نصوص أدبية

نصوص أدبية

على شجرة قريبة نعب غراب

فدعت بالنجاة لابنها الذي لا تعرف أنّه هارب من الحرب في بلد آمن!

2

كان يتأمل في السماء

حين سقطت ذبابة في كأسه

3

هجمت على اللوحة تقتلعها من على الجدار وتهرول بها لترميها في حاوية أزبال في الشارع بعيدة عن البيت. كانت مغرمة بها،فقد كان رسام المدينة الشهير يرسم لوحاته باللون الأحمر اللامع.

الأرض حمراء

الشفق

الغابة البيوت

الهواء

السماء

والورود

هذه الساعة فقط، مع تناولها الفطور رأت من خلال نشرة الأخبار  الفنان الشهير الذي جعل المدينة كلها مغرمة بلوحات ذات لون واحد، يقف أمام المحقق  فيعترف أنّه يرسم لوحاته بالدم.

***

قصي الشيخ عسكر

في رحاب الزمان(*)

ثلاثة، لا غير

في فلك هلامي

لا يُعَدُ هو الزمان

هذا الفضاء الهلامي

يحتضن (الثالثة)

من شروق الشمس

حتى الغروب

زمن عجيب..

لا حد في شكله

لا عقل يدركه

ويظل يسبح

في فضاء الكون

لا يغرب

ولا يشرق

في متاهاته

يمضي مع التكرار

في الزمن  المديد..

ترائت فيه أشياء

وقد تحجب

ولا تكتب

لا يملك البشري غير ثلاثة

أولاهما الماضي السحيق:

يراه الكائن البشري بعضاً

من تلاحين النهار..

تلاشت كالغبار..

ليس فيها غير احداث

تماهت في متاهات القفار..

لم تعد تجدي له نفعاً

وباتت في مطاوي

الذكريات الراحلات

الى الكهوف المظلمات..

ليس فيها قدراً يجدي

سوى قدر النثار..

وثانيهما مستقبل لم يعد ظاهراً

ولا حتى حضورا غائما

يسبح في غيم ولا يُلْمَسْ

فراغ هائم

في مستقبل الكون فراغ

فراغ لا يجاريه فضاء

والثالث حاضر، كالبرق

يومض كالشهب

قد يجعل الكائن يصغي لهفيف الريح

والأغصان في الفجر المعفر بالندى

والشمس تضفي الدفؤ في الزمهرير

ورحلة الصيف الرحيم

إنه الثالث محسوس وملموس

كضوء الفجر

وحسٌ في الظلام،

ثم يمسي سحباً تمضي

وتمضي صوب مأذنة الفنار..

وكما يراه،

نهاره برقاً يزول

الى الوراء الى الغبار..

يبقى الزمان هلامي الرؤى

لا شيء يبقى عند ناصية النهار..!!

***

د. جودت صالح

2 / 9 / 2024

....................

(*) من وحي فلسفة الزمان .

(*) الثالوث هو الماضي و (الحاضر) والمستقبل. 

 

حين يهجر العالم

ويكتفى

بنافذة مشرعة

تطوَّف أحلام المهاجرين

فتلك هي الحياة

*

لهم بواباتهم

ولي نافذتي

قد تبدو صغيرة

وقد يزدرى بها

لكن

حين يُتَكأ عليها

فهي المدى بجهاته الأربع

*

اعتني بتفاصيلها

أمسح ما علق بها من غبار

وأُزينها بنبتة

تكافح

لتحظى

بفرصة

تمنحها حياة

تلاصق النافذة

*

تتعاقب عليها الفصول

خريف يعقبه شتاء

وربيع يمهّد لصيف

يُعوَّل على لفح حرارته

لعلّه يمحو

آثام خطيئة

سوّغت لها الظنون

أن العبث بالنوافذ يلوّث الطهر

*

ترفرف محلّقة في فضاءات رحبة

أحلامي الغضّة

وقد تسربت من بين نافذة

كانت لها

مفتاح سعادة

*

تزداد جمالا

وأزداد تمسّكا بها

نافذة

تنأى بحلمها

عمّن سويعاتها متصرّمة

وموصوفة بالغرور

آه يا نافذة

تختزل الهنا والهنالك

وترفرف شوقا

لآت

آتٍ لا محالة

***

ابتسام الحاج زكي

قبل كل فجر بساعة تقريبا، لا يرتاح سلام إلا عندما يجد نفسه مسجى على سريره المقابل لنافذة غرفة نومه. يحملق في نجوم السماء ومصابيحها. يستمر في تفكيره منتظرا حلول العتمة من بين خيوط الظلام الحالكة. إنه الفضاء المفضل لديه لتعميق تفكيره في منطق ممارسة السلطة على أرض إمارة وطنه المسماة "ألغاز". يسترجع أحداث ساعات يوم كامل من حياته. يراكم الأحداث بتأمل مضني محاولا الاقتناع قبل أن ينام مجددا بنجاحه في حل خبايا بنية ونسق قيادة رعايا موطن وجوده.

هذه الليلة ليست عادية بتاتا. لقد بزغ أمامه نجم من نوع غريب. ركز على موضعه وحركيته ووظائفه. لاحظ أن له سلطة مركزية عظمى. أصابه الرعب عندما لاحظ كيف تتزاحم من حوله بعنف نجوم محورية بأعداد كبيرة تتكاثر كل ليلة. اعتقد بعد تأمل شديد أنه ربما استوعب درس صراعاتها تارة، واقتتالها الدامي تارة أخرى، من أجل الاقتراب من النجم المركزي. لاحظ كيف يتوهم هذا الأخير ابتهاج نوره وازدياده لمعانا كلما اشتد الصراع من حوله. العملة السائدة هي التفنن في إبداع المكائد والدسائس لوأد وإزاحة الآخر.

البحث عن التميز والريادة في التبرك بنور النجم المقدس وطاقته أصبح هاجسا خانقا للوظائف الطبيعية وتكاملها. لقد اكتشف سلام كيف يتم اغتيال نجوم براقة ظلما وعدوانا وبدون رحمة. استخلص في ليلته الأخيرة، أن هناك تداخل فظيع بين النجوم الطبيعية وشياطين عالمها الموازي. تعجب لوجود نجوم شيطانية معادية للطبيعة وخزائنها.

ربما اكتملت دورة تفكير سلام وتحليله. اعتقد أخيرا أنه استوعب درس تأملاته. اعتقد أنه ربما كشف أسرار منطق وجود النجوم وصراعاتها. لم يصدق الخلل الذي أصاب نسق وجودها الطبيعي. الوفية منها تغتال أو تنتحر. تابع كيف يخفت نور موطنه كل ليلة. انتابته فكرة اقتراب تسلط الظلام قريبا.

حل النهار. استيقظ في منتصفه. خرج إلى الشارع العام، فلم ير إلا وجوها عبوسة تتطاير من عيونها شرور لا توصف شدة هولها. هرع عائدا إلى منزله مفزعا من شدة التشنج الذي انتشر في كل فضاءات الحياة العامة : أسلحة بيضاء تتطاير في السماء، وشجارات دموية هنا وهناك، واعتداءات على الأبرياء في واضحة النهار، واحتلال للفضاء العمومي بالقوة، وإخراج وطرد الأسر الضعيفة من منازلها،

عاد إلى سريره نهارا مسرعا بعدما أحكم إغلاق باب منزله. تعب من شدة سهاده في التفكير. نام إلى أن حلت الليلة الموالية. استيقظ فوجد النجم المركزي حزينا وعلامة الندم بادية على طبيعة نوره. تسمر في مكانه عندما سمع صوت النجم الأكثر مكرا يصيح في الفضاء موجها كلامه للنجوم المتصارعة قائلا: أنا النجم المركزي الجديد، فخروا له ساجدين.

***

الحسين بوخرطة

من قصص المعركة (3)

أشقاؤنا العرب، يشاركونا في الملمـات  دائماً، جاؤا بأقدامهم الى الموت، انهم يعشقونه من أجل (العقيدة)، والحدود الشرقية.

أجيال من الشباب المصري كانت تبحث عن العيش وان كان عبر سواتر المعركة، كان للتطوع أنواع وأشكال في أغلب الأحيان، كيف نتصور تطوع الفرد ليموت في أرض ليست وطنه برضاه؟

كانت الحرب حرب العرب جميعاً من المحيط الى الخليج، أفواج من المصريين العاملين في العراق، او من القادمين من الصعيد ومن بلدان أخرى، لملء الفراغ الذي تركه الأخوة والأبناء العراقيون ، اذ لا مفرّ لهم إلا أن يموتوا ميتة معجّلة كما أراد صانع الموت.

كان مغول الحرب يستدرجون أولئك بالمال، والامتيازات، وتحويل الدولار، فيندفعون بحماس الى القتال، يشكلون منهم بسرعة أفواجاً غير مدربة، منهم من لا يجيد استخدام السلاح، وبما ان المعركة (قومية)، والطريق الى تحرير القدس يبدأ من عبادان. فليس عدلاً ان لا ينالوا شرف الشهادة؟

دفعوا بهؤلاء المساكين إلى الحجابات الأولى المواجهة للعدو. ما أن أصبحت ساحة المعركة حاسرة الأرض، بلا حجاب، وانكسرت الشمس إذ نالها الرصاص، والسماء كالجحيم، كانت أجسادهم تتناثر مثل الطيور الذبيحة.

واحد من المقاتلين المصريين نجا بنفسه، استردً بقاياه، وهو بلا مغيث! من يغيث من؟ يصرخ : أوومّال فين خط النار؟؟

***

د. جمال العتابي

سفح الحب

المضيء

تعشقه العصافير

القطا واليمام

معلنة انضمامها

الى جوقة قوس قزح

الصباح

جوقة الغزلان

الايايل

والفراشات

العاشقة

والحزينة

والمطاردة

افي ارض الله

الواسعة

مستنكرة

ثرثرة الدود

العناكب

والجراد في حقول

الحنطة الخضراء

وفي سهول

وهضاب

وتلال الشفق

الازرق

وقوس قزح

الصباح

فيما احصنة قلبي

الصاهلة في مروج

الالفة الحب

والعطاء

تعزف على

قياثر قلوبها

لحن الحب

لحن البنفسج

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

 

الرمل في قرية الصمت

حكيمها الوحيد

ظلاله المائلة تتوعد الشجر

بطين يجر استراحته المبللة

وقلقي مطرز بلعنة السؤال

كأنه أنهار

تنحت سرها في فمي

وتربي عطشي.

ما بال الدمع يستعين برمشي

وما بال درويش أضاع يمامته

في دمي؟

صرت صوفية الآهات

أطعم الغمام بعض لغتي

وبعضها أقرضه لعرافة

تائهة في المي.

ها سيرة البراق

تدحرجني على عتبة سهوي

أتبل جرحا أصابه العياء

أمجد فراشة تقاسمني ضوءها

وتمنع عني

رفرفاتها المثالية

أخمد شغف رصاصة

ظللها العوسج

فتاهت عن الرفاق.

باردة أجفان الورد

وهذا النزيف سلم

وتلك الرسائل أسهم

تستبيحني

متى حدثني البخور

عن آخر الشهادات.

وحدك أنت

قمر تزينه الزغردات

من فوقك نجم ارتعد

ومن تحتك زعفران

ودالية

وطائر أفلت رائحة القمح

فتبسم في روعه الندى

***

وفاء اجليد - المغرب

 

تطوّرت المشادة بينهما، صفعَ وجهها بعد سبّ وشتيمة أمطرها بهما، ثم أشعل سيجارة تليها أخرى وعرقه يتصبب .. يهشم كل أفق ويترك في الضياء ألـف انكسار!؟ لعلها عتبات أرذل العمر/  الأفول .

 قائلاً: من أنت كي تحدثيني بهذه النبرة أيتها الحسناء الجاهلة، هل نسيت من أكون، وهل لزاماً عليّ أن أذكّرك بذلك كل يوم!؟ أين كلامك قبل زواجنا عن الشخصية القوية التي أمتلك، والحكمة، والوقار، والشعر الذي خالطه الشيب، وكم كان يسحرك!! كلّ ذلك تلاشى أمامك  في رأيك ؟؟

سارت أمامه حاملة بيدها حقيبة ثيابها متسلحة بعنادها وماضيه في قرارها بالمغادرة .

نظر إليها بعد أن أخذ نفَساً عميقاً، وقد هدأت ثورته:

- إلى أين ستذهبين في هذا الوقت المتأخّر من الليل!

ذاهبة لمنزل أمــــي .

-انسي كلّ ما قلت، أشعر بتعبٍ شديد، لو أحببتِ يمكنك أن تؤجلي قرارك التعسفي هذا الى الغد، أنا من سيقوم بإيصالك دعيني أستريح الليلة، أشعر بألم يشقّ عٌباب  صدري.

- لا.. لا أستطيع.

- كما تشائين عزيزتي.. رافقتك السلامة!

- أكيد أفضل من مرافقتك لي، فماذا يضير الشاة بعد سلخها.

تكسّرت صورته الأنيقة أمامها، قالت محدثةً نفسها: ستكون لدي إرادتك نفسها التي كنت تفخر بها، وسيكون لي أشياء أخرى، بل سيكون لدي كلّ شيء.. سأعتلي المنبر الذي اعتليت وسأهتف كبطل ثائر ضدّ عدوه، لكن ثورتي أنا تختلف، لأنها ستكون ضدّك وضدّ جبروتك وتجنيك عليّ، سألهب الشوق داخلك، وسأجعلك تنظر من ثقب الباب ترقب عودتي. احتضن شهاداتك ومنجزاتك، ونم على صوت شخيرك أيّها الأسد الهرم.

غادرت متكئة على عنادها  مكابرة والغصّة تخنقها وتثقل صدرها الذي راح يرتفع وينخفض سريعاً دون إرادة منها، بكت بحرقة فرت الدمعة  من مقلتيها و سالت دون توقف رسمت  خطوطاً داكنة بلون كحلها الأسود الذي يشبه تلك الليلة السوداء التي غاب فيها القمر.

المكان بعيد في أقصى أطراف المدينة حيث تسكن أمّها، سائقو مركبات الأجرة جميعهم رفض الذهاب، والبعض منهم اعتذر متحججاً بأن الطرق الى هناك غير سالكة، ولا يمكنهم المرور بمركباتهم في هذا الوقت المتأخر من الليل، مع أن المساء لم ينتصف بعد!

الشوارع بدأت تخلو من المارة ، ساد الصمت وخف الضجيج تلفتُ أنظرٌ  يميناً ويساراً باضطراب وقلق سرى خوفاً في داخلي، اضطرب واختلط مع صوت نباح كلاب قادمة من بعيد، لم تكن الشجرة التي أتكئ عليها تخفف عني ذلك الشعور، بل كانت تخيفني وكأنها تهمس في أذني: ارحلي.. لا يمكن لأغصاني الميتة أن تكون لك  رداء يحميك، والعصافير نأتْ أن تغرد ليلاً، اسألي الليل عني.

هطل الظلام مقبلاً نحوي حاملاً سحباً حبلى بمشاهد خوف، حاولتُ أن ألملم خوفي، فوضعت كفي وسددت بها أذني، لكن صوت تلك الشجرة  مازال نافذا إليه يثرثر ودون توقف: غادري قبل أن تأكلك كلاب الشارع الذي بات خالياً أمامها، وستصبح هي سيدة الموقف.

من حسن حظي لم يدم ذلك الخوف طويلاً، إذ رأيت سيارة أجرة قادمة وقد أثار صوت منبهها  خوف تلك الكلاب وأخرس صوت نباحها بعد أن أخذت تقترب بحذر وبطء شديدين، مما تسبب ذلك في شرودها وتراجعها الى الوراء.

أشرت إلى السائق، فتوقف على الفور، اقتربتُ من السيارة ودنوت برأسي نحوه أحدثه، فعصفتْ بأنفي رائحة خمر أفاقتني من شرودي وخوفي، تراجعتُ خطوتين الى الخلف!! ترددتُ قليلاً وجلتُ بنظري في المكان حولي، قلتُ في سرّي: لابد من أن أغادر هذا المكان الموحش حالاً. سألت السائق الذهاب والأجرة مقابل أن يوصلني، صمت قليلاً، ثم قال بلسان ثقيل وكأنه يلوك قطعة خبز يابسة: المكان بعيد جداً، والطرق غير معبدة هناك... طلب مبلغاً كبيراً.

موافقة، سأدفع لك ما تريد، ضع هذه الحقيبة في الصندوق وانطلق فقد تأخّر الوقت كثيراً وأتعبني الانتظار.

بعد أن سار مسافة قصيرة، مدّ يده وأخذ يقلّب موجات المذياع وقنواته الأثيرة، شعرتُ بأنه يبحث عن موجة محددة، توقف عن البحث على صوت تصفيق حادّ يخرج من المذياع يُنبئ بأن هناك ستارة كبيرة سترفع، ثم بدأ صوت الموسيقى يملأ المكان ويشغل مقاعد السيارة الفارغة. راح يضرب ضرباً خفيفاً بيده على المقود وهو يقول، "يا سلام على كوكب الشرق"، وراح يدندن معها: هو صحيح الهوى غلاب.. ثم سألني: هل تحبيّن أم كلثوم؟

نعم أحبّها أكيد، سدّد نظرة نحوي من خلال مرآة السيارة قائلاً: لماذا خرجت في هذا الوقت المتأخر! أنت امرأة شابة وجميلة، ألا تخافين من الليل ووحشته. لا، لمَ الخوف، أكملْ طريقك لو سمحت، لا مزاج لدي للحديث. ضغط على دوّاسة البنزين قائلاً: كما تشائين!! وراح يدندن كلمات الأغنية من جديد. يبدو أن الرجال جميعهم تعجبهم.

