي أنْ يجهزوا لي هيكلا لآنسة بمواصفات بشريّة لا أحد يمكن أن يفرّق بينه وبين المخلوق البشري.

وكان لي ما أردت.

وحسبت أن هناك من يسأل لم فضّلت أن تكون اللعبة آنسة وهذا سؤال يمكن أن يوجّه لي لا إلى الدمية، فأظنّ أنّي لم أرد أن أضع نفسي في تعقيدات مركبة فليس غريبا أن أختار امرأة لأنّي حين أجعل الدمية رجلا سوف أُسْقِطُ عليه انفعالاتي وعواطفي فيكون بالتالي نسخة منّي... لديّ مشاعر مختلفة لنساء وآنسات، وصغيرات السنّ يمكن أن تمنحني تلك المشاعر فرصة العبور إلى النجاح وتغنيني، فالتجربة العلميّة تركّب المشاعر لا تحللها في مثل الحالة التي عندي.

كنت قد جعلت الشريحة أسفل كتفها.. بطارية غذيتها بالمشاعر والأحاسيس تستمرّ في شحنتها ستة أشهر، تحرّكت في الغرفة ذهابا وإيابا. حركتها طبيعية مائة بالمائة، حركة جفونها ولمحات عينيها الثاقبة.. قلت:

- لماذا لا تجلسين يا (أسيل)؟

فأسندت يدها إلى الكرسيّ:

- أشعر بضيق هل تود أن تخرج؟

- أين نذهب؟

- الكورنيش.. الحديقة العامّة!

- سيعرفونك إذا خرجنا معا أريد ألا تعرف أمّي وأختي وابنة أختي (جالا) بك إلا في الموعد المحدد!

قالت بتأفف:

-  أشعر بالاختناق!

فتأملت طويلا:

- ممكن أن أحملك وأقول عنك إنّك دمية اشتريتها لغرض ما؟

- تكذب؟

- هذا أفضل من أن نبقى في الحبس كما ترين.

في هذه الأثناء سمعت صوت أمّي في الممر وهي تنادي:

هل تكلّم نفسك؟

-  أخبرتكم يا أمّي أنّي أقيم تجارب السّنة النهائيّة على الأصوات والإلكترون الحسّاس، فلا داعي لإزعاجي.

فأطلقت (أسيل) ضحكة خافتة ووضعت يدها على فمها تحبس أنفاسها، وقالت أمّي:

حسبت عندك ضيوفا يا ولدي.

- لا أبدا

- هل أنت بحاجة لشيء

- أريد أن أتابع بحثي

- حسنا أنا خارجة للتسوق.

وجدتها فرصة مناسبة لمغادرة البيت.. أختي في العمل (وجالا) في الروضة، انتظرنا دقائق، وحين سمعت صوت الباب يفتح ثمّ يغلق، تأكّدت من مغادرة أمّي، أشرت إليها ضاحكا:

هيا إلى الحديقة!

خطوت بحذر معها خارج المنزل، فرآنا بعض الجيران ولم يثر الأمر فضولهم فلعلهم ظنّوها من أقاربنا، وطلبت سيّارة أجرة، سألت السائق أن يقلّنا إلى الحديقة العامة:

- هذه الأيّام جميلة هي الحديقة إنّها بداية الربيع؟

ردت (أسيل) بصوت شفاف:

- صحيح الربيع أجمل الفصول.

فضّلت الصمت، تطلعت إليها مبتسما، وجدت فيها طموحي.. كلّه، وبؤرة الزمن التي أطلّ منها على المستقبل، اتخذنا مجلسنا في الحديقة عند زاوية بعيدة عن الشارع العام قرب نخلة ضخمة مفرطة الطول:

- ترغبين في أن تتناولي شيئا؟

أعرف أنّي أغالط نفسي بل أردت اختبار سرعة بديهتها:

-  حالما أشعر بالجوع أخبرك.

- تطلعت بعيني وقالت برقّة:

-  (رامز) حدّثني عن نفسك؟

- عمّاذا؟

- السيدة والدتك...والدك.. أهلك؟

-  أنا (رامز عادل) طالب في السنة الأخيرة بكلية الهندسة حقل الإلكترونات والذكاء الاصطناعي أعيش مع أمّي وأختي ( دلال أم جالا) التي يعمل زوجها في الخارج وعن قريب يستدعيها لتعيش معه.

- ماذا عن والدك أهو على قيد الحياة؟

-  أووه.. هو حيّ أنا لا أحبّه لأنّه طلّق أمّي وأنا بعمر عشر سنوات لكنّي لا أكرهه!

- مهما يكن يبقى أبا.

- نعم؟

- هل تزوره.

- قطّ. لا أحبّ أن أراه.

الحقّ أعادتني (أسيل) إلى ذكريات بعيدة، الآن أدركت أنَّ هناك أحاسيس ظاهرة، غير الإلكترونات، بدأت تدبّ فيها تجعلها تعتمد على نفسها، فتخرج عن كونها آلة، وإن كان الوضع يسير ببطء.

لا أريد أن أتعجّل:

- هل أنت مرتاحة؟

لاح شيء ما على ملامحها ..أشبه بالخجل..:

- أراك مهتمّا بي كثيرا!

- هل تشكّين في ذلك؟

- آ، لا.. لا..

كانت ملامحها توحي بشيء جديد تحاول أن تبتكره بعيدا عن تدخُّلي. ترغب في أن تخرج عن الملامح التي رسمتها لها والمعلومات الذي زرعتها فيها.

لا أبالغ

وليس هو الغرور

فقط خفت من أن تتطوّر الأمور إلى حدّ بعيد ونحن في حديقة عامة فيفلت الزمام من يدي فغيّرت الموضوع فجأة:

- ما رأيك أن نغادر الحديقة نمشي في المدينة، ونزور المول الكبير لتري محلّ الفساتين، ربما ترغبين في فستان أو حذاء.

- لكن عليك أن تدفع فليس في جيبي أيّة نقود.

قالت عبارتها بضحكة ذات غُنج، فقلت مجاملا:

- هذه المرّة على حسابي.

قطعنا المسافة من الحديقة العامة إلى مركز المدينة، مشيا كانت تمسك ذراعي، وترفع عينيها إلى وجهي، أو تنظر إلى معالم المدينة فتبدي إعجابها بالشوارع، والمعالم الأثريّة، والبنايات العالية، وحدثت المفاجأة حين قابلت في المول أحد زملاء الدراسة، حيّاني عن بعد، وابتسم ثُمّ عبر ظانا أنّها صديقة.

لا أنكر أن (أسيل) خارقة الجمال

ذات عينين مذهلتين

والتفاتة ساحرة.

صديقة.. لا يهم...يمكن أن أروِّضا لتصبحَ إنسانا.

والمفاجأة الكبرى ستحدث يوم الاختبار الأخير.

دخلنا معرضا للأحذية، تطلّعت في الرفوف، وزجاجة العرض.. هزّت رأسها، إلى العامل الذي رحّب بنا بابتسامة واسعة:

- هل لديكم حذاء عادي، كلّ الأحذية التي رأيتها بكعب عال (والتفتت إليّ): أنا طويلة لا أحب الحذاء بكعبٍ عالٍ، ما رأيك؟

- نعم نعم معك حقّ

ثمّ خرجنا إلى محل للملابس، فتطلعت في الأزياء المعروضة، وهمست لها:

- اختاري واحدا وسنأتي إليه في يوم آخر فليس معي نقود كافية!

-  أحبّ صراحتك.

تأكّدت أنّها تجربة ناجحة. تجوّلنا في المول، وخاطبت آخرين ولا أحدَ يشكّ في أنّها دمية، وعندما وصلنا إلى البيت، صُدِمت أمّي من المفاجأة، وهي ترى فتاة ما برفقتي.

قالت (أسيل) تستبق اللحظة:

-  مرحبا خالتي أم (نريمان)!

أمرتُها بلطف:

- لو سمحت ارتاحي في غرفتي سأكلّم أمّي كلاما خاصا!

-  من هذه كيف...؟

فدلفتْ على عجل، ووضعتُ إصبَعِي على فمي ألفت نظر أمّي ألّا تتكلّم، سحبتها من يدها برفق إلى المطبخ ورددت الباب:

- هي ليست فتاة حقيقيّة يا أمي إنها اللعبة التي اخترعتها.

فبهتت كأنّ على رأسها الطير كما يصفون، وقطبت حاجبيها:

- لعبتك؟

- نعم.

- معقول؟ دمية؟ لماذا إذن تخشى الحديث وتجعله سرّا بيننا؟

- الحقّ إنّي أحسست أنّها بدأت تعتمد على نفسها وتتصرف باستقلال في بعض الحالات ولو سمعتْ منّي عنها أو من أيّ شيء آخر أنّها دمية.. أظنّها تدمّر نفسها فأخفق في امتحاني.

عندئذ غابت أمّي في ضحكة عميقة:

- مجنون أم عاقل؟ من يصدق. لا تجنّني .

- أرجوك، الوضع ليس نكتة.

- أعدك! وسأخاطبها دائما بكلمة ابنتي.

- (نريمان) أيضا و(جالا) أيضا.

- لا تقلق، مع إنّي لحدّ الآن لا أصدّق ما تقول.

خرجت من عند أمّي إلى غرفتي، وجدت (أسيل) جالسة على حافة السرير. يدها تحت حنكها:

تفكّر

توغل في تأمّل ذي ملامح..

شاردة

مشتتة

هالة من الصمت

حزن شفّاف يرتسم على وجهها.

كانت تطوّق رأسها بيديها

- ما بكِ؟

- لا شيء

- أرجوك؟

- لِمَ لَمْ تقدّمني لأمّك ثمّ هل أنا غريبة لتخصّها وحدها بحديث خاص؟

قلتُ ضاحكا كما لو أنّي أُقنع شخصا حقيقيا:

- سأشرح لك كلّ شيء بعد قليل، يمكنك أن ترتاحي.. خذي بعض القيلولة.. واسمحي لي أن أفتح سحّاب فستانك.. ألا تغيّرين ثيابك لترتاحي؟

استدارت بغنج، فتسللت يدي إلى السّحّاب ثمّ انحرفت إلى حيث البطاريّة أسفل كتفها الأيسر، فضغطت على زرٍّ أسفل المربع، فأضحت جثّة هامدة حملتها بيديّ إلى السّرير.

