نصوص أدبية

نصوص أدبية

القسم (3) من: الخط المحروق

لم يبق من اليوم الأخير على وجودهم في مطار (س) إلا ساعات قلائل، تهيأ الجميع للتسفير بمشاعر ينتابها الخوف، والخيبة، والخذلان، أصبح صاحب المعطف أكثر قلقا من ذي قبل.

تعالت لغة الاستنكار عند نقطة ما، لتختلط مع تناقضات عالم يسوده الضجيج، تساقطت عند نقطة بعيدة من المشهد بعض سيقان شجرة ميتة، راح يقلب في عقله ما توحي به هذه الفكرة، تواصل مع نفسه مرددا : هكذا هي حقيقة الإنسان، فهو سرعان ما يجف عوده، وينكسر بسبب ما يتعرض له من ويلات.

توقف عند تواريخ بعض الأصدقاء، راح يستعرض أقدارهم- شخصيات مات البعض منها، وسافر البعض، وسجن الآخر، بينما بقي من تبقى بعيدا، لينجو بنفسه ولو بعد حين.

راح يردد أصداء أغنية سمعها من قبل، لتبقى دموعها حبيسة في مشاعره، تسارعت ضربات قلبه مع ذكريات مدينته الجنوبية، انبسطت أمام بصيرته صورة أمه التي كانت تودعه عند الباب إبان الحرب مع إيران، وهي تقذف إناء الماء خلفه مرددة (يمة مودع بالله، وبمحمد، وعلي)،اخذه الحنين إلى البيوت الطينية الكائنة خلف محطات القطار، حين كان يستمتع بصوت دويه الممتزج مع الصفير.

استبد به النفور، غدا يحدو به صوب بقعة من السماء تساقطت نجوم ليلها عند منعطف يكاد أن يدنو من دَهاليزِ عالم مظلم، أذعن لما يجول بخاطره، صار يقول جازما: العودة إلى (ق) تعني أنه سيموت سجينا، أو سيتم تسفيره إلى بلده، وسيتعرض هو وعائلته إلى تحقيقات الاجهزة الامنية، فهو وزوجته التي تركت وظيفتها بسببه أصبحا ضمن قائمة المطلوبين منذ زمن سنوات، أي قبل عودة العلاقات الدبلوماسية مع البلد (ق).

لم يكن يشغله من الأمر ما سيحل به، كل ما يهمه أنه صار أكثر خشية على مصير زوجته، وأولاده الصغار الذين ربما يودعون السجن، وينتهي مستقبلهم بالضياع،

أمسى يراجع أحواله في وطنه الذي على أرضه، وبه تسلب كرامة الانسان، وعلى تربته تسود لغة الطغاة، وفيه تسقط حقوق المواطنة، ارتسمت الصور مثل شريط سينمائي توالت السيناريوهات؛ تذكر صور الجيش عندما استولى على المدن الجنوبية إبان ما أطلقوا عليه بالغوغاء، حيث انتشار ألوية الحرس الجمهوري وصور المقابر الجماعية،

أخذت الأفكار تنهش كل كيانه، تنخر ما تبقى به من طاقة، تمنى لو يموت، وينتهي به الأمر، اشتد به النعاس، والجوع، والفزع، لم يعد يثير اهتمامه من رحلة الطيران إلا أمنية بائسة كتمها في أعماقه، عسى أن يتحرر من تابوت الهم الذي استحوذ على كل كيانه، نظر بحذر إلى الرجل الذي حقق معهم، والذي كان مرافقا لهم طوال الرحلة، ليعود بهم مكبلين بقبضة قيود العودة.

لم تكن تلك القيود على نمط الكلبشات التي يستخدمها رجل البوليس لتقييد اليدين، إنما هي قيود سلب الروح وتخويفها، لتُشعِرَ هذا الكائن بالذنب، وليبقى هكذا- مُستَفَزا، وملاحقا بفتح الحاء، ونادما، وضعيفا لا حول ولا قوة له إلا السبيل إلى إرادة متزعزعة، وكيان خائر- هنا عندما يسلب الكبرياء، وتجلد إنسانية الإنسان، يصبح الموت وسيلة للنجاة، ومفردة من مفردات الأمل، أما الألم فيتلاشى تماما، يضمحل مع خفقان آخر نبض من أوردة هذا الكيان الذي كان ممتلئا بالحياة،

لم يبق للوصول إلى (ق) إلا ساعتين، لولا تحقق ما كان يتمناه صاحب المعطف الازرق، وجماعته خاصة السيدة التي كانت معهم، حيث أعلن طاقم الطائرة عن وجود إعصار تسبب في فقدان السيطرة عند ضواحي جزيرة قريبة إلى (ق)، وبسبب هذه الأمر الطارئ هبطت الطائرة اضطراريا.

كان الأصدقاء  يتمنون لو تسمح تلك الفرصة لهم للإفلات، ولكن الأمر لم يكن سهلا، لذلك أذعنوا لمصيرهم البائس، حتى إقلاع الطائرة، لتهبط بعد شوط قصير عند أول نقطة للانطلاق.

اتصل رجل المخابرات الذي جاء مع المجموعة بصفة مأمور، بقسم الهجرة، والتسفيرات الخاصة بمطار (ق)، وهنالك في صبيحة ذلك اليوم، أحست المجموعة أنها أضحت مثل دمى بشرية لا طاقة لها للحركة، استقبلهم أحد رجال التسفيرات وهو من قسم الشرطة، وبطريقة ماكرة أخذ يبتزهم طمعا بالمزيد من المال، بحجة مساعدتهم، لكن الأمر ليس كذلك، حيث اتضح أن هذا الذي ابتزهم كان قاسيا، ومخادعا وهو نفسه الذي وضع الكلبشات في أيديهم في الغرفة التي تم إيداعهم بها في قسم الهجرة عند استقبالهم قائلا لهم: (ما وراكم إلا وجع الراس). حيث أوقفهم، وأولهم صاحب المعطف الأزرق، وساقهم بعدها، وأمام مرأى المراجعين الذين كانوا ينتظرون تكملة معاملات سفرهم في الدائرة الضيقة الموحشة التي يطلق عليها دائرة الهجرة، والتسفيرات إلى السجن وهو عبارة عن قبو لا تدخله الشمس إلا من مربع يطل على مساحة بعيدة من المدخل، أما النساء فقد تم عزلهن في المطار، على أمل الإفراج عنهن، بواسطة زوج السيدة التي سافرت بعهدة صاحب المعطف الأزرق، وهو صاحب مكانة ونفوذ في دولة (ق).

***

عقيل العبود

..................

* ماذا حدث في السجن، وبعد السجن؟ هذا ما سيأتي في الحلقة الرابعة.

وقصص أخرى قصيرة جدّا

حصاد الشّوك

- من أنت؟

- حُقَّ لك أن تنسى ضحاياك فهم كُثْرٌ!

- ماذا تريد؟

- إيّاك.. ارفع يديك واخرج من وراء المكتب.

- أبعِد سلاحك. إنّي أحذّرك!

- ما زلتَ متعجرفا كما عرفتك.

- أرجوك!

- مرّت عشر سنوات كاملة وأنا أحلم بأن تقتصّ لي منك العدالة. لكن يبدو أنّ هذا مجرّد وهم..

- أقبّل قدميك! لا تفعلها. أرجوك!

***

الحضيض

تألّقت عيناه بالظّفر وهو يقرأ ذلك الخبر على أحد جداران الفيسبوك.

"جدّ هذا اليوم حادثٌ مرير أودى بحياة عائلة بأكملها.."

وكالعادة عجّ الفضاء الأزرق بصور الضّحايا قبل أن يُفضوا إلى ربّهم...

كوّن رقما:

"ألو.. هل سمعت بِ.. علينا اغتنام الفرصة.. اطمئن البيت خال تماما.."

***

نجاساكى

امرأة غريبة في كلّ شيء.. نظرات جامدة وسحنة طَبْشوريَّة اللّون..

"هل أنا جميلة؟"

تتلعثم الطّفلة مستعيدة حكاية ما.. "نعم"

وتنزع اللّثام فتبدو بشاعتها أكثر وضوحا بفمها المشقوق أفقيّا..

"والآن كيف ترينني؟"

تزداد الطّفلة رعبا.. "جَ. جَ. جميلة!"

تتألّق عيناها فرحا…

"إذن سأشقّ فمك لتكوني جميلة مثلي!"

***

غرفة سريّة

كلّ شيء على غير عادته.. الظّلام حالك يُخرج المرء يده فلا يراها.. كان وحيدا وسط هذا السّواد المترامي والرّعب يعتصر أنفاسه.. رأى ضوءًا ضئيلا من بعيد فركض غربا، وعندما بلغه كان يتدلّى من يد بلا جسم.. ركض شرقا.. ضوء آخر يشعّ من بعيد. هذه المرّة تحمله امرأة فاتنة. حدّق فيها، كانت بلا نصفها الأسفل..

صرخ..

من الغرفة الأخرى جاءته أمّه على عجل..

"حبيبي ما بك؟"

***

حسن سالمي

حين أخبرها أبوها أن حمزة ابن صديقه الوزير معجب بها ويطلب يدها حركت كتفيها في استخفاف وعلى وجهها رسمت ضحكة سخرية وكأن الأمر لا يعنيها..

ـ ما بك كوثر ماالذي لايعجبك في حمزة؟ شاب وسيم درس في كندا وعاد بشواهد عليا وينتظره مستقبل زاهر..

بسمة استهزاء رمتها في وجه أبيها وقالت قبل أن تستدير لغرفتها:

أن يعجبني أو لا يعجبني فهذا ذوق وحرية شخصية،أما بالنسبة لي فأنا أكرهه كما أكره أمثاله ممن يضايقون بائعات الهوى على الطرقات، يبيعون أ نفسهم بلاحياء وهم أثرياء وأبناء مسؤولين، كل العيون مصوبة اليهم برقابة ..

استغراب يركب الأب من كلام ابنته،هي حقا تلم بأخبار المجتمع أكثر منه بحكم مهنتها كصحفية تعرف الكثير مما يموروما قد يغيب عن كثير من الناس.. في رأسه شرعت تلف الصور:

أيكون حمزة مثلي الميول؟

سؤال لم يكن الأب هو من راود عقله،لكنه قفز في ذهنه كتلويحة حين عاد حمزة من كندا بعد إلحاح من أبيه وقد شرع يهيئ له منصبا في أحد الدواوين، عاد ومعه شخص كان يلازمه كظله ادعى حمزة أنه أستاذ للرقص صاحبه من أجل رحلة سياحية ..

فكم امتد من لسان سخرية بولد معالي الوزير ذي اللسان الطويل!!..

أخرج الأب نفسا قويا كان يملأ صدره حيرة ثم قال "ان بعض الظن إثم "

ما شغل الأب كان أكبر مما أخرجه من صدره وأ شد حرارة !!..

“لو داهمه الوزيربزيارة مفاجئة ومعه رهط من المقربين منه يطلب يد كوثر لابنه فماذا يكون رده وهولا يملك لسانا أو شجاعة على الرفض؟..

خف الى بنته، طرق باب غرفتها ثم دخل، وبلامقدمات بادرها:

ـ كوثر حبيبة قلبي، يجب أن نستعد للقابل، الطلب اليوم اتى عارضا لكن لو تحول الى أمر رسمي فماذا يكون ردنا؟

تطلعت كوثر الى أبيها في غير قليل من التحدي وعلى وجهها بسمة ازدراء:

ـ وهل نحن عبيد يا أبي قد وضعنا الرق في خدمة الأسياد؟

ـ مادخل العبيد والأحرار في ما يفرضه ذوو النفوذ على غيرهم؟

هو ابن وزير ياكوثر وابوك ليس الا تاجرا صديق الوزير، هل نسيت فضله الأخير علي؟..

ـ ابتي !!..أن يكون له فضل عليك فهو يتحمل مسؤولية مافعل، وحيث إنك لم تستعط منه فضلا أو تدق عليه بابا، فلا يعدو أن يكون الامر" تسبيق عجينة في بطن " استغلها مما ليس له، وتصرف في القانون بتطاول ..

صمتت قليلا ونحو أبيها صوبت نظرة خاصة قبل أن تتابع:

حاولت ـ يا أبي ـ ألا اعري طبق الملح فالنجوم فواضح لاني أستحيي منك لكن اذا لزم الأمرفأنا لن اصمت "وللي حشم فيما ضره فالشيطان قد اغره " فرفضي له أسباب منطقية، وأنت ادرى بشجاعتي ومقدار جرأتي، ولا أخشى في حق لومة لائم ..

تنفس الأب بقوة تنفس المحتار القانط وقال:

نوريني كوثر، فانا أبوك، لو كانت أمك على قيد الحياة لتولت الأمر معك، وكما تعلمين مذ غابت أمك عنا حاولت وبسرعة أن أهدم الحواجز بيننا بصراحة وثقة وصدق..أنت صحفية كوثر ومطلعة أكثر من غيرك،فنوريني بالحقيقة..

كانت كوثر متمددة على سريرها فاستقامت، فسحت مكانا لابيها وقالت:

ـ اسمعني جيدا يأ ابي !!.. لو كان حمزة مثليا لقلنا: رجل يميل الى نفس جنسه

كما تعرف عني أنا: أمرأة لا اعشق غير النساء، لكني للرجال لا أكره ولاعليهم حاقدة، كما أني من وضعي لا أخجل،هي ميول عارضة قد تمتد أو قد تتغيراذا وجدت من يفهمها ويكشف اساءاتها القديمة وما يعوضها من رؤية جديدة للنفس والعالم والحياة بحنان ودراية وايثار أما وحمزة مريض يخضع لعلاجات كيماوية لتهتكات في شرجه وقد أجرى أكثر من عملية رتق وتنظيف للديدان التي تنهش مخرجه فكيف ترضى لي بزوج مثل هذا؟ نثانة ياأبي، نثانة !!..لا تتحملها أية أنثى مهما كان انتماؤها السوسيو ثقافي..

ـ هل تعلم بابا ـ مع احترامي لك ـ ان حمزة فاقد القدرة على تحريك رغبة أنثى لانه عنين شلو؟..كل البنات اللواتي أغراهن بمظهر يعرفن عنه هذا وبه يتحدثن، هل تذكر بابا حين غاب حمزة عن عزاء ماما ثم ادعى المرض أنه كان في فرنسا يقوم بمحاولة تكبير لجهازه التناسلي عساه يستطيع التبول بلا مشاكل فلم ينجح، وقد عاد وهو يائس نهائيا من ان يحاول إرضاء رغبة أنثى أو يحرك فيها ساكن.

ـ أبدا بابا لن أصير مطرح امراض ونتانة لآدمي ليس له توجه واضح سوى أن اباه يريد إرضاء غروره لينفي ما يعرفه غير قليل من الناس عن ابنه ..

ذهل الأب لما يسمع ثم شرد في أمر ابنته نفسها، هل يشير الناس اليه بالبنان كما يشيرون لابن صديقه الوزير؟ يعرف أن ابنته غير مريضة عضويا ولا نفسيا وهو ما أكده أكثر من طبيب وانما هي ميول تدركها كمثلية لكن ليس لها مخلفات قد تظهر عليها.. وفي عقله دقت حكمة طبيب حين قال له يوما:

"هي حرب هزمت فيها المرأة زمنا وتأسست الذكورة ولن يطول لها شروق "

زوجته هي من أطلعته على أمرابنته كوثر قبل أيام قليلة من وفاتها ..

وهما في غرفة النوم وقد اشتد بها آلام السرطان أمرته أن يسد الباب ثم سلمته رسالة تشرح تفاصيل ابنتهما وتحذره من أي عنف او أحتقار أو حتى عتاب يمارسه على كوثر..ومما شرحته في رسالتها :

"ابنتنا لا تكره الرجال أو تظهر عداوة اتجاههم لكنها تجد متعتها في أنثى مثلها، أنا من أكتشفت ميولاتها، كنت أنتبه أن البنت دائمة التمسح بسيقاني واذا دخلت معي الحمام بالغت في تقبيل ذراعي ، وأحيانا تتجرأ على فخدي، وكانت ترتاح وجنتيها على نهدي اذا كانا عاريتين وفيهما تتغزل بشعر.."

"لقد عاملتها بذكاء وحذر، وخبرة بكل التغيرات التي تطرأ عليها ؛كنت أخفف الوطء عليها ما استطعت بصمت وحنكة وتوجيه، بل كنت لا أتوانى في إرشادها كيف تختار صديقاتها وكيف تتستر على ميولها أمام جميع الناس لان البشر لن يرحموها، فالبطش بين بيني البشر اقوى من بطش خالقهم الذي اذا بطش رحم.. كانت تبكي بحرقة وهي تسألني:

هل أنا مذنبة ماما؟ هل أنا كافرة؟ هل يعذبني الله فأدخل النار؟

كنت لا املك علما ولامعرفة عميقة بحقيقة ما يشرحون به آيات اللواط حيث يترك الرجال النساء ويلهثون وراء الذكور، كنت أجد الامر قياسا غير سديد غايته التشدد والترهيب لا العلاج والتبصر ،لكني كنت أدرك ان الإسلام بالانسان رحيم منافح،وبنتنا لم تخلق نفسها فمن خلق وزرع في جيناتها مازرع قادر على أن يتجاوز عنها ويشفيها، أما عن آيات قوم لوط فالفرق شاسع بين المثلية واللواط فالله قد تكلم عن إتيان الذكورللذكور لا عن إتيان المرأة المرأة.. فأن يأتي الرجل رجلا فهذه وساخة وتلوثات ونقل أمراض،والإسلام طهر ونظافة..

كنت أدرك أن هذا البوح الصريح مع بنتي هو اعتراف بميولها وهوحرية تمكنها من الثقة التي أمنحها لها فتحكي لي كل ما تحسه بصراحة وثقة في

النفس بدل أن أحبسها في قفص من الضغوط التي لن تزيد بنتي الا كبتا قد يتفجر عادات ومكاره لاتستطيع لها مواجهة.."

لقد استطاعت المرحومة زوجته أن تصمم له خريطة طريق مع ابنته فنجح في الحفاظ على علاقتهما بكل ما تتطلبه المعايشة من احترام وحرية وتفاهم..

ما احتاط منه أبو كوثر هو ما حصل فهو لن ينسى أن الوزير قد منحه رخصة لاستيراد ابقار من البرازيل وهولاندا كما منحه رخصة ثانية لاستيراد الغنم من اسبانيا في أزمة غلاء اللحوم التي ضربت الوطن وقد حقق الأب ربحا محترما جعله يضاعف ثلاث مرات ماخسره من مخلفات الجفاف على كثير من الزراعات ..

استدعى الوزير أبا كوثر الى مكتبه بالوزارة كتحسيس بمنصب وسلطة، استقبله بنوع من كبرياء،وما أن استقام أبو كوثر على أريكة حتى ذكره الوزير بصفقة البقر والغنم..

ـ كثير من الأصدقاء قد أعابوا علي حرمانهم مما نالك،ويشهد الله أني ما فضلتك أنت على كثير من غيرك الا لما بيننا من صداقة وماكانت المرحومة زوجتك تصبغه على ابنائي من رضا وعناية..هل تعلم ماذا كان ردي على المحرومين؟..

ـ "الحاج المعطي مقبل على الافراح ويلزمه المال ليسعد بطونكم وأسماعكم ونشوة عقولكم "..

قالها وهو يقهقه رافعا صوته كأنه يريد تسميع من يقبع خارج مكتبه..

ترنح أبو كوثر في مكانه وأحس بضيق يعصر قلبه ونفور من كلام الوزير الذي بادره:

ـ أخبرني حمزة أنه متيم بللا كوثر وبها دون سواها يريد الزواج ،أظن الخبر سيسعدك؟

الحيرة تهز قلب أبي كوثر والدهشة من نظرات الوزير التي كانت تتلون بنفاق تربكه، فلم يملك غير الصمت..

تشاغل الوزير بالنبش في درج مكتبه قليلا عن زائره ثم ما لبث أن رفع راسه اليه في صرامة وكأنه أدرك الرد الذي لم يستطع أن يتفوه به أبو كوثر في وجهه

ـ ايه مارأيك هل نعلن كتب الكتاب وحفلة الزفاف بعد شهرين؟ أظن الوقت كاف..

بلع ابوكوثر ريقه، تنفس بقوة وقال:

كيف أحقق لك رغبة ولابننا حمزة أمنيته وكوثر قد تمت خطبتها من عشرة أيام على أمير خليجي وقد أعطيت وعدا واتفقنا على كل شيء مع التزام بيننا على أن يظل الامر في السر؟لأمر يريده سمو الأمير ..

ـ ماذا تقول؟.. وكيف تم ذلك ولا احد أبلغ بخبر؟..

انفجر السؤال من فم الوزير كقنبلة تتفتت أجزاؤها

ـ كما قلت لك اتفقنا على كتمان الامر الى أجل قريب..

قام الوزير من مقعده ونوع من الامتعاض يلفه بحنق وسخط:

ـ على كل حال سابحث في الامر..

ثم بلا لياقة ولا احترام أشار بيده للزائر بالانصراف..

دخل أبو كوثر على بنته وأعلن لها الخطأ الذي ارتكبه بكذبة ظنها تبعد فلذة كبده عما أراد الوزير ان يقرره بتحكم وأمر سلطوي..

تأسفت كوثر فيما أوقع الاب فيه نفسه:

ـ لماذا هذا الخوف ياأبتي؟هل نحن عبيد ما وجدنا الا لننفذ رغبات أسيادنا؟

لو تركت الامر لي لاعلنت مايعرفه الناس عن حمزة وما تم تدوينه من سخرية وتحقير في أكثر من موقع تواصل اجتماعي ،ولجعلت معالي الوزير يخزي نفسه قبل أن يجرؤ على مسك بتحكم وإذلال، والله لن أمررها له بسلام ..

ـ هل تعرف لماذا استدعاك الوزير اليوم؟لان ابنه أمس وجدوه مرميا خارج المدينة عار وقد غيبه السكر، ينخر الدود مؤخرته والكلاب تكاد تنهشه لولا ان تداركه رجال الدرك.. معالي الوزير ياأبي يريد ان يتستر على خزي بعار، من كان مثله فعليه أن يقدم استقالته ويترك هذا الوطن فقد صار سبة لحزبه ولوطنه..