تلك العبارة، هل تعرفين بأني السائق الوحيد الذي يعمل في مثل هذا الوقت المتأخر!! أنا هارب من المنزل وجو المناكدة الذي تصطنعه زوجتي وحين عودتي تكون زوجتي قد نامت. أتعلمين! ركلت بقدميها أبسط حقوقي، لم أعد أشعر معها بشيء، (الأسوأ من شعور الإنسان بالسعادة أو الحزن أن لا يشعر بشيء)، هل تعلمين أني حين استيقظ صباحاً أجدها قد أفرغت كل ما في جيبي من نقود. ثم حول نظرة نحوي، قائلاً: يبدو أني قد ثرثرت كثيراً!؟. ضغط على دواسة البنزين، فانطلقت السيارة تمرّ بسرعة كبيرة من فوق المطبات دون اكتراث. المسافة شاقة وطويلة، أعمدة الإنارة بدأت تختفي من وسط الشارع، فجأة توقفت السيارة تزامناً مع ارتفاع صوت الفرامل التي شوهت وجه الإسفلت. لا أعلم لماذا توقف وما السبب!؟ ثم رأيت من بعيد ظلاً لرجلين اقتربا بسرعة فائقة من السيارة، وأخذا يدوران حولها، وراحا يرتفعان إلى الأعلى ثم يهبطان بخفة كبيرة، اقتربا وقد أدنيا وجهيهما من زجاج النافذة، كان أحدهما يُخرج لسانه كثعبان يتلوى، أثار فزعي كثيراً، أظنّ أن وجهي ووجه السائق قد بدا لهما بوضوح كبير... اعتراني خوف شديد وارتباك، كدت أستفرغ ما في معدتي.

مَن هؤلاء؟ وما الذي يحدث؟ قل لي أرجوك!؟ ليتني لم أغادر منزلي وأركب مع سكير ثمل مثلك، ردّ بكل برود: لا علمَ لي، حتى إني لا أراهما بوضوح، لا تخافي، الآن سنعرف كل شيء.

اقترب أحدهما، قائلاً: هيا ترجّلا من السيارة، وإلا سأفرغ هذا المسدس في رأسيكما.

- ردّ السائق: كيف ذلك؟ ماذا تقول! أنت حتماً تمزح، هيا.. اركبا سأوصلكما في طريقي.

- أنا جادّ! انزلا على الفور..

- ماذا؟ ثم أعاد عليه العبارة نفسها: أنت تمزح!

- نحن قاطعا طريق (سلابة)، انفدا بجلديكما، ونفّذا ما أقول، هيا لا تؤخرنا.

- هههههه.. أنت تمزح (سلابة)!؟

- نعم (سلابة)! هل تودّ أن أفجّر رأس تلك الحلوة برصاصة كي تتأكد بنفسك.

- أطلق ضحكة أخرى،  قائلاً: (أقسم أنكما سلابة).

- اركبا، سأقصّ عليكما حكايتي، هيا...

- ألا تفهم؟ ألا ترى... ألم تفكّر ماذا نفعل وسط الطريق ووسط هذا الظلام،  أو تظننا!!... ثم توقف عن الكلام.

- أقسم بشرفي أنتما رجلان طيّبان.

أماط اللصّ اللثام عن وجهه، كان لون بشرته أشبه بالموت، ثم قال بصوت أجشّ أسرى قشعريرة في جسدي: لا طيّب بيننا سواك.. اخرج من داخل السيارة.. وقلِّد لنا بصوت عالٍ كيف ينهق الحمار، وسندعك تذهب. نكزتُه من الخلف بيدي أتوسله بصوت منخفض: هيا اخرج بسرعة، انهق لهما، انهق أرجوك..

خرج على الفور، وأخذ ينهق دون توقف، وهما يدوران حوله ويضحكان. توقف الصوت فجأة، فالتفتُّ فلم أجدهما، لقد اختفيا في عُباب الظلام.

- كفى نهيقاً.. اصمت، لقد رحلا. هيا عُدْ بي بسرعة من حيث أتيت وسأعطيك ما تطلب.

***

القاصة / نضال البدري

العراق

 

احترس من تلك الغربان التي تحلق فوقك بصوتها المرعب.

أنا وأنت قد رأينا إمتداد ذاك الجسر الذي يمتد بيننا دون حواجز أو مسافات .

هذا الصباح وفي تمام الثامنة كنت قد إستيقظت دون حراك ..

كنت أطوف بعيني إلى سقف الغرفة الباردة

بعد قراءة رسالتك في منتصف ليل وعتمة

قلت في نفسي هل تدرك إن رسائلنا تشبه ذاك الجسر المعلق بين ضفتين ومدينتين وحرفين

إن تلك الرسائل التي تسير في ذاك الجسر الوهمي فقط أنا وأنت نراها تعبر المسافات بين مدن الحرب والحرف

أنا هنا اجالس إشتباك حروف اللغة ليصلك نصل حرف تتمسك به كقشة في كومة دمار

وانت هناك تجالس دخان حرب يعلق في حنجرتك كأنه يتراكم يوماً بعد يوم في صوتك لرميك قتيلاً دون دماء

الجميع يرتعشون من الخوف والبرد و الإنتظار.... إلا أنا وأنت لا نزال نمسك بقنديل أمل وقلم

تتشابك رسائلنا كأن أيادينا في تلك الأسطر لا حديثنا

نحاول أن نخمد ذاك الخوف الذي يشتعل في  أجسادنا بمطر أيلول الآتي حتى نوهم الأوراق بخريف لا إصفرار فيه....وكأن الربيع لم يغادرنا يوماً.

لن تخيفنا أصوات الغربان وهي تأتي كل مرة في سماءنا الزرقاء

سوف نجعل من ذاك الجسر حقل مزهر بشقائق نبضاتنا وتفتح رسائلنا العصية على الدمع

ذاك الجبل الجليدي الشاهق الذي يفصلنا  كلانا يعلم إنه سوف يذوب ويصبح بحيرة شفافة مدهشة

بفعل رسائلنا التي لاتزال تعبر سياج الحرب والحرف عثرنا على فصلاً خامساً لا علاقة له بمواسم السنه

وتشبثنا بخيوط ضوء الشمس الذي أحدث ثقبا في ذاك الإنهيار وأخترق جدار غيمات سوداء

هل تدرك معنى أن تكون لأحرفنا تلك القوة التي تفوق جحافل محتل تتوغل في حدائق الأرض المعطرة .

***

مريم الشكيلية/ سلطنة عمان.....

أمضى عشرين يوما من عمره في دار العجزة ذلك بعد أن فقد قدرته على المشي، أما اليدين فكانتا تتحركان كما حركة ساقه اليمنى، ما زالت ذاكرته مبتلة بالأحداث مثل تربة تساقط المطر عليها دون أن تجف، ابتدأ يومه الأول بقراءة رواية ل همنغواي، وكان بطل الرواية يعيش في داخله مثل قرين يحثه على التحدي، لم يكن في حينها يحب أن يحضر إلى دار المسنين لكن ابنه الأكبر وبحسب وصية من زوجته قرر أن يأتي به إلى ذلك المكان، بات المكان هادئا، وكانت الأيام تمر بلا ضجيج، لكن العم أبو(م) لم يكن يروق له أن يرى نفسه هكذا عاجزا، فقد كانت عربته الإلكترونية تسير به من مكان إلى مكان، وكان يقصد محطة القطار عندما يود أن يذهب إلى وسط المدينة عند البحر ليرى الناس والأشياء حية تمضي بطريقة تحثه على التفاعل حتى مع السفن والزوارق تلك التي تتحرك وسط المحيط، وما أجمل منظر المساء عندما تهبط الشمس عند الضفة الثانية لتبشر بصباح جديد في مكان وزاوية أخرى من هذا العالم، بقي الرجل بحاجة إلى من يخرجه من هذا المكان، حتى لو اقتضى الأمر أن يزج نفسه في مكان ليته يجد عملا يتمكن منه مقابل أن يعيش حرا طليقا، انصرف ذات مساء إلى الصلاة وكانت الرغبة في داخله تتوهج لمغادرة الدار بأي ثمن كان حتى ولو اقتضى الأمر أن ينام في الشارع على الرصيف، صار شريط الذكريات ينساب في مخيلته مثل مقاطع فلم سينمائي، لا زالت تلك الأيام التي كان فيها موظفا في إحدى المكاتب الحسابية، ولا زالت ربطة العنق التي كان يرتديها حيث داعبته ذات يوم أصابع موظفة كانت تعمل معه وهي تحاول مجاملته بطريقة تليق بأناقته المعهودة، صارت دموعه تتساقط دون إرادة، وراح يدعو بلهفة أن يتحرر من قيود المكان والزمان، هاتفَ صديق له كان قد سافر قبل فترة إلى دولة أخرى، تحدث إليه لعله يحقق ضالته المنشودة راح يحكي معه دون توقف وكأنه يريد أن يصرخ بوجه الزمن الذي أطاح به، اختلطت ساعات المساء مع الغروب، خفتت المصابيح، تساقطت بعض أغصان الشجرة القريبة من النافذة، هطل المطر بعد أن أحاط الليل بآخر ما تبقى للرجل من أنفاس، ليغادر السرير مصطحبا معه آخر ما تبقى له من كلام.

***

عقيل العبود/ سان دييغو

 

أَصبَحتُ الآنَ أَقوَى

استَجمَعتُ ما لَدَيَّ مِن سِنِين

وَحَسَرتُ رَأسِي

بِعِصَابَةِ أُمِّي

وتَحَزَّمتُ

بِحِزَامِ أَبِي

واسمُ جَدِّي الَّذِي وَرِثتُهُ عَنهُ

وَلَطَمتُ الرِّيحَ عَلَى وَجهِهَا

وَأمَرتُ حِصَانِي القِرمِزِي:

أَحمِل عَلَى الرِّيح؟

لَا يُقَلِّلُ عَزِيمَتَكَ

عَوِيلُهَا المُزَيَّف

فَمَا زِلتُ أَرَاكَ وَحِيدًا

بَينَ مَن عَرَف

كَيِفَ يَتَعَلَّمُ لُغَةَ الرِّيح

وَيَتَحَاوَرُ مَعَهَا

بِضَربَاتٍ عَنِيفَة؟

أَتَعَجَّبُ كَثِيرًا

حِينَ أَرَى دَمعَتَهَا

وَلَكِن مَا أَن

تَهبُّ عَلَى الفُقَرَاءِ

تَحمِلُ مَعَهَا كُلَّ كُثبَانِ الصَّحرَاءِ

وَتَذرُوهَا فِي أَعيُنِ

طِفلٍ نَائِم

نَسِيت أُمُّهُ أَن تَعصِبَ عَينَيهِ

يَا إِلَهِي:كَيِفَ أُقنِعُ الرِّيح

أَلَّا تَهبَّ فِي اللَّيَالِي البَارِدَة

وَأَلَّا تَحمِلَ كُثبَانَ الصَّحرَاءِ

فِي اللَّيَالِي الصَّيفِيَّة

وَأَلَّا تَمُرَّ عَلَى أَجدَاثِ

الفُقَرَاءِ

فَلَيسَ هُنَاكَ مَا يُقَدِّسُ الأَحدَاثَ

سِوَاكِ

أَيَّتُهَا النَّائِمَةُ فِي آخِرِ الطَّرِيق

وَرِثتُ مِنكِ

زِيَارَةَ المَقَابِر

وَالاحتِفَاظَ بِتُرَابِ

قَبرِ أَبِي

مَاتَت وَلَم تُصَدِّق

أَنَّ المَوتَ قَد لَا يَتَوَانَى

أَن يَختَارَ

أَصغَرَ الأَقمَار

ضَعِي ذِرَاعَكِ تَحتَ رَأسِه

وَلَا تَنسِي أَن تُغَطِّيهِ

فَمُذ كَانَ طِفلًا

لَا يَنَام

إِلَّا وَالوِسَادَةُ فَوقَ رَأسِهِ.

***

د. جاسم الخالدي

أنَا .. إسمِي الكَوثرُ

بِلَوْنِ القَمحِ بَشَرتِي السَّمرَاءُ

عَينَايَ تَنافُرٌ مُنسَجِمٌ

بَيْنَ صَفَاءِ الثّلجِ وحُزنِ الكُستُنَاءِ

لَستُ مِن ذَواتِ المَالِ والجَمَالِ

و لا مِن رَبّاتِ الحِجَالِ..

لا أملِكُ سِوَى حُضْنٍ وَاسِعٍ

و بَعضِ كِبرِيَاءِ..

*

قَدَمَايَ مِن رُخَامِ بَلدَةِ الحَجَرِ

دَومًا تَركُضَانِ بِاندِفَاعٍ نَحْوَ الآتِي

تُراقِصَانِ دَورَةَ الفُصُولِ فِي خَفَرٍ

تَقفُوَانِ بِي هَودَجَ  العَليَاءِ..

أومِنُ بِالحرِّيّاتِ.. كُلِّ الخرّيَّاتِ

التي لا أفْهمُهَا:

كَحُرّيّةِ المَرأةِ.. وحُرّيّةِ الضّمِيرِ

والحُرّيّةِ الشّخصيّةِ...

والتي أفهَمُهَا طبعا :

كحُرّيةِ التّفكِيرِ والتّعبِيرِ

وحرّيةِ التّقديرِ والتْدبِيرِ

وحُرّيّةِ الإنسَانِ في الحقِّ فِي البَقَاءِ ..

*

رُبّما كُنتُ سَأولَدُ بِجَناحَيْنِ

لكّن لِسَبَبٍ أجْهَلُهُ

أنجَبَتْنِي امِّي فِي زَمَنِ الهَزَائِمِ

بِجسمٍ لِلمَتَاعِبِ..

برَأسٍ للنَّوائِبِ

بأجْنِحَةٍ فِي قَلبِي تُجاوِزُ الأمدَاءَ..

فَلَمْ أُولَدٰ  مَلاكًا

ولم أُجَرّبْ يَومًا التّحلِيقَ

بِجَنَاحٍ لَيسَ مِلْكِي

و لا أحِبُّ السّفَرَ في أرضٍ لا تقبَلُنِي

و دائمًا تفتِننِي مُغَامَرَاتُ

اِختِراقِ الأرضِ وغَزوِ الفَضاءِ ..

*

كَانَ أبِي يَحمِلُنِي إلى المدرسَةِ

بِفَخرٍ واعتِزازٍ

كان يَقولُ لِي :

إنّ كُلْ درسٍ احفَظُهُ هُنَاكَ

يُضَاهِى عُشبَ الأرضِ وأنجُمَ السّمَاءِ

اِحتَضنَتٰنِي الكُتُبُ بِرِفْقٍ

عَشَقْتُ سِحْرَ الصّمتِ في حَديثِهَا

عَرَفتُ فِيهَا  الفَرقَ

بَيْنَ الواقِعِ والخَيَالِ

بَينَ المُمكِنِ والمُحَالِ

عَرفتُ فِيها الفَرقَ بَينَ القُبحِ والجَمَالِ

و أنّ مَا لا يُفِيدُ النّاسَ يذهبُ جُفَاءً

قَرأتُ فيها عَن خُبزِ الجَائِعينَ

يُغَمِّسونَهُ بالقَهرِ والضّنَى..

عن كِذبةِ الأبطال الغابرينَ

عن خدعَةِ اِنتِصارِ الحَقِّ ودحرِ الظّالمِينَ

فأرهَقتْنِي حَيرَتِي في مَنطِقِ الأشيَاءِ ..

*

ها انّنِي اجُولُ فِي زِحَامِ العَابِرِينَ..

اعْلَقُ في شِرَاكِ البَعضِ كُلَّ حِينٍ

في وَرطةٍ مِن حُبٍّ .. أو فرحةٍ بِجُبٍّ

و أستفيقُ بعدَها أُحاذِرُ أقنِعَةَ الرّياءِ  ..

لا هَمَّ لي في هَذهِ الحياةِ

غيرَ سعادةٍ بسيطةٍ تنبثِقُ في داخِلي

و شَيءٍ من حقيقةٍ أكتُبُها

بغُصّةِ الدّموعِ في حلقِ الأشقِياءِ ..

لذلك.. قضّيتُ العمرَ ركضًا

و رقصًا.. كطائرٍ ذبيحٍ..

تقتُلُنِي مَخاوِفِي.. مِن حِقدّ مُغلَّفّ بِوِدٍّ

مِن شِعرٍ وَطنيّ مُحمَّلٍ بِشَرٍّ..

تُثقِلُني أحلامٌ إنسانيّةٌ

بتركِ كلِّ الحُجُبِ السّاترةِ

بالعَودةِ مِن جديدٍ إلى حياتِنا العاريةِ

إلى نقاءِ الطّينِ.. إلى صَفَاءِ الماء..

