نصوص أدبية

نصوص أدبية

يوما …

والندا ناعس الهمس على خد الصباح

اهتزت ألوان ضباب بعيون ذهولي

أفترشتنا جهات الفجأة.. أشلاء نحيب....

و.....

غفلة … غفلة

صفقتني يد النوى على خد أحلامي

وأنا أعد كواعب ترفك على مهل الترجي..

داهم مخملُ وجهكِ فحيح ثار

آآآه....آآآآه.........

ياااا صغيرتي الغافية بلمسات الخمائل....

تعااالي... أضمك فجر أفول

لتغسلي دموع أضلعي الواهية

تعااالي ….

ياااا طفلتي المبعثرة بياسمين التناغي....

المغدورة بتصدع صمت الرضا...

لا تفزعي من خضاب الذبول

فها أنا جهينة قطاف لنسغ دمك

غيمة تمطر بيلسان لمسح الألم

لأحتضن غيابك نبضات وداع

وأُقبل كركرة أحلامك في صراخ جوارحي

وأن اصطبغت حناجر الهلع

بغصة الموت...

وأن فاض دمع الفراق

بقلب المحبين...

ها أنا بجفن الغيب أستريح

بقربك اللامتناهي

وأنت ترفلين في مهاد الغياب..!!

قد سلكت روحي دروب أجنحتك البيض...

جمانة وجد بأقاليم الضياء

تهدهدك أحضان نوحي... مناجاة حنين....

لو تعرفين كم قرأتكِ عيوني....

زُغب أماني بالوان الفراشات..!!

خضبتُ أنفاسكِ بأعشاب أحشائي

وَشَمتُ روحكِ بنبض شراييني

وصطفيتك همسا....!!

سالتقطك بأنين عمرٍ يافع الدفء

أحتضنك بسمة كناري من زمن صهيل الجلنار...

وأمضي بك معطرة بأريج اللقاء

لترضعي حليب البقاء

سنطيــــــــــــر…

ونطيرررررر…

في رحم الكون يمامة ثكلى.. وسنبلة ندية

ترسمنا عيون السماء

مدى حريــــــة …

مكلومة الهوية.

***

إنعام كمونة

مِـن أيـنَ أبـدأُ والحروفُ تعطّلتْ

لـمَّا رَمَـتْ سـهمَ الهوى عيناكِ

*

وغـدا لـساني كـالعييّ متمتمًا

مُـتلفـظًا بالضـاد كـالأتــراكِ

*

أصبحتُ كالمشلولِ ماليَ حيلةٌ

و وقـفـتُ كـالـتمثالِ دونَ حـراكِ

*

والـروحُ مـابينِ الضلوعِ تلجْلَجتْ

فــي حـيرةٍ وقـعتْ وفـي إربـاكِ

*

فـقـدتْ مـن الـتدبيرِ كـلّ تـصورٍ

كـحـمامةٍ عـلقتْ بـبحرِ شـراكِ

*

مــاذا سـتـفعل والـجناحُ مـقيّدُ

والـجسم قد عانى من الإنهاكِ

*

حـاولتُ أنْ أقوى وأفهمُ ماجرى

والأمـرُ يسْتَعْصي على الإدراكِ

*

مُـذْ قد رأيتكِ باتَ ليلي سرمدًا

وأنــامُ فــوقَ مـنـابتِ الاشـواكِ

*

مـاكان ضـعفًا قـد أطـاحَ بقوتي

لـكـن ذُهـلـتُ بـحُسنها الـفتاكِ

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

(إذا ذهبتِ معي يا باميلا سوف تتعلمين معنى المعاناة من أجل الآخرين، كما ستتعلمين بأنك تعالجين نفسك عندما تعالجينهم)... ايتالو كالفينو

أكثر من نص لها قد قرأ، كل نص يغريه بغيره لمزيد من قراءة، مشدودا الى اسلوبها وطريقة بناء ما تكتب ..

منطقية في التدرج والترابط، دقة إشارات قد يغفل عنها الغير و لها كانت إثارة بانتباه، مفردات دقيقة المعنى تعكس بها ما تريد أن تبلغه لقارئها، دون أن تتجاوز حججا لمحاولة الإقناع..

على عقلها قد لوح وهم بغيمة، فتفتت اللسان باتهام :

ـ" أنت قد اثارتك صوري قبل أن تقرأ لي"

" تحسيس بجمال.." ولجمالها لم يكن أعمى لكن...

ربما عنها قد غاب أن جمال الصور في عهد الفوتوشوب نوع من خداع البصر، لا يكشف غير حقيقة أنثى بجمالها لماعة !!..

فالصورة قطعة من صاحبتها قد تعكس بعضا منها

قوة نظر وعزيمة ذهن وان في تجريدية بيانية كما قد تعكس نظرة عيون

بخنوع وومضات من ألم دفين..

ورغم ذلك ففي أحلك لحظات التقاط الصورة قد يصير المشهد تحفة فنية لقيمة جمالية من مأساة لامرئية..

حين يندمج العقل بصورة ما، يصعب إخراج الصورة منه أو انتزاعها من تصوراته، ابتلاع رمزي في ذهنها قد تبوأ ايمانا قلب كيانها..

كما لا جذوة نار حامية قد أكلته من جسدها أوبه قد أنبهر وهام، فالصورة التي أغرتها باتهام، سوء ظن بزيغ عيونه لم تظهر فيها الا وهي مبطنة في عبايتها الشرقية..

ولاشده اليها إعجاب، فالإعجاب كثيرا ما ينسرب انسراب الماء في باطن الأرض..في حين أنها لديه حضور من تاريخ عريق تشربه ولازال يستعيده كلما تحرك اسم وطنها على اللسان ..

هي أكبر من صورة قد تشد بإثارة لانها ليست شيئا بل كيانا إنسانيا يتعدى بفكر واعتقاد هوية أو مكان وجود..إن الصورة مهما عكست من فتنة وجمال لن تزيد عن كونها ذكرى مغتربة..

بها قد ضاق تفكير فلم تدر أن ما استثاره فيها براءة أعماق من عيون لم تغره بكحلها، فحولها قد غمر عقله رداد ضوء كان له سكينة نفس، نصوعا وراحة قصد أرسلت إشعاعاتها مما تكتب، وما تكتبه وفي نفس قرائها يخلف أثرا لن يكون صدفة، وانما هو أثر دراسة ومتابعات أدبية، إضافة الى صور تداعت بذكريات من ماضيه عن وطنها..

هو صراع جوارح، مثل كاميرا التقطت من زمن الصبا ما قد حلا لها في لحظات تحصيل معرفة من صور تنمو بإحياء ومواقف..

ما حركه فيها مشروع في رأسه نقر قشرة البيضة، يستعجل الحياة، بعقله يتحرش ليل نهار فيدقق في المسارات، في انعراجات المسعى ما رحب وما ضاق، وفي دروبه ما حفر له عن مخرج وما انسد ببناء، وفي زنقاته ما صار ممرا وما خلا.

بعد تدقيق واسترجاع يتلوه استرداد جلس الى أحد أساتذته من لهم باع طويل في السرد الروائي، وعرض عليه العمل بكل تصميماته مدخلات ومخرجات رؤى وفلسفات، تصور وقصديات لتوجهات مؤثرة وعابرة، الفاعلين فيه وتخطيط دقيق لنفسية كل منهم ومدى قدرته على التحرك والتنقل من توجه الى آخر لتحريك خيوط حدث من مدينة وليلي الرومانية بالمغرب الى مدينة أور العراقية.. تاريخ يتململ من رقاد، يفرك عينيه باشارات قد تغير عقليات..

كان الراي الأخير لكل من درس التصميم وكون فكرة عن مضمونه :

ـ عمل سيحدث ضجة اذا اكتملت كل عناصره بالدقة المرسومة..

كان السؤال الذي يتكرر بعد كل نقاش : هل انت ملم ببيئة بطلة النص،

أنثى كدليلة سياحية دارسة متمكنة، ثقافة عريقة وحضارة عاشت انقلابات وتبدلات مذهبية وتحكمات مجتمعية وظهور تابوهات تواجهها اليوم تقاليد وعادات...

" معناه كاتب ماهر، ثقافة متمكنة، وخبرة لغوية يطوعها بمرونة ودقة بيانية "

راودته زميلته الأديبة بتذكار، وطفرت عيونا تتفجر في مخيلته كأنثى من بيئة بطلته.. خطوط مرسومة وعناصر دقيقة، مع فرضيات متنوعة تستطيع ان تزهق منها واليها حسب عمق خبرتها وانتمائها السوسيو ثقافي..

لماذا لا تشاركه المسعى وتصير الرواية بعقلين ومجهودين؟

قد يضطر للسفر اليها، نقاش وحوار، وصلة رحم بمنطقة غاب عنها أكثر من ثلاثين عاما ..وقد تسمح لها ظروفها بزيارته، إحاطة بالمكان ومواقع الأحداث..

وشرع يقرأ لها ويعيد، يبحث عن كل ما كتبت و ما مقدار انفلاتاتها بعيدا عن الرقابة الذاتية، مخفيات قد توضح خبرة واغتناء فكر أوقد تفجر سلوكات لم تكن في كتاباتها واضحة، حقا أن كل ما يقوم به انسان لن يتعدى حدود تجربته الإنسانية.. وتحت هيمنة ما يمور في نفسه لكن عند الكتابة فالكثير مما ينفلت يكون بعيدا عن رقابة عقله، قد يعكس حقيقته..

وضعها تحت مجهر خبرته، لم يباشرها بخطاب وانما حام حولها كأنثى يثير ويترقب ردة الأفعال، ففي ردة الأفعال تتبدى زوايا من الشخصية وماهية الوجود عند صاحبها..

لم يجدها غير شرقية مأخوذة بمبدأ الخوف ورعشة الشك، تشتغل بظاهرها عن عمقها وبجمالها عن سلوكها، الشك فيها ساكن من تربية الحصار وتنشئة التحكمات، وشحذ سكاكين الأوامر والنواهي، ثم سقطات الثرثرة والتأويل وسوء الظن..

تلين لكلمات العسل من افواه الأفاعي وتنجر لبسمات التغرير من أنياب الذئاب، والا ما غاية صورها في تركيبات طفولية ومدح من نفثات الكذب؟.. لا أظنها غرة يغويها حب الظهور بإشهار فقد جرب حين قدم لها نصا كهدية قالت:

ـ لن اكتب نصا باسمي وهو ليس لي ولو توقفت عن الكتابة..

عفة وعلو نفس ..

فهل يستطيع أن يرقى بها الى بلوغ غايات أكبر والتجاوز عما ترسخ؟

يعرف قيودها وما يكبل حريتها، كونه عنها غريب والغريب في عرف شرقية شيطان..

ـ بعد تفكير اسقطها من عرش اهتمامه وان ظل اثرها يسري في ملمحات العيون وتموجات الذكريات، فكيفما كانت ردة فعلها فهي لا تعدو ان تكون انثى شرقية تنهار للعيون اذا نومها شاب متحذلق متملق وترتاح للغرور يتفجر من ضابط عقلي كم عانى من سوط الضغط والتبخيس، أما أن يكون معها رجل غريب واضحا صريحا فهذه حرية، والحرية لديها ايقاظ للفزع والدوار..

وغابت..غابت بعد أن حظرته عن صفحتها بضربة سوء الظن فصلت حياتها أمامه، صورتها الخاصة، رسخت بها وجودها الشرقي الأصيل الذي قد غاب عن اهتمامها أنه يحترمه بتقديس حتى وان اختلفا في المبادئ والتوجهات، فالهروب والسخرية والخوف من السقوط في مشاريع الأخرين وأفكارهم هي سمة من حرية يحترمها فلا إنسان يريد أن يبتلعه غيره.. لكن أن تسمح لغيرها بصور طفولية وكلمات بالواضحات ولا تأخذ مسؤولية وجودها كما تحبها ويلزم أن تدافع عنها، فهذا انهزام ونقص في الوجود...

***

محمد الدرقاوي

سيدي ما كان؛ خزي لن يزول

كيف اظموك أيا سبط الرسول!؟

*

كيف أردوك قتيلاً في الفلاة

ورموك السهم في وقت الصلاة!؟

*

كيف شبوا النار في كل الخيام

وصغار الآل في الليل نيام!؟

*

كيف ساقوكم إلى أقصى بلاد

سادةً انتم على كل العباد!؟

*

يا (حسين) القلب يبكيه العزاء

ليت لا يبقى على الدنيا عداء

*

ليت من عاثوا فساداً يرعوون

ويعودون لرشد يصلحون

*

كي يعيش الناس طرا آمنين

و بظل الله يحيوا مسلمين

*

لكن الشيطان أغواهم فكان

يوم عاشوراء لم يهدأ بآن

*

تغلي في الأرواح نيران الخنوع

بعدما بالخيل قد هدوا الضلوع

*

فالحسين السبط مسلوب الرداء

دامي الجسم وحيداً في العراء

*

كيف ذا يلحو لأهلينا (الفرات)

و(الحسين) الأمس لم يروَ ومات!؟

*

وعلى (ستوكهولم) قرآنٌ يضام

وكأنَّ الناسَ أمواتٌ نيام !!!

*

فابكوا لليوم ولا تبكوا لأمس

(كربلا) تزهو .. لتبكوا حالَ (قدس)!

***

رعد الدخيلي

جَاءَ الرَّبِـيعُ بِمَوْكِــبٍ فَتَّانِ

تَشْدُو فَرَاشَـتُهُ عَلَى الْأَفْنَانِ

*

وَتَقُولُ: مَرْحَى يَا رَبِيعُ فَإِنَّنِي

مُشْتَاقَةٌ لِلْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ

*

اَلْفُلُّ غَنَّى وَابْتِسَامَةُ ثَغْرِهِ

تُنْبِيكَ عَنْ حُبٍّ مَدَى الْأَزْمَانِ

*

يُحْيِي النُّفُوسَ يَشُدُّهَا لِرَبِيعِهَا

فَتَعِـيشُ فِي فَرَحٍ مَعَ الْإِيمَانِ

***

رَيْحَانَةٌ نَاجَـتْ بِحُبٍّ وَرْدَةً

قَامَتْ تُرَتِّلُ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ

*

وَتَقُولُ: يَا أُخْتِي الْقُرَانُ حَيَاتُنَا

مُتَنَزَّلٌ مِنْ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ

*

يَا وَرْدَةَ الْعُمْرِ الْجَمِيلِ خُذِي يَدِي

لِأَعِيشَ عُمْرِي فِي ظِلاَلِ جِنَانِ

***

جـَاء الرَّبِيعُ وَمَدَّ كَفًّــا حَانِياً

يَرْعَى بِبَهْجَتِهِ الْوَلِيدَ الْبَاكِيَا

*

وَيَقُولُ: عِــشْ مَا شِئْتَ إِنَّكَ رَاحِلٌ

فَاقْضِ الْحَيَاةَ وَكُـنْ لِرَبِّك َرَاعِيَا

*

وَاحْفَظْهُ يَحْفَظْكَ الْإِلَهُ وَإِنَّمَـا

نُــــورُ الْإِلَهِ هَـدَى فُؤَادَكَ هَانِيَا

*

لاَ تَبْتَئِسْ هَذِي السَّعَادَةُ قَدْ أَتَتْ

وَالطَّيْرُ فِي الْأَفْنَانِ غَرَّدَ شَادِيَا

***

فَبِحَقِّ رَبِّكَ يَا بُنَيَّ تَكَشَّفَتْ

كُلَّ الْأُمُورِ وَسَوْفَ تَسْعَدُ رَاضَيَا

*

عِشْ بِالْأَمَانِي وَادْعُهُ يُجِـبِ الدُّعَا

طِفْلِي الْحَبِيبَ عَهِدْتُ قَلْبِكَ سَامِيَا

*

نُورُ الرَّبِيعِ وَحِكْمَةٌ أَزَلِيَّةٌ

كَانَتْ طبِيباً بِالْمَحَبَّةِ شَافِيَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

الحُـبُّ إنْ عَـفَّ يـبْـني الصرْحَ في ثِـقَةٍ

والـنـفــسُ للصِـدق ، إيـنـاسٌ وتـســليـمُ

*

مَـراتِــبُ الـعِـــزِّ ، بـالأفـعـالِ خــالِــدَةٌ

والــفخــرُ فـي زائــفِ الأقوالِ، تَعـتـيمُ

*

شــمـــسُ الكفاءةِ، تـزهـو فـــي تألقِـها

ولِـلطـُمُـوح، مَـراســــيـمٌ وتَــرسِــــيـمُ

*

حُـبُ الـعُـلا، طـبْــعُ مَنْ تَعلو نفوسُهُـمُ

وهـالــةُ المَـجـدِ ، إشـــراقٌ وتــقـويــمُ

*

إنّ الأصالــةَ مِـعـــوانٌ، لِــذي هَــدَفٍ

يـسعى الـيـه بـخَـيْـرٍ، فــيـه تـعـمــيــمُ

*

مَـن يـبـتـغي مَسْـلكا ، يزهـو به كَـذِباً

سَــدّا لِـنَـقـصٍ ، فلا يُــجْـدِيـه تـرمـيـمُ

*

مَـلامِـحُ العـيــنِ تـحكي سِــرَّ باطِنـِهـا

وفـــي الـلسـان تَــرانِـيـمٌ  وتَــوْهِــيــمُ

*

إنّ الـوِســـامَ عــلى صَـدْرٍ يـلـيـقُ بــه

قــولاً وفِـعـلا، لــه فـي الأفـقِ تـرنـيـمُ

*

ومـَن نَــوَى فِـعْـلَ خيرٍ، لا يجودُ  بـه

كَـمَن يُـهَــدِّئُ حـالاً، فــيـه تَــعـــويــمُ

*

إنّ الأكـاذيــبَ ،  إيـهـامٌ ومَـنْــقــصَةٌ

فــيـهـا الحـقـيـقـة، تَـغـلـيـفٌ وتـكمـيـمُ

*

في مِحنَةِ الضيقِ ،حُسْنُ الصبرمَحمَدَةٌ

والـصّـبرُ لـلعُـسْـرِ، إذلالٌ  وتَــهْـزِيــمُ

*

(شــاوِرْ سِــواك إذا نـابَـتْـكَ نـائِــَبـةٌ)

إنّ التـعـالِـيَ دومــا ، فــيــه تَــذمِـيــمُ

*

(مـا كلُّ مـا يـتـمنى الـمَـرْءُ يُــدْرِكهُ)

والعزمُ فــي رِفْــقَـةِ الإيمانِ ،تصمـيـمُ

*

إنّ المــهاراتِ في تَــنوِيـعها ، نِــعَــمٌ

مِـثـلُ  الفـصاحَـة للـفُـرسـان تــتمـيـمُ

*

ومَـن تـمنّى العُلا  مِـن دون تَـهْـيـئـةٍ

يـبـقـى الـتَـمَـنّي حَـبـيـسَا ، فيه تـنويمُ

*

(لا تيأسَـنَّ إذا مــا كـنـتَ مُـقــتـدِرا )

فالـيأسُ وسـْـوَسَــةٌ، والـوَهْـمُ تحطـيمُ

*

حُسْـنُ النوايا، لحسْم المُعضِلاتِ ، له

دوْرٌ، بــه لـم يَــعُــدْ للـشّــر ، تـأزيـمُ

*

لـكـلّ ذي فِـطـنَـةٍ ، عَــيـنٌ مـُـوافـِـيـةٌ

ونظـرةُ الحـقِّ للإنصافِ ، تجْـسِــيــمُ

*

لا تطلب العَوْنَ مِــمن فـــي سَـريـرَتِـه

داءُ التـشـفّـي، وفـــي كـفّـيــهِ تَسْـمــيمُ

*

(صَلاحُ أمْرِكَ ، للأخلاقِ مَــرجِـعُـه)

والعِـلمُ إنْ ســايــرَ الأخلاقَ، تـفـخـيـمُ

*

ومَــن نَـوَى الزيـْفَ فـي قـوْلٍ يُـزوِّقـُه

لِـغـايــةٍ، فـمَصـيرُ الــزَيـْـفِ تَـهـْـديــمُ

*

إنّ القِـلادَةَ ، مـهـما الـِتّــبْــرُ زَيَّـنَـهـا

فَـعِـفّـةُ الجِـيـدِ،  مِــعْـيـارٌ و تَــقـيـيـمُ

(من البسيط)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

صباح كلّ يوم ومنذ عشر سنوات تقريباً، وبعد أن تقاعد عن العمل، كان يبدأ يومه بقرقعة الصحون وهو يدندن ما علق في ذاكرته من أغانٍ قديمة مع صوت دوران ملعقة الشاي وهي تحرّك بلورات السكر الهاربة من ضرباتها.  كلّ يوم يشبه اليوم الذي مضى واليوم الذي سيليه بالنسبة إليه. كان يبدو كحصان عجوز سُرّح من الخدمة، يعيش على ذكرياته وبطولاته التي يتفاخر بها كثيراً، حتى فقدت قيمتها بعد أن استهلكها التكرار اليومي، ونكاته هي الأخرى أصبحت تثير الملل بدلاً من الضحك. ربما هكذا هم كبار السنّ، يجعلهم الفراغ يستحضرون ذكريات الماضي، وحين يبادرهم أحد بالحديث يودّون أن يستمرّوا في الكلام لوقت طويل وألا يصمتوا.

