نصوص أدبية

نصوص أدبية

اَتَذَكَّرُ بالنسيان

أن عاصفةً عرجاء

حاولت العبور بعكازَيْنِ

مُفسدةً الأجواء فانْتَكَسَتْ

وأكلتها (عَشْرٌ عِجاف)

ــ قبل بلوغها شأوهم ــ

بما أقدموا عليه من تساخُفٍ

وتجاهلٍ سخيفْ

أيها الأغيار

فقط أتذكرُ بالنسيان

ليس لكم سعادةٌ هنا!

*

لكي أقفز إلى المجهول بأمان

لدي مَظَلة الكتابة

تتنفسُني بسعادةٍ

وتُحققُ بولادتي انتصارها

على الكبْت!

سُعداء من تتنفَّسهُم الكتابةُ بوجهٍ طَلْقْ!

وتنطلقُ بأقلامهم سرداً

وقريضاً

وابتهاجاً...

وصِلَاتْ!

*

هي التي نقَشَتْ قريحتكَ

بإزميلها

وأشعلت فيك حُب التمعن والاطلاع

والغوص فضولاً

في الأرجاء والأعماق

بحثاً وتنقيباً

عن خلودك في الحياةْ!

*

تُمَارِسُ الكتابةُ طقوسها عَلَيَّ

تَدْخُلُ في مساماتي

كموسيقا أنثى

كلاسيكية الشفاه والعذوبة

تضيف من فمي ملعقة ابتكار

لتُحلي فنجانها

المضيء بشواردي

المعتقة اللغات!

*

تَغْتَسِلُ الكتابة بين يدي

بصابون (السماوي) العاطر

مُحاطةً بضوئهِ الملائكي

في قداسةٍ تؤمُّني هالتها

نحو دوحتهِ المُشَرَّفةِ في (السماوة)

باخضرار أصالتها

وسموقها البديع النابض

بكنوزهِ المُشتَهاةْ!

*

فقط

من حَالَفَتْهُ السعادة

وجد حلاوتها في الكتابة!

***

محمد ثابت السميعي  - اليمن

 

عقاب الزمن الرديء

يغير مساره

في مدارات التلال

والهضاب يطير

فاردا جناحيه

صوب اعشاش

العصافير القطا

واليمام وفي

دائرة البرق المغلق

يحلق يحلق منتشيا

في الافق الشاسع

المضيء وبمنقاره

الحاد ينهش

اجساد الطرائد

من الايايل

وصغار الغزلان

ومن العصافير

واليمام

عقاب الوقت الرديء

حينما يغضب

يهاجم الدجاج

والصيصان

لكنه دائما

يقظا يقظا

وحذرا حذرا

وخائفا من ان

يداهمه ثعلب

او تداهمه

بنت اوى

وعقاب الوقت الرديء

يغير مساره

دالفا الى حقل

ازاهيره بنفسج

نرجس

واقحوان

وعلى صخرة جرانتينية

يحط حاصيا

احلامه احزانه

ورؤاه

وعقاب الوقت

الرديء هكذا دائما

يغير مساره

لكن في غفلة

من امره

تنقض عليه

بنت اوى

ملقية اياه

على الارض

جثة هامدة

لا نفس فيه

ولا نبض

وهكذ هكذا

عقاب ا لوقت الرديء

يموت

يموت

ويموت.

***

سالم الياس مدالو

 

دلف إلى بيته من الباب الخلفي. لقد حرص على أن يكون لبيته بابان، واحد يستقبل وآخر يودّع، وقد حرص عندما خطرت له فكرة البابين هذه، على أن يكون الباب الخلفي مفرًّا له عند الحاجة القصوى او المداهمة المتوقّعة. فتحت زوجته عينيها لتفاجأ به يقف قريبًا من سريرهما المشترك الخاص في غرفة نومهما ذات الأثاث المتواضع البسيط. سألته بعين تملؤها الحيرة. ما الذي حدث لك.. أرجو ألا تكون قد تعرضت إلى ما يُضايق ويزري. انتظرت زوجته أن تتلقّى منه إجابة غير أن ما حدث هو.. أن الصمت بقي رائنًا على الغرفة ومَن فيها.. هو خاصة. فماذا سيقول لزوجته.. أيقول لها إنه اعتاد على تلقي الاهانات من ذلك المحقّق المتسلط عليه خاصة؟.. أم يقول لها إنه ابتلع الإهانة تلو الإهانة مِن أجلها ومِن أجل الأولاد.. اولادهما الثلاثة النائمين في الغرفة الفقيرة الثانية؟.. أيقول لها إن المحقّق انذره خلال تحقيقه معه.. مهددا إياه بانه سيقطع رزقه وسيرمي به إلى الكلاب تنهش لحمه ولحم أحبائه القابعين هناك في البيت؟.. لفت صمته اهتمام زوجته أكثر فأكثر. فتوجّهت كعادتها عندما تشعر بأن الدنيا وذاك المحقق قد ضيقا عليه.. توجهت إلى المطبخ المتواضع الصغير لتغلي له فنجان قهوة عربيًا أصيلًا يُروّق به راسه.. أما هو فقد كان يفكّر فيما تلقّاه من اهانات تهدم الجبال قبل الرجال.. "لو توقف الامر على الاهانات.. لهان عليه الامر ..أما الآن فإن ذاك الفظّ الغليظ ذلك المحقّق البغيض يهدده بقطع رزقه وتجويع أبنائه وزوجته الطيّبة الوفية المخلصة. فماذا بإمكانه أن يفعل؟ أيخبرها بما حصل له في غرفة التحقيق ..أم ماذا يفعل.. لو اخبرها بالحقيقة الواقعية.. حقيقة ما حدث له مع ذاك المحقق، فإنه سيستهين بوجوده ولن يكون الرجل الذي أراد ان يكونه في نظر الجميع.. في مقدمتهم زوجته وابناؤه الثلاثة.. فماذا بإمكانه أن يقول لها؟

بينما هو يفكّر فيما حدث له، دخلت زوجته غرفة نومهما. وضعت الصينية وعليها فنجانا قهوة ورثهما هو ذاته عن جده الثائر الابدي والشهيد الشاهد على فترة مُشرقة من تاريخ البلاد.. رغم الظلام المُحدق حاليًا. جلست إلى جانبه حتى لامس دفئُها برودته وهمست بصوت أرادت له هو فقط أن يستمع إليه:

-ماذا بك.. هيا نشرب القهوة.

سكبت القهوة الحيّة الحارة في الفنجانين على الصينية وقدمت له الفنجان الأكبر. لقد اعتادت على أن تقدّم له القهوة في ذاك الفنجان، وأن تشرب القهوة في فنجان آخر اصغر قليلا.

أدنى فنجان القهوة من فمه وهو يفكّر فيما ستصير إليه أموره وأمور صغاره الثلاثة أولًا وامورهما.. هو وزوجته ثانيًا، فاذا ما قال لها إنه صمت وقبل الاهانات المتلاحقة من ذلك المحقّق المتسلط أو المسلّط عليه من آخرين. حرصًا منه على رزقهما وأبوابه المشرعة حتى الآن، فمن المتوقع أن يسقط أولًا في نظر ذاته وثانيًا في نظرها.. نظر زوجته المسالمة حينًا المتمرّدة آخر. اخفض رأسه نحو أرضية غرفة النوم. غرس عينيه في هناك فيها عميقًا وهو يقلّب الأمور على كلّ وجوهها المتوقعة.. هو ليس نذلًا وليس واطيًا.. وإنما هو سليل عائلة عريقة أضحى جده منذ فترة بعيدة عنوانًا لشهامتها ونخوتها. خلال تقليبه الامور على وجوهها المختلفة بين الاقدام والاحجام.. بين التردّد والشجاعة.. كان لا بدّ له من أن يتحدّث إليها بعكس ما حصل.. أن يقول لها إنه هو مَن أهان ذاك المحقّق اللعين، وإنه هو أيضًا مَن قام بتوجيه التهديدات إليه مُنذرًا إياه بالثبور وعظائم الأمور، وعائدًا إلى ذكرى آبائه واجداده المناضلين الميامين. وشرع يتحدّث إليها مُمهدًا بقوله.. لا تعتبي عليّ.. حاولي أن تكوني ام الأولاد الثلاثة الذين أعزّهم معزتي لبلدي وروحي. ودون أن ينتظر اجابتها ابتدأ في حكايته المتخيّلة مع ذلك المحقق. قال:" عندما دخلت غرفة التحقيق لفت نظري سلاح مركون قريبًا من طاولة التحقيق. لم يطلب المحقّق منّي الجلوس. وشرع في توجيه الاهانات لي لآبائي وأجدادي. حاولت أن ابتلع الإهانة، إلا أنها لم تنزل لي من زور. أردت أن اشتمه بأقذع السباب غير أنني تردّدت. كان لا بدّ لي بدايةً مِن أن أكون قويًا. مِن أن أحمله على تبادل الأدوار فيما بيننا، فماذا تعتقدين أنني فعلت". هزّت زوجته رأسها بريبة ممزوجة بالإكبار.. ماذا فعلت؟.. تساءلت.. فرفع راسه حتى طاول سماء الغُرفة. قال بعد صمت مهيب: فاجأته بحركة غير متوقّعة.. امتشقت السلاح المركون على حافة الطاولة وهتفت به. سلّم أمرك لي. كانت المباغتة أكبر مما تخيّل و.. حصل. ورأيت الخوف يطلُّ من عينيه الوجلتين. تناولت القيد الحديدي من درج طاولته وأحكمت قفله على يديه الاثنتين.. وأنا أقول له انت لا تعرف من أنا.. أنا ابن الاكابر. أنا ابن مَن دوّخوا المنطقة دون ان يعبئوا بما قد يُكلفهم ذلك من ثمن. عندها رجاني أن أفك القيد من يديه، فأخذت منه وعدًا بان يخلي سبيلي مقابل عفوي عنه وإزالة القيد من يديه.. اثار ما قاله الزوج.. زوجته فصفّقت بكلتا يديها وهي تقول له:" إذا كان هذا ما فعلته وما نجحت به.. لماذا أراك حائرًا.. حزينًا إلى هذا الحدّ؟.."، هنا كان لا بُدّ له من أن يتابع ما ابتدأ به قال:" ابن الحَرام. نقض وعده لي بسرعة البرق وقال لي إنه سيتنازل عن حقّه الشخصي وعمّا فعلته به يداي.. أما عن الحقّ العام فإنه لا يستطيع أن يتنازل". "وما هو الحقّ العامّ". سألته زوجته بلهفة خائفة. فردّ بشمم "أن يتسبب في قطع رزقنا". وتابع يقول:

-تعلمين أن قطع رزقنا يعني اغراقنا في بحر الفقر.. يعني معاناتي ومعاناتك.. ومعاناة صغارنا الثلاثة..

هنا أشرق وجه الزوجة وهي تربّت على كتف زوجها البطل:

-خيرًا .. فعلت .. كنت رجلًا حقيقًيا.. رجلًا ملء ثيابه. لم تخفض أاسك لذاك المحقّق السيء .. وانما لقنته درسًا لا ينساه.. أما فيما يتعلّق بقطع رزقنا.. فأنا كفيلة بأن اسدّ الغيبة. سأتعاون معك في السراء كما تشاركنا معًا في السراء.

قالت الزوجة الوفية كلماتها هذه وهي تربّت على كتف زوجها الجريء الشجاع. علامة التقدير والرضا. وهنا خطر للزوج. أن يقلب كذبته إلى حقيقة.. واقعية.. وتوجّه إلى الباب الامامي من بيته ذي البابين. وخرج مندفعًا إلى الشارع وفي خاطره أن يلقن ذاك المحقّق السيء المستبد درسًا لا ينساه أبدًا.. درسًا في الجرأة والشجاعة.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

رُبَّ حُـسْـنٍ غَـدَا * مَـثَـلًا يُضْـرَبُ

مَا رَأَى شِبْـهَـهَا * مَـشْرِقٌ مَغْرِبُ

فَإلَـيْـهَا اَلْـبَـــهَا * دَائِـمًا يُـنـسـب

إِذْ سَنَاهَا بَـدَا * فِي السَّمَا كَوْكَبُ

حُـسْـنُـهَا آيَــــةٌ * بِـدْعَـةٌ عَـجَـبُ

أَقْبَلَتْ تَـرْفُــلُ * مِـثـلُهَا مَـوْكِــبُ

نَشَرَتْ شَعْرَهَا * نَسْمَةً تَلْـعَـــبُ

عَقَدَتْ شَالَهَا * إنْ نَـضَا تَسْـحَبُ

وَالْخُطَى نَغْمَةٌ * كَـعْبُـهَا يُــطْرِبُ

فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ * دُمْ وتَـاكْ تُضْرَب

مَـائِـدٌ غُصْـنُـها * رَقَـصَتْ رُطَـبُ

قَدُّهَا هَـيَـفٌ * فِي الْمَدَى مَرْكَبُ

بَـحْـرُهُ زَاخِـــرٌ * هَائِــجٌ يَصْـخَب

مَـــدُّهُ جَــزْرُهُ * سَـاحِـلٌ أرْحَبُ

بِكَثِيـبٍ النّـقَـا * قـد عَـلا كَعْـثَـبُ

قَـدْ حَوَى دُرَّةً * غَوْصُهَـا يَصْـعُب

نَظَرَتْ رَشَقَتْ * نَـبْـلُـهَا أصْـوَب

مِثْلَ رِيمِ اَلْفَلَا * مَا لَــهَا مَـقْـرَبُ

وَرْدَةٌ خَدُّهَـا * وَالـشَّذَى أَطْـيَـبُ

ثَـغْـرُهَا كَـوْثَـرٌ * عَـسَلٌ يُسْـكَبُ

والجبـينُ صَـفا * صفحةً تُحسـبُ

فكتبـنا الـهوى * والهوى يُكـتـب

أحرُفًا من سَنَا * نَـقـطـها ذهـب

حُسنُـها كــامل * تَــــمَّـهُ الأدبُ

***

سُوف عبيد

بأحْداقٍ مُنوِّرةٍ لجسْرِ

ومُخبرةٍ إذا نظرتْ بأمْرِ

*

وجَهْمٌ منْ مَواطنهِ تَسامى

لسامراءَ إذ يَسعى كوِكْرِ

*

وجَعفرُها بلهوٍ وابْتهاجٍ

ببركتهِ الحَسناءِ يَسري

*

فلاقى بُحْترياً في رُباها

فأوْردهُ المَصاعِبَ بنتَ غدرِ

*

وشوَّهَ إسمهُ وبَدى عَدوّا

يُطاردهُ ببغضاءٍ وزجْرِ

*

فشاعرُنا صَديقُ القولِ حقاً

وتاجرهُم يُحاربُ دونَ عُذرِ

*

ألا تبّتْ يَدا شخصٍ رَخيصٍ

يُداهنُ شعرهُ فيها ويُقري

*

يُعاقرُ عَسْجداً أغوى بَصيراً

يُطاوعُ نفسهُ دوماً ويَدْري

*

كذوبٌ خادعٌ يُدْعى لأخْذٍ

وكمْ أثرى بمَعسولٍ ودُرِّ

*

أُصيبَ الجَهمُ من شَغبٍ بحَيْفٍ

فأوْدَعهُ الخليفةُ بطنَ طُمْرِ

*

أشاعوا أنّهُ جَلفٌ بوَصْفٍ

وما ذَكروا المَها يوماً بشعْرِ

*

رفيعٌ أصْلهُ يَبقى سَموقاً

تُنزههُ المشاعرُ حينَ يُطري

*

هوَ الصدقُ المكافحُ والمُزكى

يُنازلهمْ إذا وجَبتْ بفِكْرِ

*

عليٌّ إبنُ جهْمٍ دونَ جَهْمٍ

يغيّرُ عُسرَها برؤى ليُسْرِ

*

جَميلٌ شعرُهُ رغمَ اعْتداءٍ

على روحٍ تُبشرُنا بنَصرِ

*

تَبَحْترَ شاعرٌ وبَدى كذئبٍ

يطاردُ شاعراً فيها ويُزري

*

تَنمّرَ في بلاطٍ ذي ثَريدٍ

يُخاصمُ كلّ صَوتٍ عندَ قَصْرِ

*

أكاذيبٌ من البغضاءِ جاءَتْ

مُحمّلةٌ بعاديةٍ وجَزرِ

*

هيَ الأطماعُ تأكلنا بصَمْتٍ

وتلفظنا إلى وَجَعٍ وخُسرِ

*

كذا الدنيا على بَشرٍ تداعَتْ

وألقتْ حِملها في قاعِ بئرِ

*

تُساورُنا النوايا كيفَ شاءَتْ

مُسجّرةً بعدوانٍ وشرِّ

*

رغائبُ سوئها طفحتْ وفاضَتْ

تؤمِّرها بداعيةٍ لجَوْرِ

*

هوَ العدوانُ مَذمومٌ لئيمٌ

يُباغِتُ طيبَها دوماً بنَحْرِ!!

***

د. صادق السامرائي

سحبت نفسها من السّرير متثاقلة وهي تفرك عينيها كأنّما تمسح ما علق بهما من آثار النّوم. تمطّت في كسل ثمّ نهضت في اتّجاه المطبخ كي تعدّ قهوتها المعتادة متحاشية أن تلتفت الى السّاعة المعلّقة على صدر الحائط فهي لا تحتمل فكرة أن يقيّدها الوقت أو يسرق منها لحظات المساء الجميلة خُصوصا أيّام العطل. لطالما كانت تحرص كلّما سمحت لها الفرصة على قضاء بعض الوقت مع نفسها في غِنى عن صخب العالم وجنونه.

خرجت إلى الشّرفة وجلست الى كرسيّها كما تفعل في كلّ مساء، أصغت بشغف واستسلام لموسيقى "الفصول الأربعة" المنبعثة من الغرفة. كانت تجمعُها صداقة قديمة بالموسيقى اذ ألِفتها أذنها وصارت لها قدرة فريدة في قراءتها ممّا جعل لكلّ نوتة وقع عميق جدّا عليها. أرادت أن تتماهى كليّا مع هذه المقطوعة الخالدة فأغمضت عينيها وأرهفت السّمع لكنّ صوت أفكارها بدأ بالتّعالي حتى منعها عن ذلك. كان هذا المساء مختلفا، شعرت وكأنّ الأشياء جميعها تستغرقها وتعبث بهدوئها.

ربّما لأنّ القهوة أقلّ مرارة من المعتاد أو إنّها اليوم أقلّ حماسًا للحياة ولرؤية آخر بريق للشمس ينسحب تدريجيّا ويغرق باستسلام في أفق بعيد فيتركها لتغرق بدورها في الحنين لأمرٍ غابر. يبدو أنّه مساء برائحة الغياب. تمنّت لو باستطاعتها أن تنتزع الماضي بصخبه وجنونه من ذاكرتها، أن تعهد بنفسها الى الرّيح تحملها الى مدينة النّسيان فتبدأ من جديد، بلا تاريخ أو هويّة.

لكن الريح تمضي وكذلك المساء وتبقى وحدها جليسة هذا المقعد، سجينة ما كانت عليه وما قد تكونه. انها تعلم أنه من العبث أن تحاول امساك الوقت وإنقاذ الحاضر من التدفّق. انّه ماضٍ الآن ماضٍ الى أقاصي الغربة يحمل معه لحظاته الشّريدة وشيئا منها.

تنهّدت بعد شرود طويل وقالت كأنّها تخاطب شخصا آخر: " كلّ تلك المحاولات تبدو لي غير مجدية، لم يعلّمني أحد كيف أنجو بنفسي من الزمن ولا كيف أعيش يومي بلا ذاكرة تقيّدني الى الأمس أو خوف ممّا قد يحمله الغد. إنّ حاضري يتشكّل فقط من ثنائيّة ما حدث وما سيحدث وفي خضم ذلك تنفلت اللّحظة الحاضرة من بين أصابعي. "

قطع خيط أفكارها صوت خطوات تصعد السّلّم تبعتها طرقة خفيفة. وقفت في توجّس اذ أنّها لا تتوقّع زائرًا هذا المساء. اتّجهت بخطوات متردّدة نزولا على الدّرج ثمّ عبرت الصّالون حتى أدركت الباب. حاوطت أصابعها على المقبض محاولة طرد الهواجس من عقلها ثمّ أدارته لتجد فتاة في أواخر العشرينات ذات مظهر يحمل طابعا راقيا لكنّه غير متكلّف حتى بدا لها مألوفا بعض الشيء، كان التّوتّر باديا على ملامحها وقد ضمّت قبضتيها في محاولة لمداراة ارتباكها. وما ان فُتح الباب حتى انشقّ ثغرها عن نصف ابتسامة ثمّ قالت بصوت خفيض بدا أنّها تجاهد ليخرج مسترسلا:

- "السيّدة ايزلي"؟

تفحّصتها ايزلي قليلا ثم أجابت بنبرة جامعة بين التّأكيد عن كونها الشّخص المطلوب واستفسارٍ لمَ تريد:

- نعم؟

نظرت الفتاة الى عيني ايزلي بعد أن استردت أنفاسها وقالت بشيء من الهدوء وكأنّها تهمس بسرّ قديم:

- أنت تعرفين أنّ الماضي لا يرحل أبدًا، أليس كذلك؟

يتبع

***

مريم عبد الجواد - تونس

 

نودي على المتهم ك، تفاجأ الجميع برجلين بملابس سوداء، يجران جثة عارية، أوثقوها لعمود داخل قاعة المحكمة، سعل بقوة لتنظيف حنجرته من التراب؛ الذي منع صوته من الخروج للهواء، أحتج على تجريده من كفنه، وكشف عورته علنا أمام الحاضرين، صرخ:

- اليس عملاً معيبا كهذا، فيه اهانة كبيرة لإنسانيتي!