نوع من راحة البال تلف أبا كوثر، يعانق بنته وعلى خدها يطبع قبلة ابوية حارة وما في عقله غير صور أم كوثر واحدى عباراتها تطن في رأسه:

" اياك أن تخجل من بنتك، هي كأي بنت عادية لايمنعها عن الزواج والانجاب مانع، سوى أنها تجد متعتها مع أنثى مثلها مقارنة بالممارسة مع رجل "

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في مرج خصيب أبدح وقد أبشرت الأرض وأبل الشجر وتسامق. وقفت إمرأة متلع، تنظر إلى سماء إمتدت بالزرقة المشوبة سوادا. كانت الشمس تتهيأ للسفور ولما تجرؤ بعد. وقد أبدر الكون ما شاء له ثم هم بالإياب وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وحدث بينهما شبه تنافر، فلا الليل يريد المكوث ولا الشمس تسرع بالسفور. والمرأة تسري في جسدها رعشة المنتظر الواله تكاد عراه تنفصم من شدة ما به. جالت بعينين غائمتين في ما حولها ثم إنحنت بقوامها العسل على قبضة من الكلإ تجتذبها فتخضر يداها فهي النماء وهي الربيع يرمي بلحافه على الكون. كانت منذ زمن بعيد إمرأة عياطا أرضا صفصفا لا تنبت وها هي الآن ترغب أن تحمل الكون في أحشائها فتطل شمس الرغبة في عينيها. لقد كان يوجعها أن تلد الأرض كل عام وقد أتاها الربيع. ويأبى عليها الكون أن تأتي مثلها ولو مرة واحدة. ولقد أثارت....الخروج إلى الكون عارية تغوي الصخر والماء والنار عن أنفسهم فما إغتووا وآثرت لهم فما أثملهم ذلك. ولطالما أمسكت بالماء في جسدها يمرغها وتنحل فيه فإذا بهما بياض شفيف ثم ما يلبث أن يشيح عنها ويتراجع فإذا بها كغبار الصحراء في الحلق، وأحيانا أخرى يتهيج الكون فتسبق النار إليها فتتأجج بألسنتها فهي ذوب حتى كأن روحها صقر. ويمضي بها ذلك إلى حد التلاشي فما يسمع لها سوى فحيح. مضت عليها سنوات وقد أغم بها الكون وكرهت ما هي عليه من خواء فصارت تتجول بين الأشجار تأكل ثمرها فيسيل الماء مع لعابها على جسمها العقيم ثم تسبل هامها المتعب على الأرض وتنظر إلى بطنها الأبجر قائلة : " أيكون هكذا الإمتلاء؟ فلعلي أنبت شجرا وأثمر. " ثم تنام محتضنة أوراق الشجر كمسافر بالصحراء وقد شرب العطش. وفي يوم وليد تأججت فيه الحياة، خرجت فيه إلى الكون تستحم بالشمس والشمس معانقتها تنسج من خيوطها شفوفا تلفها لفا من شدة ما إعتراها، فإذا ما أصبحت كالجمر إرتدت متراجعة إلى الماء وقد أبرد ورق وسرى فيها سريانا وهي تلاطفه وهو يشفق عليها حتى لان ونحل وقعه إلى حد السكون. أما هي فقد هدأت وعلت وجهها إبتسامة كالفجر، ثم ما لبثت أن همت واقفة وقد شخصت في ما حولها ثم طأطأت رأسها كالمصيخ إلى قضاه ثم صاحت صيحة إنشق لها الصمت المطبق على المكان. إنها تحس بالحياة تسري في جسدها، إنها الأرض تنبت بعد بداد، إنها الغيمة تمطر أو هي الروح تخرج من روحها فهي روحان. ألقت بنظرة غائمة بعيدة الغور كأنما إثولت....وإستبد بها الجنون وطفقت ترمي التراب على رأسها وتختصب الكلأ وتضعه على رأسها المتعفر بالتراب وتجتزع أغصان الأشجار الممتدة بآستكانة ثم تجري في جميع الاتجاهات مجتابة...الفضاء المحيط بها دون وعي منها. بقيت ردها من الزمن على ذلك الحال ثم ما لبثت أن سكنت عن الحركة ووقفت متوسطة لفيفا من الأشجار مولية الشمس وجها أجذل، إنفرجت أساريره وعلته مسحة من الرهبة كمن حدث له خطب. ثم صاحت : " لأقصدن الأجادب تستوي فيها روحي." حملت قربة ماء وبعضا من الزاد وأجدت السير وقد أجدها العزم تأجيدا ، حثت الخطى وقد أجشت الأرض وثقلت بما عليها من ثمر وآحتفى الكون بنفسه فأزهرت ونما وأثمرت بحملها فناء بخورا. حثت الخطى وكانت عيناها غائرتين في الأفق الممتد أمامها وقد إشتد عزمها إليه. مضى وقت طويل وهي مستحثة عزمها تأكل الطريق أكلا حتى وصلت مكانا صخريا، أجفأت أرضه إجفاءا ولم يبق منها سوى منظر كئيب قاس وجبال ممتدة بحزم وقد عاطت قممها فهي الروح إذا إستوت وتطاولت وتاقت إلى الجوهر الفرد. كانت رجلاها إمتدادا للأرض المتحجرة تحتها، فهما لبعضهما يقوي أحدهما الآخر ويسنده ثم لكأنها قطعة من حجر صلد لا تني. إنسابت في صلاة لا نهاية لها. إرتفع غبار من شقوق الصخر غمر جسمها ووجهها فأجدها تأجيدا فهي كالطود تجتهف لحظتها إجتهافا وهي الأجة تخرج ألسنتها من شقوق الصخر. صاحت أينا الآن أقدر على الصبر هؤلاء أم أنا؟ من أجدر أن يكون؟ وأشارت إلى الجبال المحيطة بها في جلال. تتالت الأيام وهي على هذه الحال، تذهب إلى نفس المكان الموحش وقد إمتلأت وإستوى ما بها من عزم. وإستقام حالها وشعرت بالتعالي والخيلاء. كانت تسبح وهي جادة السير إلى الجبال وهي تقول : " أنا أنا وأنا إثنان تطاولا فهما واحد لا نهاية له أنا وهم ونحن جميعا والفراغ نشكل الكون والنماء، أنا أنا ما لي والصخر أنحته في جوفي فيخرج عني حياة. " أنهكها التعب فأصبحت خيالا من أوهام سوى من بطن ناتئ ينفلق عن الثياب فيظهر ناصعا مكورا وقد زادته نحافتها إستدارة وضخامة وعلا وجهها شحوب وإعياء وهي تجد الطلب إلى الأعالي تغتابها وتتنكر لها. وفي يوم بينما هي بالجبل تسبح كعادتها وقد تشققت شفتاها وإنفلقتا من شدة العطش وأنهكها المسير وحفيت قدماها فتورمتا وعلتهما حمرة مالت إلى السواد إذ غفت وإذا بها ترى فيما يرى النائم سربا من البجع في بحيرة ساكنة كأنها الدهر. كانت البجعات بيضاء اللون ناصعته تستوي الواحدة إلى جانب الأخرى في شكل دائري. كانت تتلوى وتنثني بأعناقها بإستكانة وخضوع فوق سطح الماء وقد أجهى فهو كالمرمر أو كوجه نبي. ومن حين إلى آخر يسمع لها أنين ثم تنتفخ أوداجها وكأن في جنباتها الأرض والسماء، ثم ما تلبث أن تضمر وتنحل إلا من بطن أخضر كالشباب ثم تحوم حول نفسها في حركة دائرية والماء حولها يغيم في طيات وثنايا لا قرار لها. وتستمر في ذلك دون توقف وفي نسق سريع فأسرع حتى أجشت إجهاشا فكأنها ملتف الأغصان متشابكه أو كأنها الإتي حول الهاوية. خرجت عينا المرأة من محجريهما وهي تتابع هذه الحركات المجنونة في ذهول ثم غابت البجعات في الماء مدة طويلة وكأنها سكنت في قلب الأرض، بقيت المرأة تحملق في المكان وكأن الأمر كان ضربا من الخيال.  وبعد وقت خالته لن ينتهي رأت البجعات تنطلق من جوف الماء إلى السماء ثم سمعت قهقهة إنشق لها سكون المكان ثم نظرت فإذا البحيرة أزهرت وتوردت وجنتاها وذهب ما علاهما من أخاديد كانت تكدر صفاءها. ثم سمعت عصافير تردد : " ولد سيد البحر ولد، قد إلاه قد، سعادتنا سعادة وخصبنا عادة. "

***

مفيدة البرغوثي

حدث ذلك منذ منذ زمن بعيد .. عشرين عاما وربّما أكثر:

أهذه طريقة جديدة تفاجئ بها المشفى المرضى الذين تتوقع موتهم؟

كنت أزعق

وراح زعيقي يزلزل هدوء المشفى

هرعت الممرضة إليّ واقتحم الطبيب غرفتي ثمّ التحق بهما ممرضون وممرضات.تحلّقوا حول سريري لحظات وتراجعوا بإشارة من الطبيب. بقينا وحدنا فربت على يدي وقال:

معذرة للخطأ ساعة الحائط الألكترونية باللغتين الألمانيّة والإنكليزية، ألم تر الممرضة ليلة أمس تغيّر البطارية؟

تذكرت..توقفت اللوجة الألكترونية. فجاءت عند الغروب ..

فهزّ رأسه وهو يبتسم:

لقد نسيت أن تجعلها بلغة واحدة .....

لقد فهمت اللعبة.. الآن بعد أن كاد الرعب يقتلني.. لا أعرف الألمانية لكن الساعة كانت تبدو بعد تغيير البطارية بكلمتين Die Tue. لقد كان الليل هادئا، وفاجأتني مشكلة مقيتة في الصباح.. ظننتها طريقة ابتكرتها المشفى للإعلان عن موتي.

لكني

منذ ذلك الوقت، وإن أعرب الطبيب عن أسفه، وربما عوقبت الممرضةغلى إهمالها، وأنا أكره يوم الثلاثاء

أمقته

وأتساءل دائما: بأي يوم غيره إذن أموت؟

***

قصة لمحة

قصي عسكر

مسندا كتفه إلى باب الصالون، وقف هشام ينظر إلي والدته، وفي رأسه سؤال واحد.. كيف ستتلقّى الخبر؟

 لم تنتبه له فقد كانت تجلس قبالة التلفزيون تتابع برنامجا على قناة وطنية، بينما أناملها تتحرّك ببطء وتغزل قبعة لابنها فريد. ما تزال تراه صغيرا رغم أنّه يستعد هذه السنة لامتحان البكالوريا. وكان والد هشام، الحاج إبراهيم، مستلقيا على الكنبة التي تحت النافذة، مديرا وجهه إلى الجدار. كان يرتدي قميصا أبيض بأكمام طويلة ويحمل في يده سبحة. منذ ترك العمل في المحل صار يرتدي القميص بعد العصر ويحمل السبحة ويجلس في مكان واحد في الصالون ولا يخرج. لم يعد يعطي الأوامر مثل السابق لكنه يعلّق على كل واردة وشاردة في البيت.

 ودون أن يستدير نحو زوجته تمتم قائلا " تجهدين نفسك في الغزل وأنت مريضة. ثم إن الشتاء ولّى. "

" ألن يعود الشتاء؟ " أجابته مبتسمة.                

ماذا لو أخبرهما إني لن أكون هنا حين يعود الشتاء؟ بل لن أكون هنا غدا تحديدا؟ هكذا فكر هشام لكنه لم يقل شيئا.

سيؤلمهما الأمر جدا. ما أقسى أن تكون سببا في عذاب شخص تحبه وتعرف بأنه يحبك فوق حبك له !

صحيح لا يمكن لوالدة هشام أن تعرف ما بداخل رأس ابنها لكن هو يعرف ما بداخل رأسها.

 إنّه يراه كأنه صفحة في كتاب مفتوح أمامه: شقة بالطابق الأول ، ثلاث غرف ومطبخ وحمام/ الطابق الثاني سوف يكون من نصيب فريد. قد تسمح له يوما بالعيش في بيت مستقل أما هشام لا. مستحيل ! هو البكر ولابد أن يكون تحت عينيها.دائما.

انه المرشح لاستلام عرش والده.

و في رأس أم هشام أيضا زوجة شابة جميلة ممتلئة تجيد أعمال البيت وكل أصناف الطبخ، ها هي في شهرها السادس من الحمل، تحتضن الولد الثاني، بينما الأول، عبد الله / يحمل اسم جده لوالدته / يركض في البيت ويطارد القطة. طبعا كان لابد أن ينجبا الكثير من الأبناء ويحققا حلمها: " أن أنهي أيامي وسط قبيلة من الأحفاد."

لا احد يدري بأنّ أكبر أحلام هشام ينتظره هناك، في الضفة الأخرى من البحر.

فقد قرر وخطط وانتهى الأمر.

منذ أيام قصد القائد المسئول عن الرحلة ودفع له المبلغ كاملا. مبلغ باهظ. كان هشام لثلاث سنوات يحتال على أبيه ويخفي المال في درج خزانة في غرفته. كان والده يمر بالمحل مرة في الأسبوع، في المساء، ويأخذ حصة المال معتقدا أنّها كاملة. لم يكن يحاسبه لكن لم يكن يترك له فلسا واحدا.عندما تخرج هشام ويئست من العثور على عمل اقترحت والدته على أبيه أن يركن للراحة ويترك له محل بيع التوابل الذي ورثه عن جده وجده عن أبيه. كان محلا كبيرا ومشهورا حتى لدى سكان المدن المجاورة. ووافق الحاج إبراهيم بشرط واحد : الدخل الوفير. ولكن كانت هناك مشكلة. من يستطيع أن يتصور شابا مثل هشام، يصفف شعره على الموضة، ويلبس الجينز الضيق ويدخّن المارلبورو. شاب ثلاثيني وسيم يجلس في محل ويبيع التوابل والفلافل المجففة !؟ إن المهن لها أصحابها ولا يمكن طبعا أن نتخيل مثلا جزارا يعمل صيدليا أو جراح مخ وأعصاب يشتغل بالفلاحة. إذا لابد من تغيير نشاط المحل. سوف يكون محلا لبيع العطور وأدوات التجميل والهدايا.

و في يومين اثنين تغيّر كل شيء في المحل. تبخّرت روائح الكمّون والزعتر والنعناع وعبق المكان بعطر منعش. كان هشام موهوبا في بيع الوهم للعشاق وجمّع من كفّ الحب مالا وفيرا خمّن أنّه سوف يحمله في عرض البحر، إلى حتفه أو إلى جنّته.

تماما كما يفعل الحب.

 بينما خمّنت والدته أنه سيكدّ بالعمل في المحل وستزوجه من فتاة تختارها له وسينجبان عددا كبيرا من الأطفال.

عندما انتبهت لحضوره، دعته إلى الجلوس بقربها.كان والده قد سحب الوسادة من تحت رأسه ووضعها ة فوق وجهه وغط في النوم. قبل هشام يدها فابتسمت بحنان وسألته عن يومه. كل شيء بخير قال. في تلك اللحظة كان الخبر العاجل يمر على شريط أسفل الشاشة ( انتشال خمس جثث لـ"حرّاقة" من السواحل في ظرف 10 أيام).

و لكي يشتّت انتباه والدته راح هشام يشاغبها بأن ينقض غزلها فتضربه على يده ضربا خفيفا وتكيل له الدعاء.لو انتبهت للخبر على الشاشة لشحب لونها وتنهدت وقالت، كما تقول دائما (حسبي الله ونعم الوكيل . يتركون الجنة ويرمون بأنفسهم في النار..قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي عليّ حجر).

 كان هشام يبدو هادئا بينما بداخله ثيران تتصارع .أمواج عاتية تعلو وتنزل. قلق أسود يصفّق نوافذ تفكيره.

 لمَ لا تخبرها بالأمر وترتاح؟ هل سترتاح؟ يا لك من جبان. يجب أن تعترف بذلك.

 شجاعتك التي ستأخذ يدك وتعبر بك البحر تقف عاجزة أمام نظرتها !

دموع أمي أخطر من البحر. ذلك ما قاله له سليم حين تحدث إليه عبر السكايب منذ أيام .هو من أشار عليه بالفكرة. قال له " لا تخبر أحدا وخاصة والدتك. افعل مثلي، فقط حين وصلت إلى هنا، وأصبحت في قلب إيطاليا اتصلت بها وطمأنتها".

أخبره أنّ أمه بكت كثيرا/ في الحقيقة لم يقل كثيرا، قال بحرا/، ثم تقبّلت الأمر واليوم علاقتهما عادية.

الأم تغفر دائما.

 أمي بكت بحراً ! وتساءل هشام كيف سيكون شكل أمه لو أنها تبكي بحرا؟ وجهها الطيب؟ عيناها الطافحتان بالحب؟ جبينها المزروع بالأمل؟ يا الله.. أيّ ألم سوف تقاسيه ؟ أيّ عذاب سوف يسبّبه لها رحيله؟

"الحرب لا تدور في أرض المعركة بل في قلوب الأمهات". قالت والدة جندي لوالدة آخر في أحد الأفلام.

ترى كيف ستتلقّى الخبر؟ ليس هذا هو السؤال المهم يا ذكي. الأهم هو هل ستصل مثلما وصل سليم وأحمد وعقبة وغيرهم؟ هل ستنجو ؟

أخفض هشام رأسه واحتضنه بين يديه، بقوة، كأنّما خشي أن تفتحه نظرة منها فينكشف السّر. سر الكذبة المتقنة بأنه سينهض باكرا في الغد ويقصد سوق الجملة لكي يبتاع السلعة للمحل، بينما في الحقيقة سيتجه مباشرة إلى شاطئ زموري حيث ستحمله الأمواج إلى الحياة الرغيدة والحرية والسعادة وفي الحقيقة لم يكن هشام بحاجة لحرية اكبر أو بحاجة للمال . لم يكن بائسا ومسكينا لدرجة التفكير في الحرقة والهرب إلى ما وراء البحر.كان شابا ميسور الحال ليس لديه مشاكل. ما الذي إذا حفر فكرة الحرقة في رأسه؟ إنّه جنون المغامرة. هذا كل ما في الأمر. إنه الملل والاعتقاد بأن العشب أشد خضرة على الجهة الأخرى من السهل. أيام نهايات الأسبوع، كان يحضر للمحل رجل في الستينيات تقريبا. غريب الأطوار. كان من أولائك البشر المولعين بقراءة الكتب. ربما كان فيلسوفا. كان دائما يقتني نفس نوع العطر النسائي. يأخذ القارورة ويخرج مسرعا لكن عندما يكون في مزاج جيد، كان يجلس مع هشام بعض الوقت ويتحدثان. مرة، قال وهو ينظر في سقف المحل:

- يا هشام يا ابني إن الرجل كائن مغامر. وإنّ ما يجعل للحياة معنى هو المغامرة فقط. لا غير.

و لاحظ أن هشام مط شفتيه مبديا استغرابا أو ربما عدم استيعاب فقال:

- إن الرجل منّا يجب أن يعثر على امرأة تنسيه جنون المغامرة. إذا لم تكن هناك حبيبة/ حلم، فإنّ الرجل منّا يظلّ يلهث خلف أمر ما ولا يتوقّف.

و لكن لم تكن لهشام حبيبة ولم يشعر يوما بعاطفة قوية تجاه أية فتاة أو امرأة. وكان كل تفكيره محصورا هناك خلف البحر حيث الحياة الرغيدة وحيث أصدقاؤه الذين سبقوه إليها.

بات هشام ليلته يحلم بالجنة الموعودة، وقام قبيل الفجر وخرج مسرعا دون أن ينظر خلفه .

 في المساء، كان مشهد الأمس نفسه يؤثث غرفة الصالون لولا أنّ في الجو إنذار بكارثة. الوالدة تغزل القبعة وتلقي من حين لآخر نظرة على شاشة التلفزيون، وتنتظر أن يدخل هشام قادما من السوق لكي تستطيع بعدها أن تدخل غرفتها لتنام. الحاج إبراهيم سحب الوسادة من تحت رقبته ووضعها على وجهه وغط في النوم بينما فريد كان يدير معركة مع تمرين في الرياضيات استعدادا للامتحان.كان كل يسبح في فلكه ولا أحد انتبه للخبر العاجل على الشريط الأحمر أسفل شاشة التلفزيون (العثور على جثة شاب ثلاثيني " حراق" وفقدان ستة آخرين بشاطئ زموري بولاية بومرداس).

***

آسيا رحاحلية - قاصة جزائرية

نمشي معًا في شارعٍ

كانتْ به الأضواءُ تضحكُ في المساءْ

أنا والدي قد كان قنديلاً عتيقًا

زاهيَ الألوان وهّاجَ الضياءْ

أنا والدي قد كان من أصلٍ كريمٍ

طيّبَ الأخلاقِ مثل الأنبياءْ

نمشي.. وراحتُهُ تلفلفُ راحتي

حباً، لتغفو في بساتينِ العطاءْ

لنقِفْ قليلاً ها هنا

و لتشرِ لي بعضَ الدُمى

فأطاعني وتبسّما.. وتبسّما..

*

قد حِرتُ بالألعاب حين رأيتها

أين التي سأقولُ أني اخترتها؟

تلك التي أرخَت سنابلَ شعرها

أم تلك صاحبة الجذيلة والسوارْ

لا قلبَ فيها يبعثُ الإحساسَ في أطرافها

قد زيّنوها كي تصيرَ بشكلها

أحلى قليلًا من حُجيرات الجدارْ

قد زيّنوها كي تطيرَ عقولُنا

ببساطةٍ وسذاجةٍ بجمالِها

نحنُ الصغارْ

وأدرْتُ طرفي

كي يساعدني أبي بالاختيارْ

*

وفزعْتُ !!!!

أينَ مضى أبي؟!!

أنا لم أجدْهُ بجانبي

و لمحتُهُ

شبحان لم أعرفْهما

مَضيا به

و إلى البعيييييييدِ

إلى البعيدِ تقدَّمَا

قلبي يذوبُ من اللّظى

والحزنُ فيه تكلما

ما حيلتي فأبي مضى

وأنا بقيتُ مع الدُّمى

*

الحلمُ لم يكن ادّعاءً أو دُعابهْ

بل كان مفتاحًا لكهفٍ

فيه كنزٌ من كآبهْ

الآن أعرفُ أن قنديلي انطفا

و نأى كثيرًا وابتعدْ

الآن أعرفُ أنهُ

قد صار في حبس الأبدْ

قد غاب قبطان السفينة

من يسيرُ بنا إلى بر الأمانْ

ما أخبروني  أنهم إذ ودّعوهُ

ودعوا معه الحنانْ

ثم انتبهنا كيف أن الشمسَ في تموزَ غابتْ

عندما كانت تصلي فرضَها عند الغيابْ

كل الذين عرفتهم بطفولتي

لم يرسموا لي وجه موت أو غيابْ

كل الذين عرفتهم ما فارقوني

منذ كانت إصبعي

في فيَّ تغرقُ في اللعابْ

لا... لم يقولوا كيف غابْ

لا.. لم يقولوا كيف دسُّوهُ برفقٍ في الترابْ

و رأيتُ  قنديلي اختفى

حقًّا وليسَ تَوهُّما

أمسى بأرضٍ أهلها لا يرجعون

ولا (عسى) ... أو (ربّما)...

وبقيتُ حزنًا صامتًا

وبقيتُ قلبًا طيبًا

قد ملَّ من دنيا الدُّمى

***

إسراء فرحان الفرحان

حرق القرآن الكريم

عادوا ليمْحوا النورَ والتحْريرَا

والعدلَ والإحسانَ والتطويرا

*

قد أحْرقَوا ورقًا بنارٍ أضرمت

عتمَ النفوسِ بما تأجّج نورا

*

هل ضرّ حرقهمُ الكتابَ بحقْدهمْ

نهجَ السماء وأطفؤوا التنويرا

*

حَرَقوا كتابًا قد تعاظمَ قدُره

لم يُحْرقوا الإعجازَ والدستورا

*

إنْ كان قصْدهُمُ بحرْق كتابنا

حَرقَ الهدايةِ منْهجًا وسطورا

*

فاليحْرقوا أهلَ التقى، فقلوبُهم

حفظتُهُ بُشْرى للورى ونذيرا

*

كم مُزّق القرآنُ منذ نزوله

هلْ أنقصوا من مدّه قطميرا

*

لا زال مدّه كالبحارِ وموجه

يعلو الجبالَ وأرضَها  تكبيرا

*

اللهُ يحفظه ويحفظُ دينَه

للعالمِين ويُجهضُ التغيّرا

*

لو لم يكن نهجُ الكتابِ منوِّرا

ويزيحُ عن دنيا العبادِ شرورا

*

ما دنّسَ الكفرُ الكتابَ وما نهى

عن ذكرهِ وأباحُه تشهيرا

*

لا تحزننّ إذا رأيت فعالهم

ستذيقهُم في العالمَيَن سعيرا

*

لن يكسبوا نصرًا وكلّ نتاجهم

يمضي هباءً في الدجى مدحورا

*

لم يطلبِ القرآنُ منّا ناصرًا

لكنْ لتطبيقِ النصوصِ نصيرا

*

كم أُحْرق القرآنُ في أرض علا

فيها الأذانُ، وصادروا التعبيرا

*

يبكون في ذلِّ النفاق وبعظهم

مدّوا لدربِ الكافرين جسورا

*

لن يردعَ الشجبُ الكفورَ وكيده

والمسلمون تمزّقوا تكفيرا

*

لو طُبّقَ القرآنُ في أحوالنا

ما ناله الكفرُ المبينُ غرورا

*

ربّي شكوتُ إليك ذلّة أمّة

تركت على الرفّ الكتاب أسيرا

*

تركتْ كتابِ اللهِ حين رأتْ لها

بالجهلِ دستورَ الضلالِ جديرا

***

الدكتور نوري سراج الوائلي

ميشكان

{مِنْ وَحْيِ الزَّلَازِلِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي اجْتَاحَتْ مِصْرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ21مِنْ أُكْتُوبَرْ1992م}

***

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}يَا مَنْ بِعْتُمُ الدِّينَا

وَلَمْ تُرَاعُوا حُدُودَ{اللَّهِ}بَاغِينَا

*

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}لَيْتَ الْوَقْتَ يُسْعِفُكُمْ

وَيَقْبَلُ{اللَّهُ}مَنْ عَادُوا مُلَبِّينَا

*

تِلْكَ الزَّلَازِلُ قَدْ جَاءَتْ لِتُوقِظَنَا

وَقَدْ غَفَلْنَا فَلَمْ نَرْتَحْ بِوَادِينَا

*

تُهْنَا عَلَى الدَّرْبِ لَمْ نَعْرِفْ لِخُطْوَتِنَا

مَعْنىً يُفِيدُ وَلَمْ نَهْرَعْ{لِهَادِينَا}

*

عُودُوا إِلَى{اللَّهِ}إِنَّ الْخَطْبَ مُتَّجِهٌ

إِلَى الْجَمِيعِ وَمَا هَابَ الْمَلَايِينَا

*

{بِنْتُ الْمُعِزِّ}غَدَتْ فِي الْخَوْفِ رَاكِدَةً

تَجْنِي ثِمَارَ بَلَاءٍ بَاتَ يُبْكِينَا

***

سَأَلْتُهَا وَدُمُوعُ الْحُزْنِ تَخْنُقُهَا

أَلَسْتِ بَيْتَ أَمَانٍ كَانَ يُؤْوِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ مَنْ قَدْ أَوَتْ مَنْ بَاتَ مُرْتَجِفاً

وَتَقْهَرِينَ عُدَاةَ الْحَقِّ طَاغِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ أُمًّا لِكُلِّ النَّاسِ قَاطِبَةً

تَسْتَقْبِلِينَ ضُيُوفَ الْأَرْضِ حَاكِينَا؟!!!