جميع من في المنزل مشغول بعمله، والزوجة المسنّة تغطّ في نوم عميق، تستفيق عادة بين الحين والآخر، أمّا هو فكان حريصاً على نظافة ياقة قميصه البيضاء، ثم يمسك مشطه الصغير يسرّح به ستّ أو سبع شعرات مازالت صامدة في رأسه لم تنّسب من بين أسنان المشط. يسأل قبل أن يغادر البيت "شنو غدانا اليوم"؟، ثم يتوجه إلى أحد المقاهي الشعبية التي اعتاد أن يلتقي فيها مع أصدقائه القدامى لكي يتباروا في لعبة (الطاولة)، وهي أكثر الألعاب التي يرغب كبار السنّ من الرجال في لعبها، ويرتفع خلال اللعب صوت تقلّب النرد، وصدى كلمة "دوشيش" حين يستقرّ النرد على الستّ نقاط، يعقبها صوت مرتعش لأحدهم وهو يغني المقام العراقي حين يتغلب على خصمه الآخر، والابتسامة تعلو وجهه. وقد يتبادلون أطراف الحديث في موضوعات عدة، يكون أهمها الحديث عن الأوضاع السياسية والهجمات الإرهابية التي تحدث في أيّ لحظة، وتقتل الناس، وتحصد أرواح العشرات من الأبرياء ممن يرومون الذهاب إلى دوائرهم، وكذلك طلبة المدارس والجامعات الذين لا ذنب لهم.

ثم ينهض مغادراً بخطى ثقيلة إلى آخر محطاته اليومية، وهي الجلوس على حافة رصيف إحدى النافورات التي تتجمّع تحتها العصافير والطيور الهاربة من حرّ الصيف اللاهب، يجلس ويتطلع إلى المارّة من الناس والباعة المتجولين وهم يتقاطعون في سيرهم وحركة السيارات المارّة من أمامه، أغلبية المارّة من هناك كانوا يعرفونه ويلقون التحية عليه، لقد أصبح جزءاً من هذا المكان وكأنه نصب تذكاري من البرونز. ثم يعود بعد أن يغلبه النعاس إلى المنزل.

 لم يفقده روتينه اليومي ابتسامته المعتادة ولا ثرثرته، كان يحاول أن يلمّ شتات نفسه ويعيد ذاته الأولى وهو يتابع مباريات كرة القدم مع أولاده كأيّ شاب يعلو صوته ويفقد أعصابه حين يخسر الفريق المفضّل لديه أمام خصمه، يتحدّث وكأنه حكم ومدرب دولي يقتنص الأخطاء.

ذات صباح طالع وجه زوجته التي كانت تغطّ في نومها العميق وفمها مفتوح كفم سمكة، وبالقرب منها طقم أسنانها المتيبس. كان يشتاق أن يراها في ذلك اليوم مستيقظة، لسبب لا يعلمه، ويطبع على خدها الذابل قبلة قبل أن يخرج. لكنه هذا الصباح بدا هادئاً وخالياً من الضوضاء التي كان يفتعلها متعمداً أن يوقظ الجميع. قبض بكفه حفنة من حبوب الحنطة واضعاً إياها في كيس، حيث اعتاد أن يطعمها للطيور والعصافير. خرج قبل أن يفكّر في الذهاب إلى المقهى، فقد ذهب هذه المرة إلى الساحة، متأبطاً تحت ذراعه إحدى الصحف التي لفها كورقة تبغ، وعندما وصل إلى الساحة فرش ورق الصحيفة -التي تتصدر التفجيرات والأوضاع السياسية عناوينها -على الدكة، ككلّ يوم تقريباً، جال بين سطورها بنظرة سريعة قبل أن يجلس محدّثاً نفسه قائلاً: ما علاقتي أنا بالسياسة، أنا رجل مسنّ، الأجدر بي أن أهتمّ بصحتي قبل كل شيء.

فتح الكيس وأخذ ينثر حبّات الحنطة في الهواء، فتجمّعت أسراب الحمَام والعصافير من حوله، وراحت تحطّ وترتفع مرفرفة بأجنحتها وهي تلتقط الحبّات بمناقيرها الحمراء الصغيرة، منظر جميل جعله يبتسم ويشعر بسعادة أنسته أوجاع الشيخوخة وأوجاع الوطن. تسارعت ساعات الصباح حتى وصلت ذروتها، فازدحم الشارع بالمارّة والسيارات، واكتسحت أشعة الشمس المكان، وقبل أن يغادر بقليل، فجأة عصف صوت انفجار رهيب طغى على صوت المكان وضوضائه وزحمته، تبعته عاصفة رمادية اجتاحت المكان برمته، محّولة  إيّاه إلى ركام وأكوام من الحديد، وقطع من الزجاج المحطّم المتناثر في كل مكان، وبرك من الدم التي نزفت من أجساد المارة، جعلت منها  بقعة حمراء. بعدها عمّ السكون المكان وكأن الحياة قد توقفت، هرعت سيارات الإسعاف والإطفاء لتسعف المصابين وتخمد ألسنة اللهب في المكان الذي صار مليئاً بالدخان والسخام الذي خلّفه الانفجار. تسارع الجميع للبحث عن ذويهم بين المصابين والقتلى، إلا هو، فلم يعثر أحد على جثته بالرغم من البحث الطويل، بدا مكانه عبارة عن بقعة بيضاء نظيفة جداً! كأنه غادر المكان قبل الانفجار بلحظات، بينما المساحة المتبقية من الرصيف كان يكسوها السخام الأسود الذي غطى المكان، لم يجدوا أيّ أثر له في المستشفى، أو ثلاجات الموتى، كما لم يجدوا أيّ أثر لأشلاء جسده، أو أيّ شيء يدلّ على أنه قضى نحبه في الانفجار. بعد عدّة أيام شاع حديث بين الناس وتناقلته الألسن بأنهم شاهدوا سرباً من الحمَام حمله وطار به بعيداً.

***

نضال البدري

عضو اتحاد الأدباء في العراق

الدليل ..

في يوم قائظ شديد الحرارة، ثقيل الوطأة، كانت الشمس ترسل سعيراً يلفع الأجساد، في السماء تتصاعد أعمدة دخان (التنانير) المسجورة ظهراً بلا حراك، كأنها تخترق السماء، كان طعمة من دكانه الصغير، النازل عن  رصيف الشارع بنصف متر، هو الوحيد الذي يراقب الزقاق الخالي من المارّة.

يتصبب العرق من صلعته الصغيرة،ينساب بغزارة على لحية كثيفة الشعر، غطّت ملامح وجهه، يرفع أذيال ثوبه لمنتصف فخذيه، حتى بانت عروق ساقيه ناتئة متخشبة، بين الحين والآخر يضطر الى ازاحة العرق المتساقط في محجر عينيه بخرقة اتسعت بقعها الرمادية بعرق  ممزوج بذرات الغبار، فيبست أطرافها.

يتدفق عليه الهواء الساخن من مروحة يدوية مصنوعة من سعف النخيل، ينقلها من كفه اليمين تارة، الى كفه اليسار تارة أخرى، وبالعكس، بحركات سريعة متتالية.

فجأة يردّ  طعمة السلام بتثاقل، لرجل وقف أمامه بدأ يتأمله بعد أن هزم النعاس الذي كاد أن يطيح به، وهو يتمايل على كرسي خشب قلق، وبلا مسند، كانت قسمات وجه طعمة تدلّ على انه لم ينم منذ يومين أو ثلاثة بلياليها، يفتح عيناً ويغلق اخرى، حين كان يتأمل وجه الرجل المتلهف بالسؤال عن أحد أقاربه، ليس ببعيد عن داره، طفر من فمه هذا السؤال:

- عمي…ولا بيت عبيد؟

- نعم عمي، وصلت!

- رحمة لوالديك!

بدأ  طعمة يؤشر بيديه نحو هذا الاتجاه وذاك، كانت حركة يديه توحي بحالة جزع مرير تنتابه تلك اللحظة:

- عمي .. تأخذ هذا الشارع، عدل، لا يمنه ولا يسره، ثم تنعطف نحو اليسار، بعد ان تحسب ثلاثة شوارع، في الرابع تدخل الثاني على اليمين، حالما تدخل الثاني سيواجهك في النهاية بستان نخيل، إذا وصلت البستان أعرف نفسك (تيّهت)!!

***

جمال العتابي

غروب ..وتنتهي الخاتمة

عند قبلة ذات مقطعين =

واحدة معبأة في عيون لهفة

وأخرى مضغة رماد

في جوف المسافات الآيلة للانهيار

على الرصيف.. يقف الغضب

هيكلا منطفئا

يتلمس عناوين الجرائد الفاسدة

يسأل التواريخ عن مثوى

من عربدوا دون فهم في السياق

والشارع ضالع بالسياط

على جبهته مطرقة ...

وألف علامة...؟

كل الأسئلة مباحة

الأجوبة وحوش تستأنس العاصفة

كل الشعارات فضفاضة

فمن يمنح الحلم

خبزا ...وماء؟

من يلبسنا حضرة مطلقة

لنغتسل من غربة الوطن؟

*

العنف حكم غيابي.....

يجتاح الأجساد من حيث لا تدري

ولا تدري الاسرة المثقلة بالهذيان

والشارع المارق في تثمينه

علب السجائر

سراويل جيل مثخن بالخسران

أحمر شفاه لا يفقد اللمعان

والخلاخيل إيقاع نشاز

تشنج في أحشاء الظهيرة

*

الشعراء طوابير على حدود الفراغ

لا يعلمون أن اللعنات.. لا يشفي علتها

غير بوصلة انعتاق

من يوم ميلاد يأسرك في صفحة باردة

انتهت صلاحيتها حين عجز الواقع

عن استضافتهم في عالم قصير القامة

فاحش الإعاقة ...غني بالقهر

موغل في مجاملات قاتلة

لا تفقد مفعولها مهما ضخها الهراء

*

الجدران تصرخ فيك =لا تبك

افتح صدرك للريح

شرقية كانت أم غربية

وامنح ثقتك للسراب

هو أمين ...مخلص.. لا يخون

على امتداده

ارسم وجع الغصن المنحني

لعاب طفل ينظر إلى الرغيف باستجداء

مواء قطة فاجأها المخاض

عند عنق كوكب ضرير

فصوله عاجزة عن الدوران

أوقفتها الكآبة مذ شحت السماء

هجرتها الخصوبة إلى وجهة

غير معلومة

*

بين تجاعيد بحر عجوز

تختبيء رائحة الحلم العتيق

تستصرخ الجهات الست:

أين أنتم يا أحباب الله

والجوع يتمدد أفقيا ...عموديا

ليصير مأوى المشردين الذين

أرعبهم النشيد الوطني

حين اهتز في جنبات السكون

تحية لأكوان تجيد تراتيل التبجيل

مهما حفرنا عميقا تحت جلودنا

يظل القهر طافحا على المحيا

*

قال بودلير- سابقا عصره -

عليكم بالثمالة إلى الأبد

لم ندرك وقتها ان نصيحته جاءت

حفاظا على آخر غرغرة في الرمق

كيما نشعر بأوزار الزمن الفجيعة

نحن الفجيعة المبتغاة

قصيدة الموت المشتهاة

وقنينة النبيذ المعتق

في شرايين الأجساد المنهكة

*

بأبجدية عشق...كنا نكتب الشعر

اليوم نكتبه بياضات تروي

انتظاراتنا العالقة في جوف الريح

ارتجافاتنا الأخيرة ..المتشبثة بالفواصل

خيباتنا المتناسلة في الحبر المراوغ

الخداع محارة تجمعنا ...

والوعي باكتيريا

تتمرغ في وحل المسافة

كيما يتورط في نكز أدمغة

تجتر خيبتها إلى حيث

كان ...يكون ....الخبز ترياقا

ضد العراة الماضين في توبيخ المعنى

مطاردة الراقصات حين يهزن خصورهن

نكاية في قوانين لا مأوى لها

غير دواة منزوعة المضمون

وأقلام تبصم للظلم

بلاغة إخماده الحرف فوق الغلاف...

بعيدا عن أي معنى !!

***

مالكة حبرشيد - المغرب

نمر على الأرض

نترك عطرا

ونمضي

*

2

في رؤيا الغيب أو الحسِّ

أدركُ حين نعانق حُبّا

أنّ الظلَّ

يحفظ أسرار الشمسِ

*

3

هي لا تحب الكلام سوى

مع نفسها

أو

في ازدحام الخيالِ بوجه حبيبٍ ليس له إن أفاقت مكانُ

تخاف من الحبّ أن يكشف الزيف فيها

ولا زيف فيها سوى

ما يرسم الأخرون على وجهها من بعيد

وهي التي تؤلّف للقلب في كلِّ يومٍ رواية حبٍّ جديد

وإن قيل أنت الجمالُ تخافُ

وتشتهي ألّا تخاف

وترسم للحب نهرا بدون ضفاف

وتحلمُ أن ترتوي بالحياة

لكنها

تعود من الحلم

في كفّها النهرُ ... نهر الجفاف.

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

أيام صعبة اتوسل فيها

الامان

قلب خائف يعادل حقلاً

ميتاً

يذوي الورد

تموت المواسم

فتقفل العصافير عائدة

الى جوع الأعشاش دون

حبة قمح

وتسوّد أرغفة الخبز المنسيّة

في التنور

فالخباز مشغول الفكر

بولده الذي خرج صباحاً

ولم يعد

وتلك النحلة تطنّ وجعاً

أذ هاجمها دبور

أحمر

ومزّق جناحيها

والبستانيّ يبكي أزرار شجرة

الورد

التي هاجمها بذنبٍ أو دونه

الصقيع

والصبح ليس على مايرام

والغيم منذ سنين ممهور برعد

متأخر

والسوق بلا ألوان والطرق

مغلقة

والميزان يبكي كفتيه

الفارغتين

والنهر تعافه الرعاة

ففي السقيّ الأخير كان ذرا

امرأة

ينتهي كفها بالحناء

منحشراً بين تروس الألة

التي ترعف

الماء

حين يكون الموت مجاناً

وللجميع

يبكي العشب خوفاً من

الليل

والدروب بلا نهايات

ولا عتبة يستريح عندها

الطريق

موبوء ذلك الدرب بالعشب

الضار وأوجاع

العابرين

وتحتمي الأجفان بالنعاس

هرباً

حين يذوي الورد وتذوي معه

أحلامنا

وتبتهج القيود وهي تأكل

معاصمنا

وجبتها المفضلة

في ظل أحتراق المزارع الموجوعة

البذور

كي يحيا المتخمون ويتبادلوا

القُبل

تحت مظلات

عذابنا .

حين يذوي الورد تركع

الأشجار

فتنحني معها أعشاش

البلابل

فتفقس الأعشاش

عن أفراخ جبانة

خرساء

تألف ذلّ الأقفاص ولا تفهم معنى

الحرية

ويغيب الغناء عن

السماء

وما أقسى وجع سماء أنهكها

الصمت

حين يأتي الحزن كتلة من صخر

تنقض دون رحمة

وباب مغلق ينادي

الغائبين كي

يطرقوه

ولا مزلاج يفتح

في ظل وجع يبث

رسائله

فتصل بآنٍ

واحد ..

وكلٌ يأخذ نصيبه المفروض

قسراً من

العذاب

حين يذوي الورد

لا يعود بأمكان السنونوات

العودة

فقد ألفت أعشاشها

المؤقتة

على امتداد طريق الهجرة

الأخر

المموّه بالأسلاك

الشائكة

وما عادت تستدل على أعشاشها

الأولى

والقش منثور على أرضٍ

يباب

والثمر مرٌّ كحنظلة سوداء

القلب

والنهايات المعقدة

لاتنتهي

مفتوحة على نوافذ

الصمت

والستائر الزرقاء

مغلقة

حين يذوي الورد

***

شعر: عالية محمد علي - العراق

عشقتك والجنون لظى الحريق

يبلل ما تيبس في العروق

*

تمادى العشق في قلبي جحيمًا

وسال الخَبل زيتًا من عذوقي

*

يغطّيني العراءُ بكلّ خطوٍ

ويفضحني التخبط كالغريق

*

يثرثرني انفراطي فيك شوقا

فيجمعني دنوّك بالوثوق

*

أما والله لا أشكوكِ مني

فحبك مرجعي وصدود ضيقي

*

نزلتُ إليكِ من لججِ الظلام

فأرشدني ضياءُك للطريق

*

وقشرتُ الندى بصيامِ صبرٍ

تبسَّمَ عاريًا عند الشروق

*

يزيّنني مقامي منك فخرًا

كترصيع الخواتم بالعقيق

*

اتيه بغبطة صافي النوايا

واحلم بالجلال كما البروق

*

تجلى في وفيك لهيب افق

اخضله بغصن من رحيقي

*

تدلى صدرك الملكي جمرا

فاشعل ما تبقى من حروقي

*

صهيلك جلجل الآفاق رعدا

وضمخني بخورك بالشهيق

*

صحارى فتنتي اخضرت رضابا

فبادلها سعيرك بالخفوق

*

ترابي يمم الطوفان طهرا

فرممت الخلود بماء ريقي

*

وأبلج رائق الشفتين زهوا

واهرقني فضاءك بالرحيق

*

كنجمين اجتمعنا وافترقنا

وأسرينا الى الأبد السحيق

***

طارق الحلفي

لدينَا ثلاّجةٌ

غنِمَها أبي

من أيّامِ الحربِ ورحيلِ الإفْرنجِ

في رَمضانِ الصّيفِ

كلُّ الحَيِّ كانَ يُفطرُ

على مائِها المُشَعْشَعِ بالثّلج

ماتَ أبي

الثّلاجةُ شاختْ

أمستْ خزانةً للأدواتِ الزّائدةِ

وتابوتًا لِلُّعَبِ

ضاقَ البيتُ

يا أبَتِ

ذابتِ الدّنيا

يا لُعَبي

ذاتَ يوم

بِعْنا الثلاّجةَ

بأبخس ثَمَنِ !