3

وجاء اليوم الموعود

بعد ثلاثة أشهر سعيت بكلّ ثقة الى الامتحان...

لقد جعلتُ من (أسيل) تنام نوما طويلا منذ رفعت الشريحة عنها، في الوقت نفسه، اتفقت مع أمّي و(جالا) وأختي على أن أجعلها تفيق في اليوم المتفق عليه، فيبدين طبيعيّات معها، ووعدتُ (جالا) أن أصنع لها لعبة مثلها تقدر أن تخاطبها بكلّ يسر. وكنت أعمل على أن أوسّع من قدرتي عليها، بدلا من أن أكشف عن كتفها، أطوّر قليلا في الجهاز ليعتمد على (الريموت كونترول).

بدا النبض يسري فيها، فراحت تتململ وتمسح جبينها بيدها، حركتْ ساقيها ثمّ تمطّتْ، وقالت:

- الله ...يبدو أنّي نمت البارحة نوما عميقا.

- ما أجملك وأنت غاطه في سابع نومة.

- كم الساعة الآن؟

-  السابعة. لديّ موعد في الكليّة اليوم ستذهبين معي سأقدّمك للجميع هيا لا تكوني كسولة ارتدي ملابس الخروج!

 تركتها وخرجت إلى الصالة حيث كانت أميّ تعدّ مائدة الفطور.. قالت (جالا) بلهفة:

- متى تخرج (أسيل)؟

إخفضي صوتك وانسي أنّها دمية!

تناولتُ بعض الجبن والزيتون، ورشفت قدح الشاي وأنا واقف، قالت أمي:

- لماذا أنت على عجل إذا كان موعدك الساعة العاشرة؟

-  عليّ أن أقابل البروفيسور (إلياس) قبل الندوة أو المؤتمر الطلابي الذي آمل أن ينتهي إلى خير.

قالت أختي:

- إن شاء الله.. يا رب حتّى لا تتورّط مرّة أخرى في اختراع صعب غير مضمون!

ابتسمت أمّي مقاطعة:

- لا تظنّي أخاك يوقف اختراعاته (والتفتت إليّ) سأدعو لك وآمل ألّا تورّط نفسك في قضايا غير مضمونة تخصّ مستقبلك كما قالت أختك.

بهزّة من كتفي:

- لذة الاختراع في جدّته وطرافته وإلّا لِمَ سمّي اختراعا.

جالا تقول حيث التفتت إلى باب الغرفة:

- سأسلم على (أسيل).

وحالما أطلّت بملابسها الأنيقة وتسريحتها الرائعة نزلت (جالا) من كرسيها وهرعت إليها تصافحها:

- صباح الخير خالتي!

- صباح الخير حبيبتي (انحنت تقبلها) واعتدلت، فتساءلت أمّي:

- هل تفطرين معنا حبيبتي (أسيل)

-  أشكرك جدا خالتي ربما بعد ساعة فلا أشعر بالجوع الآن.

وخرجنا..

تفاءلت ببداية الصباح مع أمّي وأختي. وكانت (جالا) الصغيرة ممثلة رائعة، وقد دخلتُ الجامعة ومعي اختراعي الذي لم يلتفت إليه أحد من زملائي.

كلّ معه اختراع ما..

من صنع قلما إلكترونيا

أو جرس باب

ومن اخترع روبوتا ينظّف البيت.

وهناك من عمل فايروسا مفيدا يطيل عمر اللاب توب الافتراضي

أشياء طريفة..

جديدة لم أحسد أحداً عليها.

اليوم فقط كشف كلّ منهم عن اختراعه. وبقي اختراعي في عالم الخفاء. لم أُطْلِع عليه أحداً. أجبت جوابا دبلوماسيا. قلت إنّي سلمته إلى البروفيسور قبل يوم. والحقّ إنّي قطعت على الجميع فضولهم حين أعلنت للجميع أنّ الفضل في اختراعي الجديد يعود للدعم ا الهائل غير المحدود الذي قدّمته لي خطيبتي (أسيل)!، فأحاطتني صيحات الاستحسان والتبريكات ثمّ نادى الدكتور باسمي.

تركتها بين أصدقائي الطلبة والطالبات، وقابلت البروفيسور الذي بادرني:

- ماذا عن اختراعك؟

- سيدي هي مع زملائي في الخارج، كل جهدي سيدي أنّني وازنت بين شحنة العواطف والشحنة الإلكترونية هذا يعني أنّ للدمية إحساسا أو نوعا من الإحساس الآدمي فأرجوك أن تتفادى معها كلمة دمية، وأن يتعامل معها الميع بصفتها الآدميّة المكتسبة..

- جيد علينا ألا نشعرها بالإهانة، ومن الأفضل أن نعقد لها ندوة تتحدّث فيه معهم، سأطلب منها الدخول وسأخرج اشرح لزملائك الطلبة الحقيقة لكي لا يقع أي منهم في الخطأ.

خرج ودخلت بعد لحظات (أسيل) وهي في غاية السعادة.

- ماذا قال لك البروفيسور؟

- إنسان رائع ...سألني أيتها الجميلة أنت خطيبة تلميذي (رامز) تفضلي لمكتبي! رائع حقّا.

- تريدينني أن أغار؟

لقد اعتادت لجنة الجامعة العلميّة أن تعقد ندوة لأفضل اختراع، وكانت لعبتي الكبيرة، الآنسة الجميلة هي التي وقع عليها الاختيار، ورضخوا لشرطي فأعلموا زملائي التلاميذ أن يتحفّظوا خشية من استفزاز المشاعر الإنسانية وتغليبها بما يُسمَّ استفزازا وإهانة على التيار الإلكتروني الذي مازجها، جلسنا أنا و(أسيل) على المنصَّة بصفتي الطالب الأكثر نجاحا، وقدّمتها لهم بصفتها خطيبتي، فدعوتها إلى الجلوس معي.

فحطت بخفة ورشاقة إلى المنصة، وجلست جنبي.

هكذا بدأت الندوة، شكرت أستاذي البروفيسور، والجامعة ثُمَّ أذنت بالأسئلة.

وقف الطالب (نبيل) الذي اخترع جرس باب حسّاس:

- أيّ الفصول أحبّ إليك؟

- الشتاء.. أشعر أنّي لا أرغب في الصيف!

وتوجهت بالسؤال إليّ الطالبة (نجلاء بدر) التي اختصت باختراع فريد يقوم على تيار الكرتوني يسري في بدلة فيجعلها دافئة في الشتاء:

- هل علاقتك بخطيبتك جاءت عن حبّ؟

ارتبكتُ قليلا:

- إبساليها هي!

-  يكفي أنّي أحبّه الآن وفي المستقبل!

استبقت نجلاء الحضور بضحكة خفيفة، وسأل (ماجد غانم) وهو مهندس يكتب الشِّعر الحديث:

-  هل تكتبين الشّعر؟

- نعم

صعقت لجوابها وتوجّست بعض الشّر، لم أمارس كتابة الشعر أو يلفت نظري من قبل، تهامس الزملاء، وقال (ناصح غانم)صاحب اختراع المسدس الإلكتروني:

-  لو تقرئين بعضا من شعرك؟

تأملت قليلا ونظرت لحظة إلى الأعلى كأنّها تستوحي شيئا ما

-  حسنا.. كما تحبّون (راحت تقرؤ بصوت عذب ذي أنوثة صارخة):

عن حكاية الإنسان

حدثنا الحجر

قال لنا بصوته الرزين

في البدء كانت الأحزان والشجون

فأدركت بأنّها

من المحال تحيا وحدها تفترش البكاء والنحيب

فانفجرت ببعدها السحيق، انفجرت

من الحنين للخلود

وانتشر الفرح المنشود

صفّق الجميع، وابتسم البروفيسور، وقامت (سنيّة مضر)، وهي طالبة فضّلت أن تؤجّل سنة التخرّج إلى العام القادم:

- هل كتبت شعرا في خطيبك.؟

-  اسمعي صديقتي:

حينما تبتسم

أعرف مكانك وإن كنت تبعد عنّي مسافات طويلة

أمّا إذا حزنت أو عبست

فإنّي لا أعرف أين أكون

عندئذٍ سألتها الطالبة (إيمان صدقي):

- هل لك أن تحدِّثينا عن الماضي القريب أو البعيد كما تحبّين، كيف نشأت والتقيت بخطيبك، هل هو قريبك؟

ساورني القلق من جديد، ربّما هو سؤال استفزازي تفرغ فيه (آمال) بعض عقدها، طالبة مغرورة متكبّرة، من عائلة أرستقراطيّة.. تزوّجت من صاحب منصب وهي في المرحلة لثانوية وطُلّقت العام الماضي:

= الحقّ صديقتي أنا دائما أحبّ الحديث عن المستقبل. التفكير في الماضي يعيقنا عن تحقيق بعض مشاريعنا. الماضي انتهى والذي انتهى لا وجود له برأيي.

سألتني الطالبة (فرح راقي) وأظنّ أنّها قدّمت تصميما لروبوت ماكنة تنظيف:

- هل تفضّل أن تعيش مع أهلك بعد الزواج أم تستقلّ عنهم.

أجبتُ بضحكة:

- هذا السؤال يجب أن يوجّه إلى (أسيل)

فاندفعت بكلّ براءة:

-  أمّه سيدة عظيمة، وأنا مرتاحة لأخته وابنتها (جالا)!

وقام الطالب محمود نجم صاحب اختراع الحذاء الإلكتروني:

- آنسة (ما رأيك) بالكذب؟

كان السؤال مفاجئا وربما يوازي فكرة آمال، مع ذلك أجابت بهدوء:

-  أرى أنّ الكذب هو الحالة الوحيدة التي نجدها تمنحنا الحريّة أكثر من الحقائق الأخرى فهو يجعلنا نحلم ونحقّق ما نرغب فيه من دون رقيب ولا إكراه.

ساد صمت بعض لحظات، قطعته بصوتها الدافئ:

ربّما لأنني ضيفتكم لذلك وجّهتم أسئلتكم إليّ أشكركم فهذا يدلّ على أنّي كسبت أصدقاء جدد!