***

كوثر بلعابي (تونس)

 

وَقَـــدْ  جَــاءَ تَــمُّوزُ كَــالْهَاوِيَةْ

لِــيَــنْـفُثَ  أَنْــفَـاسَهُ الــحَـامِيَةْ

*

جَــمِيعُ الــخَلَائِقِ تَــحْتَاجُ حَـلًّا

يُـخَــفِّـفُ لَـسْــعَاتَهُ الــقَــاسِيَةْ

*

كَثِيرٌ مِنَ النَّـاسِ تَهْوَى اصْطِيَـافًا

وَكُـــلٌّ  يُــفَــتِّشُ  عَــنْ نَــاحِيَةْ

*

خَــرَائِدُ شَــتَّى مِــنَ الحَـرِّ فَرَّتْ

إِلَــى الــبَحْرِ جَــاءَتْ لَهُ شَاكِيَةْ

*

فَــحَـنَّ لَــهُــنَّ بِــكُــلِّ اشْــتِيَاقٍ

وَمَــــدَّ  ذِرَاعَــيْــهِ  كَـالــحَانِيَةْ

*

وَأَغْــرَقَــهُنَّ بِــفَــيْضِ حَــنَــانٍ

فَــتِــلْكَ  تَــغُوصُ وَذِي طَــافِيَةْ

*

كَــأَنَّ الــشَّوَاطِـئَ بُــسْتَـانُ زَهْـرٍ

يَــعِــجُّ  بِــأَلْــوَانِــهِ الــزَّاهِــيَةْ

*

فَــحَــسْنَاءُ لَاذَتْ بِـظِــلِّ خِــيَامٍ

وَأُخْــرَى عَــلَى الرَّمْـلِ مُسْتَلْـقِيَةْ

*

وَأُخْــرَى تَــحَـدَّتْ لــكُلِّ قُــيُودٍ

فَــرَاحَتْ تَــسِيرُ كَــمَا الــعَارِيَةْ

*

(فَمَايُوهُهَا)  شَلَّ فِـكْرَ الحُضُـورِ

كَــأَنَّ  الــجَـمِيعَ  بِــهِمْ دَاهِــيَةْ

*

تَــرُوحُ إِلَى البَحْـرِ دُونَ ارْتِـيَابٍ

تُــصَــارِعُ أَمْــوَاجَــهُ الــعَــاتِيَةْ

*

وَتَــلْـطِمُ  بِالـصَّدْرِ صَدْرَ الـعُبَابِ

لِــيُــوقِظَ  صَــبْــوَتَهَا الــغَــافِيَةْ

*

فَــتَنْهَضُ مِــثْلَ نُــهُوضِ التِّلَالِ

وَفِــيــهَا انْــزَوَتْ قِــمَّةٌ عَــالِيَةْ

*

وَمِــنْ قَــبْلُ كَــانَ هُنَـاكَ سُهُولًا

تُــدَانِــي هِــضَـابًا بِــهَا رَابِــيَةْ

*

وَكَــانَتْ تَــدَلَّتْ كَــأَكْمَامِ نَــخْلٍ

كَــكُسَلَى الـعَنَاقِيدِ فِــي الــدَّالِيَةْ

*

لِــمَـاذَا تُـرِيدِينَ هَــذَا الــعَذَابَ

فَــرِفْــقًا  بِــنَــفْسِكِ يَــا غَــانِيَةْ

*

سَــيَمْـضِي الـنَّهَارُ وَيَأْتِـي المَسَاءُ

وَمَـــا  زِلْـــتِ عَــابِــثَةً لَاهِــيَةْ

*

بِـعَــيْنَيْكِ يَــكْــمُنُ سِــرٌّ دَفِــينٌ

يُــفَــسِّرُ نَــظْــرَاتِكِ الــسَّــاهِيَةْ

*

فَــرُوحُكِ تَــشْتَاقُ حُــبًّا جَــدِيدًا

يُــغَطِّي انْــكِسَارَاتِـكِ الــمَاضِيَـةْ

*

حَــذَارِ  حَــذَارِ اصْفِـرَارَ الرَّبِـيعِ

وَتَــبْــقَــيْنَ زَنْــبَـقَــةً نَـائِـيَــةْ

*

فَـــإِنَّ الــزَّنَــابِقَ تَــحْتَـاجُ مَــاءً

تَــمُـوتُ  إِذَا سَــكَـنَتْ بَــادِيَــةْ

*

تَــعَــالَيْ  لَــعَـلِّيْ  أُقَـــدِّمُ حَــلًّا

فَــتُــسْــعَدُ  أَيَّــامُــكِ الــبَـاقِيَةْ

*

زَمَــانٌ مَــضَى مِثْـلَ حُلْمٍ جَمِيـلٍ

وَآمُــــلُ  تِــكْــرَارَهُ  ثَــانِــيَــةْ

***

عــبد الناصر عـليوي الـعبيدي

"رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ثَعالِبُ الْوَقْتِ الْعابِرِ فاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قدمِي. ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً، وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب، ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وَحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

ماذا تَقول أيّها الْمعْقُوفُ في يدِ الكلام؟ وهل أنتَ شاعرٌ فقدَ بوصلةَ البيان أم حاكٍ تاهَ عنهُ غزالُ المَجاز؟

انا الحاكِي والْمحكِيُّ عنه. وأمّا العبثُ أعلاهُ فبعضُ السّلوك. وأمّا الجهاتُ النّائمَة فبعضُ السّكوت. وأمّا خرائطُ الْفرح فبعضُ الانْفِراجِ في سيماءِ العسْف والخسْفِ و...

هل أنتَ تشْرَحُ لي؟ وهل بدوْتُ لك جاهلاً بمسارِب الْكلام؟

سيدي... لا تقلق ولا تندفع فليس قصدي أيُّ إهانة أو ما شابه. كلّ ما في الأمرِ أن الرّغبةَ في الكتابة انزاحتْ نحو التغميضِ الدّلاليّ بِقصدٍ يُنيخُ بالمحْكِي في أرْضِ النّخبة. ولا أرانِي جانَبْتُ صواباً إذْ ضيّقْتُ أفقَ الاستِقْبال. أليسَ من حقّي وأنا الحاكِي أن أختارَ قُرّائي؟

سأتركُكَ إلى نخبَتِكَ وأغادِرُ حماكَ. وليس مطلوباً منّي أن أذعِن لهذيانِك...

لك ما تشاء...

قال الحاكي:

و في غمْرةِ انتصارِ الثّعالِب على نقاءِ التّراب، دلفتُ أنا المحكِي عنهُ إلى ثقوبِ البسْتان. عبرْتُ شُعاعَ الثّقبِ الْوحيد الذي نسلتْ منهُ فصيلةُ ابنِ آوى. وجدتُ المقاسَ أكْبَرَ من بطنِها، فعلمتُ أن الثعالِبَ استأْسَدتْ وتكوّن أو تكوّمَ على صدرِها لِبْدٌ كثيف. وعلمْتُ أيضاً أن بعض الجهاتِ النّائمة تستيقِظُ في حالةٍ واحدَةٍ عندما تُدرِكُ أن الثعالِبَ في مأزق. فتصنعُ لها وجْهاتٍ أخرى أنسبُ لمواقِيتِها الثعْلبِيّة.

قالَ الّذي انتدبتْهُ الثّعالِبُ: أعلنُ باسمِ كل الثّعالِبِ أن الأمر لا يعْنِينا، وأن الثّقبَ لم يدْلِفْ منهُ ولا ثعْلبٌ واحِد. وإنها لفرْيةٌ عظيمةٌ ما جاء بها زمان. نحنُ لم نَلجِ البستانَ ولم نسرِقْ غلّته، كما لم نبدّل فرواتِنا أبداً. فابحثوا عن الفاعلِ ولا تذهبوا في تحقيقكم هذ المذهبَ المغلوط والّذي سيودي بكثيرٍ من الثعالِبِ البريئة. وفضلاً عنْ ذلك فشبَعُنا فيما يغمُرُنا من رزقٍ غابويٍّ يكفِينا والحمدلله على نعمِه.

" رَأَيْتُ الْعَبَثَ ثانِياً ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ذِئابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب وَنُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

أهذا أنت ترجعُ بعد أن غادرتَ حكْيِي ووصمتَه بالنّخبوِيّ؟ مرحبا بحضورك مهما كان موقفك، فأنا أعتبركَ نُخْبَويّاً بامتِياز.

سيدي، كل ما في الأمر أن مسارَ الحكيِ انبعثَ مُشوّقاً فقرّرتُ أن أستمْتِع.

مرحبا بقلبك وعقلك وسمعك وكل جنود استساغاتك.

يبدو أنّ المسألةَ ستأخُذُ مجرىً آخرَ غيرَ الذي خطّطتْ له الجِهاتُ النّائمة. وأنّ الثعالِبَ بمكرِها الغريزيّ أسقَطتْ كفّةَ المتلاعِبِين وكسّرتْ أجنداتِهِم تكسيراً سينجُمُ عنهُ الكثيرُ من الضّرر. ولولا صبْرُ الجهاتِ واستعانتُها بالخبراتِ الأجنبية والمتخصّصة والمُكوّنَة أشدّ التكوين لكلّفها الأمرُ خيباتٍ لا قِبَلَ لها بتجاوُزِها...

هكذا تحوّل الدمعُ في مجراهُ... فمسحتِ الجهاتُ النّائمةُ التّهمَةَ في معشرِ الذّئابِ. وألْصقَتْها بمكْرِها اللّولبِي. فشاعَ بينَ الأنامِ أن الذّئابَ دلفتْ إلى البستانِ وسرقتْ ما سرقتْ وعاثَتْ فيه ما عاثَتْ ودمّرتْ وخرّبتْ وأفسَدتْ . انطلتِ الحيلةُ زمناً على الإعلامِ والمثقّفينَ وباقِي الدهْماء وسائرِ الأنامِ. حتّى أوشكَ كلّ ذِئْبٍ على الرحيلِ من البِلادِ جرّاءَ هذه الوصمة وهذا الْبلاء.

انبرى ذِئْبٌ مثقّفٌ من عامّةِ الذّئابِ ويبدو من تعابيرِهِ أنهُ اشتغلَ سابقاً في المحاماة. قال والعهدةُ على الرواي: لم نشغلْ بالَنا نحنُ معشر الذئابِ بالسّرِقَة إلا لجوعٍ اعترضَ بطونَ صنفِنا أو لخصاصة هدّدتْ فصيلَتنا أو لسغبٍ شديد وضعَ انقِراضَنا في ميزان الموجودات. وأمّا اللمْزُ من جهاتٍ معلومةٍ أو مجهولَةٍ بأنّنا نمثّلُ متّهما أو مُداناً في قفص الاتّهامِ أو ما شابَه، فأمرٌ يبعث على الضحك، لأن الإشارةَ واضحةٌ أوضحُ من شمسٍ في ظهيرة. وإنّنا من هذا المنبرِ الموقّر نقول لا لكلّ أفّاكٍ أثيم. ونشجبُ التهمةَ قبل الفعل ، وندين من وصمنا بأدني صفة. وليطمئنّ الفاعل أننا لن نألوَ جهداً في المتابعةِ القضائية حتّى نبرّئَ ساحتنا من هذا الذي كان، بفعلِ فاعل موبوء...

لم يغمض لِلْجهاتِ النائِمة جفنٌ ولا استراحَ لها جنب. وقضت مواسِمَ حصادِ الانتخابات والترشيحات في قحطٍ بائنٍ ومحلٍ أبْين. تجرّ ذيولَ هزيمَتِها خلفها أينما حلّتْ وارتَحلتْ. ولمّا ضاقَ بها الأمرُ ذِرْعاً جنّدتْ للأمر جيشاً عرمْرَما من جنودِ الشبكات العنكبوتية، تستثمرُ الوسائط الاجتماعية في التشهير بالفاعل الحقيقيّ الذي وضعتْ فيه ثقَتها العمياءَ وانصدَمتْ فيه أشدّ الصدمات...

الْصقَتْ إفْساد البستانِ لفصيلةِ الكلاب.

" الآنَ رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، كِلابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

 سيّدي... وهل الكلابُ صاحبةُ الفعل؟

لا تتسرعْ يا صديقي. فأنا أربأ بك أن تكون ممّن يجتنون الثمارَ قبل نضجِها.

الحقيقة يا سيدي أنك شوّقْتني للنهاية حتّى نسيتُ نفسي، ووجدتُني كذلك المتفرج على شريط سينمائيٍّ عبر آلية اليوتوب، ووجدتُني كأنني أضغط على سهم التسريع لأحداث الحكاية. والأمر في حقّه وحقيقته يُعاش حكياً وحياةً بتفاصيله الدقيقة. هذا فرقٌ سرديّ ينبغي أن نسجّله في مقامات الحكي المتعددة بين مكتوبٍ ومسموعٍ ومرئيّ...

لا عليك يا صديقي، فالأمر يوشِكُ أن يكون عامّا. فأنا غالباً ما أقع في هذه الرغبة.

في سياقٍ مستضعفٍ لم يستطع كلبٌ واحدٌ ردّ التهمة. والسبب في ذلك مرجعهُ إلى أن الكلابَ لا تحظى بصفة النّدرة. فهذه تلعبُ دوراً في ترجيح كفّة الميزان للثعالبِ وللذّئاب. وأما الكلابُ فشأنها مختلف.

قد يقول قائلٌ مُعترضاً على تعليلنا بأن فصيلة الكلاب من نوع  (البيتبول) أو (الجولدن) نادرة. نقول له وبسرعة الموقنِ من دليله، إننا نقصد بذلك الكلاب الضّالّة فقط. جفّتِ الأقلامُ وطُوِيتِ الصحف.

أفحمْتَني أيها الحاكي كما لم يفعل ذلك حاكٍ من قبل. وإنني لأشهد لك بالبراعة في وصم الحكي بالموضوعية. فأين تعلمتَ هذا؟

تعلّمته في حلقاتِ أسواقِ الحي المحمدي. دعنا من هذا، وقل لي أين وصلت حكاية الجهات النائمة مع الكلاب الضّالّة؟

لم تقف الكلابُ مكتوفةَ الأيدي أمام هذا العار وهذا الشّنار. فانبرتْ على بكرةِ أبيها إلى تفعيل نقابةٍ قديمةٍ للكلابِ كانتْ قد جمّدتْ أنشطتَها ولم تُجمّد أوراقها الرسمية. أعادت هيكلتها بسرعة برقية وانتدبتْ ناطقيها ليبلوا بلاء حسناً في صدّ ما هجمتْ به الجهاتُ النّائمة ونقضِ ما حاكتْهُ عبقريتُها الخائبة. لم تلجأ نقابة الكلاب إلى بديع القول وحجيج المرافعة وجميل البيان وقويّ البرهان، وإنما لجأت إلى فعل المقاطعة تنديداً بالإساءة الحاصلة في حقّهم.

سيدي، وما موضوع المقاطعة التي يمكن أن تكون وازنة ومؤثرة وفاعلة وناجعة؟

صبراً يا صديقي صبرا...

لم أعد أطيق الانتظار يا سيدي... هات ما عندك هات.

حاضر يا سيدي ... إن فعل المقاطعة سلوكٌ حضاري وسلمي لا يقترفه إلا واعٍ بالمسؤولية. وقد أُسْقِطَ في يدِ الجهاتِ أن صدر هذا الفعل من الكلاب. حتّى ظنّتْه قاصمة ظهرِها. وقد ركزت نقابة الكلاب على مقاطعةِ قرار تسميم الكلاب بنشر الوعي بين صفوفها بمغبّات تناول هذه المواد القاتلة التي ترّوج لها الجهات النائمة للتقليص من عدد هذه الكلاب الضالة.

هل أفهم أن الكلاب كانت واعية بحملات التسميم وكانت تغض الطرف عن ذلك؟

نعم، سيدي... بعض الكلاب فقط.

هذا غريب جدّاً.

نعم، غريب ومؤسف ومأساوي.

و لمَ ذلك؟

تواطؤٌ من أجل البقاء في مقابل الإبادة الجماعية.

أكلّ هذا يحدث في بلادنا؟

نعم، وأكثر...

" ها أنا أرى الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْرٍ ناسُ الْوَقْتِ الْعابِرِ، فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي . ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

سيدي... أراك حوّلْتَ الحكيَ إلى بني البشر.

نعم، لأنّ البشر هم من دلف إلى البستانِ وسرقَ البستانَ وعاثَ في البستان ثم تركَ الثّقْبَ يتّسع في البستان...

***

قصية قصيرة

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

من قصص المعركة (2)

كانت المعركة بحاجة الى وقود، والأيام مثقلة بحزن وبكاء الامهات، حين يتصاعد ضجيج سرف آليات الحرب، الموت والجحيم يفغران - ياهولهما - شدقين من نار وغبار، يأتي فحيح الرصاص ينثال على جماجم الشباب، من ايما سماء تنهال الشظايا؟

كان الوطن ثكنة عسكرية، فتحت أبوابها (للمتطوعين) في قواطع الجيش الشعبي، حقيقة الأمر لا تطوع عندما تتصاعد النيران في جبهات الحرب تتشكل القواطع عبر تبليغات في بداية الامر،  ثم تتحول الى مداهمات للبيوت، ومرحلة تالية اقامة مفارز في الشوارع للخطف ، وسعيد من يفلت لغاية اكتمال القاطع،

كانت الجثث تتناسل في مملحة الفاو عام 86، أين المفر.؟ (جاك الموت يا تارك الصلاة)، مسؤول المنطقة الحزبي مسرعاً يحمل بيده عشرات التبليغات للالتحاق فوراً في القاطع، طرق باب  منزل (س) ورمى واحدة بوجه الطفل الذي فتح له الباب، لم يكن أمام (س) إلا الهروب من البيت وحي السكن، يقضي ليلة هنا، ويبيت ليلة هناك.

كان يعمل بأجور مقطوعة مصمماً لنشرة شهرية تصدر عن اتحاد نساء العرب، يشرف عليها طيب الذكر الدكتور سنان سعيد فنياً وصحفياً، كان في غاية الأدب والخلق، الدكتورة ناجية عبد الله المسؤول العام عن النشرة،  انسانة وديعة ومحترمة، شكى اليها(س) الحال، فتعاطفت معه وأوعزت للدكتور سنان اصطحاب (س) معه الى مقر الاتحاد في الوزيرية عززته بكتاب مضمونه : الحاجة القصوى لخدمات ( س)، وتعذر الاستغناء عنه.