***

سُوف عبيد

أ تجزعي يا جمانة العمر

لا تتألمي من همهمات وقت

متعثر الغواية

يمطر أسراب الضباب

نفثات غيمة

خاوية الوتين

تسري لنصل الغروب

زُعاف وداع

ستنكفئ رميم ملح بدجى الزمن

لن تلهو حناجر الريح بقداس أقدامك

فأرواحنا سيوف داهية الأجل

وترابنا ذراري حُرة

يُركع بطهرها صلاة التقديس

ويضرب بطيب أهلها المثل

أرى الطير ينقر خبزها ...

يسكب خمرها ...

مدلهمات ضياع ...

أنــــــصـــــتي ....

أِنصتي لسريان سهم الشعاع

مزق وهن الرقاد..!!

أيقظ صراخ السكون..!!

من هفوة نعاس الصمت

بوخزة صراع ...

أراني ... أعصفُ

... أعصف ....

سورا صاعق اللهب ...

... أصفع ...

أصفع ظلال خيبات واهية العروق

سأذرف دمي نسغا لآطراف الذبول

لأُكَحل عيون ترابكِ بدم المنايا

وتتزين أغصان جودكِ خضاب الطلل

سأنسج خطوط يدي سلما لمعصميكِ

وتغصُ جفوة الموج سواحل مد

ليثمل طين الفرات شهد السلام

وبشهقة فجرغجري الضياء

هديل أنثى ...!!

تمهر سماء الوطن ...

نخب القبل...!!

***

إنعام كمونة

منذ يومين وأنا أحاول أن أخرج من فوة قلمي حرفاً تلوى الآخر لأصنع عقد نص يطوق عنق الورق الأبيض...

إنني أتحايل على أبجديتي أن تطل من نافذة الحبر إلى حقول الأسطر الفارغة لعلها تخرجني معها إلى ضجيج العالم من جديد...

لقد وعدتك أن تكون أحرفي متوشحة اللون الزهري، وأن تكون مفرداتي كلها ربيعية لأربعة فصول، وأن تتفتح كلماتي  المرصوفة على الورق كزهر عباد الشمس كأنها تحتفي بمواسم اللغات الخمس...

وعدتك أن تتلاشى الأحرف الضبابية من على المنضدة وقصاصات الأوراق المصفرة كخريف أيلول...، وبأن يذوب الشمع عند آخر قطرة دمع تدحرجت من على سفح سطر..

وكم أجد في هذه اللحظة عمق الأشياء التي حفرت في داخلي، وإنني الآن أنوب حتى عن نفسي التي أحاول جاهدة أن أعيدها إلى ذاك الهدوء الذي فقدته...

وكم أجتهد حتى أنزع ثوب الحداد من كتاباتي، وأضع الحكل على مرفئ كلماتي..

ففي تلك الساعة وعندما غادر الجميع وبقيت وحدي تبعثرت.. حتى ظلي تهاوى، وبقيت اسكب الدمع فوق وسادتي حتى جفت حدقاتي وذبل صوتي.. لم أكن أرغب أن أكتب هذا السطر المبلل حتى لا تجدني أنثى البكاء في كل مرة.. أردت فقط أن أخرج ذاك الشعور الذي يخيم في داخلي عندما أشرع في الكتابة..

هل الكتابة تجردنا من ثباتنا؟ وتحدث أهتزاز مخيف في كياننا  الذي لطالما كان الجدار الذي نتكئ عليه؟ ...

إنني أتعجب حقاً من قدرت حرف يطيح بمدمعي! وكأنه سيف غرس في لحم الأحلام...

***

مريم الشكيلية /سلطنة عُمان...

القسم (4) من: الخط المحروق

عند مدرج المنحدر المرتبط بما يشبه السرداب في ظلمته البائسة، حل المحتجزون بعد تحرير أياديهم من قيود الكلبشات، وبعد تجريدهم مما بحوزتهم من إثباتات شخصية بغية تسفيرهم لاحقا إلى وطنهم الأم، هذا الذي أجبروا على فراقه منذ زمن- رغم أنهم لم يشعروا يوما بأمومة هذا الذي يسمى وطن، فهو لم يحتضن أبناءه، وبناته بل سعى في تشريدهم، وتخويفهم، وقتلهم ناهيك عن تعرضهم إلى حالات الاضطهاد، والقتل، والتخوين.

بات الليل ثقيلا، صاروا يتداولون الموضوعات الواحد تلو الآخر، يكتبونها في مشاعرهم ثم تتلى تباعا حيث لكل حكاية إيقاع، ومعنى قد لا يتحمله الإنسان عندما يستعيد تفاصيل أحداثه المؤلمة.

أحس صاحب المعطف ببعض الاسترخاء عندما راح يحتسي قدح الشاي مع سيجارة الفاي سوري، مستدعيا مع همومه تلك المشاهد- فخاخ الموت، ومسدسات أصحاب البدلات الزيتوني، والسيطرات، ورجال الأمن، والمخابرات، وثكنات العسكر، والفرق الحزبية، الجيش، الجيش الشعبي، مختار المنطقة، وأضاف لذلك مآسي حرب ايران، حرب الكويت الحصار، مع جلاوزة النظام.

تلك الملامح المليئة بتقاسيم العنف، والتوحش، والفسوق، كيانات وجودها يهدد حياة أي إنسان، فربما يتم استفزاز من لا يعجبهم في مشيته، ومظهره ،وطريقة مأكله، وملبسه، ليزج به في السجن.

وتلك محطات تفصل بين زاويتين حرجتين يشتملان على آخر مسافة إلى الموت، ونهاية ما تبقى من الحياة.

وهو السر الذي يكمن خلف محطات هذا النوع من القهر، والظلم، والاستبداد-الفقدان الذي بلغ أعلى درجات الخيبة، والخذلان لوطن غادره أهله، ومحبيه وهو واحد منهم.

صار الجميع يتداولون القصص كل صباح، ينامون في الليل، ويفترشون إبريق الشاي مع الخبز والطماطم المقلية، تبادر إلى أذهان البعض أن هذا النوع من السجون قد يكون بمثابة محطة استراحة قصيرة لمحطة قد يحكمها القمع والهلاك.

صار يرسم تلك القوافل التي أبادها النظام- منهم من لقي حتفه تحت الأرض، أوفي أحواض حامض النتريك، وغرف التحقيق، أوفقا لأحكام الإبادة في مقابر الموت الجماعي.

نظر إلى جدران الغرفة المعتمة متخذا مكانا من الزاوية، لم تكن غرفة السجن مكتظة بالسجناء، راح يحتسي قدح الشاي بكوب البلاستك، مع قطعة الصمون السمراء، شاكرا الله على نعمة ما هم فيه.

أحس بنشوة ذائقته، فهو لم يملأ جوفه منذ زمان، تسمرت عيناه بعد حين بذلك الذي اتخذ من حذائه وسادة، صار ينظر إليه باشمئزاز، بعد أن اتضح للجميع كيف أن سلوكه كان غريبا وغير مريح حيث دفن بعض الدولارات التي كانت بحوزته في ذلك الحذاء، ولم يصرف على نفسه وعلى أصدقائه الذين عاشوا معه محنة ما حل بهم، ولم يكترث لأمرهم طوال تلك المدة.

راح يتمتم مع نفسه مؤكدا ما يقال (أن السفر ميزان الاخلاق) وأن هذا الذي جاءه ذات يوم وقال له سأذهب إلى المرحاض لتمزيق جوازي هو نفسه هذا الذي يفترش حذاءه بعيدا عنهم، و هو أسوء من رافقه، فقد اتضحت حقيقة معدنه، تأكيدا لما يقال (السفر ميزان الاخلاق).

جلس صاحب المعطف بعد أن اطمئن على مصير زوجته التي تم عزلها بصحبة ابنتها، وابنها في المطار، حيث عرف لاحقا برسالة تم إيصالها لهم عن طريق الحارس، أنها ذهبت إلى العائلة التي استأجرت منهم، والتي احتضنت أولادها الصغار طوال فترة وجودهم في ق.

كان صاحب المعطف الأقرب إلى صديقه (سيد ب) حيث كان وقورا وهادئا طوال هذه الفترة، صار الاثنان يتحدثان عن خطة السفر إلى كردستان العراق في اليوم الثاني، والثالث.

ذلك بعد ان بات بوسعهم أن يشتروا الطعام عن طريق الحارس الذي وكل بالاشراف على حراستهم، لقاء إعطائه إكرامية الشراء.

استمر الحال أكثر من عشرين يوما نفذ ما لديهم من النقود تماما ،وفي اليوم العشرين تحديدا بعد الساعة الثانية ظهرا جاءهم الخبر للتهيؤ، ظن الجميع أنه سيتم تسفيرهم، لكن الأمر ليس كذلك.

حيث استطاع زوج المرأة التي سافرت بعهدتهم أن يتعهد وبواسطة كفالة مالية باطلاق سراحهم على أن لا يعودوا إلى مثل هذه القرارات لاحقا.

أدرك الجميع فضل هذا الرجل، بعد أن تم الإفراج عنهم، وحلت الساعة التي يفترق الأصدقاء فيها وهم يستقلون سيارة أجرة تقلهم فرحين بعد خرجوهم من مغارة ما حصل معهم طوال هذه الرحلة، وكان ذلك في ظهيرة يوم قائظ.

***

عقيل العبود

الى الحِلّه خاصِرةُ الفُراتِ وَخَصْرُه

والى بابلَ التاريخ

***

وقوفًا عِنْدَ خاصِرَةِ الفُراتِ

وَزيدوني نَبيذاً ياسُقاتي

*

لَعَلّي أنْثُرُ الأنْغامَ كُحْلاً

على عينِ الغزالةِ والْمَهاةِ

*

قِطارُ الليلِ قد فاتَ المُغنّي

فَعادَ مُغَنّياً بَعْدَ الفَواتِ

*

خُذوا قلبي بقافلةِ السّهارى

الى فيحائنا عَبْرَ الفَلاةِ

*

وَإنْ حَنّتْ قَوافِلِكمْ لِحادٍ

فَقلبي في السُرى أوْفى الحُداةِ

*

لِخاصِرَةِ الفُراتِ نَذرْتُ قلبي

دَواءً مانِعاً وَجَعَ الحَصاةِ

*

على خَصْرِ الفُراتِ لَمَحْتُ سِرْباً

عَنادِلُهُ تُناغي القُبّراتِ

*

على شَجَرِ الخَيالِ غَفَوْنَ دَهْراً

يُعَلِّمْنَ الورى معنى الأناةِ

*

إذا ما طِرْنَ سِرْباً أو سَراباً

تناهَبْنَ الفُؤادَ كما الفُتاتِ

*

فَيا أُمَّ المدائِنِ سامِحيني

إذا ما صِرْتِ في النَجوى فَتاتي

*

غَدوْتِ شَقائِقَ النُعْمانِ عِطْراً

وَهِنْدَ قَصائدي بينَ البناتِ

*

لِماءِ سَمائِنا الزرقاءِ ظَبْيٌ

فهل باتَ السَديرُ بِلا كُماةِ

*

فَليْتَ القلبَ قد أضْحى غديراً

فَيَرْوي كُلّما عَطَشَتْ قَطاتي

*

فؤادي دارَ حَوْلَ االسورِ فجرًا

كَدرْويشٍ سَما وَبِدونِ (قاتِ)

*

حَنانيْكِ الهوى صاباً سَقانا

وأسْكَرَنا الغرامُ بِلا شَكاةِ

*

وَقَفْنا عِنْدَ بابِكِ إِذْ شَمَمْنا

شَذى مِسْكِ الظِباءِ الموقِداتِ

*

بِهذا القلْبِ فانوسَ التَجلّي

فَهَوَّمَ في (دَرابينِ) المَشاةِ

*

كأنَّ قصيدتي طُبِخَتْ مَساءً

على جَمْرِ المَواجِدِ والطُهاةِ

*

أنا المسكونُ في عِشْقِ القَوافي

وأقلامي شَكَتْ شُحَّ الدَواةِ

*

خَيالي يوقِدُ الذِكْرى مَجازاً

فَيَشْتَعِلَ الجَوى بالْذِكْرَياتِ

*

تَلَفَّتَ خافِقي فَذَوى حَنيناً

وَهَلْ معنى الحنينِ سِوى المَماتِ

*

أَيَكْسِرُني الحنينُ لِشَطِّ ليلى

وأعذاقِ النخيلِ المُسْكِراتِ

*

لِأرْشُفَ ما تَجودُ بهِ الدَوالي

وَما تَعِدُ الكُرومُ مِنَ الهِباتِ

*

أَواسِطَةَ القِلادةِ من بلادي

حماكِ اللّهُ من زيْفِ الدُعاةِ

*

سَميرَ أميسَ قد تُهْنا سُكارى

بِكمّثْرى الجِنانِ بلا نواةِ

*

هَفوْنا نَحْوَ جَنّتكم عطاشى

أديري الكأسَ تَسْنيماً وهاتي

*

فَمِنْ جَبَلِ الأيائِلِ جيء َ فجراً

بِهوْدَجِها لِعَرْشِ المُعْجِزاتِ

*

رَأى في شَعْرِها شلّالَ ماءٍ

فأهْداها فَراديسَ اللواتي

*

سَلَبْنَ اللبّ مِنْ أعتى مَليكٍ

فّطوَّفَ سابياً نَسْلَ العُتاةِ

*

سَلوا أُمَّ الجَنائِنِ كيفَ أمْسَتْ

بِأهْدابِ السَماءِ مُعَلّقاتِ

*

لِشِعْري صِرْتِ سوسَنةَ البَوادي

وَلُؤْلُؤةِ العُصورِ الغابراتِ

*

فَأنتِ السِحْرُ مُذْ هاروتُ أوْحى

الى ماروتَ أسْرارَ الحَياةِ.

*

وَمُذْ أغْوتْ حَمورابي الوَصايا

فَلَقّنتِ الشرائعَ لِلْقُضاةِ.

*

فَمِنْ بُرْجٍ لِبابِلَ شَعَّ فَجْرٌ

حَكى شَدْوَ البلابلِ واللغاتِ

*

إذا ما ضجَّ في روحي العِراقُ

أرى العَنْقاءَ فَزّتْ مِنْ سُباتِ

*

فَحَوّلتِ الرَمادّ بَريقّ ضوءٍ

لِمُنْتَجَعِ الشقائقِ في رُفاتي

*

فَمُذْ غابَ النَحاريرُ القُدامى

تَغَجّرْنا دُهوراً في الشَتاتِ

*

فَيا سِرَّ البِدايَةِ عَلِّليني

فَقَدْ شَحَّ البريدُ على السُعاةِ

*

ويا مَهْدَ الغضائِرِ كُنْتُ أشقى

بِذي الخَجَلِ المُعَتّقِ في سِماتي

*

أنا الريفيُّ والقُرَويُّ نَبْعاً

وَطَلْعُ النخْلِ فَوْحٌ من صِفاتي

*

وكم جِئْتُ المَدينةَ مُسْتَنيراً

بأنغامِ النوى والأغْنياتِ

*

فَلَمْ تَحْفَلْ بألْحاني وَشِعْري

وَلَمُ تَغْفِرْ كما الدُنْيا هَناتي

*

فَليْتَ القلبَ قد أضْحى غديراً

فَيَرْوي كُلّما عَطَشَتْ قَطاتي

*

(صَفِيُّ الدينِ) ذَكّرنا قديمًا

بِأنْدَلُسَ الهوى وَ مُوَشّحاتِ

*

(مُوَفّقُ) في حَواريها يُغنّي

على عَزْفِ العَواذِلِ والْوشاةِ

*

تَوَضّأ في قصائِدِهِ فُؤادي

وَمَرّتْ كالسُلافَةِ في الّلهاةِ

*

الى تِمْثالهِ طَفَقَ الندامى

صَعاليكُ المدينةِ كالغُواةِ

*

وَسعْدي لم يَزَلْ حَيّاً يُغنّي

مَواويلاً كَنوْحِ مُطوّقاتِ

*

يَميلُ (الطاگُ) بالدنيا إذا ما

شَدا (بوذيّةً) طوْرَ (البَياتِ)

*

ظِباءُ (* الجامِعينِ) هُناكَ تَرْمي

على الأكْبادِ جَمْراً والْرِئاتِ

*

تَهُبُّ قلوبُنا للشَطِّ سَكْرى

هُبوبَ الريحِ في شتى الجِهاتِ

*

ذُنوبُ العاشِقينَ وَإنْ تَمادوا

غَدتْ كَفّارةً للسيّئاتِ

*

توضّأنا بأمطارِ الأغاني

وأطْفأْنا جِمارَ المَعْصِياتِ

*

تَطَهّرْنا بِها ثمّ إرْتَقيْنا

صعودًا رغْمَ عَزْفِ المُغْرَياتِ

*

فَطِرْنا نعْتَلي ريشَ القوافي

وأجنحةِ الخَيالِ الموحِياتِ

*

سُمُوّاً حَيْثُ أخْيِلَةِ النَدامى

لَها قَدْحُ الجِيادِ المورِياتِ

***

د. مصطفى علي

لِغَزَّةَ حُبِّي وَانْتِمَائِي يَؤُمُّنِي

وَحُبِّي لَهَا فِي النَّائِبَاتِ يَضُمُّنِي

*

وَأَرْمُقُهَا فِي الْحَادِثَاتِ بِمُقْلَتِي

وَقَلْبِي بِهَا كَالنَّاسِكِ الْمُتَيَمِّنِ

*

يَلُومُونَ قَلْبِي فِي غَرَامِ حَبِيبَتِي

وَأَنَّى لَهُمْ بِالْعَاشِقِ الْمُتَمَدِّنِ ؟!!!

*

سَلَامِي إِلَيْهَا يَا حَبِيبَةُ بَلِّغِي

وَزُفِّي غَرَامِي فِي الْبِلَادِ وَأَمِّنِي

*

أَنَا الْعَاشِقُ الْمَفْتُونُ حُبِّي عَلَى الْمَدَى

يَفُوقُ حُدُودُ الْأَرْضِ رُوحِي وَطَمِّنِي

*

بِلَادِي وَقَلْبِي فِي هَوَاهَا مُتَيَّمٌ

فَلَا تَفْجَؤُونِي بِالسُّؤَالِ الْمُجَنِّنِ

*

نَرَاكَ بِدُنْيَا الْعِشْقِ قَلْبُكَ هَائِمٌ

بِحُبٍّ جَرِيءٍ لِلْجَنَانِ مُسَكِّنِ

*

خُذُونِي وَعِشْقِي لِلْحَبِيبَةِ إِنَّنِي

أَتُوقُ لَهَا مَا بَيْنَ نِيلِي وَأُرْدُنِي

*

وَقُولُوا لَهَا: " حُبِّي حَيَاةٌ بِأَسْرِهَا

فَمَا ظَنُّكُمْ بِالشَّاعِرِ الْمُتَمَكِّنِ؟!!!