عندئذ انتبه البروفيسور (إلياس) إلى أنّ اللعبة (أسيل) ربّما تنتبه إلى شيء غير طبيعي حين تطول الندوة، ولعلّ أحدا يفاجئها دون أن يعلم بسؤال مثير يعيدها إلى عالم الإلكترونات البحت فأشار إليّ بيده، ونهض يثني على الآنسة خطيبتي ولطفها وعلى النّدوة التي كان بودهِ لو طالت لولا ازدحام برنامج التخرج، فانفض اللقاء المثير الذي أصبحت بعده معيدا في الجامعة.

***

القسم الثاني

مقابلتي مع الطبيب المختص (مجدي نعيم) أعادتني إلى زمن اللعبة من جديد...

بالحسابات التقليدية عقد كامل مرّ على انعقاد الندوة التي شغلت اهتمام الكثيرين من الباحثين، ووسائل الإعلام، وأثارت الفضول.

كنت قد أخفيت كلّ ما مرّ من سنوات عن (أسيل)!

حوادث جديدة انبثقت

اختراعات جديدة ظهرت

حروب

دول احتفت ونشأت دول جديدة

إنّه من السهل أن أوقف بالريموت كونترول الشحنة فأجعلها تنام إلى الأبد!

هل هناك من يسألني عن الضمير؟

بعض الأحيان أشعر بالأسف، والخيانة، أو يؤنبني ضميري بخاصة عندما أتذكّر جوابها عن الكذب. لا أخفي أنّي كذبت على الجانب الإلكتروني فيها. خلقت إنسانا عرف أمي وأختي وابنتها، عاش معهنّ، وتنفّس هواء البيت، إنسان مزدوج، مشاعر إنسانيّة، وشحنة إلكترونية تدور إلى ما لانهاية، لو قدرت لفصلت إنسانيته عن الإلكترون.

شخص مصطنع وبعض روح!

أمّا الآن فأنا بحاجة ماسّة إلى ذلك الإنسان من جديد!

مخلوق.. جعلته يدير شؤونه بنفسه، واضطررت لمصلحة في نفسي أن أكذب عليه. سألتني ونحن في الطريق إلى المنزل:

-  استفزّني سؤال الآنسة عن الماضي!

قاطعت:

- تقصدين (آمال)؟

- نعم سؤالها عن الزمن!

- أوّلا هي ليست آنسة. مطلّقة، ثانيا لم أفهم ما تقصدين بالاستفزاز!

- وجدت نفسي معك في هذه الدنيا، فجأة، هكذا... فجأة لا أعرف عن نفسي كيف وُلِدْتُ، وكيف قضيت طفولتي، كلّ ما أدركه أنّي خطيبتك وسعيدة معك!

تأكّدت من أَنّ قَلَقَا ًما يساورها شكّ، ورغبة في المعرفة، فشعرت ببعض السعادة وتأنيب الضمير، فلجأت إلى الكذب:

- هل تصدقينني إذا قلت لك إنّ أمّك قريبة لأمّي وأنّ بيتكم انهار بسبب زلزال، وعثر المنقذون عليك بين الأنقاض، ويبدو أنّك فقدت ذاكرتك التي تتعلّق بالماضي!

فشدّها ذهول ثقيل:

- الله.. فهمت الآن فهمت، وهل تحبّني حقّا؟

- لا تظنّي أنّها شفقة.

- ماذا تتوقّع هل تعود لي ذاكرتي من جديد؟

- ليس ببعيد!

وعندما وصلنا البيت ودخلنا غرفتي، رفعت وجهها نحوي، أغمضت عينيها، وهمست:

- ما دمت تحبني على الرغم من عوقي، قبلني ضمّني، اجعلني أحسّ بأنوثتي.

لففتها بين ذراعي ورغبة تدفعني لأن اكتشف مدى الإحساس الذي راودها كونها امرأة ناضجة، فوضعت فمي على فمها، كانت هناك حرارة تسري في شفتيها، حرارة ناعمة لكنّي كنت أقبّل قطعة دافئة من البلاستك الشبيه تماما بالجلد، مادة فيها حرارة تسري، فتسللت يدي إلى ظهرها وضغطت على الزرّ لتعود جثة هامدة من جديد.

فكرة لا أحتاجها عبرت بها الامتحان بدرجة امتياز...

هكذا اختصرت تجربتي الطريق ...

وخلال العقد الذي أعقب التجربة الرّاقية، تغيّر الوضع في بيتنا، جاء زوج أختي من الخارج، وبنى بيتا قريبا من بيتنا، تزوّجتُ بعد سنتين من تخرّجي... زوجتي (أورفي) مدرسة في المعهد الصحّي عاشت في وئام مع أمّي..

في السنة الخامسة توفيت والدتي...أمّا أبي فقد تلاشى من ذهني تماما. يقال: إنّ زوجته هجرته فبقي يلفّ الشوارع مثل شحاذ، ولو جاء إلى بيتنا لقبلته على مضض، وأظنّه يعرف موقفي منه، فلم يجرؤ على المجيء إليّ.

الحدث الوحيد الذي يقلقني هو زوجتي!

تزوّجتها عن حبّ، كانت تحمل الماجستير في علم البايولوجي، ولديها مختبر خاص تمارس فيه عملها الحرّ بعد الدوام، لا أنكر أن القدر نفسه يتدخّل بقوّة ليحدد علاقتنا بالآخرين، وبأقرب الناس إلينا. لا أنكر أنّي كذبت على خطيبتي (أسيل) أمّا هذه المرّة فكلّ شيء بات مبنيّا على الصراحة.

لم أخطط للزواج قط.

وتركت الأمر للمصادفة..

ففي كثير من الأحيان تحلّ المصادفة وحدها أصعب العقد.

وقد

تجلّتْ بشكلٍ جليٍّ يوم طلبني المعهد الصحّي في أن أرتب لهم البرامج، والكومبيوترات، استعانوا بالكليّة، فرشحتني يوم كنت معيدا، فذهبت إلى هناك ...

في المعهد قابلتها..

لا أؤمن بلفحة الحبّ الأولى، وأتذكّر خطيبتي (أسيل) التي تنام الآن بهدوء نومتها الأبدية وتجهل ما يحدث في العالم وفي بيتنا حيث وُلِدَتْ. التقت عيوننا، ابتسمت لي المدرسات والطالبات هناك. ابتسمت لي المديرة العجوز، أمّا ابتسامة (أورفي) فكانت مميّزة.

طعم خاص

رونق جديد.

حياة جديدة

وازداد ت ثقتي بالقدر ثانية ساعة سألتني أمام المديرة إن كنت أرضى أن أمرّ على مختبرها في مركز المدينة لأنظّم لها البرامج الإلكترونية، مقابل أيّ مبلغ، فاعتذرت عن الزيارة إن كان هناك أجر.

دفعتني اللهفة، وأحلام شفافة للذهاب، الوقت التاسعة مساء إذ لا يراجعها أحد من المرضى، استقبلتني بحرارة، وصرفت السكرتيرة، راودني إحساس أنّ نغمتها في هذه اللحظة، لحظة وجودنا معا، تصبح أكثر رقّة منها حينما تحدّثت معي أمام المديرة والأخريات.

تكررت الزيارة، وأخرى وثالثة.

كان يمكن أن أنهي العمل دفعة واحدة سوى أنّ هناك دافعا جعلني أتحايل.

في الليلة الثالثة الأخيرة، بدأت الكلام.

تجرّأت:

- أنا آسف، انتهى العمل، ولن أراك مرّة أخرى.

نظرت إليّ نظرة ذات دلالة:

-  تقدر أن تأتي متى تشاء.

مرّ يوم على زيارتي الأخيرة للمختبر، الحقّ شعرت بفراغ هائل، هو أكثر من الفراغ الذي شعرت ساعة جعلت اللعبة (أسيل) تدخل في سباتٍ تامٍّ يمتد إلى مالانهاية لتبقى في قبو البيت علامة من علامات ناجحة كثيرة عملتها في حياتي.

يوم

يومان ثلاثة

نسيت الدمية، سخرت من نفسي، من عواطفي حين تتعلق بلُعْبَةٍ صنعتها بيديّ، هل أكون عبدا أو عاشقا لشيء ما، مهما كان، هو في الأساس لتسري فيه الحياة بطريقة مصطنعة:

بها خدعت الآخرين فظنّوها حيّة

وكذبت عليها

بمرور أسبوع نسيت الدمية

الآن الوضع يختلف

أشعر بشيء ما ينقصني

طوال الخمس سنوات في الجامعة كانت مشاعري هادئة،

لا رغبة في الحب

شعور بالراحة

لأفكّر باختراعات طريفة أخرى

معنا في كليّة الهندسة فتيات بعضهن غير جميلات وأغلبهن في منتهى الأناقة، هناك من زملائي من أحبّ واختار زميلة، وقد يكون القدر أخّرني، مع أنّي أعدّ تجربتي السابقة.. تجربة الخطوبة، حبّا من طرف واحد.. من طرف (أسيل) التي ذقت معها أوّل قبلة في حياتي.

الآن الوضع اختلف تماما

لم أخطّط لحب اندفعت إليه بإرادتي على وفق خطوات غير مفتعلة!

رفعت سمّاعة الهاتف، فجاء صوتها الرقيق:

- ألو؟!

- ألو آنسة (أورفي)، كيف حالك؟

- بخير وأنت؟

- بخير (من دون مقدمات) هل تقبلين دعوتي للعشاء الليلة!

سمعت ضحكتها الخفيفة الرقيقة:

-  المفروض أن أتعشى مع أمّي وأخي، لكن إذا كنت مصرّا سأتصل بهم هاتفيا!

-  مصرّ لأنّي على ما يبدو أشتقت إليك!

قلتها بجرأة غير معهودة إذ ظننت التردد نفسه سيغلبني كما فعلت مع (أسيل)

-  لحظة..

غابت دقيقة، فخلتها انزعجت من صراحتي، وعادت ثانية إلى الخطّ:

- أشكرك جّدا أين ترغب أن أنتظرك؟

- سأمرّ بعد دقائق عليك لنذهب إلى مطعم السّفينة!

2

هناك على الماء التقينا

الفتاة الأولى الحيّة التي اندفعت للخروج معي

اللقاء الأوّل..