اسرعا دكتور سنان و(س)  اللقاء بمسؤولة الثقافة والاعلام الدكتورة (هاء. تاء) في مكتبها الفخم في الاتحاد.

انتقلت بجلستها قبالة الاستاذ سنان احتراماً له وتقديراً لشخصه، لم تمض الا ثوان قصيرة بعد اطلاعها على مضمون الكتاب حتى بادر ها بالكلام :

- دكتورة، الأخ (س) نحتاجه في العمل، غيابه يعني توقف.......!

لم يكمل الدكتور سنان العبارة بعد، فقاطعته فجأة، بصوت بدأ يعلو بشيئ من الاستخفاف والتعجب :

- الله يخليك دكتور!! كيف تقبل تحرم (الولد) من فرصة العمر؟!

هنا سكت دكتور سنان عن الكلام بشكل نهائي.

تلك اللحظة كان (س) يُصلب في صمت،

- ما أمنية المصلوب يا (س)، ما مطلبك الأخير؟

- أرمي لكلاب مسعورة كل الامجاد الزائفة.

***

جمال العتابي

** بدلا مني

تبكي الشمعة بهدوء القديسين..

يمتلأ سقف حجرتي بدموع المتصوفة..

هذه حبال مخيلتي جاهزة

لسحب عربات النسيان.

بدلا مني

يسخر قطار  منتصف الليل

من مشية المارة النائمين..

القطار الصاعد الى تلة رأسي

والسائق يمضغ ذيل الأسد .

(لإفناء هضاب الفوبيا).

بدلا مني

تمضي رصاصة القناص مسرعة

لدحض مفاهيم الذئب .

بدلا مني

تصلي سيارة اسعاف

مدوية بتراتيل شجية..

طوبى لسيدة الجنازات اليومية.

معمدة الأرواح بجناحيها المصطفقين.

بدلا مني

يسقط البهلوان من الجسر

في قاع اللامعنى.

بدلا مني

تشرب الشمس مع الغزلان في النهر

ثم تموت بعضة تمساح عبثي .

بدلا مني

ينبح الفراغ في الحديقة.

شبح يروض جنازة جامحة

بضحكته المريبة .

بدلا مني

يفتحون النار على غراب الحظ

بينما ريشه المتطاير

يغزو باحة العالم .

***

فتحي مهذب - تونس

 

... لليوم الثاني لم تغمض أطراف عيوني نومها الطبيعي ، حينها قررت الترجل والتجول كالمتسكع بين أزقة حواري المدينة القديمة .ثِقل النوم يَبْرز من قسمات وجهي مُنْتكسا بالتشويش، وغياب عدم تهديف الاتجاه. لحد الآن، لم يلازمني الفرح منذ أن تحولت دفة حياتي بمتحول القدر غير المقدور عليه بالتغيير، فدوام التفكير المرهق داخليا بالتساؤل: لم أنا؟ ، فالرأس يزيد ثقل حمل همِّ الحياة ويشتعل شيبا.

بتلك الأزقة الضيقة في المدينة العتيقة بمكناس، لا تسمع إلا صوت من يستعطفك ويطلب منك الصدقة لوجه الله. لا تسمع إلا دقة نجار شيخ بمطرقة على خشب العرعار الجاف، و الذي تَنْخره عيون (معزة) بارزة. في آخر الدرب، لاحت لي بالتقابل غير البعيد، امرأة قصيرة القامة مكتنزة الجسم  تلتحف حايكا أبضا. امرأة لا تتحرك بالبطء إلا بمساعدة عكاز من غصن شجرة خروب غير مستو الأطراف. بِتْتُ أقترب منها بالاتجاه المعاكس، حاولت أن أسحب عيني من التقاط نظراتها الحادة، لكني وللأسف لم أفلح من سحر ملمح قامتها. إنها بحق امرأة مميزة بقسمات وجهها المستديرة، وجبهتها العريضة المتجعدة ، ونور رباني يَسْطع بخفة حركة ارتداد العيون.

  لحظة توقفت عن المشي واستدارت بملمح الإبصار رافعة رأسها نحوي، فمادام قِصر قامتها قد منحها ولو للحظة تعديل تقويسة ظهرها بالتمام . هنا لامست من عينيها قسوة الزمان، وحينها لم أستطع لا إتمام سيري ولا افتتاح الكلام . كنت أتابع حركاتها باهتمام، وكأنني أعرفها متم المعرفة، وكل صغيرة أو كبيرة إلا وعيني تتبعها بالتسجيل والمعاينة. استبدلت المرأة يد العكاز من اليسار إلى اليمين بالتوسط ، ولحد حركاتها المتتالية لم تبح لا بكلمة واحدة . هنا استرجعت ماضي الطفولة عندما كنا نتبع تلك المرأة التي لا تزور حينا إلا مرة كل شهر، كنا نطلق عليها (أم صاندلة) تسمية كانت تتردد على ألسنا الصغيرة لا نعرف دلالتها، إلا من أنها كانت تنتعل (صاندلة) بلاستيكية من فردتين مختلفتي اللون .

أحسست بيد خشنة تقبض على أطراف أصابعي، فزعت رُعبا وتخيلت أن (أم صاندالا) عادت لتنتقم مِنِّي اليوم، ومن شقاوة الصغر في مشاكستها. في دواخلي سكن خوف شديد ، ولم يسحبني منه إلا صوت طالب (معاشو) بحماره الأشهب (عنداك عنداك...)، لحظتها سحبتني العجوز برفق من مكاني، لأفسح الطريق للحمار المتبختر، والذي من المؤكد الأكيد أنه خبر الأزقة، وعرف أن المارة يفسحون له الطريق كرها لا احتراما. مرَّ الحمار مزهوا ولم يُبد أية التفاتة إلينا مادام انه يحمل ثقلا يترنح تحته، وبالكاد يرفع رجلا تلو الأخرى. تابعت مسيرة الحمار رغم أن صاحبه تخلف عن إدراكه بالسير، وهو في قراره يَفطن أن حماره لن يتيه في مدينة الأحاجي وسبع لوييات .

وبمتم إطلالة أشعة شمس من فجوة صغيرة بين المنازل العتيقة المتهالكة والمتهاوية، أعادتني إلى المكان بعين طرفها الأكبر المغمض من نور الشمس، وكان هذا سببا آخر من شدة الأرق الذي يركب جسمي كليا. عودتي إلى من لا زالت تشد على رؤوس أصابعي اليمنى ، حينها سحبت يدي برفق وأردت أن التقط ولو درهما من جيبي للسيدة التي تبدو عليها أثر قسوة زمن الجذب بالمدينة البئيسة، لكنها أشارت أنها لا تعنيها الصدقة، وليست في حاجة إلى درهم قتل الحلاج بسببه يوما ما، وابتسمت برفق الشفاه المطبقات. حينها لاحظت أنها لم تعر ملمح عيناي لها بالاستفهام ولا الملاحظة ، لكنها أسرت على الحديث معي، والله لقد توجست خيفة من أمرها، وبدأت لعبة تكاثر التفكير في مخيلتي تتوافد، أكثر من طلب وسؤال واستفسار واستفهام، لكنها بذكاء العارف، سحبتني من مكاني منادية علي بأسلوب نداء القريب: أيها التائه الغريب في مكان الأجداد. لقد كان حلمي الواقف المتردد الليلة باللقاء بك في نفس المكان أمام مدفن سيدي عمرو بوعوادة، هنا تلفتتُ يُمنة ويسرة فلم أجد إلا دربا أحدب الهندسة ضيق الجوانب ... قاطعتها برفق لالة الشريفة ما مسك من حلم إن هو إلا أضغاث أحلام . نعم، أنا ابن المدينة، ولست بذلك الغريب التي تقطعت به السبل وتخلفت عنه الطرق. ضحكت بالتكرار الخفيف غير المفهوم المرامي، حينها كنت ألقيت نظرة خاطفة على فمها فلم أجد أي سن بادية فيه، إلا بقيا جذور من النوعية المنكسرة السوداء. هنا اختلط علي أمر المرأة بملامحها الذي شاخت وهرمت، وشأن مدينتي التي تتقاذفها الأيدي والسياسات التي لا حكمة فيها إلا من نفع المنتفعين، واسترزاق الفساد.

أقسمت المرأة بغليظ الأيمان أنني غريب ليس على المدينة ولا على شوارعها وأزقتها الضيقة، بل غريب عن ذاته، عن تفكيره، عن مستقبل حياته. هنا استولى علي الفزع كمن يلطمني على وجهي الأيسر بقوة ، فق مالك ناعس وأنت ماشي... ما لك مغمض "عنيك" وأنت وسط مدينيك وناسك ... هنا استويت مستقيما في وقفتي، ولمحت شقا قليلا من عيناها، فلم ألحظ عليها أثر الشيخوخة ولا شح الحياة، إنها نظرة مرتدة سريعة بين الأولى و الثانية .

آه ، لو كانت المرأة (لالة الشريفة) جنية المدينة الماردة ، لأمرتها حالا بالإصلاح وتشكيل هندسة لمدينة مك..و...ناس. لحظة أحسست بمن يسرق أفكاري. أحسست بأنها الحقيقة الإنسية الماثلة أمامي. أحسست بأني من أبناء هذه المدينة المنسية المنكوبة، حتى ولو اسمها ضاع بين الأوراق والتقارير. تشجعت قليلا، ورحت بيدي أمسح ما علق على رأسها من وهن بيت العنكبوت، الآن وجهت خطابي إليها عن حُلمها الذي راودها غير ما مرة باللقاء معها. استندت إلى الحائط الذي يماثلها شيبا بالتاريخ الماضي، وأكدت أنها زارت جميع زوايا المدينة، زارت جميع المزارات و الأضرحة، وحين تغفو في نومها تلحظ أهل المدينة يسيرون فرادى في حلقة مكشوفة منغلقة، وهم نيام ولا حول لهم ولا قوة ...الآن، فكرت في قولها بالصدق من أنني واحد من ناس أهل هذه المدينة التعيسة...

***

محسن الأكرمين

(مشهد من رواية : نوارة ...وجه عروس).

1. ذات وداع

لم أكن أدرك ما يعني الفراق

غير أني قد رغبت

مهلة انهي بها فرض صلاتي

بين تسبيح يديك

وانشداهي لحظة النبض بِريق الشفتين

كي أعيد

لهدوء البرق ميلاد الصخب

**

2. ذات وجد

ربما اجعل للوجد حنينا ابديا

غير أني

رَجْعُ ابواب خريف راوغته الرغبات

فتمهلت كثيرا

وتيممت بضوء من وميض الالهة

كي اعيد للأغاني

جمرة العشق وانفاس اللهب

**

3. ذات حزن

ربما اخترت مع الحزن خريفا

حضنه حضن امرأة

غير اني سأندّي

شبق القشرة في غمد اللحاء

بين سطرين من الثلج وحمى الاحتضان

**

4. ذات لقاء

ان من شاء اللقاء

فليزد من شعلة النيران في القلب المعنى

قبلة او قبلتين

ويدوزن

جمرة الحب الندية

بخضاب نبضه لسعة نحل

او فوانيس سهر

**

5. ذات غربة

لم يكن ذاك الذي كنت عرفت

غير ان يحصل غير المتوقع

.....

.....

غيرتنا لهجة الغربة

وامتد الضياع

بين قنديل ضرير

وغويّ يتبختر

***

طارق الحلفي

حين قبلت جبين الضوء

لم أكن سيدة المجاز

ولا رسولة لفراشات متمردة

كنت أتحايل على ظلي

أرشه بملح الكلام

أدحرجه في رأسي الملغم

وأسكنه في ركن قصيدة ناعسة.

على عشب خلوتي

تنتفض نواجد المعنى

تلوكني بوادر التأويل

وكنت قد أدمنت السؤال

كفجر صوفي الخطوات

أنا لا أكتب الشعر

أنا أمدح راحة الطين.

بيني وبيني

متسع من الحكايات

عكاز من غبار

غيمة تنسج عراء وجودي

وقمر يمشي بلا مساء.

متى نمحو ظلنا

من صحف الخرافات؟

وها عصفورة اليقين

غادرت عشها باكرا

من أنعش غزالة الكنايات

حتى أحببت أغنيتها؟

هذا النغم

لم تنحته يد القصبات

مذ آمنت أصابعي

بعقيدة النايات

صرت على هيئة الموج

أعد متكئا لدهشتي

وأرتب تشابهنا في أنفاس

الربابات.

***

وفاء اجليد - المغرب

من قصص المعركة (1)*

لعل الجندي الاحتياط سالم كان محظوظاً في بعض المقاييس مع زملائه الجنود  الذين يسعون إلى إرضاء آمري السرايا والأفواج من الضباط في حرائق (القادسية الثانية)، كانت الحروب تقدّم دماء الشباب في ولائم سخية لقطع الرقاب، يوم لا مفرّ للوطن إلا أن يرقص مثل الطائر الذبيح.

كان (سالم) ابن تاجر الجلود في الكاظمية قد أدرك أسرار مهنة أبيه، وتعلّم خفاياها في وقت مبكّر من عمره. انصرف للعمل معه تماماً بعد أن تخرج من كلية الادارة والاقتصاد، وكان من الصعب على الأب إدارة العمل وحده فهو بحاجة على الدوام أن يكون ولده إلى جواره.

تعلّم الجندي سالم أن يكون خدوماً لأولئك الآمرين على نحو لا يبدو أنه يرشيهم، ولا هم يظهرون كمرتشين، قدّم  نفسه للعقيد الآمر بوصفه تاجر أغنام، لابأس هناك ثمة علاقة بين الأغنام والجلود، واقع الحال كانت رشاويه نوعاً من تبادل المنافع في ظروف يشبّ فيها الموت في البيوت، والبلاد تبرعم فيها الدماء، حين اكتشف ان آمره الميداني يحب (الطليان)، وهؤلاء ما كانوا يمتلكون الوقت لتأمين متطلبات بيوتهم وهم في خضمّ المعارك، كان سالم يمتلك مهارة ابن (السوق) يوفّر لهم  ما يريدون لقاء أسبوع إجازة أو اسبوعين، يقضيها مع عائلته وهو في قمة السعادة، تلك الأيام كانت تُعرف بإجازات (تأجيل الموت) .

في واحدة من اجازاته طلب منه الآمر تأمين حاجة العائلة من اللحم والخضار على وجه السرعة، ما كان أمامه خياراً سوى المضي لشراء (طلي) متوسط الوزن عسى أن يجدد له الضابط اجازته مرة ثانية، كان سالم  ممسكاً بقوة  برقبة (الطلي) حين وقف أمام باب منزل الآمر، تصاعدت دهشته وارتسمت الحيرة على وجهه قبل أن يضغط على جرس المنزل، انفتحت عيناه على سعتهما غير مصدق وهو يشاهد عشرات (الطليان) تسرح في حديقة المنزل، كانت (جبهة) ثانية  لكائنات تنتظر الذبح، ظلّ يتساءل مع نفسه: كيف السبيل لإثبات عائدية الطلي للجندي سالم؟ كان جسده قد توقف عن الحركة، لم يعد بمقدوره سحب (الضحية) الى مسافات أبعد، لكن عقله لم يتوقف، تلك الأثناء كان أحد الصبيان قريباً منه، نادى عليه بود مفتعل دسّ في جيبه خمسة دنانير، التمسه في الاسراع نحو أقرب مخزن لبيع الأصباغ، عاد الصبي يحمل علبة لون سائل صغيرة، رجّها سالم  بحركة سريعة، ضغط على نابضها، ثم رشّ باللون الأحمر على ظهر ( الطلي) كلمة: (سالم) بحروف كبيرة.

دفر الباب الحديدي بقوة، ثم نادى على الزوجة لتشهد الواقعة، دفع (بالطلي) الى حديقة المنزل، مع جمهرة الطليان، راح يلهث، بينما كان اسم سالم يلمع تحت وهج الشمس.

***

د. جمال العتابي

.........................