*

لِغَزَّةَ أَحْلَامِي وَشَوْقِي مَعَ الْهَوَى

يُدَنْدِنُ لِلْأَحْرَارِ لَحْنِي فَلَحِّنِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

في ليلة لايذكر اوصافها كان على أبواب الخروج من أزمة عاطفية مجنونة طرق سمعه رنة نغمة (الاشعارات) فتعامل معها بلا مبالاة متوقعا انها اخر قذائف الراحلة (الفيسبوكية) لكن هاجس غامض دفعه لقراءة هذا (الأشعار) فوجده طلب صداقة من أنثى باسم جميل فهرع إلى صفحتها ودخلها دخول الفاتحين.

. كانت صورتها تحتل صدارة الصفحة بوجه يشع عافية وحجاب لا يظهر الا وجهها المدور مثل قمر في ليلة تمام وفي الصفحة ادبا وشعرا وحكايات أطفال وذوق وجمال فوافق فورا على الطلب.. بعد الموافقة بلحظات رهن هاتفه بنغمة رسائل (الماسنجر) وكانت رسالة شكر لقبوله طلب الصداقة ورد عليها بأدب جم وتمنيا لبعضهما صداقة جميلة خالية من النزوات والغايات.

. في الليل بدأت بينهما دردشة أصدقاء عرف عنها ماارادت هي أن يعرف وكان اهم ماعرف هو موت زوجها في الحرب الدائرة في بلدها وتشضي عائلتها وتغربها هي بسبب الحرب وهذه المعاناة وعرفت عنه معاناته التي تشبه معاناتها مع اختلاف انه منفصل وليس أرمل واستمرا بالدردشه والتقرب كل ليلة حتى طلبت ان تسمع صوته ذات ليل وبعد المهاتفة أخبرته ان له صوتا رجوليا اجش يثير إعجابها وحنينها لصوت رجل تحبه واخبرها ان لها صوت كروان ووداعة حمامة واستمرا بالتهاتف حتى استأذنته لتراه صورة وصوت فطار من الفرح واجريا مكالمة (فيديو) واطنبت في وصف وسامته ورجولته فبالغ في وصف جمالها لكن ما حز في نفسه انها كانت محتشمة بشكل مبالغ فيه كثيرا.

. دامت لقاءاتهما على هذه الشاكلة أياما حتى أعلنت عليه الحب ومن ثم تغيرت الأحاديث من الغزل المتبادل إلى الشؤون اليومية ومشاريع المستقبل وبدأت الاتصالات (الفيديوية) وهي بكامل احتشامها لا تكفيه ولا ترضيه والح في رؤية بعض مفاتنها لكنها كانت ترفض بأدب في العلن وتريه بعض مايرغب بطريقة نسائية ماكرة تبدو على طريقة (ظهرت سهوا) وكان في كل محادثة يرى عضوا من جسدها بدء من ذراعها إلى رقبتها ثم صدرها وخصرها حتى رأي بصدفة حقيقية وركها و(الشورت) فاخبرها انه متى ماتمكن من رؤية ساقيها ستكتمل الصورة ويحدد موقفه فقطعت الاتصال

. اتفقا على الزواج وبدأ بترتيب الأمور وحددا يوما لإعلان خطوبتهما ويوما اخر للزفاف وهيأ نفسه لانهاء عزوبيته وكان فرحا وسعيدا مثلها لكنها اختفت بعد يومين وبحث عنها في الفيس فلم يجد لها أثرا.. سأل من كانوا أصدقاء لها فانكروا معرفتهم بها ذهب إلى محل عملها واقامتها فانكروا وجود هذا الاسم بين العاملين في المكان ثم ذهب إلى دائرة الإقامة فلم يجد لها أثرا هناك بعدها لعن الفيس وصداقاته والحب ورزم حقيبته وهاجر إلى بلدها الذي هي ممنوعة من الدخول اليه.

***

راضي المترفي

يتوزعُ في احياءِ

مدينتي

مجانينُ

الجنونُ كما يقالُ فنونٌ

لكني أرى الجنونَ فينا

كلٌ منا يمتهنهُ بطريقتهِ الخاصةِ

لِم لا سادتي المكبلينَ بزهوِ الأنا

نحنُ من مدنِ  التثريدِ والتأويلِ

نحنُ الذينَ ولدنا ولادةً قيصريةً

متوحدو العقلِ

بعضنا يتألقُ بحسابِ النجومِ

آخرُ بعديدِ النساءِ

مجنون ليلى بالولهِ العذريِّ

مجنونٌ  يتدفأُ بالثلجِ

يغتسلُ بالطينِ والملحِ

يتعقبُ الافاعيَ في جحورها

يظنُ أنهُ أدهى الماكرينَ

مجنونٌ بقراءةِ الابله

وروايةِ المسخِ

يصنفُ قائمةَ الانبياءِ

من كونفشيوش وبوذا

او يحلمُ أنٍ يقبلَ يدَ ستالينَ او هتلرَ

انها همجيةُ العقلِ، احاديةُ الفطنِ

هذهِ الارضُ لنْ تصلحَ إلا لمجنونٍ

يتلذذُ بغرساتِ المساميرِ

في أقبيةِ الجبناءِ

يستحمُ بلسعاتِ العقاربِ

يكتوي بالنسيانِ

المجنونُ محسودٌ على هويتهِ الامميةِ

أطعمتهُ لا تعرفُ لغةَ الحلالِ والحرامِ

او الذبحِ على طرقِ السماءِ

هو الأنبلُ في تراتيلِ الصمتِ

الرافضُ التبجيلَ والشكرَ

محسودّ لا يجاملُ شعراءَ وأدباءَ

الانحناءِ والتزويقِ

ملعونٌ منا منْ لمْ ينحنِ لهُ

يتصوفُ بمعاشرةِ الآهاتِ

تطربهُ تنهداتُ احلامهِ الغريبةِ

الراحةُ من ضجيجِ الحواراتِ الفجةِ

قسماتُ وجههِ تتعددُ الالوانُ

يختلسُ أثوابَ الغلسِ لسترِ عُريهِ

تراهُ يتوجُ أذكى أمياً في الوجودِ

فخرهُ يرفضُ كلَّ قلاداتِ الابداعِ

***

عبد الامير العبادي

أوْجُهٌ غامضةٌ،

وجهٌ غريبٌ،

واجِهاتْ

لا يرى أصحابُها فيها الذي نحنُ نراهْ

مِنْ صِفاتٍ وسِماتْ

حينما نَحْزَنُ تَفْرَحْ

حينما نَفْرَحُ تَحْزَنْ

قَدْ نراها ناقِمَةْ

أو نراها نادِمَةْ

هِيَ لا ترسو على ضِفَّةِ حالْ

فالوجوهْ

غابةٌ فيها نتوهْ

والشّبابيكُ التي في الواجِهاتْ

أسْدَلَتْ أسْتارَها

وبمَكْرٍ  كَتَمَتْ أسرارَها

كَمْ سنبقى نحنُ حيرى

عندَ بابِ الاحتمالْ؟

-2 -

أخذتْ تَكْبُرُ، تزدادُ الوجوهْ

اِجتمعتْ ذاتَ صباحْ

لتداري حالَها

غيّرت أشكالَها

خَلَعَتْ أثوابَها

وتعرّتْ فوقَ مرآةِ الحياةْ

حينها أنتِ هَرَبْتِ

خَجَلاً  مِنْ عُريِها

صَرَخَتْ أينَ ذهَبْتِ

لَمْ تُعِيري أنتِ سمعاً

واَبْتَعَدْتِ

غَرِقَتْ في دَمْعِها

حينَ اِخْتَفَيْتِ

***

شعر : خالد الحلِّي

ملبورن - أستراليا

كدمية خشبية من دمى

الماريونيت

معلّقة على سياج حديقتك

يمضغني الندم

أسحب بخيطاني

عنوة

اكلت خشبة ناتئة قطعة من

قبعتي

حاولت انقاذ كمّي من

العوسج

حاولت الفكاك

كي أسير مع ركب السائرين

صوب ما يتمنون

راوغت سنابل النبوءة

التي هتفت ، وبملء

فمها

سترافقك الوحدة

ما حييتِ

أحاول الافلات

ولا مناص

كأني ساعة رمل مغلقة

انحنى خصرها عند

المنتصف

فتوقّف الزمن عند لحظة

كبرياء

لحظتها وقفت بعزم محارب

على أرض الذكرى

بساق واحدةٍ ولم

أترنح

كتبت موعدي معك

على كفّي

كي لا أغفل أو

أنسى

وطرقت بابك باصرار

لاعتذر

والليل مجروح

القلب

تسيل منه ذكريات

العتمة

بأنتظار عصفور يوقظه

الجوع

فيغلق بالقش تلك

الجروح

يغلق الوقت الضائع

على نوافذ

الخواء

فاستطيع مواصلة

النهار

كطيف سماوي دخلت

الى ردهة

وحدتك

لم يكن هناك سوى

الفراغ

أحملُ باقة مهشمة من أجنحة

الفراشات

التي كسرها تخلّفي عن

مواعيدك

وخيبة أمالك الكبيرة

بي

أتحسس الصور على

الجدران

وخيوط العنكبوب النسّاج

تحكي قصة

انفرادك

أجدك احتفظت بكل الاكواب المثلومة

لفراقنا

أنحني اجلالاً لقصاصات اوراقك

المبعثرة

على طاولة جدالنا

والتي بات حبرها بلون

الورق

حبر خفيّ تقرأ طلاسمه

وحدك

ويدي تتصبب من عرق الحرف

نهرا

خلسة كتبت بقلم أشتياقي

أفتقدك

تمنيت أن تأتي

لنشرب معاً فنجاناً من

المواساة

ونربّت على بقية

صبرنا

لكن الليل وحده

نديمي

وسؤال أبكم

تُرى : من يلملم شظايا الحروف

التي تناثرت حين مزقنا

ماكتبنا

وأحتضن بكائك السرّي

وأتحسس منديلي

فيسقط قلبي سهواً دمعة

على هامش

أيامك

ما كان الامر كارثياً

ليتطلب كل هذه المحابر

من دم القلب

ما دام كلانا يرتاد حانة

الذكرى طلباً

للنسيان

أنتبهت بأننا لا نجيده

ولن يقدر عليه من يضع ذكرياته

في صحنه

ويتناولها مع وجباته الثلاثة

لا أحد يغيب

لا أحد ينسى

خالدون كالأبدية .

***

عالية محمد علي

حينما كنت أقلِّبُ صفحات أيامي الخاليات البعيدة، فلتت إحداها، فَشرعت في تدوينها حتى جاءت على النحو اﻵتي

أبعاد غرفته الواقعة في الطابق الثاني، بإرتفاع سقفها وترامي جدرانها ورحابة نوافذها، فضلا عن هدوئها وسكونها، بسبب من عزلتها النسبية عن سائر أجزاء البيت وعن الشارع العام، كل ذلك أدى الى أن يهنأ بفسحة واسعة من الراحة  والإستقلالية، حتى انها أمست موضع إعجاب وغبطة من قبل أقرانه ومقربيه. غير انَّ تلك (النعمة) لم تدم  طويلاً، إذ سرعان ما كانت تبددها إحدى الجارات الثقيلات الوقع، حيث لا يمر يوما الاّ وتحلٌ ضيفة رغم أنف الجميع، ومن دون إستئذان أو رضا أهل الدار ومع صباح كل يوم، لتطرق الباب بقوة وإصرار، وسوف لن تتوقف عن ذلك الاّ بعد أن يرد عليها أحدهم ليفتح لها، وعند ذاك سيطمأن قلبها.

من أين جاءت وكيف ومتى إنتقلت الى حيهم ومن دلَّها على بيتهم، كل تلك اﻷسئلة وغيرها، راحت تدور بخلده، لتشكل له عقدة وهاجسا يوميا، لم يعد من السهولة بمكان التخلص منها. بل حتى لم يعد هناك من أمرٍ يُشغله سوى حالة الفضول التي تمتلكها هذه السيدة وما ستسببه له من قلق دائم ومستمر. وكم من مرة حاول غض الطرف عما تحدثه من جلبة غير انه فشل في ذلك فشلا ذريعا.

فالسيدة أو لنسميها بالساكنة الجديدة وفي غالب اﻷحيان، سوف لن تضع في بالها أو تراعي الكثير من الإعتبارت الخاصة حين زيارتها لبيتهم،  فتجدها مثلا وقد إعتادت على دسَّ أنفها بالصغيرة والكبيرة، عدا عن دخولها البيت بل إقتحامها له وقتما تشاء وكيفما تشاء، ومن دون أن تضع ﻷهل الدار حسابا أو ظرفا ما أو أمرا طارئا.

وعلى الرغم من أنَّ فارق العمر بينها وبين والدته لا يقل عن العقد من السنين إن لم يزد على ذلك ببضعة منها، لكنها لم تتوانَ عن الدخول ومن دون إستئذان في العديد من المواضيع، والتي ما أنزل الله بها من سلطان بما في ذلك المحرمة منها والغير مسموح بها. أمّا إذا تصادفت زيارتها مع تواجده بشحمه ولحمه في الطابق اﻷول من البيت مع سائر أهله ولمختلف اﻷسباب وهذا من بداهة الحال، فقل ان أمرا جللا سيحصل لا محال، وسيتعكر مزاجه وصفو سكونه وبمنسوب عالٍ جدا.

فعلى عادتها ومع صبيحة كل يوم ومن قبل أن تطأ قدماها عتبة الدار وما أن يُفتَح لها الباب، حتى تبدأ ببث آخر اﻷخبار وأفضحها وعلى الهواء مباشرة، ليصل صوتها ومن بعده صداها حتى مَنْ بإذنه صمم. وإتساقا مع ما فات ذكره وفي صبيحة أحد اﻷيام الغير مباركة، ستقوم هذه المرأة بالكشف لوالدته عما اعتبرته سرّاً دفينا وخطيرا، وذلك بعد أن تضيف عليه من التزويقات والمبالغات ما يروق لها وبما يسهل عليها تسويقه، والمتمثل وكما جاء على لسانها: بأن إبن الحفافة التي تسكن في أول الحي، قد أقدم على قتل شقيقته الوسطى ذبحا، وذلك غسلا للعار. وبعد التأكد من أصل الواقعة فقد تبين أن لا صحة لها ولا أساس على الإطلاق.

وإذا ما عدنا بالتأريخ الى الوراء قليلاً،  وأردنا التوقف عند الظروف والملابسات التي سنحت لهذه المرأة الدخول الى بيتهم أول مرة، ففي حينها وعلى ما يتذكر  إبنهم اﻷكبر،  فقد كان بذريعة التعرف على ساكنيه، وهذا أمر متعارف عليه ومعمول به بل هو واجب علينا وملزم. ففي البدأ طرقت هذه السيدة الباب بهدوء وحذر شديدين، وبدت بمظهر ينم عن حشمة وخلق رفيع، وبنبرة صوت بالكاد تسمعه، لتسأل عمن يعينها على الوصول الى مركز المدينة لغرض التسوق. وبما انها غريبة على مكان إقامتها الجديد وتجهله تماما بحسب قولها، فكان لها ما أرادت، وليخرج معها لمساعدتها وبإشارة من الوالدة أحد أخوتي الصغار.

وفي مناسبة اخرى استعانت بوالدتي وفي ساعة متأخرة من الليل، لفض إشتباك طارئ كان قد نشب بينها وبين زوجها، فلبي نداءها على الفور، علما ان هذه النزاعات سوف لن تتوقف رغم كل ما بُذل من جهد ووساطات للصلح بينهما. لهذا وﻷسباب أخرى مختلفة، فقد ازداد ترددها على بيتنا وتوثقت علاقتها بوالدتي بعد ضغط وإلحاح ورغبة منها. وربما لنفس اﻷسباب والحجج، راحت تجوب وتدخل بيوت الحي بيتاً بيتا وأينما يطيب لها المقام. وعن زياراتها هذه وبحسب ما كان يصلنا من أخبار، فسوف لن تتورع في الكشف عن أهم وأدق  التفاصيل التي تتعلق بسائر بيوت الجيران بما فيها المحظور منها، دون أن تغفل عن سرد تفاصيل يومياتهاداخل بيتها ومع زوجها بالتحديد، بما في ذلك ما يستدعي منها الحشمة والحذر.

ومن طرائف سيرة هذه المرأة وسلوكها، وبمجرد أن تعرفت على بعض من معالم المدينة حيث سكنت، فسيكون سلواها ومتعتها التردد على دور السينما ومشاهدة اﻷفلام العاطفية، وبشكل خاص في موسم الصيف، والذي عادة ما تكون صالات العرض وروادها في الهواء الطلق، بسبب من طبيعة الجو الشديد الحرارة. وعندذاك فما من مهمة أمام زوجها غير حماية العِرض أو شرف بيته، كما تقول العرب.

حتى اﻵن ما فات ذكره يبدو طبيعيا ويمكننا تقبله أو لنقل تفهمه وإستيعابه. غير انَّ الملفت باﻷمر، هو طريقة وأسلوب حماية العائلة والإستعدادات الواجب إتخاذها يوم يولّوا وجههم صوب السينما، فعند هذه اللحظة فقط سيحاول الزوج وأمام بَعْلته، إظهار وإثبات رجولته ودرجة تحمل مسؤلياته، محاولا تعويض ما فاته من تجاوزات وإنتهاكات لمكانته ودوره، والتي ما إنفك يتلقاها من قبلها، داخل البيت بل وحتى أحيانا خارجه وكل يوم.

فمن بين الإجراءات  الإحترازية التي دأب على إتباعها مثلا وإرضاءاً لها، هي العمل على إفراغ الصف الذي خلفهم في صالة العرض والصف الذي أمامهم كذلك من جلاسه. وﻷجل بلوغ هدفه هذا فسيتبع مختلف الطرق والوسائل لإقناع الطرف اﻵخر ومهما كانت منزلته وعمره. أمّا إذا تصادف واعترض أحد الجالسين أوصاحب السينما أو مَنْ هو مخول بذلك من العاملين على هكذا تصرف، فسيعلن الزوج عن كامل إستعداده لتحمل كافة المصاريف التي ستترتب على إحتكاره لهذه المقاعد.

في إحدى المرات وبعد عودتهم من مشاهدة أحد اﻷفلام الهندية، وكان يوم صيف قائض، ونزولا عند رغبة زوجته، وعلى الرغم من ان الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وموعد نوم أبنائهم قد عبر الوقت المحدد والمعتاد، فقد راح يتمثل بشخصية شامي كابور، أحد أبطال الفلم الرئيسين الذي شاهده قبل قليل وتأثر به، ليشرع وعلى الفور بتصفيف شعره بعناية فائقة، مستخدما دهن الياردلي الشائع الصيت والشهرة آنذاك، غير انه لاقى صعوبة كبيرة في ذلك، لطول شعره وكثافته بل وأشعثه، مما أفسد عليه هدفه.

الاّ انه وبالرغم مما بذله من جهد واضح ومشقة والذي جاء نزولا عند رغبة زوجته، والتي باركت له وشجعته في بادىء اﻷمر على هذه الخطوة والمتمثلة بإعادة تصفيف شعره، غير انه لم يتخلص من تندرها عليه، بل تجدها وقد زادت من حنقها، بسبب ما ترتب على فعلته هذه من نتائج كارثية، إنعكست وبانت على هيئته العامة وعلى رأسه بشكل خاص، كما ستصفها لاحقا لإحدى الجارات.

لذلك وﻷنه لم يلق من الإستجابة والرضا من قبل زوجته ما يريحه ويطمئنه، فقد قرر أن  يحلق شعر رأسه عن آخره وفي تلك الساعة المتأخرة، ليخرج عليها بحلته الجديدة، مما تسبب في نشوب جولة جديدة من المماحكات والمعارك، وإسماعه لغة أكثر إيلاما وقسوة، مترافقا بصراخ وعويل وكسر صحون، ليوقظ الجيران قبل أن يستيقظ أبنائه.