لقاء بعيد عن التكلّف غيّر حيّاتي بشكل آخر

كان الشط وأضواء السّفينة يتراقصان أمامنا ولا يحول بيننا وبين نفثات الماء إلّا زجاج النافذة. قالت:

- لا تؤاخذني هذه المرّة الأولى التي أخرج فيها مع رجل غريب، أنا أستاذه وصاحبة مختبر للتحاليل لكن لا أعرف.. هناك دافع جعلني أقبل دعوتك!

-  لن أسئ الظنّ بك قطّ.

- أنا أيضا.

قلت بهزة من رأسي..

- هل تحدّثينني عن نفسك؟!

عقبت بنظرة ذات دلالة:

- باختصار

- أكيد وإلّا لن نجد شيئا نقوله في اللقاءات القادمة.

بضحكة بريئة:

- هل هناك لقاءات قادمة؟ أنت واثق من نفسك.

- مثلما أنت واثقة من نفسك، إنّي في لهفة لسماع أي شيء.

- أكاد أعيش في سعادة تامة فليست هناك من منغصات سوى غياب أخي الذي هاجر إلى إسبانيا وانقطعت أخباره عنا. لا ندري هل هو حيّ أم ميت وما يزيدنا هَمّاَ ًمعاناة أمّي من غيابه!

مجاملا بأسف واضح:

-  إن شاء الله يعود!

- أنا أرثي لأمّي فكم تودّ لو تعرف أنّه حي لترتاح..

فتفاديت الموضوع:

-  إن شاء الله يعود (وغيّرت الموضوع) يمكن أن أسأل سؤالا جريئا، هل تنزعجين؟

- أبدا.

تردّدت قليلا:

- هل فكرت وأنت في الجامعة أن ترتبطي أو تُعجبي بزميل ما أو أيّا كان.

رفعت رأسها إليّ، وتابعت بنظرة ذات كبرياء:

-  أنا واثقة من نفسي. كان هدفي الوحيد الدراسة والماجستير، ربّما تجاهلت مشاعري، ثمّ لا تنس الحبّ والإعجاب يأتيان بغير علم وإنذار سابق.

ضحكت، ولو لم يكن في السفينة زبائن، لقهقهت:

-  مثل الحالة التي نحن عليها الآن؟

فأشاحت بوجهها خجلا:

- ألم أقل إنّك متفائل.

مع ذلك فقد كذبت عليك كذبة بيضاء.

كانت تخفض صوتها عندما وصل النادل يحمل بقية الطعام:

- كذبة واحدة فقط لا أكثر.. وإلا سأقول عنك كذّاب.

لا أريد أن أمرر عليها أمورا مثلما فعلتُهُ من أكاذيب مع خطيبتي، أريد أن أبدأ خطوتي معها بكلّ وضوح:

- الحق برمجة الكومبيوتر لن تأخذ منّي أكثر من ساعتين أو ثلاث غير أنّ هناك دافعا قويّا ألحّ عليّ أن أتلاعب بالزمن فأجعله مثل خيط المطاط يطول ويطول إلى يومين. رغبة في أن أراك!

-  ألم تخش أن يقطع؟

- هذا لو جعلته أطول. (التفتت إلى حبّة زيتون التقطتها بالشّوكة، وقالت، وهالة من السّرور تشعّ من وجهها):

-  حسنا حدّثني عن نفسك!

- مادام الأمر يهمّك يا عزيزتي، أنا أعيش مع أمّي المعلمة المتقاعدة في بيتنا الواسع، أبي طلّق أمّي وعمري 4 سنوات لذلك لا أحبّ أن أسمع سيرته. لا أكرهه، مع ذلك لا أحبّه.

أعارتني انتباها استثنائيّا:

- هل لي أن أعرف سبب الطلاق؟

- خيانة. امرأة أخرى، يبدو كان يشعر ببعض النقص لأنّ أمّي أغنى منه، أنا الآن مرتاح معها ومع وأختي وابنتها وسوف تغادرنا لتعيش في بيت قريب منّا مع زوجها الذي رآى أن يصفّي أعماله في الخارج ويؤسس مشروعا هنا.

وسكتُّ...

 لحظة صمت مرّت، فالتقطت قطعة لحم ورفعتها في الهواء أمام فمها، فنكست رأسها خجلا:

-  أرجوك نحن في مكان عام وهذا أوّل لقاء!

قلت ضاحكا:

- تعنين هناك لقاء آخر.. الآن ازددت ثقة واطمئنانا.

وصمتتْ، وصمتُّ، كانت عيناي وعيناها تلتقيان وتسرحان بعوالم شتى متراقصة الألوان كما هو الضوء الهابط على الشطّ الذي لا تفصلنا عنه سوى نافذة السّفينة!

3

ثمَّ

كان هناك أكثر من لقاء..

دائما أمرّ عليها بعد المغرب فنمشي على الكورنيش

نجلس في الحدائق

نثرثر

نتحدّث عن المستقبل

لا أخفي أنّي تعلّقت بها

تيقّنت تماما من شعورها

حتّى وجدنا أنّ لقاءاتنا لا بدّ أن تنتهي فطلبت من أختي مكالمتها ودعوتها للبيت، والحقّ أنّ أمّي ارتاحت لها، ووجدت أن (أورفي) سدّت الفراغ الذي تركته أختي بعد أن غادرت البيت لتعيش مع زوجها في بيتهما..

كانتا في منتهى الانسجام

وكنت في غاية النشوة

امرأة تحقّقت فيها جميع مواصفات الدمية (أسيل)

أو

كأنّها هي

أمّا الأمر الذي نغّص عليّ حياتي فقد تجلّى في عجز (أورفي) عن الإنجاب.

أمي ماتت ولم تحقق حلمها

ظلّت تحلم أن يكون لها حفيد جميل أو حفيدة مثل (جالا)

حتّى

اكتشفنا السبب عند زيارتنا لطبيب العائلة الدكتور (مجدي) الذي أكّد أن حالتي طبيعيّة وأنّ بويضات زوجتي سليمة غير أنّها تعاني من تشوّه في الرحم.

أعرف أنّ (أورفي) تنازلت كثيرا، عرضت عليّ فكرة الزواج خلال حياة والدتي، فأعرضت عن ذلك. أدرك أنّها تحبني بشكل مفرط، أمّا أنا فلا أرغب قطّ في أن اسبب لها أيّ الم.

حزن.

معاناة

مهما يكن، أراها تقول نعم، وأعماقها تغلي، أنا على يقين من ذلك. هناك في عيادة صديقي الدكتور (مجدي)خرجت بنتيجة قديمة جديدة. قال لي كأنّه يذكّرني باختراعي القديم:

- ما رأيك بطفل الأنابيب أو أن تؤجّر رحما؟

صمتت فترة، فقطع عليّ صمتا:

- هل اقتنعت أم تفكّر.

- تأجير رحم يعني أن تزرع حيامني وبويضة زوجتي في رحم امرأة أخرى؟

- بالضبط، والنتيجة مضمونة نقدر أن نختار حيامنا من حيامنك فنجعله خاليا من الأمراض وبعض الموروثات الجينيّة السلبيّة، ويمكنك أن تتفق مع سيدة وإن كانت عجوزا لئلا تثير غيرة زوجتك، هناك نساء يفعلن ذلك لوجه الله يحببن أن يرين السعادة على وجوه الآخرين وأخريات بحاجة للمال.

كدت أقفز من على الكرسيّ

كيف تجاهلت الدمية عقدا كاملا؟

تجاهلتها والعالم يغلي

أحداث عالمية

حوادث

أفراح

اغتيالات

ولادات

- لا هذا ولا ذاك البديل موجود هي مشروع تخرجي. الدمية الأنسان وهي الآن نائمة في القبو ما رأيك؟

استلهم الفكرة فاغرا فمه من الدهشة:

- ما دمتُ طبيبا يؤمن بالعلم أقول لا مانع!

- سآتيك بعد أن أبعث الدمية للحياة لتستوعب بويضة زوجتي وأرجوك ألا تذكر أمامها أنها دمية!

- لك ما تشاء.

4

كانت أمامي فرصة جديدة

عالم الإلكترونيات والتجميل تطوّر عما كان عليه قبل عشر سنوات، وعلاقة جامعتنا بالجامعات الصينية تطوّرت كثيرا، صرنا نقدر على خلق تفاصيل الجسم البشري من جديد، ونعيد صياغة الجلد واللحم بشكل أقرب ما يكون من الحقيقة، أقدر أيضا أن أمحو ما أشاء من الشريحة القديمة، وأضيف معلومات جديدة. البطاريّة نفسها على وفق المجهود العلمي الجديد يمكن أن تبقى نشطة لاثني عشر شهرا.

رحت أعمل في تحسين الجسد

وأشحن الشريحة بما أرغب

معلومات جديدة

إضافات، وحذف

أحاسيس

دنيا جديدة أماني

لم أخبر زوجتي بعد بل حدّثها الطبيب عن طفل الأنابيب واستئجار الرحم، كانت زوجتي في المختبر حين استفاقت الدمية، هذه المرة جعلتها خادمة في البيت، خلقت لها أما ولدتها في بيتنا. كانت حاملا بها من أب توفي قبل أن تولد. طبعت صورا للأب والأمّ المزعومين.. ولم أغفل عن اختلاق هويّة مصطنعة لا أحد يقدر على التفريق بينها وبطاقة التعريف لحقيقية.

ذكريات جميلة في البيت.

الأم والبنت عاشتا معنا

تبنيناها بعد وفاة والدتها..

وجعلتها تتعرّض لحادث سير أفقدها ذاكرتها التي عادت إليها بالتدريج، قلت لها نحن أنا وزوجتي لن نتركك، ستنالين أجرا مضاعفا منّا، ولك أجر في السماء جراء عملك الإنساني، زوجتي لا تقدر على الحمل.. تشوهات في الرّحم.. نستطيع أن نزرع الحيمن والبويضة فيك، هل تقبلين؟

تساءلت وهي ترمش ثمّ تتأمّل دون أن تحرّك جفنيها:

-  ألا تظنّ هذا حراما.

- أبدا ستصبحين زوجتي الثانية لكن أرجوك لا تذكري ذلك أمام (أورفي).

