نصوص أدبية

نصوص أدبية

شعور بالزهو ِ أنتابها، وحنين شدها، ودمعة ُ تكاد أن تقفز َ من محجرهِا، حين َ وجدت نفسها تقف أمام الثورين المجنُحين وهما يثبان بشموخ ٍ أمام بوابة المتحف الوطني، فما كان منها الا أن تمضي وتدخل اليهِ دوَّن تردد. بعد صباحٍ حملها على الخروجِ هربا من جوِ المُناكدة، علها تُبدد بعضا من الضيقِ الذي أطبقَّ على صِدرها. حينَ لسعها بكلامهَ الجارح، وهو يعُيرها بفقرِ أهِلها وينتعها بعبارةٍ تستفزها كثيراً (بنت الفقر) وأعتاَد أن يكررها رحمك الله يا والدي لم تورثني سوى الخجل والخوف من المواجهة.

ذاك ما يزيدها عجزا عن الرد عليه وكأنه وضع (دستور نفسي لها). وهذا ما أجبرها على الاعترافِ بضِعفها والخضوع لمعاناةٍ لا مفر منها من أجل البقاء مع اولادها.. اقتربت بخِطواتها نحو المكان المخُصص للدخولِ. وفجأةً يد مرتعشُة تمتُد نحوها فتقطُع سيرها، كانت اليد لرجلٍ كبير في السنِ يفترُش الأرَّض، هزيلاً، يرتدي معطفاً اسود رثاً طويلاً، جالساً يستنُد بظهرةِ على سورِ المتحف، يلتحفُ السماء، يلفحُ وجههُ البرَد، َّ المركبات الماَّرة من أمامهِ وسط الشارع. اقتربت منُه رفع رأسه نحوها ومد يده مرة ثانية، حركة اعتاَد ان يفعلها المشَردون، قائلاً لها (يحفظ اولادك) ساعديني. كان هناك بصيصُ باهتُ في عينيهَ ظهرت منهُ التماعهً خافتة بالكادِ ترى وقد ضاعت مساحَة وجههِ بينَ دقنهِ وحاجبيه وما تبقى من مساحه وجههِ.

قالت: حين أخرج من هنا.. وهي (تشُير بيدها نحو المتحف) سأعطيك ما تريد لن أتأخر.. سارت مع حزنها وافكارها التي رسمت في مخيلتها، لوحةً جمعتها من احداثِ يومها ومن زحمِة الشارع، والباعة المتجولين، وقصاصات الورق المتناثرة. واخرهم المشرد الجالس بجانب سور المتحف. ا تدريجيا يتلاشى حزنها وهي تسير في ممرات طويلة صفت بالحجر، زرع على جانبيها مساحات عشبية خضراء تلألأت فوقها قطرات الندى. استقبلتها موظفة الاستعلامات بابتسامة مرحب، تفضلي من هنا بإمكانك حمل هاتفك النقال معك. أتمنى لك جولة ممتعة..

كانت باحة المتحف رائعة زيُنت بلوحاتٍ تاريخيةٍ منها السومرية والأشورية، واكاليل من الزهورِ دُست وسطها بطاقات اهداءٍ من وفود اجنبية، وهذا ما كان واضحا من الوجوهِ الاسيوية التي كانت هناك...القاعة الاولى كانت واسعة تردد صدى وقع أقدامِها وصوتُ أنفاسها. حفظت  فيها مسكوكات وعملات نقدية نحُاسية وذهبية واختامٍ اسطِوانية ومسطحة تراوحت احجاُمها، واشكاُلها، حفظت في خزانات زجاجية مربعة الشكل، ذهول يستولي على مشاعرها وهي تتنقل من قاعة الى أخرى الى أن بلغت القاعةُ الرابعة، والتي كانت تضم تمثالا لأشهر أميرات الحّضر، خُلدت بأبهى صورة !!

انعكاس للجلال والمهابة وترف يوسم ملابسها بكامل زينتها وهي على ما يبدو مزوقة بأحجار كريمة وقلَائد تُزينها، كما تُزين تاجها الاسطواني. الذي يدل على مقاّمها السامي، ترفع يدّها اليمنى كإشارة بالَترحيب.. وبالقربِ منها كانت هناك حُلي، وأساور، وقلائد من الذهبِ والاحجار الكريمة،اقتربّت منها وهي تنظر بعين ظمأى، ثم تبتسم ولها تلتقط الصور.. اليست أنثى مثلها !!

صوت رجل يقطع شرودها.. لم تلحظ وجوده، كرغم وقوفه في القاعة.. يقترب منها قائلا: انا موظف هنا ودليلُ سياحي، هل تقومين بأعداد بحث ما !. :

بإمكاني مساعدتك، المتحف كبير يضم اربعة عشر قاعة ستضيعين بين اروقتها. العاملون هنا أنُفسهم يجدونَ صعوبةً في الخروجِ منها

 لا شكرا لك أحبُ أن أكونَ لوحدي

ـ حسنا باستطاعتك اقتفاء الاشارات المثبتة على الجدرانِ سُترشدك لباب الخروج. واصلت سيرها لقاعة أخرى.. هنا يقف تمثاُل الثور المجنح بحجمةِ الكبير، وهنا لوحة لشمس مشرقةً عرفتها لكنها لم ترها من قبل، مثل ما رأتها الان. مضت تكُمل جولتها وهي تتنقل من قاعة الى أخرى فجأة ! تشعر من أن غبار يملأ المكان أسرى خوفا بداخلها. لمحت رجلا يركُض مسرعا حاملاً بيدِه سجلاً كبيراً يحوي اوراقًا رثة مصفرة تحمل عبق سنين غابرة، يرتدي ثياباً غريبة الشكل، ووجهُ شاحب مخُيف، حين رأتهُ تراجعت للخلف وهي ترتجُف، تقدم نحوها قائلا ـ كيف دخلت القصر؟..

ترد عليه وهي تتلكأ بالكلام: أنا كاد أن يغمى عليها، يكرر قوله !!... ؟ اسرعي في الخروج موكب الملك قادم كيف دخلت هنا.

ترتبك ومن خطواتها تجفل وهي تتعثر بها.. لم تستطع أن تكُمل زيارة باقي القاعات محاولة الخروج، وهي تبحث وتدور كخنفساء وقعت في حفنه دقيق، تبحث عن اية علامة تشير الى باب الخروج ! تفاجأت بوجودِ تمثال كبير جدا على وشك أن يلامس رأسُه سقف المتحف، كتب اسفله تمثال الملك حمورابي، تسمرت أمامه رفعت رأسها بذهول وخوف، حرك رأسهُ الكبير ونظر اليها قائلا

: ـ لا تخافي تحدثي ما بك؟

نظرت اليه بوجل وكأن دفْ مختبئ، تسرب الى جسدها فسرت سكينة صفو في داخلها، مولاي الملك أنا خائفة وأشعر بالخيبة كل يوم أطرقت صامته..علت على وجهه أمارت الغضب ! وهل أبناء الملوك يشعرون بالخيبة ! تركنا لكم ارثا معنويا وتاريخيا كبيرا،

رفع رأسه ونادى بصوت مرتفع، أفسحوا لها الطريق لتُخرج، عودي لن يعاودك هذا الشعور مجددا..

كان باب الخروج أمامها لكنها لم تره، ودعتها موظفة الاستقبال بوجه عبوس، من فضلك حقيبتك من هنا لغرفة التفتيش.

استيقظت وكأنها نامت دهرًا والى جانبها كتاب التاريخ. تمسكه وهي في ذهولٍ تفتحه وتغلقهُ ثانيةً وكأنها تقرأ الفأل...

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء / العراق

مهداة الى كل من ردد القَسَم

سَــدِدْ خُـطاكَ، وأشّــرْ مـوضِعَ الخللِ

واسـتـنهِـض الحَـسْـمَ انـقاذاً مِن الزَللِ

*

إمـارةُ الـمُـلْـكِ ، كُــرسِـيٌ  قــوائـمُـهُ

تـنهارُ بالســوء والـتـدليـسِ والـهَــزَلِ

*

إحرِصْ عـلى أن تـنامَ العـيـنُ هـادئـةً

لا ظلمَ ..لاسُحْتَ ..لاإخلالَ في العمل

*

إنّ السـيـادةَ فــي الأعـمال تَـرْقــبُـهــا

ســيادةُ الـكوْنِ ،فاحـذَرْ كبْـوَةَ الخَطَـلِ

*

يـبـقى الـسُـموّ بِـعِـز النفـس مُـؤتـلِـقـاً

لافي المظاهـرِ ، أو فـي زِيـنَةِ الحُـلَلِ

*

إنّ الوِســـامَ عـلى صَـدرٍ يـلـيــقُ  به

قـوْلاً وفِـعـلاً ، لــه حَـظٌ مِــن الأمَــلِ

*

مـَـراتِــبُ الـعِــز ، بالأفـعـال خـالِــدَة

ومَـن يكـن عـالةً ، يدنـو مِـن الـشَــللِ

*

مَــنْ يـبـتغي مَـسْـلكا ً يزهو  به كَـذِبا ً

يَهْوِي به السوءُ ، في دَرْكٍ مِـن العِـللِ

*

قـــد أودَعـوكَ بـمِـلء العـين مِـقودَهـم

اقْـــسَـمْـتَ تَسعى الى الحُسْنى بِلا مَلَلِ

*

فاطْلِـقْ عِنـانَـك لا تـثـنـيـك جَـعْـجـعةٌ

ان الـتـرددَ ، لا يُـرقـي الــى الــقُــلَـلِ

*

فالـســيـفُ قـوّتُـه : إيــمانُ مُـمْـسِــكـهِ

والعـيـنُ  يُعرَفُ مَغْـزاهـا مِـن المُـقَـلِ

*

إنّ الأمانيَّ فـــي تسْــويـف مَـوْعِـدِهـا

يـُهـَـدِدُ الـثـقــةَ الـعـليـاءَ ، بـالــفَـــشَــلِ

*

ادْرِك شـراعَـك ، فالأنـظارُ فـي وَجَـلٍ

مِـن غَـدْرةِ الريـح فاسْـبقهـا على عَجَـلِ

*

ونَـمْ بـعَـيـنٍ ، ودَعْ أخـرى عــلى حَـذَرٍ

مِـن مَخْـلب الذئب، أو مِن بِرْكة الوَحَـلِ

***

(من البسيط)

    شعر عدنان عبد النبي البلداوي

لا رغبة عندي لمشاهدة التلفزيون، وكان النعاس قد بعد كلياً عن عيوني وشعرت أن السرير غير مريح على الإطلاق. أدرت جسدي نحو الجانب الآخر، وطالعت الجدار الموشّى باللون الزهري وثمة خطوط لظلال ورود صفراء صغيرة تطرزه  طولاً وعرضاً. كانت هناك جوار الحائط سندانة زرع صغيرة وُضعت فوق منضدة تهدّل منها بإهمال الغطاء الحريري. وسط السندانة غرس عود دقيق تتسلقه أوراق شجرة شبيهة بأوراق السرخس الأسفنجية، وظهرت من بين ثنيّات الأغصان بضع ورود بيض فاتنة.

تلك السندانة أتى بها رياض في اليوم الأول من دخولي دار رعاية العجزة، وقد شكرته على هديته، وتلك كانت مقدمة لتعارفنا الذي بات مجلبة لرضاي وبقائي صامدة في مثل هذه العزلة المضجرة والموحشة. لم أكن لأرغب البقاء وحدي، ولم أعتد ذلك منذ زواجي من أولف. وكنت لا أمقت في الدنيا شيئاً بقدر كرهي لساعات يقضيها أولف بعيداً عنّي.