(الحكاية لم تنته بعد، وربما لنا عودة)

***

حاتم جعفر

السويد ــ مالمو

 

في زاوية مضادّة للحياة، حيث تنتشر محاضن تربية البيرانا البشريّة تحت قبّة اللّيل وعلى سطح النهار المتواطئ، كان كومبا الفولانيّ منفيّا إلى ظلمته الغطشاء في قبو فيلّا عيّاش منذ سنة عاتية، محاصرا بالغابة والعزلة والحقن، منزوع الهويّة، سُخرة لألين وأتباعها من القتلة المولعين بالأعمال الخيريّة، بعد أن وشى به أحد التّجار الأفارقة الذي استعان به في محاولته الهرب من تونس عائدا إلى بلده مالي عبر الجزائر.

تهدّم كومبا على الأرضيّة اليابسة كشجرةَ باوْباب ملقاة جانب جذورها، وقد فرغ جوفها من كلّ سكّان ذاكرتها الطّيّبين وحكاياهم وغزتها قوافل النّمل الأحمر..

كان يشعر بهياج الدّبيب في رأسه، بإيقاع القرض المستمرّ ينخر عجُزه، بحوافّ المُدى تقشّر لحاءه الباطنيّ وتلقيه شرائح لحم للدّود..

كان ينتهي بسرعة مقعدة وبهجة ممسوسة. أتمّ توضيبَ رحيله. لم يبق غير أن تأتي السّاعة في موعدها من اكتمال دورة اليأس.

يلاعب في حنوّ أوتار قيتارته، يعدّلها، يقرّبها إلى قلبه، يدسّ سمعه في تجاويف  خشبها المفعم بأسرار الأدغال الإفريقيّة العميقة، يمرّر أصابعه خشنة مسودّة الأظفار على الأوتار، يدندن لحنا جريحا يؤرّخ لكلّ الفرار الذي اشتعل في بطانة قدميه هاربا من الدّقع، والجفاف، والمجاعة، والحروب الأهلية، وذباب تْسِي تْسِي.. من مالي إلى الجزائر فالحدود الغربيّة للبلاد التونسيّة أين أطبقت عليه جمعيّة  "ألينا الخيريّة" القبضة النّاعمة، فأعدّت له وثائق هويّة بصفة طالب إفريقيّ، وصار من أعضائها النّشطين..

عقدان وهم يستثمرون في فقره العريق، ولونه القاتم، ووجوده غير القانونيّ بتونس، ويستغلّونه في ترويج شتّى الممنوعات ممنوعا من الحياة خارج ما يسمحون به..

ثمّ لم يغفروا له نيّة الفرار إلى بلاده.3477 بسمة الشوالي

يعتكر مزاجه القُلّب، يبغي الاضطراب على بقايا عقله المهلهل.. يبكي حينا كطفل مهمل، يخبط فخذيه كأثكل، وبغتة تهْوج الدّواوير الرّمليّة في جوفه المتصحّر فيحلك جلده أكثر، وتحمأ نظرته.. يمض الشرّ أصفر عكرا دَبِقا على سنّه، يكِزّ. يتفتّت الفراغ الحاصب بين فكيّه، ويبقبق الحنق الغالي في ماء عينيه.. يضرب الآلة بجُمع القبضة السّوداء المتصلّبة ويلقي بها شقفا ترتعش على صدره المشقّق الأوتارُ الممزّقة..

ينتفض عن مجلسه، يركل ما يعترضه، يلكم ما يطاله. يخايله السّقوط فيكابد ثم يخرّ مرخيّا روبوتا متفحّما مخلّع البراغي، حياةَ فقدت غايتها الوحيدة..

عربيّه راقصة "AlinaCasino" بهجة عينه الوحيدة، جنيّة الدّفء حارسة الحياة والمياه – كما يحلو له مناداتها- رحلت عنه بلا عودة.. غافلته ورحلت. حين أيقن أنّها صارت إليه وأنّه قد صار له أن يزرع نجمها في ظلمة كفيّه ذهبت عنه. كان يظنّ أنّ البحر فقط من يقدر على إغوائها بالموت فيه.. لكنّها غالطت هذه المرّةَ، قطّعت، في غفلة منه، شرايينها وفتلت منها جسرا إلى السّماء..

هي لم تهبه الحبّ الذي يشاء، لكنّها علّقت  بسمتها المضيئة مصباحا بسقف عتمته، هذّبت برقّتها حوّافه النّابية، عدّلت مزاجه النّزق، وعكست مرآة نظرتها إنسانه جميلا وثريّا وقويّا وحارسا شخصيّا لحسنها وجسدها وضحكاتها وعبثها وثروتها وأسرارها وخيباتها المتفاقمة..

عربيّه عودي إليّ..

يبتهل لبقايا وجهها في أخيلته الممزّقة.. أحبّيني قليلا وانعمي بخيراتي الباطنة ومعادن جسدي الثريّ، خذيني برمّة أحجاري وأتربتي ومياهي الجوفيّة وجمر عينيّ.. مرّري كفّك على سطحي المغبرّ، أُبعثْ لك وحدك أرضا عامرة.. تلنْ على ملامس شفتيك قوارض الجراد، وسموم العقارب، يعذب على صوتك النّباح والنّهيق.. 

عربيّه.. ! لمَ تذهبين بعيدا عنّي.. تعالي واكسري سجني..

أنا في يقطينة معدنيّة مصفّدة بقفل من حديد، واليقطينة في أكمة من تراب، والأكمة في جزيرة، والجزيرة وسط بحيرة مالحة شاسعة ترتفع أمواجها الغضوب جبالا مهلكة، والقفل معلقّ إلى رقبة نجْدو ديوال، أم الكارثة التي تعتاش على أجساد الشّباب الأقوياء.. بناتها سبع شديداتُ حسن يبتن غواني ويصبحن أبكارا، يصدن في كلّ يوم طرائد سبعا أصحّاء، حالما يستسلمون لهنّ، يصلن دماء شرايينهم بقنوات تصريف الدمّ السّريّة تصبّها في عروق أمهنّ النّاشفة.. تشرب العجوز العجفاء دماء الفتية كلّ يوم، فتحيى هي من جديد وتقضي شعوب.. 

العجوز ألين كأمّ الكارثة الشّريرة لا ترضى مثلها حتى تلغ في دماء زكيّة سقطت في مصائدها المبثوثة في كلّ مكان..

لكنّي لن أظلّ هنا، رهْن حبسها هذا حتى تشرب كلّ دمي..

إني آت إليك عربيّه. مرّت أربع سنوات على هجرانك المخادع لي، اليوم يحطّم كومبا سارا الجنيُّ السّجن بنفسه ويقتل الشّر في معقله ويوافيك حيث أنت..

حان الوقت..

قام يستوي قليلا ويكبّ أكثر. سحب دنّ بنزين محشور بين الصّناديق، وأخذ يرشرش مبتهجا منجذبا كلّ ما يعترضه في القبو، ثمّ تسلّل إلى الطابق الأرضيّ يسقيه..

***

فصل من رواية "ضمير مستتر"

لبسمة الشوالي

Villa Ayech – السّوايسيّة

الخامسة مساء بتوقيت غرينيتش

لَـم أكُـنْ عنترةَ العبسيِّ .. لا.. لا

فـي مـيادينِ الوَغَى صَالَ وجَالا

*

أو عــــديّــاً  لـكُــلــيبٍ  ثـائـــراً

يَركـبُ الجُـرْدَ و يَغْـتَالُ الـرِّجالا

*

لـم أكُنْ يوماً كـقيسٍ في الهـوى

فـي هَـوى لَيلاهُ قدْ ماتَ اعتِلالا

*

أو جـمـيلٍ يَـشـتكي فَرْطَ الجَوَى

نَـظَمَ الأشـعَارَ فـي الـحـبِّ وقَالا

*

لَـسْـتُ عَـمْـراً عـاشِـقاً نَـزْوَاتـهِ

يَـدَّعِـي الـحُـبَّ ويَـحتَالُ احـتِيَالا

*

إنَّــما شَــخـصٌ رَزِيـــنٌ عَــاقِـلٌ

بـينَ كـلِّ الـناسِ قـدْ بـاتَ مِـثالا

*

فــتغيرت كـثيـــراً بـَــعــدَمـــا

حُبُّكِ المجْنُونُ قَدْ أرخى الحِبالا

*

ماعَـرفتُ الخـوفَ يـوماً بـعدهُ

كــلُّ  مَـاكـانَ مِن الـعَاداتِ زَالا

*

شَادِنٌ في الحُسنِ فَوراً صَـادَني

وأنـا مَـنْ كــانَ يَـصطَادُ الـغَزَالا

*

نَـظْـرَةُ مِـنْهُ اسْـتَبـاحَتْ أضْـلُعي

مِـثْـلَمَا (نَـيرُونَ) تَحتَلُّ احـتِلَالا

*

ورُبُـوعـي لِـهَـواهَا اسْـتَـسْلَمَتْ

بَـعـدَمَـا نَـالـتْ سِـهَـاماً ونِصَـالا

*

شَـرَرٌ مِـنْ زَنْـدِهَا اِجتَازَ الـمَدى

فــإِذا بـالـنَّـارِ تَـــزْدَادُ اشْـتِـعَـالا

*

قَــلَــبَـتْ كُــــلَّ كَــيَـانِــيْ فَــجـأَةً

مُـذْ هَـوَاهَا القَلبُ فَالميزَانُ مَالا

*

ثَـورةُ العِصْيَانِ فَـارتْ فـي دَمي

جَـعَـلتْني مَارِداً يَـهْـوى الـنِّـزَالا

*

فـيَجـوبُ الأَرضَ فـــي تَجْـوَالِـهِ

يَطْرقُ الـبَيْدَاءَ أو يَرْقَى الـجِّبَالا

*

يَـجْـمَعُ الـنَّـجْمَ كَـقَطْرَاتِ الـنَّدَى

يَـنسجُ الغَيمَاتَ مِنْ أَجْـلِكِ شَـالا

*

ذَاهِـبـا خَـلْــفَ مَـجَاهيـلِ الـمَدَى

لِــحـدودٍ أَعْــيَـتِ الــجِّـنَّ نَــوَالا

*

بـاتَ كـالشجعانِ يَمْضي للوغى

يُـثْخِنُ الـفـرسانَ ضرباً وقِـتَـالا

*

لايــهـابُ الــمـوتَ فــي أفـعـالهِ

هـمَّهُ الأسْمَـى بِأنْ يَلْـقَى وِصَالا

*

إنْ سَطَا يوماًعلى عَرشِ الهوى

يُـصبحٍ النَّزْعُ مِن العرشِ مُحَالا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

إضـاءاتُ الـنـزاهةِ  ليس تَخفى

مـتى بـزَغَـتْ يُـبـاركـها الأَنـامُ

*

نَـقـاءُ الـقـولِ تَـعـزِفُـهُ السَــجايا

اذا سُــرُرُ الـوفـاءِ  لــــه  تُــقـامُ

*

مـنازلُ إنْ ثَـوى الإيمانُ فــيهـا

يُـلاقـي حــتْـفَـهُ المَـكْـرُ الـزؤامُ

*

إذا نالتْ سِـماتُ الوصْلِ صِدْقا

فـلا زَيْـفٌ يــدومُ ، ولا خِـصـامُ

*

حديـثٌ إنْ حَـوَى كَـذِبَا تَـهاوى

وأفْــصَحَ عـن حَـقِـيـقَـتِهِ الرُكامُ

*

(جـراحـاتُ السِنانِ لهـا التـئامُ*)

ويـبـقى الجُـرْحُ إنْ سـاءَ الكـلامُ

*

لَـعَـمْـرُكَ  مـا عَـلا نَـجْمٌ جُزافَا

شُـــعـاعُ الــنـور للأدنـى زِمــامُ

*

يُــخَـلَّـدُ مَــن بـنى مَـجْـدا بـعِـزٍّ

لـيَحـذو حَـذْوَه الـشَّــهْـمُ الهُـمـامُ

*

مَـراسِـيــمُ البــلادِ بِـحَـقِّ طَـوْدٍّ

عـلـى مَـرِّ الـزمان لــها وِســامُ

*

إذا كـان الـجَّـمالُ جـمالَ حُـسْنٍ

بـلا خُـلـقٍ، فـبـئـس المُسْـتـدامُ

*

وإغـراءٌ بـحَـرْفٍ فـــيه زيْـفٌ

مَـكائـدُ يسـْـتَــقـي مـنها الـلِـئـامُ

*

(ومَـن يكُ ذا فَـمٍ مُرٍ مريضٍ)

فَـداءُ النـقـصِ يُـظهِـرُهُ السَّـقـامُ

*

ربـيـعُ الخُـلْدِ، فـي خُـلقٍ وعـلمٍ

ومَـأثَـرَةٍ، لــهـا نُـصْـبٌ يُـقـامُ

(من الوافر)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

القسم (3) من: الخط المحروق

لم يبق من اليوم الأخير على وجودهم في مطار (س) إلا ساعات قلائل، تهيأ الجميع للتسفير بمشاعر ينتابها الخوف، والخيبة، والخذلان، أصبح صاحب المعطف أكثر قلقا من ذي قبل.

تعالت لغة الاستنكار عند نقطة ما، لتختلط مع تناقضات عالم يسوده الضجيج، تساقطت عند نقطة بعيدة من المشهد بعض سيقان شجرة ميتة، راح يقلب في عقله ما توحي به هذه الفكرة، تواصل مع نفسه مرددا : هكذا هي حقيقة الإنسان، فهو سرعان ما يجف عوده، وينكسر بسبب ما يتعرض له من ويلات.

توقف عند تواريخ بعض الأصدقاء، راح يستعرض أقدارهم- شخصيات مات البعض منها، وسافر البعض، وسجن الآخر، بينما بقي من تبقى بعيدا، لينجو بنفسه ولو بعد حين.

راح يردد أصداء أغنية سمعها من قبل، لتبقى دموعها حبيسة في مشاعره، تسارعت ضربات قلبه مع ذكريات مدينته الجنوبية، انبسطت أمام بصيرته صورة أمه التي كانت تودعه عند الباب إبان الحرب مع إيران، وهي تقذف إناء الماء خلفه مرددة (يمة مودع بالله، وبمحمد، وعلي)،اخذه الحنين إلى البيوت الطينية الكائنة خلف محطات القطار، حين كان يستمتع بصوت دويه الممتزج مع الصفير.

استبد به النفور، غدا يحدو به صوب بقعة من السماء تساقطت نجوم ليلها عند منعطف يكاد أن يدنو من دَهاليزِ عالم مظلم، أذعن لما يجول بخاطره، صار يقول جازما: العودة إلى (ق) تعني أنه سيموت سجينا، أو سيتم تسفيره إلى بلده، وسيتعرض هو وعائلته إلى تحقيقات الاجهزة الامنية، فهو وزوجته التي تركت وظيفتها بسببه أصبحا ضمن قائمة المطلوبين منذ زمن سنوات، أي قبل عودة العلاقات الدبلوماسية مع البلد (ق).

لم يكن يشغله من الأمر ما سيحل به، كل ما يهمه أنه صار أكثر خشية على مصير زوجته، وأولاده الصغار الذين ربما يودعون السجن، وينتهي مستقبلهم بالضياع،

أمسى يراجع أحواله في وطنه الذي على أرضه، وبه تسلب كرامة الانسان، وعلى تربته تسود لغة الطغاة، وفيه تسقط حقوق المواطنة، ارتسمت الصور مثل شريط سينمائي توالت السيناريوهات؛ تذكر صور الجيش عندما استولى على المدن الجنوبية إبان ما أطلقوا عليه بالغوغاء، حيث انتشار ألوية الحرس الجمهوري وصور المقابر الجماعية،

أخذت الأفكار تنهش كل كيانه، تنخر ما تبقى به من طاقة، تمنى لو يموت، وينتهي به الأمر، اشتد به النعاس، والجوع، والفزع، لم يعد يثير اهتمامه من رحلة الطيران إلا أمنية بائسة كتمها في أعماقه، عسى أن يتحرر من تابوت الهم الذي استحوذ على كل كيانه، نظر بحذر إلى الرجل الذي حقق معهم، والذي كان مرافقا لهم طوال الرحلة، ليعود بهم مكبلين بقبضة قيود العودة.

لم تكن تلك القيود على نمط الكلبشات التي يستخدمها رجل البوليس لتقييد اليدين، إنما هي قيود سلب الروح وتخويفها، لتُشعِرَ هذا الكائن بالذنب، وليبقى هكذا- مُستَفَزا، وملاحقا بفتح الحاء، ونادما، وضعيفا لا حول ولا قوة له إلا السبيل إلى إرادة متزعزعة، وكيان خائر- هنا عندما يسلب الكبرياء، وتجلد إنسانية الإنسان، يصبح الموت وسيلة للنجاة، ومفردة من مفردات الأمل، أما الألم فيتلاشى تماما، يضمحل مع خفقان آخر نبض من أوردة هذا الكيان الذي كان ممتلئا بالحياة،

لم يبق للوصول إلى (ق) إلا ساعتين، لولا تحقق ما كان يتمناه صاحب المعطف الازرق، وجماعته خاصة السيدة التي كانت معهم، حيث أعلن طاقم الطائرة عن وجود إعصار تسبب في فقدان السيطرة عند ضواحي جزيرة قريبة إلى (ق)، وبسبب هذه الأمر الطارئ هبطت الطائرة اضطراريا.

كان الأصدقاء  يتمنون لو تسمح تلك الفرصة لهم للإفلات، ولكن الأمر لم يكن سهلا، لذلك أذعنوا لمصيرهم البائس، حتى إقلاع الطائرة، لتهبط بعد شوط قصير عند أول نقطة للانطلاق.

اتصل رجل المخابرات الذي جاء مع المجموعة بصفة مأمور، بقسم الهجرة، والتسفيرات الخاصة بمطار (ق)، وهنالك في صبيحة ذلك اليوم، أحست المجموعة أنها أضحت مثل دمى بشرية لا طاقة لها للحركة، استقبلهم أحد رجال التسفيرات وهو من قسم الشرطة، وبطريقة ماكرة أخذ يبتزهم طمعا بالمزيد من المال، بحجة مساعدتهم، لكن الأمر ليس كذلك، حيث اتضح أن هذا الذي ابتزهم كان قاسيا، ومخادعا وهو نفسه الذي وضع الكلبشات في أيديهم في الغرفة التي تم إيداعهم بها في قسم الهجرة عند استقبالهم قائلا لهم: (ما وراكم إلا وجع الراس). حيث أوقفهم، وأولهم صاحب المعطف الأزرق، وساقهم بعدها، وأمام مرأى المراجعين الذين كانوا ينتظرون تكملة معاملات سفرهم في الدائرة الضيقة الموحشة التي يطلق عليها دائرة الهجرة، والتسفيرات إلى السجن وهو عبارة عن قبو لا تدخله الشمس إلا من مربع يطل على مساحة بعيدة من المدخل، أما النساء فقد تم عزلهن في المطار، على أمل الإفراج عنهن، بواسطة زوج السيدة التي سافرت بعهدة صاحب المعطف الأزرق، وهو صاحب مكانة ونفوذ في دولة (ق).

***

عقيل العبود

..................

* ماذا حدث في السجن، وبعد السجن؟ هذا ما سيأتي في الحلقة الرابعة.

وقصص أخرى قصيرة جدّا

حصاد الشّوك

- من أنت؟

- حُقَّ لك أن تنسى ضحاياك فهم كُثْرٌ!

- ماذا تريد؟

- إيّاك.. ارفع يديك واخرج من وراء المكتب.

- أبعِد سلاحك. إنّي أحذّرك!

- ما زلتَ متعجرفا كما عرفتك.

- أرجوك!

- مرّت عشر سنوات كاملة وأنا أحلم بأن تقتصّ لي منك العدالة. لكن يبدو أنّ هذا مجرّد وهم..

- أقبّل قدميك! لا تفعلها. أرجوك!

***

الحضيض

تألّقت عيناه بالظّفر وهو يقرأ ذلك الخبر على أحد جداران الفيسبوك.

"جدّ هذا اليوم حادثٌ مرير أودى بحياة عائلة بأكملها.."

وكالعادة عجّ الفضاء الأزرق بصور الضّحايا قبل أن يُفضوا إلى ربّهم...

كوّن رقما:

"ألو.. هل سمعت بِ.. علينا اغتنام الفرصة.. اطمئن البيت خال تماما.."

***

نجاساكى

امرأة غريبة في كلّ شيء.. نظرات جامدة وسحنة طَبْشوريَّة اللّون..

"هل أنا جميلة؟"

تتلعثم الطّفلة مستعيدة حكاية ما.. "نعم"

وتنزع اللّثام فتبدو بشاعتها أكثر وضوحا بفمها المشقوق أفقيّا..

"والآن كيف ترينني؟"

تزداد الطّفلة رعبا.. "جَ. جَ. جميلة!"

تتألّق عيناها فرحا…

"إذن سأشقّ فمك لتكوني جميلة مثلي!"

***

غرفة سريّة

كلّ شيء على غير عادته.. الظّلام حالك يُخرج المرء يده فلا يراها.. كان وحيدا وسط هذا السّواد المترامي والرّعب يعتصر أنفاسه.. رأى ضوءًا ضئيلا من بعيد فركض غربا، وعندما بلغه كان يتدلّى من يد بلا جسم.. ركض شرقا.. ضوء آخر يشعّ من بعيد. هذه المرّة تحمله امرأة فاتنة. حدّق فيها، كانت بلا نصفها الأسفل..

صرخ..

من الغرفة الأخرى جاءته أمّه على عجل..

"حبيبي ما بك؟"

***

حسن سالمي

حين أخبرها أبوها أن حمزة ابن صديقه الوزير معجب بها ويطلب يدها حركت كتفيها في استخفاف وعلى وجهها رسمت ضحكة سخرية وكأن الأمر لا يعنيها..

ـ ما بك كوثر ماالذي لايعجبك في حمزة؟ شاب وسيم درس في كندا وعاد بشواهد عليا وينتظره مستقبل زاهر..

بسمة استهزاء رمتها في وجه أبيها وقالت قبل أن تستدير لغرفتها:

أن يعجبني أو لا يعجبني فهذا ذوق وحرية شخصية،أما بالنسبة لي فأنا أكرهه كما أكره أمثاله ممن يضايقون بائعات الهوى على الطرقات، يبيعون أ نفسهم بلاحياء وهم أثرياء وأبناء مسؤولين، كل العيون مصوبة اليهم برقابة ..

استغراب يركب الأب من كلام ابنته،هي حقا تلم بأخبار المجتمع أكثر منه بحكم مهنتها كصحفية تعرف الكثير مما يموروما قد يغيب عن كثير من الناس.. في رأسه شرعت تلف الصور:

أيكون حمزة مثلي الميول؟

سؤال لم يكن الأب هو من راود عقله،لكنه قفز في ذهنه كتلويحة حين عاد حمزة من كندا بعد إلحاح من أبيه وقد شرع يهيئ له منصبا في أحد الدواوين، عاد ومعه شخص كان يلازمه كظله ادعى حمزة أنه أستاذ للرقص صاحبه من أجل رحلة سياحية ..

فكم امتد من لسان سخرية بولد معالي الوزير ذي اللسان الطويل!!..

أخرج الأب نفسا قويا كان يملأ صدره حيرة ثم قال "ان بعض الظن إثم "

ما شغل الأب كان أكبر مما أخرجه من صدره وأ شد حرارة !!..

“لو داهمه الوزيربزيارة مفاجئة ومعه رهط من المقربين منه يطلب يد كوثر لابنه فماذا يكون رده وهولا يملك لسانا أو شجاعة على الرفض؟..

خف الى بنته، طرق باب غرفتها ثم دخل، وبلامقدمات بادرها:

ـ كوثر حبيبة قلبي، يجب أن نستعد للقابل، الطلب اليوم اتى عارضا لكن لو تحول الى أمر رسمي فماذا يكون ردنا؟

تطلعت كوثر الى أبيها في غير قليل من التحدي وعلى وجهها بسمة ازدراء:

ـ وهل نحن عبيد يا أبي قد وضعنا الرق في خدمة الأسياد؟

ـ مادخل العبيد والأحرار في ما يفرضه ذوو النفوذ على غيرهم؟

هو ابن وزير ياكوثر وابوك ليس الا تاجرا صديق الوزير، هل نسيت فضله الأخير علي؟..

ـ ابتي !!..أن يكون له فضل عليك فهو يتحمل مسؤولية مافعل، وحيث إنك لم تستعط منه فضلا أو تدق عليه بابا، فلا يعدو أن يكون الامر" تسبيق عجينة في بطن " استغلها مما ليس له، وتصرف في القانون بتطاول ..

صمتت قليلا ونحو أبيها صوبت نظرة خاصة قبل أن تتابع:

حاولت ـ يا أبي ـ ألا اعري طبق الملح فالنجوم فواضح لاني أستحيي منك لكن اذا لزم الأمرفأنا لن اصمت "وللي حشم فيما ضره فالشيطان قد اغره " فرفضي له أسباب منطقية، وأنت ادرى بشجاعتي ومقدار جرأتي، ولا أخشى في حق لومة لائم ..

تنفس الأب بقوة تنفس المحتار القانط وقال:

نوريني كوثر، فانا أبوك، لو كانت أمك على قيد الحياة لتولت الأمر معك، وكما تعلمين مذ غابت أمك عنا حاولت وبسرعة أن أهدم الحواجز بيننا بصراحة وثقة وصدق..أنت صحفية كوثر ومطلعة أكثر من غيرك،فنوريني بالحقيقة..

كانت كوثر متمددة على سريرها فاستقامت، فسحت مكانا لابيها وقالت:

ـ اسمعني جيدا يأ ابي !!.. لو كان حمزة مثليا لقلنا: رجل يميل الى نفس جنسه

كما تعرف عني أنا: أمرأة لا اعشق غير النساء، لكني للرجال لا أكره ولاعليهم حاقدة، كما أني من وضعي لا أخجل،هي ميول عارضة قد تمتد أو قد تتغيراذا وجدت من يفهمها ويكشف اساءاتها القديمة وما يعوضها من رؤية جديدة للنفس والعالم والحياة بحنان ودراية وايثار أما وحمزة مريض يخضع لعلاجات كيماوية لتهتكات في شرجه وقد أجرى أكثر من عملية رتق وتنظيف للديدان التي تنهش مخرجه فكيف ترضى لي بزوج مثل هذا؟ نثانة ياأبي، نثانة !!..لا تتحملها أية أنثى مهما كان انتماؤها السوسيو ثقافي..

ـ هل تعلم بابا ـ مع احترامي لك ـ ان حمزة فاقد القدرة على تحريك رغبة أنثى لانه عنين شلو؟..كل البنات اللواتي أغراهن بمظهر يعرفن عنه هذا وبه يتحدثن، هل تذكر بابا حين غاب حمزة عن عزاء ماما ثم ادعى المرض أنه كان في فرنسا يقوم بمحاولة تكبير لجهازه التناسلي عساه يستطيع التبول بلا مشاكل فلم ينجح، وقد عاد وهو يائس نهائيا من ان يحاول إرضاء رغبة أنثى أو يحرك فيها ساكن.

ـ أبدا بابا لن أصير مطرح امراض ونتانة لآدمي ليس له توجه واضح سوى أن اباه يريد إرضاء غروره لينفي ما يعرفه غير قليل من الناس عن ابنه ..

ذهل الأب لما يسمع ثم شرد في أمر ابنته نفسها، هل يشير الناس اليه بالبنان كما يشيرون لابن صديقه الوزير؟ يعرف أن ابنته غير مريضة عضويا ولا نفسيا وهو ما أكده أكثر من طبيب وانما هي ميول تدركها كمثلية لكن ليس لها مخلفات قد تظهر عليها.. وفي عقله دقت حكمة طبيب حين قال له يوما:

"هي حرب هزمت فيها المرأة زمنا وتأسست الذكورة ولن يطول لها شروق "

زوجته هي من أطلعته على أمرابنته كوثر قبل أيام قليلة من وفاتها ..

وهما في غرفة النوم وقد اشتد بها آلام السرطان أمرته أن يسد الباب ثم سلمته رسالة تشرح تفاصيل ابنتهما وتحذره من أي عنف او أحتقار أو حتى عتاب يمارسه على كوثر..ومما شرحته في رسالتها :

"ابنتنا لا تكره الرجال أو تظهر عداوة اتجاههم لكنها تجد متعتها في أنثى مثلها، أنا من أكتشفت ميولاتها، كنت أنتبه أن البنت دائمة التمسح بسيقاني واذا دخلت معي الحمام بالغت في تقبيل ذراعي ، وأحيانا تتجرأ على فخدي، وكانت ترتاح وجنتيها على نهدي اذا كانا عاريتين وفيهما تتغزل بشعر.."

"لقد عاملتها بذكاء وحذر، وخبرة بكل التغيرات التي تطرأ عليها ؛كنت أخفف الوطء عليها ما استطعت بصمت وحنكة وتوجيه، بل كنت لا أتوانى في إرشادها كيف تختار صديقاتها وكيف تتستر على ميولها أمام جميع الناس لان البشر لن يرحموها، فالبطش بين بيني البشر اقوى من بطش خالقهم الذي اذا بطش رحم.. كانت تبكي بحرقة وهي تسألني:

هل أنا مذنبة ماما؟ هل أنا كافرة؟ هل يعذبني الله فأدخل النار؟

كنت لا املك علما ولامعرفة عميقة بحقيقة ما يشرحون به آيات اللواط حيث يترك الرجال النساء ويلهثون وراء الذكور، كنت أجد الامر قياسا غير سديد غايته التشدد والترهيب لا العلاج والتبصر ،لكني كنت أدرك ان الإسلام بالانسان رحيم منافح،وبنتنا لم تخلق نفسها فمن خلق وزرع في جيناتها مازرع قادر على أن يتجاوز عنها ويشفيها، أما عن آيات قوم لوط فالفرق شاسع بين المثلية واللواط فالله قد تكلم عن إتيان الذكورللذكور لا عن إتيان المرأة المرأة.. فأن يأتي الرجل رجلا فهذه وساخة وتلوثات ونقل أمراض،والإسلام طهر ونظافة..

كنت أدرك أن هذا البوح الصريح مع بنتي هو اعتراف بميولها وهوحرية تمكنها من الثقة التي أمنحها لها فتحكي لي كل ما تحسه بصراحة وثقة في

النفس بدل أن أحبسها في قفص من الضغوط التي لن تزيد بنتي الا كبتا قد يتفجر عادات ومكاره لاتستطيع لها مواجهة.."

لقد استطاعت المرحومة زوجته أن تصمم له خريطة طريق مع ابنته فنجح في الحفاظ على علاقتهما بكل ما تتطلبه المعايشة من احترام وحرية وتفاهم..

ما احتاط منه أبو كوثر هو ما حصل فهو لن ينسى أن الوزير قد منحه رخصة لاستيراد ابقار من البرازيل وهولاندا كما منحه رخصة ثانية لاستيراد الغنم من اسبانيا في أزمة غلاء اللحوم التي ضربت الوطن وقد حقق الأب ربحا محترما جعله يضاعف ثلاث مرات ماخسره من مخلفات الجفاف على كثير من الزراعات ..

استدعى الوزير أبا كوثر الى مكتبه بالوزارة كتحسيس بمنصب وسلطة، استقبله بنوع من كبرياء،وما أن استقام أبو كوثر على أريكة حتى ذكره الوزير بصفقة البقر والغنم..

ـ كثير من الأصدقاء قد أعابوا علي حرمانهم مما نالك،ويشهد الله أني ما فضلتك أنت على كثير من غيرك الا لما بيننا من صداقة وماكانت المرحومة زوجتك تصبغه على ابنائي من رضا وعناية..هل تعلم ماذا كان ردي على المحرومين؟..

ـ "الحاج المعطي مقبل على الافراح ويلزمه المال ليسعد بطونكم وأسماعكم ونشوة عقولكم "..

قالها وهو يقهقه رافعا صوته كأنه يريد تسميع من يقبع خارج مكتبه..

ترنح أبو كوثر في مكانه وأحس بضيق يعصر قلبه ونفور من كلام الوزير الذي بادره:

ـ أخبرني حمزة أنه متيم بللا كوثر وبها دون سواها يريد الزواج ،أظن الخبر سيسعدك؟

الحيرة تهز قلب أبي كوثر والدهشة من نظرات الوزير التي كانت تتلون بنفاق تربكه، فلم يملك غير الصمت..

تشاغل الوزير بالنبش في درج مكتبه قليلا عن زائره ثم ما لبث أن رفع راسه اليه في صرامة وكأنه أدرك الرد الذي لم يستطع أن يتفوه به أبو كوثر في وجهه

ـ ايه مارأيك هل نعلن كتب الكتاب وحفلة الزفاف بعد شهرين؟ أظن الوقت كاف..

بلع ابوكوثر ريقه، تنفس بقوة وقال:

كيف أحقق لك رغبة ولابننا حمزة أمنيته وكوثر قد تمت خطبتها من عشرة أيام على أمير خليجي وقد أعطيت وعدا واتفقنا على كل شيء مع التزام بيننا على أن يظل الامر في السر؟لأمر يريده سمو الأمير ..

ـ ماذا تقول؟.. وكيف تم ذلك ولا احد أبلغ بخبر؟..

انفجر السؤال من فم الوزير كقنبلة تتفتت أجزاؤها

ـ كما قلت لك اتفقنا على كتمان الامر الى أجل قريب..

قام الوزير من مقعده ونوع من الامتعاض يلفه بحنق وسخط:

ـ على كل حال سابحث في الامر..

ثم بلا لياقة ولا احترام أشار بيده للزائر بالانصراف..

دخل أبو كوثر على بنته وأعلن لها الخطأ الذي ارتكبه بكذبة ظنها تبعد فلذة كبده عما أراد الوزير ان يقرره بتحكم وأمر سلطوي..

تأسفت كوثر فيما أوقع الاب فيه نفسه:

ـ لماذا هذا الخوف ياأبتي؟هل نحن عبيد ما وجدنا الا لننفذ رغبات أسيادنا؟

لو تركت الامر لي لاعلنت مايعرفه الناس عن حمزة وما تم تدوينه من سخرية وتحقير في أكثر من موقع تواصل اجتماعي ،ولجعلت معالي الوزير يخزي نفسه قبل أن يجرؤ على مسك بتحكم وإذلال، والله لن أمررها له بسلام ..

ـ هل تعرف لماذا استدعاك الوزير اليوم؟لان ابنه أمس وجدوه مرميا خارج المدينة عار وقد غيبه السكر، ينخر الدود مؤخرته والكلاب تكاد تنهشه لولا ان تداركه رجال الدرك.. معالي الوزير ياأبي يريد ان يتستر على خزي بعار، من كان مثله فعليه أن يقدم استقالته ويترك هذا الوطن فقد صار سبة لحزبه ولوطنه..

نوع من راحة البال تلف أبا كوثر، يعانق بنته وعلى خدها يطبع قبلة ابوية حارة وما في عقله غير صور أم كوثر واحدى عباراتها تطن في رأسه:

" اياك أن تخجل من بنتك، هي كأي بنت عادية لايمنعها عن الزواج والانجاب مانع، سوى أنها تجد متعتها مع أنثى مثلها مقارنة بالممارسة مع رجل "

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في مرج خصيب أبدح وقد أبشرت الأرض وأبل الشجر وتسامق. وقفت إمرأة متلع، تنظر إلى سماء إمتدت بالزرقة المشوبة سوادا. كانت الشمس تتهيأ للسفور ولما تجرؤ بعد. وقد أبدر الكون ما شاء له ثم هم بالإياب وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وحدث بينهما شبه تنافر، فلا الليل يريد المكوث ولا الشمس تسرع بالسفور. والمرأة تسري في جسدها رعشة المنتظر الواله تكاد عراه تنفصم من شدة ما به. جالت بعينين غائمتين في ما حولها ثم إنحنت بقوامها العسل على قبضة من الكلإ تجتذبها فتخضر يداها فهي النماء وهي الربيع يرمي بلحافه على الكون. كانت منذ زمن بعيد إمرأة عياطا أرضا صفصفا لا تنبت وها هي الآن ترغب أن تحمل الكون في أحشائها فتطل شمس الرغبة في عينيها. لقد كان يوجعها أن تلد الأرض كل عام وقد أتاها الربيع. ويأبى عليها الكون أن تأتي مثلها ولو مرة واحدة. ولقد أثارت....الخروج إلى الكون عارية تغوي الصخر والماء والنار عن أنفسهم فما إغتووا وآثرت لهم فما أثملهم ذلك. ولطالما أمسكت بالماء في جسدها يمرغها وتنحل فيه فإذا بهما بياض شفيف ثم ما يلبث أن يشيح عنها ويتراجع فإذا بها كغبار الصحراء في الحلق، وأحيانا أخرى يتهيج الكون فتسبق النار إليها فتتأجج بألسنتها فهي ذوب حتى كأن روحها صقر. ويمضي بها ذلك إلى حد التلاشي فما يسمع لها سوى فحيح. مضت عليها سنوات وقد أغم بها الكون وكرهت ما هي عليه من خواء فصارت تتجول بين الأشجار تأكل ثمرها فيسيل الماء مع لعابها على جسمها العقيم ثم تسبل هامها المتعب على الأرض وتنظر إلى بطنها الأبجر قائلة : " أيكون هكذا الإمتلاء؟ فلعلي أنبت شجرا وأثمر. " ثم تنام محتضنة أوراق الشجر كمسافر بالصحراء وقد شرب العطش. وفي يوم وليد تأججت فيه الحياة، خرجت فيه إلى الكون تستحم بالشمس والشمس معانقتها تنسج من خيوطها شفوفا تلفها لفا من شدة ما إعتراها، فإذا ما أصبحت كالجمر إرتدت متراجعة إلى الماء وقد أبرد ورق وسرى فيها سريانا وهي تلاطفه وهو يشفق عليها حتى لان ونحل وقعه إلى حد السكون. أما هي فقد هدأت وعلت وجهها إبتسامة كالفجر، ثم ما لبثت أن همت واقفة وقد شخصت في ما حولها ثم طأطأت رأسها كالمصيخ إلى قضاه ثم صاحت صيحة إنشق لها الصمت المطبق على المكان. إنها تحس بالحياة تسري في جسدها، إنها الأرض تنبت بعد بداد، إنها الغيمة تمطر أو هي الروح تخرج من روحها فهي روحان. ألقت بنظرة غائمة بعيدة الغور كأنما إثولت....وإستبد بها الجنون وطفقت ترمي التراب على رأسها وتختصب الكلأ وتضعه على رأسها المتعفر بالتراب وتجتزع أغصان الأشجار الممتدة بآستكانة ثم تجري في جميع الاتجاهات مجتابة...الفضاء المحيط بها دون وعي منها. بقيت ردها من الزمن على ذلك الحال ثم ما لبثت أن سكنت عن الحركة ووقفت متوسطة لفيفا من الأشجار مولية الشمس وجها أجذل، إنفرجت أساريره وعلته مسحة من الرهبة كمن حدث له خطب. ثم صاحت : " لأقصدن الأجادب تستوي فيها روحي." حملت قربة ماء وبعضا من الزاد وأجدت السير وقد أجدها العزم تأجيدا ، حثت الخطى وقد أجشت الأرض وثقلت بما عليها من ثمر وآحتفى الكون بنفسه فأزهرت ونما وأثمرت بحملها فناء بخورا. حثت الخطى وكانت عيناها غائرتين في الأفق الممتد أمامها وقد إشتد عزمها إليه. مضى وقت طويل وهي مستحثة عزمها تأكل الطريق أكلا حتى وصلت مكانا صخريا، أجفأت أرضه إجفاءا ولم يبق منها سوى منظر كئيب قاس وجبال ممتدة بحزم وقد عاطت قممها فهي الروح إذا إستوت وتطاولت وتاقت إلى الجوهر الفرد. كانت رجلاها إمتدادا للأرض المتحجرة تحتها، فهما لبعضهما يقوي أحدهما الآخر ويسنده ثم لكأنها قطعة من حجر صلد لا تني. إنسابت في صلاة لا نهاية لها. إرتفع غبار من شقوق الصخر غمر جسمها ووجهها فأجدها تأجيدا فهي كالطود تجتهف لحظتها إجتهافا وهي الأجة تخرج ألسنتها من شقوق الصخر. صاحت أينا الآن أقدر على الصبر هؤلاء أم أنا؟ من أجدر أن يكون؟ وأشارت إلى الجبال المحيطة بها في جلال. تتالت الأيام وهي على هذه الحال، تذهب إلى نفس المكان الموحش وقد إمتلأت وإستوى ما بها من عزم. وإستقام حالها وشعرت بالتعالي والخيلاء. كانت تسبح وهي جادة السير إلى الجبال وهي تقول : " أنا أنا وأنا إثنان تطاولا فهما واحد لا نهاية له أنا وهم ونحن جميعا والفراغ نشكل الكون والنماء، أنا أنا ما لي والصخر أنحته في جوفي فيخرج عني حياة. " أنهكها التعب فأصبحت خيالا من أوهام سوى من بطن ناتئ ينفلق عن الثياب فيظهر ناصعا مكورا وقد زادته نحافتها إستدارة وضخامة وعلا وجهها شحوب وإعياء وهي تجد الطلب إلى الأعالي تغتابها وتتنكر لها. وفي يوم بينما هي بالجبل تسبح كعادتها وقد تشققت شفتاها وإنفلقتا من شدة العطش وأنهكها المسير وحفيت قدماها فتورمتا وعلتهما حمرة مالت إلى السواد إذ غفت وإذا بها ترى فيما يرى النائم سربا من البجع في بحيرة ساكنة كأنها الدهر. كانت البجعات بيضاء اللون ناصعته تستوي الواحدة إلى جانب الأخرى في شكل دائري. كانت تتلوى وتنثني بأعناقها بإستكانة وخضوع فوق سطح الماء وقد أجهى فهو كالمرمر أو كوجه نبي. ومن حين إلى آخر يسمع لها أنين ثم تنتفخ أوداجها وكأن في جنباتها الأرض والسماء، ثم ما تلبث أن تضمر وتنحل إلا من بطن أخضر كالشباب ثم تحوم حول نفسها في حركة دائرية والماء حولها يغيم في طيات وثنايا لا قرار لها. وتستمر في ذلك دون توقف وفي نسق سريع فأسرع حتى أجشت إجهاشا فكأنها ملتف الأغصان متشابكه أو كأنها الإتي حول الهاوية. خرجت عينا المرأة من محجريهما وهي تتابع هذه الحركات المجنونة في ذهول ثم غابت البجعات في الماء مدة طويلة وكأنها سكنت في قلب الأرض، بقيت المرأة تحملق في المكان وكأن الأمر كان ضربا من الخيال.  وبعد وقت خالته لن ينتهي رأت البجعات تنطلق من جوف الماء إلى السماء ثم سمعت قهقهة إنشق لها سكون المكان ثم نظرت فإذا البحيرة أزهرت وتوردت وجنتاها وذهب ما علاهما من أخاديد كانت تكدر صفاءها. ثم سمعت عصافير تردد : " ولد سيد البحر ولد، قد إلاه قد، سعادتنا سعادة وخصبنا عادة. "

***

مفيدة البرغوثي

حدث ذلك منذ منذ زمن بعيد .. عشرين عاما وربّما أكثر:

أهذه طريقة جديدة تفاجئ بها المشفى المرضى الذين تتوقع موتهم؟

كنت أزعق

وراح زعيقي يزلزل هدوء المشفى

هرعت الممرضة إليّ واقتحم الطبيب غرفتي ثمّ التحق بهما ممرضون وممرضات.تحلّقوا حول سريري لحظات وتراجعوا بإشارة من الطبيب. بقينا وحدنا فربت على يدي وقال:

معذرة للخطأ ساعة الحائط الألكترونية باللغتين الألمانيّة والإنكليزية، ألم تر الممرضة ليلة أمس تغيّر البطارية؟

تذكرت..توقفت اللوجة الألكترونية. فجاءت عند الغروب ..

فهزّ رأسه وهو يبتسم:

لقد نسيت أن تجعلها بلغة واحدة .....

لقد فهمت اللعبة.. الآن بعد أن كاد الرعب يقتلني.. لا أعرف الألمانية لكن الساعة كانت تبدو بعد تغيير البطارية بكلمتين Die Tue. لقد كان الليل هادئا، وفاجأتني مشكلة مقيتة في الصباح.. ظننتها طريقة ابتكرتها المشفى للإعلان عن موتي.

لكني

منذ ذلك الوقت، وإن أعرب الطبيب عن أسفه، وربما عوقبت الممرضةغلى إهمالها، وأنا أكره يوم الثلاثاء

أمقته

وأتساءل دائما: بأي يوم غيره إذن أموت؟

***

قصة لمحة

قصي عسكر

مسندا كتفه إلى باب الصالون، وقف هشام ينظر إلي والدته، وفي رأسه سؤال واحد.. كيف ستتلقّى الخبر؟

 لم تنتبه له فقد كانت تجلس قبالة التلفزيون تتابع برنامجا على قناة وطنية، بينما أناملها تتحرّك ببطء وتغزل قبعة لابنها فريد. ما تزال تراه صغيرا رغم أنّه يستعد هذه السنة لامتحان البكالوريا. وكان والد هشام، الحاج إبراهيم، مستلقيا على الكنبة التي تحت النافذة، مديرا وجهه إلى الجدار. كان يرتدي قميصا أبيض بأكمام طويلة ويحمل في يده سبحة. منذ ترك العمل في المحل صار يرتدي القميص بعد العصر ويحمل السبحة ويجلس في مكان واحد في الصالون ولا يخرج. لم يعد يعطي الأوامر مثل السابق لكنه يعلّق على كل واردة وشاردة في البيت.

 ودون أن يستدير نحو زوجته تمتم قائلا " تجهدين نفسك في الغزل وأنت مريضة. ثم إن الشتاء ولّى. "

" ألن يعود الشتاء؟ " أجابته مبتسمة.                

ماذا لو أخبرهما إني لن أكون هنا حين يعود الشتاء؟ بل لن أكون هنا غدا تحديدا؟ هكذا فكر هشام لكنه لم يقل شيئا.

سيؤلمهما الأمر جدا. ما أقسى أن تكون سببا في عذاب شخص تحبه وتعرف بأنه يحبك فوق حبك له !

صحيح لا يمكن لوالدة هشام أن تعرف ما بداخل رأس ابنها لكن هو يعرف ما بداخل رأسها.

 إنّه يراه كأنه صفحة في كتاب مفتوح أمامه: شقة بالطابق الأول ، ثلاث غرف ومطبخ وحمام/ الطابق الثاني سوف يكون من نصيب فريد. قد تسمح له يوما بالعيش في بيت مستقل أما هشام لا. مستحيل ! هو البكر ولابد أن يكون تحت عينيها.دائما.

انه المرشح لاستلام عرش والده.

و في رأس أم هشام أيضا زوجة شابة جميلة ممتلئة تجيد أعمال البيت وكل أصناف الطبخ، ها هي في شهرها السادس من الحمل، تحتضن الولد الثاني، بينما الأول، عبد الله / يحمل اسم جده لوالدته / يركض في البيت ويطارد القطة. طبعا كان لابد أن ينجبا الكثير من الأبناء ويحققا حلمها: " أن أنهي أيامي وسط قبيلة من الأحفاد."

لا احد يدري بأنّ أكبر أحلام هشام ينتظره هناك، في الضفة الأخرى من البحر.

فقد قرر وخطط وانتهى الأمر.

منذ أيام قصد القائد المسئول عن الرحلة ودفع له المبلغ كاملا. مبلغ باهظ. كان هشام لثلاث سنوات يحتال على أبيه ويخفي المال في درج خزانة في غرفته. كان والده يمر بالمحل مرة في الأسبوع، في المساء، ويأخذ حصة المال معتقدا أنّها كاملة. لم يكن يحاسبه لكن لم يكن يترك له فلسا واحدا.عندما تخرج هشام ويئست من العثور على عمل اقترحت والدته على أبيه أن يركن للراحة ويترك له محل بيع التوابل الذي ورثه عن جده وجده عن أبيه. كان محلا كبيرا ومشهورا حتى لدى سكان المدن المجاورة. ووافق الحاج إبراهيم بشرط واحد : الدخل الوفير. ولكن كانت هناك مشكلة. من يستطيع أن يتصور شابا مثل هشام، يصفف شعره على الموضة، ويلبس الجينز الضيق ويدخّن المارلبورو. شاب ثلاثيني وسيم يجلس في محل ويبيع التوابل والفلافل المجففة !؟ إن المهن لها أصحابها ولا يمكن طبعا أن نتخيل مثلا جزارا يعمل صيدليا أو جراح مخ وأعصاب يشتغل بالفلاحة. إذا لابد من تغيير نشاط المحل. سوف يكون محلا لبيع العطور وأدوات التجميل والهدايا.

و في يومين اثنين تغيّر كل شيء في المحل. تبخّرت روائح الكمّون والزعتر والنعناع وعبق المكان بعطر منعش. كان هشام موهوبا في بيع الوهم للعشاق وجمّع من كفّ الحب مالا وفيرا خمّن أنّه سوف يحمله في عرض البحر، إلى حتفه أو إلى جنّته.

تماما كما يفعل الحب.

 بينما خمّنت والدته أنه سيكدّ بالعمل في المحل وستزوجه من فتاة تختارها له وسينجبان عددا كبيرا من الأطفال.

عندما انتبهت لحضوره، دعته إلى الجلوس بقربها.كان والده قد سحب الوسادة من تحت رأسه ووضعها ة فوق وجهه وغط في النوم. قبل هشام يدها فابتسمت بحنان وسألته عن يومه. كل شيء بخير قال. في تلك اللحظة كان الخبر العاجل يمر على شريط أسفل الشاشة ( انتشال خمس جثث لـ"حرّاقة" من السواحل في ظرف 10 أيام).

و لكي يشتّت انتباه والدته راح هشام يشاغبها بأن ينقض غزلها فتضربه على يده ضربا خفيفا وتكيل له الدعاء.لو انتبهت للخبر على الشاشة لشحب لونها وتنهدت وقالت، كما تقول دائما (حسبي الله ونعم الوكيل . يتركون الجنة ويرمون بأنفسهم في النار..قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي عليّ حجر).

 كان هشام يبدو هادئا بينما بداخله ثيران تتصارع .أمواج عاتية تعلو وتنزل. قلق أسود يصفّق نوافذ تفكيره.

 لمَ لا تخبرها بالأمر وترتاح؟ هل سترتاح؟ يا لك من جبان. يجب أن تعترف بذلك.

 شجاعتك التي ستأخذ يدك وتعبر بك البحر تقف عاجزة أمام نظرتها !

دموع أمي أخطر من البحر. ذلك ما قاله له سليم حين تحدث إليه عبر السكايب منذ أيام .هو من أشار عليه بالفكرة. قال له " لا تخبر أحدا وخاصة والدتك. افعل مثلي، فقط حين وصلت إلى هنا، وأصبحت في قلب إيطاليا اتصلت بها وطمأنتها".

أخبره أنّ أمه بكت كثيرا/ في الحقيقة لم يقل كثيرا، قال بحرا/، ثم تقبّلت الأمر واليوم علاقتهما عادية.

الأم تغفر دائما.

 أمي بكت بحراً ! وتساءل هشام كيف سيكون شكل أمه لو أنها تبكي بحرا؟ وجهها الطيب؟ عيناها الطافحتان بالحب؟ جبينها المزروع بالأمل؟ يا الله.. أيّ ألم سوف تقاسيه ؟ أيّ عذاب سوف يسبّبه لها رحيله؟

"الحرب لا تدور في أرض المعركة بل في قلوب الأمهات". قالت والدة جندي لوالدة آخر في أحد الأفلام.

ترى كيف ستتلقّى الخبر؟ ليس هذا هو السؤال المهم يا ذكي. الأهم هو هل ستصل مثلما وصل سليم وأحمد وعقبة وغيرهم؟ هل ستنجو ؟

أخفض هشام رأسه واحتضنه بين يديه، بقوة، كأنّما خشي أن تفتحه نظرة منها فينكشف السّر. سر الكذبة المتقنة بأنه سينهض باكرا في الغد ويقصد سوق الجملة لكي يبتاع السلعة للمحل، بينما في الحقيقة سيتجه مباشرة إلى شاطئ زموري حيث ستحمله الأمواج إلى الحياة الرغيدة والحرية والسعادة وفي الحقيقة لم يكن هشام بحاجة لحرية اكبر أو بحاجة للمال . لم يكن بائسا ومسكينا لدرجة التفكير في الحرقة والهرب إلى ما وراء البحر.كان شابا ميسور الحال ليس لديه مشاكل. ما الذي إذا حفر فكرة الحرقة في رأسه؟ إنّه جنون المغامرة. هذا كل ما في الأمر. إنه الملل والاعتقاد بأن العشب أشد خضرة على الجهة الأخرى من السهل. أيام نهايات الأسبوع، كان يحضر للمحل رجل في الستينيات تقريبا. غريب الأطوار. كان من أولائك البشر المولعين بقراءة الكتب. ربما كان فيلسوفا. كان دائما يقتني نفس نوع العطر النسائي. يأخذ القارورة ويخرج مسرعا لكن عندما يكون في مزاج جيد، كان يجلس مع هشام بعض الوقت ويتحدثان. مرة، قال وهو ينظر في سقف المحل:

- يا هشام يا ابني إن الرجل كائن مغامر. وإنّ ما يجعل للحياة معنى هو المغامرة فقط. لا غير.

و لاحظ أن هشام مط شفتيه مبديا استغرابا أو ربما عدم استيعاب فقال:

- إن الرجل منّا يجب أن يعثر على امرأة تنسيه جنون المغامرة. إذا لم تكن هناك حبيبة/ حلم، فإنّ الرجل منّا يظلّ يلهث خلف أمر ما ولا يتوقّف.

و لكن لم تكن لهشام حبيبة ولم يشعر يوما بعاطفة قوية تجاه أية فتاة أو امرأة. وكان كل تفكيره محصورا هناك خلف البحر حيث الحياة الرغيدة وحيث أصدقاؤه الذين سبقوه إليها.

بات هشام ليلته يحلم بالجنة الموعودة، وقام قبيل الفجر وخرج مسرعا دون أن ينظر خلفه .

 في المساء، كان مشهد الأمس نفسه يؤثث غرفة الصالون لولا أنّ في الجو إنذار بكارثة. الوالدة تغزل القبعة وتلقي من حين لآخر نظرة على شاشة التلفزيون، وتنتظر أن يدخل هشام قادما من السوق لكي تستطيع بعدها أن تدخل غرفتها لتنام. الحاج إبراهيم سحب الوسادة من تحت رقبته ووضعها على وجهه وغط في النوم بينما فريد كان يدير معركة مع تمرين في الرياضيات استعدادا للامتحان.كان كل يسبح في فلكه ولا أحد انتبه للخبر العاجل على الشريط الأحمر أسفل شاشة التلفزيون (العثور على جثة شاب ثلاثيني " حراق" وفقدان ستة آخرين بشاطئ زموري بولاية بومرداس).

***

آسيا رحاحلية - قاصة جزائرية

نمشي معًا في شارعٍ

كانتْ به الأضواءُ تضحكُ في المساءْ

أنا والدي قد كان قنديلاً عتيقًا

زاهيَ الألوان وهّاجَ الضياءْ

أنا والدي قد كان من أصلٍ كريمٍ

طيّبَ الأخلاقِ مثل الأنبياءْ

نمشي.. وراحتُهُ تلفلفُ راحتي

حباً، لتغفو في بساتينِ العطاءْ

لنقِفْ قليلاً ها هنا

و لتشرِ لي بعضَ الدُمى

فأطاعني وتبسّما.. وتبسّما..

*

قد حِرتُ بالألعاب حين رأيتها

أين التي سأقولُ أني اخترتها؟

تلك التي أرخَت سنابلَ شعرها

أم تلك صاحبة الجذيلة والسوارْ

لا قلبَ فيها يبعثُ الإحساسَ في أطرافها

قد زيّنوها كي تصيرَ بشكلها

أحلى قليلًا من حُجيرات الجدارْ

قد زيّنوها كي تطيرَ عقولُنا

ببساطةٍ وسذاجةٍ بجمالِها

نحنُ الصغارْ

وأدرْتُ طرفي

كي يساعدني أبي بالاختيارْ

*

وفزعْتُ !!!!

أينَ مضى أبي؟!!

أنا لم أجدْهُ بجانبي

و لمحتُهُ

شبحان لم أعرفْهما

مَضيا به

و إلى البعيييييييدِ

إلى البعيدِ تقدَّمَا

قلبي يذوبُ من اللّظى

والحزنُ فيه تكلما

ما حيلتي فأبي مضى

وأنا بقيتُ مع الدُّمى

*

الحلمُ لم يكن ادّعاءً أو دُعابهْ

بل كان مفتاحًا لكهفٍ

فيه كنزٌ من كآبهْ

الآن أعرفُ أن قنديلي انطفا

و نأى كثيرًا وابتعدْ

الآن أعرفُ أنهُ

قد صار في حبس الأبدْ

قد غاب قبطان السفينة

من يسيرُ بنا إلى بر الأمانْ

ما أخبروني  أنهم إذ ودّعوهُ

ودعوا معه الحنانْ

ثم انتبهنا كيف أن الشمسَ في تموزَ غابتْ

عندما كانت تصلي فرضَها عند الغيابْ

كل الذين عرفتهم بطفولتي

لم يرسموا لي وجه موت أو غيابْ

كل الذين عرفتهم ما فارقوني

منذ كانت إصبعي

في فيَّ تغرقُ في اللعابْ

لا... لم يقولوا كيف غابْ

لا.. لم يقولوا كيف دسُّوهُ برفقٍ في الترابْ

و رأيتُ  قنديلي اختفى

حقًّا وليسَ تَوهُّما

أمسى بأرضٍ أهلها لا يرجعون

ولا (عسى) ... أو (ربّما)...