- لن أكون أقلّ كرما منك فأنت رعيتني طوال فترة غيبوبتي، ولم تتخلّ عنّي

ولكي أبعث فيها إحساسا أكثر بالأنوثة، بدأت أغازلها. قلت لها كم أنت جميلة، أنا معجب بك كثيرا، فنكست عينيها إلى الأرض، ولزمت الصمت، تضرّج وجهها بلون أشبه ما يكون بحمرة الخجل، وفي هذه الأثناء، سمعت مفتاح الباب الرئيسي يلف، فدخلت علينا (أورفي):

وقفت في الممر مستغربة لحظات وقالت وهي تخلع حذاءها:

- عندنا سيدة في البيت.؟

لا أخفي أني لم أخبرها.. أحببت أن أفاجأها، فقلت في غاية الانشراح:

- أقدّم لك أسيل ابنة المرحومة ( ) التي كانت عندنا في البيت؟

غمزت بعيني غمزة ذات دلالة، وتوجهت إلى الخادمة:

-  لو سمحت أسيل دقائق لأعود إليك.

فالتفتت إلى سيدة البيت:

- هل أعمل لك العشاء سيدتي؟

توارينا عنها في الغرفة، أغلقنا حلفنا الباب، بدت (أورفي) مستاءة جدا، فرمت حقيبتها على حافة الفراش، وقالت بعصبيّ’ ظاهرة:

- كيف لم تخبرني عمّا تخطّط له من قبل؟

-  يتيمة مسكينة لا أحد عندها غيري.

- ولو.. كان يجب أن أعرف.

- جميلة؟

ردّت بكبرياء:

- لا يهمني لا تكن سخيفا.

داعبت حنكها بسبّابتي والإبهام، وقرصت بخفة خدّها:

- هل تذكرين يوم حدثتك عن تخرّجي، والجامعة، والدمية.

هزت رأسها، ومازال بعض العبوس مرتسما على قسماتها:

- مالك تتكلّم بصوت خافت كأنّك خائف منها؟

- لأنّي لا أريد أن تعرف أنّها دميّة!

لحظة المفاجأة صدمت الطبيب نفسه، في بادئ الأمر شكّ، واستوعب الحالة بصورة سريعة.. من يصدّق أنّ نسيجا شبيها بلحم البشر يمشي في الشارع، ويدخل عيادة الطبيب، في غرفة خاصة مارسنا الحب، واستعان صديقي الدكتور بممرضة ثمّ انتقل إلى الدمية التي ظنّها بشرا. كانت تحمل كلّ مواصفات البشر، أفضل بدرجة بعيدة من الدمية الأولى خطيبتي (أسيل).

شيء واحد فقط بقي من سلفتها الأولى

الاسم وحده

هناك عشر سنوات تغيّر فيها كلّ شيء، كنت معيدا فأصبحت طبيبا، ودّعت حالة العزوبية، العالم كلّه تغيّر.. لست حالة شاذّة وحدي...

انتظرت زوجتي بفارغ الصبر

كنت أراقبها

أطلّ بعينيها...

وحالما خرج الطبيب من المختبر، ومعه|(أسيل)جرت إليها (أورفي) وقالت وهي تحتضنها وتقبلها كما لو كانت تعي أنّها ليست لعبة...

- وديعتي عندك.

صاح الطبيب مبارك لكم الحمل

وردت (أسيل) بابتسامة واسعة!

- سيدتي خادمتك.

- بل أختي

وخرجنا ثلاثتنا ونحن نحلم بالمولود الجديد.

7

فضلت (أورفي) أن يكون المولود البكر أنثى....

وعمل الطبيب جهده في أن يشطب من الحيمن والبويضة كلّ سلبيات الوراثة، وأمراض ترافق الجنين، وكنا متفقين على أن يكون المولود الثاني ذكرا...رحنا نتابع الأيام بلهفة وشوق حتّى تمنيت لو قدرت على أن أشق بطن (أسيل) فأرى شكل الطفلة التي انتظرتها طويلا....

وقد اندفعت معها بشكل جنوني ربما بعث الألم في نفس زوجتي...

عاملتها بصفتها أنثى حقيقية

لعلني أزعجها فيتأثر الجنين

أذهب إلى الغرفة أجلس معها ساعة قبل النوم، أو أدعوها للجلوس معنا في الصالة لنتابع التلفاز.. بعض الأحيان تأتي (أورفي) من المختبر مبكرة فنلف بالسيارة على المدينة ونتنزه على طول الكورنيش، ولم نخف. كنا نخرج للعمل، ونتركها وحدها (أورفي) تدرّس في المعهد بضع ساعات في الصباح ثمّ تعود إلى البيت، تعمل الطعام، وفي بعض الحالات تجد أورفي تعمله، كلما وجدت فرصة اتصلت بالبيت لأطمئن، تقول عبر الهاتف أنهما منسجمتان، تتحدثان في شؤون كثيرة، عن الرياضة والسياسة والزواج.

لا تأمرها

وتتناسى أن ضرّتها دمية.

أحيانا تترك (أسيل) تحدّثني قبل أن تغلق الهاتف.

وحين تكون (أورفي) على وشك المغادرة إلى مخترها. لا أحد يصدّق أنّي أفرح كثيرا إذ أعرف أنّ دخلها ذلك اليوم كان قليلا، تفرح أيضا، تقول لي بكلّ طيبة، إنّ الدخل الأقل يعني مرضى أقل، راتبنا نحن الإثنين يكفينا، ويزيد، فلم أفرح بنقود تأتيني من تعاملي مع الدم وأشياء قذرة أخرى. لا أدفعها للحديث عن خصوصيّة العمل وأسراره غير أنّها تخبرني عن وقائع بدافع الرغبة في الكلام أو مجرّد الإعلان عن آلة غريبة تثير الدهشة.

حدثتني عن سيدة متزوّجه اكتشفت أنّها تعاني من مرض السيلان...

لم تعد المريضة، ولا تدري (أورفي) كيف عالجت المريضة مشكلتها.

أنا نفسي وقعت في الخطيئة.

مجبرا كنت.

أقسم أنّي فعلت الخطيئة بدافع الحرص.

لو كنت خائنا لمارست الخيانة مع طالبة من طالباتي أو أيّة امرأة...

أمّا مع (أسيل) فالوضع مختلف تماما...

تحققت شكوكي في نفسي، ونقطة ضعفي ساعة غادرتنا (أورفي)، كانت (أسيل) قد تركت الصالة إلى غرفتها، بقيت في الصالة لحظات أتابع التلفاز...

وقتها

شعرت كأنّ شيئا ما ينقصني..

ابتسمت وأنا أستعيد كلمة (أورفي) أحبّك، ولن أحرمك من أن يصبح لك طفل.. تقدر أن تتزوّج...

أظنّها تظهر ما ليس في قلبها..

مسحت على شعرها، ونهضت إلى غرفة (أسيل)، طرقت الباب، فسمعت صوتها: أدخل...

وأردفت مباشرة:

- علام تطرق الباب؟ لم تضع بيننا حواجز؟

- هل أنت بحاجة إلى شيء ما؟

 نهضت من على السرير، ووقفت قبالتي:

- لقد خرجت!! هل تجلس معي؟

قرأت سحنة حزن.. أو دلال بعينيها...

مثلما هو قلق قرأته على وجه خطيبتي الأولى

أو

على (أسيل) التي أجريت عليها بعد عشر سنوات عمليّات تجميل

تشبهُ

إلى حدٍّ ما شدّ الوجه ونفخ الشّفاه....

بدهشة أقول:

- ما بك؟ من أجل الجنين وصحتك أرجوك.

بحسرة طويلة:

- من حقّي عليك ألّا تهملني!

- تعرفين أنّي مشغول جدّا!

باعتراض وهزّة رأس:

-  لكنك تقضي معها وقتا أطول (وأردفت)محتدّة تنام هناك تسهران. أمّا أنا...

ببعض الحدّة:

-  أوّلا هذه طبيعة حياتي، ثانيا يجب عليك أن تذكري اسمها (أورفي) (ذكرت الجنين المزروع فيها، وخشيت من أن تنتقل حدّة انفعالها إلى التأثير سلبا فيه) يا عزيزتي لا تهوّلي الأمر أعدك...

مقاطعة بدلال:

- يعني تحبّني؟ تحبّ أمّ بنتك؟

- طبعا هل تشكين؟

اقتربت منّي تطوِّق عنقي بيديها:

قبلني.. خذ شفتيّ

لا أخفي

كانت هناك رغبة جامحة تدفعني لأن أكرر التجربة ثانية..

لا أتصوّرها خيانة.

لا أحبّ أن أجد أسبابا ومسوِّغات.

بعض الرغبة تدفعني أن أعدّها إنسانا ذات أحاسيس.

مهما يكن فهي أمّ ابنتي..

هويت بشفتيّ على شفتيها...فأحسست بحرارة البلاستك اللين الممتزج بخلايا وأنسجة تكاد تشبه جلد الإنسان.

أو

أظنها بشرا تاما مادامت تحمل جنينا منّي

في المرّة الأولى رفعت شفتي خطيبتي بعد لحظت.. لقد تركت في هذه اللحظة القبلة تستمرّ

وتستمر

وعندما رفعت شفتي وجدت جسها يرتجف...بدت مأخوذة بنشوة غامرة، فدفعتها برفق إلى الفراش...

استلقت على ظهرها. وأغمضت عينيها..

فمددت يدي إلى جيبي، وضغطت على زر الريموت كونترول....

8

لا أبالغ

المولودة رائعة جدا...

في صورة ملاك

في بياض أمي، وجهها مدوّر مثل وجه (أورفي)، في الأشهر الأولى فضّلت أن تتمتع زوجتي بإجازة من عملها في المعهد الصحيّ، فتبقى فترة الصباح مع طفلتنا (نور) سميتها نور على اسم أمي ثمّ بعد أن أصل إلى البيت بعد الظهر تغادر إلى مختبرها.