*

أَلَسْتِ تَاجَ فَخَارٍ بَاتَ يَحْسُدُنَا

عَلَيْهِ كُلُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ تَأْتِينَا؟!!!

*

{بِنْتَ الْمُعِزِّ}تَعَالَيْ-بَيْنَ أَنْفُسِنَا-

وَاحْكِي لَعَلَّ دُرُوسَ الدَّهْرِ تَشْفِينَا

***

قَالَتْ: "بُنَيَّ أَنَا مَا زِلْتُ آمِنَةً

بِفَضْلِ{رَبِّكَ}يَا مَنْ ظَلْتَ مَيْمُونَا

*

بُنَيَّ:إِنِّي لِنُورِ الْحَقِّ جَامِعَةٌ

أَهْوَى الْهُدَاةَ وَلَا أَرْضَى الْمَلَاعِينَا

*

أَهْوَى الْمُوَحِّدَ لِلْمَنَّانِ فِي ظُلَمٍ

تَجْتَاحُ أَحْلَى مَعَانٍ فِي نَوَاحِينَا

*

أَهْوَى سَمِيراً يُنَاجِي اللَّهَ فِي أَدَبٍ

يَدْعُو وَيَرْجُو نَجَاةً فِي دَيَاجِينَا

*

أَهْوَى مَنِ اسْتَمْسَكُوا بِالْهَدْيِ فِي زَمَنٍ

مَلَّ الْعُصَاةَ وَيَدْعُو اللَّهَ مَغْبُونَا

*

يَدْعُو عَلَيْهِم:أَيَا{جَبَّارُ}مُنْقِذُهُمْ

أَعْتَى عَذَابٍ فَنَزِّلْ مَا سَيُنْجِينَا

*

إِنَّ عِبَادَكَ مَا أَصْغَوْا لِمَوْعِظَةٍ

فَزَلْزِلِ الْأَرْضَ تَجْتَاحُ الْمُرَائِينَا

*

يَا رَبِّ:قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَاغْتَصَبُوا

عِرْضَ النِّسَاءِ وَمَا زِلْنَا مُهَانِينَا

*

يَا رَبِّ: إِنَّ الْحَيَاءَ الزَّيْنَ فَارَقَهُمْ

فَاخْسِفْ بِمَنْ مَارَسُوا مَا لَيْسَ يُرْضِينَا"

***

قُلْتُ: "اهْدَئِي ..أُمَّنَا فَالْحَقُّ مُنْكَشِفٌ

وَسَوْفَ يَرْجِعُ مَا يَحْتَاجُ تَبْيِينَا

*

صِفِي لَنَا طِبَّنَا وَ{اللَّهُ}يُبْرِئُنَا

إِنَّا مَرِضْنَا وَنَحْتَاجُ الْمُدَاوِينَا"

*

قَالَتْ: "فَعُودُوا إِلَى{مِنْهَاجِ رَبِّكُمُ}

هَذَا الدَّوَاءُ الَّذِي مَا فِيهِ يَكْفِينَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي*

شاعر وناقد وروائي مصري*

كان ساهما

يتأمل زرقة السماء

يفتح عينيه

على مصراعيها

كبحار...

يراقب عن كثب

أمواج البحر

تقبّل راقصة

شفاه سفينته

التي تمخر العُباب

غير عابئة

بهواجسه

تداعياته

شارد الذهن

يفكر في مملكة القرود

لم يدر لماذا أقحم نفسه

وأخذه هذا المنحى من التفكير؟

هل  للقرود مملكة؟

تنغّلت فيه الفكرة

تماهى معها

حتى خال نفسه

قردا

يحاورعرّاف المملكة

- لماذا نهرب جميعا

من مملكتنا إلى الأعالي

حينما نسمع زئير أسد

أو عواء ذئب؟

ضحك القرد العراف

اعتدل في جلسته

سحب نفساً عميقاً

من غليونه

قال ساخرا:

مملكة القرود !!!!

هل صدّقت بهذه الكذبة؟

إنّ ما تراه وهما

اصغِ  جيدا

هات لي أذنك

القرد يبقى قردا

وإن تنعّم بالديباج

في أوج عظمته

ليس له

إلّا أن يكون

قردا

- هذا الفضاء الواسع لِمَن؟

للأقوى دوما

قانون الغاب

هو السائد

القوي ...

هو ملك الغابة

لا يرى فينا

نحن القرود

سوى التسلية

ويفترسنا إن شاء

- ما دمنا ضعفاء

إلى هذا الحد

لماذا نحن قساة

مع بعضنا؟

ابتسم العراف

تململ قليلا

ربت على كتفه

قائلا:

نريد تقليد الأقوياء

نود امتهان التوحّش

ولا نطيقه

إلّأ مع أبناء

جلدتنا

ليس هنالك

قرد شجاع مفترس

خلقنا للهروب

ولمواسم الضحك

والفرجة

والجري على أربع

أفاق من

لحظات هروبه

شروده المؤقت

على صوت هدير

طائرة عسكرية

كانت تخترق

مجال بلده الجوي

كان يتمنى

أن يشاهد

مّن يوقف صلافتها

طأطأ رأسه

باكيا خذلانه

وتلاشى...

في فم المدى

***

نص/ شلال عنوز

الخزائن ملئى بالأغطية الخفيفة والسّميكة المزدانة بشتى الألوان

كم اشتريت أغطية

وأرائك

وصحونا

وكؤوسا

المطبخ يعج بالأثاث ...

لا يجب أن يحتاج الأولاد إلي أي شيء عندما يأتون ..

لقد اشتريت أضعاف ما أحتاج في المنزل ...

البيوت مدكوكة دكا بالأثاث

وأنا أشعر بالبرد

ألتفت يمينا وشمالا باحثة عن أغصاني الذين كنت أتدفأ بهم

أينهم ؟

أريد أن أضمّهم إلى صدري

أن أرضعهم فيمسكون "الزِّيزة" وينظرون في عيني فألاغيهم .. ويضحكون حتى يفيض الحليب من بين شفاههم الصغيرة

أريد أن أحضنهم وأدسّهم في حضن قلبي

أن أشعر بأنفاسهم الطيبة

أريد أن أشتمّ رقابهم الناعمة...

أريد أن أستمع إلى كلماتهم المعوجّة وهم يتعلمون النطق و التعبير ... فأضحك حد الدّموع .

مضى وقت طويل على تلك الكلمات وتلك الضحكات

أريد أن أحكّ أنفي على صدورهم الصغيرة وأنا أحمّمهم وألبسهم أثوابهم

وأدغدغهم ... فيضحكون قهقهات عالية ويمسكون شعري بأيديهم الصغيرة ليمنعوني من دغدغتهم

أريد أن أصرف راتبي في شراء ملابس العيد لهم

واللُّعب

والأدوات المدرسية

ماذا أفعل براتبي؟

لقد كبروا

وابتعدوا عنِّي في متاهات الحياة

أصبح المنزل نظيفا

دائما نظيفا !

لا أحد يدخل بحذائه الملطّخ بالتراب أو بماء المطر بعد ما انتهيت من تنظيف القاعة

لا أحد ينفلت منه كأس الحليب أو صحن الفطور فيتكسّر وأعيد التنظيف من جديد

لا أحد يلطخ ملابسه الجديدة بالشكولاطة أو المثلجات .

ترى هل كنت أُكبِّرهم كي يبتعدوا ؟

أستفيق الصباح وأهمُّ بالنهوض ثم أتراجع ... لماذا أنهض

لمن أنهض ...

ما أوسع المنزل

وما أفرغه

أقلب الأمكنة وأشعر بضباب ساخن يجتاح عيني..

ألتفت حولي فتترائى لي قاماتهم الطفولية البديعة

وهم يملؤون الدنيا صخبا ولعبا ولُعبا وبعثرةً ... ودفئا

لكن سرعان ما يهفت الصَّخب ويبتلعني الصَّمت يسلِّمني إلى وحدتي

أينهم ...

مازلت أستفيق كل ليلة كعادتي لأتفقدهم وأغطي من أزاح عنه غطائه ...

ترى هل كان علي أن أتركهم صغارا

لألفّهم تحت أجنحتي ... أتدفَّأ بهم عندما أشعر بالبرد.. كيف !

أصبحت أجلس الآن كلَّ يوم قبالة الباب وأنتظر ...

أنتظر ماذا؟

أن يدخل علي أحدهم ....

ويطول الإنتظار

أصبحت أفهم الآن لماذا كنت عندما أعود إلى منزلنا بعد غياب أجد دائما أبي جالسا قبالة الباب .

***

زهرة الحواشي

وغالباً  مايأتني سؤالْ

من أينَ  أينَ  أنتَ

ما  الجنسيةْ

أُجيبهمْ بكلِّ كلِّ فخرٍ

جنسيتي

هويتي

ثقافتي

عربيةْ

عربيةٌ كانتْ

وماتزالْ

وكلُّ مافي أرضِنا

من حالةٍ آنيةٍ

قسريةْ

من عارضٍ وزائفٍ

وسلطةٍ

رسميةٍ شكليةْ

وخرائطٍ

مرسومةٍ

بطريقةٍ عبثيةٍ غبيةْ

صناعةٌ غربيةٌ

غربيةْ

مصيرها

الزوالْ

وكلُّ ما نسمعُ من شجبٍ

أو استنكارْ

وقممٍ يتبعُها قرارْ

فصولُ مسرحيةْ

يكتبُها التجارْ

ليسلبوا القضيةْ

من عهدةِ الاحرارْ

لكنْ لسوءِ حظهمْ

شعوبنا ذكيةْ

لا تقبلُ استحمارْ

تعرفهمْ من شكلهمْ

من ربطةِ العنقِ

إلى العمامةْ

والعقالْ

فكلّها ياسادتي

تأتينا من (بيغالْ)

شعوبنا ياسادتي

لاترحمُ الانذالْ

وتحملُ التاريخَ

في أذهانها

وتعرفُ الابطالْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

هجرتُ في هجرِ مَن أحببتُ عافِيَتي

أواهُ من وَجَعٍ في القلبِ صدّاحِ

*

العاشقونَ إذا ما البينُ داهَمهُم

ما خلتُ يحتاجُ ما عانوا لإيضاحِ

*

إنَّ الذي ملك الأحشاءَ مزّقَها

بهجرِهِ ، حَملًا في كفِّ ذَبّاحِ

*

كم ذا أتوقُ إلى طيفٍ ألوذُ بِهِ

درعًا يقيني سِهامَ الهجرِ في السّاحِ

*

يا طيفَهُ يومَ كانَ الوصلُ يكتُبنا

شِعرًا فهلْ مِنْكَ قد نالتْ يَدُ الماحي

*

لا زلتُ أذكُرُ مثل الحلمِ فتنتَه

أيّامَ يسكبُ خمرَ الدلِّ في راحي

*

فكَمْ تَمَلَّيْتُ فِي صُبْحٍ بِوَجْنَتهِ

كأنَّها الصُّبْحُ في وجْناتِ أصْباحي

*

وَكَمْ تَرَشَّفْتُ شهداً من مَلاغِمِه

ما صُبَّ في عَذْبِهِ خَمْرٌ بأقْداحِ

*

وَكَمْ تَغاضَيْتُ عَنْ نَحْلٍ بِمُقْلَتِه

فَنَحْلُ مَبْسَمِه فِي عَيْنِه صاحِ

*

وَكَمْ تَنَشَّقْتُ مِنْ جِيْدٍ يَمِيْسُ سَناً

كَياسَمِينٍ بوجه النّسْمِ  فَوّاحِ

*

وكم غزا الخجلُ الشرقيُّ في دَمِهِ

دَمي كَنُورٍ على الأرْجاء مُجْتاحِ

*

عِناقُ رَيْحانِه مُغْرٍ فَيَحْمِلُني

على سَفائِنِ سَعْدٍ ذاتِ ألْواحِ

*

شوقي إليه كمِحراثٍ  يُهَيِّضُني

كأنّني مِنهُ أرضٌ وهْوَ فلاّحي

***

مصطفى حسين السنجاري

أحتاجُ مكانا قصياً أَبرأُ فيه من أزمنةِ الصَّبر

أُرَممُ الروحَ الْـ مَزقتْها الحِواراتُ الهَوجاء

عَليّ أُغادرُ مَحطةَ الخُسران

أَحتاجُني.... كَيْمَا أَرتعِبَ

كُلما طَالعَتْني الصُفرةُ في المرآة

لتُثبتَ أَني بَقايا عَهدٍ مَضى

اِبْتسامةٌ أَفَلتْ قبل اكْتمالِ الاسْتدَارة

*

هيَ الأوجاعُ كما عهِدناها

تُشكِّلُ الملامحَ بما يُمليهِ الزمان

دمعةٌ انسكبَتْ...

تُبللُ المَدى المَجْبُولَ على الألمِ

على مَوَاعيد مُلغاة

نُقشتْ تَواريخُها على شاشة الأُفقِ

عُربون مَحبةٍ لأمسٍ يَأبى الأُفول

*

عندَ باب الروحِ...تَتآزرُ التناهيدُ

تُقيم الخيبةُ... وليمةَ ندمٍ

في العيونِ حُمرةٌ...تُؤرخُ الانْهزام

على الجبينِ غُرةٌ تُثبتُ أني

لن أَكونَ مُجردَ عابرِ سبيلٍ

تَسللَ إلى الأرشيف دونَ انتباهةِ القصيد

اِستعارات الخوفِ الـ تُخفي وجهَ الغدِ العَنيد

وانْزِياحَات التَّرددِ

التي تَعتقلُ الحلمِ عند قَوسِ احْتراق

*

بِحروفٍ مائيةٍ أَرسمكَ

لوحةً مُجانسةً للعتمةِ...معاندةً للبياض

ظلالاً ثابثةً على الجِدار

تَعتاشُ على ابتسامةٍ باهتة

عقارب ساعةٍ لا تَتوقفُ مهما ابْتهلتِ الروح

وصوتُ البومِ المُنذرِ بسوءِ الطالعِ

لا يَنفكُ يَهزُني من ناصيةِ الصمتِ

كأنما يُمهدُ الطريقَ للنارِ الزاحفةِ نحوي

وأنتَ... يا أنتَ الهاربُ من محطاتِ اليقينِ

المتعثرُ في الهفَواتَ

سيُدركُكَ الشعرُ حيثُما ولّيت

فالقصائدُ جنودي..وأنتَ متهمٌ بالعبثِ

في الميادينِ المقدسةِ للأرواحِ الطاهرةِ

مُثقل بِشواردِ الليلِ....ورسائلِ الأرقِ

المفعمةِ بالحكايات المبتُورة

ستَتعثرُ في المَرايا

وصدى التّناهيدِ المُرتدِّ نحو خاصِرة البِداية

***

مالكة حبرشيد - المغرب

دنت مني بخطىً متردّدة وجلة. أرسلت نظرة حافلة بالمعاني إلى عيني. وقبل أن أفيق من المفاجأة سألتني وهي تنشر ابتسامة مَن يريد أن يعرف:

-قيل لي إنك ساحر تقرأ البخت.. وتكشف خبايا المستقبل.. هل هذا صحيح. قالت.

لم يكن ما قالته غريبًا عنّي، فقد أشاع شيخ مسنٌّ فاشل أوقعته الظروف في طريقي، أو أوقعتني للدقة..، أنني رجل ساحر. وكنت كلمّا ترددتْ أمامي تلك الصفة النازلة عليّ من سماء ذاك المُسنّ، ابتسم ولا أعرف ماذا أقول، فأنا أعيش منذ سنوات وحيدًا منبوذًا مثل طائر كبُر صغارُه وانصرفوا عنه وعن عُشه بعيدًا، حتى أنثاه تركته مدّعية أنها ملّت سجنه لها. أرسلت نظرة إلى تلك الواقفة قُبالتي تنتظر الإجابة، فكّرت فيها، إنها في الستينيات أكبر أو أصغر منّي بسنة أو سنتين. وهي جارة طالما رأيتها تخرج من بيتها في العمارة المحاذية لتلك العمارة التي أقيم في إحدى شققها المنزوية، وطالما رأيتها تحتضن كيسًا صغيرًا بيدها، وتضع فيه عبوة تراها على هذا السور الواطي أو ذلك المُرتفع الترابي. أما الآن فإنها تقف قُبالتي وأنا لا أعرف بأيّ من الكلمات يمكنني أن أجيبها، وقبل أن أضع يدي على صدري علامة الاستغراب، أرسلت نحو عينيّ نظرة حيية:

-أعرف أنك ساحر.. طالما رأيتك تحمل الكتب وتمرّ من هذا الشارع.. صمتتْ ربّما لترى ردة فعلي وتابعت: إنني بحاجة لأن تقرأ لي حظّي.. لقد ذهبوا جميعهم ليقيموا في بلدات بعيدة وبقيت وحيدة.. بعد أن ولىّ طائري السعيد.. أريدك أن تقرأ لي حظّي.. هل سيعودون إلىّ في يوم ما؟ وهل سيدور الزمن دورة أخرى لأجدهم هنا.. معي وإلى جانبي؟ لقد مللت الوحدة.

صرفت نظري بعيدًا عن تلك المرأة.. إنها تشبهني من كلّ الجهات.. ويجمع بيني وبينها أكثر من وضع.. فماذا أقول لها؟ هل أجعل من نفسي ساحرًا كما أرادني ذلك المُسنّ الارعن؟ أم أخبرها أنني إنسان بسيط.. أكثر بساطة منها.. وأنني أنا مَن يحتاج لاستطلاع بخته.. وليس هي.. انتشر بيننا صمت مترقّب.. كان أكبر مِن طاقتي فاستأذنت منها ومضيت في طريقي، وسط دعائها لي بأن يوفقني الله وأن اقرأ لها طالعَها. أرسلت نظرة إلى الوراء.. كانت متوقّفة هناك كأنما هي خسرت عالمًا بأكمله وليس أحباء وأعزاء فحسب.. يبدو أنها أنست إلى نظرتي تلك ورأت فيها بعضًا من حنوّ افتقدته وتاقت إليه نفسها، هتفت بي شاقة ذبذبات الصمت المحيطة بنا.. هي وأنا.

-إلى أين انت ذاهب.. تعال الآن زُرني في شقتي.. إنها ليست بعيدة.. أنا جارتك أقيم هنا في ذلك المبنى.. تعال معي الآن.. أنا سأدفع لك.. لا أريد أن تقدّم لي خدمتك الغالية مجانًا..

أثارتني كلمات تلك المسكينة. فتحت عيني ذلك المسكين الهاجع في داخلي. تصوّرت نفسي أمضي وراءها دون إرادة منّي.. مسوقًا بنوع رهيب من الاشفاق على الذات.. قبل الآخر.. مضت تلك المرأة بظهرها المنحني وسنواتها الثقال.. مضت أمامي ومشيت وراءها كأنما أنا مسوق إلى متاهة لا نهاية لها.. فتحت باب شقتها بيدين راجفتين.. تريد أن تدخل إليها بسرعة مّن عثر أخيرًا على كنزه الضائع.. طلبت مني أن أجلس على أريكتها القديمة الشبيهة بأريكتي العتيقة.. الضاربة في القدم.. وتوجّهت من فورها إلى مطبخها بالضبط مثلما أتوجه إلى مطبخي عندما تركبني لحظةُ أملٍ طروب.. التفتت نحوي وهي تحمل غلاية القهوة بيدها الحالمة:

-سأغلي لك أروع فنجان قهوة.. أنا لا التقي كلّ يوم بساحر محترم مثلك.. أريدك أن تخبرني بكلّ شيء.. لا تخبّئ علي.. رحمة بي.. قُلّ لي كلّ ما تراه في فنجاني.. أنا تعوّدت على الوحدة وعذاباتها.. لم يعد شيء يؤثّر بي.. خسرت كلّ شيء.. أعدك أن أتقبّل قدري بالضبط مثلما تقبّلته منذ تركني ذلك السكير اللي ما يتسمّى.. لأعيل أبنائي الثلاثة.. ابنتي وابني.. لقد ضحّيت مِن أجلهم بكلّ شيء.. عندما كبروا انصرفوا واحدًا وراء الآخر ليقيموا في بيوتهم.. ولينجبوا لي الاحفاد.. أنا لا أزورهم كثيرًا.. ابنتي الصغرى كانت الأولى في جلب الاحفاد إلى الحياة.. بعدها ابنتي الكبرى.. ابني الوحيد.. أوسط أبنائي.. فشل في حياته.. تزوّج.. أنجب ابنتين.. وتعلّق بامرأة أخرى.. ترك زوجته وابنتيه وعاش مع إمرأة أخرى مطلّقة.. هواها قلبُه.. أنجبت له ثلاث بنات ما زلن صغيرات.. مثلّ براعم الورد.. طمني على ابني.. ابني مسكين.. أريدك أن تقول لي كلّ شيء.. عن ابنتي.. الصغرى والكبرى.. وعن الاحفاد هل سيكون حظّهم في الدنيا أفضل مِن حظي؟

_مَن هذه المرأة.. قلت في نفسي وتابعت.. ترى أتكون قرينتي. جاءت إليّ.. لتخرج من داخلي كلّ ما احتقن هناك من آلام وآلام؟.. سيكون خير يا أخيتي.. سيكون خير.. تمتمت بيني وبين نفسي.

بعد لحظات قصار وضعت صينية القهوة على منضدة منخفضة بيننا.. سكبت القهوة في فنجاني أولًا بعدها في فنجانها.. بينما أنا افكّر فيما سأقوله لها.. وكيف سأقرأ لها طالعها.. كرعتْ فنجان قهوتها بسرعة طائر يريد أن يلحق يصغاره المولّين في سماء بعيدة.. وقدّمته لي:

-اقرأه لي.. اقرأه لا تخفِ عنّي شيئًا.

تناولت الفنجان الحزين من بين يديها، وشرعت أتمعّن فيه.. كان فنجانها أشبه ما يكون بأم المتاهات.. استنشقت نفسًا عميقًا:

-سأخبرك بكلّ شيء.. لن أخفي عليك شيئًا.. قلت وأنا أتفحّص في فنجانها. وشرعت في قراءتي التاريخية.

-اسمعي جيدًا.. اسمعي يا أخيتي.. أنت تعذّبت كثيرًا.. بدايات حياتك كانت عادية.. مشاكلك ابتدأت بعد زواجك مِن ذلك السكير اللي ما يتسمّى.. وأخذت تكبر رويدًا رويدًا.. كل يوم كان يضاف عذاب إلى عذاب عتيق.. وكنت كلّما أنجبتِ ابنًا جديدًا تتأملين خيرًا.. وتعدين نفسك بأيام أفضل.. بقي وضعك يجري على هذا النحو.. بعد أن انصرف ذلك الوبش.. أنت تعذّبت كثيرًا.. لكنك حرصت على توفير الحياة الرغيدة لصغارك حتى كبروا..

ما إن قلت لها هذه الكلمات حتى فتحت عينيها على وسعهما:

-كنت أعرف أنك نبيّ تعرف كلّ شيء.. كمّل.. كمّل.. ماذا تحمل لي الأيام القادمة؟ سألتني بحُرقة..

-اسمعي.. بعد إشارة أو إشارتين.. أو ثلاث إشارات.. أعني بعد يوم بعد يوم أو أسبوع.. أو ثلاثة.. لا أعرف.. أرى مَن يدخل إليك طالبًا منك مساعدة ضرورية.. وسوف تقدمينها له.. قلت فردّت بحبور:

-إنه ابني.. هل هو ضعيف؟ سألتني.

-نعم إنه ضعيف. أجبت.

هزّت رأسها علامة الموافقة والثقة..

-كمّل.. كمّل.. ماذا تُخبّئ لي الأيام.. قالت.

فتابعت:

-إني أراك تفكرين.. بماذا تفكرين.. أعتقد أنك تحنّين إلى صغار ابنتك الصغيرة.. ستزورينهم في القريب.. كما أنني أرى ابنتك الكبرى مشتاقة إليك..

ابتسمت المرأة كأنما هي وجدت ضالتَها المفقودة.. طلبتُ منها أن تطبع إبهامها في قعر فنجانها كما رأيت بصارة تفعل.. مدّت يدها وسط رقصة خفيفة من رأسيّ خديها.. ومهرت فنجانها بأجمل بصمة. ابتسمت.. لقد تعذبت كثيرًا.. بصمتُك تقول إنك ستفرحين كثيرًا أيضًا.. وأن أبواب الفرج بانتظارك لتدخلي إليه. أيامك القادمة ستكون أفضل من تلك التي مضت.. سيعوّضك الله عمّا عانيته وتعذّبت بسببه..

أطل من عينيّ المرأة قُبالتي فرحٌ شعرت أنه هجع هناك طوال أيام عمرها.. قالت وهي تشيّعني نحو باب شقتها مكسور اليد:

-شكرًا لك.. كنت أعرف أن الله سيعدّلها معي.. وان ابني الحردان سيزورني في القريب.. كنت أعرف أن الله لن ينساني.. وأنّه سيستجيب لدعاءاتي. وسوف يفتح لي طاقة الفرج الموصدة.. منذ سنوات. طويلة..

عندما توقّفت لصق باب الخروج.. مدّت نحوي يدًا حيية.. وهي تقدم لي مبلغًا مِن المال.. خذ.. خذ.. هذا حقّك.. لقد قرأت لي طالعي كأنما أنت كنت معي وتعرفني منذ البداية حتى هذه الايام.. قلت لها وأنا أفتح الباب وأخرج منه حاملًا آلامي وآلامي.. في المرّة القادمة في المرّة القادمة.. ومضيت في طريقي وأنا أفكّر في نفسي.. وفيما أتمنّى.. أما تلك المرأة.. فقد كانت تشبهني.. ولا أخفي أنني شعرت طوال زيارتي لها تلك.. أنها قرينتي.. وأنني يُفترض أن أقول لها ما رجوته من الدنيا و.. ما تمنّيته.

***

قصة: ناجي ظاهر

مَازلتُ لمْ آتِ

لَا الشّمسُ ...لا اَلْقَمر

لَا النّجُومُ

أظهَرتْ فِي هَذَا الزّمَن

آيَاتِي

*

مازلتُ لم آتِ

حتّى ضاربُ الرّمل

لا يعلمُ

ولا قارئُ الكفّ

ولا عرّافةٌ

من العرّافاتِ

*

مازلت لم ٱتِ

وَحدَها جنيّةُ النّبع

في جُزُر واقِ الواقِ

تَعْرفُ أوْصَافِي

وَمِيقَاتِي

*

ما زلتُ لم آتِ

عاليًا وبعيدًا

حَرْفًا حَرْفًا

تَحْبُو

مازالت كَلِماتِي

*

مازلتُ لمْ آتِ

حِبْري يُخْضُورٌ

ونَسْغٌ في الجُذُور

قَطرةً

يَرْشَحُ قطرةً فِي دَواتِي

*

وإنّي آتٍ

لستُ على عَجَل من أمْري

بِالخَطوةِ الأولَى

تبدأُ كُلُّ المَسافاتِ

*

إنّي آتٍ

مُرَفْرفًا

خافقَ الجناحين

معَ المَدَى تِلو المَدَى

من كُلّ الجِهاتِ

*

إنّي آت

فِي حَفِيفِ النّسيم

في صَخَب البَحْر

في همْس الصّحرَاء

فِي هَسِيس الغاباتِ

*

آتِ

كالعَواصف مُدَمْدِمًا

كالزّلازل مُهَدّمًا

حَجرًا عَلى حَجَرْ

لَا أُبْقِي ولا أَذَرْ

عَلى كلّ الطّغاةِ

*

آتٍ

نَحْوَ العابرينَ من الأقاصِي

في زوارق المطّاط

فإذا البحرُ هاجَ وماج

أرمِي إليهم

قواربَ النّجاةِ

*

آتِ

كَوَهْج لذيذِ الجَمر

في صَقيع الفَجر

للكَادِحين والكادِحات

يَسْعَوْنَ فِي الظّلُمات

*

آتِ

في القحْطِ.. أنا أخضَرُ

في الصُّخور... أنا أَبْذُرُ

ومن سَحِيق السِّباخ

أحصُدُ صَاباتِي

*

آتِ

من بعيدٍ... بعيدٍ

لا رفيقَ لي

إلا ظِلّي والعَصَا

ومِخلاتِي

*

آتِ

مع شَمسِ الصّباح

للسّوسَن والأقاحِي

للنّسرين والياسمين

أنشرُهُ على الطّرقات

*

آتِ

بالجديد

بِمَواعِيدِي وَأنَاشِيدِي

بِوُعُودِي وَعُهُودِي

وَبُشرَى فُـتُـوحَـاتِي

*

آتِ

مع هوادج الأعراس

مع أفراح الناس

بالطبول والبارود

والزغردات

آت....آت...آت

!...فاِنتظرُوني

***

سُوف عبيد

انتهى الأمر بإرجاعهم إلى مطار (س) مكبلين بالاحباط، والوهن، كان المساء ينذر بالبرد، والهلع، والترقب، حتى أن أحدهم تم صفعه واحتجازه في مطار (ص) يوم سأله أحد الضباط عن جواز سفره أثناء التحقيق.

أحس صاحب المعطف، ومن معه أنهم باتوا أمام منعطف ربما يسوقهم إلى الحبس، والاعتقال، لولا بصيص أمل ضعيف، حتى أمسى أكثر الحاضرين توبيخا لنفسه، مستسلما لمعادلة تأنيب الضمير، بعد أن وضع عائلته تحت قيود المساءلة القانونية، تتابع ذلك مع ليال توالت آفاتها مع هذا النوع من الأزمات.

جرى احتجازهم في مطار (س) والذي يشبه فنادق الخمس نجوم، وهذا ما يخفف عنهم بعض العناء، رغم أنه ليس لديهم الحق في الحركة خارج المطار، بل وحتى المطالبة بعلاج بسيط لنزلات البرد التي عصفت بأكثرهم.

أمست مظاهر الكرب، والانزعاج مألوفة مع أقصى حالات التوتر التي ترافقت مع النعاس، وفقدان النوم، ومشاجرة البعض مع البعض الآخر.

لم يعد بإمكانهم شراء ما يطلبون إلا من أسواق المطار حيث ترتفع الأسعار بشكل مضاعف، فتكلفة زجاجة الماء يصل إلى ثلاثة دولارات، أما الطعام فلا قدرة لهم على شرائه بما في ذلك علب الديدان، والصراصير البلاستيكية المغلفة والمعدة للبيع، والتي بسبب الجوع صار البعض يشتهي تناولها.

مضت الأيام مخيفة مملة، ولم يبق لديهم إلا القليل، حيث لم يعد هنالك ما يكفي للمأكل والمشرب، صاروا يطلبون قناني الماء من القادمين، أو المغادرين، حتى أن رجل دين من أصول لبنانية أثرت به حكايتهم، وراح يستمع إليهم مؤملا إياهم أنه سيدلي بخبرهم إلى الأمم المتحدة، أو منظمات حقوق الانسان، متبرعا لهم بمبلغ بسيط.

دبَّ الاستسلام في جوارحهم، حتى ساقهم إلى التسليم لما حل بهم.

بدا صاحب المعطف الأزرق منزعجا حيث تراجع الأمل لديه مثل سحابة انكمشت بعد أن عبثت بها سطوة ريح عاصف.

افترشوا زاوية تقبع في الطابق العلوي من المطار بالقطع الكارتونية التي عادة ما يتم الاستغناء عنها من قبل بعض المحلات التابعة، لعلها تقيهم برودة الأرض، عند النوم عليها مع استخدام ملابسهم كأغطية.

كان التحقيق يجري معهم في ساعات الليل، وكانوا يسمعون صراخ البعض ربما أثر التعذيب، لكن يبدو أن هذا البعض يعود إلى صنف آخر من المحتجزين، لا أحد يعرف حكايتهم.

أما هم فكان التحقيق يجري معهم للإجابة فقط عن الاسئلة المتعلقة بسفرهم.

أقبل صاحب المعطف الذي كان يأمل خبرا، يقيهم شر ما تعرضوا إليه، منكسرا بعد استكمال التحقيق معه، وأبلغهم بنبرة حزينة بأنه قد تم إبلاغه بأمر الاستعداد للعودة بعد أيام.

***

عقيل العبود

....................

الحلقة الثالثة ماذا حل بهم يوم عودتهم إلى دولة (ق)؟ سيأتي في الحلقة ٣.

 

هرب من مدينته التي غيرت ملامحها الحروب واكتست جدرانها واجساد النساء فيها بالأسود وشح في دروبها الرجال وذاق صغارها اليتم الى مدينة قصية تقضي ليلها في الحانات والمراقص وتمضي نهارها نوما في الفنادق والشقق المؤجرة للوافدين الذين ينعشون اقتصادها واسواقها وبورصة العهر هناك ولم يملك من أدوات غير وسامته ولباقته ومهنة لازبائن لها في المدن التي لا يسمع فيها صوت الرصاص وازيز الطائرات الحربية .

. وصل إلى مركز المدينة في الصباح فوجده شبه مقفر الابواب مقفلة والستائر مسدلة وإعداد قليلة من المارة والسيارات يمرقون بسرعة ويختفون، بحث عن مقهى يستريح فيها ويشرب الشاي ثم يسلم مصيره إلى قدره حيث يقوده إلى ما يشاء

. طلب لنفسه شايا وقطعة كعك وعينه تراقب الشارع الخالي فرمت عليه التحية امرأة خمسينية بجسم ممتليء وعيون ملونة وبشرة بيضاء واستاذنته بأدب للجلوس معه على نفس الطاولة ودخلت معه فورا في حديث ..

. انت غريب؟

. نعم

. متى وصلت؟

. قبل أقل من ساعة

. سائح من دول البترول أو باحث عن عمل؟

. انا من دول الحروب هارب من الموت والدمار باحث عن امان وعمل يسد مردوده رمقي ويبقيني على قيد الحياة

. هل لديك مهنة؟

. نعم لكنها قد لا تنفع هنا

. ربما تكون صادق فأنت في بلد يتحرك في الليل ويخمد في النهار

. وكيف يعيش اهل هذا البلد؟

. على جيوب أمراء البترول وتجار الحروب وسماسرة السياسة وهز الوسط وبيع الجسد وتجارة الخمور

. كلها أعمال لا انفع فيها وأمور لا اصلح لها

. تبدو وسيما وصوتك ريان وفيك لباقة وهذه أمور ذا منفعه

. وكيف يتم توظيفها؟

. تعال معي وساعلمك

. وجد في شقتها كل أسباب الراحة وأعدت له فطورا ثم اوصلته الحمام وطلبت منه أن يغتسل من وعثاء السفر ثم ينام لساعات ليريح جسده المنهك وعند ساعات الظهيرة ستعود لشقتها ويكون بينهما حديث يرتبان فيه ما يتطلب عمله في القادم من الايام

. دخلت الشقة بهدوء رغم ما تحمل من حاجيات ولوازم رجالية من ملابس وعطور وأحذية فوجدته ينتظرها محتار لا يعرف ماذا يفعل للوضع الذي هو فيه فطمئنته وطلبت منه أن يكون هادئا ويجيب على أسئلتها بدون خوف وبدأت معه ..

. لماذا تركت بلدك؟

. سامت الحياة هناك

. أعزب؟

. نعم

. كم لغة تجيد؟

. الإنكليزية باللكنة الامريكية واللغة الام

. هل ترغب بأن تصبح ثريا مشهورا تتزاحم عليك الحسناوات؟

. ومن يكره هذا الحلم؟

. اذا عليك اطاعتي من دون اعتراض أو نقاش؟

. تحت امرك

. ساخفيك شهرا في مكان بعيد تتعلم فيه ( الاتكيت ) وفنون التعامل مع الآخرين بينما انا ارتب للوضع القادم وخلال هذا الشهر ساجهز لك جواز سفر أمريكي يختم بختم سلطات الميناء يوم الإعلان عن وصولك

. ولكن لماذا تفعلين ذلك وما مصلحتك فيه؟

. هذا اول الأسئلة المرفوضة واعلم أن مصلحتنا واحدة وسانفق من جيبي انا ولا يكلفك ذلك شيئا

. اتفقنا شرط ان لا تعرضينني للمسائلة القانونية

. لك ذلك وساحميك من كل مايخيفك

. اخذت كل أوراقه الثبوتية وحملته بسيارتها الى مكان نائي واعلمته باسمه الجديد وشددت على أن لا يذكر شيئا من ماضيه أمام أحد ولايتكلم غير الإنكليزية بلكنتها الامريكية ثم دست في جيبه مبلغا ضخما واوصته بالتعلم السريع وعدم البخل على نفسه .

. بعد يومين من اختفاءه صرحت في أحد الصالونات المرموقة في العاصمة بأن قريبها الثري الأمريكي سيزورها من أجل القيام بمشاريع استثمارية هنا وستكون هي مديرة أعماله والمشرفة على كل أستثماراته في البلد وخلال أيام عرفت أغلب الصالونات اسم قريبها الثري وشاهدوا صوره وهيئوا أنفسهم للتعامل معه في مشاريعه المنتظرة وبعد انتهاء مدة الدراسة أرسلت من يذهب به إلى دولة مجاورة ويعيده إليها عن طريق البحر .

. استقبلته في الميناء بهيئته واسمه الجديد بسيارة فارهة وذهبت به إلى شقتها ثم أعلنت عن حفلة استقبال مصغرة دعت لها مجموعة صغيرة من الرجال والنساء وتم التعارف ورحب به الحاضرون وشربوا نخب وصوله بسلام

. بعد أيام استأجرت مكتب فخم وعينت موظفين وأعلنت عن إنشاء ناطحتي سحاب وفندق وأعلنت البيع فورا وهكذا تزاحمت المشاريع وجرت بين ايديها النقود وأقيمت الحفلات والاماسي وتزاحمت على المستثمر النساء حتى اضطرت إلى إخلاء شقتها له يقضي فيها خلواته بمن يقبل مواعيدهن وبعد مرور ستة أشهر من دون أن يظهر على الأرض شيئا توجس خيفه وشكا له وساوسه فطمئنته وطلبت من ان يبقى متماسك حتى الليلة القادمة

. في نهار اليوم التالي ذهبت به لشارع المصارف وحولت للخارج مبلغا باسمه القديم يكفيه العيش برفاهية لمئة سنة أخرى وحولت ما تبقى من مبالغ باسمها الى دولة بعيدة وعند العودة سحبت منه جوازه الأمريكي وبقية الأوراق وسلمته أوراقه القديمة وطلبت منه مغادرة البلد عن طريق الميناء فورا وبعد تاكدها من مغادرته استدعت اثنين من اعوانها وعقدت معهم اجتماع ثم اوصلها السائق للمطار وغادرت بشكل أصولي بحدود الساعة الثامنة مساء على مرأى من سلطات المطار

. في الصباح عثرت الشرطة قريبا من الشقة التي يسكن فيها على جثة قتيل مهشم الوجه تماما وقريبا منه جواز المستثمر الأمريكي وبقية أوراقه وبنفس الملابس التي شوهد فيها عصر أمس مع وجود علامات على أن الشقة تعرضت للاقتحام والسرقة فنشرت الصحف المحلية في عناوينها .. (مقتل مستثمر أمريكي وسرقة كافة امواله بعد سفر مديرة اعماله بساعات في مهمة تخص العمل).

***

راضي المترفي

 

لأنثى الظلِّ أشكو ما اعتراني

شكايةَ مستجيرٍ من هوانِ

*

لأنثاي التي سكنتْ فؤادي

وأحداقي ولم تبرحْ لساني

*

احبك لم ازل في الروض طيرا

أغني ما تداعى في الجنانِ

*

اناديكم وصوتٌ بعدُ يشدو

حبيبَ القلب دعني في مكاني

*

أنادي الليلَ هل في الليل نجمٌ

فأستهديهِ نحو رُبى الأمانِ

*

انادي الليل هل في الليل كأس

يبدد صمت طاولة المكان

*

اليس الحب يملأ بيت قلبي

ويغسل كل ادران الزمان

*

وتسأل عنك روحي كل حينٍ

وتبكي غربة الروح المغاني

*

احبك كلما غنى يمامٌ

وأشتاق الأماكن لو تراني

*

حبيي انتَ من عينيَّ نورٌ

ومن قيثار حنجرتي الأغاني

*

أما من طائر يأتي مساءً

يشيع الأنس من قاصٍ ودانِ

*

يبدد وحشة الروح انسكابا

ويطلق قيدها بعد ارتهان

*

يضيء جوانحي آنا بآنٍ

ويُدخلني فراديسَ الأماني

*

تلاقينا وما في القلب وجد

لغير حبيبتي قمر الزمان

*

هباها الله  كوناً من بهاءٍ

وأفردها على الدرر الحسان

*

لقد عادت بنا الروح اشتياقا

فذاك الدرب يعرف ما نعاني

***

د. جاسم الخالدي

ووقفت أنتظرُ الفرجْ

خدُّ الحبيبة ما أرَجْ

*

في النفس عشقٌ دافقٌ

كالنّور في ظُلَمٍ ولَجْ

*

أحيا بقلبٍ هائجٍ

كالموج في بحرٍ لججْ

*

والنبض مأسورٌ؛ بضلعِيَ

ثائرٌ، بالأسرِ ضجْ

*

مترقّبا حريّةً

لتحين من بين الفُرَجْ

*

حتّى أتاه أوانها

ما كان وهنٌ أو خَلَجْ

*

من نارِ عشقٍ لاظيةْ

كالطّير مفزوعا خَرَجْ

*

يا قلبُ يكفي رجّةً

بالله ما هذا الهرَجْ؟!

*

فصباح يومِيَ قد مضى

وأُحسّ روحِيَ في حرَجْ

*

حتّى تزورَ بحسنها

لا تعرف العينُ البلَجْ

*

كالشّمس يشرقُ وجهُها

فتضيءُ نفسي بالوهَجْ

*

تسبِي إذا تمشي بنا

كلَّ الجوارحِ والمُهجْ

*

ليسود صمتٌ مذهلٌ

تُخفي بهمستها المَرجْ

*

وتظنّ أنّكَ فائزٌ

في جنّةٍ وقد ابتهجْ

*

قلبيْ أسيرُ دلالِها

شدّت قيودِيَ بالغنج

*

الثّغرُ منها كوثرٌ

يا حظّ مَن مِنها فلَجْ

*

والنحرُ منها مشرقٌ

يروي برونقه الحُجج

*

عن كلّ حسنٍ غائبٍ

لكنّهُ بالضوء هَجْ

*

يا غصن لا تخفي الثّمر

لا تشتكي فالنبضُ لَجْ

*

متمَرّدٌ إيقاعهُ

كالنّارِ بالأحلام أجْ

*

وازدانَ نهرا صافيا

يهب السعادة كلّ فجْ

*

يا غصن حسنُكَ بيّنٌ

مهما حياؤك قد وشَجْ

*

أو رام نسّاجٌ بهِ

يخفيه خاب وما نسجْ

*

فترى المحاسن ترتقي

ويكون حُسنا مزدوجْ

***

صلاح بن راشد الغريبي

عيناك كانت موطناً

وملاذا

لاتسأليني

كي أقولَ لماذا.؟

أنا شاعرٌ

أهوى الجمالَ

طبيعتي

ولقد عشقتُ

جمالَها الأخاذا

قد أوقعتني

في شباكِ شراكِها

وغدوت صيداً

يطلب الإنقاذا

أصبحتُ

تلميذاً

أتابعُ شرحَها

قد كنتُ قبلَ

ظهورِها أستاذا

يالائمي

هل كنت تعرفُ

ما الهوى

لو كنت تعرفُ

لم تلمْ

يا هذا

أنا عاشقٌ

من بين آلاف

الورى

هذا الصوابُ

ولن يكون

شواذا

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

(باب الغرفة)

 شقَ شعاع الضوء المنبعث من مصباح الشارع ظلام الغرفة في إستطالةٍ تنكسر عند أطراف أسِرتنا المتقاربة، وكعادتي كل ليلة، رحت أنتظر أن يتوسط ظل رأس رجل تلك المساحة الفضية المرتسمة على الأرض، يطل علينا من خلف السياج، يرقب كل حركة نأتي بها، ولعله أيضا يحاول التلصص على أحلامنا التي يخشى كلٌ منا سردها أمام الآخرين في النهار المشحون بالخوف من أبسط الأمور منذ أن حلت بنا الكارثة وبتنا ننام في أوسع غرفة في الدار، نتلمس بعض الأمان من وجودنا معا، وربما لأن أمي فكرت إننا بهذه الطريقة سوف نواجه نفس المصير وفي ذات الوقت، إن شاؤوا تصفيتنا نحن أيضًا، أو أنها ودت التدثر بأحضاننا المرتعشة لآخر ثانية قبل أن ينتزعوها من بيننا ليجرجروها بجلبابها نحو إحدى سياراتهم ذوات الزجاج المظلل والسريعة دومًا، كالتي كانت تقف أمام باب بيتنا تلك الليلة.

 سبقتُ أنا الجميع نحو الباب، فتحته وكماشة التشنج تقبض على جسدى بقوةٍ متعاظمة، وقد أدرك معدتي ألمٌ مفاجئ، ثم أحسست إن عيني أوشكتا على الخروج من المحجرين، تسابقان تلعثماتي في سؤال الرجل المتأنق المبتسم عما يريد، دون الالتفات لتحيته، طلب محادثة والدتي، وقبل أن أستجمع شجاعتي لأسئله عما يريد منها هي الأخرى فاجأتني بوضع يدها على كتفي، تدعوني لأن أنتظارها مع بقية أخوتي في الداخل، لكني تخلفت عنهم وبقيت مختبئًا وراء الباب أتنصت على حديثهما الذي لم أفهم منه شيئًا سوى إنه كان يدور حول أبي، وكانه ما يزال على قيد الحياة ولم يلقوا لنا بجثمانه في صمت الليل.