وبقيتُ حزنًا صامتًا

وبقيتُ قلبًا طيبًا

قد ملَّ من دنيا الدُّمى

***

إسراء فرحان الفرحان

حرق القرآن الكريم

عادوا ليمْحوا النورَ والتحْريرَا

والعدلَ والإحسانَ والتطويرا

*

قد أحْرقَوا ورقًا بنارٍ أضرمت

عتمَ النفوسِ بما تأجّج نورا

*

هل ضرّ حرقهمُ الكتابَ بحقْدهمْ

نهجَ السماء وأطفؤوا التنويرا

*

حَرَقوا كتابًا قد تعاظمَ قدُره

لم يُحْرقوا الإعجازَ والدستورا

*

إنْ كان قصْدهُمُ بحرْق كتابنا

حَرقَ الهدايةِ منْهجًا وسطورا

*

فاليحْرقوا أهلَ التقى، فقلوبُهم

حفظتُهُ بُشْرى للورى ونذيرا

*

كم مُزّق القرآنُ منذ نزوله

هلْ أنقصوا من مدّه قطميرا

*

لا زال مدّه كالبحارِ وموجه

يعلو الجبالَ وأرضَها  تكبيرا

*

اللهُ يحفظه ويحفظُ دينَه

للعالمِين ويُجهضُ التغيّرا

*

لو لم يكن نهجُ الكتابِ منوِّرا

ويزيحُ عن دنيا العبادِ شرورا

*

ما دنّسَ الكفرُ الكتابَ وما نهى

عن ذكرهِ وأباحُه تشهيرا

*

لا تحزننّ إذا رأيت فعالهم

ستذيقهُم في العالمَيَن سعيرا

*

لن يكسبوا نصرًا وكلّ نتاجهم

يمضي هباءً في الدجى مدحورا

*

لم يطلبِ القرآنُ منّا ناصرًا

لكنْ لتطبيقِ النصوصِ نصيرا

*

كم أُحْرق القرآنُ في أرض علا

فيها الأذانُ، وصادروا التعبيرا

*

يبكون في ذلِّ النفاق وبعظهم

مدّوا لدربِ الكافرين جسورا

*

لن يردعَ الشجبُ الكفورَ وكيده

والمسلمون تمزّقوا تكفيرا

*

لو طُبّقَ القرآنُ في أحوالنا

ما ناله الكفرُ المبينُ غرورا

*

ربّي شكوتُ إليك ذلّة أمّة

تركت على الرفّ الكتاب أسيرا

*

تركتْ كتابِ اللهِ حين رأتْ لها

بالجهلِ دستورَ الضلالِ جديرا

***

الدكتور نوري سراج الوائلي

ميشكان

{مِنْ وَحْيِ الزَّلَازِلِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي اجْتَاحَتْ مِصْرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ21مِنْ أُكْتُوبَرْ1992م}

***

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}يَا مَنْ بِعْتُمُ الدِّينَا

وَلَمْ تُرَاعُوا حُدُودَ{اللَّهِ}بَاغِينَا

*

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}لَيْتَ الْوَقْتَ يُسْعِفُكُمْ

وَيَقْبَلُ{اللَّهُ}مَنْ عَادُوا مُلَبِّينَا

*

تِلْكَ الزَّلَازِلُ قَدْ جَاءَتْ لِتُوقِظَنَا

وَقَدْ غَفَلْنَا فَلَمْ نَرْتَحْ بِوَادِينَا

*

تُهْنَا عَلَى الدَّرْبِ لَمْ نَعْرِفْ لِخُطْوَتِنَا

مَعْنىً يُفِيدُ وَلَمْ نَهْرَعْ{لِهَادِينَا}

*

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}إِنَّ الْخَطْبَ مُتَّجِهٌ

إِلَى الْجَمِيعِ وَمَا هَابَ الْمَلَايِينَا

*

{بِنْتُ الْمُعِزِّ}غَدَتْ فِي الْخَوْفِ رَاكِدَةً

تَجْنِي ثِمَارَ بَلَاءٍ بَاتَ يُبْكِينَا

***

سَأَلْتُهَا وَدُمُوعُ الْحُزْنِ تَخْنُقُهَا

أَلَسْتِ بَيْتَ أَمَانٍ كَانَ يُؤْوِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ مَنْ قَدْ أَوَتْ مَنْ بَاتَ مُرْتَجِفاً

وَتَقْهَرِينَ عُدَاةَ الْحَقِّ طَاغِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ أُمًّا لِكُلِّ النَّاسِ قَاطِبَةً

تَسْتَقْبِلِينَ ضُيُوفَ الْأَرْضِ حَاكِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ تَاجَ فَخَارٍ بَاتَ يَحْسُدُنَا

عَلَيْهِ كُلُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ تَأْتِينَا؟!!!

*

{بِنْتَ الْمُعِزِّ}تَعَالَيْ-بَيْنَ أَنْفُسِنَا-

وَاحْكِي لَعَلَّ دُرُوسَ الدَّهْرِ تَشْفِينَا

***

قَالَتْ: "بُنَيَّ أَنَا مَا زِلْتُ آمِنَةً

بِفَضْلِ{رَبِّكَ}يَا مَنْ ظَلْتَ مَيْمُونَا

*

بُنَيَّ:إِنِّي لِنُورِ الْحَقِّ جَامِعَةٌ

أَهْوَى الْهُدَاةَ وَلَا أَرْضَى الْمَلَاعِينَا

*

أَهْوَى الْمُوَحِّدَ لِلْمَنَّانِ فِي ظُلَمٍ

تَجْتَاحُ أَحْلَى مَعَانٍ فِي نَوَاحِينَا

*

أَهْوَى سَمِيراً يُنَاجِي اللَّهَ فِي أَدَبٍ

يَدْعُو وَيَرْجُو نَجَاةً فِي دَيَاجِينَا

*

أَهْوَى مَنِ اسْتَمْسَكُوا بِالْهَدْيِ فِي زَمَنٍ

مَلَّ الْعُصَاةَ وَيَدْعُو اللَّهَ مَغْبُونَا

*

يَدْعُو عَلَيْهِم:أَيَا{جَبَّارُ}مُنْقِذُهُمْ

أَعْتَى عَذَابٍ فَنَزِّلْ مَا سَيُنْجِينَا

*

إِنَّ عِبَادَكَ مَا أَصْغَوْا لِمَوْعِظَةٍ

فَزَلْزِلِ الْأَرْضَ تَجْتَاحُ الْمُرَائِينَا

*

يَا رَبِّ:قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَاغْتَصَبُوا

عِرْضَ النِّسَاءِ وَمَا زِلْنَا مُهَانِينَا

*

يَا رَبِّ: إِنَّ الْحَيَاءَ الزَّيْنَ فَارَقَهُمْ

فَاخْسِفْ بِمَنْ مَارَسُوا مَا لَيْسَ يُرْضِينَا"

***

قُلْتُ: "اهْدَئِي ..أُمَّنَا فَالْحَقُّ مُنْكَشِفٌ

وَسَوْفَ يَرْجِعُ مَا يَحْتَاجُ تَبْيِينَا

*

صِفِي لَنَا طِبَّنَا وَ{اللَّهُ}يُبْرِئُنَا

إِنَّا مَرِضْنَا وَنَحْتَاجُ الْمُدَاوِينَا"

*

قَالَتْ: "فَعُودُوا إِلَى{مِنْهَاجِ رَبِّكُمُ}

هَذَا الدَّوَاءُ الَّذِي مَا فِيهِ يَكْفِينَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي*

شاعر وناقد وروائي مصري*

كان ساهما

يتأمل زرقة السماء

يفتح عينيه

على مصراعيها

كبحار...

يراقب عن كثب

أمواج البحر

تقبّل راقصة

شفاه سفينته

التي تمخر العُباب

غير عابئة

بهواجسه

تداعياته

شارد الذهن

يفكر في مملكة القرود

لم يدر لماذا أقحم نفسه

وأخذه هذا المنحى من التفكير؟

هل  للقرود مملكة؟

تنغّلت فيه الفكرة

تماهى معها

حتى خال نفسه

قردا

يحاورعرّاف المملكة

- لماذا نهرب جميعا

من مملكتنا إلى الأعالي

حينما نسمع زئير أسد

أو عواء ذئب؟

ضحك القرد العراف

اعتدل في جلسته

سحب نفساً عميقاً

من غليونه

قال ساخرا:

مملكة القرود !!!!

هل صدّقت بهذه الكذبة؟

إنّ ما تراه وهما

اصغِ  جيدا

هات لي أذنك

القرد يبقى قردا

وإن تنعّم بالديباج

في أوج عظمته

ليس له

إلّا أن يكون

قردا

- هذا الفضاء الواسع لِمَن؟

للأقوى دوما

قانون الغاب

هو السائد

القوي ...

هو ملك الغابة

لا يرى فينا

نحن القرود

سوى التسلية

ويفترسنا إن شاء

- ما دمنا ضعفاء

إلى هذا الحد

لماذا نحن قساة

مع بعضنا؟

ابتسم العراف

تململ قليلا

ربت على كتفه

قائلا:

نريد تقليد الأقوياء

نود امتهان التوحّش

ولا نطيقه

إلّأ مع أبناء

جلدتنا

ليس هنالك

قرد شجاع مفترس

خلقنا للهروب

ولمواسم الضحك

والفرجة

والجري على أربع

أفاق من

لحظات هروبه

شروده المؤقت

على صوت هدير

طائرة عسكرية

كانت تخترق

مجال بلده الجوي

كان يتمنى

أن يشاهد

مّن يوقف صلافتها

طأطأ رأسه

باكيا خذلانه

وتلاشى...

في فم المدى

***

نص/ شلال عنوز

الخزائن ملئى بالأغطية الخفيفة والسّميكة المزدانة بشتى الألوان

كم اشتريت أغطية

وأرائك

وصحونا

وكؤوسا

المطبخ يعج بالأثاث ...

لا يجب أن يحتاج الأولاد إلي أي شيء عندما يأتون ..

لقد اشتريت أضعاف ما أحتاج في المنزل ...

البيوت مدكوكة دكا بالأثاث

وأنا أشعر بالبرد

ألتفت يمينا وشمالا باحثة عن أغصاني الذين كنت أتدفأ بهم

أينهم ؟

أريد أن أضمّهم إلى صدري

أن أرضعهم فيمسكون "الزِّيزة" وينظرون في عيني فألاغيهم .. ويضحكون حتى يفيض الحليب من بين شفاههم الصغيرة

أريد أن أحضنهم وأدسّهم في حضن قلبي

أن أشعر بأنفاسهم الطيبة

أريد أن أشتمّ رقابهم الناعمة...

أريد أن أستمع إلى كلماتهم المعوجّة وهم يتعلمون النطق و التعبير ... فأضحك حد الدّموع .

مضى وقت طويل على تلك الكلمات وتلك الضحكات

أريد أن أحكّ أنفي على صدورهم الصغيرة وأنا أحمّمهم وألبسهم أثوابهم

وأدغدغهم ... فيضحكون قهقهات عالية ويمسكون شعري بأيديهم الصغيرة ليمنعوني من دغدغتهم

أريد أن أصرف راتبي في شراء ملابس العيد لهم

واللُّعب

والأدوات المدرسية

ماذا أفعل براتبي؟

لقد كبروا

وابتعدوا عنِّي في متاهات الحياة

أصبح المنزل نظيفا

دائما نظيفا !

لا أحد يدخل بحذائه الملطّخ بالتراب أو بماء المطر بعد ما انتهيت من تنظيف القاعة

لا أحد ينفلت منه كأس الحليب أو صحن الفطور فيتكسّر وأعيد التنظيف من جديد

لا أحد يلطخ ملابسه الجديدة بالشكولاطة أو المثلجات .

ترى هل كنت أُكبِّرهم كي يبتعدوا ؟

أستفيق الصباح وأهمُّ بالنهوض ثم أتراجع ... لماذا أنهض

لمن أنهض ...

ما أوسع المنزل

وما أفرغه

أقلب الأمكنة وأشعر بضباب ساخن يجتاح عيني..

ألتفت حولي فتترائى لي قاماتهم الطفولية البديعة

وهم يملؤون الدنيا صخبا ولعبا ولُعبا وبعثرةً ... ودفئا

لكن سرعان ما يهفت الصَّخب ويبتلعني الصَّمت يسلِّمني إلى وحدتي

أينهم ...

مازلت أستفيق كل ليلة كعادتي لأتفقدهم وأغطي من أزاح عنه غطائه ...

ترى هل كان علي أن أتركهم صغارا

لألفّهم تحت أجنحتي ... أتدفَّأ بهم عندما أشعر بالبرد.. كيف !

أصبحت أجلس الآن كلَّ يوم قبالة الباب وأنتظر ...

أنتظر ماذا؟

أن يدخل علي أحدهم ....

ويطول الإنتظار

أصبحت أفهم الآن لماذا كنت عندما أعود إلى منزلنا بعد غياب أجد دائما أبي جالسا قبالة الباب .

***

زهرة الحواشي

وغالباً  مايأتني سؤالْ

من أينَ  أينَ  أنتَ

ما  الجنسيةْ

أُجيبهمْ بكلِّ كلِّ فخرٍ

جنسيتي

هويتي

ثقافتي

عربيةْ

عربيةٌ كانتْ

وماتزالْ

وكلُّ مافي أرضِنا

من حالةٍ آنيةٍ

قسريةْ

من عارضٍ وزائفٍ

وسلطةٍ

رسميةٍ شكليةْ

وخرائطٍ

مرسومةٍ

بطريقةٍ عبثيةٍ غبيةْ

صناعةٌ غربيةٌ

غربيةْ

مصيرها

الزوالْ

وكلُّ ما نسمعُ من شجبٍ

أو استنكارْ

وقممٍ يتبعُها قرارْ

فصولُ مسرحيةْ

يكتبُها التجارْ

ليسلبوا القضيةْ

من عهدةِ الاحرارْ

لكنْ لسوءِ حظهمْ

شعوبنا ذكيةْ

لا تقبلُ استحمارْ

تعرفهمْ من شكلهمْ

من ربطةِ العنقِ

إلى العمامةْ

والعقالْ

فكلّها ياسادتي

تأتينا من (بيغالْ)

شعوبنا ياسادتي

لاترحمُ الانذالْ

وتحملُ التاريخَ

في أذهانها

وتعرفُ الابطالْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

هجرتُ في هجرِ مَن أحببتُ عافِيَتي

أواهُ من وَجَعٍ في القلبِ صدّاحِ

*

العاشقونَ إذا ما البينُ داهَمهُم

ما خلتُ يحتاجُ ما عانوا لإيضاحِ

*

إنَّ الذي ملك الأحشاءَ مزّقَها

بهجرِهِ ، حَملًا في كفِّ ذَبّاحِ

*

كم ذا أتوقُ إلى طيفٍ ألوذُ بِهِ

درعًا يقيني سِهامَ الهجرِ في السّاحِ

*

يا طيفَهُ يومَ كانَ الوصلُ يكتُبنا

شِعرًا فهلْ مِنْكَ قد نالتْ يَدُ الماحي

*

لا زلتُ أذكُرُ مثل الحلمِ فتنتَه

أيّامَ يسكبُ خمرَ الدلِّ في راحي

*

فكَمْ تَمَلَّيْتُ فِي صُبْحٍ بِوَجْنَتهِ

كأنَّها الصُّبْحُ في وجْناتِ أصْباحي

*

وَكَمْ تَرَشَّفْتُ شهداً من مَلاغِمِه

ما صُبَّ في عَذْبِهِ خَمْرٌ بأقْداحِ

*

وَكَمْ تَغاضَيْتُ عَنْ نَحْلٍ بِمُقْلَتِه

فَنَحْلُ مَبْسَمِه فِي عَيْنِه صاحِ

*

وَكَمْ تَنَشَّقْتُ مِنْ جِيْدٍ يَمِيْسُ سَناً

كَياسَمِينٍ بوجه النّسْمِ  فَوّاحِ

*

وكم غزا الخجلُ الشرقيُّ في دَمِهِ

دَمي كَنُورٍ على الأرْجاء مُجْتاحِ

*

عِناقُ رَيْحانِه مُغْرٍ فَيَحْمِلُني

على سَفائِنِ سَعْدٍ ذاتِ ألْواحِ

*

شوقي إليه كمِحراثٍ  يُهَيِّضُني

كأنّني مِنهُ أرضٌ وهْوَ فلاّحي

***

مصطفى حسين السنجاري

أحتاجُ مكانا قصياً أَبرأُ فيه من أزمنةِ الصَّبر

أُرَممُ الروحَ الْـ مَزقتْها الحِواراتُ الهَوجاء

عَليّ أُغادرُ مَحطةَ الخُسران

أَحتاجُني.... كَيْمَا أَرتعِبَ

كُلما طَالعَتْني الصُفرةُ في المرآة

لتُثبتَ أَني بَقايا عَهدٍ مَضى

اِبْتسامةٌ أَفَلتْ قبل اكْتمالِ الاسْتدَارة

*

هيَ الأوجاعُ كما عهِدناها

تُشكِّلُ الملامحَ بما يُمليهِ الزمان

دمعةٌ انسكبَتْ...

تُبللُ المَدى المَجْبُولَ على الألمِ

على مَوَاعيد مُلغاة

نُقشتْ تَواريخُها على شاشة الأُفقِ

عُربون مَحبةٍ لأمسٍ يَأبى الأُفول

*

عندَ باب الروحِ...تَتآزرُ التناهيدُ

تُقيم الخيبةُ... وليمةَ ندمٍ

في العيونِ حُمرةٌ...تُؤرخُ الانْهزام

على الجبينِ غُرةٌ تُثبتُ أني

لن أَكونَ مُجردَ عابرِ سبيلٍ

تَسللَ إلى الأرشيف دونَ انتباهةِ القصيد

اِستعارات الخوفِ الـ تُخفي وجهَ الغدِ العَنيد

وانْزِياحَات التَّرددِ

التي تَعتقلُ الحلمِ عند قَوسِ احْتراق

*

بِحروفٍ مائيةٍ أَرسمكَ

لوحةً مُجانسةً للعتمةِ...معاندةً للبياض

ظلالاً ثابثةً على الجِدار

تَعتاشُ على ابتسامةٍ باهتة

عقارب ساعةٍ لا تَتوقفُ مهما ابْتهلتِ الروح

وصوتُ البومِ المُنذرِ بسوءِ الطالعِ

لا يَنفكُ يَهزُني من ناصيةِ الصمتِ

كأنما يُمهدُ الطريقَ للنارِ الزاحفةِ نحوي

وأنتَ... يا أنتَ الهاربُ من محطاتِ اليقينِ

المتعثرُ في الهفَواتَ

سيُدركُكَ الشعرُ حيثُما ولّيت

فالقصائدُ جنودي..وأنتَ متهمٌ بالعبثِ

في الميادينِ المقدسةِ للأرواحِ الطاهرةِ

مُثقل بِشواردِ الليلِ....ورسائلِ الأرقِ

المفعمةِ بالحكايات المبتُورة

ستَتعثرُ في المَرايا

وصدى التّناهيدِ المُرتدِّ نحو خاصِرة البِداية

***

مالكة حبرشيد - المغرب

في نصوص اليوم