كانت في غاية السّعادة، تراقب (أسيل) مراقبة حذرة، ولعلّها رأت بعض التأفف، قلت لها إنّ الدمية ترى نفسها الآن أمّا، أشبه بالزوجة الثانية. رحت أضحك حين كررت العبارة.. هل تغارين إذا قبلتها؟ الحديث جرى همسا في غرفة النوم، خشية من أن تسمع، فيراودها-  حسب هواجسي-  إحباط ما. والحقّ لم يكن هناك ما أخشاه على الطفلة يوم كانت بداخلها لكنْ صعب عليّ أن لأجرح مشاعرها ولو كانت من مادة بلاستيكيّة وأنسجة تشبه الآدميّ. لأنني نفسي غذيّتها بمشاعر آدميّة هي أحاسيس، هي من عينات لتساء مختلفات.

كنت أعدها بشرا

بشرا صنعته بيديّ

أمّ ابتتي.

إبداعي

حين تغادر أورفي، ونصبح وحدنا، أشعر أنّ هناك جانبا من شخصيّتي يتجسدّ في (أسيل)

روحي

بعض أخلاقي...

وأراها في الوقت نفسه، تؤدّي دورها مثل أمّ حقيقيّة وأفضل!

تبدل حفّاظة (نور)

تشطفها

تضع الحليب في الرّضّاعة.

تخضّها

ثمّ تدسها في فمها

وحالما تنهي الصغيرة وجبتها، تنحني عليها فتضمّها إلى صدرها تجعل رأسها على كتفها حتّى تتجشّأَ، فتطبطب على ظهرها وتغنّي بنغم عذب:

أرقدي بسلام صغيري

تحفظك الملائكة الجميلة

وعندما تستيقظين سأقدّم لك لعبة جميلة

أعجبتني الأغنيّة، وقد نسيت نفسي، فقلت وعقلي في تلك اللحظة مشتت بين أغنية (أسيل) وأغنية غنتها لي أمّي:

-  ماما ستأتي ما

بعد قليل تأتي ما

معها لعبة جميلة!

فنظرت إليّ بشزرٍ أو نظرة عتاب قاسية:

- أنا ما كيف تأتي ماما ألست معها؟

- أنا آسف يا عزيزتي هي مجرّد أغنية سمعتها من أمّي!

فوضعت (نور) التي غطّت في النوم بعد أن تجشأت وجست جنبي:

- ما بك هل زعلت؟

- لا لا تفكّري بذلك!

- هل تحبني؟

- بلا شكّ أنت أمّ ابتني!

- لكنك منذ مدّة لم تقترب منّي.. لم تلمسني أو تقبلني؟

- لك الحقّ أعدك!

ووجهت لي نظرة حزينة:

- هل تتخلّى عنّي؟

في هذه اللحظة راحت تلعب في ذهني خاطرة قديمة جديدة سوف أعيدها إلى السبات الأبدي، فأمسح من ذاكرتها ما أشاء، وأثبت ما أشاء، ونجعلها أمّا بعد سنتين أو سنتين، لطفل جميل نسمّيه (وجدان) باسم أخ زوجتي المفقود في إسبانيا. وعندما، جاءت (أورفي) من المختبر اخبرتها أنّ الدمية طلبت منّي أن أقبّلها كتمت ضحكة عميقة، وهزّت كتفيها وعي تقول:

- تظنّ نفسها حقّا زوجة ثانية.

كنت عادة أضغط على زر الريموت فأجعلها ترقد فترة الليل، وحين نسمع صوت الصغيرة تنهض (أورفي) فتغيّر الحفّاظة أو ترضعها،، وعندما يأتي فجرا آخر، نبدأ حياة جديدة وكأنّ شيئا لم يكن.

لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

تلك الليلة رقدت ولم أنتبه إلى أني لم أضغط على زر الروموت، رافقت (أسيل) إلى الفراش، ويبدو أنّي نسيت أن ألمس الزر بما يكفي، أو لعلني بالخطأ ضغطت مرّة أخرى...

رقدت

أو

دخلت في سبات بانتظار الفجر

ولم يكن هو كذلك

بل

تظاهرت بالنوم، ولو رآها أي مخلوق لظنها راقدة بهدوء لا فرق بينها وبين الآدميّ النائم سوى الأنفاس!

لم أدر أنّها ممثلة عظيمة

وأنّ هناك جانبا من الشرّ عجزت عن أن أمنعه عنها..

في الصباح حين استيقظت (أورفي) لتطمئن على (نور) ...سمعت صرختها من الغرفة المجاورة، فهرعت. لم أكن أصدق

كأنني في خواء

أمام كارثة

أورفي محمرة العينين، تضرب بيديها على خدها وتلطم وجها وهي تصرخ.. نور ..أسيل

كانت الغرفة خالية من الإثنين

فتّشنا في كلّ مكان

في البيت

الحمام

الحديقة

وتيقنت أن الدمية خطفت ابنتنا

كانت البطارية التي تحركها وتغذيها من الصناعة الحديثة التي تدوم مدّة سنة، ولم أجرؤ على أن أضغط على الزر لئلا تكون في مكان قريب منا فتتوقف فجأة وتسقط نور من بين يديها!

وفي لحظة الفزع

والقلق

والخوف

دفعنا أمل ما

أمل ضئيل إلى أن نحرج من البيت نصيح في الشوارع: أسيل نور أين أنتما...نور...

***

د. قصي الشيخ عسكر - روائي

 

جفاني الحبُّ والمسرى جفاني

وقد ودّعتُ عمرًا في الأماني

*

أُناجيها وأبصرُها اضطرارًا

وأتبعُها فتتركني مكاني

*

وهذا حاليَ ما اتسعت دروب

فما من دائِها طبٌّ شفاني

*

أُصارعُ في خريفِ العمرِ ظِلّي

ويغزلُ من شظايا القلبِ ثاني

*

فلا الأقدارُ تُنصفُني بوصْلٍ

ولا الأيامُ تَرحمُ ما دهاني

*

أجوبُ الليلَ في حُزنٍ عميقٍ

كأنَّ الليلَ من حزني رآني

*

أُعلِّقُ في المدى نجوى اشتياقي

وأرجو أن تعاودني الأماني

*

فإنْ مِتُّ اشتياقًا، لا تنوحوا

على حبٍّ هوى دون احتضانِ

*

أسافر بينَ أشرعةِ اغترابٍ

وفي عينيَّ أطيافُ الزمانِ

*

كأنَّ الليلَ يهمسُ لي حكايا

فأبقى أسكبُ الدمعَ الُمدانِ

*

أرى في الصبح أنوارَ الأمانِ

وفي الآمال ألحانَ الحنانِ

*

ولكنّي إذا طالَ اشتياقي

أرى وصلاً سرابًا في المعاني

*

فلا خِلٌّ يُزيلُ جراحَ قلبي

ولا نبضٌ يُعيدُ إلى كياني

*

إذا مِتُّ اشتياقًا لا تُلمني

فكم غصنا ذوى قبل الأوانِ

***

د. جاسم الخالدي

 

كانت عيادة الطبيب غاصة بالمرضى. كل ينتظر دوره. كانت هناك حالة من الصمت التي خيمت على المكان. لا تسمع سوى صوت التلفاز المعلق أعلى الحائط كأنه رقيب على حركة كل واحد منهم. في الجانب الأيسر من قاعة الانتظار، كان رجلان، منسجمين في حديث طويل. لا يعيران أي اهتمام لأي حركة داخل القاعة. كانا ينتظران أيضا دورهما.

كانا يلبسان لباسا تقليديا. يبتسمان تارة وتارة يصمتان. أحيانا ترى أيديهما في صراع مع الكلمات كأنهما في مرافعة وكان كل واحد منهما يريد أن ينتصر.

قال الأول صاحب الجلباب الطويل وداكن اللون ورفيع الجسد وحاد النظرات:

-لقد أصبحت المعيشة لا تطاق. لا يستحمل ما نعيشه اليوم.

ابتسم الثاني، قصير القامة، بجلبابه الفضفاض وطيب الملامح:

-صحيح، في السابق، كنت أستطيع أن أشتري الخضر واللحم بمائة درهم.

أجابه الرجل الأول وهو يضرب كفا بكف:

- تقاعدي لم يعد يكفيني حتى لمسائلي الشخصية. حتى تكلفة زيارة هذا الطبيب لم أستطع دفعها. لولا مساعدة ابني المسكين الذي يشتغل في احدى المصانع.

ابتسم الرجل الثاني وقال له:

- ولدك طيب معك. الله يخليه لك.

استوطن الصمت المكان. نظرات غامضة وغير راضية لا على الانتظار الذي طال ولا على وضعيتهما.

ثم أردف الرجل الثاني وقال له:

- أتدري كم وجدت ثمن زيت الزيتون اليوم؟ لا تصدق.

- - كم؟

- مائة وعشرون درهما. انه الجنون. يظلون يغنون في الإذاعة والتلفاز بأهمية الزيت البلدي وضرورة استهلاكه. كيف يمكن ذلك اليوم؟

وتجهم وجهه بعدما كان شعلة من الفرح والرضا. ونظر الى الأرض كأنه يبحث عن شيء فقده.

سأل الرجل الأول السيدة التي في الاستقبال عن دوره. أجابته بانه سينتظر قليلا.

فرك يديه ومسح وجهه ولحيته واستغفر الله. ثم قال للرجل الثاني:

- لم أعد أستطيع شراء زيت الزيتون. انه غالي جدا والمسكين في هاذ البلاد يضيع.

- إذا رغبت نشترك في لتر واحد ونتقاسمه بيننا حتى لا نحرم منه.

ضحك الرجل الأول واقترب منه كأنه سيفشي سرا:

- الحصول على نصف لتر كأنك لم تحصل على شيء. خليها على الله.

وأضاف:

- حتى ثمن اللحم في ارتفاع. هل نقتسم اللحم أيضا؟

- ستفرج من عنده. همس اليه الرجل الثاني وصمتا في انتظار عودة الفرج.

التفت اليه وسأله بصوت غير مسموع:

- أخذنا الحديث ولم أسألك عن سبب مجيئك عند الطبيب؟

ابتسم وعادت علامات الرضى وقال له:

- آلام في المفاصل عند كل حركة. أصبحت شبه عاجز.

ضحك الرجل الأول وقال له:

- السن يا أخي لا يرحم. يجب فقط أن نهتم جيدا بصحتنا.

وسأله الرجل الثاني نفس السؤال:

- وأنت؟ ما سبب زيارتك للطبيب؟

- آلام في ظهري.