 فكرتُ أنه يريد وآخرون دخول البيت لتفتيشه من جديد وبعثرة كل أغراضنا هنا وهناك، ونحن نرقبهم بعيونٍ مصروعة بالرعب، كدت أشد أمي من ثيابها لأسألها إن كانوا سوف يعبثون بكل شيء حتى لعبي كما حصل من قبل، لكن البلل الذي داخل سروالي ألزمني الصمت، فاستسلمت للبكاء الحار وبدأ جسدي بالارتجاف.

 كنت أغمض عينيَ وافتعل النوم، وربما هي أيضا كانت تفعل ذات الشيء، يتمتم لساني بكل الأدعية التي تتبادر إلى ذهني والسوَر القصار التي حفظتها في المدرسة، عسى أن تمر الليلة أيضًا بسلام، رغم ما ينقر أذني من همسات وهمهمات تصدر من خلف الباب الموصدة، وكأن مجموعةً من الأفراد يتأهبون لاقتحام الغرفة، أم إنهم يتأكدون من فاعلية كل لاقطة وزعوها هنا وهناك، والتي لم أستطع أنا وأخوتي العثور على أيٍ منها.

 كنا نبدو في بعض الأحيان مثل المحققين السريين في الأفلام الأجنبية، حتى أننا صرنا نرتاب في أمر أكثر رفاقنا ومعلمينا في المدرسة، الجيران وربما بعض الأقارب أيضًا، وإن بالغوا في إبداء الحب والتعاطف نحونا، وأصحاب السيارات المظللة الزجاج يواصلون زياراتهم المفاجئة لنا من فترةٍ لأخرى، بابتساماتهم الباردة وأسئلتهم الغريبة المستفزة، ونظراتهم الجامدة كاميراتٌ سرية تنغرز فينا دون أن ترضى مفارقتنا أبدًا.

 انتفضتُ الصبي المذهول وصرخت بصورةٍ لا أرادية ما أن سمعت رنين جرس الباب، فسقط من بين يديَ دفتر مذكرات والدي، غادرتُ غرفة المكتب التي أعدنا ترتيبها بمشقة من بعد آخر اقتحام، ثم هرولت نحو الباب الخارجي، والطرقات تتوالى عليه، مستبقًا خطى أمه وأخويْ المرتعبة، التشنج يستنزف قوايَ، حتى كدت أقع أكثر من مرة، فيما الظلام من حولي لجة بحر مخيف تصيبني بالغثيان.

***

أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

عند التقاء خليج المكسيك بالبحر الكاريبي كان القطرس Albatross يطير بين آونة وأخرى يصحبه طائر ماء أو طائران، كطائرة عملاقة تحرسها طائرتان صغيرتان، ويهبط بسرعة خارقة إلى البحر عندما يلمح سمكة. وقد يهبط بين السباحين أحيانا إذا اقتضى الأمر، ليضع منقاره الطويل في الماء ملتقطاً السمكة فيقف عندها طائر الماء على رأسه أو رقبته لينال قطعة من السمكة التي يزدردها القطرس بسرعة ويطير فتراها تتموج في بلعومه الطويل.

كان صبحـاً رائعـاً يعشَقـه قلبٌ وعـيـنُ

وجمال الكون روحٌ صاغه سحرٌ وفـنّ

يقـف القَـطــرس مخـتـالاً علـى ساريـةٍ

وحواليْـه طيـور الماء كالحرّاس ترنـو

**

يـرقـب البحـرَ كجاسوس بعـيـنٍ ثاقـبةْ

فإذا ما لمحت عينـاه تحت الماء صيـدا

هبّ كالريح ونادى الطيـرَ هيّـا نتغـدّى

فـلها مـنها فُـتـاتٌ، أفـلـيستْ ساغـبـةْ ؟

**

وهوَ منهـا ساخرٌ يزدرد الأسماك زَردا

أيّـهـا العملاقُ، يا سيّـدَ أجـواءِ البحـارْ

جعل الصَّيّادُ من ساقك واويلاه قَصْبـةْ

**

ينشَق التبغَ بها من دون تفكير ورهـبـةْ

حيث يسري السّمّ ُ في أحشائه ليلَ نهارْ

ساكناً فـيها بلطـفٍ ناشراً روحَ الدَّمــارْ

***

د. بهجت عباس

........................

* القطرس Albatross، كلمة عربية نقلها البرتغاليون، من أكبر الطيور. يتميز بمقدرة فعالة في الطيران والتحليق لمسافات طويلة ويستطيع أن يقطع آلاف الكيلومترات في رحلة واحدة ويزن البالغ تقريبا 10 كغم، ويعيش في المحيط ويأتي لليابسة على الجزر لأجل التناسل حيث يضع بيضة واحدة في السنة و يتغذى على الحبار والسمك عن طريق صيدها بعدة طرق منها الغطس، ويقوم برحلة طويلة لإطعام صغاره عن طريق استفراغ الأكل.

القطرس يحبّ الريح حيث يستطيع أن يبقى فيها ساعات دون أن يحرك جناحيه الطويلتين النحيفتين اللتين يبلغ طولهما في بعض الأنواع 3,4 متر. أما في الهدوء فيفضل الجلوس على الماء لصعوبة بقاء جسمه الضخم في الهواء مدة طويلة. يصاحب البحارة أيضاً ويأكل من فضلات طعامهم. يعيش طويلاً ويشيخ.

بعض البحارة يتشاءم من قتله لأنه يجلب النحس وسوء الحظ، وقصيدة صموئيل تايلور كولريدج (1772 –1834 ): سجع البحار المعـمِّـر Rime of the ancient mariner مشهورة بهذا الخصوص. يصيده البحارة فيستعملون لحمه للأكل والغشاء المطاطي بين أصابع رجله كيسَ تبغ وعظمةَ رجله الطويلة المجوفة أنبوبة (بايب) للتبغ. *(ويكيبيديا ومصادر أخرى)

كُلَّما تحاولُ كلابُ المنافي

أو ذئابُ البلادِ المسعورة

أَنْ تعضَّ أصابعَنا النحيلة،

نرميها بجمراتِ الشعرِ

تقاويمِ سنواتِ الضيمِ

والجوعِ والظلام

ودفاترِ الذكرى …

التي تستوطنُ قلوبَنا

وتتوهَّجُ في أَرواحِنا المقهورة

وكتبِنا العتيقة

وقمصانِنا المُستعارة

وما نحلمُ بهُ

في دوراتِ الفصولْ

وكوابيسِ الأيامِ والأحوالِ

وبوصلاتِ الأهواءِ والأهوالِ،

وكلِّ مايُمكنُ أَنُ نقولَهُ:

حتى نُبرّىءَ القصائدَ والأغاني

من اتهاماتٍ لا تليقُ بها ولا بِنا

نحنُ الذينَ برغمِ بياضِنا الثلجي

لم نسلمْ من سكاكينِ ألسنتِهم  ضغائنِ قلوبهم السود

وسمومِ أَرواحِهم التي هيَ

في جوهرِها وحقيقتِها

بلا أيِّ معنى.

*

منذُ البدءِ،

ونعني بدءَ حياتِنا

أدركنا معنى أَنْ تكونَ

ليستْ سوى عربةٍ معطوبةٍ

بالخسائرِ والأسى

والفقدانِ والحرمانِ

والفواجعِ التي لاتُحصى ولا تنتهي

لا بالقهرِ ولا بالأوجاعِ

ولا بالموتِ الفادحِ أبداً.

*

قُلنا: منذُ البدءِ

أَو هكذا نحنُ نرى:

أنَّ كلابَ المنافي

لاتختلفُ عن ثعالبِ البلادِ

وكتّابِ التقاريرِ السودِ

لايختلفونَ عن القَتَلَةِ

والخونةَ المستوردين

حيثُ لا اختلاف بينهم

وبينَ اللصوصِ القادمينَ

من عواصمِ الوحوشِ

وبلدانِ التسوِّلِ والتوسِّلِ

والذلِّ والفراغ.

***

سعد جاسم

2023 - 5 - 12- اوتاوا

هل تَعتَقد أن كُلِّ الطُيورِ خَفافيش؟

أملِكُ قِلادَةً ضِدَّ النُّسور

فلا تُغلِّفْ الحَريرَ بِأَشواكٍ تُدمِينِي

أنا فينيقٌ يُبعَثُ عِندَ كُلَّ مَوْت

ومُهرةٌ جامِحةٌ لا تُرَوَّضْ

لا تَعبُرْ مَجَرَّتِي من كُوَّةٍ ضَيِّقةٍ

أنسابُ كَما الدُخان

وتَبقَى أنتَ شَظايا كَواكِب

وَمُذنَّبَاتِ حُلم

*

ما بينَ اِعتِذارٍ وآخرَ..

أَخشَى أن تنوسَ رُوحِي

شَيئاً فَشَيئاً

وتَفِرُّ الفَراشَاتُ منْ نَبضِي

عند سقوط أَول ورقَة خَريف

*

كم درَّبتُكَ على

اِصْطِيادِ اَلرِّيحِ

فَهَبطتَ..

تَلتَجِئ إلى صَقيع القَاعِ!

لا يَكفِي أن تُحِبَّنِي!

لا يَكفِي أن تُجّنَّ بِي!

عندما تَلمحُ فَراشَةَ

الخُلودِ في الغَسَق

عليكَ أن تُعلِنَ البعثَ ألفَ مَرَّة

وتعدمَ الموتَ الغَافِي

على شَهقاتِكَ ألفَ مَرَّة

وتُقَبِّل السَّماءَ ألفَ مَرَة

كنتُ أظنُّ

أنَّنِي سَأهجُر كُلَّ الطيورِ

إلا عَينَيكَ

ووَدَدتُ أن تَملِكَ مَفاتيحَ جَنَّتي

وَتَشُمَّ عِطري بعد المَطر

لَمْلِمْ ريشك

رمم عشك

قَبلَ غُروبِ الشَّمس

إن كانَ جلجامش

طَمَحَ إلى الخُلودِ

فأنا أَطمَحُ إلى

ما وراءَ الخُلود

***

سلوى فرح - كندا

تطهرْ قد تدخلُ الجحيمَ

هذهِ جنتكَ

يا سيداً وسادتهُ اقمارٌ

تلكَ حراستكَ

واعلمْ أنَّ النساءَ قد عشقنَ الرفضَ

إنكَ معَ مواسمِ العناقيدِ

ثمةَ وجهٍ للمقصلةِ

أينما تنحرْ  يولدْ أسىً للعتقِ

وثمةَ قوافلَ غادرتْ

أمطرتها غيمةٌ للنبلِ

أيها المتعالي مع الثالوثِ

لا تكترثْ أبا العلاءِ والتوحيدي

يمزقونَ صحفَ ابن الجوزي

حتى تأكلَ الارضةُ وصايا النفاقِ

تجدُ نفسكَ بينَ المعلقاتِ

احرفكَ مطرزةٌ بالحريةِ

شجرتكَ تمضي

كعبكَ يدقُ الارضَ

الزمردةُ تسبرُ دهاليزَ الظلمةِ

حتى تنجبَ ألفَ راوندي

تطهرُ ألفَ كبشٍ فداءً إليكَ

غداً تلتمُ ديكةُ الدنيا

توقظكَ كي تؤمنا في صلاةِ الاحرارِ

***

عبدالامير العبادي

لا أسعد بوجود ابي أياما حتى افتقده شهورا، حين افتح عيوني صباحا وأجد علبة شكولاطة وخيطا أحمر ملفوفا على معصم يدي، أدرك أن ابي قد سافر وما ترك لي غير دفء قبلة على خدي، أتحسسها بانامل مرتعشة وعيون دامعة وتنهيدة حسرة تلازمني شهورا قبل أن أستعيد عناقه مرة أخرى أو أركب صدره فأستلذ نتف زغيبات بيضاء تخترق سواد لحيته القصيرة..يصيح من ألم أوبه يتظاهر فيسري إحساسه في كل ذاتي بين ابتئاس وفرح يطل من عيوني..

أعانقه وأشد عليه بكل قوتي ثم أشرع في تقبيل خديه،وأحيانا منهما اهبرعضة..

ـ ياغدارة !!..تستغفلين طيبتي لكن عيوني لك بالمرصاد..

لم اع معنى العبارة الا متأخرة..

يغيب أبي..أبكي في صمت، فغياب أبي عني يسبب لي إحساسا باغتراب قاتل كأنه وحده ولا بشر غيره يدب على الأرض معي..

أظل في سريري أعاند أمي التي لا تتوانى في استعمال قوة يديها أو تستعين بحزام جلدي لأغادر السرير حتى تعيد النظام لغرفتي وتنظيف أرضيتها من فتات أكلي، ثم تستعجلني العودة الى السرير وهي تتأكد أن النافذة الوحيدة المطلة على وسط الدار محكمة الاقفال.. بسرعة تغادر بعد أن تبادر بإقفال الباب دوني كأني في زنزانة سجنية..

"هل أنا مجنونة أوتخشى علي مسا من حمق يغريني يتفجير البيت عليها؟"

في وحدتي بين أربعة جدران، في بيت طويل عريض، ورثه أبي عن جدي، يطويني انفصال عن العالم هو ما يهدد كياني..

 لماذا أنا وحيدة؟.. ولماذا أمي بالذات هي من تفرض علي هذه الوحدة القاتلة؟..ماذا يجري داخل بيتنا وتخشى أمي أن أعرفه او تبصره عيوني؟

هل ترهبني أمي في الصغر حتى لا اعارضهابعصيان عند الكبر؟

ولأي أمر تعدني؟

 هل يدرك أبي ما يحدث في غيابه وعنه يتعامى بإهمال؟

الا يمكن أن أكون بنت أمرأة أخرى طلقها أبي أو ماتت عند وضعي؟

أمي لم تكن بعمر أبي فهي أصغر منه، بل أشك ان تكون قد بلغت سن الرشد قبل أن يتزوجها أبي..

"تعلق بي أبوك بحب عنيف وأنا طفلة أقفز في الدرب على التربيعات "..

هذا ما تحكيه أمي وتجتره على لسانها بلا توقف، وكأنها تتعمد ان يكون لها لازمة على قاعدة: التكرار يعلم الحمار..

لكنها تنسى أن تردد ما عيرتها به إحدى الجارات اثر خصام بينهما كان يصل صداه الى مسمعي دون أن أعي كامل معناه:

"من خفى عليك اصله فانظر في فعله،فماذا يُنتظر من بنت الساحرة القاتلة،تلوت كالحية على طالب بزواج وقد اتته حاملا بسفاح وهي لازالت طفلة؟؟..

لعمتي حكاية أخرى كانت ترويها وهي تشدني من ذراعي كأنها تريد أن أحفظ ما تحكي:

ـ" اسمعي جيدا وعني احفظي، لم تكن السعدية أمك غير طفلة تصاحب جدتك كخادمة في بيت أخي الذي كان يعيش وحيدا بعد أن فقدنا والدينا اثر زلزال ضرب المدينة، كانت جدتك تقوم بشؤون البيت تقضي يومها فيه.. وتغري أمك وهي لازالت طفلة بالتعري أمامه وبه تتحلس في سريره بلا حياء.. الى أن أوقعته في حبائلها "

كان أبي في العشرين من عمره يتابع دراسته طالبا في كلية الاقتصاد، غني من أسرة تهتم بتجارة الملابس القديمة ؛ كان متيما بابنة عمتي التي لحقت به الى الجامعة بعد سنتين من انتمائه اليها..

شيء ما حدث جعل بنت عمتي تصاب بتسمم معوي،دوار وقيء واسهال حاد وما أن وصلت المستعجلات حتى اسلمت الروح لباريها..

الطبيب يقول:

ـ ميكروب خطير مر من طعام الى معدة بنت عمتي..

أمي تقول: ثعبان تسلل من ثقب في السقف،زحف الى الطارمة وأفرز سمه في صحن كسكس بلا غطاء، تناولت منه بنت عمتي لقمتين هو ما قتلها..

لكن النساء اللواتي أتين العزاء والاستفسار عن حال أبي كن يرددن ايمانا بالشعوذة التي تنخر العقول:

ـ" توكال" تناولته بنت عمتي في صحن كسكس قدمته لها أمي..

كنت أسمع "وأبلع" ما يقال، فخوفي من أمي كان يهيمن علي.. لا أثق بكل تخيلاتها وماتحكيه عن عشق ابي لها ولا أكذب كل ما يقال عن تسميم جدتي لبنت عمتي حتى يكون ابي من نصيب بنت الخادمة التي صارت أمي..

كنت حين أحدق في صور بنت عمتي أجدها تتحدى أمي ملاحة وطول قامة، وقد استغرقتني صورة لها على شاطئ البحر بتفكير:

"من كان لها هذا القد وهذه الطلعة هيهات أن يحول رجل بذوق أبي وطموحه عنها النظر أو عنها قد يبتعد وهي طالبة جامعية حمالة أناقة،جمال ومعرفة "..

معناه فالعشق كان لها، وبها كان أبي متيما والصدى قد التقطته أمي للتخفيف من غلواء ما عانته مع ابي، يدرِؤها عنه فتلف حوله، إغراء من بنت خادمة ليست في مستوى طموحه، واستحثاث يومي من أمها بأطماع وكذب ونميمة الى أن سقط في حبائلهما..

"الرجل طيبة، غنى وجاه،قامة مرفوعة، زهواني باين من عينيه، ولسان من شهد..اياك أن يفلت من يدك "..

تحكي عمتي:

ـ بعد موت السعدية بنتي أصيب أبوك بانهيار عصبي، الزمه مكوثا غير قصير في مستشفى للامراض العقلية، ترك الدراسة ثم بعد شفائه شارك في دورة تدريبية اهلته لان يجد عملا في احدى الدول الأوروبية.. ولم يهاجر الا بعد أن كتب كتابه على أمك بضغوط من أمها..

ارتياب يلازمني في كل ما أسمع وأرى، ينطلق من سلوكات أخرى كانت تأتيها جدتي لأمي وتحث ابنتها على تنفيذها اذا أرادت أن تعيش سيدة ذات قوة مرهوبة..وأخرى تبالغ بها عمتي التي فشلت في إثبات جناية جدتي التي أتت على عمر ابنتها..

ـ "الكل مرتشي كان يقبض فيصمت، والرشوة لم تكن مالا فقط ".. كان هذا إصرارا من عمتي..

وحيدة في غرفتي خلف باب مقفلة، كنت أنام وأصحو بلا زمن.. كثيرا ماكان يتناهى الي في صحوي صوت أمي وأصداء أخرى تشاركها الوجود في البيت همسا أوجهرا.. كنت أتصور انها تكلم نفسها او تجتر حكاية عشق ابي لها..

أحيانا يغرغر الجوع في أمعائي فاطرق الباب من الداخل فلا أحد يرد، اتوهم ان الصدى الذي كنت أسمعه مجرد هواجس لا اثر لها،وحين كنت اسأل امي عن ذلك كانت شرارة غضب تلمع من عيونها:

ـ "حمقاء مثل أبيك فأنت به شبيهة في كل شيء "..

صورة مشوهة التشبيه ظلالها خبث نفس تريد بها غرس مالا ينغرس..

أحيانا كانت تتناهى الي كلمات يرددها صوت رجل وكأنه يزفر أو يشهق أو يمارس عملا مجهدا فترد عليه أمي الصدى بكلمات أخرى من نفس قاموسه لم أكن افهم لها معنى. فانفرادي في زنزانة غرفتي أضعف من قدرتي على التواصل وفي استقبال الكلام وفهم معانيه..

في غياب أبي تعودت هذا السلوك من أمي، لكن كلما ازددت نموا تفتح وعيي، تضاعفت قدراتي على تمثل الأحداث وتأويلها..

شرعت بسمعي وخيالي أميز بين حركة عادية وأخرى تخالف العادي وتخلق محفزا داخليا وخارجيا متخيلا أقارنه بما كنت التقطه صدفة بين أبي وأمي وهما معا في لحظة تواصل كانت أمي من تفرضها رغبات حمراء تضج من عيونها بوميض وتمارسها يدها إثارة لأبي، وكلمات كانت تعابير وجه أبي هي ما يعبر عن النفور منها فأنشد الى الحركتين بمقارنة وتفكير..

في غياب أبي كثيرا ما كان يظهر رجل في بيتنا يملأ البيت بحضور في حرية لم يكن يمارسها أبي في بيته، كان الرجل لا يستحي أن يتحرك في البيت عاريا، كان يتحكم في أمي بسلطة وهيمنة وهي له خانعة، بل أحيانا حين أنفلت من غرفتي بدعوى حاجتي للحمام وأراه،كان لا يتوانى في شتمي بعبارات كنت لا اصل أحيانا الى معناها الا من خلال ربط علاقات بما يتحدثان به معا عن غيري من الناس ويتناهى لي صداه من وراء الأبواب:

"سر،آلملقطة تدخلي لبيتك "

 ثم يصيح مناديا أمي:

ـ السعدية راك خليتي الباب مفتوحة على بنت الزنا..

 كنت لا اعرف لسلوكه سببا فهو لايتوانى عن شتمي حتى ولو ابتسمت في وجهه..شتان بينه وبين أبي. كانت ضحكات ابي معي شموسا تضيء كل ما حولي لا تغيب الا بغيابه،اما كلمات الرجل فكانت تخرج فتلوث سمعي بالفحش وتلطخ الجو بروائح النتانة والكراهية رغم اني لم أكن أميز بين قبح وحسن،فضيلة ورذيلة الا بما كنت أتلقاه من سلوك أبي في حضوره وبعد ان تقدم بي النمو..

كانت أمي تتابع الرجل بابتسامة قسرية وكأنها تلومه على تلفظات لا تريدني أن أسمعها أو تغزو عقلي بأثر..

لا ازداد مع الأيام والشهور الا تعنثا مع أمي حول ما أسمع والي يتناهى، وهل يقيم معها غيري في البيت؟ تكره اسئلتي ومنها تتبرم بعدوانية؛ كل ذلك كان على حساب جسدي، علامات تظل وسمات زرقاء بعضها باثر يطول خصوصا بعد أن منعتني من الالتحاق بالمدرسة كغيري من الأطفال بداعي حمقي وبتعليلات الجهالة وانعدام الوعي..

"جدتك لم تدخل مدرسة وعاشت أميرة تحكم فتطاع بخير ورفاهية،وعقل جبار، وانا دخلت المدرسة و ما جنيت منها حرفا ولا كلمة بعد أن تملكني أبوك من صغري بادعاء:

ــ "أنا لك عاشق،والمعشوقة لاحاجة لها بالمدرسة وعاشقها المتيم بها غني"

"كان بجسدي متيما ويمنعني أن أغادر سريره "

أحملق في وجهها باستغراب وفي نفسي أردد:

ـ وأنا رأيت غير هذا، رأيت نفورا منه نحوك وكراهية لما كنت تفرضينه عليه "

عنها لم يكن يغيب الشك الذي يلمع في عيني فتبادر باغراء كاذب

"أمك قادرة على ان تحقق منك أمراة تحرك رجال العالم بالتفات.."

ـ تريدني أن أعيد حياتها، امتدادا لها..

لوكانت تقرأ نفسها كما أنا صرت أقرأ سلوكها لربما عالجت دواخلها من تفكير الكهوف: الغباء وكذب الافتراءات..الصاق متعسف لكل ما هو سيء بأبي،لكن كل ما هو برئ جميل فهو بها وبجدتي أمها جدير..

بدأت أضيق بحصاري، وأتوق الى حرية تفسح لي لعبا مع بنات الحي حتى وان لم ارافقهن الى مدرسة..

بلغت التاسعة من عمري وأمي تصر على ان تعاملني كطفلة لاتنمو بل لدي قد توقف عن النمو عقل.. رغم القلق الذي كان يصيبها من نموي الجسدي:صدر يتكور وبياض بشرة..وسمات لاعلاقة لي بها ولا بأبي..

مرة قالت لي عن الرجل الذي شتمني:

ـ هو أخي وأكبر مني وله مسؤولية كبيرة في الدولة وأنا له خاضعة بحياء وطاعة، اسمعي وابلعي.. اياك أن تردي على ما يقول..

حين كنت أسألها:

لماذا لا يحضر الا في غياب أبي؟

كان يأتي ردها بتعليل وتهديد:

ـ هو في خصام دائم مع ابيك أياك ثم اياك أن تنبسي باسمه او حضوره الينا في حضرة ابيك، سيطلقني ابوك وعنا يغيب الى الأبد فتفترسك ذئاب الردى..

لا شيء صارت تقوله أمي وتكون له مصداقية في نفسي، أو به يمكن الوثوق،فكلما كبرت كلما اقتنعت بموت الصدق في قلبها وعلى لسانها، وكما قالت لها عمتي يوما:

ـ"لسانك نتانة لاثقة بسيل تلعته.."

لما قلت العبارة لأبي قال: كذابة لا تنطق حقا

 حتى مع جيران الحي كثيرا ما كانت تقوم بأعمال تسئ اليهم وتقسم باطلا انها بريئة منها..

وكيف أثق بها وأنا أعيش سجينة بين أقماط نفاقها لا تنقصني غير سلاسل المجانين وهي بي لا تحن ولاترحم.. حرمان من حرية، حرمان من خروج، حرمان من مدرسة..

 لكن تنفك قيودي حين يعود أبي، تلبسني أحسن الثياب مما يجلبه لي، ومن أقمطة الخوف والتحكمات تحررني خوفا واحتراسا من أبي..

فالى أي حياة تهيئني بإعداد وترويض؟..

.وأنا وبكل صدق لم أكن أخفي على أبي صغيرة ولا كبيرة مرت في البيت دون أن أبلغه بها سيان كنت قد استوعبتها ام ظلت ضبابا يجوب راسي، كما كنت أنفذ وصاياه كتعليمات بحذافيرها..

 عهد كان بيني وبينه..

أحيانا كانت أمي تسقيني محلولا فأنام بلا حركة حتى الصباح..

كنت أفتح عيوني وكاني بت انقل الصخر من مكان لآخر، حين كنت أشكو تعبي وثقل جسمي الى أمي تقول:

كلنا نشربه حتى ينظف أمعاءنا من أوساخها..

من تلقاء نفسي تعلمت كيف اراوغ أمي، اضع المحلول في فمي واتظاهر أني قد بلعته..

أدركت ماذا كانت تسقيني أمي ولماذا؟

كان بيتنا الكبير يتحول الى حلبة رقص وسكر وسحب من دخان وكانت أمي نادلة المحفل أما مدير الجوقة ومخرج لوحاتها فهو من تدعيه أخا..تستسلم له بلا أحساس ولا شعور ليحقق بها مايريد..

مسلوبة الإرادة او ربما تقوم بدور مخطط لها عن وعي وإرادة..

كنت أرخي سمعي لأميز بين الأصوات، افرك عقلي لاستوعب مايقال..

حتى ظلال أمي تعكسها الأضواء وهي عارية بدأت لا تخفى علي، صرت أميز بينها وبين نساء أخريات يتحركن معها، بل كثيرا ما كانت الظلال تعكس لي الكثير مما لم أكن أتصوره..

ذات ليلة صحوت على ايدي الرجل مدير الجوقة الذي شتمني يعريني من ثيابي، استغث بأعلى صوتي فاقبلت أمي مهرولة و عيونها ضاحكة، تصيح في وجهه أو هكذا تظاهرت أمامي:

ـ هل تريد أن تفضحنا، مرارا قلت لك البنت لا.. لن تتحمل، هل تريد أن تعيد حادثة خلود؟

ـ ألم تسقيها المحلول؟

كان يتمايل من سكر وهو يلعن ويشتم أمي التي شرعت تقبل يده وتدعوه اليها:

ـ انا معك، وبالطريقة التي ترضيك، وكيفما تحب وتريد لكن البنت لا.. لازالت صغيرة.. دعها تنضج قليلا !!..

معناه يترقبني موعد منتظر !!..

بدأت أحترس وانتبه وارخي السمع بدقة متناهية وأستعد.. احتفظت بسكين صغيرة في غرفتي للاحتياط..

اقتنعت بان كل من حولي ثعالب وذئاب..

حين تموت الأمومة وتصير الغرائز وحوشا تنهش الصدور فما جدوى الأرحام بلا وازع يحرك انسانية الانسان؟؟..

تلك كانت آخر كلمات رددها أبي على مسامعي في آخرمرة عانقته فيها بحرارة، لم أفهم ماقاله، لكنه كرر العبارة أكثر من مرة وكأنه تعمد أن أحفظها..

قلت له ودموعي تحفر خدَّيْ:

لماذا لاتأخذني معك؟ تعبت،الملل والوحدة، و الخوف صار يقتلني..

وضع يده على فمي، وكأنه يخشى آذانا علينا تتجسس، قبل خدي وهمس:

ـ قريبا

لكن ما أن فتحت عيني صباحا حتى وجدت خيطين أحمرين في معصمي واثر من ريق على خدي، وبقايا من أنفاسه تعبق وسادتي..

صار ليلي بعد غيابه ارقا لا ينتهي، لا تغمض لي عين، وكلي خوف وقلق الى أن ينقشع ظلام وتطلع شمس ثم يمتد نهار،فينزل صمت القبور على البيت..

ذات صباح باكر وبعد أزيد من شهر على سفره فتحت عيوني مفزوعة على حركات غير عادية في البيت، احذية ثقيلة بصرير قوي تتحرك قلب بيتنا بازعاج، هرج ومرج واختلاط أصوات..

 ناديت بأعلى صوتي: بابا !!..بابا !!..

رجل بزي عسكري فتح الباب بعد أن كسر قفلها، فشرعت افتش عن أمي بين رجال بنفس زيه مدججين بالسلاح ومن دخلوا بيتنا مرافقين..

كاد الرعب أن يقتلني،كان الرجل الذي تعود ان يشتمني عاريا مكبل اليدين الى الوراء وأمي خارجة من مخزن كان بين غرفة نومها ومدخل البيت، لا تستر نصفها الأسفل غير غلالة من ثوب حريري في قبضة امراة بنفس زي باقي الرجال تصوب مسدسا الى عنق أمي..

رجال أربعة كانوا عراة مثل من تعود شتمي مكبلين،وأمراتان احداهما كنت قد رايتها يوما في حمام بيتنا تنزف دما بين ساقيها..

 بعدهما ظهر رجلا أمن أحدهما يحمل حزمة ثقيلة لا ادري ما كان فيها، والثاني على كتفه صندوقة حديدية يبدو ثقلها من حركته وتعابير وجهه..

خنقات دمع ورعب ما يمسكني من رقبتي وصدري..

عيوني بين الناس زائغة..

لا احد عرفني من بين من تجمهروا بباب بيتنا، ولا أنا قدعرفت أحدا من الجيران، امرأة شرطية ظلت تلازم يدي في يدها حتى اذا بلغت مركز الشرطة وجدت عمتي التي تعامت عني كأني لست ابنة أخيها، هي نفسها قد أنكرتني..

تعامل أمومي من قبل الشرطية، أدخلتني مكتبا وقدمت لي حليبا وجبنة ومربى وخبزا..

ادركت أخيرا لماذا كان عاشق أمي يناديني بنت الزنا والملقطة (لقيطة)، ولماذا كانت أمي تكرهني،فقد أعترفت اني بنت نصراني "بيدوفيل" كانت جدتي تشتغل عنده وسقطت معه أمي في سفاح، وان من كانت تدعيه أخاها ليس الا مجرد مهرب إرهابي يسخر أمي لأغراض دنيئة،ويستغل بيتنا في ترويج المحرمات.. وأن ابي كان لا يجهل عقمه و يعرف أني لست من صلبه.. لهذا فضل الهجرة بمساعدة دوائر حكومية لم تكن غافلة عما يقع في بيتنا وهي العيون التي كانت تراقب بيتنا بعيون لاتنام للعلاقات الأخطبوطية التي ينسجها الرجل الذي لا يغادر بيتنا مع مافيات خارجية و تتابعني بحراسة وانتباه..

نصف شهر وأنا في مركز لرعاية الطفولة الى أن أتى أبي وتسلمني..

كانت الفرحة والسعادة على وجهه تعلن علمه بكل ما حدث..

بعد مدة كنت أحمل أوراقي التعريفية.. كم جاهد ابي ساعيا ليحقق لحمتي مع وجودي الحقيقي لكن بغير انتساب اليه وانما صرت أحمل انتماء لا اعرف من أين تسوقوه..

فقد تخلى الكل عني لاني لست الا "طفلة ولدتها الرذيلة.".

وحده الرجل الذي احبني وتعلقت به وظلت قبلته دفئا على خدي لم يتركني، ولم تتغير عاطفته نحوي،هو من تسلمني وفي كنفه ورعايته صرت أتابع حياتي.. في حرية، سكينة وراحة بال.. اعانقه، لكن صار يتحرج من أن اركب صدره. ولا أنا أستطيع أن أستغفله لاهبر عضة من خده.. الآن فهمت العبارة:

ـ ياغدارة !!.. تستغفلين طيبتي لكن عيوني لك بالمرصاد.

فعيونه عن حبي لم تنم وعما يجري في البيت لم تغْفُ أو تغِب ْ

 كان يمني النفس بأمل هو علامة الخيطين الأحمرين الأخيرين في معصمي لكن وقوعه في حبال أمي بتخطيط من جدتي صيرني من المحرمات عليه..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

هي دعوة للرقص

على حافة الجرح

وسرقة القليل من نافذة

الوقت

يوما أو بعض يوم

لأقول لك

أحبك على طريقتي

قبل أن يغفو النهار في حضن القلق

قبل أن يسيل الليل كحلا من عين الخوف

أحبك بطول هذه البلاد

سرب فراش يعرج إلى السماء

ويعود محملا بالنور

بعرض الحلم الذي

تنثره الوردات في طريق الريح

فتغني وأرقص أنا

أرقص لك وحدك

بقدمين لطالما قيدتا المسافة بالاقتراب

وجهي قمر يفج الأسود

يساقط موجا على الكتفين

وأرقص لك

وأصهل شعراً

كل النجوم

قصائد عشق

تسافر مني إليك ...

**

أريج محمد أحمد - السودان

هي ذي

مسارات الغيم

تؤطر رؤى

ورغبات

قرنفلات الصباح

ورؤى هداهد

السفح الاصيل

فحينما الريح

تهب تبتسم

القبرات لللحن

المضيء ونبضاتي

تهجر منحنيات

الحزن العتيق

فهي ذي غزلان

النبع المضي

تلوح للنوارس

القادمة من

شواطيء بحار

وبحيرات الحزن

لتحط قرب

سياج حقل

الحكمة الخضراء

والامل الاخضر

وهي ذي

خيول البرق

اراها تصهل

تصهل ملاعبة

اسرار هداهد

الحقل الاجرد

وبنفسجات

وقبرات النبع

الحزين .

***

سالم الياس مدالو

أيقن أن عليه تنفيذ جميع الالتزامات، كإجراءات بيع الشقة التي كان يمتلكها في الحي (ج) الكائن في دولة (ق)، مع ما تحتويه من الأثاث.

جمع رحاله استعدادا، بما في ذلك تجديد جوازه، والذي انتهت مدة صلاحيته مذ تاريخ مغادرته العراق؛ ذلك عن طريق بعض المكاتب الخاصة بأحزاب المعارضة العراقية، تحرر من قيد حسابه المصرفي بعد سحب المبلغ المطلوب، تهيأت عائلته الصغيرة للسفر دون تردد، رغم المخاطر الخاصة بالمهاجرين في المطارات.

اتصل به صديقه الذي أخبره عن الموعد المقرر للرحلة، والتي تتطلب تمزيق الوثائق والجوازات قبل الوصول إلى مطار الدولة (ص).

لم يكن الأمر سهلا، فالوصول إلى المطار المذكور مرورا بدولة (س)، وبعض دول أوروبا يتطلب الكثير من المجازفة، والصبر.

أنهى ما هو مطلوب منه بدقة متفانية، خاصة بعد اتخاذ القرارات الخاصة بالمقيمين، العراقيين في البلد (ق) والتي تتطلب الحصول على هوية اللجوء، أو المغادرة، ما يملي عليه أن يحرر نفسه من قيود الحسابات الإدارية، والأمنية والتي لم يكن بإمكانه التخلص منها في حالة البقاء.

تصفح جواز زوجته الذي يتضمن أسماء أبنائه الصغار، ودع أصدقاءه المقربين بسرية تامة، بما في ذلك أصحاب البيت الذي استأجر منهم، والذين ساعدوه في احتضان أولاده، والتعاون معه طوال مدة إقامته، والتي امتدت لأكثر من خمس سنوات.

كان الموعد المقرر للمغادرة ظهيرة يوم شتائي ممطر، وكانت الوجهة الأولى بلد ثلجي تصل درجات الحرارة فيه إلى ما تحت الصفر، بلغ عدد المجموعة سبعة أنفار، بضمنهم سيدة أودعها زوجها معهم، ارتدى معطفه الأزرق الثقيل والذي يتناسب مع الأجواء الباردة.

لم تكن الأمور سهلة، فالسماء ملبدة بالغيوم، والأقدار مجهولة، ومحفوفة بالمخاطر، بيد أن هنالك أزمنة تفرض عوائق أحكامها، وإن كانت مكبلة بالموت، والخوف، والسجن، والضياع.

تم ختم الجوازات في شباك المطار، أقلعت الطائرة المتجهة إلى الدولة (س)، بينما راح ينصت إلى تسارع عجلاتها، واندفاعها وهي تنهض بأثقال جناحيها ومحركاتها تاركة خلفها ركام الماضي على شاكلة قوس ينطلق من المنحدر، ليعلو متجها نحو السماء.

استقر ومن كان معه في أمكنتهم بصحبة حقائب ال hand back، والتي أخذت مكانها في الرفوف المغلفة من الطائرة.

اتخذ مكانه في المقعد القريب من النافذة عند الأمام، قريبا إلى الجناح، هنالك حيث يجد المسافر نفسه معلقا مع السماء، والغيوم.

أحس بالحياة ترد إليه وهو يتكئ بأنفاسه، مستسلما لشعور يعتريه لأول مرة، وهو يخوض تجربته الأولى، فهو لم يجلس بطائرة طوال حياته، وذلك أشبه بحلم جميل بالنسبة إليه، ولذلك لم يكن يكترث لكل المصروفات والخسائر التي تم إنفاقها لهذه الرحلة.

كان المقعد الخلفي مخصصا لمسافر تميزت أناقته وملامح وجهه إلى أنه رجل مهم، لكنه لم تعرف جنسيته، ولغته بالنسبة للجميع.

سار الزمن معه محلقا عبر ساعات تستغرق وقتا طويلا وثقيلا، ناهيك عن المخاطر التي قد تتعرض لها بعض الطائرات أثناء التحليق في حالات الطوارئ الخاصة بالعواصف الثلجية.

شوط من الساعات مضى لحين وصول الطائرة بسلام إلى مطار الدولة (س)، نُصب خرطوم الطائرة، وغادر المسافرون متجهين صوب الفندق الذي تم تخصيصه لهم.

تسارعت أحلام الرجل، لتتناثر مثل وريقات كتاب الجغرافية الذي أشغله يوم كان طالبا في المرحلة المتوسطة على مربعات الخرائط التي ارتسمت خطوطها، لتبدو على هيئة رسوم تتقاطع حواشيها عبر النافذة.

مر يوم من السفر بفصول أنقاضه الثقيلة والمتعلقة بنوع الطعام، والمنام، وجميع متطلبات الإقامة.

تهيأ الجميع في اليوم الثاني لصعود الطائرة المتجهة صوب مطار (ص) مرورا بمقاطعات ودول تزدهي بالخضرة، وجلس خلفه نفس الشخص الذي كان برفقتهم في الرحلة الأولى.

ساعة مضت حتى أقبل رفيقه في الرحلة نحوه وبسلوك طائش،  ليخبره وبصوت جهوري بأنه سيذهب إلى المرحاض، ليمزق وثائق سفره، دون أن يكترث للمسافر الذي كان يجلس في الخلف، والذي اتضح فيما بعد أنه تم تخصيصه لمراقبة ما يجري، وأنه ضابط مخابرات من الدولة( س) ومن جنسية عربية، وهو كما يبدو أنه استلم برقية خاصة تعلمه عن مغادرة هذه المجموعة من المسافرين ابتداء من مطار الدولة (ق)، وانتهاء بمطار الدولة (ص).

لم يكتف ذلك الطائش بالإخبار عن موضوعة تمزيق وثائق سفره، بل راح يتحدث على لسان غيره من المجموعة.

لم يبق إلا نصف ساعة لهبوط الطائرة في أرض المطار الخاص بالدولة (ص)، حيث لم يحسم الأمر بعد، لكن صاحب المعطف الأزرق بقي محافظا على رباطة جأشه، ولم ينبس بكلمة واحدة، كأنه أدرك أن الخط قد تم اكتشافه ومراقبته من قبل الأجهزة الخاصة بأمن المطار التابع للدولة(س)، بما في ذلك المسافر الذي كان يجلس في الخلف.

حطت الطائرة على أرض المطار (ص)، تم تشكيل خرطوم خاص بالمجموعة لفصلهم عن باقي المسافرين، تم عزلهم عن باقي المسافرين، بغية التحقيق معهم تباعا، والبت بتسفيرهم  إلى البلد الذي انطلقوا منه.

الحلقة الثانية ستأتي

***

عقيل العبود

منذ أن أحيل على التقاعد أصبح البيت جحيما لا يطاق بسبب مناكفات امرأته التي لا تكف عن الثرثرة والصياح والتذمر ووجوده الدائم علما ان البيت لايضم بين جدرانه غيره وولد وبنت قاصرين وزوجته سليطة اللسان وهروبا من الوضع المؤلم اخذ يبيت الليالي عند الأقرباء والاصدقاء من دون أن يشكو حاله لأحد منهم ولما كثرت عليه الأسئلة قرر أن يقضي أغلب الليالي في أضرحة ومزارات الأولياء وهي كثيرة ومنتشرة في محافظات متباعدة ومر عام على هذه الحالة يعود لبيته ليلة أو اثنين ثم يشد الرحال لزيارة مرقد إمام في ناحية أخرى وذات مساء وهو يسند ظهره للسياج الخارجي للضريح القت عليه امرأة تبدو عليها مظاهر النعمة والثراء السلام واستاذنته بالجلوس قربه ولما استقر بها المقام سألته..

. الم تكن حامد الغركان؟

. نعم انا هو فمن انت؟

. انا فهيمه الجدوع هل تذكرني؟

. حك راسه وتمعن بها وقال لها:

والله يا بنت الناس كبرت وتقاعدت وتعبت ذاكرتي لكن الاسم ليس غريبا تماما عني

. انا بنت الحاج جدوع جار ابيك واكملنا الإبتدائية معا في مدرسة الإصلاح المختلطة بعدها ذهبت انا الى متوسطة اليقظة للبنات وذهبت انت الى متوسطة الوثبة للبنين ثم نقل أبي الى محافظة أخرى فانتقلنا للسكن هناك وانقطعت اخباركم ودارت الدنيا معنا دورانها وكبرت انا وتزوجت في تلك المحافظة ومات أبي وأمي بعد إعدام اخي بتهمة الانتماء إلى تنظيم معادي وبعد خروج الجيش من الكويت وقيام الانتفاضة وفشلها هربت مع زوجي واطفالنا الاثنين الى مخيم رفحاء واقمنا هناك فترة من الزمن ثم جاءت الموافقات على طلبنا اللجوء فارتحلنا الى النرويج وكبر الاولاد وتزوجوا هناك ولم نعد انا والمرحوم الا بعد سقوط النظام السابق وحصلنا على حقوقنا كاملة لكن قبل ثلاثة سنوات أصيب المرحوم بوباء كورونا وتوفاه الله فبقيت وحيدة رغم الثراء والنعمة التي انا فيها .. لكن انت كيف سارت معك الايام؟

. انا لم أترك البلد وبقيت ذلك الموظف الذي يعاني شظف العيش وسوء خلق الزوجة حتى احلت على التقاعد وظننت اني وصلت زمن الراحة لكن يبدو اني من الذين كتبت عليهم قلة الراحة بعد أن حولت زوجتي ( بنت الكلب ) البيت الى جحيم فقمت بممارسة الهروب الدائم وقضاء أغلب الايام بجوار أضرحة الأولياء والصالحين وما ان أعود للبيت يوما أو يومان حتى يشتد شجارها معي فاشد رحالي الى ضريح آخر حتى يأخذ الله أمانته

. منذ متى احلت على التقاعد؟

. مضى سنة بالتمام والكمال

. يعني أصبح عمرك (٦١) سنة؟

.تمام وليته لا يطول أكثر

. ما رايك بمن يقدم لك فرصة خلاص من حياتك المرة هذه؟

. اقبل يده وابقى شاكرا له طول عمري

. اذا هذا عنواني في المحافظة التي انا فيها ورقم هاتفي وما عليك سوى الذهاب إلى بيتك وأخبارهم انك تعينت في شركة تعمل في الصحراء ولا يسمحون لك بالإجازة الا بين فترات بعيدة تصل نصف سنة أو أكثر وتقطع متعلقاتك معهم وتأتي للعيش معي حتى يتوفانا الله ولك علي توفير فرصة حج بيت الله وسفرة كل صيف للنرويج وعمرة لقبر النبي كل حول وتقضي حياتك مثل الملك يازوج المستقبل .

قبل يدها وراسها ووعدها بأنه خلال يومين سينسلخ من عالمه القديم وينتمي إليها.

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء تغير

خطاي ما تزال شاردة

وخنجر الزمن مغروس

في خاصرتي

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء تغير

جرحي مازال عميقا

وأفكاري تائهة

أحيطك علما أيتها الأيام

أن لا شيء  تغير

تاريخي مازال شاحبا

وأحلامي هائمة

2

أحيطك علما أيتها الأيام

أن الوجع حط الرحال

واستوطن الذات

ودفاتري تمزقت

في قبو مظلم

وخسرت كرامتي

دون مقدمات

في البدء

جاء الحَرسُ

قادوا مشاعري

إلى المخفر

قَيَّدوا عواطفي

وأثبتوا حالة التلبس

وقبل أن أستفيق

من صدمتي

قالوا :أنت شقِيٌّ

رَوَّعَ الحروف

أنت نِشاز

جوّع المعنى

وضَيّقَ الأفق

اِذهب فأنت من الطلقاء

المُسَوّرِين

3

أحيطك علما أيتها الأيام

أن صخب الأمس تلاشى

ودمدمات الطفولة تورات

خلف عواء التشظي

وأن آهات القلب طوقها

الأسى

فضاعت في صمت الأسحار

البئيس

***

محمد محضار

 2023

يرحلون عن الدنيا تاركين وراءهم

صفاء الصرخة

لم يخافوا من ظلام الحالمين بالاقامة

في أرض ليست لهم

تجدهم في الساحات

وإنفتاح اللغة المشتهاة على الهتاف

في دفاتر الذاكرة

أصوات الثكالى

دخان الحريق

هروب الجنود من سراب الإنحياز

لوهم الأجداد الآتين من شمال الوعد

المشؤوم

وجنوب الفكرة الغارقة في المتاهة

هنا في جنين.. أولاد درويش

وأحفاد سميح و ناجي

قبل مجيء الغروب باغتهم حنظلة

بالصراخ الأنيق

وإخضرار الكبرياء في الأجساد

***

البشير عبيد / تونس

مقتطف من قصيدة طويلة

صديقي العزيز!

أنت تعلم أنا لا أكتب الرسائلَ لشخص آخر غيرك! إسمك محفور في قلبي، بل في كلّ القلوب! ومدوّن في أعماق الأعماق!

أجلسُ أمام منضدتي، أنقرُ عليها بإصبعي متطلعاً إلى هاتفي متوقعاً رنينه في أي لحظة! أنتظرُ مكالمةً هاتفيةً. لن تأتيني هذه المحادثةُ بالتأكيد من أخ أو صديق أو قريب أو حبيب. هؤلاء الأصدقاء والأحبة تبخروا، لم يعد لهم وجود. ولا من الأهل، إنهم بعيدون كما لو أن سور الصين العظيم يفصلني عنهم. متى سأجتازه؟ هذه أمنية محالة كما تبدو لي بعد غربة طويلة، بدأت تقارب الثلاثين.

عُمر وتعدّى الثلاثين! ومع ذلك لستُ متشائماً، كما يبدو لبعضهم! هذه هي الحقيقة. لكني قلق، مشوّش، مشغول دوماً! أتصفّحُ أكواماً من الأوراق المبعثرة أمامي، ثم أتركها لأقلّب أفكاري، أقرأها واحدةً تلو الأخرى حتى أنتهي ببلادي، بتُّ أخشى عليها من نفسها أكثر من أي شيء. كم هي كثيرة المرات، التي ملأت الدموع فيها مآقي عينيّ، كم مرة من المرات، راودتني فيها أفكارٌ سوداويةٌ وحالات ونوبات هستيرية، وكثيراً ما كنت أمنّي نفسي قائلا لها: "العراق ليس سهلاً، فرس جامح لا يُروّض، مثل العراقيين الإنفعاليين، الطافحين بالمشاعر والأحاسيس كفيضانات دجلة والفرات، يا ترى ماذا سيكون مستقبله لو تخلص من المسودنين والرعناء".

هل يمكنك أن تتصور عراقاً بدون جنون أو"مسودنلغية"؟ بالتأكيد أنه سيكون صورة نورانية لجمال أخاذ ليس له نظير، بهاء من نوع السمو الجمالي! العراقيون حالمون، زاخرون بكل شيء متدفق، تلقائي، عفوي، وقد يصممون المدن الفاضلة ويسنّون قانون الضمان الإجتماعي ويستقبلون اللاجئين والمضطهدين من كل العالم، ويؤسسون العالم الطوباوي ويعيدون أمجاد الفلاسفة المشّائين والمفكرين الباطنيين والصوفيين وينشرون سياحة الفكر، لا أحد يتركهم يعملون ذلك، هذا أمر مستحيل، سيُحرمون من بلادهم الجميلة وسيبقى الأطباء والمحللون النفسانيون هنا يستقبلون العراقيين الهاربين من الحروب والأزمات، وأنا أترجم لهم! "مصائب قوم عند قوم فوائد"!

أحد المرضى العراقيين قال لي قبل عدة سنين: "العراق يحتاج إلى ثمانية عشر مليون طبيباً نفسانياً، بعد فترة، زادَ شخص آخر الرقم: إلى إثنين وعشرين مليوناً، وأصرَّ ثالث قبل عدة أيام وبعصبية: على خمسة وعشرين مليونا، قالها صارخاً في أذني، لم يكن بعيداً عن مكتب عملي، إنتبهن له زميلاتي وزملائي الهادئون:

- أخي أنت واهم إذا كنت تعتقد أن العراقيين يصير براسهم خير، هذوله كلهم مسودنين، صدقني هذا مخبلنا موجود في كل شخص عراقي! أنت إنسان متفائل وما شفت العراق، طلعت منه في عزّه وعشت مع الأوربيين الأوادم، أنت أصلا مو عراقي، بس والله أحلف بربي ووجداني! أقول الحق أنت إنسان شريف، تركت العراق من بداية سرطان المسودِنين، أنت عملياً تنبأت بمستقبله وهربتَ منه، لو كنتَ دنيَّ النفسِ وتركض وراء المال لقاء أيّ عمل لبقيت في العراق، كان ممكن أن تتملق وتتزلّف وتتخشخش، لكنك ما سوّيت هذا الشيء لأنك أصيل، العراقيون إذا ما تجلدهم يجلدنوك، هذه حقيقة لازم تعرفها وتتذكرها، ودير بالك تغلط وترجع للعراق، خليك هنا معزّزاً مكرّماً بعيداً عنه إذا كنتَ فعلاً تحبه، راح تشتاق لصورته الوردية، هذا أفضل لك.

أتذكّر أني مقتُّ كلامَ هذا اللاجىء العراقي، لم أحقد عليه طبعاً، بل ضايقتني سوداويته وتعبتُ من إصراره على الزعيق، ألمحتُ له أن يكفَّ عن ذلك، دون جدوى، لم أستسغ النبرة، أجل، لم أعد أطيق الإصغاء إليه، صعب وقاسٍ للغاية، ملىء بالتشاؤمية وجلد الذات، لكني لا أشك بصدقه وحبه لبلده الدامي. يتكلم من حرقة قلبه! أكثر ما يثير شفقتي: المظاهر والإدعاء والتشدق والخطابة والتهور!

لا أزال أجلس منتظراً الإتصال الهاتفي! قرأت في مفكرتي: ترجمة هاتفية للدكتور النفساني نيلس من مركز اللاجئين، حجزني، نسيت كتابة تفصيلات عنها في مفكرتي اليومية، لا رقم هاتفه ولا إسم الشخص ولا العنوان الكامل. هيّا يا نيلس، أنت تسأل ونحن نترجم! وتمتمتُ بين نفسي: أنت تسأل والحزب يجيب!

صديقي العزيز

أجلسُ وعيناي تتلصصان بين الأوراق بحثاً عن رسالة كتبتها لك قبل مدة بدموع عينيّ. كان المفروض أن أبعثها إليك ولم أستطع أن أعرف مصيرها لتشتتي وإنشغالاتي الكثيرة. أجلسُ متوقعاً تلك الترجمة الهاتفية وأفكر بالرسالة الضائعة. في الحقيقة أن حال الترقّب طال وإنشغلتُ في البحث عنها. المهم ما في الأمر الآن ليس إنتظار المكالمة الهاتفية فحسب، بل رسالة مفقودة تعبتُ في كتابتها، بالأحرى تأليفها، والشيء الآخر الذي قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لي، وأقل للآخرين هو: لماذا وكيف تختفي المكاتبات والأوراق والوثائق من مكتبي وفي بيتنا. هذا أمرٌ غريبٌ، بل إنه خطير للغاية. هذه موضوعة هي الأخطر إستأثرت بكلّ فكري في الآونة الأخيرة، وأنا مشغول بالعراق ومستقبله، مهموم به.

إذا كانت الرسالة تضيعُ، تختفي من مكتبي فلا عتب على الآخرين المتهالكين على بلاد الرافدين، هؤلاء سيستبيحونه، سيسرقونه وسيخفون كل شيء منه، سيغدو خراباً يباباً!

سبقَ لي وكتبتُ لك رسالةً منمقةً جميلةً مليئةً بالمعلومات، لكنها ضاعتْ! أين؟ لا أدري. وبدأت أشكك، ولا أعلم إن كان المكتوب قد يكون فُقد فعلاً أم أني بعثته لك بالبريد العادي أو ببريد الأحلام، أما الإليكتروني أو ما يسمى بالإيميل فأنا اعلم أنك لا تتعامل به. لكني على أية حال لا أتذكر بأني حقاً أرسلتُها لك، أقصدُ في الحقيقة والواقع، قد يكون حدث ذلك في أحلام اليقظة والخيال والمنامات، أو مع الحمامات، حمام الزاجل مثلاً، لِمَ لا؟ كل شيء ممكن في هذه الدنيا! وأنا كثيراً ما أخلط بينها كلها.

طبعا ثرتُ لضياعِ الوثيقةِ، أو نقلها وإختفائها أو إخفائها أو فقدانها أو سرقتها أو بالأحرى وئدها، أو حتى إجهاضها قبل ولادتها، خرجتُ عن طوري، عقدتُ العزمَ على أن أتخذ إجراءاتٍ كثيرةً: منها التنديد والتهديد والوعيد والخ من أمورٍ يعرفُ ربعي بأنها مجرد بالونات هوائية فارغة أو زوابع في فنجان، كما يقولون.

نصحني إبننا الصغير بأن أكتبَ الرسالة مرةً ثانية وأنهي المشكلة! يا سلام! يقصد طبعا أن أعيد كتابتها. زجرتُه ممازحاً على طريقة أي مسودَن عراقي قائلاً:

- أسكتْ لك! هذه مو فكرتك، هذا إلهام من السيدة إلهام!

إبتسم الطفل ببراءةٍ متفرساً بوجهي، قلتُ له بودٍّ:

- أنت سمعتها من أمك السيدة إلهام!

والدتُه إلهام كثيراً ما يحلو لها أن تُردّد بأنها تتصرف بإلهام، وأنها إسمٌ على مسمّى! تتصور أن الإلهام في غاية السهولة والتفاهة. تُفكرُ بالإلهام دوماً، وأنه أسلوب حياتها! كما تصرّح نهاراً مساءاً، همساً وجهاراً، إنه مجرد إدّعاء! وتتحدث عنه كأنها موهوبة حقاً بة، لكنها تحلُّ كلَّ أمورها وقضايانا و"مصائبها" المتتالية هاتفيّاً، ولَمْ تكتبْ كلمةً واحدةً في حياتها! وعندما تُضطر لكتابة رسالة تلجأ لحضرة جنابنا، تضغط علينا لتنفيذها باللحظة رغم إنشغالاتنا الكثيرة المعروفة للقاصي قبل الداني! هذه هي إلهام! كيف لها إذن أن تشعر بصعوبة التأليف ومعاناته؟ بينما أنا أعتبرُها، أقصدُ إعادة الكتابة في غاية المسؤولية، بل الخطورة كونها توهمنا وتوقعنا في المفسدة والتزوير والتزييف والمطبّات. ولولا خوفي من تهويل الآخرين وإتهامهم إياي بالمبالغة والتهور، لقلتُ: إنها أمر مستحيلٌ، وأصعب من إعادة كتابة تاريخٍ أراد مسودَن العراق أن يدونه حسب أهوائه من جديد، ويغيّر قوانين البلد بجرّة قلم ..

هناك أمر مهم، بل خطير للغاية تذكّرتُه الآن كما أعتقد وأتصور وأتخيّل أو بالأحرى أتوّهم، ولا أريد أن أجهره أو أفشيَه وأعلنَه على الملأ، بل أهمسُ به إليك وحدك، وهو أني أعدتُ كتابةَ الرسالة! أجل، تعبتُ وأنهكتُ ومللتُ من البحث عن الوثيقة الأصل، هذا هو الواقع، أخيراً يئستُ، كتبتُ لك رسالةً ثانيةً، نسخةً أخرى لكنها هي أيضاً تبخرت مثلما تضيع أهم الأشياء وأجملها في حياتنا! قسمه! فُقدتْ كما تضيع القوانين وتفاصيل التاريخ اليومي والأرواح كقطرة في المحيطات.

لا أدري إن كنتَ تتفقَ معي في خطورة هذا الأمر أم تعتبره تافهاً. إزدادت شكوكي وظنوني، وقلقي لما يمكن أن يحدثَ، وأنه سيكون الزوبعة، العاصفة، الإعصار، القيامة أو أي أمر كبير، ضخم، عظيم، مهول، هائل، أكبر من الديناصورات وآلهات العصور الأسطورية، إنها قضية عصية ومرعبة ستجرف كلّ شيء معها: رسائلي المسروقة والتالفة والمجهولة والمفقودة وغير المكتوبة وغير الضائعة، أموالي المنقولة وغير المنقولة، أسمائي وكلماتي، كلها يمكن أن تذهب سدىً، أدراج الرياح الغربية العاتية، إلا حبي وكياني، بل كل الجغرافية والتاريخ العراقيين، إلا دجلة والفرات. هذه هي المرة الأولى التي تجاوزت فيها شكوكي المحظورات، شملت أموراً كثيرة، لكن ليس كلها والحمد لله.

صرتُ أشكُ في نفسي وفي الذين يتحركون حولي! بدأت أشعر أني حسن النية أكثر من اللازم، وأن الماء يجري من بين رجليّ، وأن العالم من حولي يغلي، وإلا فلماذا تضيعُ الرسائلُ والوثائقُ وتختفي ويتغير التاريخ، بل يتبعثرُ هنا وهناك.

هذه هي الرسالة الثانية التي أكتبها لأرسلها إليك وتختفي في فترة قصيرة للغاية من بين جميع أوراقي. الطامةُ الكبرى هي أني لا أعرف بالضبط هل كتبتُها حقا أم أن ذلك ضرب من الخيال، وإذا كنتُ فعلاً قد دوّنتها فهل تُلفت أو إنمحت؟ أو قد أكون حقّاً أرسلتُها إليك وقد تكون أصلاً إستلمتَها وقرأتها بإمعان وأنعمتَ التفكير بها، وتسخر مني الآن عندما تقرأ وساوسي هذه، وحزني على ضياعها.

كلُّ شيء جائز في هذه الدنيا! ولا أدري إن كنتُ قد قمتُ بكل هذه الأمور في الحلم وليس في الحقيقة. هل تم كلُّ شيء في خيالي؟ يتهيأ لي أني قمتُ بكلِّ هذا حقّاً. هل ترى وجه الخطورة؟ إضطربت علىَّ الأمور كما يختلط الحابل بالنابل. أنا خائفٌ من إعلان مثل هذه الهواجس لعائلتي وأصدقائي، سيسيئون الظن بي، سيعتبرونها مجرد تكهّنات ويتهكّمون بي. قد يعدّوني مخرفاً أو في طريقي نحو ذلك، وقد يتصورونني مدمناً أو معتوها متخلفاً عقلياً ومهلوساً. تصوَّر!

رنَّ الهاتف. لا بد أنه الدكتور النفساني نيلس!

- أهلاً نيلس،

- ……

- ستتصل فيما بعد؟ عندما سيفيقُ المريض من النوم؟ طيب!

الحمد لله. إتصلَّ الدكتورُ النفساني، أخبرني بأن "مُراجِعَنا أو مريضنا أو زبوننا"، لا يزال نائماً، لم يأتِ حتى الآن. وعدَني الدكتور نيلس بأن يتصل بي حال قدوم المريض إلى عيادته، إنها تقع في نفس البناية. تمنىّ لي أيضا بأن أستمتع بهذا الوقت. إنه دكتور نفساني ويعرف قيمة الزمن والبشر، كان يقول لي في أوقات الإنتظار:

- أنا أتألمّ وأعاني من تأنيب الضمير في كلّ مرة أعالج فيها بالذات مريضاً نفسياً عراقياً، أحسُّ بأن إنسان الميسابوتاميا، بلاد النهرين إلى هذه الدرجة مهان يئنُّ تحت الحصار.

أخبرته مرةً ساخراً بأن أحد المرضى النفسيين العراقيين من المتعالجين عنده قال لي: الإنسان العراقي مسودَن! وترجمت له الكلمة حرفياً، ومعناها مجنون! لم أكرر عليه ما سمعتُ مراراً وتكراراً من طالبي اللجوء العصبيين: العراقي مجنون، حساس، أرعن، قصير النظر، عصبي، متعصب، إنفعالي، بل مسودَن وزدت عليها قليلا من بهاراتي قائلاً: ألف مسودَن، والعباس أبو رأس الحار مشوّر به! ولا علاقة لهذا المسودَن لا بالتاريخ الميسابوتامي ولا جغرافيته، هذا إنسان من طينة أخرى.

قلت للدكتور نيلس:

- العراقي فنان! شاعر! ملهم! تشكيلي! متذمر، مشاكس ومحتج! حصان جامح صعب المراس والترويض، ثور هائج! لايحب الموت بدون مغامرات الحرب والقتال!

طبعا كنتُ حزيناً وأمزح قليلاً، وكان نيلس يدرك ذلك جيداً، حاول أن يوقفني عند حدّي. الدكتور النفساني نيلس هذا يدرس التاريخ الرافِديني في الجامعة ويعمل صباحاً مساءاً، المرضى العراقيون يقولون عنه:

- هذا مخبّل لازم يتعالج!

"صرّح" أحد العراقيين من المراجعين المدمنين على الأطباء النفسانيين:

- العراقيون فظيعون، ليس لديهم حلول وسط، سألتهم: مخبّل مرة واحدة؟ على الأقل قولوا عنه مثلاً: إنه يعاني، مرهق، مُتعبْ، منهك، مفلّش، مريض نفسياً!

الدكتور نيلس سمع رأيهم عنه من أحد مرضاه العراقيين، قالَ له ذلك في إحدى جلسات العلاج كما لو يرمي الطينَة بوجهه، وما كان عليَّ إلا ترجمة ما يقوله، طبعاًلم يبالِ الدكتور لكلامه، أو إنه قد يكون تظاهر بذلك كأي محترف، ردَّ عليه مبتسماً بهدوء:

- هذا أمر ممكن، أنا أحضر جلسات مع مشرف كي لا أتمرض نفسياً، كلنا بشر بحاجة لذلك بسبب ضغط العمل!

المهم، أتذكر في وقتها أن نيلس قال مستفسراً:

- مسودَن؟ السومريون القدامى إعتبروا السواد إشارة إلى الجنون! والعراقيون سومريون!

إستفسرتُ منه ساخراً:

- هل تشمل هذه الكلمة كلّ العراقيين: الآثوريين، العرب، الكُرد، التركمان، المسلمين، المسيحيين، الصابئة، اليزيديين الزرادشتيين العلياللاهيين؟

أجابني نيلس مبتسماً:

- يالها من خلطة! كل سكان ما بين النهرين مجانين "مسودنين" بما فيهم أنت، بل أنت أولهم!

وغرقنا في الضحك.

طبعاً فرحتُ. سُعدتُ ليس لأن العراقيين "مسودنون" من الأصل، يعني قبل دخول العرب والمسلمين، وهذا أمر يمكن الإفتخار به، نحن عراقيون أقدم الناس في المسودَنة أو السَودَنَة، ولنا إذن الأسبقية في الجنون، وباع كبير في الفنون، والفنون جنون! لكني إرتحتُ أيضا، المريض النفسي العراقي، المفترَض أن أترجمَ له الآن لا يزال ينعم بالنوم العميق، يغطُّ فيه، عسى ولعلّه يتخلص من الإكتئاب والإحباط وضعف الذاكرة وعدم التركيز والفلاش باك وكلّ الأعراض النفسية.

وابتهجتُ، بالتأكيد سأستمر في التفكير وأواصلُ البحثَ عن الرسالة الضائعة والتطلع قليلاً إلى مزهرية مليئة بالورود الحمراء الجميلة المتناسقة مع لون الستائر. أضفتْ هذه الزهور الحمراء بعض التفاؤل على نفسي، إلا أني والحق يقالُ حزنتُ كثيراً ليس على الرسالة، بل ضياع عمري، إنه إحساس مقيت وقاتل تمكن مني في الآونة الأخيرة. حاولتُ مراراً وتكراراً التخلص منه، وأن أقنع نفسي بأن لا علاقة لإختفاء الرسالة بحاضري وبنوباتي السوداوية احياناً وتقلباتي المزاجية، وتاريخ حياتي السابق ومستقبلي! لكن دون جدوى!

قد أكون غير دقيق وغير صادقٍ بخصوص هذه الرسالة، لكن شعوراً بالضمور والقنوط والإنتهاء قد غمرني وأخذ مأخذه مني! يا إلهي!

وقد أكون سجّلتها في الحلم متوهماً أني أبدعتها في "الحقيقة والواقع" كما كان يحلو لمعلمنا أن يقول. لا أدري في حقيقة الأمر ماذا أقولُ لك وكيف اشرحُ لك الأمرَ، قد أكون حقاً صغتها وأرسلتها إليك، لكني فقدتُها في المنام، وإذا حدث وأن المكتوب لم يصلك فمعنى ذلك أن حلمي قد تحقق وأن أجهزة بريدنا هنا المعروفة في هذه الجزيرة بالسرعة والتنظيم والدقّة خاضعةٌ لأحلامي، وهذا أمر خطير لا بد من بحثه مع الأخصائيين النفسانيين بمن فيهم الدكتور نيلس.

بهذه الطريقة قد تتدخل أحلامي في مجريات أمور أكثر خطورة، تهز العالم. أجل، وقد أنشرها بعنوان: "عشرة أحلام هزّت العالم"! سيتضايق الصحفي الراحل جون ريد، سيفضحني، سيقول لي:

- إنك سرقتَ عنوان كتابي الشهير!

وسأريحه وأرضيه وأجلب له الهدوء والسكينة في لحده:

- نَم قرير العين يا جون ريد! إنها مجرد توارد خواطر! لم أسرق أفكارك! لم أخن أمانتك! لستُ من هذا الصنف!

ومن الممكن أن تكون لأحلامي تأثيرات إيجابية كبيرة على العرب والبشرية. فماذا لو أني كنت قد حلمتُ بأني تكلمت إلى مسودن كبير آخر يتحكم في الكون، إنه الرئيس (ك) وأقنعته بأن يرفع الحصار عن العراقيين ويتركهم لشؤونهم، ويحلّون مشاكلهم بأنفسهم فأهل مكة أدرى بشعوبها، ويكفّ عن إيذائهم، وعليه أن يضغط على "زميله" مسودَن العراق، ويخبره بأن البيريسترويكا العراقية هي الحل الأمثل له، وأنه سيضمن له المشاركة بإنتخابات نزيهة، أو رحيله هو وعياله إلى جزيرة يشتريها ويمتلكها ويحكمها حكماً أبدياً على هواه ومذاقه ومزاجه، وقد تسنح له فرصة الحصول على العلاج النفساني عند الدكتور نيلس، وطبعاً سأترجم له بأفضل الطرق، وسيكتب مذكراتِه عن كل بطولاته وانكساراته، عندها سيستخلص العراقيون العبر والتجارب من حياتهم الماضية وسينعمون بوجود مسودنهم على قيد الحياة حتى في عصر إنعتاقهم منه وسيكون عبرة للأجيال. كم تمنيت لو لم يُقتل الملك "المفدّى" ولا الزعيم الأوحد "ئاسم" العراق كما سمّاه باني السد العالي، على الأقل كنا سنعرف من قسّم البلد حقاً؟ وماهي اسرار الحكم! ونتعلّم من أخطائنا!

وإذا رفض مسودنُنا هذا الطلب، فسأتحدّث مع مسودنهم عبر حرمه المصون، إنها أم وتفهم معنى الحنان، عسى ولعلها تستطيع إقناع زوجها الأستاذ الجامعي "المهذب" بأن يكف عن تجويع أطفال العراق وقصفه، ولا يطبق السيناريو الروماني عليه ويتخلص منه بدمويةٍ لا تليق بالديمقراطية، كما فعلوا مع معتوه رومانيا وزوجته، لا، لا، لن أنصحة بتكرار هذه الجريمة البشعة أمام أعين الناس، لو كان الأمر بيدي طبعاً، ولن أشي بمسودننا لأنه مهما يكن عراقي من دمنا ولحمنا، ولا أريد أن أتّهم بالخيانة، بينما يتحول هو إلى بطل تاريخي قومي قتلَه الكاوبوي، ستحتفي بذكرى تصفيته الأجيال القادمة، وستؤدي إلى إقتتال الأخوة بين مؤيديه ومعارضيه. يا للهول!

أما المسودَنون أولاد أعمامنا، فهؤلاء أيضا ورثوا سودَنَتَهُم من السبي البابلي، إنهم من نفس الطينة، ولابد أن جنود نبوخذ نصر إستباحوا نساءَهم الجميلات، وعلى السيد (ك) أن يفهم بأن الفلسطينيين بشر من نار، عماليق وجبال لا تهزها الرياح! يستحقون نفس الإهتمام، وإلا ستحل عليه لعنة الآلهة، وليُقنعَ أو ليجبرَ باراك على التراجع عن التهديدات، وإعطائهم حقوقهم! قد نتخلص جميعاً من كل أنواع المسودَنين ومشتقاتهم، وبياناتهم الرنانة.