في تلك الأمسيات الشتوية الطويلة، حين يهطل الثلج ثقيلاً في الخارج، كنت أجلس قرب المدفأة بانتظار أولف، فقد اعتاد أن يهاتفني ليخبرني أنه مضطر للبقاء في عمله إلى وقت متأخر. ولكن لم يكن ذلك الهاتف ليطمئنني عليه، فأنا كنت أحمل هواجس غريبة ومتعبة، وثمة إحساس بالخوف يراودني كلما أخبرني أولف بتأخره في المجيء. أشعر بالخوف يسربل روحي وأنا أستمع لصوت الريح وأشجار الصنوبر السامقة تهتز تحت ضربات الريح العاتية، وتتهدل أغصانها جرّاء ثقل الثلوج المتساقطة بكثافة. كنت أظل طوال الوقت ساهمة متوترة الأعصاب لحين قدوم أولف. أسمع صوت محرك سيارته وهو يدخلها المرآب، ثم طرق حذائه حين ينفضه عند الباب الخارجي.  هذا الأمر كان يتكرر بشكل متعب وقاسٍ، خاصة أيام العواصف الثلجية. كنت أفسر الأمر وأسميه عصاب الخوف من المجهول، وحين أخبر أولف بذلك يروح ضاحكاً ويضمني إليه.

ـ حبيبتي ما زلت تنتظرين...

ثم قبلة وكالعادة وردة براقة، كان يطلق عليها دائماً وردة الصفح والغفران، أي أن عليَّ أن أغفر له فعلته وتأخره كل هذا الوقت. ولكني كنت أحس بأن تلك الورود، وفي كل مرة، مبعث لشعور دافق بالحب وإبعاد ما يتلبّسني من مشاعر خوف وقلق.

شعرت بثقل الوقت وهو يسير ببطء مرير وممل. سحبت رسالة مصلحة الضرائب مرة أخرى ورحت أجول بنظري بين سطورها دون أن اقرأ جملة كاملة منها، فأنا حفظت محتوياتها عن ظهر قلب، وهي معي تشاطرني مضجعي منذ ذلك اليوم المشؤوم. أستطيع أن أعدّ كلماتها الجافة الخشنة الباعثة على الأسى والفزع. كيف يتسنى لهم فعل ذلك. مضى الكثير من الأشهر وهم يماطلون في اتخاذ القرار، أي برلمان يفعل مثل هذا. يا ترى ما دوافعهم من هذا الأمر، رغم الوعود التي يطلقونها عن قرب اتخاذ القرار. فحتى الآن، وحسب ما أخبرتني به السيدة سوزان ماساك، هناك أكثر من مائة من الجثامين محشورة في الثلاجات منذ أكثر من خمسة أشهر، تنتظر موافقة الدولة على مشروع الدفن الجديد. وقبل هؤلاء أصابت الخيبة الكثيرين من أهالي الموتى الذين ذهبت جثثهم بعد حين طعماً للديدان. كل تلك الجثث في الثلاجات المنتشرة في أماكن مختلفة من السويد، ومعها أحبتهم من العوائل المسكينة، تنتظر القرار دون جدوى. والأدهى من ذلك أن حفظ تلك الجثث في الثلاجات لا يتم مجاناً بل مقابل ثمن، خمسون كرونا لليلة الواحدة. وإن لم يتوفر لأهل الميت مبرر مقنع لبقاء الجثة في الثلاجة، فمصلحة الضرائب سوف تجبر أهله على دفنه بعد مضي ستة أشهر في أقصى احتمال، أو تأخذ مصلحة الضرائب على عاتقها أمر الدفن، وتحميل أهل الميت مصاريف ذلك. ولكني لم أدع الموضوع يمرّ دون البحث عمن ينقذ جسد حبيبي. ففي حالات استثنائية يمكن تمديد مدة بقاء الجسد لفترة أطول، ربما تتعدى حدود الأربعة أشهر أخرى. لقد قدمت طلباً بذلك، وعرضت فيه مبررات كثيرة لأجل الحصول على التمديد. عرضت عليهم ضرورة تلبية رغباتنا أنا وزوجي، وهي تمثل أهمية قصوى له ولي شخصياً. أخبرتهم بأننا دفعنا بدل الاشتراك كاملاً، ولكلينا ونحن سوية ننتظر أن ندفن على طريقة الدفن البيئي، وأن حبيبي أولف باتت روحه ترفرف الآن عند شجرة التفاح التي اختارها، تلك الشجرة التي حددها واختارها بعناية وكان وفي كل مرة نمّر من أمامها يحيّيها مبتسماً، ويطالعها بشغف ومحبّة وقد أخبرني بأنه يشعر بأن كيانه وروحه امتزجا مع نسغ تلك الشجرة. كنت أحسده على ولعه ومحبته لهذه الشجرة، لأني وبالعكس منه لم أنتقِ شجرة بعينها، بل حددت في ورقة الطلب، أن يكون جسدي جزءًا من شجرة ورد دون تعيين، واكتفيت بذلك. أمنيتي أن تمتزج روحي وبقايا جسدي وتنمو في برعم ينتظر الربيع ليفجّر طاقته، ثم تندفع روحي منسابة هادئة تنفرج عنها زهرة شذا عطرها يفوح في المكان.

أذكر ذلك جيداً الآن، وروحي تتمزق ألماً لفقد حبيبي. كانت لحظات غضب لم يدعها أولف تسيطر عليَّ أو تعكر صفو تلك الأمسية. فحين دفع الجريدة نحوي، تلك التي أردت أن آخذها وأرميها بعيداً، والتي اعتقدت وقتها أن أولف يتجاسر ليعرض عليَّ مقال السيدة ليندا أليكسون، ضحك أولف وضمّني إلى صدره وهدّأ من روعي، عارضاً ما يريد أن يطلعني عليه.

كان التقرير الذي حوته الجريدة يحتل صفحة كاملة. جلسنا وتناولنا عصير الفواكه، وناقشنا بحرارة تقرير السيدة سوزان ماساك أخصائية أبحاث البيئة، والتي تنشر مواضيعها الصحية والعلمية في جريدة الداكنز نهيتر أيضاً. كان أولف وهو يناقش أمر الطريقة الجديدة بالدفن، يشعر بغبطة فائقة وفرح يغمر روحه، وراح يصور الموضوع وكأنه اكتشاف لعملية إنقاذ تاريخية من معضلة كانت تؤرق البشرية. فجأة، وبنشوة غامرة قال أولف: لم يعجبني طيلة حياتي غير منظر شجرة التفاح حين تتفتح زهورها بذلك اللون الزهري الخلاب، كنت أجلس تحتها أفكر بتفاؤل وأنا أشاهد الزهور وهي تتساقط فوقي ومن حولي، أعتقد أن أمنيتي سوف تتحقق بعد ما عرضته السيدة ماساك، أريد أن أكون جزءًا من شجرة تفاح مثمرة فوافقته على فكرته.

كان تقرير السيدة سوزان ماساك في الجريدة، والذي قمنا أنا وأولف إثره بطلب لائحة الشروط وملء أوراق الطلب والحصول على الموافقات، وإتمام عملية دفع مبلغ التأمين الأولي وباقي الإجراءات، كان يتحدث عن عملية دفن حديثة للجسد، سمّته السيدة سوزان بالدفن البيئي. وقد شرحت بالكامل العملية والكيفية التي يتم فيها تحلل الجسد وما هي المكونات التي سوف تستقبلها تربة الأشجار، وتمتزج عناصره العضوية بعد تحللها  بالنسغ،  ومع مرور الوقت تكون جزء لا يتجزأ من جسد الشجرة وروحها. وقد قـُدمّ المقترح إلى البرلمان للموافقة عليه.

عملية الدفن البيئي تختلف كلياً في الكثير من الإجراءات عن عمليات الدفن العادي أو الحرق التي يذهب الجسد بعدها ليكون إما طعاماً للديدان، أو رماداً يوضع في قنينة تركن مهملة في إحدى زوايا البيت، إن لم تركن في قبو المهملات، ومع مرور الوقت تُهمل وتُنسى ويعلوها التراب، أو بعد أن يوضع اسم الميت فيها، ترمى القنينة في أقرب بحيرة أو بحر، أو حتى جدول ماء. السيدة سوزان شرحت العملية بالكامل. فهي ومجموعة أخصّائيّين توصلوا إلى طريقة بيئية للتعامل مع الجسد بعد الوفاة، ليكون الناتج بعد تحلله مجموعة عناصر كيميائية بخواص ومواصفات محددة. الطريقة تعتمد على العناصر الكيميائية في الجسد وفيزياء الحركة وغاز النيتروجين. يوضع الجسد داخل صندوق خشبي ثم يدخل في صندوق صنع من معادن فائقة المقاومة حيث يحاط التابوت بوسط كثيف من غاز النيتروجين وتحت درجة حرارة تبلغ  196 تحت الصفر بالتحديد، ليتم تجميد الجسد، وتكون هذه الدرجة ذات تأثيرات تحدثها تفاعلات الفلزات التي يحتويها الجسد، بعد هذا يتم رجّ الجسد داخل التابوت بقوة وسرعة تقارب سرعة الصوت، عندها تتم عملية تفتت الجسد ليصبح على شكل مسحوق ناعم لمّاع رطب، يخلط بنترات الرصاص وبعض الزئبق، بعدها يمكن تطويع المادة الناتجة إلى ما يشبه سائلاً ثقيلاً بعض الشيء، تحقن به جذور الأشجار وتوضع بقية منه بين الشقوق واللحاء والتربة المحيطة بالشجرة، ليكون تأثيره فعالاً في ارتفاع خصوبة التربة وزيادة في طبيعة نمو النبتة وليختلط جسد الشخص بروحها.

تلك الليلة سهرنا أنا وأولف حتى ساعة متأخرة من الليل، ناقشنا ما طرحته السيدة ماساك في جريدة الداكنز نهيتر بسعادة وغبطة. حاولنا أن نكون عمليّين. كان أولف عند الشهر الأول من العام الثالث لتقاعده عن العمل، وكنت قد لحقته بسنة واحدة حين أكملت الخدمة وطلبت الإحالة على التقاعد. لقد جهد أولف أن يعمل قدر المستطاع وبشكل كفوء وبنكران ذات لأجل صيانة سمعته كطبيب، وبروح شفّافة وواعية من أجل مرضاه. لقد كانت مشاريعه دائماً طموحة مثلما يطرح في بحوثه. عمل أكثر سني وظيفته في مستشفى مدينة يونشوبينغ، ولكنه في نفس الوقت كان كثير السفر ليشارك في المؤتمرات العلمية أو إلقاء المحاضرات ومناقشة بحوث في مختلف دول العالم. في جميع تلك السفرات كنت أجد نفسي، وفي كل مرة، أقترب كثيراً شيئاً فشيئاً من أولف، فكانت سعادتي برفقته لا توصف وكان طيلة الوقت يغمرني بالمحبة ودفء العواطف، ويقدّمني لزملائه وأصدقائه وحتى لتلامذته بكلمات وإيحاءات فخر وتشجيع لا يمكنها أن تغيب عن بالي، أو أفقدها بقدر ما يعني ذكرها نوعاً من السلوى التي تنعش حواسّي، وتثلج قلبي الذي أشعر به، وبعد أن هرب الوقت منا، قد كلّ وتعب وباتت الآلام والوحدة المضنية تثقل عليه، فأصبح هذا القلب يضيق بكل شيء مع اختفاء أولف الحبيب من أمام ناظري. لقد عشت أجمل سني حياتي مع أولف، أو إني لم أعش قطّ دون أولف. لست نادمة على أي شيء في حياتي معه، لقد شبعت من الحياة نفسها، لأني عشتها بين أحضان أولف، وهو لم يعد جواري الآن، أريد أن أذهب إليه فلم يعد لجسدي قيمة بعده، ولا يوجد ما أحتفظ به غير ذكرياتي معه.

أتذكر ذلك اليوم جيداً. كان يوماً خريفياً غائماً وأوراق الشجر غطت الشارع الواقع جوار مركز المحافظة. اليوم السابع والعشرون من أيلول عام 1945 كنا سبعة عشر شخصا نرفع لافتتنا الحمراء، ونقف أمام مركز المحافظة استنكاراً لجريمة الولايات المتحدة الأمريكية المتمثلة بإلقاء قنبلتيها النوويتين على اليابان. لفت انتباهي شابّ بشعر ذهبي يرتدي قميصاً شذري اللون تحت بلوزة بنفسجية خفيفة بأزرار مزدوجة. دخل وسط جوقنا وراح يردد معنا الأناشيد الثورية. سحب صورة صغيرة من تحت بلوزته وعلّقها فوق صدره. لفـّني فضول لمعرفة صاحب الصورة دون أن يستحوذ الشابّ على اهتمامي الكامل بادئ الأمر. نهاية تظاهرة الاستنكار اقتربت منه لأسأله عن صاحب الصورة فزاد جوابه من جهلي وحيرتي حين سماه لي: تروتسكي، ولكن من هو تروتسكي هذا، هكذا قلت.