* لم يتسن للكاتب للأسف (شرف) المشاركة في القادسية، ولا الكتابة عنها، يعود بعد أكثر من أربعين عاماً، ليكتب واحدة من قصصها، عسى أن يحشره الله مع (الكاتبين)

 

في رثاء شاعر مجهول

لقد مات

فدعونا نحبه

قالوا

وانفضوا كلاما حول الشاهد

*

قال الأول:

كان يضيء العبارة

سليل ذكرى هو الآن

والنساء يعشقن خلوته

بين عريهن والمجاز

شكل آخر لليله هن

وهو حتمية إيقاع

فالصعود تناص مع

الهاوية في عزلة

المفردات، كل صباح

يرتب الهوامش على

حافة النسيان ويمشي

بجوار نفسه غيابين وخطايا

*

قال الثاني:

كي تحبي شاعرا

كوني قصيدة يا امرأة

شفافة كغيمة،

جميلة كموسيقى بريئة

واضحة كأنتِ

وقت السر والتجلي

وتعلمي منه وصف

نهدك الصغير، ولا

تندهشي إذا ما قبله

قد تكبري فيه ويرجع

إليك من حليب أمه

حين يمتد به الطفل

إليه، حالة استثنائية

بين الشعر والحلمات

لم يكن يحب الصور

لم يكن إلا ما قال

خاليا من الأثر الخارجي

والداخل يفيض به

وسلمه حيث السجايا

*

قال الثالث:

لا الأشياء في التردد

تعجبه

ولا ما بعد المرآة

ويرى الجمال

في تلقاء البحر

كان صديق كل شيء

القطط، الشوارع،

الأعداء، الكلاب،

مرارة القهوة،

السجائر، البسطاء،

الجنود، المطر ، العاهرات

حتى الحروب والطغاة

وكل عنده ضحايا

*

قال الرابع:

هنا

جلس ذات نفسه

مع الرحيل

من قمر إلى قافية

وجنازة بعد جنازة

يدرب لغته على

الاحتمالات، فالموت

كنه الأبد وما قد

يفسر معانى الجسد

فيه نلتقي بنا في

آخرين يحبوننا

بعد خلاف عاطفي

يسمى شغف الحياة

فما أدركنا ما اللحظة

ولا قدسنا النهاية

*

قال الخامس:

يرحل دائما

إلى حلمه ويعود

خلسة حينما الحب

يحبها،

قالت أحبك والخيال

يحاصر الواقعي

سنلتقي قرب الشاطئ

هناك  نعد المساء

بين جسدين ونبتعد

عن صخب المجاملات

أنت شاعري

وأنا القصيد

لا تشبههم... فالأشباه

آفة تأبى الفطرة

واليأس استراحة مؤقتة

من عبئ المسافر،

كل الموانئ تُفضي

إلى اسمك العابر

من البحارة إلى النبيذ

وما رؤياك إلا مد

والجزر يؤنس البقايا

*

قال السادس:

سيد من أسياد

الهامش، لا ينحني

أبدا، وبعيدا كجزيرة

تسكن الليل والغياب

له أن ينأى ويدنو

خارج سياق النص

وكما تشاء له الحكمة

حرا من السطحي

والباطن صرخة تراوده

وتؤجل نخله إلى

أن يقصى الخريف

كي يبعث من الصدى

لماذا لم يسج؟

العصي يتكئ على

محنته ولا يروض،

هي صفة السماء،

كان علوا رغم الرزايا

وما كان كأسلافه

شعراء يمدحون العطايا

*

قال السابع:

هكذا حدثه المعنى

تمر عليك النساء

كما تمر الحياة،

لا مفاجآت،

تصدع ذاكرة من

عطر، شبق يخلو

إلى الدفء تأوها

ثم يمضي يبحث

عن لذة تحت ظل

آخر، تحب نفسها في

الكلمات والصور

لكنها لا تحبهم

وتدعي العشق كل

شهوة وتمتلئ بالبغايا

لا تصدق امرأة تسكنها المرايا

***

فؤاد ناجيمي

 

عاش في الناصرة قبل سنوات بعيدة، صديقان كانا مثار جدل كل من عرفهما وتعرّف عليهما، فقد كانا مختلفين في كل شيء بما فيه وقت الفراغ الذي عادةً ما يجمع اصدقاء من ابناء المدينة.. وكان اكثر ما يثير الدهشة انهما كانا محط انظار نسوة المدينة الحييات الخفرات، دون ان تجرؤ اكثرهن جرأة وجنونًا على الاقتراب من حضرتي اولئك الصديقين المتناقضين.. المتفقين.. وتبدى للجميع.. ان اللافت الطريف في الامر كون هذين الصديقين رغم كل هذه الاختلافات متفقين تمام الاتفاق!! وتعاهدا على الا يفرق بينهما سوى خاطف اللذات ومسود الايام والليلات.

انتشر صيت هذين الصديقين في البلاد.. واخذ يتغلغل في الزمان والمكان.. ما وطد العلاقة بينهما اكثر فاكثر.. فسميا نفسيهما باسمين لافتين استعدادًا لأن يباتا في قادم الايام جزءا من اسطورة نصراوية يري تفاصيلها الابناء والاحفاد.. وتحدو بها الركبان.. فسمى احدهما نفسه ابا كاسر فيما اخذ الآخر الاسم المناقض.. اسم ابي جابر.

اثار اسما هذين الصديقين في البداية اهتمام من عرفهما من ابناء المدينة او جمعته بهما هذه المصادفة او تلك، الا ان هذا الاهتمام ما لبث ان خفّ واخذت حدته في التلاشي رويدًا رويدًا مثلما تتلاشى حدة بقية الامور والفضائح في المدينة، غير انه بقي حادًا متقدا لدي اجمل بنت في المدينة، ذلك انهما. كما اشيع.. تسببا، بطريقة ما زالت غامضة وبقيت كذلك حتى بداية هذه القصة. نعم تسببا في موت شاب كانت مخطوبة له، فانقطعت احلامها في عز توقدها.. اغارت امنياتها.

حاولت هذه الجميلة ان تتناسى هذا الامر، ذلك انها كانت تعرف ومتأكدة في دخيلة نفسها انه لا يمكن ان يكون لأي من هذين الصديقين اي يد في مصرع خطيبها، إلا أن هاجسًا نشأ لديها وما لبث يكبر يومًا اثر يوم واسبوعًا تلو اسبوع، إلى أن اكتمل، وبات لا بد لها من تنفيذه.. فلتنفذ ما انتوته وخططت له.. وليكن ذلك درسًا وعظة لمن يعتقدون ان مدينتهم تنعم بالهدوء والسكينة.

هكذا شرعت تلك الجميلة المكلومة في تنفيذ مخططها الجهنمي.. وكان اول ما ابتدأت به، انها اجرت عنهما تحريات تواصلت فترة ليست قصيرة.. حتى عرفت عنهما كل شيء تقريبًا.. اين يكثران من التواجد.. وفي اي الامكنة يجلسان.. ماذا يحبان وماذا يكرهان من الامور.. وما إلى هذه من معلومات لا بد منها لمن يريد ان ينفذ امرًا عظيمًا.

بعد إعمال تفكير عميق. قررت جميلتنا البدء من الصديق الاضعف.. ابي كاسر.. فلتذهب إليه في وقت راحته واسترخائه الابدي.. ولتبدأ اللعبة.. فاذا ما توفقت عفاها الله من مرافقة ابي جابر.. ذلك الصلف المعروف بعناده وثباته على رأيه.. وتوجهت إليه في غيهب الغسق.. وظهرت له كالكوكب الدريّ في الافق.. فالتفت إليها التفاتة من بحث عن أمر ووجده.. غير انها افتعلت الازورار عنه، ولما كانت نسوة المدينة في تلك الفترة نادرًا ما يختلطن برجالها، فقد رآها ابو كاسر فرصةً لأن يعثر على عروس تغير حياته وظروفه وتدخله في القفص الملكي.. وتجعل منه رجلًا كاملًا امام جميع من اعتقد انه ناقص من الاهل والاحباء خاصة.. و.. سار وراءها وهو يفكر في الطريقة التي تمكّنه من ان يتحدث إليها دون أن يراه احد من العاذلين الحاسدين.. غير أنها كانت كلّما غذ خطوه غذت خطوها اكثر.. وذلك في محاولة منها لجلبه إليها أكثر.. واستدراجًا إلى مكان خالٍ. عندما وصلت المكان المحدد في خاطرها.. جلست موهمة اياه بانها انما تجلس لتستريح.. تقدّم منها أبو كاسر وجلس إلى جانبها:

- لماذا تبعتني كل هذه المسافة. سألته. فرد قائلًا:

- لماذا اتيت.. اذا كنت لا تودين التحدث إلي. اجابها.

- كنت اعرف انك تلتقطها على الطاير. قالت له وهي تطلق سراح ابتسامة ساخرة وظافرة في الآن.

أنس إليها ابو كاسر خيرًا فتجرأ اكثر.. اقترب منها فابتعدت، فهمس لها طالبًا منها ان تقترب واكد لها ان غرضه شريف، وانه انما يريد أن يرتبط بها بالرباط المقدس.. عندها وجدتها فرصة مناسبة لإتمام ما شرعت في تنفيذه. قالت له بنوع من الغنج النصراوي المعروف في المنطقة والبلاد عامة:

- صعب ان اوافق على طلبك ...

- وما المانع؟ سألها وهو يعبث بشاربه الراقص لهفة وجنونًا.. فردت بحسم:

- المانع هو صديقك أبو جابر. وراحت تروي قصة حبكتها وأعدتها جيدًا لهذه المناسبة. فأنا لا اريده. ولا اطيق جديته. وهو منذ مقتل خطيبي على يد غرباء.. يلاحقني في كل مكان. اينما ذهبتُ ذهب. وفي كل مكان حللتُ حل.. في كل مكان أراه قبالتي وأمامي.. وفي كل مرة اتهرب منه الا انه يهمس لي. انه لن يكف عن ملاحقتي الا اذا وافقت على الزواج منه. وبالغت فقالت بحزم: وشو كمان قال اذا رفضت الزواج منه سيقتلني.

ما ان سمع ابو كاسر كلماتها هذه حتى استفاق شيطان الهبل في راسه.. فاستوقف جميلته بإشارة من يده قائلا لها:

فهمت فهمت.. وأردف يقول: للمرة الثالثة: فهمت. فرقص شاربه رقصة عربية اصيلة..

مد يده إلى شبريته وهو يتهدّد ويتوعد.. شهر شبريته في الهواء.. و اندفع وهو يؤكد لها إنه لا يمكن لاحد ان يفرق بينهما.. وانه سيقتل كل من يفكر مجرد تفكير في أن يقتلها.. جرى باتجاه صديقه ابي جابر.. عندها كان لا بد ان تتوقف تلك اللعبة.. فانتصبت طلبت واقفة في طريقه وطلبت منه ان يتوقف.. مؤكدة أنها إنما كانت تمازحه.. غير أنه واصل جريه.. وهو يقول لها ولو.. سألقنه درسًا.. يعني سألقنه درسًا لن ينساه..

***

قصة: ناجي ظاهر

قد قُلتُ لا ما قالتِ الشعراءُ

بابُ الحوائجِ للجسومِ شفاءُ

*

تعطي لمن يأتيك خيرَ عطيةٍ

للقاصدينَ على الدوامِ سخاءُ

*

ونزلتُ عندك بعد عامٍ قاحلٍ

علَّ الهمومَ تزيلُها الآلاءُ

*

ورأيت من حولي السماء تلألات

وعلت علي القبةُ الشماءُ

*

كحَّلتْ عيني من ترابك سيدي

فترابُ أرضك للعيونِ شفاءُ

*

وسجدتُ حتى صاح قلبي خافقي

إنّي إلى هذي الترابِ فداءُ

*

بالأمس من بغدادَ جِئْتُك قاصدًا

ويسيرُ بي نحوَ الرجاءِ رجاءُ

*

ووضعتُ رحلي عند أبوابِ الدُّعا

ودعوتُ ربي أن يعودَ لقاءُ

*

ووضعتُ حاجاتي بكفِّك طالبًا

تُقضى بجاهك، وهي بعدُ قضاءُ

*

يا ابنَ الذينَ عطاؤهم غمرَ الدُّنا

لا تخلو أرضٌ منهُ أو أرجاءُ

*

فانظر إلى حالي فإني تائهٌ

وعليَّ من قهر الزمانِ رداءُ

*

قد عشتُ أحزانًا وحلمًا ضائعًا

يا ربّ هل بعد العناءِ رخاءُ

*

يا ربّ كم هذا الطريقُ محببٌ

نُعْيا ونتعب ليس فيه عياءُ

*

فترى النفوسَ شحيحةً في غيره

وعلى طريقك تُوهَبُ الجوزاءُ

*

صبحًا وظهرًا ثم ليلًا نلتقي

ونعود ثانية، ونحن سواءُ

*

ونعودُ مسرورينَ حيثُ منامُنا

تُغْني النفوسَ الرايةُ الخضراءُ

*

عشر قضيناها وخمسٌ بعدها

والروحُ عطشى والتلاقي ماءُ

*

نستذكر الماضي الجميل وجمعنا

نمشي وتستبق الخطا الأضواءُ

*

حسنٌ يهلهلُ بالأماني راكضًا

وعلى يميني تمرحُ الزهراءُ

*

والآن عدنا والدموع تلفنا

من يرجع الأيام وهي هباء

*

فأنا وأنت محملان بحزننا

في صحن موسى ترفع البلواء

***

د. جاسم الخالدي

أن تموت

وأنت تسقط من برج إيفيل

مثل كرة من قماش رديء

معلولا بنقصان فادح

أن يفترسك أسد القلق اليومي

يرمي خاتمك في البركة

ثوبك المرقوع لشبح بدائي

أن تخذلك عربة الجسد

ناس كثر يعششون في مفاصلك

سرب من الجوارح

تعبر مخيالك المترامي

أن يتقاتل الماضي والحاضر والمستقبل

فوق شجرة عمرك

وفي قاع جنازتك

يرمي النسيان دلوه

ويكون تابوتك مرصعا بذهب الأرامل

أن تخذلك عيناك الجميلتان

في حرب الإبادة الجماعية

لا تبصر عدوك جيدا

وهو يتسلق ظلك

مسددا رصاصة حزينة

من شرفة الأمس

إلى ذؤابة رأسك

مطلقا طوفانا من الضحك

موجة من الدموع العذراء

بينما ثمة جبل شاهق من الجثث

يتهاوى على ظهرك المحني

بينما ثمة مهرج من حضارة المايا

يكنس يراعات فراغك النافقة

أن تكسر آلة الزمن بفأس

ترمي كيس متناقضاتك للأشباح

وتختفي داخل دغل من اللامبالاة

مطوقا بستين مترا من الغيوم

أن تستلقي على سرير الأبدية

تتلاشى أمام زمرة من الأصنام

يؤبنك الفلاسفة والكلاب الضالة

المجانين وطيور الفلامنجو

تسقط من نعشك فراشة الهيولى

شاة الجاذبية بثغائها المريع

أن يكون الله في صفك

أو عدوا يختبىء في حديقة رأسك

أن تكون زهرة مضيئة بيد ملاك

أو عربة متناقضات يجرها شيطان

أن تكون مكسوا بريش الأسئلة

أو هنديا أحمر يرتقص حول نار الكلمات

أن تحنط الموسيقى روحك الهرمة

في دار الأوبرا

ويكفن جسدك الهش قائد الأوركسترا

بينما طيور الهواجس

تنقر عينيك الفارغتين

بشراهة فائقة

أن تكون أو لا تكون

أن تكون ساحرا بمزمار

يستدرج العميان إلى اجتياز الميتافيزيق

على أطراف الأصابع

أن تكون دموعك  من ورق النعاس الخالص

أو من شؤبوب الهاويات

أن تروض عاصفة الفقد

تلقي عصا موسى في المقبرة

ليقوم  خالصتك  القدامى

سعداء بهذه القيامة الأثيرة

تدعو عالم (النومن) إلى سلام دائم

أن تعي روحك  بلاغة الضوء

زئير المحايث ونأمة المتعالي

وتكون الغابة المطيرة

بيت المستقبل

وأنت ملك الدلالة  مستفردا بمطرزات الأقاصي

أن تكون قناصا ماهرا لإيقاع الظل

أن تكون مرتفعا حد الإغماء

تحج إلى سدرتك الكلمات

أن تكون بعيدا من السماء

بعيدا من الأرض

في اللامكان

تسحبك ثيران مجنحة باتجاه البدايات

أن تكون أو لا تكون

تلك هي المسألة.