وعلا صوتهما وأطلقا العنان لضحكات مجلجلة، وابتسم كل الحاضرين بالقاعة.

دخلت سيدة تدفع رجلا على كرسي متحرك. واقتربت من السيدة المسئولة عن الاستقبال وقالت لها:

- هل حان وقت دخوله عند الطبيب؟

- انتظري قليلا، سيدخل الآن.

لم يفهما الرجلين ما يحدث.. كيف يدخل هذا الرجل حين وصوله دون أن ينتظر دوره.

استفسر الرجل الأول عن الأمر، شرحت له أن الطبيب يستقبله فور وصوله بسبب وضعه الصحي. لم يعجبه جوابها. طلبت منه أن يصبر، سيدخل بعده مباشرة.

عاد وجلس الى جانب صديقه. وهو يتمتم:

- أينما ذهبت يجب ان تنتظر. وضعه الصحي؟ أنا أيضا حالتي الصحية لا تستحمل الانتظار.

طبطب على كتفه الرجل الثاني وهو يبتسم بشكل خجول:

- لا عليك. الصبر مفتاح الفرج.

- حياتي كلها صبر. أينما ذهبت لا أسمع سوى الصبر. أريد فقط أن نتعامل بعدل.

ظل الرجل الأول مطأطأ رأسه، يحرك رجليه في كل اتجاه كأنه تائه. قال له الرجل الثاني:

- الانفعال سيضر بصحتك. وأنت لا تتوفر على ثمن زيارة طبيب آخر.

رمقه بنظرة حزينة ثم انفجر ضاحكا كأنه سمع نكتة. وأجابه وهو يحاول أن يعدل من جلسته:

- كلامك صحيح يا رجل ومن الهم ما يضحك.

أسند ظهره على الحائط وأغمض عينيه وبقي الرجل الأول يراقب ما يحدث أمامه من حديث يتطاير في فضاء غرفة الانتظار. فجأة، فتح الرجل الثاني عينيه، وقال له:

- هل سمعت بالفضيحة التي وقعت أمس بالمستشفى المركزي؟

علامات الاستفهام تستوطن ملامحه وقال له:

- لا أعلم. ليس لدي أصدقاء، حتى المقهى لم أعد أرتادها لأنني لا أملك ثمن كأس القهوة.

- اسمع يا سيدي، يوجد طبيب جراح لا يقبل ان يقوم بالعمليات الا بمقابل من عند المريض.

- هذا ممنوع. لأنه مستشفى عمومي.

ضحك الرجل الثاني، وطلب منه أن يسمع بقية الحكاية:

- دفع المريض المبلغ المالي لكنه وثق العملية كلها دون أن يدري الطبيب.

ابتسم الرجل الأول وقال له:

- رجل شجاع. لو أن كلنا نتحرك هكذا لما انتشر الفساد وتغير حالنا.

- صحيح، كشف امر الطبيب. وجاء مكانه طبيب آخر. وفرح الرجل لكن وجد أمامه عراقيل أخرى لم يكن ينتظرها. منها يجب عليه الانتظار من جديد حتى يحين موعد العملية.

وظل الرجل الأول صامتا، فارغا فاه. وقال:

- هل هذا انتقام منه؟

- فسر كما تشاء ولن تفهم شيئا.

ثم أضاف:

- هل سمعت بمصيبة مثل هذه؟ يعني محكوم علينا الانتظار.

وتاه بنظراته ثم تابع:

- لدي حلم، رقيق وأخاف عليه من هبة النسيم. أخاف أن حكيت عنه يتبدد ويختفي.

ابتسم الرجل الأول ووضع يده في جيبه وقال له:

- ما هو هذا الحلم الغريب؟

- أحلم بحياة أخرى كلها عدل ومحبة. بحياة لا يكون الانتظار هو قدري، بحياة يكفيني معاشي ..

- لا تحلم كثيرا يا صديقي.

وخرجت ساعتها السيدة المكلفة بالاستقبال من عند الطبيب وقالت للباقين في قاعة الانتظار:

- معذرة، الطبيب جاءته مكالمة مفاجئة، سيضطر للخروج الآن وسيعود بعد ساعة.

قام الرجل الأول وتبعه صديقه والغضب يتطاير من عينيهما قال لها الأول:

- حرام عليك، منذ الساعات الأولى من الصباح، ونحن ننتظر..

وقال لها الثاني:

- حرام على الطبيب، كان عليه أن ينتظر مثلنا ويستقبلنا ثم يذهب الى موعده. هل الانتظار مكتوب علينا نحن فقط؟

ثم اقترب منه الرجل الأول وقال له بكل سخرية:

- بالفعل، حلمك ضعيف جدا، ولا يستطيع ان يعيش للحظات.

وانطلق كالسهم الى داخل غرفة الفحص، وجد الطبيب يستعد للخروج. كلام كثير من الطرفين يتطاير في الفضاء.

تبعته السيدة المكلفة بالاستقبال، محاولة تهدئة الوضع واخراج الرجل. لكن هيجانه جعله أكثر قوة ودفع كلاما ناريا يعاتب الطبيب. حاول الرجل الثاني، التدخل لإطفاء نار الحريق التي اشتعلت بين الاثنين، صرخ الرجل الأول بكل قوته موجها كلامه الى الطبيب:

- لو أنك صبرت مثلنا بعض الدقائق، واستقبلتنا. لما حصل كل هذا.

ظل الرجل الثاني صامتا. كأن الاحداث تتابعت بسرعة شديدة ولم يستطع استيعاب ما يحصل. اتكأ على الحائط القريب منه في غرفة الطبيب وأسند رأسه وأغمض عينيه وشعر بتعب شديد مفاجئ ثم سقط أرضا.

حاول الطبيب اسعافه. سيطر على الرجل الأول هلع وقلق، كيف حدث كل هذا؟ يتساءل ونظراته فارغة وحزينة، يتمنى أن يعود صديقه الى الحياة. انتظار ثقيل كالجبل.

خرج الطبيب من غرفة الفحص وملامحه لا تبشر بخير. قال له:

- لقد قدمت له كل الإسعافات الضرورية. ما علينا الآن سوى الانتظار.

توجه اليه بنظرات حادة تحمل تعب وآلام سنين وقال له:

- لو أنك صبرت مثلنا لبضع دقائق، واستقبلتنا، لما حصل كل هذا.

***

أمينة شرادي

 

في رثاء أمي الحبيبة (مُلْك محمد عبد العزيز)

التي وافاها الأجل في 26 / 12 / 2024

***

أُمَّــــــاهُ أخشى أنْ أقولَ كــلاما

لا يَرْوي حُزْني...أو يُزيحُ رُكَـــاما

*

تَخشى حروفي إنْ رَثَتْكِ بِدَمْعِهَا

يوماً تجِفُّ.. وتنضَبُ اسْتِــلْهَــاما

*

أُمَّـــــاهُ.. أظْمَـــأَ مُقْلَتَـايَ فِرَاقُــكِ

وحَشَا بِبَـــرْدِ المُوجِعَاتِ عِظَـاما

*

وكَسَـاني وُحْشَتَــهُ بثوبٍ مُظٰلِمٍ

لأَرَى نَهَــــارَ السَّـــائِغاتِ ظَــلاما

*

بتُرابِ قَبْــركِ قد تَعَفَّــرَ مِزْهَــري

وبِــَـهِ توجَّــــهَ للصلاةِ وقــــــاما

*

وتَـلَا دِمَاءَهُ في مقامكِ فارْتَوَتْ

أزهــــــــــار مَتْـنِهِ وانْتَشَتْ آلاما

*

في ظِلِّكِ ابْتَسَمَتْ ملائكةُ الهوى

لـي واحْتَـــــوَتْني بثوبِها إنْعَــاما

*

أوْقَفْتُ عُمْــري في رِضَاكِ وإنَّني

أرثيكِ يا(مُلْكَ) الفؤادِ خِتَــــــاما

*

أمزانها سَــــالتْ بِعَلْقَـــمِ نَأْيُــــكِ

هَجْسًـــــا بوادي الناظمينَ أقاما

*

عَجَـلَاتهُ مَرَّتْ على صَحْــــرَائِهِمٰ

نَصَبَتْ عليها مَنـــارةً وخِيـــــاما

*

ها قد عَرَفْتي المــــوتَ قَبٰلنا إنَّنا

نَـــدْريهِ إلا أنْ يكــونُ لِـــَـــــزاما

*

والله قـــدَّرَ أن يكـون رَحِيـــــلُكِ

يوم (الخميسِ) مَساؤهُ إعــــلاما

*

ناجَيْتُ باسْمِكِ مَنْ بِرَحْمَتِــهِ التي

وَسِعَتْ يجيبُ.. ويَسْتَجيبُ إذا مَا...

*

صــــــلَّى عليكِ اللهُ مِنْ سَبْعٍ وما

في الأرضِ سَبَّحَ للجليلِ وهَــــاما

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

على كتفه

حطت عصفورة

الريش الزغب

داعب وجهه فالتهب

إستغرق ضاحكا

همست كلمات

في إذنيه

على وجهه انكب

فعلا نشيجه

وبكى ..