 كانت تلك بداية تعارفنا، ومن بعدها استمرّت لقاءاتنا. لقد كنت في سنّ المراهقة، لم أكمل بعد السابعة عشرة، وكان هو يكبرني بثلاثة أعوام. تزوجنا بعد أربعة أعوام من لقائنا الأول ولم ننجب أطفالاً. فبقينا دائماً وحيدين نعيش لبعضنا البعض، يحبني مثلما أحبه، لم أجد يوماً ما مايدفعني للندم على شيء عشته مع أولف.

كانت آخر وصية تركها لي حين لفني بين ذراعيه قائلاً: لا تدعيهم يحرقون جسدي أو يطمرونه تحت الأرض. أريد أن أدفن وفق طريقة الدفن البيئي الجديدة. لقد دفعنا التأمينات ونحن نقف في الدور ولا أريدك أن تسبقيني، فإما أنا قبلك أو نكون سوّية.  

أشعر بالذنب وهذا يؤرقني بشكل لا يطاق.  فقد ذهب وربما كان يتملكه الغضب مني، لأني تركته وحيداً مسجّى في عربة الإسعاف. وجهه المنقبض لا يفارق مخيلتي، وتلك العينان الزرقاوان تطالعانني، بل كانتا تودعانني فأشعر برعدة في جسدي. تخشّب لساني وقدماي تيبستا. ما كان ينبغي أن أتركه، ولكن حالي المشوشة وارتعاش جسدي ووهنه، كل ذلك جعلهم يمنعونني من مرافقته. لا يهم فأنا أتبعه حتى الآن، وسوف ينتظرني كالعادة. أعرف أنه لا يطيق العيش دوني. سوف ينتظرني ونكون سوية مثل عبق الورود في صيف بليل. ينتظرني بوردة الصفح والغفران. وسوف أضعها في آنية وأسقيها كي لا تذبل. ما زلت مقتنعة بأنه كان على صواب حين اختار لنا طريقة الدفن البيئي، فهي العملية الوحيدة التي تمكننا من الالتقاء معاً وإبعاد الخوف عن روحينا. إنه يقبع الآن مجمداً في ثلاّجة جافة موحشة، ولكني أظن أن روحه تتطلع للقائي. لا تستوحش البرد فأنا قريبة منك، ولن أدعهم يفعلون بك ما يريدونه.

 عليَ أن لا أدع الأمر يفلت من يدي، فالرد الذي أترقبه ربّما أصل به مع مصلحة الضرائب إلى نتيجة تضمن الحفاظ على جسد حبيبي أولف، لحين موافقة البرلمان على مقترح الدفن البيئي، عندها يتحقق حلمنا لتنمو روحانا مرّة أخرى في الطبيعة ونبعد عن جسدينا دود الأرض. وإن أصرت مصلحة الضرائب والدوائر الأخرى، على دفن جسد حبيبي وفق ما يريدونه، فسوف أقوم بنقل الجسد إلى بلد آخر يقبل أن يحتفظ به لحين حصول موافقة البرلمان على مشروع الدفن البيئي. أجد أن ذلك مخرجاً جيدا بالرغم من أنه يتطلب جهداً ومالاً.. المال لا يعني شيئاً، ولكن من يتكفل بأعمال النقل، ذلك الشيء الذي يتطلب الكثير من المعاملات الخاصة، وأيضاً ربّما تعترضه الكثير من المعوقات.. ليس لي بعد الآن غير صديقي رياض، فهو شابّ خدوم قوي الجسد والعزيمة. ولكن أتراه يوافق على مثل هذه المهمة. سوف أعجّل بالأمر وأطلب منه ذلك في الصباح الباكر.

***

نقر طير دقيق المنقار فوق حاشية النافذة الخشبية محاولاً الوصول إلى حشرة اختبأت بين طيّاتها، كان يحاول التشبث بطرف النافذة الأملس. جناحاه الصغيران يرّفان بعجالة مرتبكة. يدسّ منقاره في الشق الرفيع ومخالبه تتشبث للإمساك بحافة النافذة، وبعناد ومثابرة كان منقاره في دأب يغوص ثم يغوص في البحث. كانت الشمس الكسيرة تشق بضوئها الشاحب سحابات رمادية جللت السماء. كان الجو مكفهراً ذلك الصباح. ثمة أوراق شجر صفراء تذروها ريح الخريف قرب النافذة، ترتفع ثم تهبط نحو الأرض متأرجحة مثل فراشات، أو تندفع لتصل حافّة البحيرة. كان رنين جهاز التنبيه يبعث صوته المكتوم بتكرار رتيب يتساوق مع دقات منقار الطائر المتسارعة. التاسعة صباحاً ثمة بعض الأصوات تصدر عن المصعد المجاور لباب الغرفة، وعاد الطرق ليتكرر فوق الباب ولكن وسط الغرفة لم تكن هناك من حركة توحي بالحياة. كانت السيدة أولف متيبّسة الجسد تطالع السقف بعينين زجاجيتين مفتوحتين على سعتهما، حين دخل رياض وسحب الملاءة البيضاء وغطى كامل جسدها الضامر. 

***

فرات المحسن

إنّي لأخجلُ من شهيدٍ أو شهيده

لو أكتفي بالشعر في نظم القصيده

و أرى بغــزّة ما أرى

الموت

والترويع

والطفل المحاصر

والشريده

وأرى الشيوخ الخائفين

على النساء

من للنساء إذا بقين على العراء

لا سقف

لا جدران

لا وطناً أمين

أمٌّ وطفلتها الوحيده

فلقد تمزّقتِ الرجال

وتفرّقتْ

حيث المتاهات البعيده

ماتت بغـ..ـزّةَ أمنيات

وتكوّرتْ

بالدمع ضحْكات الصغار

والحزن يحفر في الوجوه

أقسى التجاعيد الشديده

فتقطّبت كل الوجوه

حتى غدتْ

حجراً ومقلاعاً يثور

أنفاقَ جيلٍ من نمور

من كل شقٍّ يطلعون

يرمون قاذفةً جديده

ليخاف حاخامُ اليهــ..ـود

فتطيح قبته الحديده

و تعود غــزةُ من جديد

أُمّاً

و مرضعةً وليده!

***

رعد الدخيلي

مِن أهْدابِ النَّرجِسِ سُرقَت أَحْلامِي

من طَوق ِ البَنفسَجِ اغْتيلَتْ لهَفاتي

ارتَعَشَت عَصافيرُ حُنجرتِي

وهُناكَ على المقعَدِ الأسْمَر

ما زالَ ثَوبِي يَقطرُ دَماً

وأُمنياتي جاثِيَةً لتُقبِّلَ المطر

**

كُلَّما أُمَشِّطُ الشمسَ ..

يَقُطعّونَ أَصابعِي!!

كلَّما أُغازلُ  شَفةَ القمر ..

يَئِدُونَ أُنوثَتِي!!

وفي كلِّ مَرَّةٍ أتحَدَّى الريحَ ..

يطعنونني برُمحٍ وثَنيّ!!

يبدو لي أنَ الصباحَ بلوريٌ

أنّ الحُلمَ مُباحٌ

والليلَ طَليقُ الآهاتِ

فَتَبتَسِمُ في جسديَ الجراحُ

تَحُطّ الغادرينيا على شُرُفاتي

وتَتَساءَلُ روحي

أَمَا للفرحِ من شَهقَةٍ أَخيرَةْ؟

وللمَلائكةِ عرسٌ في السماءِ

هل سَتَحتَفِلُ الأَرضُ ٍبيوم ٍ للسلامِ؟

هل سَيُصَفِّقُ الرِّبيعُ للنصرِ؟

**

عُذراً لأَنني أَحلَمُ...

عُذراً لأنَني قَبَّلتُ الشمسَ

أنا زهرَةُ هَواءِ، أنْفاسُ ماء

ونَبْضُ حُريَّة وبَقاء...

سأبْقى أَحْلَمُ..

رَغمَ أَنْفِ الأَعَاصيرِ

وأعْشَقُ قَوسَ قُزَح

بُعثْتُ زرقاءَ اليَمامَةِ

عَمّدْنِي  يا مطرُ ...

عَمّدْنِي يا مطرُ ...

***

سلوى فرح - كندا

وَأَحْيَا

أَعِيشُ التَّجَارِبَ تِلْوَ التَّجَارِبِ

أَمْضِي

وَمِجْدَافُ حُبِّي

يُقَاوِمُ أَشْبَاحَ غَرْقَى

يُحَاوِلُ أَنْ يَسْتَمِدَّ الصُّمُودْ

مِنَ اللَّيْلِ

مِنْ حُلْكَةٍ لَا تُضَاهَى

فَهَلْ يَا تُرَى سَوْفَ أَنْجُو بِحُبِّي؟!!!

وَأَظْفَرُ بِالْوَصْلِ؟!!!

هَلْ أَسْتَفِيقْ؟!!!

وَأَعْبُرُ هَذَا الْمَضِيقْ؟!!!

وَأَرْوِيكَ يَا حَقْلَ حُلْمِي السَّعِيدْ؟!!!

تُرَاهَا تُشَارِكْ؟!!!

تُقَاسِمُنِي؟!!!

لَوْعَتِي فَرْحَتِي؟!!!

قُبْلَتِي بَسْمَتِي؟!!!

مَشْيَتِي رَقْدَتِي؟!!!

تُزَخْرِفُ أَيَّامِيَ الْحَالِكَاتِ

بَأَنْوَارِ حُبٍّ يَطُولُ النُّجُومَ

وَيَقْفِزُ لِلْمُشْتَرَى فِي شُمُوخٍ

يُعَانِقُهُ فِي اشْتِيَاقٍ وَحُبٍّ

وَيَرْمِي الْهُمُومَ

عَلَى الْأَرْضِ

يَخْلُو

مِنَ الشَّكِّ

هَذَا الْعَتِيِّ الْعَنِيدْ؟!!!

وَيَمْشِي عَلَى ثِقَةٍ وَاقْتِدَارٍ؟!!!

أُحِبُّكِ

هَلْ قَدْ عَرَفْتِ مَعَانِي الْحُرُوفْ؟!!!

تَقَاسَمَهَا

شَرَايِينُ قَلْبِي

وَأَوْرَدَةٌ

نَبْضُهَا لَا يَكِلُّ

فَهَلَّا اسْتَمَعْتِ لِدَقَّاتِ قَلْبِي

أَيَا وَرْدَتِي

هَلْ فَهِمْتِ

حَكَايَا الْفُؤَادِ السَّعِيدِ الْحَزِينْ؟!!!

نَقَلْتِ شُرُوقَ الشُّمُوسِ إِلَيْهِ؟!!!

وَأَهْدَيْتِهِ حُبّهُ الْمُنْتَظَرْ؟!!!

أُرِيدُكِ

شَمْساً تُضِيءُ طَرِيقِي

تُهَدْهِدُ أَبْنَاءَنَا الْقَادِمِينَ

بِإِذْنِ الْإِلَهِ لِدُنْيَا الْأَمَلْ

أُرِيدُكِ

أَرْضاً تُشَهِّي فُؤَادِي

فَيَعْشَقُ فِيهَا الْعَنَاءَ

وَيَشْقَى

يُرَوِّي التُّرَابَ

بِمَاءِ الْحَيَاةِ

وَيَحْصُدُ نُورَ السَّنَابِلِ مِنْهَا

أُنَادِيكِ يَا طِفْلَتِي

مِنْ زَمَانٍ فَهَلَّا سَمِعْتِ

النِّدَاءَ الْقَدِيمْ

وَكَمْ قَدْ مَضَى مِنْ سُهَادِ السِّنِينْ

تَعَالَيْ نُوَاصِلُ أَحْلَى طَرِيقْ

وَقَلْبِي لِقَلْبِكِ أَوْفَى رَفِيقْ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

في ذاكرتهما،

تزحف الأرض المجعدة الوجه نحو الماء

تحبل البيادر المثخنة بالخصب

الصفصافة اليابسة وجهها مشرئب لحمرة الغروب

وتحت الزيتونة المتشحة بالسواد

يتناسل حديثهما على صرير المناجل،

نظرات ساهمة نحو السهول

يختلج قميصها الهواء ويبعثر حصادها،

يحمل الريح أصوات العابرين

ويعري بساط وجهها الأسمر،

فوق المقاعد الخشبية

عصافير حنطية كالخبز الجاف

وطريق التلال مصنوع من عرق الأجداد،

عراء فاتن يطفو على وجه النهر السادر

أيهيج طوفانا أم ينحسر على الضفاف ؟ !

*

لرائحة الأرض

يتناسل الحديث

لوحة العراء الفاتن!!

***

بقلم صباح القصير (المغرب)

انتبهت من نومها على مغص حاد في معدتها، إبرٌ تنغرز في دواخلها،حركت قدميها لتزيح عنها جزءا من الغطاء، أحست كأن الإبر قد صارت سهاما حادة تخترق أحشاءها، انذهلت !!.. الأنين قد تحول صيحات ألم..

بنصف نظرة ترنو الى زوجها، يغط في نومه بجانبها غير آبه بما أصابها،لم تحركه صيحة من صيحاتها، سوى أنه حين ركزته بقدمها تأفف واستدار الى الجهة الأخرى..

ـ "النوم قريبا منك صار عذابا "

قالها بغمغمة وهو يمد الغطاء على رأسه كأنه يريد أن يفصل صيحات آلامها عن مسامعه..

منذ مدة ومليكة تعي أن الأمان قد تلاشى بينها وبين زوجها، اهتز كل استقرار كان بينهما، فلا انسجام ولا تفاهم..

ـ لماذا؟.. أما أن أكون غبية خرساء،خانعة أستسلم لأوامره، ذليلة يستغلني و على كل ما أملك يبسط هيمنة، فيرضي أنانيته، منتشيا برجولة يدعيها وهو عنها بعيد، أو يكرهني إذا ما تمسكت باستقلاليتي، ووقفت بالمرصاد أمام غلو رغباته..

من عامها الأول معه و مليكة تحس أن شيئا ما يقع خلف ظهرها لكنها تتعامى حتى لاتزيد علاقتهما تعقيدا وتفسخا..

سكاكين الألم لازالت تقطع دواخلها، لا اثر لزوجها بإحساس، في نومه يغط وكانه عن غرفة النوم في غياب، تتحامل على نفسها، تبادر راكضة الى الحمام، وقد غلبها قيء مر يمجه فمها..

تنادي على زوجها.. نداءات متقطعة يكسرها الألم باختناق..

ـ إسماعيل أغتني.. أموت..

يغالبها القيء لكن هذه المرة كان دما،و كان كبدها قد انسحق في جوفها ثم فاض على فمها..

تسقط على بلاط المطبخ.. تتوقف أنفاسها ثم تهمد بلاحركة..

الساعة الثامنة صباحا، تصل الخادمة كما تعودت كل يوم، تفتح الباب بمفتاح لديها ثم تدخل المطبخ، وهي تخلع جلبابها داهمتها رائحة لم تتعودها في البيت، تدلف الى الحمام فتفاجئها مليكة متمددة على الأرض شعرها يتمرغ في قيئها الأسود وقد فقدت الروح..

تستغيت الخادمة بصياح..لا أحد يجيب.. تهرول الى غرفة النوم.. أسماعيل نائم ملفوف في غطائه، تناديه، لايرد..وهي تحاول العودة الى المطبخ لتأخذ هاتفها من حقيبتها، تنتبه أن الزوج يحاول إزاحة الغطاء عن عين واحدة ويتعمد الشخير..

تهاتف أم مليكة.. كانت المفاجأة على الام قوية زلزلت أعماقها.. كيف وقع ؟وماذا أصاب بنتها ؟

الى حدود الثامنة ليلا ومليكة عندها، تناولا عشاءهما معا، وكانت مليكة سليمة صحيحة منشرحة تنشر البهجة من حولها كعادتها..

تستعيد الام أحاديثهما، كانت ذكريات عن الوالد المرحوم، عن صرامته في مهنته، عن حبه لزوجته وابنته التي لم يرزق غيرها، عن حرصه على دراسة مليكة الى أن بلغت شأوا كبيرا أهلها لوظيفة سامية..

تعيد الام إطلالة على جثة ابنتها وهي تنتظر أخاها المحامي بعد أن هاتفته ليشاركها مصابها فهو أدرى بما يجب القيام به، تتذكر أن زوجها نفسه مات من جراء قيء مجه دما أسود.. هل يكون نفس الداء ما أصاب بنتها؟

يقبل الزوج متثائبا بصوت مسموع وهو يتمطى مستفسرا:

ماذا وقع ؟..

ـ يالطيف !!..كيف لم اسمع صوتها ولم انتبه لما وقع ؟ أهذا كله قيء منها؟..

يتعلل بأنه تناول منوما في الليل فلم يشعر بما يدور حوله، ولتبرير ما حدث لزوجته قال:

ـ تعودت مليكة أن تتناول طبيخ البابونج ليلا، الا يمكن أن يكون السبب في موتها؟ مرارا نبهتها الى التخلي عنه ربما يكون به خليط من أعشاب سامة..

تقدم من خزانة وكأنه يعرف كل محتويات المطبخ وترتيب أوانيه وأخرج إبريقا لازالت فيه بقية من طبيخ البابونج..

سلوك تستغرب له الخادمة كيف أهتدى إسماعيل الى الابريق دون تفكير رغم أن مكان الأباريق في زاوية أخرى، ولا يمكن لمليكة أن تضع إبريق دواء شربت منه ولازال فيه بقية في مكان غير المغسلة..

ـ مليكة شخصية كل شيء لها منضبط ومنطقي ومنها تعلمت تحديد مكان كل شيء في المطبخ..

"تسرع القاتل حين يتوهم استرجاع قوة وسيطرة كان يفقدها على القتيل بعد ارتكاب جرمه"

أول ملاحظة يكونها الخال عن إسماعيل..

تذكر الام أنها ومليكة قد شربتا معا طبيخا مماثلا أمس في بيتها بعد العشاء فكيف تعد مليكة غيره بعد عودتها الى بيتها؟..

لايغيب عن الام علاقة ابنتها المتوثرة مع زوجها،علاقة بدأت تنسج خيوطها مذ أسر الأب لمليكة :

ـ مليكة بنتي،أرجو أن تنتبهي لزوجك فالشكوك تحوم حول تجارته وعليه ألا ينسى أنه صهري، وأن سمعتي قد كونتها بامانتي وتعففي عما يسيء لوجودي وسمعة أسرتي..

بعد ذلك استلف إسماعيل مالا من زوجته لغرض تجاري، وتوجسا من سلوكاته تسلمت منه وصلا بضمان، مرت المدة المتفق عليها فشرع يماطلها في رد ما بذمته..

ازدادت العلاقة توثرا بعد أن بلغ إسماعيل أن زوجته مرشحة بقوة الى منصب وزاري في التعديلات القادمة..

اصر الخال كرجل قانون أن يستدعي الشرطة بعد الشك الذي داخله في زوج ابنة أخته، والموت فيه دم قد نزف من رأس مليكة بعد سقوطها من شدة الوجع، عارض الزوج تدخل الشرطة في أمر أسري ليس فيه سرقة ولا قتل. وهوما يجعل سمعة مليكة حسب رأيه تلوكها الأفواه بقراءات وسوء تأويل وظن.. يتفاقم النزاع بين الرجلين الى أن قال الزوج:

أرجو أن تنسحب لحال سبيلك فهذا أمر لا يهمك.، أنا "قاد بشغلي"..

رمى الخال على وجه إسماعيل ضحكة سخرية واستهزاء، أخرج هاتفه ثم استدعى رجال الشرطة..

لم يكن عسيرا ولا شاقا على رجال البحث بعد التشريح وقليل من الأسئلة أن الزوج هو القاتل. كان يعرف ان زوجته تشرب كأس ماء قبل نومها فوضع لها في الكأس سما هو نفسه الموجود في ابريق البابونج الذي لم يكن مطبوخا وانما مجرد زهرات موضوعة في ماء عاد.

تحليل دم الزوج لم تظهر أنه تناول أي منوم وانما هو ادعاء كاذب عززته الخادمة انها انتبهت لاسماعيل وهو يحاول أن يكشف عن عين واحدة وهي تستغيث به..

اعترافات الزوج أتت كالتالي:

كنت مدينا لزوجتي بخمسة ملايين درهم رفضت أن تتنازل عنها، رغم ما ورثته عن أبيها،وقد خيرتها لمجرد التهديد فقط بين ارجاع ما بدمتي وبين تخليها عن العمل عساها تتنازل عن المبلغ وتمزق الوصل الذي لديها مني، لكنها واجهتني بشراسة،وشراستها لم تكن عدوانا أو صياحا، شراستها كانت قدرة على احتضان الضحكة في عيونها و هي ترميني بكلمات ساخرة ذباحة تضعني امام تأدية الدين او الطلاق ومواجهة القضاء، وقد تفاقمت كراهيتي لها حين قالت:

حبذا لو كنت رجلا يستحق التضحية أما وأنت تعرف نفسك فالطلاق اضمن لك بستر عما تقوم به خلف ظهري..

كنت أخشاها، خشيتي على نفسي وأنا أتقلص أمام ارادتها وعزيمتها،، لم تكن تخفى عليها خافية من أموري، كان إحساسها باستقلاليتها وتحكمها في رغباتها هو ما يقزمني ويفنيني، كنت أسأل نفسي:

كيف تكونت لديها هذه الشخصية ؟.. تصل الى ماتريد بلا عنف أو صرامة،ضاحكة تنشر المسرة حولها.. تستطيع أن تسير دولة ببسمة وطلب.. كنت أمام قوتها أحس بحقارتي..

لما بلغني أنها مرشحة لمنصب وزاري في التعديلات القادمة أيقنت ان تركها لمنصبها كمسؤولة عن التصدير والاستيراد الخارجي قد يكون السبب في خسارتي، يكفي أن أقف في مطار أو محطة أو إدارة عمومية لتقضى كل أغراضي بلا تشديد أو تفتيش.. فباسمها ودون علمها أمرر أكثر من بضاعة بلا رقابة..أغري هذا وذاك بهدايا فيدخل اللعبة و لا يجرؤ على إبلاغها..

 زوجتي التي كانت ترفض أية توصية ولو صغيرة من أجلي وكثيرا ما انتابها شك في تجارتي، لن تتوانى إذا صارت وزيرة أن تتدخل ضدي خوفا من الرقابة التي تضغط بها المعارضة على الحكومة، وزوجتي كأبيها تموت ولا تسمح أن تفسد لها سمعة، فلماذا لا اقتلها كما قتلت أباها بنفس السم يوم شكاني اليه أحد رجال الجمارك بعد شكه في ما يختلط بصادراتي، صرت أخشاه، ولن يتوانى في التبليغ عني..

يتوقف قليلا وكأنه يخمد الحقد الذي يأكل صدره يبرز في عيونه كجمار حارقة.، ثم يتابع:

كل أصدقائي لهم نساء،هم من يتحكمون فيهن، تبعية مطلقة لأزواجهن، خجل وخوف من غضبهم، بعضهن ذوات تفكير سلبي يستطيع الرجل أن يراوغ ويتحكم ويأمر فيطاع، فما معنى أنا..تمنيت يوما أن اقودها وأستميلها لبعض أفكاري باللين حينا وبالشدة أخرى لكن كانت لها طريقة قاتلة في ردعي :

ـ أحمد الله ان لك زوجة بإرادة وعزيمة تستطيع أن تقودك الى عزك وغناك إذا اصدقتها النية، أنا سندك وعونك لا اطلب الا أن تكون معي صريحا.. اياك أن تتوهم أني لا اعرف كل خباياك، أنا فقط اتغاضى عساك تنتبه وترتدع.. ثق يا زوجي العزيز أني لن اسمح لك ولا لرجل غيرك ان يكون جَدْيا على ظهري يقفز بخداع..

منحني أبي من صدقه وعفته وضبطه لمهنته، ومن أمي ورث انوثتها وثقتها بنفسها واستقلاليتها التي استشعرها أبي بثقة فساعدها على ترسيخ تلك الاستقلالية بدعمه لها وتشجيعها على تحقيق أحلامها..

شيء لم استطع الايمان به فقد عشت محور البيت كأبي وكلمتي مسموعة على إخوتي البنات لايتحركن الا بإذني،فأنا الآمر الناهي..

انفجر باكيا بكاء جزع وفزع مما هو آت..

شرطية تضع يدها على كتفه إيذانا بانتهاء الاستنطاق..

 ***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

وأعلن عجزي،

وأمقت ضعفي،

وأغبط الأحلام كيف تشكّلني

فارسا بصَارم،

طوفان أقصى،

وصاروخا بقبضتيّ،

خوذ العدو يدكّ،

وبالجماجم يُعمل حصدا،

وحرثا، وقلعــا..

*

وما أزال أرتّل عجزي،

وأمضغ ضعفي،

ومن الشاشات أهرب،

طفل بساق مبتورة،

من غزّة..

يعاتبني:

أطفَؤُوا حلمي..

أوقِدوا حلمي..

*

وجهه الأعذب من نُهير دوحٍ،

رقّة بي تفتك،

بأمومة حياله أوفر عقما..

*

ومن تراني أنا،

سوى شاعر بالوصف،

يجود شجوًا،

تُنهنه الدمعة،

وبه الأوجاع تُضرم نسفا،

وسفكـا..

*

لا بيتي يشكو فقرَ الإدام،

ولا ساحاتي تعرف للماء غورا،

ونضبا،

ولا سقف فوق رأسي تصدّع،

ولا لاهثا أتدافع

لخلاء يُؤويني،

وآمل فيه اتّقاء،

وأعلم أن القذائف تُواتر فيّ انذهالا،

خرائبُ، وما تبقّى هياكل، أنقاض،

بختم الرحيل تُدمغ قهرا..

وبعد قليل لبيت،

لأهلٍ، لنسلٍ

سأغدو ذكرى..

وبعد قليل سأمخُر عباب ذكرى

لعطر قد جال،

وقد صال مدّا، ورصفا

وفوق الزيتون

أشتل كفّا تلوّح،

هنا.. هنا

في حلوقكم صامدون،

لنا الحق، لنا الغد،

لنا الأمس، لنا الحاضر،

لنا الدهر،

لنا الآماد،

لنا الحياة..

لنا ما لم به يخبركم سِفرُ الخداع،

وإن بنا استمرّ الحَصد،

أو حولنا تجلبب الصمت،

أو بنا استطال القتل،

أو بنزفنا تشدّق الخطباء فُجرا،

وكُهنا، وعُهرا..

*

وأهوي بعجزي،

وأغبط الأحلام كيف تحولني،

تميد بي، فلا أنا أنا،

ولا ذاك أنا،

ولا القدرة مني سلبت،

ولا الأبواب في وجهي أبكمت،

أنا المغوار، أنا الصنديد،

أنا الجبان..

لا قضبان، لا أسوار، لا سجانين،

لا عصيّ تلاحقني،

وفي فمي أكثر من حنجرة،

للغناء، للأهازيج، للهدهدات،

تعلن نصرا، وفوزا..

*

أيها العطر الدامي

الذي من غزة يؤججني،

يطير بي إليك،

وأنا المتسمّر في فضاء يتقلّب

في منفى أخضر،

أستميحك عذرا،

فأنا أمام عبقك،

لن أكون سوى شاعر،

من الأحلام،

يستميحك عذرا..

***

أمان السيد

31/10/2023

ألا يــا قــدس فــي الـخفّاق نـارُ

وفــــي عــيـنـيّ أهــــوالٌ تـــدارُ

*

فـهذا الـطفلُ فـي الـنيران ملقىً

وطـفـلٌ فــي لـظـى عـيـنيه ثــارُ

*

يـخـوض قـريـنُه الألـعـاب لـهـوا

ويـنـشـئـهُ عــلــى اللهبِ الـغِـمـارُ

*

وذلــك لـيـس يُـعـرَفُ مَــن أبـوهُ

تـَـمـزّق جـسـمُـه الـزاكـي الـنـوارُ

*

سـوى فـي معصمٍ كُتِبت حروفٌ

كــــأنّ الــــروحَ قـيّـدهـا ســـوار

*

وهـــذي الأمّ تـبـكي أمــسَ ابــنٍ

ويُــهــدي غــيــرَهُ عــــمٌّ وجــــارُ

*

ووجـه الـشيخ أضحى في ترابٍ

إلـــى الـجـنّاتِ بــالآلاف ســاروا

*

فــغــزّة بـــابُ أمــجـادٍ سـتـأتـي

فَـفـخـرٌ أنـــتِ والـزعـمـاءُ بــاروا

*

وغـــزّة فـــي جـبـيـن الـعـزّ عِــزٌّ

كـشـمـسٍ لــيـس يَـقـربها الـغـبارُ

*

ومــا عَـقِـمت نـساؤك عـن عـزيزٍ

ولــكــن أُعـقِـمَـت فـيـنـا الـكِـبـارُ

*

كـــبــارٌ عـــنــد لــهــوٍ أو لــزهــوٍ

ولـكـن فــي الـشدائدِ هُـمْ صِـغارُ

*

يـثـرثـرُ بـعـضهم والـحـال جُـبـنٌ

فـأين الـجيش؟ أيـن الاقـتدارُ؟!

*

وأيــن رواجــمٌ مـن أجـل حـربٍ

لأجـــل الـحـقّ أيــن الانـتـصارُ؟!

*

فــإن لـم يـنتض الـصاروخَ جـندٌ

لـهـذا الـيـومِ عـَرّى الـجيشَ عـارُ

*

ولــكـن فـــي بـــلاد الله مــاتـت

قـلـوب الـعـدلِ حــلّ بـهـا الـتبارُ

*

ومــا عَـقِـمت نـساؤك عـن كـميٍّ

لـيُـتـلي الــثـار بــعـد الــثـار ثــارُ

*

فإن يك في جيوش العُربِ جُبنٌ

فـأيـن الـترك والأفـغانُ صـاروا؟

*

وبـاكـسـتان أيـــن بــهـا لــحـربٍ

لـنـصـر الــديـن هِــمّـاتٌ تُــثـارُ؟!

*

وإيـــــرانٌ وحـــــزب الله إنّــــيْ

أظــــنّ بُـعـيـد غـــزّةَ مـــا يُـــدارُ

*

فــإمّـا أنْ يــكـون زمـــانُ نــصـرٍ

لــغـزّةَ أو سـتـصـلى الــكـلّ نـــارُ

*

وهــل ظــنّ الـمـلوك يـكونُ قـدرٌ

وقـد جَـبُنوا؟! فـلن يبقى اعتبارُ

*

إذا خَـذَلـوا بـنـي الإسـلام خـوفاً

على الكرسيّ -لن يجدي اعتذارُ-

*

غـــدا سـيـدور يــا حـكّـامُ حــالٌ

ولـــن يــأتـي لـنـجـدتكم جِـــوارُ

*

ومــا بـعض الـعطاء أراه يُـرضى

عـطـاء الـحـرب جـنـدٌ واسـتـعارُ

*

وبـــذلٌ بــعـد ذلــك مــن ســلاحٍ

يُـــدكُّ بــه الأعــادي -لا تـمـاروا-

*

فــــإن نــألـم لـيـألـم كـــلّ نـــذلٍ

ونــصـر الله فــي عـيـنيْ الـنّـهارُ

*

كـشـفتم عــورة الـغـرب الـدنيءِ

فــــكـــذّابٌ وأفّـــــــاكٌ شَــــنـــارُ

*

فــلا أرضــى يـقـال لـهـم عُـدولٌ

ومـــن يُـخـدع فـمـخبولٌ عــوارُ

***

صلاح بن راشد الـغـريـبي

في هذا اليوم من بدايات تشرين المتقلبه التي تضج بالكثير من الأمنيات أمد نصل قلمي نحو أفق السماء لأرسم مفردة تزهر ربيعاً في زحام خريف طويل....

أريد أن أخترع حرفاً جديداً غير تلك الأحرف التي تعثر الجميع بها وترزح تحت وطأة حرارة الصيف والورق...

أردت أن أجعل من سطري مرآة تعكس رقة شعور يتكون في رحم القلم ويكبر في نبضك...

إنني أبث لهيب أبجديتي بألوان ممزوجة في ملامح الطبيعة حتى لا يصلك تطاير الكلمات الملتهبة...

إنني أسير بسرعة الظل على طريق الورق الأبيض حتى لا أرهق حرفي الذي أنهكه التعب من الركض خلف سرب مهاجر...

هل أنا وحدي أرى الأشياء في غير مكانها والأسماء في غير معناها أم إن الجميع أضحى يرى تبدلات تفاصيل الحياة بهذا الشكل الجنوني المرعب؟! ...

هل لا يزال الوقت ينسل من الحقيقة التي تشخص أمامي أم إنني لا زلت أتشبث بالوهم الذي يزين الحلم بسيل من الأحاديث الوهمية..؟!

ببساطة الأشياء التي تملك حق مجالستك أردت أن أستعيد تلك الصباحات التي كانت مؤثثة بك وبحضورك....

أردت دائماً أن أفتعل الفرح في ذبذبات نبضك بعزف قلمي على أوتار صوتك....

هل تدرك معنى أن أكون واقفة هنا على تلة الورق الأصفر أمسك بضوء حرف يخرجك من سبات حرفك وحديثك...!

***

مريم الشكيلية - سلطنة عُمان...

الفقرات الأخيرة من الرسالة مطوّلة جداً ومتعبة، لا بل جافة وقاسية. رّبما ظنّوها تفي بالغرض كمقدمة لإنهاء الأمر الذي رأوا فيه، وحسب ما حوته الرسالة، مشكلة كبيرة بالنسبة لهم. ومن جانبي أعدّه مسألة مصير، ولا يمكنني التخلي عنه بسهولة مثلما يظنـّون. رسالتهم احتلت وجه الورقة بالكامل ولم تترك فراغاً منها. تتزاحم في سطورها مبّررات وجدوها مهمة ومقنعة بالنسبة لهم، وتلك الجمل الباردة من الجائز أن تضغط على المرء لتضعه عند حافة الهاوية وتدفعه لحالة من اليأس والقنوط، حيث يكون في أقصى حالات التشويش والإرباك، فيستسلم لرأيهم ويقرّ لهم بما يريدون. لا شكّ أن بينهم أطباء خبراء، بعضهم نفسانيين، من الذين يعرفون المسالك المؤدية لتهشيم عناد البعض من أمثالي، وكيف يوقعون بهم. ويعرفون أيضاً كيف يكسبون الجولات التي يكون الخاسر فيها دائماً خصومهم. ولكن هيهات فأنا أكثر منهم تماسكاً، ولن أخضع لرغباتهم. هذا الشعور هو ذاته الذي انتابني في المرات السابقة حين تسلمت رسالتهم الأولى، ومثله يراودني اليوم. ولكني لا أنكر حالات أجد فيها القنوط والغثيان وصداعا شديدا ينتابني، وتكرر ذلك معي منذ الساعات الأول التي اطلعت فيها على رسائل مصلحة الضرائب، واستمر معي منذ أكثر من الأسبوعين ولحد الآن.

كان رأسي معبأً بأفكار مشّوشة، وعندما ألقيت نظرة عبر زجاج النافذة، لم أجد في الجوار ما يبعد الكدر عني،وكالمعتاد وكما في كل صباح، هدوءٌ يلف بحيرة نورفيكن المجاورة للحديقة الخلفية لدار العجزة الذي أسكن فيه منذ بضعة شهور، البحيرة تقع مباشرة أسفل نافذة غرفتي. ثمة زوارق تصطف عند الشاطئ الأخر للبحيرة، وريح الخريف تهزّ بعنف أغصان الشجر في الغابة الكثيفة الصاعدة بخضرتها الداكنة نحو أعلى الجبل المقابل. كان رأسي ثقيلاً يعجّ بالأفكار، ولكن هناك، في روحي، يقين بأني سوف أحصل على ما أريد. عليَّ العناد والإلحاح وهذا ما فعلته وسوف أفعله. لن أدع فحوى الرسالة يقلل من عزيمتي أو يدفعني للاستسلام. وها هي الأيام تفلت سراعاً، وسوف أجدهم يلبّون طلبي صاغرين.

سرقني منظر طائر النورس وهو يصارع الريح الخريفية العاتية، لذا لم أسمع بادئ الأمر الطرق الخفيف المتكرر على باب الغرفة، وكان جهاز التنبيه جوار السرير يبعث رنيناً خافتاً لم أنتبه له أيضاً. وأنا،  وفي كل مرة، كنت أضغط على الزر ليفتح الباب أو أطلب من الطارق الدخول. ضغطت على الزرّ ففُتحَ الباب بصرير مكتوم ليدخل الممرّض رياض، وهو شابّ في مقتبل العمر، حنطي البشرة عراقي الأصل من أهالي البصرة مسيحي الديانة، ودود ضخم الجسد، دون إفراط بالسمنة، وجبهته عريضة، رأسه حليق بالموسى. حيوي وذكي، ويتمتع بروح النكتة وله اهتمامات ثقافية. كان يمشي دائماً مطرقاً وجهه نحو الأرض، والسبب في ذلك محاولته إخفاء جرح غائر تحت حنكه من الجهة اليسرى وهو جرح واضح  يمتد نحو الرقبة. ومثلما أخبرني فالجرح كان اثر إصابة تعرض لها أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وكان يرفض الحديث بالتفصيل عن أحداثها، ودائماً ما يسمي تلك الحرب، الجريمة التي لا تغتفر. وحين أردت منه أن يروي لي بعض وقائعها، سألني بدماثة أن لا أنكأ جراحه، فقد فقدَ فيها من الأحبة الكثير، وهو موجوع بقدر الألم الذي يحتضنه قلبي من فقداني حبيبي أولف. ورغم الحزن البادي في نظراته فرياض مستمع جيّد وإنسان مدهش في حكاياته، لا بل مسلّ جداً يجعلني أتمتع بأوقات من السعادة الغامرة، وبالذات حين يبدأ رواياته المشوقة عن بلاد ما بين النهرين. يجعل عقلي يطوف هناك في تلك الشعاب والوديان والسهوب التي يصفها لي بدقة عجيبة، وكأنه يشمّ ضوعها حين يتحدث ، لينقلني أحياناً عبر عصور غابرة، شارحاً لي تأريخ وطنه منذ ما قبل التأريخ. أحياناً يدغدغ رياض الجانب العاطفي في شخصيتي، حين يحدثني عن شعراء بلاده، ويترجم لي بعض المقاطع من قصائدهم التي يعشق قراءتها. إن لكل منا، رياض وأنا شخصيا، آراء مختلفة تماماً عن الكثير من مجريات التأريخ ووقائعه، والاختلاف هذا، حسب اعتقادي، يأتي نتيجة إفراط رياض في نزعته العاطفية إزاء ماضي بلاده. وأخاله  يعيش دائماً في نشوة حين يبدأ بتضخيم الأحداث والاستغراق في سرد سيرة أبطاله التاريخيين، وتأكيده على أن التأريخ بدأ من أرض العراق وليس من غيرها.

ـ إنه موعد تناول الدواء يا سّيدتي العزيزة.

ـ لقد نسيت هذا.. ما أكرم الرب حين أرسلك الساعة! أنا في لجّة من أفكار لا أستطيع طردها بعيداً، تعبت معها كثيراً.

ـ ما الذي يجعلك تضعين نفسك في مثل هذه الدوامة المتعبة..

ـ ليس أنا من يريد هذا.. الأمر يتعلق بزوجي أولف بيورن والرسالة التي وصلتني من مصلحة الضرائب، أعتقد أنك اطلعت على مثيلاتها سابقاً،  هي التي وضعتني في هذه الحالة النفسية المتعبة .. كذلك طلبي الذي قدمته إلى تلك الدائرة .. تذكره أنت جيداً.. أليس كذلك ؟...ها قد مضى وقت طويل دون أن يردني من مصلحة الضرائب جواب شافٍ على طلبي.

ـ نعم أذكر كل تلك التفاصيل يا سيدتي الجميلة، وأنا على يقين بأنهم سوف يردّون على طلبك. أعتقد أن إجابتهم سوف تأتي بعد أيام قليلة، فرسالتهم كانت إخطاراً يسبق الرد النهائي.

ـ لا أدري ما أفعله بالضبط ...لو أنهم أجابوا طلبي ؟ إني أفكر بنقل جسد حبيبي أولف إلى مكان آخر، ربما يكون لي بعد ذلك شأن، لحين إقرار قانون الدفن البيئي من قبل البرلمان.

ـ ولكنّ القانون واحد يا سيدتي، سواء في يونشوبينغ أو في أي مدينة سويدية أخرى ..وهي أيضاً ذاتها مصلحة الضرائب السويدية التي بعثت لك رسالة الإخطار عن قرب موعد انتهاء حالة الاحتفاظ بجسد زوجك في الثلاّجة.

ـ إذن ما الذي أفعله؟ فها هو الوقت يمضي دون أن تحسم مصلحة الضرائب رأيها وتوافق على طلبي بإبقاء جسد حبيبي أولف لفترة أخرى. ما أتعس تلك القوانين وما أخبثها! ... تثلم أحلام الناس وأمانيهم بقسوة وبرودة وحشيّتين.

شعرت برغبة في البكاء، ووجدت نفسي مدفوعة للعودة جوار النافذة والنظر إلى لون الشمس الخريفي الغارب، الساقط فوق مياه البحيرة الرجراج. لا أعتقد أن رياض يفهم ما أعانيه، ولم أجد منه اللحظة ما يساعدني على استعادة الهدوء لروحي.

 الأماني، الرغبات، مشاعر خاصة وغريزية.. أحاسيس لا يمكن ترجمتها أو شرحها للآخرين، وليس بمقدورهم إدراكها بسهولة. أعتقد أن من الصعب على العقل الآخر الوصول إلى خصوصيتها عند المقابل. تلك مشكلة رياض ومثله الآخرون، ومنهم مصلحة الضرائب، وحتى أعضاء البرلمان الذين يغلقون الباب بوجه إقرار لائحة المشروع الجديد الخاص بالدفن البيئي، ويبقى الوضع مسمراً على حاله لتكون جميع أجساد الناس نهشاً للديدان.

ـ لقد أخبرني أولف بأمنيته قبل الحادث بفترة طويلة. وأعددنا كل شيء ..ودفعنا مبلغ التأمين كاملاً.

ـ أعرف هذا سيدتي، فقد تحدثنا عنه سابقاً..تناولي حبّات الدواء وسوف تشعرين بالراحة. سوف أعاودك في الصباح . نوبتي اليوم مليئة بأعمال كثيرة . مساء سعيد سيّدتي الجميلة.أترغبين بمشاهدة التلفزيون ؟

ـ لا .. لا.. اعتقدت أنك ستبقى جواري لبعض الوقت..هناك تفاصيل لم أحدثك عنها سابقاً...

ـ آسف سيدتي.. اعذريني،  وددت هذا ولكن ما باليد حيلة، فاليوم يوم عمل شاقّ وكثير.. ليس فقط مع السيدات والسادة الرائعين من أمثالك، وإنما هناك عمل في مخازن الدار والمطبخ.مع السلامة سيّدتي وتصبحين على خير.

ـ مع السلامة.. تمنيّت أن تصغي لي كما في كل مرة ..لا أعتقد أن هناك شيئاً يستحقّ التفكير والجهد مثل حالة جسد حبيبي أولف.

همست بذلك حين كان رياض يدفع دفـّة الباب بهدوء، ويمنحني ابتسامته الهادئة الودودة. تناولت حبّات الدواء. وعلى الرغم من أن الساعة لم تبلغ بعد السادسة مساء، فقد فـّضلت إلقاء جسدي فوق السرير في محاولة للحصول على إغفاءة، وبالأحرى تمنيت ألاّ أظل يقظة ومشغولة التفكير في أمر هذه الرسالة لوقت طويل، ولكن وجدتني لم أنل من محاولاتي شيئاً يذكر.واليوم أجلس وحيدة ولم يعد أولف الحبيب جواري، يا لتعاستي .

كان ذلك في زمان صعب كاد يطيح بكل شيء. ففي ذاك اليوم الشتائي البارد جاءني أولف وابتسامة كبيرة تعلو محّياه. كان يحمل بيده جريدة داكنز نهيتر التي كنا على خلاف دائم حول اقتنائها وقراءتها، فأولف يعشق مواضيعها، وبالذات مقالات وتحليلات السيدة ليندا أليكسون، تلك المرأة المتصابية بصورتها الموحية باللؤم، وكنت بدوري لا أسيطر على مشاعري حين يحاول أولف الإشادة بما تكتبه.

 حين دفع الجريدة نحوي أردت أن أسحبها من يده وأرميها بعيداً، فقد اعتقدت أن أولف بعد كل تلك المشاحنات حول الموقف من السيدة ليندا، يتجاسر ليعرض عليَّ قراءة مقال صاحبته ليندا أليكسون، نعم صاحبته؛ فقد سمعته يحادثها بالهاتف. صحيح أن الحديث كان يدور حول مقالاتها وشؤون السياسة التي يود أولف دائماً الحديث حولها، ولكن ذلك قد يكون بداية لتطور العلاقة وتصبح في النهاية شكلاً أخر،هكذا فكرت وقتذاك. وكنت حينها أظن بالكامل بأن الرجال دائماً هم أصحاب مزاج متقلب، وسرعان ما يصيبهم العطب أمام الغنج والعواطف النسائية. في ذلك الوقت لم أكن أعرف، لا بل لم أرغب، أن أكتشف كون أولف يخونني أم لا، ولكني فوجئت ذات يوم وأنا أبحث عن ورق للرسائل، حين عثرت في أحد دواليب مكتبه على حزمة صغيرة من قصاصات جريدة داكنز نهيتر، تلك القصاصات كانت جميعها لمواضيع السيدة ليندا. انتابني تأثير مؤلم اعتصر قلبي، وشعرت بالوحشة تملآ جوانحي. كان مجرد الإحساس بأن أولف يخفي عنّي تلك القصاصات يوحي لي تماماً بوجود علاقة من نوع خاص بينه وبين تلك  الليندا، وكنت خائفة أشد الخوف من معرفة مدى ما وصلت إليه تلك العلاقة، وكان ذلك بذات القدر من الشعور بالعذاب والألم، اللذين استحوذا على كياني بالكامل. كنت خائفة وممزقة المشاعر والتفكير. أنكر أولف كل ما تحدثت عنه، وبابتسامة رضية كان يرد على كلماتي المتوترة المتسارعة، وبرر عملية جمع بحوث ومقالات السيدة أليكسون لأهميتها السياسية والاجتماعية وطرحها الجريء، وأنه أراد الاحتفاظ بها للمراجعة ليس إلا.

كانت أياماً صعبة وعصيبة ثقيلة على حياة كلّ منّا، فكلما نظرت نحو أولف شعرت بالخذلان والخيبة، فلم يكن يخطر على بالي أن يمارس حبيبي أولف الخيانة، أية خيانة كانت، وهو الذي اعتاد أن يكون معي، كما هو معروف عن الأطباء، أكثر صراحة ومباشرة، وهذا ما عوّدني عليه طيلة حياتي معه. بعد مضي أقل من شهر على حادث اكتشافي القصاصات الورقية فاجأني أولف بالقول إن علينا تلبية دعوة عشاء في نهاية الأسبوع. حينذاك كان مزاجي عكراً والنار تتقد في أحشائي، ولا أستطيع أن أركز نظري نحو وجهه، مثلما كنت أفعل دائماً. أعتقد أنه كان يشعر بذلك، فقد اعتاد طيلة حياتنا الزوجية أن يراني أدع عينيّ تغوران وسط عينيه الزرقاوين، وأتملى وجهه الطفولي الحبيب وشفتيه وهما تتحركان وتنفرجان بين الحين والآخر عن ابتسامة ودودة صافية. بعد ثلاثة أيام سألني أولف بصورة مفاجئة إن كنت بعد لم أصدق ما قاله لي حول موضوع السيدة ليندا أليكسون، أجبته بنعم قوية ودون تردد، فقال أعرف هذا، فأنا لم أعد أرى عينيك بذلك الصفاء الذي يجعلني أفرح وأتلذّذ بحديثي، أتعذب وأنا أراك تشيحين وجهك عني، ثقي أنك تسيئين الظن، ولكن دعيني أقول إنّ علينا تلبية دعوة العشاء مساء السبت، فربما نكتشف هناك بعضنا البعض مرة أخرى ، امنحي حياتنا فرصة التجديد.. أرجوك. ما زالت تلك الكلمات تتردد في خاطري وكأني أسمعها الآن، وبقيت حية مشعة في ذهني. لقد منحتني حفلة العشاء تلك فرصة ذهبية لأستعيد بها جمال حياتي الطبيعي مع حبيبي أولف.

كانت دعوة العشاء في بيت السيدة ليندا أليكسون ذاتها التي ملأت بمقالاتها التي تعلوها صورها المتعددة الوجوه والابتسامات، مكتب زوجي. استقبلنا عند الباب رجل بوجه باسم متورّد وجسد نحيل وشعر أشيب كثيف. كان أنيقاً معطراً يرتدي سترة كحلية وبنطالاً أبيض مائلاً للصفرة. رحّب بنا بحرارة وسحب يدي وقبّلها. وقبل أن يأخذ من أولف باقة الزهور سحبه من يده بعجالة وضمّه نحو صدره وقبله على وجنتيه، استغربت فعلته تلك، فالرجل السويدي قطعاً لا يفعل مثل هذا مع ضيوفه، والرجل لا يبدو أنه شرقي أو من أمريكا الجنوبية، فكل شيء فيه يوحي بسويديته. بعد لحظات أسرّ  لي زوجي أولف بعد أن لاحظ حيرتي، بأن السيد إدغار سرفاتكس، وهو السيد الذي استقبلنا قبل لحظات، من أصل يوناني. ولجنا الرواق الواسع المفضي إلى الصالة. وضعت على جانبي الباب من الداخل آنيتان زجاجيتان كبيرتان بألوان ونقوش شرقية، وعند الجدار الأيمن وُضعت لوحة لملاك بجناحين يمدّ يده عبر الغيوم. وردت في خاطري رسوم دافنشي، ولولا ألوان اللوحة الباردة وحركة جسد الملاك الهادئة الرخوة لرسخ في بالي ذلك الاعتقاد.عرفت بعد ذلك  أنها واحدة من لوحات السيد إدغار نفسه. توقفت للحظات أنظر إلى طاولة صغيرة وضعت عند نهاية الممر، فوقها جهاز هاتف ودفتر بغلاف جلدي يبدو أنه سجلّ لأرقام الهواتف كما بدا لي. كانت زخرفة المنضدة ذات شكل خلاّب يوحي بأنها صناعة صينية، فالعاج المحاط بخيط ذهبي يشكل جسداً لتنّين يلتف حول محيط الطاولة. كم من مّرة تمنّيت أن أحصل على مثل تلك التحف الجميلة التي شاهدت مثلها سابقا في الحي الصيني في لندن، ولكن لم أقتنِها وقتذاك بعد أن وعدني أولف أن يصحبني معه في سفرته القادمة إلى اليابان، لأشتري من هناك ما يعجبني، ولكّن تلك الأمنية بقيت عالقة في خاطري دون أن تتحقق.

حين انعطفنا نحو غرفة الضيوف الفارهة، كانت هناك مجموعتان من النساء والرجال. وقف الرجال لتحيّتنا والترحاب بنا، ومن ثم جلسوا ليتابعوا أحاديثهم التي كانوا يتداولونها قبل قدومنا. جلست قرب امرأة بدت وكأنها جاوزت الخمسين، ولكنها كانت تحافظ على بشرة نضرة وألق ظاهر في عينيها الخضراوين، تبادلنا الابتسامات لا غير. وكانت هناك مجموعة من أربعة أشخاص تتحلق حول طاولة صغيرة وُضعت فوقها كؤوس النبيذ، وفي الجانب الأيسر جلست ثلاث نسوة يتهامسن ويطلقن ضحكات خافتة خجولة. جلس أولف بجانبي وأحاط كتفي بساعده وراح يجول بنظره وجوه الباقين مبتسماً  لهم ويحيّيهم بحركة انحناء خفيفة من رأسه شعرت معها أنها المرة الأولى التي يلتقيهم  بها. ثم ركـّز نظره نحو الباب الذي ولج منه السيد إدغار نحو الداخل.

لوحة كبيرة الحجم عُلـّقت على الجدار خلف مجموعة النسوة، وكانت ألوانها دهنية فاقعة يطغى فيها اللون الأخضر الميال للزرقة، ويظهر بشكل واضح أنها مستوحاة من طبيعة الحياة في أحراش أفريقيا. دققت النظر جيداً وقرأت الاسم الموجود أسفل اللوحة، كان اسم السيد إدغار سرفاتكس أيضاً. مع دقة وتناسق الخطوط مع مساقط الضوء وتوافق الأبعاد وتمازج الألوان، تيقنت أن السيد سرفاتكس كان رساماً محترفاً. فأنا كنت هاوية رسم، وفي بداية حياتي مارست تلك الهواية خلال الدراسة المتوسطة والثانوية، وتلقيت الكثير من الثناء والإطراء على أعمالي، ولكن لم أكن راغبة في إكمال الشوط، لذا عفت الألوان والرسم بالرغم من إلحاح أولف عليَّ للعودة وممارسته.

فجأة ظهرت السيدة ليندا أليكسون من فتحة الباب حيث كان ينظر أولف. كانت تسحب بيدها اليسرى كفّ السيد إدغار الذي دفع يده اليمنى ليحيط خصرها. وقفت عند الباب وسط الصالة فأصبح السيد إدغار لصقها محتضناً إياها. حينذاك قالت السيدة ليندا: أيها الأصدقاء حفلتنا الصغيرة هذه مناسبة لها طعم خاص، لا بل معنىً آخر غير الذي تعودنا عليه.. حفلتنا اليوم نستقبل فيها للمرة الأولى صديقنا العزيز الدكتور أولف بيورن وزوجته الطيبة، وكان بودنا أن يكونا ضمن مجموعتنا منذ وقت بعيد، ولكن ظروف عمل الدكتور أولف وعملنا أيضاً لم يتوافقا أبداً، مثلما كنا نتوافق معه في الكثير من الآراء التي كنا نتحاور حولها. على أية حال، إنها فرصة سعيدة أن نراهما بيننا اليوم، ولأقدم شكري الخاص للدكتور بيورن على ملاحظاته السديدة القيمة التي أفادتنا دائماً في ما نطرحه من أفكار في الصحف والمؤتمرات. استدارت الوجوه نحونا وحّيتنا ببشاشة وتودّد. ثم أكملت السيدة أليكسون قائلة، المناسبة لدعوتنا اليوم هي أخباركم أيضا بقرارنا المصيري، ولكن قبل هذا أجد من المناسب القول، إنكم اليوم ستتذوقون وجبة عشاء يونانية خالصة من ألفها إلى يائها، وأنا لا دخل لي فيها سوى تحضير الصحون ووضعها فوق المائدة. وعذراً منكم إن لم نستطع جلب ماء الشرب من اليونان، زوجي الحبيب آدو هو من هيأ وأعد كل شيء. وأردنا من كل ذلك أن نجعلكم تتذكروننا كلما اشتقتم للطعام اليوناني، فقد قررنا أنا ليندا أليكسون وزوجي إدغار سرفاتكس أن نقضي بقية العمر في جزيرة إيدرا اليونانية، حيث مسقط رأس آدو الحبيب، هناك حيث تعيش بقية من أسرته، وربما لا يعرف البعض منكم بأن من هذه الجزيرة البديعة التي يجب أن تزورونا فيها، انطلقت حرب التحرير ضد الدولة العثمانية، وهناك سوف نطلق لحبّنا العنان ونحمله نجوب معه البراري والوديان. ثم التفتت ليندا نحو زوجها وضمّته إلى صدرها، وراحت معه بقبلة طويلة استقبلناها نحن الضيوف بالتصفيق والبعض بالصفير.

في طريق عودتنا إلى البيت، لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة رغم مداعبات وقفشات أولف، ولم ألتفت نحوه غير مرة واحدة، شعرت وقتذاك بالخجل يغطيني بالكامل، وكان وضعي النفسي سيئاً رغم مشاعر الفرح والطمأنينة التي تجتاح كياني، خليط من وجل، من سعادة، من توتر، وجدت نفسي في موقف حرج، ولكني كنت في الوقت ذاته راضية أقصى الرضا عن هذا الذي حدث، وتيقنت أنّه لولا أناة وحكمة أولف، لكان الأمر قد تطور وصار أكثر إيلاماً وتعاسة لكلينا. ما رأيته وسمعته في حفل العشاء جعلني أشعر بفيض من سعادة كان يغمرني بالكامل، شيء يستحقّ تسميته بالإحساس المفرط بالراحة والبهجة.

عند باب بيتنا، همست باسمه فالتفت نحوي، لم استطع السيطرة على مشاعري فرحت أجهش بالبكاء وبدوره ضمني إلى صدره، فشعرت وكأنها المرة الأولى التي أحسّ فيها مقدار الدفء والطيبة والطمأنينة التي يغمرني بها أولف. قد يكون أولف قد فعل ما يعيب، ولكني على يقين بأن ذلك لا يثلم من حبه لي شيئا، حتى وإن حدث مثل هذا فإني لم أعد أهتم بغير قدرتي على التعلق به، وبسيرة تلك السنوات المريحة الجميلة التي عشتها وحققت فيها أمنيات كثيرة، وإني لأشعر اليوم بقدرتي وجاهزيتي للحاق به وبأقرب وقت.

يتبع

***

فرات المحسن

لا أدري كلما أسير في الطريق الدائريّ للحبّ

تدهسني عربتُك الموشَّاة بالجمال

وحينما أصلُ الى دوّار العشق

تومئ لي لافتةٌ ، تنبِّهني قائلةً:

"أفضليةُ المرورِ لمنْ توجّعَ حبّا"

أتابع سيري مقرِّراً الاستدارة

فيمنعني وجهك رافعاً شارتَهُ الحمراء

فالعاشقُ السويُّ مستمرٌ في السير

حتى آخر مزالقِ العشق

أتنحّى جانباً

فيصدمني زقاقٌ ضيّقٌ خانقٌ

كُتِب في مدخلهِ:

"يمنع المرور إلاّ لعاشقٍ أنهكهُ النحول"

أقف انتظارا لفكاك السير بساعات الذروة

يوقعني حادث سريري في أحضانك

أركن لصق رصيفك

فتأخذني مشاويرك الى مرآب عينيك

أشم نسائمك منطلقا بلا كوابح توقفني

أنطلق الى كورنيش صدرك

أتوسّدهُ ليتأرجحَ رأسي بين أنفاسكِ

تلك هي هدأتي واستراحة المسافر

***

جواد غلوم

لم يبق في ذهني من تلك اللحظة سوى الضحكات، غاب عني كلّ شيء، وجوه أساتذتي، والطالبات، وسارية العلم الممتدة أمامي بثبات، وخفقة العلم بألوانه الأربعة، للحظة، لم أعرف أين أنا، ثمة شيء ما حصل،يشبهُ غرقي  في عمر العاشرة، لازال إحساس الماء حياً وهو يبتلعني، ويجرّني للأسفل، بينما قدماي تلبطان، هبطت بعض العتمة، ونفد كلّ الهواء من حولي، لولا أن كفين أحاطتا بي.

في حضن والدي عرفتُ أن عمراً جديداً بانتظاري. إنه ذات الإحساس، بنفاد الهواء، والسقوط نحو القاع، عدا أنّ لا كفين ترفعاني الآن، هناك في مكاني، حيث أواجه العار وحدي. والعيون تحدق بي، كانوا  يضحكون، ويهمهمون بأشياء لم أستبنها، فيما كنتُ متسمرةً أمام الجموع، كأني أضعتُ الطريق إلى حيثُ يجب أن أعود.

 كانت اليد التي جذبتني مختلفة كثيرا عن اليد التي حرّرتني من الماء، بدت قاسية قليلا على ذراعي وهي تزحزحني عن البقعة التي أقف فيها

لأعود إلى مكاني بخطىً متعثرة.