هذا حلمٌ مستحيلٌ، مثل الحلم العربي، لا يمكن إنجازه لا في الحقيقة ولا في الخيال، ولا في رأسي المثقل بالهموم، المضغوط كعلبة معدنية مطعجة مرمية في النفايات. حلمٌ مستحيلٌ! اقصدُ أن يتدخلَ السيد ك لصالح  العراقيين، والعرب وحتى اليهود وكل الشرق أوسطيين، ويخلصنا! خلاص، كفى! لكن ماذا سيفعل (ك) و في عالم بلا مسودنين يحكمون هنا وهناك؟ ماذا سيعملون بلا مجانين يسممون "آخرَهم بكأس الأول" كما يقول جرير؟ اعتقد انها ستكون كارثة، عليه وزملائه اللاحقين أن يديروا إداراتهم بلا رُعناء وغوغاء وجبناء ومشعوذين، وقد يعانون من البطالة وأزمة دعاية لإنتخاباتهم كل أربع سنوات، وقد يُضطرون إلى إعادة تصنيع مسودنين جُدد وتدويرهم، وإنتاجهم بجودة أعلى لتصديرهم من جديد إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل إيطاليا، وأوروبا أيضا.

نعم، أنا غير متفائل، سوداوي، متشائم، كئيب، محبط، قانط، مدحور، مقهور، منخور، بل يائس ومنهار، لكني مع ذلك لستُ مهزوماً، وإنتبه، أنا لا أتفوّه بهذه المفردات من باب الضعف والخنوع والكبرياء والإدعاء والتبجح. هذه هي الحقيقة، أنا إنسان عُوراقي كما يقول أحد الأصدقاء الأردنيين، شهم! أبيّ كريم! غيور! صاحب نخوة! مكابر، عنود، جرىء، طموح من جماعة " أحلامنا تزن الجبالَ رزانة ويفوقُ جاهلُنا فعالَ الجُهّلِ"، لكني والحق يقال، والحكي بيننا "هَمْ شويّة مسودَن!" والجيران كانوا يصيحون عليّ في طفولتي: مسودَن والله مسودَن والعباس مشوّر به!**

إذن هناك إحتمالان بشكل عام وباختصار شديد: الأول: إني لا أزال أعاني من "المسودنلغية" المخفية في شخصيتي. وإني رأيت نفسي في المنام جالساً أكتب رسالةً إليك. أي إنها مجرد رؤيا لا أكثر ولا أقل! وأنا أصلاً لم أكتب لك يا صديقي العزيز رسالة. وإذا كان الأمر حقاً كذلك فعلىَّ أيضا أن أتصلَّ بالدكتور النفساني وأشرح له الفكرة، إنه حدثٌ في غاية الخطورة، وهي حالةٌ غير مسبوقةٍ، لم تحدث في حياتي أن تتهيأ لي أمور لم أقم بها إطلاقاً، هذا شيء لا يمكن أن أقبَلَه أنا على نفسي.

الاحتمال الثاني: هو إني فعلا كتبتُ الرسالة وأرسلتها لك في الحقيقة والواقع المعاش لا في الحلم ولا في الخيال، وهذا حدث سعيد ومفرح بالنسبة لي، إنه يعني قبل كلِّ شيء أنك ستستلم الرسالة فعلاً وعن حق وحقيق كما كنا نقول. لكني أشعر مع ذلك بالمرارة والحزن والخوف من مستقبل حالتي النفسية. أنا قريب من حالة الشكوكية من الدرجة العالية، المرضية والتردد وضعف الذاكرة، والإحساس بكل الإلتباسات والملابسات الإنسانية، وهذا يتطلب العلاج السريع، أنا قريبٌ من الهاوية بل أنا على شفاها!

في حقيقة الأمر، لا تدخل هذه القضايا في صلب موضوعي. المهم هنا الآن هو أن أحاولَ كتابة القصيدة، عفواً أعني الرسالة. إعادة كتابة التاريخ كما يكرر مسودَن العراق! هنا بيت القصيد! وهنا تكمن خطورة الموقف وجديته!

رنَّ الهاتف من جديد!

- نعم، هذا أنا

- .........

- أوكي نيلس، أوكي، لن يأتي مريضنا الحالي اليوم… طيب، دعنا نرى!

إذن، بإختصار، عليَّ أن أستغلَّ الوقتَ وأعيد تدوين التاريخ. أعيد تأليف ما أبدعتُه في الرسالة الزائلة البائدة التالفة المفقودة المسروقة أو المصادرة كالأموال المنقولة! عليَّ بإختصار وبالعربي الفصيح أن أكتبَ لك رسالةً أخرى كما أوحى لي أو أمرني إبني الصغير "الكلاوچي" نقلاً عن أمه سيدة الإبداع والإقناع إلهام. ***

لكن ماذا إذا فضحتْ الرسالةُ الثانية تلفيقاً كتبتُه في نظيرتها البائدة؟ ألم يقولوا الكذب "المصفّط" المنمّق أحسن من الصدق المخربط؟ كيف سيكون موقفي عندها أمامك؟ أنا، والحكي بيننا ألفِّقُ في بعض المرات! وعندما أنسى نفسي تتغير روايتي للأحداث! يعني أضع بعض التوابل والبهارات على سردياتي مبالغاً في تصويرها، ليس لدرجة التهويل. لكني مع ذلك منزعجٌ، بل قلقٌ من أي سوء فهم يعطي إنطباعاً سيئاً عن حضرة جنابنا! ولا أريد أن أبدو كذاباً أو مزوراً للقص والسرد والحكايات ولا ملفقاً حقيقياً للتاريخ!

معاذ الله من منافستي لمسودَني العراق والعرب في تضخيم إدعاءات البطولة والإنتصارات، هذه هي أشغالهم، لن أقطع أرزاقهم وما أنا إلا مجرد إنسان موتوووور، كما يقولون عنّي، أتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة، أناقش وأتفلسف بدون مقابل، لكني لا أبحث في الجِيَفِ ولستُ من جماعة: إن لم تنفع فَضُرْ ! ومَن لم يدفعْ لك إهجِهِ أو إشتمه!

بل إني أحسدُ، لا، لا، العياذ بالله، أنا أغبطُ ولا أضربُ بالعين، عيني أصلاً لا تصيبُ ابدأً، عيني شبعانه ولهذا باردة! أغبطُ الأخيارَ، وأحياناً "أغبطُ" بعضَهم لقدرتهم على تزوير التاريخ، بينما لا أقوى أنا حتى على الكذب الأبيض.

إنه مصابٌ جللٌ! أمرٌ مهولٌ! يزوّرُ المسودنون التاريخَ وينسبونه لأنفسهم! يا إلهي أي تلفيق هذا! أي تزييف وفبركة هذا؟ يا الهي!

نعم، هذه هي الحقيقة ولا بد لي من المصارحة قبل المصالحة كما يقال في هذه الأيام! ألم يقلْ الشاعر: أكذبُه أصدقُه؟ إذن لِمَ هذا الانزعاج مسبقا من التلفيق؟

رنَّ الهاتف مرةً أخرى! يا إلهي، عليّ أن اترك إعادة كتابة الرسالة وأكفَّ عن التفكير بأي أمر آخر غير الترجمة للمريض المعاني!

- هذا أنا، مرة أخرى ... ها قد ظهرَ مريضنا، صحيح تأخرنا ولم يبقَ إلا القليل من الوقت المحجوز ...

- آه، طيب، طيب، لا مانع لدي من الترجمة. من حسن حظك أنا لم أستلمْ حجزاً جديداً. أنا حاضر للترجمة، دعني أتحدث إليه….

***

كما ترى يا صديقي فأنا قد أدخل في معمعةٍ لا تختلف كثيراً عن تزوير الحقائق والتاريخ أحياناً، بل أخطر منها، قد أُضطر لترجمة مبالغاتِ متمارضٍ مهووسٍ، حاذقٍ ومحترفٍ لا يبالي بكلِّ ما يمتُّ بصلةٍ بروح الإنسان وأحاسيسه وثقافته وتقاليده، أو معاناةِ مريضٍ صادقٍ حقيقيٍّ من بلاد النهرين الطافحين بالحب والإنفعالات والنار والدمار، يحمل على كتفيه جبالاً من الهموم وتذرفُ عيناه أنهاراً من الدموع تكفي لسقي الصحراء الكبرى كلها بينما يتبجح الأدعياء المسودَنون بإحتفالات النصر وأعياد ميلادهم!

***

زهير ياسين شليبه

أيلول 2000

..................

* كلمة مسودَن من اللهجة العراقية تعني: مجنون، تُقال بشيء من السخرية.

** مشوّر أو يُشوّر: يعاقب، من اللهجة العراقية، تُقال عن الأولياء الصالحين والأئمة.

*** كلاوچي، (كلاوتشي): من اللهجة العراقية تعني محتال، تُقال أيضاً بأريحية وعن شخص يتظاهر بالتودد.

 

الحرارة ارتفعت إلى أعلى مستوياتها المعهودة في موسم الصيف. الاحتباس الحراري أفقد الناس صبرهم وحيويتهم ووأد آمالهم. الجو مكهرب وزوابعه الغبارية تكتسح الفضاء اكتساحا. النفوس الباحثة عن الأرزاق تكاد تختنق. الباعة المتجولون يتجلدون لعلهم ينجحون في إتمام مسار رحلتهم التجارية اليومية في أزقة المدينة. الكساد أصاب القدرة الشرائية للأفراد والجماعات. الشباب تائهون يتحركون بدون وجهة معلومة. الرجل المصهود بالحر مسجى كعادته على سريره. يتكبد عناء التفكير لتفادي الانشغال بواقع الشباب المر. لا يجد ضالته إلا في القراءة والكتابة. غاص في تأملاته وهو يلتهم سطور رواية شيقة. غاصت روحه في متواليات سردية مبهرة فنيا ودلاليا. لم يعد يبالي بلسعات الحر المضنية.

وهو يتصبب عرقا، انجذب بكل وجدانه للقوة الفنية التي اعتمدها كاتب الرواية لإخراج الأشياء والأحداث والأشخاص من دوامة الواقع المتنافر مع قانونه. امتصه سهاد وهو يفكر كيف أبدع الكاتب في ترصيف واقع جديد في بنية أخرى بمنطق فني لم يصادف مثله أبدا.

بغتة، سمع دقات عنيفة على باب منزله الحديدي. نزلت زوجته مفجوعة عابرة الأدراج من الطابق العلوي في اتجاه الباب. سقط أمامها أخوها باكيا ينوح كامرأة فقدت أعز ما لديها. حملق بنظراته القاسية في محياها ثم قال :"جردني الزمن يا أختى من كل شيء. همشتني بقسوة آفة الزبونبة. التيه وغربتي في وطني أفقداني معنى الحياة. بنيتي النفسية والجسدية والعقلية تهاوت واستسلمت للغبن المزمن. تَمَلَّصْتُ من عتاب ولوم أب أناني جاحد، فتوالت خطواتي، الواحدة تتسلط على الأخرى، إلى أن تلاطم كفي ببابكم. قصدته أختي لعل زوجك المثقف المعروف يتدخل لدى السلطات لعلهم يمنحونني عملا يخلصني من أفكار الشياطين التي تؤرقني".

تسمر الرجل واقفا متذمرا من حياته وحياة الآخرين. وضع روايته بعناية فائقة في مكان آمن. توجه إلى الباب محاولا التعسف على ابتسامة لعلها تسعفه للحفاظ على طاقته الإيجابية. حملق في محيى صهره، ثم طبطب على كتفه، فأردف قائلا:" علمتنا التجارب التاريخية يا صهري أن الحق ينتزع.. عليك أن تؤسس منذ الغد جمعية للمعطلين .. فلنعمل سويا من أجل تصميم أشكالا نضالية تعيد الاعتبار للشباب وحقهم في خيرات وطنهم. لا تدفعني أتوسل أو أتسول المسؤولين من أجلك. الحرص على دوام استقلالية الفاعل يقابله الجفاء. كن متأكدا أن الاعتبار الذي فقدته اليوم سينتفض لتحتضنك الحياة مجددا".

***

الحسين بوخرطة

من عادة السيدة صونيا أن تنتبه لكل حركة في المحل، وعادة تهتم بي أكثر من اهتمامها بالأخريات رغم كوننا متساويات/ كما يبدو للعيان / في كل شيء: القامة والوزن واللون والصمت. ربما تهتم بي أكثر لأنني الأذكى أو لأنّ عيوني زجاجية زرقاء لامعة وشعري أشقر..بلون الشمس .الشعر الأشقر هوس نساء هذه المدينة المجنونة. على أطباء النفس أن يضيفوا لسلسة العقد النفسية " عقدة الشعر الأشقر عند النساء". منذ أيام ترجّتها إحداهن أن تبيعها شعري كي تتزيّن به في حفل زفاف. " اطلبي أيّ شيء إلا شعر هذه المانكان"..قالت لها السيدة صونيا .." لقد اشتريته من أكبر محل في دبي وبسعر رهيب .. إنّه شعر حقيقي ".

شعرتُ بالامتنان نحو السيدة، فلم يكن يحرجني أبدا أن أقف عارية في الواجهة أمام المارة ..العري هو الأصل وهو ليس عيبا أبدا، ولا مدعاة للخجل أو الشعور بالنقص، أما شعري؟ لا، لا أستطيع أن أتصوّرني صلعاء، ربما سأشعر بالبرد أو بالخوف.

صونيا اليوم مشغولة. تحضّر مع مجموعة من النسوة في المحل لأمر عظيم فلم تنتبه لزبونة ضخمة، مرت بقربي بعد أن اختارت فستانا ومشت نحو غرفة صغيرة في ركن المحل لكي تجرّبه. لكنها اصطدمت بي وأسقطت ذراعي أرضا، فوق ذيل فستاني الحريري الطويل.

حمدت الله أنها لم تصب بكسر وإلا كانت السيدة ستضعني في المخزن خلف المحل مع الرفيقات المشوهات إلى أن يتم ترميمي. ولن يتم.

كثيرات يقبعن هناك إلى اليوم معلّقات بين الوجود وبين العدم لكنني لست مثلهن.

لقد قررت الثورة.

ذكّرتني ذراعي المرمية عند قدمي بفينوس.. رمز الجمال.

هل يعقل ألا يكتمل الجمال إلا إذا نقص؟ الذين ينبهرون بجمال القمر ليلة اكتماله ألا يفكّرون في مراحل نقصانه؟

إنّ النقصان هو الذي يصل بالقمر إلى الاكتمال.

شوّش تفكيري مرور الزبونة ضخمة الجثة من جديد بجانبي، بعد أن انتهت من دسّ جسدها في الفستان. توقّفت وحدّقت بيّ ثم صرخت.

- ما بك؟

التفتت نحوها النسوة متسائلات.

- لا أدري. كلما مررت بجنب هذه المانكان اقشعّر بدني وشعرت وكأنّها حقيقية.

ضحكت السيدة صونيا:

- أنت تمزحين.

و قالت مادام أمينة، وهي تفتح زجاجة طلاء الأظافر لكي تعيد طلاء ظفر حدث به خدش:

- لابد أنك متأثرة بخبر أمس على الفيسبوك.

- أي خبر؟

- أب من المكسيك استخدم جثة ابنته التي توفيت في ليلة زفافها، كـموديل لعرض فساتين الزفاف في محله للملابس.

و قلّبت ضخمة الجثة شفتيها باستغراب وقالت:

- يا لطيف، لا يمكن أن يكون الخبر صحيحا .لكن لا أدري ..هذه المانكان فيها شيء غريب حقا.

- ما الغريب فيها؟ ليست سوى دمية !

و تنتابني رغبة في الضحك، وفي أن أهز السيدة صونيا من كتفها وأسألها من منا الدمية ..أنت الدمية في يد زوجك وفي يد أبنائك ومجتمعك وفي يد الموضة والمال وسوف تكونين قريبا دمية في يدي.

لقد قررت الثورة.

نظرت الجثة الضخمة في المرآة .و هطل عليها النفاق " تبدين رائعة ! ".." أصغر بعشر سنوات ! " .."انظري في المرآة ..إنها مقاسك تماما !"

طبعا الفستان لم يكن مقاسها أبدا، كانت تبدو مثل بقرة تمّ حشرها في جلد غزال.

تبادلتً مع المرآة غمزة ساخرة. يا لغباء المرأة ! تصدق المرايا! ألم يخطر ببالها أنّها كاذبة ومخادعة؟

تظهر لها ما ترغب في رؤيته لكي تكسب ودّها فتستعبدها؟ تماما كما يفعل معها الرجل.

لم أحب المرآة أبدا ..لست بحاجة إليها.أنا إذا حرة وقويّة.

البشر عبيد لما يحبون .

خرجت الزبونة وهي تكاد تطير من الزهو .بعد دقائق التحقت نادين بالشلّة. شابة في الثامنة والعشرين ..قصيرة القامة مع ميل إلى السمنة، لكن حيوية ومفعمة بالنشاط، تتحدث دائما بسرعة كأنّ أحدا يطاردها. كان بيدها كعادتها جريدة باللغة الفرنسية . لم أرها أبدا تفتحها لتقرأها ..سمعتها يوما تقول إنها تشتريها من أجل " البرستيج ".و رأيت الزبونات الحاضرات يبتسمن مؤيدات، رغم جهلهن بمعنى الكلمة.

و طلبت السيدة صونيا انتباه الحاضرات وقالت:

- ستبدأ الحملة غدا. علينا أن نقف جميعا مع الأستاذ عبد الرحمن. لابد أن يفوز برئاسة المجلس البلدي .

و أبدت النسوة تأييدهن لكن نادين قالت وهي ترفع شفتها العليا معربة عن تقزّزها.

_ نعم .. لكنه لا يعجبني .

- ولماذا يجب أن يعجبك يا عزيزتي هل ستتزوجينه؟ نحن نبحث عن مصلحتنا. تذكرين وعده لنا بمحل كبير في وسط المدينة.

و لم يكن محل السيدة الحالي صغيرا ولكنّه الجشع الذي يطلق عليه البشر اسم " الطموح " .

قبل أن يخرج الجميع، قالت نادين لصونيا:

-ساعديني كي أعيد لهذه المانكان الغبية ذراعها.

- لالا. ليس الآن. اتركيها. يجب أن نخرج فورا لتوزيع مناشير الحملة. سوف أهتم بها غدا.

كنت ابتسم بتشفّ وأنا أعلم أنها في الغد ستسقط مغشيا عليها عندما تجد ذراعي في مكانها ويدي مرفوعة بعلامة النصر.

***

آسيا رحاحلية - الجزائر

نـقولُ عـن الـحـميرِ بـها غــباءٌ

ونــحـنُ بـحـقّهـا دومــاً نـجــورُ

**

نعــيبُ سكـوتـها عنْ ظلـمِ ناسٍ

وتــرضـى بـالـركوبِ ولا تـثـورُ

**

وكــيفَ نـلـومُ مَـنْ لا عـقلَ فيـهِ

ويــركــبُ لـلـعـباقـرةِ الـحـمـيرُ

**

ومـا بـركـوبها فـرِحتْ جِـحَاشٌ

ولـكــنْ سـامــها خَــسْـفٌ كــبيرُ

**

ركـوبُ الـناسِ مـكـرمةٌ وفـخـرٌ

لبـعضِ الناسِ يغمرُها السرُورُ

**

أدامَ اللهُ ذلَّ مَــن اسـتــكــانـــوا

لـكـيْ يَـطْغـى الـتَكَـبُّرُ و الغُرُورُ

**

إذا كــانَ الـغــباءُ خِــيـارَ قــومٍ

فــلــنْ يـثـنيـهمُ عـنــهُ الـنــذيــرُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

زلزال مدمر

جثث منتشلة

من تحت الانقاظ

الموتى نيام

يتكئون على الاطلال

*

الحظ لم يحالف الرضيع

آهاته تتصاعد

من تحت الركام

لا انيس له تحت الخراب

سوى خالق الكون الرحيم

*

وضغط الارض

واثقالها اصبحت لا تطاق

الاجواء اضحت

غير قابلة للتنفس

انه مخاض عسير

وانفجارفي عتمة الدهاليز

*

هكذا تكلمت الارض

المكتظة بالبشر

غضبت

والفظت

ودخلت حالة انتشاء رهيبة

هل تريد الارض

ان تقول لنا شيئا

ان تبوح باسرار دفينة

لغة الارض

لا تفهمها الا الزلازل العنيفة

*

وحين يتباهى البحر

بتسونامه

تقوم الارض وتقعد

فتغيض البراكين

من تصرفاتها الغريبة

*

تهدمت المباني المتعبة

لا طعم فيها

غير رائحة الموت

ثمة صوامع آيلة للسقوط

تحطمت معها

عمائم سوداء

واقنعة السياسيين المزيفين

***

بن يونس ماجن

جلس عند بقايا مسافة هرمة

امسك سيجارة تساقط رمادها

راح يراجع قراءاته القديمة

تعاقبت أفكاره

ارتسمت المشاهد

طوقت أحزانها

تقاربت

اصطفت معانيها

**

أعلنت السماء عن عطشها

صار يبحث عن قبر منخور

ارتفع نباح الكلاب

تعانقت الفضاءات

**

وصلت الجنازات التي تم الصلاة على أصحابها إلى المكان

قررت الملائكة ان تفتح أبواب الحضرة

استقبلت دعوات المصلين

هتفت الدموع

أعلنت الأنباء عن إبادة بطولة مقبلة

**

انطلقت أسراب العصافير

خلع الماضي بذور طقوسه

ناحت النخلة

أمسى كبرياؤهَا يفرض أنفاسه

عجزت العدسة أن تلتقط صراخ أرملة

أعلن التلفاز عن ولادة مخاضات جديدة

أحس الرجل بالانهيار.

***

عقيل العبود

كان البحّارْ

مُغتَبِطاً جِداً حينَ اِخْتارْ

مهنتَهُ

لَكِنْ في اليوم الأوّلِ

فاجأهُ

أنَّ أنينَ الموجِ يؤرِقُهُ

فغدا يبحثُ ليلَ نهارْ

بين مياهِ الأبحُرِ  والأنهارْ

عَنْ غرقى يُنْقِذُهُمْ

أو غرقى ليسَ لَهُمْ آثارْ

عن أسماكٍ

أكلتْ أجسادَ الغرقى

أو أسماكٍ

تأكلُ أسماكْ

عَنْ موسيقيينَ بلا نوتاتٍ،

و بلا آلاتْ

*

كانوا يأتونَ مع الفجرِ

إلى السّاحلِ

أفراداً وجَماعاتْ

ويُغنّونَ بلا أصواتْ

لدقائقَ مَعْدُوداتْ

ويَدورونَ، يُغنّونَ،

إلى أنْ يبدأَ يَسْمَعُهمْ

فيردّد مُبْتَهِجاً

ما أجْمَلَهُمْ

ما أَرْهَفَهُمْ

كَيْفَ اِخترقوا الصمتَ

و كَيْفَ اِبتكروا الصوتَ؟

ولَكِنْ،

حين يغيبُ الفجرُ

يراهم يختبئونْ

لا يدري أينَ يروحونْ

*

في يومٍ مِنْ أيّامِ ربيعٍ ساحِرْ

سهر البحّارْ

حتى الفجرِ  ولَمْ يأتِ الموسيقيونْ

في اليومِ الثالثِ، والرابعِ، والخامسِ، و ............، سهر البحّارُ  إلى الفجرِ، و لَمْ يأتوا أيضاً

شهرٌ، شهرانِ يمرّانِ، ثلاثةُ أشهرْ

سنةٌ، سنتانْ

ما عاد الموسيقيونْ

ما عاد الموسيقيونَ إلى الآنْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

في نصوص اليوم