اخبرته :

سيقتل ضحى

عند إعتلاء الشمس

صهوة البحر

وبضوءها يكفن

وستلثم الشمس

جراحه العشرة

فتزهر بكل جرح

قرنفلة حمراء

بعدد سنوات عمره

وفي الليلة الأولى

ستضاء السماء له

بنجوم عشرة

ويجف دمه

في كل جراحه العشرة

بعدد سنوات عمره

***

صالح البياتي

في حينا الفقير

دشن وزير الثقافة مركزا

يعنى بقضايا الشعر والشعراء

تعالج فيه القصائد الرديئة

في مدح الزعيم الأوحد

الذي ينام قرير العين

*

وعندما يعتلي الشاعر الكبير المنصة

ويتلو على اتباعه ومريده

ملحمته الهوميرية

وتراجيديات الروم والاغريق

ومعارك الحرب والسلام

على ارض الفرس والهند والسند

ويبكي اطلال حضارات سادت ثم بادت

تجدني اركن في الصف الخلفي

ثم اغط في سبات عميق

واحلم بيوتيوبيا الشعراء الصعاليك

حتى يدوسني حصان طراودة

واكتب اليادة  جديدة عن الحريم والعبيد

هنالك في باحة قصر السيد الزعيم

طائر سجين يلعب على وتر الحرية

ويسخر من فزاعة مكبلة

في حديقة الاميرة المدللة

وبصوت حزين تغني الجارية:

لا تنامي ايتها العتمة

حتى يستيقظ الليل

وتنط الضفادع

على ضفة نهر هادىء

تحت ضوء القمر

*

الشاعر الذي يهز سرير الزعيم

حتى ينام في مهده

فهو شاعر ثقيل الظل

يضع على ظهره

سرج متعب ولجام مزعج ومشنقة

يخاطب الكراسي الفارغة

في بيوت الشعر المكتظة

بالجنود والضباط الكسلاء

وينتحل هوية مرشد عسكري شاعر

ورؤساء تحرير الصفحات الثقافية

في جرائد الزعيم الأوحد

***

بن يونس ماجن

 

من حدود العتمة

تبدأ مسيرة ضوء

تخطو في المدى

خطوات وئيدة

سارح في السموات…

في زوايا الكون

غيوم الأفكار

شاردة…

تدفع بها رياح القلق

يفكر…

بذلك الألم

بذلك الأمل

ذروة شكوك

مزدحمة…

فراغ قاتل…

لا مكان للنسيان

ذكريات أليفة

نوافذها مفتوحة

نسائم الحنين

تعبر جدران المنازل المهدمة

تتلاطم ستائر الشوق

تقيم ساعات الأمس

في انتظار

لا يدركه الملل

شاخص الى زرقة السماء

يرمقها بعيون

مشبعة بالأحلام

حتى ينكشف السر

عن إيقاع ضوء آت

من الأعالي

من داخل النفوس

لتزهر اشجار ايامنا

آيات بينات…

***

عباس علي مراد

منذ تخرّج أبو الجعافر من السجن وحلف بالطلاق على زوجته مُسبّبة ايداعه السجن.. منذ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وربّما ثلاث ساعات، فهو لا ينسى ذلك الوقت الفاصل في حياته وفي علاقته بزوجته تحديدًا.. منذ ذلك الوقت وهو يفكّر في تلك المرأة التي تحدّثت إليه صديقته الختيارة عنها وعن اهتمامها به وبأخباره أثناء فترة سجنه. لقد علّمه السجن الكثير الكثير فبات بأدواء النساء خبيرا. هو يعرف أنه إذا ما عرف مفتاح المرأة، أي امرأة، تمكّن من فتح بابها المغلق ودخل إلى رحابه دون شور ولا دستور. وضع خريج السجون الهُمام يديه وراء رأسه على شكل مثلثين أو هرمين مُتحفّزين للانقضاض على واحة في صحراء.. واسعة مترامية الأطراف وراح يفكّر في مِفتاح تلك المرأة. فكيف سيصل إلى بابها حقيقة وكيف سيتمكن من فتحه؟ وماذا عليه أن يفعل كي يقوم بهكذا مهمة دون كبير عناء أو عظيم جهد؟.. ماذا بإمكانه أن يفعل في هذا الصباح الشتوي المُزغرد المغنّي... لينعم بالدفء الغامر والراحة الخالصة؟..

"لكل امرأة مفتاحها"، قال في دخيلة نفسه فأي المفاتيح يمكن أن يفتح باب تلك المهتمة به وبأخباره؟.. لقد طرق بابها الموارب قبل أيام فانفتح من تلقاء ذاته، وهو لا ينكر أنه نَعِمَ بالقرب منها ومما نشرته من ورود جورية في بستانها المترف، غير أنه سرعان ما اكتشف أنها إنما تلعب معه لعبة القط والفار، فكلّما اقترب ابتعدت وكلّما ابتعد اقتربت. تحرّك في مسترخاه، "أنا يجب أن افعل شيئًا.. لست عاجزًا وسوف أصل إليها". وكان أول ما فكّر فيه هو أن يقوم بالتوجّه إلى البرية المحاذية لبلدته ليلتقط لها إضمامة ساحرة باهرة من أزهارها البرّية، غير أنه ما إن تذكّر أن تلك.. كانت الطريقة التي اوصلته إلى زوجته.. المُتسبّبة في سجنه حتى هتف لنفسه "كلا انا لا يمكن أن أسلك في الطريق الخطأ مرتين وألا الذغ من جحر واحد مرتين.

فتح عينيه وأغمضهما.. استسلم لنوع ما من الوسن. ورأى بأم حلمه نفسه في حديقة حافلة بالورود والأمواه والوجه الحسن. كان وجهها.. وجه تلك الفاتنة صاحبة اللعبّة المُضنية، لعبة القط والفار، يُطلّ عليه من كل زاوية وركن. عندما فتح عينيه عاوده تفكيره الملحّ بها. وكان يشعر بأنه أشبه ما يكون بعدًا عنها.. بُعد الألف ميل وما عليه الآن إلا أن يضع الخطوة الأولى على جبهة الميل الأول.

أطلّت الحيرة من عينيه اللامعتين. وفي لحظة مُغافلة للوقت والزمن لاحت له صورة تلك الختيارة التي أخبرته باهتمام تلك المحبوبة المستعصية عليه، إبّان مكوثه في السجن. ترى هل سيجد الحل لدى تلك الختيارة.. بعد ان تعقدت اموره وسُدّت في وجهه كل الطرق.

هكذا امتطى أبو الجعافر رجليه وانطلق باتجاه تلك الختيارة. لم يكن الطريق طويلًا وإن خُيّل إليه أنه كذلك. تسلّل على أطراف قدميه ليدخل إلى غرفتها الوحيدة وتعمّد مُفاجأتها، غير أن ما تبيّن له، بعد تجاوزه باب تلك الغرفة واقترابه من وسطها، أنها ليست هناك. جلس الضيف الحبّوب على حافة سرير مُضيفته ومثيرة أفكاره الغائبة. استرخى على السرير الوحيد في الغرفة. كان سرير ختيارته مريحًا إلى اقصى حدّ. فاستسلم إلى ملك الكرى.. ونام، ولم يستيقظ إلا على يد تُمسّد جبينه، وتسوّى خصلات شعره بحيث تُبعدها عن وجهه وجبينه الشاب. تحكّم فيه استولى عليه أمير الغرام، ولم يعد يميّز بين واقع وحلم، فواصل استسلامه لليد الحنون المُحبّة الحانية. وعندما فتح عينيه هذه المرة، رأى وجه محبوبته العاصية المُستعصية. شعور دافئ افترش وجهه.. وحلم ورديّ سرى في جسده المُلتهب غرامًا شوقًا وتوقًا. فانصاع لمشاعره الفياضة تلك.. وتابع حلمه متداخلًا فيه.. ولم يُخرجه من حلمه هذا سوى يد تلك الختيارة اللطيفة.. كان ذلك عندما هزّته هائبة به أن يفيق.

اقتعد الضيف المُفاجئ طرف سرير ختيارته وفاتحة أبواب أشواقه وآلامه في الآن ذاته، وراح يتحدّث إليها باكيًا شاكيا ما لاقاه من الآم صدّ وحرمان تكاد تكون أقسى مما عاناه في أيام سجنه وليليها المعتمات. تحدّث عمّا اختزنه من مشاعر طيبة، وغالى في التعبير عمّا يجيش بنفسه من مشاعر ترافقها الام عظام. فمدّت ختيارته يدها إلى جبينه بحنوّ لا حدود له، الامر الذي أنساه معاناته، مع تلك اللاعبة الماهرة في ميادين المحبّة.. قُربًا وبُعدًا. اخذته يدها من نفسه، حتى أنه بات يعتقد أن تلك الختيارة استعارت صورة تلك المحبوبة العاصية المستعصية عليه. فقرّر ان يخوض غمار اللعبة الغرامية حتى ذراها السامقة العالية. أرسل ابتسامة حنونًا تعلّم إرسالها أيام الغرام الأولى مع زوجته الناكرة، فبادلته مُجالسته النظرة الموازية. ما جعله يسألها عن نوع العطور الساحرة التي يتنسّمها مع هبّات الهواء الرخية الهابّة في الغرفة. ما إن سمعت ختيارته إطراءه هذا حتى توجّهت إلى عُلبة خشبيّة عتيقة ذات زجاج بلوريّ من تحت سريرها.. تناولت منها قارورة طيب.. ورشّت منه بعضًا من رذاذها على جسدها.. منتقلة بيدها الحانية لترشّ منها على جسده غامرة إياه من راسه الى اساسه. عبقت الغرفة بالرائحة الذكية المشتهاة منتشرة في الآفاق والأجواء. فما كان منه.. هو ضحية زوجته الناكرة المتنكرة.. خريج السجن المُظلم الظالم، إلا أن لمعت في خاطرة سانحة ما لبث أن شرع في تنفيذها.

أمسك أبو الجعافر بيد ختيارته وانطلق مندفعًا نحو باب غرفتها المعتّق العتيق. ضمن محاولة للانطلاق في الفضاء الرحب، تمنّعت صاحبة اليد عليه قليلًا غير أنها ما لبثت أن انصاعت له وللرائحة الذكية المنتشرة في الأجواء. انطلق الاثنان باتجاه تلك المرأة المحبوبة المستعصية، بُعدًا وقُربًا.. انطلق وفي نفسه رغبة جامحة في أن يُفجّر ما يشعر به بين المرأتين.. الصبيّة المُستعصية.. والختيارة المُرتضية..

انطلق الاثنان في الشارع الطويل، وما لبثا أن توقّفا قرب فيللا مُشرئبة بعنقها نحو السماء.. صلفًا وخيلاءً.. دخل الاثنان إلى ردهات الفيللا متنقّلين مثل ديك بلدي ودجاجة أمريكية عُتقية. وسرعان ما توقّفا قُبالة محيرة أبي الجعافر وسالبة لبّه. فاحت الرائحة الذكيّة في كلّ أنحاء الغرفة، وقالت ابتسامات تلك المحبوبة المستعصية للعاشق المحتار إنه ربح اللعبة.. فَهِمَ ذلك من طلبها السماح له بأن تقبّله، فمدّ لها خده.. وفي باله أن يمُدّ شفتيه.. وهو يرسل نظرة آملة إلى ختيارته مرافقته.. نظرة غير متأكدة وحافلة بالشك.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم