نصوص أدبية

نصوص أدبية

ناجي ظاهرجمع صخر العدوان في اسمه ما بين اسمين، يكمل احدهما الآخر ويعزّزه ايضًا، وكنا نرى فيه اسمًا على مسمى، فقد قسا علينا، نحن ابناء حارته، واحدًا تلو الآخر، ولم يوفر أيًا منا ليوم كريهة وسداد ثأر. كأنما هو يقتصُ منا.. وينزل فينا عقابًا كان يفترض ان ينزله بقتلة والده قبل ولادته بأشهر، الامر الذي دفع احد ساخرينا إلى القول: " مقدرش على الجمل دق بالبُردعة". أما أنا فقد راقبته منذ بداياته أيام أراد أن يكون شاعرًا مفلّقًا، وأصدر مجموعة من الشعر دلّت على موهبة متدفقة، وعلى قدرة معجزة في الاغتراف من بحر الشعر، وليس النحت من صخره، وقد كنت معجبًا به آنذاك.. كل الاعجاب، فرُحتُ اكيلُ له المديحَ على الطالع والنازل، ما حبّب الكثيرين من أبناء حارتنا به ودفعهم لأن يخطبوا ودّه.. وحتى حينما وقع الحادث الاكبر في حياته، ذلك الحادث الذي بقي متحفظًا عليه.. كما يتحفّظ الموجوع على دُمّله، بقيت واقفًا معه.. وإلى جانبه، أما عندما انقلب من العدوان الركيّض، إلى عدوان الاعتداء، فقد كان لا بد لي من توجيه السؤال الخالد إليه: لماذا؟، فبرر عدوانيته المستجدة.. بقوله إنها كانت ملجأه الوحيد للمضي في رحلة الحياة الصعبة، وإنه إنما أراد بها أن يُعلّم الحياة درسًا لا تنساه، مضيفًا ان الحياة هي الناس، الاخصام والاحباب أيضًا.

بعد ذلك الحادث الذي تكتم عليه صخر حتى أيامه الاخيرة في الحياة، لم يعد هو.. هو وإن كنا بقينا نحن، أنا على الاقل، أنا.. أنا، وكان سبب بقائي على ما أنا عليه، هو إيماني المطلق به وبرسالته الشاعرية، غير أن ما حصل فيما  بعد، هو أن طرقنا اختلفت وتصالبت مع بعضها بعضًا، وقد جاءت النتيجة على النحو التالي، هو ترك عبادة ربة الشعر هاجرًا إياها إلى ربة المال، وأنا بقيت على حبي للربّة الاولى، الامر الذي دفعه لأن يُعيد.. وأن يكرر وصفي بـ الابله. وقد تقبلت وصفه ذاك، لمحبة تأصلت في نفسي تجاه ابطالنا المُهجّرين أولًا وتجاه ابنائهم الميامين.. وهو منهم ثانيًا.

للحقيقة أقول إن صخرًا كان عنيدًا وطموحًا أيضًا، في كل ما يقوم به ويمارسه من أفعال، وهو لم يكن يؤمن كثيرًا بالأقوال، وكان يراها بضاعة الخائبين، أمثالي، لذا عندما انتقل من عبادة الشعر إلى عبادة المال، كان دائم السعي والتنقيب عن المصادر المترخنة الغنية بالأموال، فتنقّل من عمل إلى آخر.. ومن منصب حسّاس.. دسم إلى آخر، وكان أن توصل في فترات حياته الأخيرة، بحنكته وتخطيطه المحكم، لتولي ادارة مؤسسة ثقافية ذات قيمة وشيمة، وذلك بعد حكاية تروى، فقد تم تعيينه خلال، وبعد ندوة أقامتها تلك المؤسسة وحضرها مستخدموها جميعهم تقريبًا، ومما نُمّي إلي أقول: إنه ما أن انتهى رئيس المؤسسة من طرح وجهة نظره القائلة بأن على الجميع أن ينصاعوا لأوامره، إذا ما أرادوا وضعًا أفضل لهم وللمؤسسة، موضّحًا أن السفينة إنما تُقاد بهمّة ربانٍ واحد فقط، وأن الطبخة إذا ما كثُر طباخوها شاطت، حتى انطلقت تذمرات مستخدمي المؤسسة الرافضة لمنطق، لا يرى أي منطق سوى منطقه الخاص سليمًا، ويبدو أن صخرًا رآها فرصة سانحة، فراح يكيل المديح للرئيس.. ولما فاض به لسانه من حكم تشبه الدرر، بل إنه تمادى في موقفه ذاك، فراح ينتقد المنتقدين داعمًا رأيه بأهمية نقد النقد.. منطق صخر ذاك أعجب رئيس المؤسسة، فما كان منه إلا أن أشار إليه بهزة من رأسه، طالبًا إليه أن يتبعه بعد انفضاض الاجتماع إلى غرفته في أعماق المؤسسة.

بسرعة التوافق بين الطيور المتجانسة، تمّ الاتفاق على أن يتولّى صخر، ابتداء من اللحظة، بل من الآن، منصب مدير المؤسسة، فالثقافة تحتاج إلى مَن يصونها ويرعاها، وليس إلى مَن يُميّعها.. كما اتفق الاثنان، الرئيس وصخر. في اليوم ذاته تولّى صخر منصبه، حمل حقيبته الديبلومات، وتوقّف في أعلى مرتفع في المؤسسة مُراقبًا كل ما يحدث فيها، وكان أن أجرى لقاءات تعارف أولية بينه وبين موظفيه، بهدف اعطاء كل ذي حق حقه وتوكيل الانسان المناسب بالمهمة المناسبة.

أجرى المقابلات مع موظفيه واحدًا تلو الآخر، وعندما توقف قبالته الموظف الثالث، ادرك انه عثر على بغيته، فطلب منه أن يقترب منه وهمس في أذنه قائلًا له إنه وقع الاختيار عليه ليكون الساعد الأيمن له في مراقبة ما يدور في المؤسسة، من أجل نجاعة أكثر في أدائها. انتهى الاجتماع بين المدير الجديد وبين مستخدميه الجُدد في المؤسسة، ليتفرق كل عائدًا إلى مكتبه وعمله.

في اليوم التالي، وهذا ما عرفته من ذاك الموظف "العَين" ذاته، بعد حكاية سأؤجل سردها قليلًا، جاءه هذا الموظف بخبر مفاده أن هناك تذمرًا جديًا بين الموظفين بسبب تجاوز رئيسهم لهم وجلبَ شخصٍ من خارج المؤسسة ليكون مديرًا عليهم، وأشار إلى موظف مشاكس عُرف بالرفض وعدم القبول للكثير من الاوامر. هزّ صخر رأسه علامة على أن حَبَّ الموظف المقصود وصل لحظة الطحن، فوضعه تحت المجهر طوال أربع وعشرين ساعة ليدعوه فيما بعد، انت قمت بالكثير من التقصيرات في عملك خلال الاشهر الماضية، لذا فإنني أسلمك كتاب الفصل. بإمكانك التوجه إلى محاسب المؤسسة لتقاضي أجرتك واتعابك مع حبّة مسك. وعبثًا حاول الموظف استعطافه، متوسلًا إليه بأنه أب لخمسة اطفال ويحتاجون للكثير من أجل إعالته لهم، فقد اصم اذنيه، فما كان من هذا الموظف إلا أن توجّه إلى رئيس المؤسسة طالبًا منه إعادة النظر في فصله المباغت من العمل، وقد عرفت مما نمي إلي، أن الرئيس فتح ملف الفصل عن العمل، ليتأكد من أنه عثر على المدير المناسب، وليواصل رفضه لإعادة النظر المطلوبة في فصله عن عمله. وعندما دخل صخر غرفة رئيس المؤسسة.. وقع ما كان يتوقعه، لقد قررنا رفع درجتك، لتكون مساعدًا اوليًا لي. لكن كيف سنملأ الفراغ الذي خلفه ذاك الموظف الكبير؟ ابتسم صخر وهو يرسل نحو رئيسه ابتسامة ذات الف معنى ومعنى.. أترك هذا علي.. في اليوم التالي كان صخر قد ملأ الفراغ بأحد اتباعه الراضخين له.. على طول المدى.

وكان صخر كما قال لي جاسوسه ذاك الموظف، قد استبدل معظم موظفي المؤسسة، بأشخاص آخرين هو راضٍ عنهم. بعد هذا، كان عليه ان يُسدّد ضربته الأخيرة إلى ساعده الايمن، ذلك الموظف، ولم يكن صعبًا عليه أن يخيط له ملفًا، يمكن أن يدخله السجن، وليس الاقالة من عمله في المؤسسة وحسب، إلا أنه وُجه هذه المرة بقوة كبيرة، فما كان من هذا الموظف إلا أن فرط كيسه من أسفله إلى أعلاه، وهو ما أدى إلى موافقة رئيس المؤسسة الفصل.. شكليًا.. اولًا، ووضع مديرها، صخر العدوان ثانيًا، تحت المراقبة أربعًا وعشرين ساعة، مستعينًا بالموظف المفصول ذاته، وطالبًا منه أن يكون عونًا له في كشف عورات مدير المؤسسة. لم تمض سوى أيام حتى تبين أن صخر العدوان قد سيطر على المؤسسة الثقافية سيطرة شبه تامة، وعندما توقف رئيسها حائرًا ما بين الشك واليقين، قرّر أن يلعب لعبته الكبرى، .. في أن يمتحن قدرته وأن يكتشف العطل، فاستدعى صخرًا وسلّمه كتاب إقالته من عمله مديرًا لمؤسسته. تقبّل صخرٌ الامرَ ببرود أعصاب عُرف به، منذ ذلك الحادث الذي تكتم عليه حتى يومه الأخير في عالمنا، وما أن خرج من غرفة رئيسه، حتى عقد اجتماعًا لأصدقائه الموظفين، تباحث معهم في كيفية الرد على مديرهم، فاتفق هؤلاء على مقاطعة المدير، وعدم العودة إلى العمل إلا بعد إعادة صخر إلى عمله.

أوصل ذلك الموظف المفصول شكليًا، الانباء إلى رئيسه أولًا بأول، فما كان من الرئيس إلا أن ضرب ضربته القاصمة، وشبه الانتحارية لانقاد سفينة مؤسسته.. وافق على استقالة جميع موظفي مؤسسته غير آسف على أيٍ منهم، وكان آخر من أقالهم ذلك الموظف الجاسوس الملازم للجميع. الامر الذي دفعه لطلب اللقاء بي، على اعتبار انني من اصدقاء صخر العدوان.. وسرد تفاصيل ما جرى له في أيامه الاخيرة. وها انذا اروي لكم ما رواه لي، دون زيادة او نقصان، أما صخر العدوان فقد عاد إلى بيته.. وقد اعتمت الدنيا في عينيه.. واستسلم لنوم عميق... عميق..

 

قصة: ناجي ظاهر

 

 

سوف عبيدفي عامه الخمسين

لجلوسه على العرش

اِنتصب أنو شروان في صدر الإيوان

بين يديه الأمراء والوزراء والأعيان

والجواري والغلمان

*

ظلّ أنو شروان صامتا

لم ينبس ببنت شفة

ولا حتّى اِبن لسان

أطرق زمنا

وجم الحاضرون في أماكنهم

لا أحد يجرؤ على الكلام

طال إطراق أنو شروان

فجأة هزّ رأسه كسرى أنو شروان

وقال ـ أتدرون ما ألذّ شيء

في الدنيا؟

لا أحد عزم أمره أجاب

*

حينذاك قال كسرى أنو شروان

ـ أخذت من الدنيا كلّ شيء

شربت حلو الشّراب

أكلت شهيّ الطعام

لبست فاخر الثياب

أنا الذي سلطانه من هنا

إلى أقاصي البلدان

ونلتُ من كلّ حسن وجمالْ

فلم أجدْ في الدّنيا

ألذَّ

من مُحادثة الرّجالْ !

***

سُوف عبيد

 

عبد اللطيف الصافيلأجلكِ يَا حَبِيبتي

سأجْعلُ منْ رذاذِ الغيْمِ

زاداً للقُلوبِ البائِسةِ

وأَرْوي عطَشَها بدَمِ الرِّيحِ

سأُربِّي الحلْمَ الذِّي يطْفُو فوقَ ملْحِ عَيْنيكِ

أبثُّهُ قواعِدَ العشْقِ الأربَعونَ

وآياتٍ بيِّناتٍ منَ الجُنونِ

سأكرِّسُ كلَّ حَواسي لِرَائحةِ المَطرِ

أجْعلُ منْ ثغْركِ العَذْب

معْزوفةً متْرعةً بالجَمالِ

تداعبُ أوْتارَ قَلبي

سأَهْدِمُ كُلَّ معَابِدِ الْحُبِّ الْقَدِيمةِ

أهْزِمُ الْحَنِينَ الَّذي يُسَيِّجُ رُوحِي

وأمْضِي مِثْل ضوْءِ البرُوقِ

أفضُّ بَكارةَ اللَّيلِ

فترقصُ النُّجومُ بينَ تلالِ نهْديكِ

تُضيءُ وُشُومَ الْفرحِ

البَادِيةَ عَلى جَسَدِكِ الْمُرْتجِفِ

مثلُ بُرْكانٍ

حِينئذٍ

سَيكونُ بوُسْعي يا حَبيبتي

أنْ  أحتضِنَ صوْتَ النُّبوءاتِ

المشْتعلِ في دمكِ

وأنْ أهزَّ عُروشَ خيْلكِ المُسرَّجةِ

خلفَ أبوابِ الصَّمتِ

وأصْرُخَ في العالَمِين

مِلءَ أَشْواقِي

من فَوْقِ الْمآذِنِ

بيْنَ شُقُوقِ الْماءِ الْمُتَوهِّجِ فِي صَلَوَاتِي

فِي سرِّي و عَلانِيَّتي

وعَلَى مَائدة إحْتِضارِي

أحِبُّكِ.

***

عبد اللطيف الصافي/المغرب

 

محسن عبد المعطيقِصَّةُ الْغَزَالِ فِي ضَوْءِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفْ

يَا رَوْعَةَ الْغَزَالِ!!!=فِي قِمَّةِ الْجَمَالِ

رَشَاقَةٌ وَخِفَّةٌ=يَا مَضْــــرِبَ الأَمْثَالِ

إِشْرَاقَةٌ وَسُرْعَةٌ=تَعِيشُ فِـــي خَيَالِي

عِنْدَ الشُّرُوقَ – إِخْوَتِي=يَا فَرْحَــةَ الْأَطْفَالِ!

وَالْمِسْكُ – يَا أَحِـبَّتِي-=بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

                      ***

عُرْبٌ كِـــــــرَامٌ لَقَّبُوا=الشَّمْسَ بِالْغَزَالةْ

فِي وَقْتِ إِشْرَاقٍ لَهَا=بِفَضْلِ ذِي الْجَلاَلَةْ

                      ***

لَحْمُ الْغَزَالِ طَيِّـبُ=وَالْمِسْـكُ مِنْـهُ أَطْيَبُ

كَمَا أَبَانَ سَــيِّـدِي=خَيْرُ الْأَنَامِ الْمُهْــتَدِي

فَطَيَّبَتْهُ عَائِشَةْ=قَبْلَ الطَّـــــوَافِ الْأَمْجَدِ

فِي يَوْمِ نَحْـرٍ خَالِدٍ=لَدَى الزَّمَانِ الْأَبْعَدِ

               ***

اَلْمُسْلِمُونَ فِي الطَّوَافْ=كَأَنَّهُـــــــــمْ غِزْلاَنْ

فَحِينَمَا جَــــاءَ الرَّسُولْ=اَلْمُصْطَفَى الْإِنْسَانْ

وَقَصْدُهُ أُمُّ الْقُرَى=فِي الْعُمْرَةِ الْمُقَدَّرَةْ

وَمَعَــــهُ أَصْحَابُهُ=كَعُصْبَةٍ مُسْتَبْشِرَةْ

مِنْ بَعْدِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةْ=بِسَنَةٍ يَا صَحْبِيَهْ

يَأْمُرُهُمْ بِالْهَرْوَلَةْ=رَسُولُنَا مَـــــــا أَنْبَلَهْ!

فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْ=رٌ وَالْجُمُوعُ مُكَبِّرَةْ

وَالْمُشْرِكُونَ أَبْصَرُو=هُـــــمْ قُوَّةً مُعَبِّرَةْ

عِنْدَ الطَّوَافِ الْهَرْوَلَةْ=وَالْمَشْيُ بِالرُّكْـنِ الْيَمَانِي

فَشَبَّهُوهُمْ عِـــــنْدَ ذَا=كَ الْحَالِ بِالْغِــــــــــزْلاَنِ

                 ***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

فرات المحسنفي الجنوب البعيد، في قرية نائية. هناك حيث يغور الجوع والمرض بعيدا في تلك الشعاب والسواقي وبيوت الطين، ليصطاد ويغل حقده في صدور البشر دون رقيب وحسيب. كان جبار مطشر مهودر، بعامه الذي لم يدون في تأريخ محدد، يشذب سعفاته، استحضارا لطلب جديد. فقد أمتهن منذ طفولته صناعة المقاعد والمناضد من سعف النخيل.  

 يروي جبار مطشر مهودر بفيض من كلمات، إن عمره من عمر ملك العراق فيصل الثاني، الذي قتلته اليد الظالمة في اليوم الأول من جمهورية عبد الكريم وعبد السلام. هذا ما يؤكده جبار مطشر  بتلذذ يخالطه شيء من الحزن، حين يُسأل عن عمره. يدون في ذاكرته هذا التأريخ مع تفاصيل أخرى، يلذ له الحديث حولها، ويردف ذلك بالقول تأكيدا لما يرويه، بأنه سمع ذلك وغيره، من عمته لطيفة، التي ماتت بالتدرن بعد وفاة أمه بعشرة أعوام، لذا أحتاج لمعرفة يوم مولده مدة ليست بالقصيرة، ودائما ما يقول بأنه ما عاد يأسف لضياع أيامه، ولا حتى سنوات طويلة قضاها هاربا من الخدمة العسكرية، يجوب الهور، يعبر الحدود نحو إيران هربا من رجال الأمن العراقيين، ومن ثم يعود هاربا حين يطارد من الشرطة الإيرانية.

 كان يمط شفتيه ويشعر بالنشوة وهو يتحدث عن عمره، الذي يقرنه بولادة ملك العراق، بالرغم من أنه لا يعرف بالضبط في أي عام أو يوم ولد ذاك الملك. ولكن جبار مطشر مهودر يقول إن عمته لطيفة كانت ذكية نبهة وتؤرخ للقرية حوادثها وأبناءها، لذا لا يمكن الشك فيما تقوله أو تعلن عنه.

 دائما ما يبدو جبار مطشر في حديثه عن عمره، وكأن له علاقة قربى بذاك الشاب الجميل الطلة الأنيق الذي اغتالته رصاصات رعناء، لم تأخذ بالاعتبار حتى صلة الرحم التي تربطه بآل بيت النبوة، هكذا يصف جبار الملك فيصل الثاني والواقعة التي أسست للجمهورية الأولى في العراق.

 يسرح في البعيد، ومع دقات فأسه فوق اللوح الخشبي وهي تشذب السعف وتنضده، يتذكر سنوات عمره التي سارت بعجالة، دون أن يتغير حاله كما حال قريته المنسية الراقدة بين الماء والسماء.

فوق حصير جوار باب كوخه الطيني، جلس جبار مطشر مهودر يبسط يده ويرفعها في عمل دؤوب مثابر،تحيطه كومة سعف نخيل، وجواره جلس حفيده ذو التسعة سنين، ينظر لكف جده وهي تعمل بترو ودقة، فيشعر بذات الزهو الذي يعتمر قلب جده.

ـ جدي ، مَن هو بوش؟!

قال الحفيد وهو يتطلع لفأس جده وهي تنقر برتابة غصن السعفة لتشذبه. 

بوجه باش وابتسامة عريضة أجابه الجد

ـ بوش هو رئيس أمريكا.

ـ أهو من عشيرتنا؟!

ـ كلا يا ولدي فهو رئيس أمريكا.

ـ وأين تسكن عشيرة أمريكا؟

ـ أمريكا ليست عشيرة، أمريكا دولة يا ابني.

ـ وأين تقع دولة أمريكا؟

ـ إنها بعيدة جدا عنا.

ـ أبعد من سوق الشيوخ؟

ضحك الجد بصوت مكتوم قبل أن يرد، وراح يمسد شعر حفيده :

ـ أبعد وأبعد.

ـ أبعد من الناصرية ؟.

ـ أبعد وأبعد يا ولدي. قالها وتغضن جلد خديه، حين انفرج فمه عن ابتسامة برزت معها عظام وجهه المكدود الهرم، وبقايا أسنان نخرها دخان التبغ.

ـ أبعد من بغداد؟ 

ـ إنها بعيدة عنا جدا، بعد السماء عن الأرض.

ـ ولكن لماذا تأتي وتضربنا بالقنابل مثلما يقول أبي.

ـ إنها تريد أن تأخذ نفطنا.

ـ ولكن جارنا أبو أرحيم جاء وأخذ منا صفيحة نفط ، برضانا دون أن يؤذينا.

ــ إنه قدر فرض علينا يا ولدي.

***

فرات المحسن 

 

 

 

 

في نصوص اليوم