***

فتحي مهذب

صباحُ الخير باريسُ

وبِغُنّةٍ خَفيفةٍ مَع الرّاءِ

ـ بُونْجُورْ ـ

خريفٌ قادمٌ مع أوراق شَجر الطرقاتِ

صفراءَ حمراءَ وفي لون البُرُنْزِ

مَرحَى للأرصفةِ

أعوانُ البلدية يُمَشِّطونَها كلّ صباح

ثُمّ يَرُشّونها بالخُزامَى

*

صباحُ الخير باريس

وبغُنّةٍ خفيفةٍ مع الرّاء

ـ بُونْجُور ـ

أهلُ مَكّةَ أدرى بشعابها

وأهلُ باريسَ بأنفاقِها أدرَى

على قَدْر طول بُرج إيفَلْ

هيَ في الأرض أعمَقُ

أنفاقٌ

في أنفاق

تحتَ أنفاق

ومِنْ مِيترُو إلى مِيترُو

ومن صِراطٍ على صراط

أسيرُ حثيثا على الصّراط يسيرُ

وصلتُ إلى محطة ـ نُتُرْدَامْ ـ

هُنا

الحيُّ اللاتينيُّ

نهرُ السّانِ والصُّوربُونُ

جَان بُول سارتر وسِيمُونْ دِي بُوفوارْ

إلْزَا ولويس أراغُونْ

هُنا

مَدامْ دِي بُوفاري وأحدبُ الكنيسةِ

بُودْلير وجاكْ بْريفارْ

شارلْ أزنافُور وميرَايْ

هُنا

الرسّامُون

النحّاتون

العازفُون

المسارحُ

الأفلامُ

المتاحفُ

المعارضُ

هنا

النّاسُ الغادون والعائدون

السائحُونَ

والمُشرَّدون والأثرياء

هُنا

الكتُبُ على الأرصفةِ

حَولها النّاسُ يتكدّسون

يتصفّحون ويشترُون

هُنا

على ضَفّة النّهر

المكتباتُ مكتبة ٌ بجانب مكتبةٍ أمامَ مكتبة

اِقرأ….اِقرأ

يقرؤون…

في المحطات يقرؤون

في المِترُو يقرؤون

في الباصِ

في المقهَى

في المطعم

في الحدائق

في الطائرة

يجلسُون يقرؤون

يمشُون يقرؤون

ينامُون يقرؤون

حتّى المتسوّلُ ـ واللّهِ ـ رأيتُه يقرأ

…وأمّةُ ـ اِقرأ ـ لا تقرأ

فقط

تتفرّجُ في المُسلسلاتِ

وشُيوخِ التلفزيون

صباحُ الخير باريس

وبغُنّةٍ خفيفةٍ مَع الرّاء

ـ بُونْجُورْ ـ

الأبيضُ الأسمر ُ الأصفرُ

إفرنجٌ جَرمانُ عجمٌ زنجٌ بربرٌ عربٌ

أرمَنُ غجر حبشٌ صَقلبٌ أمريكانٌ

هاوايْ صينٌ يابانُ

مِللٌ نِحلٌ مذاهبُ وأديانُ

خلاصةُ الزّمان والمكان

الذي بِربطةِ عُنق الذي بجينز الذي بلحية

الذي بقميص الذي بشعر طويل الذي يَعقُصُهُ

الذي يُرسلُه والأشعثُ والأصلعُ

الذي بقُبّعة الذي بعِمامة

والتي بِفُستانٍ التي بسروال التي بلباسِ طويل

التي بلباسِ قصير التي بشُورْتٍ التي بِشال

التي بخِمار التي بجلبابٍ

والتي كأنّها بلا ثيابِ

صباحُ الخير باريس

وبغُنّةٍ خَفيفةٍ مع الرّاء

ـ بُونْجُور ـ

أسيرُ ونَهْرَ السّانِ الهُوينَى

وئيدًا والنّهرُ يجري

مع ـ الأيّام ـ وطهَ حسين ـ أسيرُ

مع ـ توفيق الحكيم ـ و ـ عصفُور ٌمن الشّرق ـ

طارَ ولم يَطر

حتّى إذا خرجَ ذات يوم منَ القفصْ

وقُلنا هذه آخرُ الفُرصْ

نتّفوا ريشَه

ثمّ أجهزُوا عليه

بالسّيوف

بالسّكاكين والمِقصْ

أسيرُ

عكسَ جريان النّهر

والشمسُ على جبيني

يُقابلني ـ معهدُ العالم العربيّ ـ

أسيرُ

في كل شِبر من بلاد العَربِ حربٌ

أو فتنةٌ

أو شِقاقْ

بين إخوةِ ورفاقْ

صباحُ الخير باريس

وبغُنّةٍ خفيفةٍ مع الرّاء

ـ بُونْجُورْ ـ

قُلتُها وأنا أدخلُ المقهَى المُقابلَ

وهَل أحدٌ رَدّ التحيّةَ

بِمثلِها

! ولا بِأحسنَ منها

***

سٌوف عبيد ـ تونس

 

مرساة لحكايات خالدات

وقالت:

يا وعدي الغافي

أنبتني على كف غيمة شاردة ..

ثم شق رداء الأرض

واتبعت مسار الضوء

ها هي تفتح بابها لي

تتمدّد،

وبكامل عنفواني

أمد ساقي على أديمها

أبحث في رائحة الريح

عن معنى  لم تدنسه  يد الغواية

قبل أن يذبل

في ثنايا  الصمت المعرش

على واجهة  المقابر..

***

العامرية سعد الله / تونس

09/08/2024

أرسمُ حروفَ القصيدةِ بأصابِعَ كافِرة. لم تُؤمنْ بعدُ أنّ المعنى سماءٌ لا تطالُها الأيادي... لا تصلُ مداها عينٌ تُرابِيّة. يشَرِّقُ الإبْهامُ داخل مقيتِ الإعتام، سبّابتِي تُغرِّبُ خارِجَ دوائرِ الله. خنْصَرُ كفّي يرفضُ توْحيدَ الانزياحِ في خاتمٍ صقلَتْهُ أجْنِحةُ الملائكة... يحبّ صدأ الحديدِ الْبارِدِ، ويقدّمُ بيعتَه الوحيدةَ لشيْطانٍ أخرس.

*

لا مكانَ لي في بياضِ الصفحةِ السماوية. الضبابُ صديقي، والغيمُ العقيمُ مُصاحِبِي في رحلتي البعيدة. جلّ تحبيري كانَ مطايا بغيرِ سُروجٍ على متونِ خيلٍ لا تتقنُ فنّ الركض. وتتقنُ لغةَ الحافِرِ في نسْغِ التّراب. لا سُنْبُكَ واحِداً تألّهَ في محارِيبِ الشعر أو تعبّد صوفيّاً في لغاتِ الضوء...

*

ها رحْلتي لعنتي... زادِي كانَ زقّوماً كريها، ومشربِي غِسْليناً من عذابِ الطّريق. لم أنتبِه لرفقة المسير. كنتُ وحْدي مُتْرعاً بالعزلةِ الصامِتة... لم يكن لي طائرٌ يحطّ على كتِفي ويأتيني بأسرار المتاه. ولا أفقَ يغطّي عمايَ إلّا ما انفلتَ من وهمِ رؤيايَ... وطِلابِي للظلّ كانَ حلماً بعيدَ المنال، حتّى سئمنِي السّفرُ... والسِّفْرُ لم يفتحْ لِي احتمالَ الشجّر.

*

كنتُ أحمِلُ معي تمثالَ "جالاتْيا"... تُحنّطُ التّرابَ في عيْنيْها.  لم تستفِقْ إلا على إزْمِيلٍ ذهبِيِّ النقشِ، يكسّرُ بصيرَتَها المؤقّتَة في جسد حجر... وصِرْتُ المنْحوتَ بكفِّها الساحرة. وكنتُ قبْلَ الرّحلةِ الغابرة ناحِتاً مُفَوّها، أنحتُ فنَّ الضّجَر. تحوّل بصِري إلى صخر، وأنا الحالِمُ قبْلاً بأنْثايَ حيّةً مثل طائِرٍ خُرافِيٍّ، يحملُ في خوافِيهِ بعضَ الشمس، وفي قوادِمِهِ كثيراً من المطر.

*

أحملُ امتدادَ اليومِ على زِنْدي، وغدِي محمولٌ في كفّي إن طَهُرَتْ وغسلتْ درنَ السؤال... مائِي العبقريُّ والصوفيُّ امرأةٌ نزحتْ من زمنِ الأزل... تحملُ في قلبها جرار العسل، تُلْقِمُني جرعاتٍ تحكيني بدءاً وختاما. وتُقرِؤُني فيما تبقّى منّي تحيّةَ عشقٍ لا يعرفُ أوارُهُ برداً وسلاما...

***

قصيدةُ نثرٍ حداثيةِ

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

أشجارُ الزيزفونِ تنتظمُ على جانبيَّ الشارع، تمتدُّ إلى حيثُ يلتقيانِ وزرقة السماء في نقطةٍ واحدة.

الجو خانقٌ، الصمتُ ثقيلَ الوقعِ، عصافيرُ بلا صوتٍ، غصّةٌ يتيمةٌ عالقةٌ في الحلق، طلاسمُ تنتشرُ بلا وعيٍ في أضلعي، هدوءٌ صاخبٌ يلفُّ المكان.

لا أسمعُ إلاّ صوتَ أقدامنا وهي تُلامسُ الأرضَ وترتفعُ في إيقاعٍ منتظم رتيب. إحساسٌ مُبهمٌ ينتابني، أحاولُ أن أرفعَ يدي قليلاً فأخفق، أُحاولُ أن أتكلمَ، أشعرُ بالحروفِ تُغتالُ في حنجرتي.

أشعرُ أنني أُضغطُ من كلِ جوانبي، أتضاءلُ بتواترٍ كالنابضِ المضغوط عنّوة بقدمٍ حاقدة. أتضاءلُ حتّى صرتُ وإسفلتِ الشارع واحداً. مددتُ يدي مستنجداً، ذُهلّتُ عندما وجدتُ أصابعي تعبثُ بحذاءِ صاحبي.

كدتُ أختنق، أخذتُ أتحرك لكسرِ هذه الحالة المرعبة، قفزتُ، صرختُ، صرختُ بقوةٍ أكثر، تلاشى صُراخي، ضحِكتُ حتى إنقلبتُ على قفاي، فاجأني صاحبي قائلاً :

- لقد وصلنا !.

هدأتُ، تمتمتُ بفوضى، كلماتٌ تراكمت في فمي، فتساقطت نازفةً على التراب، إختفت الأشجار، الطريق، تلاشت رائحةُ الزيزفون، وجدتُ نفسي أمامَ قاعةٍ ضخمةٍ شبيهةٍ بالكنائسِ الأثرية، تعجُّ بالناسِ داخلين وخارجين، كُلٌ يهمسُ في أُذنِ زميلهِ بحذر.

أخذتُ أُدققُ في الوجوهِ، وجدتها متشابهة، بحيثُ تعذّر عليَّ تمييزُ أحدهم من الآخر.

تعفّرَ وجهي برائحةٍ نتنةٍ، إهترأ نسيجُ ذاكرتي، إنتشرت نارٌ في أحشائي، دخلتُ القاعةَ، أحسستُ أني قزمٌ صغيرٌ أمامَ إرتفاعِ جدرانها، الشاهقةِ المُزخرفة، تخيّلتُ نفسي نقطةً صغيرةً حمراء.

كانت قبةُ القاعةِ ملوّنةٌ مُضاءةٌ بقسوة، مؤطَرةٌ بحدودٍ هندسية برّاقة، بينما كان الظلامُ يُهيمنُ على أرضيةِ القاعة، ويتبددُ جزءٌ منه في إنعكاسِ أنوار القبة.

مكثتُ مكاني قليلاً حتّى ألِفتُ هذا الضوء الخافت، بدأت تتضح أمامي معالمَ الوجوهِ أكثر، تبيّنتُ نماذج مختلفة للوجوه، كل نموذجٍ يقفُ في تكتّلٍ خاصٍ به.

سرتُ بينَ الحشد والمقاعدِ، سمعتُ أصواتاً خافتة، ضِحكاً مُتقطّعاً، حدّقتُ في الجدارِ بإمعانٍ، إقتربتُ منه، تفحّصتُ البابَ، فتحته قليلاً وببطءٍ وحذر، فاجأتني إضاءةٌ متناوبةٌ، نماذج بشرية متداخلة، تموجُ بإيقاعٍ صاخب، الرأسُ بين القدمين، الآذرعُ تمتدُّ من الرأسِ،، شفاهٌ مبعثرةٌ، جثثٌ تتناوبُ عليها الأصابعُ، أثرُ دمٍ ينتشرُ بشكلٍ عشوائي.

كانت هذه النماذجُ تتهامس، تضحكُ، تتأوّهُ، حتى يصير همسها ضجيجاً، يتحوّل ضجيجها هُتافاً، شعرتُ بحركةٍ خفيّةٍ، تواريتُ مسرعاً تحتَ أحدِ المقاعد، خرجَ رجلان وامرأة بأشكالٍ طبيعيةٍ، وجوههم ملوّثةٌ بالغدر، إنطلقت نظراتهم تبحث بشكلٍ دائريٍ في كلِ مكان، كمحطاتِ رادارٍ صغيرة.

لحظات ثُمَّ عادوا إلى الداخلِ، وسرعانَ ما سمِعت صوتَ الضحكِ المتقطّع من جديد، والعيونُ تحدّقُ عاتبةً، شامتةً بي من كلِ صوب.

تعصرني الحقيقة، تتكسّرُ أوهامي، أطأطىء رأسي، ألجُ ذاتي، ألتصقُ بالمقعدِ، أرتمي على نفسي، نداءاتٌ خرساءُ على ألسنةِ إنكساري تتوسّل، وفي نشوةِ الوهمِ أُصارعُ سعادتي، فهرعتُ أُخبىءُ نفسي بين كفّيَّ.

إستيقظتُ عندما أتاني صوتُ صاحبي قائلاً :

- لقد بحثتُ عنكَ طويلاً، إنظر إلى ذلكَ الكرسي الذي يحملُ الرقمَ السابعة والستين،

اذهب واجلس هناك، لا تنسى رقم المقعد، لا تنسى أنت السابع والستون.

رمى إبتسامةً ساخرة، ألحقها بإنصرافٍ مُفاجىٍ غريب، الإنتظار يُمزّقُ الجسد، غُبارٌ يرقدُ بالأعماق، عنكوبتُ تنسجُ خيوطاً وهي تُغني إنشودةَ " الحاضرِ - الغائبِ " وصداها يُمزّقني، فأهيمُ في دوّامةٍ تبعثرني.

الدوائرُ تتسع، الزوايا تضمحلُ، الرؤى تنداحُ في لا مبالاةٍ مُقرفة، المقاعدُ تنتفخُ فتطمسَ وجوهِ كل الجالسين عليها، صوتٌ جهْوَريٌ يبدأُ العدَّ، واحداً....، إثنين...، ثلاثةً....، يتوالى العدُّ بإيقاعٍ مُثيرٍ للرعبِ، المقعدُ ينتفخُ من كلِ الجوانبِ أكثر، أرجلُ المقعدِ تورّمت، المساندُ تطاولت مُعانقةً سقف القبّةِ، أقمشةُ المقعد تتمزّق كتمزّقِ الجسد.

شعرتُ أني جزءٌ من المقعدِ، إتّحدَ المقعدُ بي، دوّى صوتٌ جَهْوَري :

- سبعةٌ وستون.

لقد صرتُ رقماً.

نهضتُ بآليةٍ، وقفتُ أمامَ الزوايا الخشبيةِ بذاكرةٍ مُشتتةٍ مُشوّهه، ردّدتُ بلا وعيٍ ما سمعتهُ من زعيمِ القاعةِ كما بدا لي، ساقوني إلى غرفةٍ مجاورة، أغيبُ، أصحو، أصابعٌ تنهش ذاكرتي، طويتُ الزمنَ، أعادوني، تابعتُ مسيري إلى بابِ القاعةِ وأنا أتحسسُّ رأسي، صدري، وكُلَ عضوٍ في جسدي.

ضجيجُ الشوارعِ الصاخبِ يسخرُ مني، أُناسٌ يتراكضون فرحين، سمعتُ صياحاً يُناديني، لم أشعرُ بأيةِ رغبةٍ للاستجابة، إني إنسانٌ آخر، إنّي سبعٌ وستون.

انطفأت كلماتي، انتابني شعورٌ غريبٌ، أسرعتُ، تمتمتُ بآيةِ الكرسي، تمتمتي تطاردُ فلولَ دمعي، إستنّجدتُ بالبازِ والخضرِ، أصابتني برودةٌ تسللت من أطرافي وعمّت جسدي. غرِقتُ في بحرِ أحزاني المُزنّرِ بأرقام تطاردني، آويتُ إلى فراشي، صرختُ بعنفٍ، بكيتُ، ونماذج بشرية متداخلة تُلاحقني.

رسمتُ إبتسامتي على مرآةِ الذاكرة، فتراءت لي وردةٌ خمريةٌ تنبتُ في الدم.

***

أنور ساطع أصفري

 

هكذا الريح دوما

تتارجح بين

نبع الشك

ونبع اليقين

فيما العناكب

تحيك شباكها

بين اغصان شجيرات

الحكمة الخضراء

والامل الاخضر

والدود

والجرذ

والجراد

تحفر جحورها

في سيقان شجيرات الحب

وهكذا هكذا الريح تتارجح

بين نبع الشك

ونبع اليقين

ونبضات قلبي توقد

شموع فرحتها بين

شجيرات الحكمة الخضراء

وشجيرات اليقين .

***

سالم الياس مدالو

في بلدي جنان الأرض وحرائق نار

في بلدي هناك دومًا مكان

للخليفة والسلطان

والأمراء

وأيضًا لأشقى الفقراء

في بلدي لا الليل كأي ليل

ولا النهار مثل أي نهار

في بلدي كل تناقض تراه بعينٍ أخرى

حتى الفجيعة لها حكاية

لن تصادفها في بلدٍ من البلاد

ألسنا الأحفاد؟

أحفاد شهرزاد

التي أبت أن تموت

حتى أمسكت بزمام الوقت

وانتزعت السيف من السياف

وصارت سيدة الكلام

كلام حصد أعمارنا

جيلًا إثر جيل

حتى ملّنا

ملّ سكراتنا وأسانا

فأخذنا نضحك من مواجعنا

وبحلم يومنا رحنا نبيع نكات هزائمنا

بكل النكهات

بألوان الثورات

نكات على أنغام العود والناي

على أوتار الأنين والآهات

آهات حنين

تفضلوا يا حضرات

إلى مهرجان وطن يروي أجدد الحكايات

وأقدم الحكايات

وطن من جنةٍ ونار

***

أحمد غانم عبد الجليل

 

من نغمةِ الوجـد أشـعارٌ لها وهَـجُ

تـضوعُ فـوق شــفاهٍ وهي تـختـلجُ

*

فبادر الـشوقُ كي يُرسي قواعدَهُ

في رفع رايـتهِ الايـذانُ يـنـدرجُ1

*

فـقامَ والروعُ جـسرٌ في تواصلهِ2

مع الـقوافيْ ومـنها خـيلُـهُ تَـلِـجُ

*

تواترت وعلى إيـقاعها وتـري

ماذا أقـولُ وفي ترتـيلها حـرجُ

*

هذي الترانيمُ عُمْري حين أُنـشدُها

والخَطو بينهما الاحقاف تـعـتلجُ3

*

وا حـرّ قـلباهُ من حالٍ يُـمزقُها

بـؤسُ الحياةِ متى للحُرِ تـنفـرجُ

*

تكالبَ الـبغي في الـدنيا وزيـنهُ

عُهرُ الغُواةِ ومَنْ في نهجهم نهجوا

*

في عالمٍ زيَّـف الشيطانُ مظهرَهُ

فعامَ فوقَ غُـثاءٍ فـيه قـد مَـرجوا4

*

بـه الضلالُ وهـذا ما يُعـززهُ

غـربٌ يُـسيّرهُ الاوباشُ والهـمَجُ

*

وبـان أنّ قـوانـيـنًا يُـشرِعُـها

تجارةٌ طيّها الـتضليل قـد مزجوا

*

وقـد تَكشّـفَ أنّ الغاي مَـفـسدةٌ

والعالمَ الـحُرَّ تـدليسٌ به خرجوا5

*

لا شيء في الغربِ يأتي دونما ثمنٍ

حتّى صداقاتِهمْ غِـشًّا بـها دمـجوا

*

أمّا الحقوقُ فما تـقضي مصالحُهمْ

بـغـزّةَ اليومَ عارٌ فيه قـد عرجوا6

*

مأسـاةُ غـزّةَ لا تـبدو سـوى خـبرٍ

لا شيء يُـؤلِـمُهم فـيها فينزعجوا

*

كلُّ القوانينِ لا تـقضي إدانـتهمْ

شريعةُ الغابِ لكن فوقها نـسجوا

*

فـعالمٌ مـثل هـذا عـالمٌ سَـفُـلتْ

فـيه الـمـفاهيمُ ما يرقى به سَـمِجُ 7

*

متى أرى عـالمًا حُـرّا بلا فـتـنٍ

فـيه الـعـدالة نـور الـحقِّ يـنـبلجُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

السبت في 24 آب 2024

.....................

1- الايذان: الموافقة والسماح

2- الروع: القلب

3- الاحقاف: التلال الرملية المتعرجة

4- مرجوا: اختلط عليهم

5- الغاي: جمع غاية  والتدليس الغش

6- عرجوا: أي صعدوا

7- سَـمِجَ الشيء: صار قبيحًا 

 

يــكادُ الصقرُ أنْ يَفنَى سُعَاراً

ويــأنَفُ  جِــيفَةً عِــندَ اَلْعُقَابِ

*

وَيَــبْقَى  دَائِــمًا شَــهْمًا كَرِيمًا

يُــخَالِفُ كُــلَّ ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ

*

يَــعَافُ مَــوَائِدَ اَلْأَنْــذَالِ زُهْدًا

إِذَامَــا اَلــنَّاسُ دَفَّــتْ كَالذُُّبَابِ

*

يَـــرُومُ اَلــطَّيِّبَاتِ وَلَا يُــبَالِي

إِذا اَلْــجَنَبَاتُ شُكَّتْ بِالْحِرَابِ

*

فَمَنْ يَرْضَعْ حَلِيبَ اَلْعِزِّ طِفْلاً

يَــعِشْ حُــرًّاعَزِيزًا لَا يُحَابِي

*

وَمَــنْ لِــلْأُسْدِ دَوْمًــا كَانَ نِدًّا

مُــحَالٌ يَرْتَجِي فَضْلَ اَلْكِلَابِ

*

دَعِ اَلْأَنْــذَالَ تَــأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ

وَتَــرْفُلُ بِــالْحَرِيرِ مِنَ اَلثِّيَابِ

*

فَلَمْ  تَخْفِ اَلثِّيَابُ ذُيُولَ خِزْيٍ

وَإِنْ  أَخْــفَتْ ذُيُــولاً لِــلدَّوَابِ

*

فَــمَنْ بِالْحَيِّ يَعْرِفُ كُلَّ لِصِّ

وَعَــاهِــرَةٍ تَــخَــفَّتْ بِــالنِّقَابِ

*

سَــيَبْقَى اَلْخِزْيُ لِلْأَجْيَالِ إِرْثًا

وَلَوْ فَلَتَ الخَسِيسُ مِن اَلْعِقَابِ

***

عــبـد الناصرعـليوي الـعبيدي

 

أحياناً

يَتدفقُ عِطراً

وأريجاً يَنْضَحَهُ شِعراً!

*

أحياناً

يُبْدِعَهُ النثرُ!

*

أحياناً

تأتيهِ الحُمَّى

في شكلِ قصيدٍ أعمى!

*

أحياناً

لاتكفي قصيدةْ

لنُزُوحِ دِماءِ وَرِيدَه!

*

أحياناً

لامعنى يُفْهَمْ

إلا بغمِوض يتكلَّمْ!

*

أحياناً

من دون تَصَنُّعْ

يُبدعها وبكل تَمَتُّعْ!

*

أحياناً

يتعاطى ألَمَاً

كي يُنْضِجَ للجائعِ لُقَمَاً!

*

أحياناً

تحرمهُ الومْضَةْ

ٱلام مخاض اللفظةٔ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

لَم يبق

للقلب العربي

نبض سوى غزة

وغزة هنا،

وغزة هناك

وغزة أنا،

وغزة

اتساع الأفق الحر،

مساحة ضيقة

تكفي لضبط

شساعة الحقيقة

ومن انتحل خطابة،

وادعى مُناكِ

**

على قدر بعدكِ

هأنت قريبة،

وللعدو شبه حياة

تحت دبابته

ينتقي خوفه

في صافرات الإنذار،

واسمك جدار فاصل

بين السماء

وعري عروبة

في حانات ليلها

فمن يحفظ العذراء؟

مَن سِواكِ؟

**

وأنتِ

بقية من صمود

لن تتعب

وهل يتعب الحر

من حريته؟

يا مرآة الله

في الأرض

ماذا بعد السياج؟

إلى أين الممشى؟

وكل الطرق

تؤدي إلى غزة،

إليكِ ممشانا

وإلينا ممشاكِ

**

حُبك خطيئة

يقول الخائن العربي،

حبك ليالٍ سوداء

يقول الحاكم العربي،

حبك جريمة لم نقترفها

يقول الشارع العربي،

حبك فضيحة

يقول العالم،

حبك هزيمة

يقول العدو،

حبك منتهى

يقول الشهيد

ويهواكِ.

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: تعرفني هذي الأرض الخافتة

 

ليسَ في وطَني حِدأةٌ تُغنّي، اللصوصُ الأوفياء، لدينِ السَرِقة، جعَلوها تَجوع، في بَلدِ الفِئران.

2

أخفى خَلفَ عَينَيه، سِرّهُ المُقدّس، بينَ جَفنَيه، في كلّ رَمشَة، يَقطُرُ الوَرَع، واختلاسُ النَظر، الى غَنيمةٍ عَمياء.

3

أُصِبتُ بعَمى الأشكال، رأسُ شاة، بجِسمِ ضَبع، جميعُ ثيرانِ الوطَن بلا قرون، عدا الحَمير.

4

ما الذي رأَيتَ، لمّا نَظَرتَ خلفَ كتِفِك، أشياؤُكَ الجَميلةُ لن تَلحَقَ بك، فادّخرْ شَهقاتِكَ، لمَوسمٍ آخر.

5

ذهَبتَ بَعيداً، لم تَحسبْ من قَبل، خُطواتِكَ بعدَ الأفُق، فصِرتَ في المَغيب، تَحسدُ الشُروق.

6

أسلحَتي الكثيرة، لمّا أُرغَمُ على استِخدامِها، في رمَقي الأخير، تقتُلنُي.

7

حينَ انكَفَأتَ على وجهِك، على طريقٍ مُستَوية، كانَ لعَينيكَ رأيٌ آخر، أفصَحَتْ عنهُ، لغيرِك.

8

تَمنّيتُ لو أنّ الحُبَّ أرحَبَ مما كان، لم يَحتملْ كلّ انفِراجي فيه، فانفَجَر.

9

ما كُتبَ عليكَ أيّها الجَبين، لم يتركْ فيكَ موضِعاً صَغيراً، يدومُ ابتهاجي فيه، كقِصّةٍ تُروى.

10

لا تَسَلني عن احمرارِ عَينَيّ، ذلكَ أدنى النَزف، من قلبٍ، يَسحَلُ الخَفَقان.

11

ما تراهُ من رَعشةِ يدي، ليسَ إلّا انتقاماً، من أفكارٍ، رسَوتُ بها، على شاطئٍ، ليسَ لي.

12

أحسدُ الصَقر، ليسَ مثلي، لا أحدَ يَسرقُ منهُ الفرائس، بحيلةٍ صَغيرة، وينجو.

13

لم أحرقْ جَميعَ السفُن، خلفي، فقد عبرتُ على خشَبَة، ضلّت المسار.

14

أغمَضَ عينيه، أطفأ الشَمس، يخشى أشباحَ اليقَظَة، أشباحُ الظَلام، بلا أجنحَةٍ، أو أسنان.

15

حينَ قَرَعَتْ أجراسُ الكنائس، موسيقى بيتهوفن، سَمعتُ عَزْفَ العودِ في المآذِن، هذا ما قلتُهُ، تحتَ التعذيب، بتهمةِ الفَرَح.

عادل الحنظل

تَعكِسُ الحكايا

حكايَةَ طفلٍ

هامَ في ملاعبِ الشَّكوى

وسَقَطَ

مُعَفَّراً بِبعضِ أحلامهِ

التي انْدَثَرَتْ

قبلَ أن يَبلغَ الفطاما

وشابٍ

نَسيَ نَفْسَهُ

على مُفتَرقِ اللهفَةِ

لِصَبيَّةٍ

نامَ الحبقُ على يَديها

يوماً

واسْتَفاقَ

على جرحٍ  إيلاما

حكايةَ رجلٍ

باعَ عمرَهُ

على نَوافذِ الصَّبرِ

يُحَطِّبُ أضلاعهُ

ليَشتري

لسيدَةِ الوقتِ

تفاصيلَ مزيفةً

وضِحْكَةً يابسةً

وبعضَ المَرايا ..

***

سلام البهية السماوي

 

حُلُمٌ طارَ  وحِيداً

حُلُمٌ نامَ طويلاً في عُيُونِكْ

دونَ أنْ يُوقِظَهُ بَوْحُ رمُوشِكْ

مرّتِ الأيّام تعدو،

وَهْوَ قابِعْ

بَيْنَ طَيّاتِ جُفُونِكْ

لا يُبالي بِمَواجِعْ

يَحْفُرُ المعنى عمِيقاً

عَلَهُ يُصْبِحُ واقعْ

*

عِنْدَما أضْناهُ طُولُ الإنتظارْ

فرّ  مِنْ عينيكِ مَذْعُوراً

وطارْ ......

وهو  يَشْدُو

هَلْ يصيرُ الحُلْمُ واقعْ

أَمْ يظلُّ الحُلْمُ ضائعْ؟

***

رَمْلٌ أسْوَد

عِنْدَما خَلْخَلَتِ الأرضَ زلازلْ

وَ بِنا اِهْتَزَتْ دُرُوبٌ ومنازلْ

فَجْأةً تاهتْ خُطانا

فوجدْناها تَسِيرْ

بدروبٍ لَمْ نَجِدْ فيها سِوانا

فَمَشِيْنا..

وَ مَشِيْنا..

ذاتَ فجرٍ فاجَأتْنا

إنّها قَدْ وَضَعَتْنا

وسطَ صحراءَ كئيبةْ

لا نرى أُفْقاً لَها

*

صارَ  لونُ الرّملِ أسْوَدْ

صارَتِ الصّحراءُ تَمْتَدُّ، و تَمْتَدّْ

لَمْ نَعُدْ نُبْصِرُ  ما كُنّا نراهْ

قيلَ أنْ ندخُلَ في هذا المتاهْ

كلُّ ما كانَ لديْنا قَدْ تبدّدْ

وكِلانا

لَمْ نَعُدْ نَعْرِفُ ماذا قَدْ دَهَانا

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

إلى الأديب رحمن خضير عباس، الكاتب العراقي الذي حمل في قلبه وطنًا جريحًا، وسار في دروب الغربة حاملًا ذكريات العراق والأمل بالحياة. إليك، أيها الحالم الذي لم تخنقك القيود، ولم يُطفئ غربتك ضوء الروح. قصتك التي نُسجت من شظايا الألم والحنين تعكس قسوة الرحيل ولطف الحنين. من العراق إلى سوريا وليبيا والجزائر، إلى دفء المغرب وبرد كندا، عشت تجربة عابرة للحدود، تحمل فيها معك حب وطن لم يعد موجودًا إلا في قلبك. لك، أيها العابر بين الأوطان، الذي نسج خيوط الحكمة من الألم وجعل من كل مدينة محطة للتأمل والتعلم، أهدي هذه القصة كتحية لروحك الشامخة، ولرحلتك التي تستمر في إلهام الكثيرين.

***

الهروب إلى اللامكان

قصة قصيرة

جلس رحيم على ضفاف المحيط، يراقب الأمواج المتلاطمة كأنها أحلام تتكسر على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في حركتها المتواصلة والمتغيرة، تشبه حياته الهاربة من وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى قفص حديدي، يلتهم كل روح تحلم بالحرية. هرب رحيم من ذلك القفص، باحثًا عن السلام في بلاد أخرى، لكنه لم يكن يعلم أن العالم كله قد بات قفصًا أكبر، تغمره الغربة ويطغى عليه الحنين. سافر إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، ظنًا منه أنه سيجد فيها نجمة الأمان تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، لكنه سرعان ما اكتشف أن الحلم لم يكن سوى سراب، وسوريا امتداد لصحراء حياته، حيث كان الكابوس يرافقه في كل خطوة. تركها وراءه واتجه إلى ليبيا، آملاً أن يجد استقرارًا يحذف من ذاكرته تمائم الخرافة. غير أنه وجد ليبيا معسكرًا ضخمًا محاطًا بالجدران والأسوار العالية، حيث الأوهام تحاصر كل زاوية والشواطئ بدت كالصحراء، صامتة، تجسد عزلته الداخلية. وفي المغرب، جلس رحيم على حافة المحيط، وسط تيه الأقاصي، محاطًا بعالم يتغير من حوله، لكنه يظل ثابتًا كشرارة في بلاد الحطب، تنطفئ لتشرق من جديد. كان الوطن قد خنق صوته منذ سنوات، لكن ذكراه لم تبرح قلبه، كدمعة الأرض التي كلما أمطرت نشرت الصحو في مدائن الغضب. والآن، وهو مثقل بذاكرته التي تضيء ثم تنطفئ في مدارات روحه، يراقب العالم يغرق في صمت مطبق، غريبًا في أرض لا تعرف سوى التيه.

جلس رحيم على ضفاف المحيط، متأملاً الأمواج المتلاطمة أمامه، كأنها قطع من أحلامه التي تحطمت على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في انكساراتها المتكررة، تُذكّره بحياته المتغيرة، التي قضى معظمها هاربًا من قفص كبير، وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى سجن من الحديد، يلتهم الأرواح الحالمة بالحرية. كأنه يترك وجهه المحترق تحت مداس الوقت، محاولاً الخروج من غمد اسمه المستعار، لعبور هذا الموت الرمزي الذي يطارد روحه. ترك العراق وراءه، بحثًا عن السلام في مكان آخر، لكن العالم بأسره كان قفصًا أكبر، تمتد قضبانه في كل اتجاه، يلفه الغربة ويغمره الحنين. سافر رحيم إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، باحثًا عن الأمان والحرية. كانت سوريا في مخيلته كنجمة بعيدة تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، حلم مضيء وسط ظلمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سراب. كأنه يراقص طرائد الوجع على إيقاع الكوابيس، كانت سوريا امتدادًا لصحراء حياته، حيث كانت كل خطوة فيها تحمل معها عبء الكوابيس الماضية. ثم انتقل بعدها إلى ليبيا، ظانًا أنها ستكون واحة هدوء في صحراء التيه، لكنها لم تكن سوى معسكر ضخم تحيطه الأسوار العالية، غارقة في عزلة موحشة. كانت الشواطئ هناك كالصحراء القاحلة، صامتة، تفتقد الحياة، كأنها لوحة فارغة تعكس الصمت والوحدة التي اجتاحت كل زاوية من روحه. وكأن العالم مجذوب بالهذيان، بينما رحيم يركض خلف خطاه المتعثرة، محاولًا أن يحلق في رؤى قلبه الممزق. كان هو الخيال الضاحك التعيس، والانتظار يلتهم أنفاسه بين أنيابه. في وسط هذه الرحلة، كان هو ضوء الخرافة، بينما قنديله المتمثل في تجاعيد الوداع لا يتخطى مداه، يظل عالقًا بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يغمره صمت الكون العميق.

الجزائر كانت محطته الثالثة، ولكن حتى هناك لم يجد ما يبحث عنه. المدن بدت وكأنها غارقة في نوم عميق، صمت طويل يخيم على أرواح الناس، وكأنها طوت نفسها في سباتٍ أبدي. كانت أرواحهم مغتربة، وقلوبهم موصدة أمام نسائم الحرية، وكأن الاستعمار قد رحل بجنوده، لكنه ترك خلفه ظله الثقيل، يُرزَح به على أكتاف الناس كعبء لا يُحتمل. وكأن المدن نُسجت من ثوب عقلٍ ملطخ بالسكون، غارقة في رتابة الأيام، فيما العصافير جفاها الوسن وتبدد غناؤها في مفترقات الحزن. وفي نهاية الرحلة، وقف رحيم على أعتاب المغرب، حيث لم تكن وجدة مجرد مدينة أخرى في مسار هروبه، بل كانت نقطة تحول في حياته. هناك، التقى بابتسامة شرطي مغربي على الحدود، وكأن تلك الابتسامة كانت أشرعة الإبحار نحو عالم جديد، عالم لم يعهده من قبل، لكنه أحس فيه بألفة غريبة، كأنه عاد إلى حضنٍ كان يفتقده طيلة العجاف من عمره المسكين. في تلك اللحظة، استشعر رحيم أنه يبتعد عن فحيح الوقت وصدى الريح، يقترب من نقطة سكون جديدة. استقر رحيم في المغرب، وبنى هناك حياة جديدة، لكنها لم تكن مجرد حياة عابرة؛ كان ينسج من خيوط الأيام وشاحًا من الصداقات، يجتمع فيه مع آخرين هاربين من أوطانهم، تمامًا كما هرب هو، كأنهم كلهم قد أغتسلوا برائحة الصمت، وأخذوا يتلمسون وجوههم الموغلة في الحزن، يبحثون عن دفء في مدائن الغروب.

المغرب جمعهم كأنهم فلاسفة يلتقون في مقهى ليخططوا لعالم جديد، عالم ينشد فيه الإنسان الحرية ويتنفس دون قيود. ورغم بناء حياته الجديدة، ظل العراق محفورًا في قلب رحيم، كجبل شامخ يطل من بعيد على أيامه الجديدة، لكنه كان جبلًا غارقًا في الضباب، بعيدًا، مستحيلاً العودة إليه. وعندما جاءه خبر إعدام صدام حسين، كانت دموعه تتساقط كأمطار حزينة على أرض جرداء. لم يكن يبكي على صدام، بل كان يبكي على العراق، على وطن أُعدم معه في تلك اللحظة. في كل مرة يعود فيها رحيم إلى المغرب، كان الأمر أشبه بفتح نافذة تطل على ماضٍ ضائع، يتجول في شوارع وجدة ومراكش وتارودانت وكأنه يستكشفها لأول مرة. تلك المدن كانت تحتفظ بذكرياتها كلوحات زيتية معلقة على جدران الزمن، تعيش في ذاكرته، تمامًا كما ظل العراق يعيش في قلبه. لكنه كان عراقًا منسيًا، موجودًا فقط في الأحلام، بعيدًا عن متناول الواقع.

استقر رحيم في كندا في نهاية المطاف، ولكن حتى في تلك البلاد الشاسعة لم يجد دفء الشوق الذي اعتنقته أنامله في المغرب. كانت كندا بالنسبة له قفصًا آخر، قفصًا من جليد لا يذوب، بارد وقاسٍ، كأنه يحفر في تقاسيم روحه مداه، يغمره الصقيع الذي امتد ليعانق كل زوايا قلبه. في تلك البلاد البعيدة، حيث الصمت يبتلع الأصوات، والثلج يغطي كل ذكرى، كان رحيم كمن يطوف بصمت في جنائن رعشته، يسأل نفسه: "إلام نطوف بصمتٍ جنائن رعشتنا؟". ومع كل ذلك، كان يعود إلى المغرب من حين لآخر، وكأن تلك العودة تحمل رائحة ماضيه الدافئة، أو كأنها شرفة يطل منها على حياته التي لم تكتمل. يجلس على تلك الشرفة، حيث كل أمس مضى كان يضج بهمسات الشجون، يعيد تشكيل الصور التي بُنيت في خياله، لكنه لم يستطع يومًا أن يكتمل. كان الزمن يتسرب من بين يديه كالرمال، كأنه يحاول أن يضمّ نبضات قلبه المتشظية في سواقي الجنون. "ربما سأعود إلى العراق يومًا ما"، فكر في نفسه، لكن صوته كان خافتًا كصدى بعيد، يعلم في أعماقه أن العراق الذي عرفه لم يعد كما كان. اختفى العراق مثل النجوم التي تخفت خلف غيوم الزمن، ابتلعه النسيان كما يبتلع غبار الأحلام فوق صحراء لا نهاية لها.

***

زكية خيرهم - النروج

 

أناالآن في غرفة قاتمة.. صامتة، أمعن النظر في الظلام، أحاول استدراجه ليبادلني الحوار؛ عله يخفف شيئا مما بي، أو يجد معي حلا، لكل التساؤلات التي أثقلت رأسي، منذ نعومتي.أتقلب على أشواك التفاصيل الدقيقة، عابرا دهاليز تنفتح على أنفاق..  أضيع فيها كلما حاولت تحديد وجهتي وانتمائي.

أجاهد ذاكرتي.. منذ متى وأنا هنا. ربما مذ فتحت عيني على هذا العالم المترامي في قسوته،الشرس في احتوائه،الظالم في أحكامه.

لم أشعر يوما بانتماء حقيقي إليه، ولا شعرت بأن هناك ما يربطني به..

منذ متى وأنا هنا. منذ تلك الفجيعة؟لا بل قبلها حين كنت نطفة في رحم أعياه الانتفاض؛ كي يلفظني،لكن الأقدار شاءت أن أستمر وأنمو؛لأصيرنطفة.. فعلقة، فجنينا،ففضيحة

.كانت غربتي كبيرة، مذ خرجت إلى هذا العالم.

أذكر أني كنت أستجدي الرحمة والرأفة والحنان، بأنين وصرخات متتالية؛ كي ألقى شيئا من الاهتمام،وأستمد بعضا من القوة..  جرعة حليب كانت تكفي، كي أغلق فمي، أنزوي كأي شيء لا حاجة للآخرين به، وبوجوده.مرت الأيام متشابهة، بعد رحيل البطن التي حملت كتلة الحزن، التي حلت؛ كي تزيد من كآبة وعبوس الكون.

أتنقل من يد إلى يد: منها التي تحنو، ومنها التي كانت تزجرني؛ كأنما تحملني ذنب مجيئي، إلى هذا العالم، وأنا ضيف غير مرغوب به.. كان بكائي موالا لا ينتهي؛ مما جعل حتى القلوب الرؤوفة تمل وجودي، وتفكر في التخلص مني، وهي تصرخ: اسكت.. اخرس ايها اللقيط—يا ولد الحرام --.لقب سمعته مذ وعيت الحياة، لكني لم أستوعب معناه، إلا بعد ما بلغ الجرح مداه،وأنا بين أحضان امرأة، كانت تقول أنها خالتي.

حضرت سيدة سمينة، أنيقة، متبرجة، بنظارات كبيرة سوداء. دار بينها وبين الخالة حوار طويل، في النهاية قالت الخالة:هذه أمك الجديدة.. يجب أن تذهب معها.

أخبروني من قبل،حين كنت أبحث عنها بدموعي، أن أمي سافرت بعدما وضعتني، في رحلة طويلة الى الله،ولن تعود:كيف عادت..؟

هل كانت معتقلة، ثم أطلقت السماء سراحها؛ لتحررني أيضا من براثن القسوة؟رغم صغري إلا أني فهمت شيئا، من حوار العيون الذي دار في حضرتي. القسوة تجعلك تكبر بسرعة؛ لتنفذ الأوامر قبل أن تعاقب. أدركت أنه علي أن أرحل من هنا، مع هذه السيدة الغريبة، التي كانت توزع الابتسامات، في كل الجهات.تمنيت من كل أعماقي أن تكون أمي؛ علها تغذي، ولو قليلا من الجوع المزمن بأعماقي، للحب والحنان.

لكني لم أرتح لنظراتها، وابتساماتها..  وحركاتها.ركبت السيارة إلى جانبها. كانت تنظر إليّ وتبتسم. شعرت للحظات بالأمان والطمانينة. لم أرفع بصري عنها.كنت أود لو اعتقلت تلك النظرات والابتسامات؛ كي لا يفارقني الشعورالجميل الذي انتابني تلك اللحظة.

وصلنا البيت الكبير، المحاط بحديقة جميلة. لحظات من الفرحة النادرة،حلقت فيها الابتسامات عاليا؛ حين أخذتني السيدة زينب بين أحضانها، تداعب الحزن الذي نما بداخلي.كنت أسترجع ملامح الأطفال، شغبهم، دلعهم؛ كما بدأت أتخلص من الصمت والانزواء، وسط اللعب،التي حركت فيّ حب الحياة، وحب الاستطلاع.كبرتُ، كبرتْ اللعب، شاخت، فقدت جمالها، تقلصت الابتسامة؛حين ذكرتني السيدة زينب، التي رفضت منذ البداية أن أناديها ماما، وانتهت إلى زجري وضربي، على أي تصرف يصدر عني. استرجعت لقبي: اللقيط.. الغبي المنبوذ.استعاد الخوف مكانه بين ضلوعي، استوطن الرعب أرجائي. عدت أبحث في الظلمات عن صديقي القديم، نديمي الذي كان دائما يجالسني ويحاورني، عدت إلى الصمت والانزواء،في الركن البعيد، من الصالةالفخمة، كان مكاني، في انتظار الأوامر التي لا تنتهي؛ لأن البيت لا يخلولليلة من الضيوف، الذين يحضرون للعب القمار، والشرب، وتعاطي كل ألوان الرذيلة.بلغت العاشرة من عمري، تعرفت على كل الزوار والضيوف، كما خبرت الطريق؛لاقتناء كل ما تحتاجه السيدة، من أكل، وشرب، وخمر، وحشيش.. و.. و.. ، كما كنت ألهث، لنداء من تأخرت عن الموعد؛ لأن هناك من ينتظرها.فكرت مرارًا في الهروب؛

كي أنأى عن هذه الوساخة، لكن بدا أني نتاجها،لذلك صعب علي التخلص منها، كما صعب تلمس طريق العودة إلى خالتي، التي رمتني بكل بساطة، كأي شيء انتهت صلاحيته.

استخدمتني السيدة شغالا، وطباخا، بستانيا،وقوادا، ولمّا أتجاوز الرابعة عشر من عمري.لم ألج روضا ولا حضانة ولا مدرسة، ولا تلقيت تربية غير ما شربتني السيدة زينب من ذل وهوان؛ سيتناسل ويتكاثر مع الأيام.كنت كلما جن الليل، وأطبقت الغربة أتساءل: أين أمي..؟

أين أبي؟

أين أهلي؟

وتبقى الأسئلة دائما معلقة بلا جواب.

لم أستشعر يوما رابطا نحو إنسان أو مكان. كل الوجوه والملامح، كانت ترمقني بنفس النظرة.. وأنا صغير: كانت شفقة. حين كبرت صارت: اشمئزازا.ما ذنبي؟ أنا لم أختر أمي ولا أبي، ولا حددت تاريخ وصولي إلى هذا العالم، ولا رافقت السيدة زينب باختياري !كنت تجاوزت الخامسة عشرة من عمري، حين حضر رجل غريب إلى الدار. لم أره من قبل. استقبله الجميع بالبشاشة والترحاب الكبيرين، خصوصا السيدة،التي كانت فرحة زيادة عما تعودت منها. جلس الرجل، أطلق نجم الجهل والخوف والغموض حوله..  بعدما أكل وشرب، نادتني السيدة مبتسمة على غيرعادتها، وهي تتغنج:اسمع يا خالد هذا الرجل مهم جدا، وكبير جدا، وكريم جدا،يمكن أن يسهل لنا أمورا كثيرة، ويغدقنا بالهدايا إن نحن أرضيناه. لم أفهم كلامها

وتلميحاتها.دنت مني أكثر، ضمتني إليها،وهي تنقر أذني:اسمع يا ابني يا خالد، أريدك أن تستحم، وتغير ثيابك؛ لتكون أبهى من القمر !مازلت لم أفهم شيئا. عادة كان اهتمامها بالفتيات اللواتي تصطادهن من المدينة، ومن المناسبات كالأعراس والحفلات،تستدرجهن إلى البيت، تغريهن ببعض الملابس والحلي المزيفة؛ فيرقص الفقروالحرمان فرحا، وهو لايدري أنه في طريقه إلى مذبحة الكرامة والكبرياء وعزةالنفس.رفعت عينيّ نحوها في دهشة واستغراب.أدركتْ أني لم أفهم بعدُ مرادها، فحّتْ بكل وقاحة:هو يريدك أنت، وسيدفع لك قدر ما تريد وتطلب، وكلما احتجت شيئا، سيلبي، المهم أن ترضيه.لذعتني حرارة غريبة سرت في أوصالي، نار تتسلقني، دمي يختنق في عروقي. تصبب العرق من كلي.انسحبت من أمامها، وأنا لا أصدق ما سمعت.أكانت تتكلم بجدية..؟

أكانت تقصد فعلا، ما فهمت بعد عناء طويل؟انزويت في غرفة صغيرة حقيرة بالحديقة؛ حيث البقايا، وأنا سواء. لم تترك لي فرصة استجماع ما تبعثرمني، ولا التقاط أنفاسي، بلها لحقت بي، وهي تلوح بالنقود، بحنكة قوادة:خذ ياخالد. كل هذا لك. وإن أرضيته؛ سيعطيك أكثر وأكثر.كنت دائما أرى شابا واثنين بين الضيوف، لكني لم أفهم يوما، أن هذا كان المبتغى من وجودهم، لم تكن أعمارهم تتجاوز السادسة عشر، وكنت أظن، أنهم حين يختلون بالرجال في غرفهم، إنما كان من أجل خدمتهم، إحضار ما يحتاجون من طعام، وصب ما يطلبون من خمر.اليوم فقط فهمت. اليوم فقط كرهت العالم، بقدر ما كرهني.. حقدت على البشر، بقدر ما اشمأزوا مني.

واليوم فقط قررت أن أختار دربي، لوحدي، ودون أن أستشير أحدا، أو يتدخل في اختياري.صرخة منها أعادتني إلى مكاني:

ماذا تنتظر يا خالد.. أرى أنك لم تستعد بعد؟لا أعرف ماذا دهاني، كأن شخصا آخر تلبسني.أهمهم:حاضر..  سأجهز في الحال، سأفعل كل ما يريد ويطلب، سأجعله يعشقك، ويعشق الدار، ولن يبرحها أبدا.

نظرت إليّ باندهاش؛ فلم يسبق أن كلمتها بهذه اللهجة.

خيم الليل: موسيقى..  رقص..  غناء..  خمر.. و.. و..

هم الرجل بالوقوف..  أومأت لي بعينيها؛ كي أرافقه.

ابتسمت لها، اتجهت نحو المطبخ، حملت بعض الفاكهة وقنينة ماء، دخلت الغرفة..  كان الضيف هناك، راح يتحرش بي،وأنا أصب له الكاس تلوالأخرى، تمدد على السرير، ويداه تطلبني. لم يخجل من طفولتي، ولا من شيبه، ولا من أولاده الذين كان قبل قليل يتباهى بنجاحهم.

صببت كأسا أخرى، وهو يستدعيني بيديه وعينيه وشفتيه. شعرت بشيء يصعد إلى رأسي، أخرجت السكين من سروالي،طعنته في بطنه.. في صدره.. في كل جزءمن جسده. لم يصرخ..  كانت فقط أنات وآهات، لم تبلغ البهو الكبير.طعنته مرات أخرى، كنت أريد أن أقتص للطفولة التي اغتصبها الزمان، وهذاالوحش، وكل أمثاله.ناديت بتماسك أحسد عليه: سيدتي.. سيدتي.. لا أدري مابه.هرعت إليه.. ما إن دخلت الغرفة، حتى انهالتْ عليها الطعنات،بنفس القوة

والشراسة.. فقد كنت قوي البنية.. والقهر علمني كيف ادافع عننفسي.. تهالكت على الأرض، أحاصر بنظراتي الجثتين، والدماء التي لونت السجاد.أخرجت النقود التي سلمتني، رميتها على وجهها الذي لم يشعرني يوما بالطمانينة، ولا الأمان ولا الإنسانية.تناولت الهاتف من جيبها، اتصلت بالشرطة.

أنا اليوم بين أربعة جدران، بين رفاق الحزن والغربة والألم، في بيت يطلقون عليه: إعادة التاهيل.. أو دار الإصلاح.. أعمارنا لاتتجاوز الثامنة عشر،على جبين كل واحد منا قصة، كتبها القدر عند الولادة، أو ربما قبلا.. ها نحن نحاول التكيّف مع القسوة، علّنا نستطيع يوما الاندماج في الغابة !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أَو :

" اللهْ وياك عبّوسي "

***

أُناااااااااديكَ " عبوسي "

وأَعْني : حمودي الحارثي

أُناااااااااديكَ من آخر العالمِ

يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااهْ

كمْ هيَ الحياةُ قاسية

وآااااااااااااااااااااااااااااااااااااهْ

كمْ هي الأَقدارُ فاجعة

حيثُ أَنَّ جسدَكَ النحيلَ

سيُصبحُ قبراً في منفى

ونورُ روحِكَ المَرِحَة

سيكونُ سراجاً في بغداد

حتى يضيءَ بلادَ الرافدينْ

وقلوبَ الناسِ المقهورينْ

فيُلوّحونَ لكَ حيثُ لا مسافاتٌ

ولا " حجي راضي ولا أَبو ضويَّه

ولا منتهى محمد رحيم "

حبيبتُكَ وصديقتُكَ النقيّة ،

وطفلتُكَ التي تأبى أَنْ تكبر ،

حتى حينَ غادرتكَ وحيدةً

إلى هنااااااااااااااااااااااااااكْ

وأَعْني : إلى فردوسِ الأَبديةْ

***

بعيونٍ نازفةٍ

وقلوبٍ راعفةٍ

رأَيتُ أَصدقاءَكَ الطيّبينْ

وكلَّ مُحبّيكَ النبلاءِ

يهمسونَ ويُرتِّلونَ

حزانى ومقهورينَ

في موكبِ توديعِكَ

ورحيلِكَ الحزينْ :

" " الله وياك عبوسي

الله

وياك

ع

ب

و

س

ي "

***

سعد جاسم

2024-8-20

 

في نصوص اليوم