التفت الى السيدات الجالسات في قاعة المحكمة، وقال:

-    ألا يخدش ظهوري عارياً أمامكن الحياء!

لم يأبه أحدٌ لاحتجاجه، لأن صوته بالكاد هز طبلة اذن واحدة، وكان كطنين ذبابة خطفت عابرة.

بدأ المدعي العام بتلاوة التهم الموجهة للمتهم ك، طالب بعقوبة قاسية.

توجهت أنظار الحاضرين للمتهم ك، مطالبة بإنزال أقسى العقوبات به.

التفت اليهم المتهم ك، قال: أنتم مثلي ضحايا خدعة ما يسمى بالعدالة المعصوبة العينين، واليوم بوجودكم نزعت العصابة عن عينيها، واتضح للجميع أنها عمياء؛ حقيقة وليس مجازا، سنلتقي جميعا في يوم آخر، امام حاكم عادل... تذكروا ذلك .

عاد يواجه القاضي، معترضا على شرعية المحكمة؛ لأنها لم تعين محاميا للدفاع عنه، فلو كان حاضرا لرد تهمة الدافع من وراء الجريمة، ولأثبت أن اركان الجريمة المدعاة ضده ناقصة، وذلك لغياب ركنين اساسين آخرين، وهما السبب وتوفر الفرصة، ولما سأل المدعي العام المتهم ك: بماذا تفسر تواجدك في شقة الرجل الذي قتلته؟ أجاب:

- دعاني لزبارته، فجئته مساء ذاك اليوم المشؤوم، جلسنا نتحدث في غرفة الضيوف، إبتدرته معتذرا عن الخلاف الذي شجر بيننا، سألني: أنحن برأيك أصدقاء! فقلت فورا وبحماس: طبعا، وصداقتا قديمة. فتساءل: ألا يحتمل أن تنقلب فجأة الى عداوة! في تلك اللحظة التي سمعته فيها؛ شعرت بعطش شديد، فتناولت كأس الماء الذي امامي، ودون أن أقربه لفمي، اسرعت لأعيده لمكانه، غطيت بجمع أصابع كفي اليمنى، إبتسامة ساخرة كادت تفضح إشمئزازي من كلامه، قلت جائز في حالة واحدة ؛ عندما تكون الصداقة زائفة، ونفس الشئ ينطبق على الجسد الصحيح، عندما تهاجمه الجراثيم القاتلة، ويعجز جهازه المناعي عن الدفاع، عندئذ يحصل المرض وينتهي بالموت. فقام مهتاجا؛ وإتهمني بأنني خنته، بإفشاء اسمه للسلطات الأمنية، علما بأنه لم يشارك في أي مظاهرة، بينما واضبت انا في نهاية كل اسبوع ؛ بالمشاركة بالمظاهرات الإحتجاجية الصاخبة، التي عمت ارجاء البلاد التي نقيم فيها، وأنني قد تعرضت للإعتقال والتهديد بالترحيل، لكوني أحمل إقامة غير دائمية، في هذه الدولة الغربية، التي التجأت اليها، بينما هو قد إكتسب جنسية البلد وأصبح مواطناٌ، شهر مسدسه؛ فقمت لتهدئته. قال: انت حكمت على نفسك بالموت، وأطلق علي النار.

أشار ك الى مواضع الجراح الأربعة في جسده، لرصاصتين إستقرتا في الصدر بجوار القلب، وإثنتين كل واحدة منهما هشمت فخذا، أراد ان يطلق النار على الرأس فأخطأ، ربما أهتزت قبضته ونزلت للاسفل.

قاطعه المدعي العام: لكن التقرير الطبي أكد أن سبب الوفاة كانت مقذوفات نارية أطلقها البوليس في الهواء؛ لتفريق اعمال الشغب، ربما اصابتك بمقتل، وليس كما تدعي . رد ك، وهذه ربما كذبة آخرى، قطعا أنفي ذلك، المظاهرات كانت سلمية كما شاهدها العالم من خلال شاشات التلفاز، فكبف تحولت الى أعمال شغب! هذه كذبة أفتراها علينا البوليس، صديقي أتهمني بالخيانة، وأنتم تتهموني زورا بأني مشاغب ..

بعد أن انهى ك كلامه، قال كنت عطشانا جدا؛ حين سقطت صريعا، أتوسل اليك سيدي القاضي، أن تطلب لي كأس ماء، اريد أن اشرب، اشعر بعطش شديد...

لم يُستَجبْ لطلبه، أحنى راسه يائسا، ينتظر قرار المحكمة، فسقطت جمجمته بين قدميه.

أعلن القاضي رفع الجلسة للإستراحة، وبعد فترة وجيزة استؤنفت الجلسة، وصدر الحكم بسحب إقامة المتهم ك المؤقتة، وحجزه في مركز الأبعاد حتى موعد طرده من البلاد.

كان ك الحي بالروح المتأججة في جسده، قد أطفأ تلك اللية جهاز التلفاز، بعد ان سمع ورأى آخر نشرة أخبار منتصف الليل عن الفضاعات المرتكبة؛ في الأرض المنكوبة التي ينتمي اليها، أطفأ النور في غرفة الجلوس، وتلمس طريقه لغرفة النوم؛ بضوء هاتفه المحمول، إستلقى على فراشه، تراقصت أمام عينيه، صور ضوئية بالوان حمراء وصفراء، وارتعشت شرارت متطايرة في الفراغ، رآى في الظلام أشباحا بشرية، تهرب في كل إتجاه، الى لا مكان آمن تلجا اليه، وعمارات تخر الى الأرض؛ كأن كفا جبارة تسحقها، فتختفي الطبقة الارضية؛ تليها التي فوقها، الى ان تصبح أثرا بعد عين..

غفا ونام مقهورا، كان منسحقا الى درجة اليأس، وعندما صحا صباحا، تحسس جسده فحمد الله انه لا يزال حيا، لكنه لم يتعجب مطلقا، من الكابوس الذي رآه في المنام، وقال في نفسه، لا عجب ان يحدث هذا في الواقع لي او لأحد غيري.

***

قصة قصيرة

صالح البياتي - سدني / أستراليا

29 / 11 / 2024

 

لَسْتُ أَدْرِيْ، يَا دَوَاتِـيْ،

كَمْ أَسَاطِـيْـرُ حَـنِـيْـنِكْ؟

كُـلُّ مَـا أَدْرِيْـــهِ أنْ لَا

بُـدَّ مِـنْ فَـرْقَـاكِ يَوْمَـا

مِنْ مَتَى؟ أَمْ كَيْفَ؟ أَمْ أَيـْ

ـنَ التَقَـيْنَا في أَتـُـوْنِكْ؟

ظَـلَّ هـذَا سِـرَّكِ الأَنـْـ

ـأَى.. ويَنْأَى ظَـلَّ دَوْمَا!

**

غَيْرَ أَنـِّـيْ، يَوْمَ أَعْرَضْـ

ـتِ بِهَـتَّـانِ فُـتُـوْنِـكْ

وانْـتَـهَى مَا دَارَ عَـتْـبًا،

وابْـتَـدَا مَا ثَـارَ لَـوْمَـا

أَبْصَرَتْ عَيْنِـيْ عِظَامِيْ

فـي دَهَـالِـيْزِ عُـيُوْنِـكْ

أَبْصَرَتْ قَـلْبِيْ وِسَادًا،

وشُمُوْسَ الصَّحْوِ نَوْمَا!

**

رِحْلَـةٌ، مَا مِثْـلُهَا، انْهـَا

رَتْ بِهَا أَعْصَى حُصُوْنِكْ

بَعْدَمَا شَابَـتْ بِـرَاحِ الرُّ

وْحِ والإِبــداعِ هَـيْـمـا

مِنْ... إِلَى أَيْـنَ تَطِـيْرِيْـ

ــنَ مَعَ الدُّنْـيَا بِكَـوْنِكْ؟

حَيْثُ لَا شَمْسَ ولَا نَجْـ

ـمَ بِوَجْـهِ الشَّـرْقِ أَوْمَا!

**

آهِ، قُوْلِـيْ: أَيْـنَ لِيْ في الـ

ـقَحْطِ بِاسْتِمْطَارِ غَيْنِكْ؟

كَيْفَ تَـرْجُوْ فـي مَرَايَـا

نَـاهِـدِ الـمَـوْمَاةِ غَـيْـمَا؟

المُحِـيْطُ الشَّامِـخُ الوَقَّـ

ـادُ قَـدْ أَوْدَى بِـنُـوْنِـكْ

أَغْـرَقَ الـبَحَّـارَ في الـلَّا

مَـاءَ أَعْـوَامًـا وعَـوْمَـا!

**

إِنَّ مِـيْرَاثَ السَّـوَافِـيْ،

لَا الشَّوَافِـيْ، في جَبِيْـنِكْ

وأَنـَا حَــظِّـيْ مَـوَارِيْـــ

ـثُ ابْنِ عُـرْقُوْبٍ بِتَـيْـمَا

تَـتَـوَارَيْــنَ عَـنِ الأَنـْــ

ـظَـارِ، في أَفْـلَاكِ لِـيْـنِكْ

في غِـيـَـابٍ كَحُـضُـوْرٍ

وحُضُـوْرٍ حَـاكَ ضَيْـمَا!

**

مَنْ تُنَاجِـيْ، يَا فُؤَادِيْ؟

فَانْجُ مِنْ فَارِيْ وَتِيْنِكْ!

لَمْ يَعُدْ مَنْ قُمْتَ تَدْعُـوْ

هُمْ بِأَرْضِ العُرْبِ قَوْمَا

يَعْـصِفُ النِّسْيَـانُ بِالنَّـا

سِ، فَـتَـنْسَاكَ لِـحَيْـنِكْ

إِنَّـمَا تَـذْكُــرُكَ الأَسْـــ

ـوَاقُ مَا سَامَـتْكَ سَوْمَا

**

لَا تَقُوْلِـيْ لِـيْ: «مَسَاءَ الـ

ـخَيْرِ!»؛ لَا خَـيْرَ بِدُوْنِكْ

بَلْ «صَبَاحَ الطَّـيْـرِ» حَامـَتْ

في سَـمَاءِ الشِّـعْـرِ حَـوْمَا!

***

شِعر: أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

كان الجو ممطرا، وباردا برودة قاسية ترتعش لها الأبدان. كنت مسرعة أبحث عن مكان لأحتمي به من المطر الشديد. لمحته يجري في نفس الاتجاه الذي أذهب اليه. أدركت أنني أعرفه.  كان يرتدي قميصا قصيرا وسروالا باهتا، برجليه صندل تشرئب منه أصابعه وتتألم من قساوة الجو الماطر. كان يجري ويضحك ويلتفت للوراء. انه الطفل سعد لم يتجاوز بعد الثانية عشر. كان يمر دائما من أمام بيتي، يحمل محفظة قديمة جدا تظهر منها كتبه، وكان دائما يجري وأمه وراءه تطلب منه أن ينتظرها. يجري كأنه يبحث عن حلمه الهارب منه وسط الزحام. اقترب مني وسلم علي بوجه مبتسم ورعشة تحتل كل أطرافه الصغيرة. أكيد عرفني هو الآخر. كانت الابتسامة كافية لتزيل كل استغراب. سلمت عليه وسألته وكلي اندهاش من وجوده في تلك الساعة وفي ذلك المكان:

- ماذا تفعل هنا؟

ابتسم من جديد وقال لي بصوت مرتعش:

- أعمل مع ذلك الرجل. وأشار الى رجل يحتمي بجلباب سميك ويحيط به مجموعة من الألعاب الخاصة بالأطفال ويختبئ تحت مظلة في انتظار سكوت الأمطار. أعدت السؤال وكلي اندهاش:

- لماذا تعمل معه؟

ضحك وفرك يديه من شدة البرد وخبأهما تحت ابطيه وظل يتحرك حتى لا تتجمد رجلاه وقال لي:

- انني أعمل لأكسب بعض المال وأساعد أمي.

شعرت بأنه يتألم كثيرا، سألت نفسي، هل من شدة البرد أم من الحاجة التي تكبل حياته.؟ لم أجد سوى شالا كان حول عنقي، أعطيته اياه لكي يدفئ به جسمه. نظر الي وابتسم وشكرني ولفه حول عنقه وصدره واتكأ على الحائط ينتظر. كانت نظراته حزينة رغم الابتسامة التي تستوطن كل ملامح وجهه، ينتظر ان يتلطف الجو، ينتظر أن يجد صدرا حنونا يمنحه كل الحب، ينتظر أن يحقق حلمه الصغير الذي يلهث وراءه عند كل صباح ويعيل أمه كأنه هو المسئول عن وضعها ووضعه.

ساد صمت بيننا وكان حلول ذلك الجو البارد والممطر منعنا من التفكير والكلام. سألته من جديد:

- هل تشعر بالدفيء الآن؟

أومأ برأسه بالموافقة رغم أن ملامح وجهه كانت مسافرة بعيدا تبحث عن شيء ما. رفع بصره اتجاهي وقال لي:

- شكرا على مساعدتك. لأنني كنت سأموت من البرد.

كادت أن تفر دمعتي، وكتمت آهاتي في تلك اللحظة. قلت له:

- هل ما زلت تتابع دراستك؟

أجابني بكل فرح وكأنه كان ينتظر السؤال:

- نعم، لكن أتغيب أحيانا لأنني اضطر للعمل.

ثم استطرد:

- لا يهم. سأحاول أن أنجح. وظل يدعك يديه ويحرك أصابع رجليه كأنها رقصة ليلة شتوية.

خف المطر قليلا، ثم انطلق كالريح في اتجاه الرجل. بدأ يساعده على حمل تلك الألعاب ووضعها في صندوق كبير كان مركونا تحت شجرة. كان يتحرك كالفراشة بسرعة شديدة، لا يأبه بالجو البارد ولا بقطرات المطر التي مازالت تزورنا بين الفينة والأخرى ولا بوجع أصابع رجليه اللتين تنغمسان في البرك المائية التي خلفتها تلك الأمطار الشديدة. راقبته عن بعد، اقترب من الرجل الذي يشتغل معه، أعطاه ورقة مالية واحدة. ابتسم سعد، وبدت على ملامحه عدم الرضا. لكنه حنى رأسه وهم بالانصراف. ندهت عليه، توقف وهو مازال يحرك الورقة المالية في يده كأنها ورقة شجرة أعلنت احتضارها في يوم خريفي. سألته:

-كم أعطاك؟

ضحك وقال لي:

-عشرون درهما. ثم تابع بصوت حزين:

-الحمدالله. لقد قال لي في المرة القادمة ستأخذ أكثر.

لم يعجبني هذا الاستغلال البشع، قلت له:

- لماذا تضيع وقتك معه؟ ستضيع دراستك.

عادت الابتسامة وقال لي بكل عفوية وهو يحاول أن يرد لي الشال:

-أريد أن أساعد أمي. وأريد شراء مثل تلك السيارة.

وأشار بأصبعه الى سيارة صغيرة للأطفال التي يمتلكها الرجل الذي يشتغل معه. كان المطر قد توقف قليلا، وخفت الرياح، اقتربت منه قبل أن يذهب الى حال سبيله وقلت له:

- هل هذا هو ما تتمناه يا سعد؟

كان فرحا بشكل غير طبيعي، كأنه امتلك العالم بين يديه وقال لي:

- أنا أشتغل مع هذا الرجل، لأرى تلك السيارة كل يوم وأمسح عنها الغبار وأركبها أحيانا عندما لا يكون هناك زبائن.

وانطلق يجري، يتسابق مع الريح وزخات المطر. والورقة المالية في يده وحلم شراء سيارته خلفه.

***

أمينة شرادي

كـــلُّ زهْــــــرٍ فيــــهِ شيءٌ من شـــذاكِ

كلُّ درْبٍ فيــــــــهِ وَقْـــــعٌ لخُطــــــــــاكِ

*

فهنــــــا يرســلُ لِي الموجُ صـــــــــدى

أغنيــــــــــــــاتٍ ردّدتهـــــــا شفتــــــــاكِ

*

غـــــــائبٌ في آخــــــــرِ الدنيــا أنـــــا

وبعيـــــــدٌ عنــــــــــــكِ لكنّـــــــي أراكِ

*

مثلمـــــا أنتِ معـــــي حاضـــــــــرة ً

مثـــــلَ ظلّــــي في سكونــــي وحراكـي

*

إنّـــهُ البحــــرُ يُنادينــــــي فهــــــــــلْ

قدْ سحــــرتِ  البحـــرَ قبلـــي فالتقـــاكِ

*

لســـــتُ أدري ما الذي يضمــــــــرهُ

أســــــرورٌ فيــــهِ أم فيــــهِ هلاكـــــي

*

أنـــا آتٍ لســـتُ أخشــــى ليلــــــــهُ

فعلــــــى الموجِ شعــــاعٌ مِنْ سنــــاكِ

*

أنــتِ منّي وأنـــــــا منكِ فمــــــــنْ

ذا الذي حـــــوريّةَ البحـــــــرِ دعــاكِ

*

ستعــــــودينَ إلــــى الأرضِ وإنْ

ضمّـــكِ البحرُ إليـــــــهِ واحتـــــواكِ

*

ســــوفَ أصطادُكِ يــــا حوريّتي

أنتِ والبحــــر جميعـــاً في شباكـي

*

أنــــتِ منْ ألهمنـــــي الشعرَ فما

كانَ لي شيطانُ شعـــــرٍ يا ملاكي

*

كلُّ سحْــــــرٍ آســـرٍ أبطلتـــــــهُ

ليــسَ في القلبِ مكــــانٌ لسِــواكِ

*

قدْ هجـــرتُ الناسَ والدنيا معـا

لمْ يَعُـــــدْ يشغلني إلّا هـــــــواكِ

***

جميل حسين الساعدي

 

اصلاح روح

قلت للطراز يوما

كيف للطراز ان ينقش فوق الروح وردة

حينما تنخرم الروح الزجاج

قال مهلا..

لست ممن يضرم النار بسلطان رؤاه

فتبصر

لن تخاط الروح بالمخرز قط

وهي بلور الطراز

سأخيط الروح من كل نبوءة

بجناح من فراشات لآلئ

وغمام اخضر النغمة من ضوء عقيق

وزهور نسلها بتلة ماس

...

...

فتمهل!

**

امتزاج

انكِ الصبحُ الذي فيه انتقيتك

حبةَ الطلِّ على عنقودِ توتٍ

وغناءً فوق منقارِ بلابل

وهديلًا فوق عذقٍ من رطبْ

انه العشقُ مواويلًا من النورِ

اقتسمناه سويًا

فتَفَتّقنا لَهيبًا

وتجمعنا زَغبْ

من جناحيه بُعِثنا

وبِهِ نَحنُ امتَزَجنا

وامتزجنا

مثل ذرّاتِ الذّهَبْ

**

طارق الحلفي

أغلق الفنان وحيد الرشّ باب غرفته. استلقى على سريره، حارصًا على ألا يُشعر زوجته في الغرفة القريبة المجاورة باستلقاءته الخفيفة اللطيفة تلك. نهض من سريره توجّه إلى بابها الموصد جيدًا. فتحه بتؤدة مَن خَبِرَ آثار وردود أفعال الآخرين جيدًا، خاصة حين لا يعجبهم شيء بدر عنه.. علمًا أنه لا يحبّ أن يضايق أحدًا ويحسب ألف حساب وحساب قبل أي حركة يقوم بها. تمعّن في أنحاء البيت النائمة. اطمأن على أنه الآن فقط.. الان.. أنه وحيد فعلًا لا قوًلا أو مناداة وحسب.. الآن بإمكانه أن يتصل بها.. بتلك المرأة الفنانة التي أعادت إليه نوعًا من الحياة وأملا أطلّ بشفافية على مغارته المُعتمة مثل شعاع كنفوشيوس المطلّ من آخر النفق المعتم. عاد إلى سريره.. متفكرًا في تلك الفنانة الجميلة الرائعة التي فتحت له أبواب الامل المُغلقة في وجهه دائمًا وأبدًا. بعد أن التقى بها في الجالري الفني البلدي. لشرب فنجان غير شكل من الاسبرسو. ها هو الآن يستعيد ذكرى تلك الدعوة ويبتسم. لقد شرب يومها فنجان الاسبرسو بتؤدة مَن لا يودّ إنهاء شربه ويريد أن يطول الوقت أكثر فـ.. أكثر. نظراتها إليه أيقظت الرجل الفنان الهاجع منذ ما ربا على الأربعين عامًا. لقد هرب من سنواته الفظّة القاسية إلى كلّ مكان تمكّن من المضي إليه، وكان لا بدّ له من أن يرتبط بامرأة. فالدنيا لا تبتسم لأبنائها كثيرًا. وعليك ان تلحق نفسك. الفن في هذه البلدة يزيد مشاعر الوحدة ويفاقمها.

تحرّك في سريره معانقًا وحدته. لقد اعتاد على النوم وحيدًا بعد أن تسلّل الملل بطيفه اللصيّ الثقيل في غفلة منه إلى حياته الزوجية. ما دفعه أن يفتعل جبلًا من الاسباب لأن يقنع حليلته بأنه من الأفضل لكلّ منهما أن يأوي إلى غرفته وينام فيها وحيدًا. تحرّك مرة أخرى في سريره. صورة تلك المرأة الفنانة تلاحقه. لقد اقترح عليها أن تتصل. غير أنها لم تفعل مع أن إقبالها عليه كان واضحًا وظاهرًا للعيان. "هي مَن دعتني لشرب الاسبرسو وهي مّن بادرت للجلوس إلي"، قال لنفسه وتابع" ترى ماذا بإمكاني أن أفعل؟.. وخطرت له خاطرة جهنمية طالما وجهته وأرشدته إلى ما يمكن أن يفعله ويفلح فيه.

تناول خليويه وضغط على رقمها فأتاه صوتها الفنيّ الغنيّ راغبًا رنانًا" أهلا بك.. أين كنت كلّ هذا الغياب؟"، ودّ لو يقول لها.. لو يذكّرها إنه سبق واقترح أن تتّصل به غير أنه تراجع.. فقد اقتنع دائمًا بما قالته مديرة الجالري."إذا أردت أن تُبقي طائرًا غريدًا جميلًا على كتفك.. ابقَ ساكنًا لا تحرّك كتفك.. ودعه يتحرّك على راحته. وتحوّل إلى رأي آخر قال لها اللقاء بك كان رائعًا.. رجوت لو أنه طال. شجّعها ما قاله وفتح ابوابًا موصدة أسعده أن تفتح في وجهه بعد معاناة عمر.. همست له قائلة أما طعم الاسبرسو فما زال على شفتي. أدخله ما قالته في حالة من الوجد فانبرى يمتدح الاسبرسو.. وراح يتفلسف " فعلًا.. فعلًا.. طعم الاسبرسو مع مَن ترتاح إليهم قلوبنا يختلف في لذته لونه ونكهته". وتشجّع فرمى ما أراد رميه من اقتراح.. همس لها بصوت تعمّد أن ينقل إليها عبره حفنة كبيرة من المشاعر السجينة المحتبسة في صدره. قال هل يمكن أن نلتقي.. مساء اليوم.. هناك معرض فنيّ في الجالري البلدي. فجاءه صوتها العذب وهل يمكنني ألا آتي؟.

انتهت المكالمة بينهما غير أن تفكيره بها ابتدأ مُجددًا.. تناسى ما أوحت به إليه مديرة الجالري عن الفنانة صاحبة الموعد ورغبتها الجامحة في جلب الاهتمام إليها، عندما جاء المساء تناول أفضل ما لديه من ملابس، ارتداها بتؤدة رجل عثر على موعد حياته الأكبر. بعد ذلك تناول قارورة الطيب ودلق أكثر ما يمكن من محتواها على أنحاء ملابسه المختلفة. ففاحت الرائحة في جميع أنحاء البيت.. مندفعة من تحت باب غرفته المغلقة بإحكام. لم يمضِ طويل وقت حتى سمع طرقًا على باب غرفته. ففتح الباب. ليجد زوجته في كامل زينتها وذروة رائحتها الذكية. دخلت زوجته لأول مرة بخطى راغبة ثابتة فسألها عمّا تنوي أن تفعله. فأخبرته أنها منذ فاحت الرائحة الذكية في البيت راحت تستعد لمرافقته إلى أي مكان يتوجّه اليه. ابتسم لها وهو يخبرها أنه مدعو للمشاركة في معرض فنيّ يقام بعد قليل في الجالري البلدي. وتذكّر أنها رفضت دائمًا مرافقته إلى مثل تلك المعارض. فبادر إلى تذكيرها بذلك فما كان منها إلا أن قالت له بإصرار امرأة تشعر أن عصفورها سيفرّ مِن عُشها.. وسوف يُحلّق بعيدًا:" هذه المرة سأرافقك وستكون رجلي على رجلك".

بعد قليل خرج الاثنان من بيتهما نازلين أدراجه العالية .. درجة إثر درجة.. عندما وصلا إلى الشارع العام انطلقا جنبًا إلى جنب. كان الطريق بين بيتهما والجالري البلدي قصيرًا جدًا. عندما دخلا الجالري أخبرتهما مديرته بأن الوقت ما زال مبكّرًا، وأن بإمكانهما أن يشربا الاسبرسو حتى يحين وقت العرض. عندها رأى الفنان الزوج الفرصة مناسبة لأن يعلن عن ملله.. من الانتظار وأهله.. وأن يقترح على رفيقته، حليلته المرافقة المتجدّدة، أن يتوجّها إلى الكوفي شوف القائم هناك في راس الجبل الاشمّ ليشربا الاسبرسو اللذيذ معًا..

انطلق الاثنان باتجاه هدفهما مثل صاروخين تمّ توجيههما جيدًا.. وكان كلّ منهما يفكر في ذاته. الزوجة كانت تفكّر في الفترة الجديدة الفائحة عطرًا في حياتها.. والزوج الفنان وحيد الرشّ كان يفكّر في تلك الفنانة قاتلة ملله وقاطعة درب روتينه اليومي.

***

قصة ناجي ظاهر

 

قالت وهي تعبث بعصبيّة بالأوراق الّتي أمامها بينما تبحث بعينيها عن الاطمئنان بين قسمات وجهه:

أَسَبق أن راودك هذا الشّعور العميق أن لا شيء جديرٌ بالكتابة أو التّخليد؟ لا شيء يستهويك لتجعل من تفاصيله وشْما على صفحات كرّاسك الّتي باتت مهجورة..

كتائه قرّر أن ينسلّ فجأة من بين صفوف التّائهين ويبحث عن ظلّه..

لكن ماذا بعد؟ لا تعرف أين أنت من هذا الّذي يحدث بالخارج، أين تقع وجهتك والى أيّ مدينة تنتمي..

لا شيء تماما. لا شيء يستفزّ عقلك لتفسّره أو تعيره بعضا من انتباهك.

أخبرني كيف أعيش دون أن أغرق. كيف أنسج من الفوضى فكرة دون أن أتبعثر كيف أخطو على سطح الأشياء برشاقة ولا أنصهر.

فلتخبرني كيف أكون!

..ماذا أريد؟ ربّما أريد أن أجد بين أحداث العالم المكرّرة شيئًا ينقذني من عدميّتي الّتي أصبحت قدرًا وشيكا أخشاه..

لكن لا شيء. لا شيء بداخلي سوى اشمئزاز مرير من هذا الانسان المعاصر المبتذل..

الآن تبدو صرخة محمود درويش "لا شيء يعجبني" حقيقيّة أكثر من أيّ وقت مضى..

أنا ايضا "أريد أن أبكي" أحلام الأطفال الدّفينة تحت رُكام بيوتهم

أريد أن تختلط دموعي بدموع أمّهات ثكلى تنعى الوطن والولد معًا..

أنا أيضا، يا درويش، لا شيء يعجبني في عالم يختلط به دويّ المدافع من جهة بضجيج الاحتفالات من جهة أخرى كسمفونية تراجيدية بعثت من حلق الموت تلعن هذا الوجود..

أخبرتك من قبل أنّ هذا لم يعد يعنيني لكنّني أعود في كلّ مرّة ألتمس الأمل في هذا الانسان الّذي ما ينفكّ يقوّض رجائي.. لم يعد هنالك من انتظار لجديد يقدّمه هذا الكائن البائس المتخبّط في جشعة غير الدّمار والهلاك للإنسانية التي غدت وهْما طوباويّا يتغنّى به فلاسفة هذا الزّمن. وأيّ زمن؟ زمن الكلمات الفضفاضة التي يردّدها السفسطائيون ومدّعو المعرفة.. زمن أصبحت فيه الثّقافة محض قشرة تغلّف العهر الفكريّ لقطيع مُعدم..

اتركني وشأني ولا تطلب رأيي أرجوك فما يحتاجه العالم ليس مزيدًا من الآراء..

صحيح أنّه "على المرء أن يتخيل سيزيف سعيداً" فعلى الأقلّ قد وجد شيئا من المعنى في معاناته المكرّرة..

وأنا أيضا لا شيء لديّ أحتمي به من هذا الخراب سوى عدميّتي.. اتركني أنعم بالسعادة في وهمي وأتجاهل تساقط الأحلام في هذا الخريف الحزين كما تجاهل العالم دويّ القصف فوق رؤوس أطفاله.

***

مريم عبد الجواد

 

هذه الرَّغبةُ

مذْ كانَتْ ليالينا طويلةْ...،

*

وصغارُ الصُّورةِ يلتفّونَ

حولَ الموقدِ الطِّينيِّ

أنواراً خجولةْ

*

وانطفَى قنديلُنا الأصغرُ

فوق الرَّفِّ،

والكلُّ تنادوا:

أيُّها الليلُ لماذا

ريحُكَ الصَّفراءُ هبَّتْ

وسَطَ الدَّارِ الجميلةْ!

*

وانطفيْتُ!

ذا أنا المسنودُ بالسُّورِ (سليمانَ)

فصاحتْ أمّيَ الثَّكلى

بأعلى الصَّوتِ:

يا عليْ!

فأنارَ البيتَ نورٌ

صرخَتْ أمّي:

"أبا الزَّهراءِ،

ما جاوزْتُ حدّي"

قمرٌ يعلو،

وسورُ البيتِ ما جاوزَهُ الرِّيحُ،

رغيفُ القلبِ مِنْ تنورهِ الطِّينيِّ حُرٌّ،

وصغارُ الدَّارِ دفءُ الشَّمسِ

في رابعةِ الضَّوءِ،

كبارُ الكلمةْ

مِنْ كتابِ العشقِ

في مكتبةِ الأيامِ

والأحلامِ

والنارِ الجليلةْ.

*

كانتِ الأحرفُ

في الصَّدرِ خليلةْ.

أطلقتْ أجنحةَ الطَّيرِ

على الدَّارِ، فطرْنا،

صوبَ آفاقٍ مِنَ الحبِّ

أصيلةْ

*

وبنيْنا حولَ تلكَ الدَّارِ

والرَّغْباتِ سوراً مِنْ سليمانَ،

لعنّا ذاكَ هاروتَ وماروتَ،

وعُدْنا،

ثمَّ غنَّيْنا:

ألا يا أيُّها الليلُ انجلِ،

فالصُّبحُ دقَّ البابَ حيّاً،

وصغارُ الطَّيرِ فاقتْ

مِنْ لياليها الطَّويلةْ....

***

عبد الستار نورعلي

23 ديسمبر 2023

 

انه عندليب الشوق

يحمل مرايا

احزانه في قلبه

ويغرد

2 -

مثل طائر العنقاء

ينهض حسون

الافق المضيء

من رماده

معانقا نور الشمس

وهالة القمر

3 -

هكذا هو الشاعر

المتفائل دائما

دائما يخبئ

اشواك حزنه

في قلبه

ويبتسم .

***

سالم الياس مدالو

 

في البدء كان الحب

الروح التي حوّلت العدم وجودا

ثم جاءت الكلمة فكانت عجزا عن المعنى

*

لا أحبّ الشواطئَ

تغريني الأعماقُ

الصمتُ غيمٌ ممطرٌ

ما نفعها الأوراقُ

*

لا يكتُبُ الحُبَّ إلاّ الصمتُ

*

حين تعشقك امرأةٌ

وتعشق أنتَ روحها بكل ما في جسدك من حياة

تكتشفَ روحك في روحها

وتراك في مرآة بهجها

*

أن تعشق امرأة

يعتقك الجسدُ

يعانقك الوجودُ

يتسع الكون لك والخلود

*

أن تعشق امرأة

يتغير المنطقْ

الكل جزئي

وحدها الجوهر المطلقْ

*

العشقُ آيةٌ

تليقُ فقط بمن هم... في مقام الأنبياء

*

الطريقُ إلى الله

عشقٌ لامتناهي

*

من أفناه الحبُّ

جمع في روحه الدنيا والآخرة

*

أن تحب امرأة فترى الكون بِكرا

لم يُخلق إلاّ لكما

أن لا تراك مهما نظرتَ إلاّ في عينيها، في روحها، في بهجتها

*

لا فراغ يتسع لعاشقين يفيضان بالحياة

*

لا ما يثمر أملا كشجرة الحب

*

الحب هو الوعد الصادق

***

أحمد عمر زعبار

شاعر تونسي مقيم في لندن

أُغريك َبالهمِ، هل جاورتُ ذا قدري

وأمتطي حلمي

في ذروةِ الألمِ

قل لي رجوتكَ

هل في ذاكَ من لؤمٍ

وأسرج ُالخيلَ

لعل الخيلَ تنقذني

من كل ِما يشغلُ الساعاتِ في العدمِ

يبدد ُالوهنَ

أو يبقى على الندمِ

شيئان يجتمعان أعشقهما

أفقٌ فسيحٌ

وضوءُ الشمسِ وهو سمي

قد يزهرُ العمرُ فيما كنتَ

تجهلهُ

وتستفيقُ حكاياتٌ مضت سلفا

من غيرِ عزفٍ ولا شدوٍ

ولا نغمِ

حتى تراني وحسنُ الصمت خالطني

أَلمُ بعضَ جراحاتٍ على رممِ

لا أترك َالصمتَ

إني حينَ أسَمعهُ

قد استعيضُ بهِ

عن ندرة ِالكلمِ

***

عبد الهادي الشاوي

مع ترجمة للإنجليزية بقلم:

الأديبة السورية الناقدة فاطمة عبد الله

***

وأذوبُ كالصحراءِ وجداً

في ترانيم الإيابْ

لا واحةٌ خضراء تسعفنيْ

ولا أَرَقُ الرمال يَحُسُّ بيْ

والشمس تغسلُ هامتي بالثلجِ

حتى أسيلُ من قدميه!

والظل يطفو

خانقاً أنْفَاسَهُ

كالموت يجترُّ الحياه!

*

لا جُرح غير الوقتِ

يَنزفُ عُمْرنا المسفوح بالأيام ِ

من عِرْقِ السنين!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

...........................

No Wound but Time

And I dissolve, like the desert,

Longing with an intense yearning

In the hymns of return.

No green oasis comes to my aid,

Nor do the delicate sands sense my ache.

The sun washes my head with frost,

Until I melt away beneath his feet!

The shadow floats,

Suffocating its breath,

Like death,

Gnawing at life!

No wound but time

Bleeds our lives,

Spilled across days,

From the veins of years!

***

The poet: Mohammed Thabet Al-Sumaei - Yemen.

Translated by Fatima DL

أمام المقهى الذي اعتدت الجلوس كل يوم تقريباً في الصباح وعند العصر، وهو مقهى عريق في العاصمة اليونانية أثينا يقع في منطقة خلاندري عند منحدر شارع خلفي تظلله اشجار معمرة ذات لون يقترب من البنفسجي.. وأمام ركن المقهى المقابل محل لرسام وآخر مختص بالصور الجدارية وتغليف الجدران بالورق والديكورات، وآخر في المنتصف متجراً لبيع الكتب القديمة والحديثة.. المتجر فيه رفان متلاصقان مملوءان بالكتب والباقي مصفوفة على الأرض كالجدار حتى السقف.. والسقف فوقه طابق يصل بدرج من خشب حين يريد أحياناً أن يخلد صاحب المكتبة الى النوم.

وهو يفتح المتجر كالعادة من الصبح حتى الثامنة وربما التاسعة ليلا لكونه يقيم على سطح متجر الكتب وحيداً، وحين يقرع ناقوس الكنيسة المجاورة يهرع للصلاة ويترك متجره مفتوحاً.

يحفظ عناوين الكتب وأسماء الكتاب والمؤلفين قديماً وحديثاً ويعرف مكان الكتاب في زحمة أكداس الكتب التي تعد بالآلاف وبأحجام مختلفة.

وحين تجلب لي نادلة المقهى الجميلة كاترينا القهوة اراه غاطس في قراءة كتاب بلا ملل، ينهيه ليأخذ غيره بشغف بالغ.. يرشف من فنجان قهوته التي يحضرها في دورق ساخن في الصباح ويعود الى سطوره الساحرة التي تشده شدا.. إنه نهم ولا يشبع حتى ينسى نفسه بين سطور الكتاب إلى درجة يتحلل فيها الزمن من حوله ويتبدد.

سألت كاترينا ذات مره: ماذا يفعل آدم في هذا المتجر؟

ألا ترى إنه يقرأ..؟

وذكرتني كاترينا بإجابات جارتي العجوز التي لا تجيب بشكل صحيح وصريح، إنما تجيب بسؤال..

أعرف إنه يقرأ، ولكن ماذا يفعل خلال يومه الممل؟

كاترينا: ليس مملاً، هو يقرأ ويستمتع فحسب..

ألا يشبع من القراءة طوال اليوم؟

أجابت: إنه كما أنت تستمتع بقهوة الصباح والمساء.. واطلقت ضحكتها المحببة بشيء من الغنج الأنثوي ودخلت المقهى وعلى كتفها يتأرجح شعرها الذهبي كأمواج البحر.

جاءتني بحلوى.. تفضل هذا على حسابي..

رفعت نظري نحو صوت عراك على سقيفة محل الرسام أمامي بين طائرين يتنازعان المكان..

هل ترين ماذا يحصل هناك أمامنا؟

أجابت: وهل يتنازعان على العش أم يتنازعان على الأنثى؟

ارى انهما يتنازعان على العش.. فالمنتصر ستأتي إليه الأنثى.

 قالت: العش ليس هو ألأساس، وقالتها بثقة وحزم.

وماذا عن بائع الكتب؟

ألا تكف عن الحديث عنه؟  لماذا لا تدعه وشأنه يفعل ما يشاء؟ إنه يحب القراءة فحسب.

قاطعها، لا أدري إن كانت زوجته قد تحملته وهو يحب الكتب أكثر منها.؟

قالت: نعم إنه يحب القراءة اكثر من أي شيء آخر.

لذلك بات وحيداً، ربما تركته زوجته لهذا السبب.

اجابت: إن حدسك في مكانه.. لقد تركته منذ أكثر من عقدين من السنين.

وهل لديه اولاد؟

إبنة واحدة، عافها وهي بعمر خمسة اعوام.

ربما تكرهه الآن؟

قد لا تكرهه، وإنما تكره سلوكه.. إنه يظل أباها ولا أحد ينكر ذلك.

يبدو، إنك تعرفين عائلته..

نعم، زوجته والدتي التي كان لا يهتم بها بقدر المكتبة وقراءة الكتب.. وتلك هي العقدة.

لماذا لم تقرأ زوجته الكتب مثله؟

تلك هي طباع الناس..

وهل يعرفك، أنت إبنته؟

كلا، وأنا عرفته من خلال والدتي حين جاءت ذات يوم لتأخذني إلى المستشفى.. حينها قالت لي، هذا هو أباك..

فعرفته، ولكن لم أكلمه ابداً وهو كذلك لا يعرفني.. اكثر من عقدين من السنين، ليست قليلة.

وهل تحنين إليه؟

إنه أبي رغم كل شيء.. أما والدتي فقد اهملها ولم يبال بإنفصالها عنه حين اصدر القاضي قرار الطلاق، هي من اعلمتني بذلك. وأضافت: اعتقد بأن لا ود بينهما، فهو لا يهتم بها وهي لا تكترث له.

أين والدتك الآن؟

إنها طريحة الفراش وتعاني من مرض يمنعها من الحركة.. وأنا أعمل من أجلها.

لم لا تصلحا الحال؟

لا أحد يريد ذلك.

من أجلك،

هي لا تريد الاقتراب منه بفتح سجل الماضي، وهو لا يعرف من أكون ولا يريد أن يفتح طريقاً جديدا.

هو لا يعرفك إنك إبنته.. وأنت تعرفين أنه والدك.. ألم يكن ذلك عذاباً مستمراً؟

لم لا تتحدثين إليه وتتقربين وتؤكدين له احترامك واهتمامك به..

اخشى ردة فعله.. إنه لا يعرفني.. ولا يريد ان يصلح الحال مع والدتي.. فما العمل؟

مسيرة ألف ميل تبدأ من خطوة واحدة.. هذا هو درس الحياة.

***

قصة قصيرة واقعية..

د. جودت العاني

27/11/2024

أصدقائي المغمورينَ،

لا تتوسَّدوا الأملَ،

بل رافقوا اليأسَ،

فهو مشعٌّ كما الفناراتُ في بحرٍ بهيم.

*

أصدقائي المساكينَ،

لا تَنشروا الحُلمَ في أفياءِ الأشجارِ،

فهو مُعدٌّ للبسطاء والحزانى والمكدودين،

عليهم أن يناموا بلا وجبةِ وهمٍ ثقيلة.

*

أصدقائي الشعراءَ،

ناموا وقوفاً،

كوكبُ الحزنِ لا يسعُ بطرَكُم،

شخيرُ الأغنياءِ يطلقُ زئيرهَ على هسيسِ أوراقكم،

نساؤكُم يفضِّلن البصلَ على فواكهِ كلماتكم.

*

أصدقائي...

اطردوا أشباحَ الفقرِ والكآبةِ والنحسِ ووووو،

من جحوركمِ التي منَّ الوطنُ بها عليكم،

هاجروها إلى فناءِ اللامبالاة وروضةِ النسيان.

*

حسبتُها خفيفةً تمازحُهم بكلامٍ أسود،

يا ويحَ أوجاعي،

حينما بانتْ تلويحاتي،

أغنيةً ثقيلةَ الدم.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

غصن الزيتون يراقص ريحاً شرقية

وقلوب الناس النجوى في التقديس

أملُ الانسان المتفائل

بغدِ الحلم البرعم في غابات الفكر البشري

هذا اليافعْ

ولدته الارحام البشريةْ

بعد سنين عجاف

بالقول الما رد

هذا الساطع

كان الصوت المدوي من "اورورْ"**

في "نيفا" الميناء

بالوعد العائد

المتجدد في ذهن الاجيال

القادم من شلالات ينابيعٍ

اريج الازهار البرية

تتداخل في ذاك الشفق الوردي

بهلال التوثيق النابع

من فكرٍ فسر معنى العالم

هذا المقهور برأس المال

والفهم الواعي بالطبقات

من تاريخ الكدح الموروث

والحق الرائج والتاريخ

وتجلى في الكومونة وعداً أوحدْ **

علّم درساً وصراعاً طبقياً أمردْ

في القادم من اكتوبر عَبْارات

تتبلور في البرقيات

تتحدث عن رؤيا في الذهن البشري

في معمل من صنع الاذرع

في الحقل الأحدب

في ادب الرحلات

هذا الوعد المترقب

في سوح الغابات

في البركان المتجدد من ثورات

وحدود المحميات

يتساءل عن جدوى الموجودات

في خطب الممنوعات

أكتوبر أحمر في الرايات

والمنقوش النيات

يأتي من ثوب القديس القائل في حكمةْ

انا نحمي هذا الكون

من ثالوث معقوف

في هيئة مارد فوق سحاب ممطر

وزنودٍ في اللون البني

واللون الأسود

والألوان البشرية

**

أكتوبر فن الثورات

انقاذ الانسانْ

من جور القهر الطبقي

وسعير العسف الاستغلال الطاغوت

أكتوبر حلم أبدي

يتحقق في الطفرات

ويحقق غصن الزيتون حمامات بيضاء

وليرسم لوحات غناء

للإنسان البناءْ

أكتوبر حلمٌ حقق تلك الغايات

توّج هامات

وازاح القهر

ألغى قانون الغابات

أكتوبر / 2024

***

مصطفى محمد غريب

.................................

** السفينة الحربية أورور الراسية في نهر نيفا أطلقت النار معلنة بدء الهجوم من البحارة والجنود بقيادة تروتسكي على القصر الشتوي في بتروغراد

** 18 / اذار / 1871 كومونة باريس او الثورة الفرنسية الرابعة شكلت حكومة اشتراكية راديكالية، اعتبرت اول ثورة اشتراكية انتهت بحمام دم في ما يسمى ب "الأسبوع الدامي"

 

للغرباء والشّعراء والمظلومين

الخواطرُ المنتثرةُ،

في ليالي نيويورك القارسة،

تُساومُ الذّكرى،

تُصارعُ النّسيان،

قبل أن تتلاشى كأواخر أوراق خريف مقصيّ.

تُطارَدُ على وقعِ زمهريرٍ،

يُحاصرُ الرّصيف السّادس والعشرين.

*

بقايا الرّياحِ الباردةِ،

تسبقُ الأمواجَ المُنهَكة،

تلفحُ الأرصفةَ المهجورة،

المُطِلّة على نيوجرزي الغافية،

وتمثال الحريّة المُبَرْمَجَة.

*

في مماشٍ شبه فارغة،

يرافقك طيفُ فلسطين،

ترتعد الخواطرُ،

ناسية أنّ الهودسن،

يجيدُ الإصغاء

للغرباء والشّعراء والمظلومين.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ - جامعة فيرجينيا

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

ترنيمة

ولأن الطريقَ طويلُ

خشيتُ أن يهترئَ صبري

خشيتُ مجافاةَ الظلالِ

ومراوغةَ الشمس ِ

خشيتُ لسعةَ الوحشةِ

أو فقدان زقزقةَ الأحلامِ

منذاك وأنا أضعُ الإشارات

على قفى الأيامِ

كي أعرفُ كم أكلَ الطريقُ

من همتي.

**

مشهد

تهشمت النوافذ

وبقي إصرار الانتظار

توارت الأبواب

وبقيت جلجلة المفاتيح

توارى الأصدقاء

وبقيت ملامحهم تسير بيننا

انطبقت الجدران على الجدران

وبقيت الانفاس تصرخ

لي ذكريات شتى تلهي

ومضادة للوقت

لكنها كحبة الأسبرين

.  سرعان ما تتركني بواجهة الألم

**

نوافذ مشرعة

لا أدري

ما نفع النوافذ المشرعة

إن كان المدى

لا يحرك ساكناً

ويتركني أخبز أقراص الصبر

على وهج الإحتمال .

**

الأسئلةُ الساخنةُ

ألأسئلةُ الساخنةُ

بوهجِ الحياةِ

الجديرةُ كمفتاحٍ سري

التي ألقت بنفسِها

بخالصِ الإصرارِ واندفاعِ الترصدِ

ترتدي عزيمةَ الدليلِ

بين اضطرابات الأيامِ

كفنارٍ لسفينةٍ تائهةٍ

بين احتداماتِ الريحِ

خشيةَ فوات الأوانِ.

الأسئلة الكهلةُ

التي لم تفوتَ دورها

تنظرُ بألمٍ قديمٍ.

**

حصار

يغمرُكَ الغيمُ

بردٌ يشلُ الخُطى

ومطرٌ من كتلِ الرمادِ متواترُ

آن تمدُ اليدَ يهطلُ

يغمرُكَ الشتاءُ

حتى تكاد أن تتلمسَ

بأصابعِكَ أحقادَ المللِ.

***

رضا كريم

 

ما أرى غير قيعان، قد نكصت عن فراغها

ولو أنها أحجمت عن هجرها الخسران

لازدانت بالأمل ..

يُخمَّر نقصها حتّى تعلوه فُقاعاته الحزن،

لكنها، تنهض من فكرة قاصمة،

فتركض إلى الحقول العاشبة؟

2 ـ

أيتها الروح القُطَامِيّة النافرة

هل يستوعبني السحاب الطالع من رئتي،

يتعثر بي مخلبه البازي السميك..

كعتمة مصقعة بأزيز الصرع؟

ثم أنبت في رواء البدن،

مبددا طريقي إلى العراء؟

3 ـ

ها إنني، مدبرة غير مقبلة

وعاشقة غير شائقة..

أتردد في اجتزاء الشعر،

وأطوف بمتاهة الاحتداد..

4 ـ

أملك كوة طيف صغيرة..

خرقا عاليا في جدار الكظيمة،

مملوءة عن آخري..

غير أن الرؤية تزدحم عند اشتداد البئر ..

فأستظل بالنور ..

وأستطعم النبالة عن الغيظ..

والشرف المروم، عن اجتفاف القلب ..

5 ـ

الحب مثل الحرب سعاية قديمة

إفك سادر يحرق المكان العذوب

يبذر ألم الشك في الحقول السخيمة..

الحب كالحرب

نار متلفة،

قُضْمَةُ بأنياب سوداء ..

***

شعر: لالة مالكة العلوي

شاعرة من مراكش

 

كان الطريق من المدرسة إلى البيت طويلاً، بحيث كنت معتادة على التوقف بين الفينة والأخرى أملاً في أخذ قسط من الراحة.  ذات يومٍ جلست تحت ظل شجرة بجانب الطريق عَلِي أتقي شر خيوط الشمس المنهمرة على رأسي. أخرجت كتاباً من محفظتي كنت قد عثرت عليه وسط ركام من الأزبال المتراكمة قرب بيت مهجور. لقد كان مكتوباً باليد، دون اسم كاتبه ولا ناشره، عدا عنوان غريب: "العوالم الموازية". ما فهمت منه هو أن الشخص الواحد منا يحيا في عوالم مختلفة، عالم تغمره فيه السعادة وآخر  يلفه فيه الشقاء والتعاسة. لم يكن الواحد منا لينتقل من عالم إلى آخر دون تدخل وسيط، إنه "البَابَان"، هكذا لقبه صاحب الكتاب!

أثار هذا الكتاب سخريتي، لسبب بسيط وهو أنني لم أكن ممن يؤمنون بالترهات والخرفات، وقلت، مخاطبة نفسي: "لا أفهم كيف يتمكن التفكير الغرائبي والعجائبي من عقل بني البشر !" وضعت الكتاب في محفظتي، وهممت بقطع طريق مختصر علني أصل المنزل في الوقت المحدد كيلا تعتقد أسرتي بأنه قد حل بي مكروه. فجأة وأنا أخطو داخل الممر، أحسست وكأن ظلاماً دامساً يتسلل خفيةً لدرجة أني لم أعد أرى أين أنا، هل أخطأت السبيل؟ ربما! بدأ الخوف يتسلل بداخلي، أسرع الخطى، أركض بلا شعور. فجأةً لمحت نوراً شديد البياض لدرجة أني كنت مضطرة لغلق عيناي، شعرت على إثرها بيدٍ تجرني لتلقي بي في مكان غريب حيث الليل ألقى سدوله، وحيث ضوء القمر الخافت يتأهب لاحتلال موقعه. أحاول جاهدةً فهم ما جرى، ثم بدأت أستحضر آخر ما قرأته عَلِي أجد رابطاً يُفْهِمُنِي كل ما يدور حولي. حين وصلت إلى ما يشبه غابةً لمحت رجلاً متكئاً على شجرة وهو ينظر إلي بابتسامة لا تخلو من احتقار، فسألته: "من أنت؟" فأجاب: "أنا ذاك الذي أثار سخريتك!"رجعت، من هول الصدمة إلى الخلف بضع خطواتٍ، وأنا أتساءل: "كيف عَلِمَ بما يجوب بخاطري؟! أيكون جنياً أم ماذا؟! أم أني أحلم؟!" نظر إلي وانفجر ضاحكاً، وبمجرد ما أَمْسَكَتْ يَدُهُ يَدِي عاد الضوء الأبيض للظهور، لكنه كان هذه المرة أقل شدة، كان الأمر شبيهاً بمن يدخل لوحة خلفها لوحة أخرى لأجد نفسي فوق مرتفعٍ عالٍ يطل على بحر شديد الزرقة، وأمواجه تصطدم بحافة الصخور وكأنها تنين لهيب هائجٍ. أحسست بهلع عظيم، والأفكار تتداعى في ذهني: "أيريد إلقائي في هذا اليم؟! كلا، لا أريد أن أموت، أريد العودة إلى بيتي وأسرتي" ثم رجوته أن يخلي سبيلي: "أنا آسفة، اعتقدت ما جاء في الكتاب مزحة، محض خيال، لم أكن أعي ما أقول، رجاء أطلق سراحي وأعدك بأن لا أكرر ما قلت."

- فقال: "لا تخافي هي فقط البداية صغيرتي"؛

- "عن أي بداية تتحدث سيدي؟ أرجوك، أعترف أني مذنبة في حقك..."

- فقال: "أنظري ، أترين تلك الفتاة هناك؟"

- "ماذا؟ إنها أنا، أيعقل أن تكون هي أنا؟!"

- فأجاب قائلاً: "نعم إنها أنت لكن في عالم آخر!"

لقد كانت حالة شبيهتي أو بالأحرى حالتي أنا في ذاك العالم تبعث على الأسى، ملابس رثة وممزقة، تجلي للبؤس والشقاء...

- فقال: "هل صدقتي الآن ما جاء في الكتاب؟"

- "نعم، نعم سيدي ليس لدي أدنى شك في ما ورد فيه، فرجاء هل تسمح لي بالعودة إلى عالمي، أعني عالمي الآخر؟"

في هذه اللحظة وضع يداه على رأسي، فأحسست بنوبة إغماءٍ فقدت معها وعي، لأستفيق وأنا ملقاة على قارعة الطريق، الطريق نفسه حيث بدأت سلسلة الحوادث الغريبة، وحيث دخلت عالمي الآخر. غمر نور الشمس كامل جسدي بشكل جعلني أسترد بعض حيويتي بعد هذا الرعب الذي عشته في عالمي الثاني وما رأيت فيه من الأهوال. هرعت إلى البيت فوجدت الجميع في انتظاري، إخواني وأخواتي، أبي وأمي، كان الجميع يبحث عني، لم يتركوا باباً إلا وطرقوه، اتصلوا بجميع صديقاتي وحتى بالثانوية حيث أدرس...لم يكن زمني هو زمنهم، بدا لي غيابي بضع دقائق، والحال أنه مرت على سفري خمس ساعات بالتمام والكمال. لم يصدق أحد قصتي، لم تكن بحوزتي حجة سوى ذلك الكتاب الملعون. أردت اطلاعهم على محتواه، لكن يا لها من صدمة ومفاجأة، اختفت كل سطوره وكلماته، تحول إلى صفحات بيضاء!

***

سهام بورجيع

 

منذ ان كنت طفلة وأنا احب ان ارتدي فساتين طويلة، أتخيلني أميرة تمتاز بعنفوان البراءة حين اجري بين تلك المروج وانا احمل قطتي لارا، والحقيقة هذا ما كان يميزني عن بقية صديقاتي اللاتي كنَّ يقضين وقت فراغهن في حديقة منزلنا الكبير جدا... كبرت على تلك الحالة برغم أن هناك من يدعونني بالغرور، الى أن جاء يوم تخرجي من الثانوية العامة وكان لزاما ان ارتدي الزي الرسمي لحفل التخرج.. يوم جميل خاصة انه يمثل ما احب ان ارتديه رداء طويل ذو اكمام فضفاضة واسعة مع قبعة رباعية بكركوشة خضراء، وكنت اميل الى ان امازح صديقاتي على انه يشبه الطربوش العربي.. قرأت كثيرا عن ذلك فأنا من محبات التأريخ العربي لأنه يمتلك من الثقافة والعلم ما لم تحط به أي دولة على وجه الارض، بالذات تأريخ وحضارة العراق، مصر، الجزائر والمغرب غالبية الدول... كنت مستمتعة وأنا بين تلك المجموعة التي تحيطني وتحفني بالحب... لم اعتقد في يوما من الايام اني قد أزعلت ايا منهن فغالبيتهن يعاملنني بحب وود بعيدا عمن اكون فالعلاقة الانسانية تُبني على الحب المتبادل والثقة هكذا تعلمت وهكذا قرأت، ورغم ما ارتديه من رداء تقليدي لحفل التخرج إلا أني كنت ألبس تحته فستانِ الابيض بل الناصع البياض المطرز بحاشية ذات لون وردي واكمامه محاطة ببعض ورود صغيرة، انه كان هدية عمتي بمناسبة حفل التخرج... اختلسته من خزانتي كي أفاجئ الجميع فقد كان من المفترض ان ارتديه في المساء حين يقيم والداي وعائلتي الصغيرة احتفالا عائليا بتخرجي، لكني استبقت الحدث فارتديته.. الجمع غفير والعوائل التي حضرت الحفل كثيرة، الفرح يرتسم على وجوه كل من كان حاضرا حتى الكادر التدريسي يشعر بالغبطة فنهاية العام وتعب اشهره اثمرت حفل تخرج كان متصدر عناوين الصحف من قبل الإعلان عنه لأن اغلب الطالبات والطلاب قد نالوا من خلال مشاريع التخرج براءات اختراع لمشاريعهم الصغيرة.. لم تكن لي علاقة بمعنى العلاقة لكني امتلك من الصديقات الحميمات العديد الى جانب واحد او اثنين من الاصدقاء الذين يشعروني بالدفء من خلال العلاقة الانسانية التي تجمعنا...اغلب افراد عائلتي قد تواجدت حتى اخي الصغير توني صاحب العدسة الذهبية هكذا كنا نسميه فهوايته التصوير الفوتغرافي ونعتبره المدون والموثق احداث اغلب مجريات مناسباتنا مثل اعياد الميلاد التي نقيمها ونشهدها معه حتى الرحلات العائلية والرحلات المدرسية كانت موثقة من خلال كاميرا وعدسة تصوير توني العزيز؟؟ الذي ما كان يناديني باسمي ابدا بل كان يناديني بالأميرة كاتي اختصارا لكاثرين.. الجمع غفير كما قلت الكل مستعد لأن يبدأ الحفل بشغف كبير، اصطف الكادر التدريسي فوق منصة أعدت مسبقا لمثل هكذا احتفال، كنا مجوعة من الفتيات نجلس على يمين المنصة وهناك مثلنا بقية الطلبة والطالبات التي حفتهم سنة التخرج اما ذوي الخرجيين فهم في الجانب الأيسر.. على اية حال كنت مفعمة بالحيوية والنشاط وانا ارى توني يجوب بين الحاضرين بعدسته وهو يوثق حدث التخرج بكاميرا الفديو التي كانت هدية عيد ميلاده الثالث عشر وفي رقبه الكاميرا الفتوغرافية... يا الله أجده مهتما بكل حذافير الحدث كأنه مصور بارع ماهر لم تخلو لقطة سواء بكاميرا الفيديو او العدسة الفتوغرافية من لقطة إلا وأنا فيها.. محال ان يكون هناك من هو اسعد مني في ذلك اليوم، ولدت من جديد وكل ما كان يشغلني هو ان ينتهي الحفل كي اخلع زي حفل التخرج واشاهد فضول الناس ونظراتهم وانا بثوبي الابيض المطرز باللون الوردي... كان الثوب الذي ارتديته قد ارسلته عمتي من فرنسا لحفل التخرج واحتفظت... أظنني ذكرت ذلك! على اي حال ما اعجبني كثيرا فيه هو تلك الزهور التي طرزت أذيال الفستان بشكل بديع ورائع خاصة اثناء الدوران في حالة الرقص كأنه ايقونة زمن تعيد تلقيم من يرتدي مثله لتصنع منه رمزا للحياة.. اخذت ادارة المحفل تنادي بأسماء الطلبة الخرجين تباعا كنت افرك بيدي وانا اتابع وجوه ذوي الطلبة تشع بالنشوة والسعادة.. أما والدي كلما وقعت عيناي عليه يرسل لي قبلة في الهواء حتى اني ما رفعت عيني عنه للحظة اما والدتي فقد كانت منشغلة بمسح دموع عينيها وهي تضع المنديل على فمها.... شعرت اني امسك السعادة من قدميها اسحبها كي تكون الى جانبي... استوقفني الوقت وقد ابدى لومه من ان السعادة لا تتوقف عند احد بل هي مثل الايام والساعات زائر يجري بلمح البصر او كما البرق لا يمكنك الامساك بوميض برقه، غير اني كنت لئيمة بعض الشيء خاصة اني اتطلع بين فينة واخرى الى ثوبي الابيض من تحت الرداء بعد أن اقسمت ما أن استلم شهادة التخرج حتى انفض عني رداء التخرج واظهر للملأ بثوبي الابيض كي ابهرهم كما كانوا يعرفون عني لم يكن يعلم بما نويت سوى لوسي صديقتي الحميمة وقد علقت على ما نويت بأن اتروى ولا اكون محط انظار الحاسدين والذين لا يكنون لي الود... لكني لم ابالي ... ها هو اسمي قد نادته السيدة المسئولة عن النشاطات المدرسية برجديت.. فقفزت كما طيور النوارس  حيت صعدت المنصة بخفة ويدي تعمل على خلع رداء التخرج الذي رميت به بعيدا وانا اصرخ يا الله ما اجمل هذا اليوم شكرا لك سيدتي الكريمة وانا اتطلع الى كل الحاضرين وهم يرمونني بنظراتهم التي شعرت انها اخترقتني كالسهام الكثير منها كان غير مستساغ لفعلتي لكني كنت انظر الى والدي ووالدتي اللذان وقفا وهما يصفقان بشدة لي وانا ارفع ورقة التخرج صائحة اقول مرحى للحياة ... اتمنى للجميع السعادة... فاشارت لي السيدة بريدجيت بإن انزل من على المنصة التي سارعت بالمثول  لما امرت غير ان الحذاء الذي كنت ارتديت قد تعثر بأذيال ثوبي فسقط على وجهي بشكل افقدني الوعي... غبت عن العالم لفترة ليست بالقصيرة هذا ما اخبرني به والدي وانا اتلقى العناية والرعاية الصحية التي تؤهل المعاقين فقد كانت السقطة شبه قاتلة بعد ان اصطدم رأسي بحافة احد المقاعد الامامية التي كانت قريبة من المنصة.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

كُنّا أطفالاً

لَعبْنا .. لُعبَةَ.. ألغمّايةِ ..

اختبأنا خلفَ جدّاتنا

وخلفَ الأشجارِ

وخلفَ بابِ العمرِ

وفي أركانِ الدّارِ

وتركنا أحدهم

يَبْحَثُ مَلِيّاً

لِيَجِدَ السّبيلَ إلينا

كَبرنا

واختبأنا

خلفَ السُّهولِ

والتِّلالِ

والبِحارِ

خلفَ الجبالِ الرّاسياتِ

على صدورِنا

ضِعْنا

في غَياهبِ الغُربةِ

ضللنا كلَّ طُرقِ الوصولِ

والرّجوعِ

والعبُورِ

تُهنا

وليسَ هناكَ

مَنْ يَجدُ السَّبيلَ إلينا ..

***

سلام البهية السماوي

** يفرقع المعزون

تزرب جثتك الجميلة بالدموع

وفي المساء تأكل ثعالب متناقضاتها.

ما أبهى قيامتها في العتمة.

الأمطار غريبة مثلي

تحمل رائحة الدادائيين في معطفها الأشيب.

أيها النمر الأسود

عليك الهبوط من السقف

أو من كتف شجرة اللوز المتشققة

الساحة تعج برهبان القرون الوسطى.

أنت تفكر مثل مسدس مكسور الخاطر

أو مثل سماء بساقين من البرونز الخالص.

سأهديك تابوتا جميلا.

أميرة بمهبل من الكستناء.

عاصفة من الجواري لتكسر زجاج التفكير الفلسفي.

المشنقة تخطف سلة حبيبتي الملآى بمكعبات الضوء.

المشنقة تطل من الشباك

مثل بومة عمياء.

يهاجمني الحفارون في عز النوم.

أوقظ سحليات المخيلة

قبل سقوط المغارة.

شربت سمكة السهو

وأممت قاع المحيط.

قواربنا ملآى بأسماك الأسئلة الكبرى.

سأعتني جيدا بقوافل المنتحرين.

سأبني أعشاشا لإخفاء غيوم هواجسهم.

سأحتفي بجيادهم الحزينة

سأكتفي بعض أصابع الصيرورة

هذه البنت الشهوانية

التي تشرب مياه الليل والنهار.

الضوء المتساقط من عنق قوس قزح.

أيتها الشجرة يا شقيقتي

أيها النهر يا أخي العميق

في الربوة نقاتل بوم الدوق الكبير

مطوقين بالفضة والغزلان

نفتح النار على المومياوات

نتبع فيلقا من الفلاسفة

لتخليص العميان من العار والفضيحة.

نقول: أفكاركم بنادقكم.

الزواحف تترصدكم بالجوار

اللاشيء يجأر في الجحر

آه أيتها الظواهر

يا غابة بؤسي الكثيفة.

تعبرون

العدم بيتنا الأبدي

في الرقعة نترك الملائك والشياطين

نترك الخير والشر يتقاتلان

مثل كلبي بولدوغ

نترك الأرملة تجر عربة الفراغ

بدمعتين من الماس.

نترك المسن على دراجة من قش.

ندع العالم يجأر بالجنون

وراء عربات الموتى.

***

فتحي مهذب - تونس

 

أنا أبحث عن حليف

لا يهم ما اذا كان صينيا

أو شيعا أو سنيا

أو غير مصنف

*

لم تعد بلاد العرب

أوطاني

لقد استولى عليها

الجواسيس

وعملاء التركيع

والخونة

والمرتزقة

والطغاة

وحكام التطبيع

*

احمل نعشى

على حماري العجوز

وأتلحف بكفن أحمر

واحفر قبري

بين ركام الأنقاض

وأسير في مسيرات ندب وعويل

*

كلما كسرت المرايا أقنعتها

يخيم الصمت والرعب

وتنكشف المؤامرة

ويزدهر التواطؤ

ويتألق الخذلان

*

ماذا يعني أن يحكمنا زعيم

لا يستطيع اثبات شيء

ولا ترقيع بكرة وطن

وليس لديه ما يسقي

سوى زهور بلاستيكية ذابلة

*

أنا أبحث عن حليف

لا يهم ما اذا كان قد ولد أخرصا

او أحول العينين

أو مبتور الاعضاء

أو بائسا

أو متشردا

*

في داخلي ثور اصفر

يمقت اللون الاحمر

ويحمل في منخاره بركان أسود

ينفث حمم الناس والحجارة

*

هذا الوحش

جارنا غير المرغوب فيه

صار ورما لا يمكن استئصاله

الا بأنياب تمساح جائع

*

ليس من الضرورة

أن تعانق غيمة في سمائك

ماذا سيخسر الرجال

لو أمطر السراب

في سراويلهم الداخلية

في الهزيع الاخير من الليل

كل شيء ممكن عند المنبطحين

*

صفارات الانذار تدوي في تل ابيب

وكلاب الخليج تنبح

ومن فرط التداريب على كيفية

قنص الذباب والصراصير

جنود الجيوش العربية

يتيهون في قيلولة سرمدية

*

لا أريد الأزلام ولا الأقزام

ولا لاعقي احذية شليمو والعم سام

ولا دافعي ثمن الحماية

ولا أبقار حلوبة

في زرائب البيت الابيض والكنيست

ولا قادة متورطين

في جرائم ضد الانسانية

*

كل ما أتمناه أن أصطاد بعوضة

وفي المشرحة

أستعمل نظارة سميكة لفحصها

ثم أدفنها في مثلث متساوي الأضلاع

*

الذين خذلونا

لا دين لهم

لا عروبة لهم

لا شهامة لهم

لا نخوة لهم

سوى أجساد كالخشب المتعفن

أعجاز نخل خاوية

في مستنقع المسخ

يتلاطمون

وفي محافل الخزي

يتبجحون

*

من خذلنا

ليس منا

ورغم عن ذلك

انهم يقبعون بين ظهرانينا

كغيمة سوداء ثقيلة

تهطل بسكاكينها الغادرة

على جحيم غاضب

***

بن يونس ماجن

 

والآنَ ...

قُلْ لي يا صديقي

الساردُ ... الشاهدُ

الرائي ... الحكّاءُ

الحالِمُ ... المُتَمرّدُ

الطيِّبُ ... الحنونُ

العصبيُّ ... المشاكسُ

ما الذي كنتَ تفعلَهُ

في أَزمنةِ الحروبِ والاوبئة؟

انني لا شيءَ سوى

كنتُ أَلهو بأطفالي

وأَلعبُ مع حياتي

* * *

وأَنتم ...

ما الذي يشغلُكم الآنَ

في سجنِكم الاختياري؟

- نحنُ نلعبُ ونلهو معَ بلادِنا

حيثُ أَننا نعتقدُ ونشعرُ

إِنَّما الحياةُ الدُنيا لعبٌ ولهوٌ""

وهذا ما نُحبُّ أَنْ نفعلَهُ

قبلَ أَنْ نَمو.. و.. و..تْ

* * *

حسناً أَيُّها الناس

إلعبوا وإلهوا

وامرحوا كما تُريدون

ولكنْ إِيّاكم أَنْ تنسوا

انَّ السَيّدَ " عزرائيل "

هوَ طاغيةٌ فاتكٌ

وليسَ مُهَرِّجاً طَيّباً

في سيركِ حياتِنا المَوبوءةِ

بالحروبِ والمجاعات

واللصوصِ والفايروسات

والدمِ قراطيين

والظلاميين

والحاسدين

والحاقدين

والفوضويين

والمافيويين

ومُهندسي المكائدِ

والفِتَنِ السودِ

وشياطينِ الخرابْ

***

سعد جاسم

بِجِوارِ الْبَيْتِ الْمُفْرَدِ بِالميزان

خِرْقاتٌ يَنْفَذُ مِنْها

الرّأسُ الْأَصْلَعُ

والظّلْفان

أَنْفاسٌ لاهِثَةٌ حَرّى

تَجري

وتَدورُ

عَلى

الْبِئْرِ الْمَلْأى

بِرُعودٍ تِلْوَ وُعود

أيّوب التّيه

قَدْ

كانَ هُنا

مِنْ دونِ لِسان

مَجْذوباً

مَشْغولاً

وَيَرى الْبِئْرَ الْمَجْنونَةَ لاهِثَةً

وَتَطوفُ عَلَيْهْ

قَدْ كانَ هُنا ظَمْآناً مُنْذُ دُروجٍ مُشْتَبَهٍ

أَبَداً ما حَنَّ إِليْهْ

مَنْ يَدري

ما بِخُروقٍ

يَحْمِلُها

مَنْ يَدْري

ما في بِئرَيْ

عَيْنَيْهْ!

***

البشير النحلي

اِنزَلقَ الشَّغفُ خِلسةً

سَقَطَتْ آخرُ صفصافةٍ

على خاصرة ِ النَهرِ

اِمْنحْ ما تبقى من عينيكَ

قُدّاساً لقطتِكَ الشيرازية

*

حين يعبُثُ الجنونُ..

أَجْزَاؤكَ قُرباني

أهدابُكَ أرجوحتي

*

خَطيئتُكَ أنَّك

تَهْذِي في حُضْرَةِ الشَّمس

إنّك تبيعُ أوراقَ السَّماءِ

في سوقِ النَّخاسةِ

لعنةُ الهياكلِ

تلتهمُ مرقَدَكَ الذّكري

*

أطلقْ آسراكَ

في حُفُرات الأفق

حبرُ النُّجومِ يَرسمُ لك كواكبي

*

أنا المُكَللةُ بالحبِ

ابنةُ الأبدِ

أدعوكَ لِفرَحي ..

أمطرتُكَ ِنَبضي..

أثلَجَتكَ ناري ..

لعلك تزهرُ

إنساناً أبديـاً في دمـي

***

سلوى فرح - كندا

 

رفقا بهم ايتها الحسرات

 حروب قد ولىّ أوارها

وغصاتها ما زالت

 بين ضلوع الأمس

يتأخر خزعل عن موعد التعداد الصباحي خلال حرب طال أمدها فيعاقبه نائب الضابط ولكن بعد عودة الجنود الى ثكناتهم يتذكر هو شتائم نائب الضابط الخادشة لروحة فقد نعته بأبشع الألقاب شعر بداخله ان عليه ان يضع حدا لهذا الوضع السيء.

فلماذا عليه ان يتقبّل هذه الاهانة ولماذا أضمر غضبه وحنقه في قلبه، وهنا هاجت روحه المشحونة بغضب مكبوت وهو الشاب القادم من أعماق الريف.

 لم يسمع هنا سوى كلماتهم الجارحة لكرامته، شتائمهم ليست من ضمن قاموسه.

 وحين هاجت روحه لم يجد أمامه سوى زجاج النوافذ ليحطمها بضربات متتالية وان ادى ذلك لجروح في كلتا يديه لتتوزع قطرات دمه في أرجاء القاعة دون ان يشعر بذلك الوجع.

ومع دهشتهم لكنهم حاولوا ان يمسكوا بجسده الهائج والمتوثب لضرب كل من يقف حائلا بينه وبين زجاج النوافذ وبعد محاولات عديدة منهم جعلوه يخلد للهدوء والسكينة وبدأ يستعيد وعيه وبنبرة العتاب بادر أصحابه برمي اللوم عليه واستهجان فعلته، قال أحدهم: الا تدري انك ستعرضنا للريح والبرد القارص وخصوصا في وقت الليل، نحن من يتضرر وليس نائب الضابط عندها ندم وبكي بحرقة شديدة ظاهرا أسفه ثم قال:ـ انهم جعلوني أفقد عقلي.

والله والله (مو بالقسطني) وأخذ يكررها عدة مرات وكأنه لا يعرف كلمات اعتذار سواها بادروا بنصحه ان لا يكررها مرة أخرى لان نائب الضابط قد سامحه هذه المرة من أجلهم حين أخبروه ان خزعل لأول مرة يجرب حياة العسكرية

 اما ان فعلتها مرة أخرى فعليه ان يقدمك مذنبا أمام آمر الوحدة وهو الذي عرف عنه بانه يمتلك قلبا قاسيا ولسانا سليطا فأقل عقوبة لدية هو حرمانك من اجازتك الدورية مع رميك بالسجن لعدة أيام.

وها نحن نحاول ان نلفت انتباهك لهذه الأمور والتي عليك ان تتحاشاها في هذا المعسكر.

ثم سأله أحدهم: هل استوعبت ذلك.؟، يومئ خزعل برأسه علامة التفهم والخجل.

شعر بالندم أمام الجنود الذين شاركوه قصعة الغداء وبدا أسفه وعدم تكرار ما فعله في قادم الأيام.

بعد عدة أيام وحين كان واقفا في طابور التعداد الصباحي أنتبه له بقية الجنود ان ملابسه متهدله وحضر التعداد الصباحي بنعله الإسفنجي الا انهم تغاضوا عنه فلعل لم ينتبه نائب الضابط الذي لا يطيق خزعل واعذاره.

 لكن نائب العريف الذي عرف عنه بحقده على كافة الجنود لم يسكت فصاح غاضبا بصوته ذي الحشرجة التي يمقتها جميع الجنود: أخرج يا غبي يا من اسمك خزعل أخرج من الطابور، ولكن في تلك الأثناء بعث آمر الوحدة طالبا نائب الضابط فخرج مسرعا لتلبية هذا النداء دون ان ينتبه للموقف.

فتعرض خزعل للإهانة والشتم بأقذع الكلمات السوقية من قبل نائب العريف ذي الصوت القبيح فما كان من خزعل وبعد عودتهم الى قاعة الاستراحة الا ان يهجم مرة أخرى وبنفس الطريقة على زجاج النوافذ وكأنه ثور هائج لا يردعه أضخم الرجال وهكذا تكررت المسألة جروح ونزف من كلتا يديه وصراخ وبكاء شديد ويكيل اللعنات الى كل من يحاول ان يقترب منه.

بادر الجنود جميعهم الى شتم نائب العريف أمامه ورموا كل اللوم على نائب العريف ذي الصوت القبيح وبالمقابل نعتوا خزعل بأجمل الصفات وانه الشجاع الوحيد بينهم فهدأ روعه وسكنت روحه، ثم جلس على الأرض وهو يردد كلمة مع الأسف

 سأله الجميع بعد ان هدأ لماذا فعلتها مرة أخرى.؟؟

 ومن حسن حظك ان نائب الضابط لم يكن موجودا.

 أعتذر منهم وهو يقول والله (مو بالقسطني) فضحك الجنود جميعهم لأنهم يعرفون هذ اللازمة وقد حفظوها جيدا.

 لم يخرج خزعل لساحة التعداد الصباحي في اليوم التالي مدعيا أنه لم ينم خلال الليل دون ان يطلب اجازة من أحدهم. فتعرض للشتم والركل من قبل نائب العريف ذي الصوت القبيح ثم أخذه الى غرفة نائب الضابط الذي بدوره اسمعه ابشع الكلمات لكنه قرر أخيرا ان يقدمه مذنبا الى آمر الوحدة.

ضرب نائب الضابط الأرض بكل قوته رافعا يده اليمنى بمحاذاة أذنه ليؤدي تحيته لآمر الوحدة ثم أردف قائلا:

سيدي لقد بلغت وقاحة الجندي المكلف خزعل ان يحطم زجاج النوافذ في الغرف والقاعة دون ذرة خجل أو رادع.. وكذلك بلغ استهتاره ان يقف في طابور التعداد الصباحي بنعله الإسفنجي (أجلكم الله) ثم تغيب عن التعداد في اليوم التالي

آمر الوحدة: دعه يدخل.

 دخل خزعل وقدم تحيته بإشارة من يده اليمنى دون اكتراث للطريقة العسكرية النظامية وأمتثل أمام آمر الوحدة وقد طأطأ رأسه وبدا مخذولا ومغلوبا على أمره وهو ينظر نحو الأرض.

وجه له آمر الوحدة كلاما قاسيا ونعته بالمجنون ثم سأله

لماذا تفعل ذلك، أجابه والله يا سيدي (مو بالقسطني)

الآمر: اتمنى ان أعرف ماذا تعني هذه الكلمة يا حيوان وبماذا تفيدنا ؟؟؟ الحل الوحيد أزاء تصرفاتك الرعناء اني أرميك بين جدران السجن ثم صرخ بعصبية خذوه من أمامي هذا الكلب.

 هاجت روح خزعل واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وهو يصرخ بكلمات غير مفهومة وشعر برعشة تسري في جسده ودون وعيه سال دم يديه بغزارة وهو يحطم زجاج نافذة غرفة الآمر بضربات عديدة ولم يتمكن أي منهم ان يتقدم نحوه، فهو يحمل كسرة زجاجة حادة أطرافها مهددا كل من يتقدم نحوه.

عندها أيقن آمر الوحدة أنه أصبح خطرا عليهم مما اضطره الى مسايرته وتهدئة روعه ثم قام الآمر من كرسيه وأخذ يشتم نائب العريف ونائب الضابط أمامه طالبا منه ان يرمي كسرة الزجاجة بأسلوب أبوي رقيق ثم مسك يده وامر نائب العريف بإحضار الضماد المناسب له.

 وأخيرا سأله: ما بك يا ولدي؟

 فبكى خزعل بحرقة وقدم اعتذاره للآمر وهو يقول والله يا سيدي

(مو بالقسطني)...!!!

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

......................

(مو بالقسطني)...كلمة باللهجة الريفية العراقية تعني غير متعمد

الوقت مازال متاحا

للغناء ولاحتضان

اسراب القطا

العصافير

واليمام

ولا يقاد شموع الحب

في زوايا الظلام

والبدء بالرقص والغناء

من اجل عالم افضل

سعيد عالم من دون

فقر من دون حزن

ومن دون حروب

فالوقت مازال متاحا

للعزف على قياثر

قلوبنا لحن الخصب

لحن الابتهاج

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

 

أولاً-  صورة كالحة:

اطلت من فتحة الخيمة..

فأغمضت عينيها من سطوة ضوء الشمس..

غبار يلف الخيمة المهترئة، والشمس عمودية في وقت الظهيرة..

ومن بين ساقيها، ظهرت يد طفل يتعلق بثوبها البالي

دمعتان انسابت على خد الطفل وهو يونون (أووووو).

حفنة من رمال الصحراء صفقت وجهها المحمر لحد الاحتقان من الشمس ومن الغضب..

قالوا إنهم نازحون ..!!

ثانياً-  صورة قاتمة:

ركن جسمه النحيل في ظل سيارة عاطلة ليستريح ويأكل مما تبقى من صمونة الفطور.. بنطاله شبه ممزق ويداه متسختان.

سألته صاحبة السيارة العاطلة، كم عمرك يا صغيري الأسطة؟

قال لها باستحياء .. احد عشر عاماً .

هل انت في المدرسة؟

كنت الى الصف الخامس وتركتها..

لماذا تركت المدرسة؟

أبي مات وأمي واخوتي الصغار يحتاجونني..

نظرت السيدة الشابه الى الاعلى .. غراب ينعق على سلك الكهرباء المنقطع على الدوام.. إنه صوت شؤم ..

هناك جيل يعمل في ورش التصليح، يكبرون دون شهادات .. مهنيون بدون شهادات، وربما عاطلون عن العمل .. جيش جاهل ..

قالوا: يخرجون جيلا جاهلا، ويتساءلون لماذا يزداد الفقر؟

(3)  صورة مشوشة:

لا احد يستطيع النظر من وراء زجاج متسخ .. والإتساخ جملة من الأوضاع .. قد يكون غباراً وقد يكون إهمالاً وقد يكون تعمداً أو إزدراءاً أو حقداً أو موتاً بطيئاً .. أياً من هذه الأوساخ ألتصق بصطح الزجاج، الذي يراه البعض صافياً والبعض الآخر عكراً وأخرون يرونه إمعاناً في الخراب..

ينعق الغراب، على سلك مقطوع..

من يمسح الزجاج حتى يرى الأطفال والنساء والكبار

عالمهم الفسيح المشنوق ..!!

***

د. جودت العاني

20 / 11 /2024

 

فكّرَ، ثُمَّ اخْتمرت الفكرة في رأسه حتى صَارت ذات بُعد عميق يعكس رغبته القويّة في المرور من أحلام اليَقظة إلى مرحلة الوعي بحدود رغباته ومدى إمكانيّة تحقق ذلك في العالم الواقعي، عندما أسَرّ لصديقه بالفكرة التي أصبحت تسيطر على عقله وتضغط على تفكيره بإلحاح لا يُمكن تجاهله أو غضُّ الطَّرْفِ عنه، لم يَتردّد الصّديق في نعتِ فِكرته بالمَجْنونة وغَيرِ المَقْبولة، لكنه لم يتقبّل منه القول، واعْترض على كلامه قائلا:

- فِكرتي عميقة وليست مجنونة، لأنها ستعيد لحياتي نكهتها، وتمنحني فرصة جديدة للاستمتاع بتجربة ناجحة.

ابتسم صديقه وقال بصوت ساخر:

- أنت تسوغ لِنفسك ما تراه يَستجِيب لأهْوَائِك ويَخدُم مُغامرتكَ غيرِ المأمونة العواقب.

 تحسّس شَعْرَ رأسه، وزَوّى ما بينَ حَاجبيه وهتف بصوتٍ غاضبٍ:

- ما أنا مُقْبل عليهِ هو عَينُ الصّواب، وسَلوة الفؤادِ وغاية النّفْسِ

- بل هو الجنون عَينه، يا صَاح

تَوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، وقرر أن يتجاوز الدّخول في جدل لن يغير من الأمر شيئا.

زاد ثقل الفكرة على رأسه، وأحس بأنه يَحسنُ به تقاسمها مع شخص أخر يفهمه ولا يخذله، وبعد تمحُّص و تأمّل لم يخطر بباله إلا شقيقه الأصغر فهو من ذَوي القربي وقد أوتهما نفس البطن ورضعا من نفس الثدي، ويمكنه أن يستأنس برأيه، لم يتردد في الاتصال به وألحّ عليه في الحضور قائلا: " نلتقي بعد ساعة من الآن بنادي فضاء الحرية لرجال التعليم " حاول شقيقه الاسْتفسَار عن سبب الإلْحَاح، لكنه تجاهل طلَبه وقال له بصوت جَازم : "هذا ليس وقت استفسار أيها العزيز".

جَاء شقيقه في الموعد المحدد، تبادلا العناق والأحضان، ثم جلسا في مكان يُطِل على حديقة النَّادي الفسيحَةِ، سأل شقيقه عن أحواله فحمدل وقال:

- لا نملك سِوى شُكر الله على نعمةِ الصّحة والعَافية وسِعةِ الرزق

- هذا يسعدني ويمنحني فرصة الحديث إليكَ بكثير من الأَريحية

حرَّك أخوه رأسه مؤيّدا كلامه، بينما تابع هو حديثه، قال أن صلة الرحم مَكْرُمَةٌ ربَّانية، وأن لقاءَ الأحبَّة بين الفِينَة والأُخرى وسِيلةٌ لاستعادة الذِّكريات والترحُّم على الراحلين من الأهل والأقارب، ثم أضاف وهو يبتسم: "لدي موضوع عَنَّتْ لي فكرته مؤخرا، وأريد أن أتقاسم معك فحواه، لعلّي أجد عندك ما يُساعدني على ترتيب أوراقي والخروج بفكرتي إلى عالم الواقع".

ظل شقيقه ينظر إليه باستغراب، ويتساءل في قرارة نفسه عن سِرّ هذه المُقَدّمات، بعد لحظة صمت قصيرة تابع كَلامه مُتحدثاً بِأنَاة وتُؤدة، والشّقيق مُنْصِتٌ لِحديثه وهو يَتوسّع في شرح فكرته وتوضيح ما بَطنَ منها وما ظَهرَ، والكَشفِ عن رغبة مُتأَصِّلة ومتنامية لديه في دخول تجربة جديدة مبنِيَّة على المُغامرة الخَلاّقَةِ،

تَوقَّف فجأة وسأل شقيقه عن رأيه، حدّق به أخوه وقد ارتسمتْ على وجهه معالم الدّهشة، وقال:

- لا رأيَ لي، وفِكرتك تتجاوزُ بِعمقِها وأبعادها الشّاسعة حُدود إدراكي، لأنني كنت دائما أتحرك في ظلّك ولا قدرة لي على تجاوزك.

- ولكنني أرغب في الاستئناس برأيك حتى أكون قادرا على بدء مغامرتي

ردّ شقيقه وهو متهيِّب من الموقف الذي وجد نفسه فيه:

- لا أستطيع أن أعبر عن رأيي، ولن أتقدم خطوة واحدة أمامك

تقبل حِيادية أخيه، واعتبر ردّه تسليما بالأمر الواقع ودعماً لمغامرته التي تتماهى تماما مع الفكرة التي اختمرت في ذهنه واعترتْ وجدانَهُ، لذلك لم يتردد في دعوته لتناول وجبة عَشاء تشمل أطباق سمك مشويّ وسَلَطَاتٍ متنوعة، أكلا وهما يتبادلان المستملحات والنكت، ويستعيدان ذكريات الطفولة وشغب أيّام المراهقة والشباب، ثم افترقا على أمل تجَدُّد اللقاء.

***

في طريق عودته للبيت عَبرَ شارع القدس في اتجاه مدار عزبان ثم انعطف نحو شارع الليمون، كان الليل يحتضن المدينة ويُسبل عليها هالة من ضوء القمر، وقد أشاع ذلك في نفسه إحساسا جميلا بسعادة طارئة وانتشاء حَاصل، تَوقّف أمام إشارة المرور الضوئية بشارع عمر الخيام، قفزت إلى ذهنه أبياتُ رباعياته كما ترجمها أحمد رامي وغنتها أم كلثوم وأطلق العنان للسانه يلهج بالمقطع الذي كان يستهويه ويحفظه عن ظهر قلب:

 أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِق

وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَق

ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي

من غير أن أهْوى وأن أعْشَق

أفِقْ خَفيفَ الظِلِ هذا السَحَر

نادى دَعِ النّومَ وناغِ الوَتَر

فما أطالَ النومُ عُمرا

ولا قَصَرَ في الأعمارَ طولُ السَهَر

" الحياة تفقد بريقها وقيمتها الاعتبارية دون إبداع خلاق، دون كلمة موحية ونغم مؤثر، دون شعر عذبٍ ونثر منتقى، "

هكذا فكر وهو يواصل طريقه نحو مسكنه بحي اسميرالدا، تسربت إلى خياشيمه رائحة نبتة مسك الليل المنتشرة بالمغاني القائمة على طول شارعي الليمون وعمر الخيام، فزادت درجة انتشائه وشعوره بالرغبة في التعبير عن ذاته بِطريقته الخاصة المبنية على الفِكرة المستجدّة التي عَنّتْ له دون سابق إنذار وسيطرت على عقله ووجدانه.

من حقه الأن أن يحلم ويُسافر في بحر اِستيهاماته، و يحاول تحقيق تناغم نَفْسِيٍّ يقوده للإشباع.

كان قد وصل لِمسكنه، رَكن سيّارته في الموقف المجاور، وجد زوجته جالسة بالصالون تنتظر حضوره، تبادلا التحية وسألته:

- هل أعد لك وجبة العشاء؟

رد مبتسما:

- تعشيتُ رُفقة شقيقي بنادي المعلمين

- كيف هي أحواله؟

- بخير ويبلغك سلامه

دعاها للجلوس بجانبه، أمسك بيدها وحدّق في وجهها، كان محياها مشرقا، ومعالم جمال آبق ترتسم عليه، قال بصوت خافت:

- الحياة تدعونا للتصالح مع ذواتنا، ونحتاج دائما لمحطة استراحة قبل مواصلة الرحلة

ابتسمت، وقالت:

- لغتك مُشَفّرة وحديثك يصب في اتجاه فلسفي غير واضِح

ران صمت خفيف عليهما، سرعان ما كسّره عندما بدأ يتحدث عن الفكرة التي اختمرت في ذهنه وتفرعت حتى سيطرت على وجدانه وصارت هوسا مُؤثرا، نظرتْ إليه باستغراب ودهشة ثم هَتفتْ بصوت غاضب:

- هل تتصور أننا يمكن أن نعيش بعد كلامك هذا تحتَ سقفٍ واحد؟

لم تنتظر جوابه، ثم هرولت مغادرة البيت وهي تردد:

- أنا عندَ ابنتي حتى تعود لجادة الصواب

لم يلتفتْ لكلامها، وأشعل سيجارة، نفثَ دُخانها واِنْدفع نَحو شُرفة البيت، رأى زوجته تركب سيّارتها الصغيرة ثم تمضي لحال سبيلها، ارتمى جالسا على أحد مقاعد الشرفة، وأسلم نفسه للأفكار المتصارعة داخل عقله، وارتسم أمامه سؤال أنطولوجي عميق، يتلخص في مدى توافق أفكاره مع كينونته و وجوده؟.

ترك الشُّرفة إلى الصَّالون، شَغّل جِهاز التلفاز الذكي، واِنتقى أغنية كيني روجرز "LADY"، هذه الأغنية تعيده إلى سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، حين كان ما يزال شابّاً طَريّ العُود، يبحث عن ذاته ويحاول اكتشاف أبجديات الحياة، ويَنسُج خيوط علاقته الأولى مع الجنس الأخر، ليبدأ مرحلة زمن الوصْل والبحث عن فاكهة بستان عَدن، هي أياّم لاتزال كامنةً في عقله الباطن لا يمكن تجاوزها البَتّة، اِختار المغامرة عن طيب خاطر وانطلق دون عِقَال في ربطِ علاقات تتجاوزُ المَعقُول، كان الحبّ بالنسبة له نشوة واستمتاعا وتجديد صِلاتٍ، صَال ذَات اليَمين والشِّمال، عرف الشَّقراء واسْتفْردَ بالسَّمراء، ولم يُخْلفْ الوَعد مع الكاعِب ذات الجسم المَمْشوق، و لا المُمْتَلِئة ذات الوسْط البَارِز،

كانت اللحظة بالنسبة له أنْساً وكأساً، ولا يتوانى  في ترديد قول أبي نواس:

 لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند

واشرب على الورد من حمراء كالورد

فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة

في كفّ جارية ممشوقة القدّ

تسقيك من طرفها خمرًا ومن يدها

خمرًا فما لك من سكرين من بدّ

عاش هذه الحياة سنوات طويلة تَجَاوزت العَشر ونَيّف، وفجأة أفاق على صوت داخِلِي يَصْرخ بين جَوانِحه: إلى مَتَى هذا الوضْع؟ العُمر يمضي ولحظاته تنفلتُ تِباعا إلى غير رجعةٍ، وعليه أن يفعلَ شيئا يغير واقعه ويتجاوز به تأثير المللِ الذي يكاد يَتحوّل إلى أَلَم،

حينها لم يتردّد في الاستجابة لإلحاح والدته التي اقترحت عليه الزواج من اِبنة صديقتها التي كانت تشتغل في سلك التعليم، وهي شابة تصغره بخمس سنوات تتمتع بجمال طبيعي، وجاذبية لا يمكن الصُّمود أمامها، سُرعان ما انجذب إليها و اختارها شريكة لحياته، و معها قضى أكثر من ثلاثين عاما، ورزقا بولد وبنت كلاهما انفرد بحياته الخاصة وأنشأ أسرة، وبقيا معا يعيشان حياتهما بشكل تحكمه الرَّتابة و يَسُوده البُرود، تَقبَّل هذا الوضع في أول الأمر بشكل عادي وكأنه واقع مفروض لا يمكن التمرد عليه، لكن سرعان ما بدأ الانزعاج يستبدُّ به ويقوده نحو متاهة لا سبيل للخروج منها، وتَذكَّر حديثا عارضا دار بينه وبين زميل سابق له بالعمل حول موضوع أزمة منتصف العمر التي يعاني منها أغلب الرجال، أترى ما يحسه اليوم من أعراضها ؟؟ أتراه يَعيش فُصولها وتسْتبدّ به هواجسها.

انتبه فجأة إلى أن الليل قد أدرك السحر، وعيناه قد أثقلهما الوَسَن

فقام إلى غرفة نَومه طلبا للراحة والسَّكينة.

***

اِسْتغرق في نوم عميق، واِستسلم لِعقله البَاطن الّذي أطلق العنانَ لرغباته المكبوتة ومشاعره المدْفونة لِتَتجلَّى في أحلامه وتُوقظها في أشكال مُتَعدّدة، وتُلامس نُقَط ضعفه إِزاء التحوّلات الطَّارئة التي مَسَّت حَياته وزادت من استيهاماته، حَلم خلال هذه الليلة بنفسه في أحضان امرأة مُتوسطة العمر ممتلئة الجسم بصدر كاعب، وأرداف بضة مستديرة، كانت تعانقه بحرارة وتبادله القبل الحارة بشكل هستيري، وكان هو مستمتعا بدفء جسدها المشتعل بالشبق ونداء الرغبة الملحّ، غير مبالٍ بما حوله، و يأكل الفاكهة المحرمة دون هوادة أو تؤدة، فالأمر بالنسبة له رغبة متجددة ودافع لا يتوقف.

استيقظ في اليوم الموالي متأخرا، وقد بلغت الشمس كبد السماء وانتشر شعاعها في كل الآفاق، كان رأسه ثقيلا وعيناه تكتنفهما غشاوة وزغْلَلة، دخلَ الحَمام، نَضَا عَنه ثِيّابه واندفع تحت مِسرّة الدوش، اِنساب الماء الدّفيء على جسده ومعه انسابت هواجسه وشاب نفسه احساس بالدعَةِ والهدوء.

ارتدى بيجامة قطنية، ودخل المطبخ، أعدّ لنفسه فنجان قهوة وجلس بالشرفة يرشفه بانتشاء، وقد مدّ رجليه فوق الكرسي المقابل، رنّ فجأة هاتفه النّقال، فردّ بصوت رخو على المتصل،

كان المتصل ممثلا لإحدى شركات توزيع البضائع بالبيوت، أخبره أنه بعد ساعة سيقوم مندوب الشركة بزيارته لتسليمه طلبيّتهُ، تهللت أساريره وشكر المتصل.

" منطق الأشياء يقول: أن الحياة لعبة والمفروض أن نتعامل مع قواعدها بذكاء تارة، وبغباء تارة أخرى، لأن هذه القواعد زِئبقية ومُراوغة بل قل مُنَاوِرة ومُخاتلة، هي لعبة شطرنج مبنية على الأولويات والاختيارات والتضْحيات، وأي نقلة على رُقعتها تحتاج لِحساب وتفكير يراعي نقلات الخصم"

 أيقظهُ صوت جَرس الاِتصال الدّاخلي من سهوته، أسرع يَرفع المِسَرِّة، وردّ عليه مندوب شركة التوزيع يخبره بأن طلبيته جاهزة للتسليم، ضغط على زِرّ فَتْح الباب عن بعد، صعد عُمال شركة التوزيع يحملون صندوق مستطيلا من الورق المقوّى بُرتقالي اللون، طلب منهم وضعه في غرفة النوم ثم نفحهم بورقتي بنكوت وصَرفَهم إلى حال سبيلهم، حان وقت الانعتاق والخروج من دائرة الأزمة، وإذا كان شُوبنهاور يقول: أن "الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل" فهو سيخالفه ويقول أن "الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم و الأمل"، اليوم سيحتفي بالأمل العائد ويجالس الفكرة التي اختمرت في دماغه ويُعيد تنظيم تفاصيل حياته الظاهر منها والباطن بشكل يجعل ما تبقى من سَنوات عمره يَمرّ بسلام وتصالح تام مع الذَّات.

استجمع انفاسه واتجه نحو الخزانة الضخمة التي كانت تَتوسّط غرفة الجُلوس محتضنة بين رفوفها موسوعات تاريخية وعلمية ودينية، أَقْعى ثم فتح دفة الخِزانة التَّحتية واستخرج زجاجة شمبانيا كان قد أهداه إياها صديق طفولته عَمّار بنجلون الذي كان رفيقا له في الانتماء النقابي والحزبي وقاسمه مِحنة الاعتقال في فترة معينة أصبحت اليوم بالنسبة لهما معا مجرد ذكرى عابرة،

سيبدأ اللحظة تصالحه مع ذاته ولا ضير في أن يشرب كأس شامبانيا استثناءً هذه الليلة فهو مقلع عن شرب الخمور منذ سنوات لاعتبارات دينية وأيضا صحية، اختار غرفة النوم مكانا لجلسة الصُّلح مع الذات، أعدّ لهذه الجلسة طاولة صغيرة وضع عليها بلاطو من الفضة يَحتض زجاجة الشمبانيا وآنية للثلج وكؤوسا بَلُّورية وصحن مكسرات، ولم يغفل الموسيقى التي اختارها صامتة للموزع الإيطالي  ROTA NINO صاحب الموسيقى التصويرية الشهيرة لفيلم العراب، شرب كأسه الأول ثم الثاني وأنشد من رباعيات الطبيب النطاسي الفيلسوف المسلم ابن سينا الفارسي الأصل:

 شربنا على الصَّوت القديم قديمة

لكل قديم أوّل، وهي أول

ولو لم تكن في حيّز قلتُ إنها

هي العِلّة الأولى التي لا تُعلّل

هو دائما يجد متعته في شعر الخيام وابن سينا وجلال الدين الرُّومي ومن على شاكلتهم لأن شِعرهم يخاطب الروح قبل العقل، ويتسم بلغته الصوفية التي تتجاوز المحسوس إلى الباطن.

شرب كأسه الثالثة ثم الرابعة وسرى في عروقه دفء ونشوة فهتف وقد تهللت أسارير وجهه وعيناه تقعان على الصّندوق الذي أحضره عمال شركة التوزيع: " أتمنى أجد داخلك أيها الصندوق العجيب ضَالّتي وأحظى بما يتوافق مع تطلعاتي ويطابق أفكاري الجامحة".

" حَانت اللحظة الفَارقة، وفتح الصندوق الأن هو سِدرة المُنتهى وغاية النَّفس وهوى القلب"

تقدم من الصندوق وبدأ بقص الأشرطة المشدودة إليه، تردد لحظة قبل أن يرفع الغطاء، وعندما رفعه بُهت لِما رأى، وظَلَّ فاغر الفاه رَدحا من الزمن، ولما انتبه لنفسه قال مخاطبا نفسه:

"ما كذّب الفؤادُ ما رأى، هذا سحر عُجاب، إنها حورية وليست مجرد دمية جنسية كما يقولون، صَدرٌ كاعبٌ، وجسمٌ ممشوقٌ، وقِوامٌ منحوت بِإزْميل الجَمال "

يُمكنه الأن أن يُطبِّق فِكرته في حَضرة قُوتِ القُلوب وهو الاسْم الذي اِختاره لِحُوريته، حَمَلها بِحُنو زَائد كان جِسمها لَدِناً ومثيراَ، وضعها على سَرير نومه وهو سعيدٌ.

" الليلة يا أميرتي سَنعيش قِصة حُبّ مُلتهبة، وسأعزف على جسدك أحلى المعزوفات، وستبتسم لنا الحياة وتبسط رِمشَها نمشي عَليه الهُويْنَا، أه يا أميرتي اللّيلة أنتِ حقيقةٌ أكيدة وواقع ملموس ولن أخذلكِ وسأؤكد لك أنني فارس قادم من خلف السحاب"

استعار من كُمودينو زوجته قارورة العطر الفرنسي " لولو كاشاريل"، ورشَّ عليها بِسخاء، وهو يداعب مناطق جسمها الحساسة، ثم تناول " حبة زرقاء " وشرب بعدها كأس شمبانيا، ارتفع منسوب الانتشاء لديه وانتابته حالة شبق رهيبة، ولم يتردد في أكل فاكهة الدمية، دون كلل أو ملل.

***

في ساعة متأخرة من الليل رَن" هاتِف زوجته المحمول، عندما ردت سمعتْ صوته يأتيها واهنا، ضَعيفا وهو يقول: " أنقديني يا فريدة، أنا لا أستطيع التَّنفس، وأشعر بأوجاع قاتلة تمزق صدري، لا تتأخري عنّي أرجوك ..."

قامت زوجته مُهرولة قاصدة سيارتها وهي فَريسَةٌ لكل هواجس العَالم.

***

محمد محضار

الدار البيضاء :20 نونبر 2024

لم يبتعد سوى خطوات عن مودعيه، حتى شعر بانقباض ووخز حاد في جنبه الأيسر. طوال النهار وهذا الشعور يلازمه. لم يخبر أحدا بذلك. انه يومه الثاني في بغداد بعد أكثر من عشرين عاما. أيفسده على نفسه بشعور غريب ربما يكون طبيعيا؟ وماذا كان ينتظر بعد كل هذا الغياب؟ بالطبع لم يكن أحد ما في انتظاره، أبوه وأمه رحلا إلى مثواهما الأخير، وهو بعيد عنهما، دون ان يتسنى له وداعهما. من سينتظره أذن؟  انقطعت كل صلاته المباشرة بأقاربه ومعارفه منذ السنوات الأولى لرحيله.  يعرف ان أي اتصال له بأي من اقاربه ربما يؤدي بهم إلى الموت، سمع عن هذا قصص مروعة كثيرة، يكفي بعث سؤال عن صحة جارك حتى يعتقلوه ليعرفوا درجة ولائه وتآمره وكثيرا ما يختفي دون أثر، فلم يجلب العذاب للآخرين؟  يكفي ما يواجهه بنفسه. ولذا من سيخرج لاستقباله؟ حتى اقرباؤه لا يعرفون بقدومه؟ أكان ينتظر خروج الناس الى الشوارع والهتاف والتصفيق له؟ ومن هو حتى يمكنه التفكير بذلك؟ أهو قائد سياسي من الأحزاب التي عادت مع الدبابات الامريكية؟ حتى السياسة مل منها الناس. غادر العراق وهو لا يعرف الكثير من خبايا العمل السياسي. في سنوات الدراسة في معهد المعلمين، حاول الشيوعيون، بعد اطمئنانهم اليه، ضمه لحزبهم، أعتذر منهم بخجل. قال لصاحبه الذي فاتحه بالأمر:

ــ اتركوني ارجوكم، لست أحتمل التعذيب والاهانات وربما ...!

وخارج العراق حين عاود ابن مدينته الأمر ثانية قال لهم:

ـــ لا اعتقد أني أطيق الضوابط الصارمة للعمل الحزبي، لكني مثلكم أحلم بعراق مدني ديمقراطي، أتركوني هكذا، أشارك في تظاهراتكم ضد الديكتاتورية واشتري جريدتكم!

حين غادر العراق مضطرا، لم يكن ذلك لأسباب سياسية. ذكر الحقيقة للمحقق الفنلندي حين أستجوبه عند تقديمه طلب اللجوء. لم يشأ اختلاق تاريخا لنفسه ليس لائقا به، مثلما فعل البعض من اجل سرعة الحصول على اللجوء السياسي. قال للمحقق ببساطة:

ـــ هربت من الحرب المجنونة ولا أريد الموت!

استجاب لتوسلات أبيه وأمه وغادر العراق سرا الى الكويت. ومن هناك تنقل ودار بلادنا كثيرة. تحرك من لغة الى أخرى. من شرطي الى شرطي. من ذل الى آخر. اشتغل في مختلف المهن، وحصل من أحد معارفه قرضا بالفائدة ليوفر نفقات وصوله الى اي بلد أوربي، حيث كل أبناء بلده يبحثون هناك مثله عن سقف آمن. توسل كثيرين للمساعدة، قبل لقائه في ساحات موسكو بوكيل المهرب الذي قاده الى أقصى شمال أوربا. الى حافة القطب مرة واحدة، الى سقف العالم كما يتندر أبن مدينته الذي سبقه الى هذه البلاد. لم يكن يفكر بهذه البلاد، ولم يحلم بزيارتها يوما، ولكن سعر التهريب الى فنلندا كان الأرخص يومها. لقنه المهرب جيدا ماذا يقول للمحققين. ومر كل شيء بسلام. بعد عام منحوه حق اللجوء الإنساني وصدقوا قصته التي لم يكذب فيها كثيرا. ومن الطبيعي الشعور بالانقباض وهو يجد نفسه في شوارع بغداد وحيدا بعد وداع مضيفيه، الذين غمروه بكرمهم ومحبتهم. لسنين طويلة، لم يتسن له عيش مثل هذه الاجواء العائلية المترعة بالألفة الحميمية. غلفت مشاعر الدفء قلبه مع كل كلمة طيبة من اهل رفيق سفره، خاصة من كبار السن. رافقه ابنهم من الأردن الى بغداد. كان شابا رائعا، لديه ما يكفي من النباهة لتتوغل نظراته عميقا في روحه، ومن دون تفاصيل كثيرة أدرك حيرته وعرف شيئا من عذابه وهواجسه. أدرك كونه حين يصل بغداد لا يعرف إلى أين سيتوجه، فاقترح عليه مرافقته أولا الى بيت أهله في منطقة الجهاد ليرتاح أياما وينجز بعضا من التزاماته في بغداد وليفكر مليا، ثم يواصل طريقه الى مدينته في الجنوب. جاءه العرض هبة من السماء، كان حقا لا يعرف الى أين سيذهب؟ توفي أبيه وأمه وهو في المنفى. ودفنا في مقبرة العائلة في النجف، ولم يتركا له بيتا أو ما يورثه غير الحزن وشاهدة قبريهما.  كان يتساءل وبصوت عال امام رفيق سفره:

ـــ أيذهب الى المقبرة في النجف اولا، أم يواصل رحلته لزيارة من ظل حيا من أقاربه في مدينته؟

ومع نفسه كان يواصل التساؤل حول من سيزور اولا؟ هل يتوجه لزيارة خاله أم عمه؟ واي من خالاته ستكون الاولى؟ وكيف سيستقبلونه؟ ومن منهم سيستضيفه لأيام؟ وكيف سيكون موقفهم إذ يعرفون انه جاء بدون أي هدايا، وانه استدان ثمن بطاقة الطائرة من اجل المجيء؟ أيظنون انه جاءهم بحقائب مليئة بالدولارات؟ يعرف ان أصغر خالاته سترحب به. فهذه المرأة لم تطلب يوما شيئا لنفسها، وعبر امه كانت تصله فقط تحياتها وامنياتها بالصحة والسلامة، ولذلك قرر التوجه لزيارتها اولا. لم يحاول الاتصال بأقاربه طوال السنوات الماضية، حتى بعد وفاة امه، كان دائما يرسل لهم تحياته عبر أبيه وأمه. حين توفى ابوه، قام عمه بواجبات الدفن، ولكنه لم ينس ان يرسل له قائمة المصاريف، بما في ذلك سعر المناديل الورقية التي استهلكها الضيوف. استدان من أصدقائه ومعارفه وعمل أوقاتا إضافية في غسل الصحون وأرسل لهم قيمة المصاريف كاملة. بعد وفاة ابيه لم يرد لامه أي طلب. بما في ذلك طلباتها في مساعدة خالاته، وخاله وعمه. وهكذا ولأجل أمه، وحتى تكون قوية أمام الاخرين، تحمل نفقات زواج ابن عمه دون معرفته حتى باسم العروس. ودفع البدل النقدي للخدمة العسكرية عن زوج ابن خالته الوسطى، الذي لم يكلف نفسه ارسال كلمة شكر. لم يعرف الراحة يوما. عمل في مطاعم البيتزا ليلا ونهارا. أنتقل من تسديد قرض الى اخر. وكان المهرب الذي أوصله الى فنلندا رجلا متفهما. لم يتركه وحيدا. وجد له عملا في أحد مطاعمه الثلاثة المتوزعة في العاصمة. وكان يدخر له أجور عمله ويمنحه قروضا بين الحين والأخر، ويساعده بإيصال ما يتوفر لديه من مبالغ الى امه خلال ايام معدودة، بغض النظر عن همس أحد معارفه بأن صاحب المطعم وبحجة توفير اجوره يستثمرها وغيرها في مشاريعه العديدة. كان ممتنا لان الرجل يفهم ظروفه. وتمادى مرة في نيل محبته، وفكر في خطبة ابنته الوسطى. قابلها مرارا من بعيد لبعيد. صحيح انها كانت ممتلئة قليلا لكن عينيها كانتا ساحرتين، وأثاره فيها طريقة تسريحة شعرها وتلك الخصل التي تتركها تتحرك بفوضى وتداعب نهدها الكاعب، تستره حينما تريد وتكشفه في حين آخر، وإذ اكتشفت مخالسته النظر إليها صارت ترسل له ابتسامات غامضة، ومع تذكره لوصايا والديه في حفظ أعراض الناس، لم يتمادى في شيء  يغضبهما في قبريهما، لكنه فكر في سؤال والد الفتاة للزواج من ابنته لينهي مسلسل الابتسامات الغامضة، وقبل أقدامه على هذه الخطوة، وحتى لا يقال انه لم يتعلم شيئا من حياته في أوربا، اراد معرفة وجهة نظر الفتاة أولا. في حفل اقيم بمناسبة عيد رمضان، في قاعة مدرسة استأجرت لهذا الغرض، وكلفه يومها صاحب المطعم بالأشراف على بيع الشاي والقهوة، قابل الفتاة وهي ترتدي من الذهب ما يغطي كل صدرها مما يلغي وظيفة خصل الشعر. كان هناك الكثير من الناس الفرحين والسعداء بالموسيقا والرقص، فشعر ان هذا أفضل يوم للأقدام على خطوته. سلم عليها فأجابته بابتسامه عريضة، فتشجع أكثر ووجد نفسه يقول لها مباشرة:

 ــ أفكر بخطبتك من أبيك فماذا تقولين؟

 نظرت اليه باستغراب شديد، تلوى وجهها بشكل عجيب. برطمت ثم صعقته بنظرة لم ير مثلها من فتاة أبدا، وقالت له:

ــ هل أنت مجنون؟ أتعرف ماذا تقول؟ تريد خطبتي أنا؟ ومن تكون أنت؟

وتجاوزا لاي إحراج، ووسط دهشة والدها، ترك العمل معه وراح يفتش عن مطاعم أخرى، ويبحث لنفسه عن اهتمامات أخرى في انتظار ما تخبئه الأيام. وما ان سقط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، حتى راح مثل غيره يخطط للسفر الى العراق. لم يكن يملك رأسمالا ليفكر بمشروع ما، ولا طموحا بوظيفة أكثر من سبورة وعشرين تلميذ وخرائط وكتاب جغرافية العالم. طوال سنوات غربته وشعور المرارة يسحقه لعدم حضوره جنازة ابيه وأمه. يوم مغادرته العراق قال ابيه وهو يغالب دموعه ويحرك حبات مسبحته (اليسر) بسرعة:

 ـ لم اظن يوما أني سأموت غريبا، وحيدا، بدون رمي ولدي الوحيد حفنة تراب على قبري.

وشعر ان من واجبه زيارة قبريهما ليعتذر اليهما. وبسبب ذلك ظل في داخله دائما ثمة شيء يغلي طيلة كل هذه السنين. انتظر طويلا يوم العودة الى بلاده. لزيارتهما وسكب دموعه على تراب قبريهما.  وليتسكع في الاماسي على مهل في شوارع مدينته الجنوبية. يسير على ضفاف نهر المدينة ويسحب شهيقا عميقا مراقبا طيور النورس وزوارق الصيادين، كما تعود فعل ذلك في زمان مضى. يرفع نظراته مساءا الى صفحة السماء ليعد النجوم مثلما فعل في طفولته، باحثا عن نجمته التي لم يتسن له رؤيتها في سماوات الغربة المثلجة والملبدة بالغيوم دائما. في مقهى مزدحم بالمهاجرين دوما، في شارع فرعي من مركز مدينة هلسنكي، يتردد عليه بين الحين والاخر، قال أحد معارفه موجها كلامه للجميع:

ــ حالة الفوضى والفراغ الامني يبدو انها ستطول في العراق.

وقال اخر:

ــ عملية السلب والنهب والاغتصاب في كل مكان، وليس في بغداد وحدها.

وقال اخرون:

ــ من مصلحة قوات الاحتلال الامريكي ان تدوم الامور بهذا الشكل كمبرر لاستمرار وجودها.

وقال ابن مدينته:

ــ حالما تشكل حكومة عراقية مستقلة سيتغير كل شيء.

وهمس أحد معارفه:

ــ أجل سفرك. انتظر حتى تهدأ وتستقر الاوضاع.

لم ينتظر. اوضح لمعارفه كونه حاملا للجنسية الفنلندية وهذا سيساعده على اجتياز كل الحدود كفنلندي بسهولة، ولا يمكن لقوى الاحتلال الأمريكية ولا دول الجوار ان تفعل له شيئا ما، فلم التأخير في السفر. في مطار هلسنكي ودعه معارفه من حملة جوازات اللجوء وهم لا يخفون حسرتهم وربما حسدهم، وكرر ابن مدينته وصاياه:

ــ لا تتحرك ليلا وحدك.

 واخر يؤكد:

ــ لا تحمل كل فلوسك معك.

واخر:

 ــ لا تركب سيارة شخص لا تعرفه.

 شعر كأنهم يبالغون قليلا. في العاصمة الأردنية وجد نفسه يلتزم بالوصايا، ويبحث عن رفيق سفر الى بغداد. إذ كثيرا ما حصلت حالات سلب ونهب على الطريق.  وبسهولة قابله في باحة الفندق قادما من السويد. كان مثله شابا عازبا، مترددا وخجولا، وبدون تعقيدات تعارفا واتفقا على السفر معا. وعد هذا فألا حسنا كمفتاح لرحلته. كان رفيق سفره ودودا واثبت انه خير أنيس سفر، وتعود عليه بسرعة واحسه اليفا للقلب. وما ان وصلا بغداد حتى اجبره على مصاحبته الى اهله كأخ، وان يبقى عندهم اليوم الاول، دارا فيه معا شوارع وساحات بغداد. كانت الدموع تخنقه في كل لحظة. حين يمر بمكان أليف له فيه ذكرى معينة أو حين يمر جنود أمريكيين يحدقون اليهما بتوجس. بلد يتحرك من ديكتاتورية الى احتلال. من احتلال الى احتلال. رغم ذلك يلمس فرح الناس بالحياة الجديدة بأكثر من شكل. يعبرون عن ذلك بشكل مباشر، بضحكات عالية، بالشتائم، بالصلوات والاغاني. ورغم كونه عاش لفترة طويلة بعيدا عنهم الا انه يمكنه لمس شيء من التغيير في نظراتهم ونبرات اصواتهم، فيها أشياء جديدة افتقدوها طويلا.  من جانب اخر اثارته حالة الفوضى التي تعيشها البلاد. لا يوجد هناك شيء أسمه نظام. فوضى كاملة. يلمسها جيدا في كل مكان. لا شيء أسمه دولة، ومنذ دخوله حدود البلاد. ازدحام شديد في الشوارع وخاصة عند الاستدارات. تلال الزبالة تنمو في كل شارع. اصوات الرصاص تسمع في كل حين. كلاب سائبة واخرى ميتة. مياه المجاري الصحية طافحة في أكثر من مكان وتقطع على الناس حركتهم. أهل رفيق سفره يتحدثون عن عصابات مسلحة منظمة تتجول بحرية نهارا. قال ابن عم لرفيق سفره:

ــ أطلق صدام حسين عفواً رئاسياً عن مئات المجرمين قبل بدء الحرب، وهم الآن يملؤون شوارع بغداد.

قال الاخ المعوق في حرب الكويت:

ــ بعض البعثيين لا زالوا يتحركون بأسلحتهم، ويتصرفون كأنهم حكومة رغم سقوط نظامهم وهروب صدام حسين وإعلان جوائز بملايين الدولارات ثمنا لرأسه.

يسكن الخوف قلوب افراد العائلة. رغم فرحهم لزوال النظام لكنهم خائفون من المستقبل. ودون قصد وجد نفسه ينثر الأمل، مستعيداً كل ما حدثه به أبن مدينته عن مستقبل البلاد بدون الديكتاتورية والآمال بحياة أفضل بعد زوال الاحتلال. وامعانا في التفاؤل رفض بإصرار مصاحبة أي من مضيفيه عند خروجه فجرا لإيصاله الى كراج السيارات في العلاوي. لم يشأ إفساد اجتماعهم ولمتهم. كان البيت مزدحما بالأقرباء الذين جاؤوا من مناطق بعيدة لرؤية الابن العائد، رفيق سفره الذي غاب طويلا وبدا سعيدا جدا. قال لهم بحزم:

ــ سأخذ سيارة اجرة من رأس الشارع وأكون في الكراج خلال أقل من ساعة. وعند الظهر سأكون في مدينتي.

ما ان غادر منزل رفيق سفره وودعه، شاعرا بالامتنان له ولعائلته، للحاق بأول السيارات المتوجهة الى مدينته الصغيرة، أحس بأن الشعور بالوحدة يقبض روحه بكف من حجر. وما إن اجتاز الشارع القريب، المظلم شيئا ما، الى الطرف الثاني، محاولا العثور على سيارة أجرة، حتى شعر بارتكابه خطأ لا يمكن إصلاحه، وشعر بمعنى الوخز في جانبه الأيسر. كان عليه ان لا يستهين به. عرف بخرقه لوصايا ابن مدينته وبقية معارفه ولم يلتزم بها، وانه متفائلا أكثر مما يجب. لم يتسن له العودة من حيث أتى ولا الهرب ولا فعل أي شيء، ولا حتى الصراخ. كانت في باله فكرة واحدة، الا وهي حدوث ما يخشاه لنفسه وتوقعه الاخرون بهذه السرعة مثلما يحدث في أفلام سلفستر ستالوني؟  يا له من حظ وقدر ساخر! سار على مهل موقناً من ان كل شيء سيحدث مثلما هو مقدر له، مثلما كان والده يكرر دائما بعد كل صلاة وهو يكرر ادعيته ويحسب خرزات مسبحته. ما ان تجاوز شاب بملابس قاتمة، اعطاه ظهره ويفتعل النظر باتجاه بعيد عنه ويبدو مشغولا بشيء ما بين يديه، حتى بدأ كل شيء. هل شاهد هذا في فلم من الافلام الامريكية التي يتابعها، وجعلت بعض معارفه يقولون انه صار مدمن أفلام، بينما يجدها خير وسيلة للتسلية وقضاء الوقت بدلا من التسكع في الحانات والمراقص، خصوصا في الفترة التي يكون فيها بلا عمل، ويكون لديه الكثير من الوقت لا يعرف كيف أشغاله؟ هناك من يلومه لأنه صار مغرما بمتابعة أخبار أبطال الأفلام وتفاصيل من حياتهم، بحيث صار يعرف الكثير عن سلفستر ستالوني، الذي طالما روجت أفلامه لأهمية التدخل الأمريكي لحل مشاكل العالم. ما حدث بعد ذلك جرى تماما مثلما توقع ومثلما خطر في بال ابن مدينته ومعارفه وهم يكررون تحذيراتهم له. قفز الشاب ذو الملابس القاتمة بمهارة لاعب سيرك ووضع شيئا في خاصرته. عرف فورا انها ماسورة مسدس وفح بشيء لم يتبينه جيدا لكنه فهمه تماما. هذا مثل مشهد في فلم شاهده يوما، وليس بالضرورة من بطولة سلفستر ستالوني. سرعان ما ظهر شاب اخر من لا مكان وخطف حقيبته الصغيرة من يده، بينما راح ثالث يدفعه من ظهره ليعجل في خطواته. راح الذي اختطف حقيبتة ودون التوقف ينبشها بمهارة. وعلى طول الشارع تناثرت ملابسه مقلوبة الجيوب، وفض مغلفات رسائل يحملها معه، بعث بها معارف له الى عوائلهم. شاهد قميصه المائي مثل طائر جريح يهبط الى اسفلت الشارع القذر. أعتقد انه سيزور قبر والدته مرتديا هذا القميص بالذات. كررت أمه انه لون يناسب سمرة بشرته. وحين تكررت لقاءاته بتلك الفاتنة الشقراء الفنلندية، التي كانت من زبائن المطعم حيث يعمل، وتشعبت أحاديثه معها، وحدثها يوما عن أمه واللون المائي، كانت هديتها له هذا القميص، وبعد عام وإذ فاتحها بإمر الزواج وإنجاب طفل، اغرورقت عينيها الملونتين بالدموع واحتضنته وقالت بحرقة:

 ــ حلمي العيش مع رجل مثلك، رقيق وطيب وبسيط وحقيقي، ولكنك بحاجة الى امرأة عراقية لتنجب لك اطفالا مثلما تراهم في احلامك واحاديثك. لا يمكن لام اطفال رجل مثلك إلا ان تكون عراقية.

اقترب شخص رابع منه. من اين خرج؟ لم يلاحظه في البداية. كان مسلحا ايضا، ولكن ببندقية كلاشنكوف بأخمص معدني مطوي. كان أقصرهم ومدحدح ومن حركاته يبدو انه زعيمهم. اوقفه في زاوية الزقاق. امسك بندقيته بيده اليسرى، وراح وبمهارة وفن يمد أطراف اصابع يده اليمنى ويحركها في كل جيوب ملابسه. يعرف جيدا ما يفعل. وبدراية تامه مد اصابعه تحت ابطيه، وراح يجس خاصرتيه وظهره، ثم وفجأة وبحركة مباغتة صارت الاصابع كالأفاعي تتحرك تحت ثيابه، وبذات السرعة انسابت على بطنه، نزلت الى وسطه، وثم توقفت قليلا بين ساقيه. وأطلق ضحكة:

ــ قبل اسبوع مر من هنا واحد مثلك. كان يخفي كل ثروته مربوطة الى خصيتيه.

 كانت اول جملة سمعها منهم. تعاملوا معه منذ اللحظة الاولى بالإشارات، بخبرة ودراية، والغريب وجد نفسه يفهمهم بسرعة. توقف… ارفع ذراعيك… لا تتكلم … لا تتحرك… هات الحقيبة … انزع سترتك!   ثمة شيء ظل يجثم على روحه يجعله يفهم كل اشاراتهم. لم يفكر بهذا الامر سابقا. لم يحاول الاحتجاج او القيام باي حركة تغضبهم. كانت فوهات مسدساتهم اللامعة تحت ضوء الفجر في الزقاق الموحش تسلبه أي حق بالاعتراض. أحدهم يرتدي زيا متنافر الالوان ويربط جبينه بوشاح على طريقة (رامبو) ويرخي طرفه حول نصف وجهه الاسفل يمسك بكل كف بمسدس ويحركهما بمهارة فائقة كأبطال أفلام رعاة البقر. إقتادوه هرولة من طرف الشارع الى عمق الزقاق المظلم. حصل كل شيء سريعا وكأنهم مدربين على كل ذلك. انتبه الى كونه جاراهم بسرعة الجري وكأنه شاركهم التدريب لضمان سرعة الانجاز. أخرج المدحدح من جيب سترته الداخلي محفظة نقوده الجلدية. ورزمة من الاوراق بينها جواز سفره. تصفح الاوراق وجواز السفر بسرعة.  وأطلق ضحكة وبصوت مسرحي صاح:

ــ حضرتك فنلندي؟ أهلا وسهلا! Welcome ...

كان الصوت ساخرا جدا، ومن خلف اليشماغ الذي يلف به المدحدح وجهه تأتيه الكلمات خشنة وقاسية مثل حجارة مسننة. فتح المدحدح المحفظة واستخرج كل ما فيها. قلب ما يجده مدققا فيه بسرعة ثم يرميه على الارض. وميز المدحدح وهو يرمي بطاقة المكتبة، بطاقة المواصلات، بطاقة الهوية الشخصية الفنلندية، بطاقة دائرة الضمان الصحي، بطاقة التسوق و بطاقة البنك، ثم رمى المحفظة كلها فارغة. واقترب منه هازا اضمامة من الاوراق النقدية بين اصابعه:

ـ اين بقية النقود؟

ولأول مرة سمع نفسه يتكلم، وخيل له ان صوته يعود لشخص غيره:

ـ هذا كل ما عندي وهذه ليست كلها نقودي، معها امانات للناس؟

وصاح المدحدح بنفس الصوت الحجري:

ــ ايعقل ان هذا كل فلوس فنلندا؟

وقال بألم وهدوء:

ــ صدقني لقد استندت قبل المجيء من رب العمل على أمل التسديد فيما بعد.

قال المدحدح باستغراب:

ــ يعني لك نية العودة الى اوربا؟

وفغر فاه. ماذا يقول له؟ بماذا يجيب؟ لا يعرف ماذا يخبئ له المستقبل وهو يعود لوطنه بعد عقدين من الزمان. نداء من القلب دفعه للمجيء. لم يتمكن من الاحتمال. كل الناس يسافرون لزيارة اهاليهم واقاربهم. صحيح ان امه وابيه غادرا الحياة، لكن هذا وطنه. لابد ان احدا ما سيأخذه بين احضانه. سيزور قبر ابيه وأمه، وسيبكيهما بحرقة ويرجوهما المغفرة. سيحكي لهما عن سنين العذاب في الغربة. سيزور بعض من مرابع الطفولة والصبا. سيزور مدرسته الابتدائية ويدخل صفه القديم. يزور المدرسة المتوسطة حيث كان يعمل قبل ان يرغموه على لبس الخاكي ودفعه الى الحافات الامامية لجبهات الحرب. سيسأل عن أبرز تلاميذه. يزور عوائل اصحابه. يعزي عوائل من ماتوا في الحروب أو في السجون. يبحث عن فرصة عمل، أي فرصة عمل، ربما ينجح في العودة للتدريس. عن غرفة يمكنه السكن فيها. يسأل أصغر خالاته لتبحث له عن بنت حلال. حتى لو أرملة حرب. يخطبها ويتفق على تفاصيل الزواج. يعود الى فنلندا ليرتب اموره فيها والعودة بدون رجعه، ليعيش ويموت تحت سماء مدينته التي ظل يحملها في قلبه اينما توجه.

اقترب المدحدح منه أكثر وسأل بشكل مفاجئ:

ــ حضرتك من حزب الدعوة، من الحزب الشيوعي، من أي حزب؟

ولمعت في رأسه أضويه، وشم رائحة حريفة طافت يوما في جو القبو الذي اقتيد له قبل أكثر من عشرين عاما، ليسألوه ذات السؤال وإن بطريقة أخرى مع اللكمات والرفسات. نظر ضابط الامن في عينيه بلؤم كبير:

ــ نحن نعرف عنك كل شيء يا غبي، نعرف عدم انضمامك الى أي حزب، لكن لماذا ما تزال ترفض الانضمام الى حزب البعث؟

وصاح به المدحدح ثانية:

ــ لم تجب على سؤالي؟

منع نفسه من الضحك، لكن الذي جعله يفهم لغة اشاراتهم ويستجيب لها جعله يصمت، فقال بصدق:

ـ طيلة عمري لم أنتم الى أي حزب سياسي.

ولكن المدحدح يبدو لم يقتنع:

ـ وماذا كنت تفعل في الخارج؟

فكر بسرعة، حقا ماذا كنت افعل خارج العراق؟ في فنلندا وإذ لم يجد عملا كمعلم رغم تعلمه لغة البلاد، وبعد ان أعياه البحث، اختار أسهل الحلول وتوجه للعمل في المطاعم الشرقية التي بدأت تغزو البلاد. لذلك لم يتصور انه سيواجه بهذا السؤال يوما ما. اقترب منه (رامبو) محركا مسدسيه مثل لعبة، وقال للمدحدح بصوت عال:

ـ ما بك هذه الليلة، تتفلسف معه، لننصرف بسرعة، خلصنا؟

ابتعد المدحدح عنه قليلا، همس شيئا بأذن رامبو وعاد اليه، وقال بصوت غاضب:

ــ حقا أريد معرفة السبب، ما دمت تعيش في اوربا، لماذا عدت؟ انشاء الله تريد ان تصبح وزيرا؟

ووجد نفسه يبتسم رغما عنه. لم يحلم يوما ليكون مديرا لمدرسة.  يريد هذا الشقي ذو الوشم الغريب على ساعديه، الدفع بأحلامه الى مستوى لم يعهده يوما في حياته. ومثلما راح يحدق بشراهة بنقوش الوشم على ساعد المدحدح، فكر بالوقت الذي تطلبه نقش هذه الوشوم؟ انتبه المدحدح لنظراته، فمد ساعده متباهيا:

ـ هل عجبك الوشم؟

كان يفكر بشكل آخر، ويبدو ان المدحدح قرأ افكاره، فقال بنبرة لينة تماما وهو يبعد فوهة البندقية عنه:

ـ في (ابو غريب)، وقبل إطلاق سراحنا في العفو الرئاسي الشهير، كنت أقضي حكما بالسجن المؤبد لقتلي شريكي ومساعده ...

توقف قليلا عن الكلام ونظر اليه متمعنا:

ـ كانت قضية خلاف سخيفة سببها الطمع، المهم في (ابو غريب) اشتغل ثلاث رجال في إكمال هذا الوشم، نقلوه عن مجلة أمريكية حصلنا عليها وقيل انها وصلت بغداد عبر تركيا. ماذا نفعل في السجن لقضاء الوقت؟

ولم يرد بشيء. شعر بجفاف في فمه، وشعور بالعطش والوخز الحاد في جنبه يتواصل ويزيده توترا وهذا المدحدح الموشوم يثرثر عن اشياء لا تهمه، ويعاود قذف حجارته المسننة:

ـ لماذا تركت فنلندا؟ وعدت الى العراق؟ 

قال صادقا وغصة في قلبه:

ــ اريد زيارة مقبرة النجف، ابي وامي مدفونان هناك...

قاطعه (رامبو) ضاحكاً:

ــ أطمئن، سنرسلك الى هناك بأسرع ما يمكن.

اراد السؤال ان كان لديهم سيارة خاصة، لكنه خمن انه سيبدو غبيا حقا. اقترب المدحدح منه وقال بنبرة لم يألفها:

ـ غبي. أنت غبي. العراق لم يعد لكم. تركتموه حين كانت به حاجة لكم. والان جئت لتذرف دموعك. لتعتذر من ابيك وأمك أو من نفسك.

لم يكن مجرد قاطع طريق وقاتل، بدا له فليسوفا. فكر مع نفسه. اراد الرد بشيء ما. القول مثلا انه لم يكن امامه خيار آخر، حين وضع بين الموت والحياة. وأن والديه توسلاه حتى ...، اراد القول ان ... لكن صرخة تحذير صدرت من طرف الشارع. ثم أطلاقات متعاقبة ومتقاطعة. ظهرت سيارة عسكرية تقترب واصوات تشتم بالعربي والانكليزي. واصوات اقدام تتراكض. صاح المدحدح بصوت حاد وآمر:

ـ اتركوا المكان.

والتفت اليه وقال:

ـ وانت، ماذا افعل بك؟

 اراد قول شيئا خطر في باله، ولكن قبل النطق بكلمة، تعالى إطلاق نار من عدة اتجاهات. لم يتمكن من سماع الكلمات الاخيرة التي قالها له المدحدح قبل اختفائه في عطفة الزقاق، لكنه رأى (رامبو) يلتفت اليه بكل جسده وذراعيه، وشعر بتلك اللسعات الحادة في جنبه الايسر، التي لازمته طول النهار تومض في احشائه مثل نجوم في سماء عراقية حلم بها أكثر من عشرين عاما. أنكفأ على جنبه ومد يده يتحسس البلل الساخن. ماذا أراد ان يقول له المدحدح قبل اختفائه؟  سمع ضحكة وصوت غاضب يطالب اخرين بالإسراع. وسمع خطوات تبتعد عنه. شعر بغيوم تهبط من سماوات بعيدة تقترب من مرمى قدميه، وروائح غريبة تحيط به، واصوات تقترب، وصوت يصرخ:

ـ سيدي هنا… شوفوا هنا. خطيه عرفت أنهم سيقتلونه.

وسمع صوت ناعم يرطن بإنكليزية سمعها كثيرا. اراد التساؤل: هل جاء سلسفتر ستالوني؟

لكنه سمع أحدهم يقول بصوت أجش:

ـ انه فنلندي، هذا جواز سفره!

اراد ان يضحك. ان يطلق ضحكة قوية تجلجل لها شوارع العراق التي غاب عنها عشرين عاما، لكن الغيوم تزداد اقترابا، والروائح صارت أكثر قربا. صوت سيارة تتوقف وابيه يردد دعائه ويلم خرزات سبحته التي انفرطت مستغفرا ربه. وجه أمه مشرقا وعيناها تومضان ويدها الحانية تمسد له جبينه وتغلق له عينيه لينام. تمس جبينه خصلة شعر تنفر عن صدر كاعب، ويد ناعمة، صغيرة، تنشر قميصا مائيا عند ضفة نهر، و...!

***

قصة قصيرة: يوسف أبو الفوز      

هلسنكي ــ آيار 2003

ياطائرَ الفينيقَ من

كنعانَ أو آرامَ من

وادى أساطيرِ الهوى

والأرزِ والجُميّزِ في

مزمورِ حادٍ من مزاميرِ القَصَبْ

**

مِنْ بعدما ذابوا غراماً ثمَّ سالوا

أنهراً جذلى بموسيقى

الأوائلِ من غطاريفِ العربْ

**

حَلّقْ بعيدًا

وامنحْ الدنيا غناءً باكِياً

من روحِ الحانِ (الرَحابِنَةِ)

السُكارى في أفانينِ الطَرَبْ

**

من (ميْجَنا) بعدَ (العَتابا)

ربّما ننسى بها جَهْلَ الأعاريبِ

الحيارى كُلّما إحْتَدَّ النَسَبْ

**

أو عَلّنا ننسى بقايا اللومِ

فينا والغَضاضَةَ والعَتَبْ

**

لا تغضبي للقدسِ

يافيروزَنا الهدباءَ قد

جفّتْ مواجيدُ الأقاربُ

حينما جفَّ الغضبْ

***

صاروا عَقارِبَ عَصرِنا

المَطْليِّ بالتزويرِ والتنويرِ في

دُنيا الدراهمِ والذَهَبْ

**

يَجْترُّ ما يهذي بهِ

زوراً وُلاةُ الأمرِ والتطبيعِ

حتى أصبحَ الوالي نبيّاً

مُرْسلا مهما تواطأ او كَذَبْ

***

فيروزَنا الشَهْلاءَ مهْلاً

إنّهم قد أطفأوا

في الروحِ والوجدانِ

والقلبِ اللهبْ

**

مَهْيوبتي رفقاً بِهاتيكَ

الملايينِ التي

سبعونَ عامًا في المُنى

صِدقاً تَنادوا

إنما لم يحصدوا

إلّا الأثافي

من قُنوطٍ وانكسارٍ أو نَصَبْ

**

معشوقتي الكُبرى ويا

تاجَ المليكاتِ التي في

صوتها يسمو اللقبْ

**

لا تعجبي من حالنا

يا بِنْتَ حَقْلِ الكَرْمِ

ما جدوى العَجَبْ

**

لا تسْألي شُهداءَها

الأوفى هوىً

ماذا جرى

أو ما السبَبْ

**

تبّتْ يَدا ذاكَ المليكِ المُسْتَلبْ

لم يُغْنِ عنه مالُهُ يوماً وَلا

ينجيه من ثأرِ اليتامى ما كَسَبْ

**

لا تطلُبي منّي التصالحَ

والتغاضي في القصيدة إنّما

الأشعارُ ياقوتُ الأدبْ

**

خاضوا معاً بِدِمائِنا وَدِماءِ أهلينا

بحوراً غاصت الأقدامُ فيها والرُكَبْ

**

يا غادتي الحسناءَ يا أيقونتي

هل كذّبَ التاريخُ ما عَنّا كَتَبْ؟

**

غنّي إذن للمُبتلى

موّالَ عِشْقٍ دامِعٍ

من صفوةِ الأشعارِ في كأسِ الحَبَبْ

**

إذ رُبَّ مغلوبٍ بها

من بعدِ صَبْرٍ قد غَلَبْ

***

د. مصطفى علي

 

أبطَلَ النَومُ اتّحادَنا

أصغي الى قهقَةِ الساعَة

أمقُتُ الجِدارَ الأسود

لا شيءَ عليه سوى سحليةٍ صَغيرة

تذرعُهُ كلّ مساء

كأرملةٍ عذراء

أُنصِتُ الى هَمساتِ الريحِ

تخنقُها النافذةُ ذاتُ الزُجاجِ السَميك

أمدُّ عيني في غُموضِ السُكون

ألومُ القمَرَ المُحتَجِب

كحَبيبٍ آثَرَ الفِراق

مَوعدُ الضياءِ بَعيد

لن يلوحَ قبلَ التاسِعة

يا لابتعادِ الأمَل

تَعوي الأفكارُ...

وحشيّةً.. غادرة

لا أفلحُ في اقتِناصِها

هكذا .. كلّ ليلة

كطائرٍ مُرتاع

تظلُّ أجنحَتي مُفرَدة

**

2

لعلّ السُويدَ من السَواد

الشمسُ باردةٌ.. باردة

لا توقِظُ بذرةَ الريحانِ التي جئتُ بها من البَصرة

أعرفُها لا تُنجبُ جَذراً هنا

أرَدتُها تُعطّرُ التربةَ البائسة

الرَيحانُ.. مثلي

يُضيرُهُ استِنشاقُ الغُربة

يأنَفُ شَمسَ تمّوز..

الباردة!

**

3

أُدركُ الآن

أنّ الثلجَ فوق أكتافِ الساعينَ في الطُرقات

على الأسطُحِ.. الأشجار

تحتَ حَوافرِ المُشاة

يُهمِدُ جَذوةَ المَشاعر

جَبانةٌ هنا الأحاسيس

تتوارى من لَدغَةِ بَرْد

تذوي في قُلوبِ الشَقراوات

كحبّاتِ سُكّرٍ مُرّ

وأنا.. حفيدُ ابنِ أبي ربيعة

تحرقُ أنفاسي الهَواء

تحتَ ملابسي الثَقيلة

جَسَدٌ مُتَّقِدْ

جئتُ من بَلدٍ يُسامرُ الحَرّ

آه لو تَدري النِساء

في دِثارِ الصَقيع

أنّ فَمي موقدٌ

وكَفيَّ شَمس

**

4

في يوتيبوري

تحتَشِمُ الأرضُ من السَماء

تتَدثّر بالغُيوم

والمطَر

ليست الحياةُ سوى بَللٍ

ومَظلّة

وحينَ تُخطئُ السُحب

تضَلُّ عن سبيلِها

في زلّةٍ عابرة

أحتفلُ كالأطفال..

وحيداً

**

عادل الحنظل

من يرجع الماضي الذي لا يرجع

وفتى خجولَ البوحِ عما يطمعُ

*

وضياءَ يومٍ مشرقٍ بجمالها

لا حول لي إلا أكون وتقطعُ

*

كم سرت خلف مسيرها في لهفةٍ

والقلب يخفق، والصدى يتتبعُ

*

تسري أمامي كالشعاع بنورها

والليل يهمس، والشعورُ يُصدَّعُ

*

ما كان حالي غير روح متيمٍ

لكن قلب الوقت دوماً يقطعُ

*

أبكي طريقاً لا أرى بوضوحه

وأحنّ في ظلمات ليلٍ يُفزعُ

*

أيامنا ولّت، كطيف عابر

مرت سريعاً، والندى يتجمعُ

*

ودّعت أحلام الصبا في غفلةٍ

لكنها أزهت بدمعٍ يُقرعُ

*

حتى التقينا في مكانٍ معتم

ترعى به الأرواحُ طيفاً يخدع

*

والحلم عاد هناك بعد سكينة

يسقي الحنين بجمره ويوزع

*

يا فرحة اللقيا، فكيف مقالتي

لما أشرتِ بإصبعٍ يتقطع

*

سالَت دموعُ الشوقِ في محرابها

تروي حكاياتِ الغرامِ وتجمعُ

*

وشفاهُنا همست بلحنٍ خافتٍ

والقلبُ يصرخُ: "كيفَ مثلي يخضعُ"

*

يا ليتني في بحر عينك غارق

أو أستفيقُ على الوداعِ فأفزعُ

*

كم كنتِ في ليل السنين منارتي

أنجو بظلِّكِ كلما أتوجَّعُ

*

كم كنتِ في ليلِ الشجونِ قصيدتي

ونجومُ حبي حولَ عينك تلمعُ

*

حتى إذا نادى الغرابُ ببيتنا

والموجُ في بحرِ التفرق موجع

*

يا ليلُ، فأشهد أنني في حبِّها

مهما تعثرت الدروب، سأتْبَعُ

***

د. جاسم الخالدي

 

في نصوص اليوم