لا أذكر جيداً كيف مرت الساعات، كانت شديدة الوطأة، بدا لي الكون عيناً كبيرة واحدة تحدق بي، وتتهمني بالغباء والبلادة. كلّما رفعتُ رأسي، أربكني مشهد العين المخيفة.

في طريق الإياب إلى المنزل، لم أمر بالدكان كما اعتدت يومياً، لشراء الكاكاو إلى شقيقي ذي الثلاث سنوات، خطر لي أن صاحب الدكان سيقول شيئاً ما، خفضتُ رأسي وانسللتُ إلى المنزل، وعلى الفور دخلت غرفتي.

ثمة صمت مريب، لم أعتده يوماً، صمت ثقيل وكئيب، حتى صوت أمي وهي تناديني للجلوس على مائدة الطعام بدا جريحاً. أما أبي القريب مني فقد لاحت منه نظرة مرتبكة، سرعان ما حاول مداراتها، فيما راح أخي الصغير يقطع الصمت بهمهمات غير مفهومة! يقيناً أنهم علموا بما حصل! الأخبار هنا تنتقل مع الهواء،

كيف أشرح لهم أنها لحظة من لحظات القدر،  حيث كنتُ أحلّقُ مع كلمات النشيد الوطني، وعينيّ ترنوان بزهوٍ إلى العلم وهو يرفرفُ مع الريح: (موطني ..موطني..البلاء والشقاءُ في رُباك)! ثم انقلب كلُّ شيء مرة واحدة، صارت السكينةُ ضجة، والخشوعُ ضحكاً، والعنفوانُ سخرية مرّة.

في غرفة المديرة، ذات الصوت الغليظ، والعينين المحاطتين بخط متعرج من الكُحل، والنظارة ذات الإطار الأسود السميك، كان عليّ أن أبرر إهانتي للعلم الوطني أمام الجميع،

 حاولتُ عدم التفكير في عيني المديرة المضحكتين مع ذلك الكُحل الرديء، والتركيز فقط في الإجابة على سؤالها المدوّي: (كيف تجرؤين على إهانة الوطن والعلم أيتها العاقة)؟

من مكانٍ قريب  جاء صوت أستاذتي الخائب: (إخترتكِ لأنك أفضل طالباتي! كيف تفعلين ذلك)؟!

-(قولي! هل تعمدتِ ذلك)؟ صرخ مدرّس الرياضة، وهو يشدُّ العلم على كتفيه، مثل معطفٍ أو دثار.

إختلطت الأصوات، بينما ضاع صوتي، غار في زاويةٍ قصيّةٍ من روحي،

وجه المديرة بات قريبا، وصوتها حادّاً،

والكُحل سخيفاً بدرجةٍ دفعتني للضحك، أمسك بي معلم الرياضة، من ذراعي، هتف قائلاً: (نعم عرفتُ أنها عامدة ...انظروا إنها تضحك)!

وقعتُ على ورقة استدعاء والدي،

وأنا خارجة كان صوت المديرة يلحقُ بي: (مكانُك في السجن مع الخونة)!

نظرتُ إلى وجهِ أبي، بدا حزيناً، ويخفي كلاماً كثيراً، أشفقتُ عليه، كيف سيواجه غداً حقيقة أني خنتُ النشيد الوطني، في مكتب المديرة، وأمام الأقارب، والجيران، يا للهول! سيكون ظهره منحنٍ، ورأسه للأسفل،

حملت أمي الصحون بصمت، لم يأكلوا كما في كلّ يوم، حتى إنها لم تطلب مني أن أساعدها، هرعتُ إليها، لكن صوت أبي باغتني، بنبرةٍ هادئة ودودة:

(ندى  هاتي لي سجائري)!

رباه توقعتُ شيئاً آخر، لكن عينيه لازالتا ساهمتين، إنه على وشك أن يسألني، ويؤنبني، كيف استبدلتُ السناء والبهاء بالبلاء والشقاءُ!

هاهو ينفثُ الدخان، ويذهب بأفكاره بعيداً، لاشك أنه قرّر تسليمي إلى الأمن الوطني، ليعتذر من الوطن والشعب، تأملتُ سكونه العميق، ودخان سجارته الرقيق مثل غيمة، ثم قررتُ أن أستسلم تماماً، سأمضي معه بلا مقاومة، وأعترف بأني أنا ندى ذات الستة عشر عاماً، في الصف الخامس الإعدادي، قد أهنتُ الوطن والعلم والنشيد الوطني، ولن أعترض على حكم الشعب مهما كان.

عندما شرعتُ أغسلُ وجهي صباحاً، وأرفع خصلات شعري التي بعثرها النوم، رأيتُ أبي يُكمل هندامه، عرفت أنه بانتظاري، هو لا يريد الحديث، لكن عينيه قالتا كلّ شيء، وخطوات قدمية الثقيلات، غيرتُ ملابسي بسرعة، ومضيتُ دون أن اتوقف عند أمي الواقفة بقلق قرب باب المطبخ، خطر لي أن اعانقها، لكني لم أرد جعل الأمر صعباً، قبلتُ أخي قبلة خاطفة، ثم رافقتُ أبي إلى الخارج، ظننتُ أنه وقت مناسبٌ للحديث، لكن ثمة أصوات تأتي من المدارس القريبة، تقطع الصمت بضراوة، صادحةً: (موطني.. موطني.. السناءُ والبهاءُ...)، إرتجفت شفتا أبي، يقيناً أنه تذكر، ربما أصبح الآن أكثر تصميماً، كُنا على وشك صعود السيارة عندما داهمتنا همهمات ذلك الرجل المسن الغريب ذي الملابس الرثة، والسُحنة الشاحبة،  بدت المرارة جلية في نبرة صوته الخافتة (موطني.. موطني.. في رُباك)، جفل أبي وهو يمسك بي مخافةَ أن تلامس كتف الرجل جسدي، شاهدناه وهو يترنح، ويبصق ويهمهم، حتى ابتعد.

كنا نسيرُ بخطىً هادئة، وقد خفتت من خلفنا الأناشيد، تاركين خلفنا مبنى مدرستي، ومبنى الأمن الوطني، صامتين تماماً، قبل أن تنتابنا نوبة ضحكٍ هستيرية.

***

قصة قصيرة

تماضر كريم – أديبة وكاتبة عراقية

نحن صوت من لا صوت لهم

نحن البكاء

والصراخ

والعويل

نحن النشيج

وتحجر الدموع في المقل

نحن صوت المنفى

حين يندس

في حضن الوطن

حراس بوابة العبور

نحو

الضفة الأخرى

نقابل الابتسامة الأخيرة

بالأنين

نحن

رهائن الوجع

ومطارق القبور

في زمن العمى والصمم

نحن

أحاديث الصباح والمساء

في المقاهي الخالية

عن الدواء

والطحين

عن الوقود

عن كسوة الشتاء

والعودة إلى المدرسة

عن السهر أسفل عمود النور كل ليلة

لعلها تفتح النافذة

نحن

شعوب القهر

نشكل الأرصفة

لتتنزه الحكومات العاهرة

ولا تعيرنا انتباهها

للحظة

تدوسنا وتمضي

نحن

شعوب المؤامرات

والمكايدات

الإتفاقيات

والخيانة

خيانة السماء والسلام والمحبة

خيانة الحجر

خيانة النيل

خيانة الجبل

فهل من مجيب

توقفوا

وأنصتوا

تأدبوا

في حضرة موتنا الكبير

هناك

سرب أبيض يحلق عالياً

تأدبوا

في حضرة نزوحنا المرير

في حضرة الأسلاك الشائكة

في حضرة الحواجز المشانق

في حضرة السجون

تأدبوا

في حضرة أعلامنا

المضرجة بالدماء

في حضرة الأشلاء

والكلاب جوعى

تأدبوا

في حضرة الإله

تطهروا لمرة

من بغضكم

من نهمكم

من كذبكم

من بطشكم

وصلّوا

هل تعرفون أو تذكرون الصّلاة ؟

بالروح

بالجسد

بالحب

والعطاء

والرضى

تأدبوا في حضرة صلاتنا المشفوعة بالدعاء

الله على كل ظالم

الرّب عادل

في المعابد والكنائس والمساجد

في البيوت الباكية

في الشوارع المظلمة

تحت أنقاض المدن

ونحن

في انتظار حكمه

وإن تأخر الميعاد فإننا مجابون.

***

أريج محمدأحمد - السودان

25\10\2023

في غــزة

حيث الدم:

وضوءُ الكلماتْ

*

وطَهُور  المارِّينَ إلى الله ِ

بأرواحٍ صَدَقَتْ

عهـــداً..وثبـــــاتْ

*

وصلاةً  أخرى حاضرةٍ

ترفعها الفصحى بتحريرٍ...

تَحْمِلها إلى النور

فضــــــــــــــاءاتْ

*

والحــــجرُ:

بياض الوجهِ..

رَأْب الصَّدْعِ

شَـــرَفٌ آخر:

بأيدِ ممانَعَةٍ

وعكاكيزٍ...

وشموخ ظفائرِ باسلةٍ...

وأبابيل بَـــــــراءاتْ :

ترمي بسم الله: العزى

ومناة الثالثة الأخرى

والـــــــــــــلاتْ !

*

وحقائب واعدةٍ

بحضور الدرس اليومي

والإقدام بحزمِ

وركوب (اللابُدْمِنْهُ يوماً)!؟

والخوض

بأقــــلامٍ... ودواة!

*

في غــزة...

ياكــــــــــل الجهاتْ

حي على خير جهادٍ

حيَّاها النخوة يا (قاتْ)!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

يتخذ كلّ منّا نحن ابناء الاسرة الصغيرة، مجلسه في بيت ابني الاكبر، أختي ليلى تجلس إلى جانب ابنها وإلى جانبه تجلس زوجته تحتضن ابنها، أتعمّد أن أجلس قُبالة أختي ليلى، منذ فارقت أمي الحياة قبل نحو الثلاثة أعوام لم أرها تقريبًا، كنت أتذرّع حين تسألني لماذا لا تزورني بأنني مكسور الجناح، فكانت تصمت بانتظار كلمة أخرى لا أقولها، هي تعرف هذا جيدًا، فهمتني منذ كنّا صغارًا، فكيف لا تفهمني ونحن نطرق أبواب الكهولة بيدٍ واهنة؟ أقرأ في عيني ليلى عتبًا مشوبًا بعذر لا يريد أن يستقر له وضع، عتبًا قلقًا.

- لا تعتذر لا يوجد هناك ما يمنعك من استقلال الباص من الناصرة إلى حيفا. الطريق إلي هناك قصيرة، تواصل عيناها عتبهما.

 صمت قبر يخيّم علينا أنا وليلى، نحن الاثنين، بين الجميع مَن يشعر بالخسارة الحقيقية، فقد عشناها بكلّ دَقة من دقات قلبينا المتعبين.

- إلى متى سيبقى أبوك مشرّدًا ووحيدًا؟

تتوجّه ليلى إلى ابني متسائلة.

- لا أعرف يا عمتي، لا أعرف، قبل فترة قلت لأمي إذا لم تسمحي لأبي بالعودة إلى البيت، لن أزورك، فردّت بالغنى عنكما أنت وهو. أنا لا أريد رجلًا يفّكر في الكتب والاوراق أكثر ممّا يفكّر بزوجته وأبنائه.

يردّ ابني.

ترفض ليلى منطقه، تتمتم:

- بإمكانكم، أنت واخواتك أن تقاطعوها، حينها ستضطرّ لاستقبال أبيك في بيته. أبوك كبُر قليلًا، بيت الواحد منّا فقط يتسع له. كلّ البيوت تضيق، خاصة حينما يتقدّم الانسان في العمر.

ابني يبتلع الكلام، لا جواب لديه يغرق في صمته. ينبري ابن أختي، لقد كبرت يا محمد أهمس بيني وبين نفسي، تنتبه ليلى لما أهمس به، تقول:

- العمر قصير يا أخي، بالامس كان ابني محمد صغيرًا، أنظر إليه أصبح بين ليلة وضحاها شابًّا متزوّجًا وأبًا لأبناء. عليك أن تفهم هذا.

تبتسم زوجة ابن أختي محمد وهي تهدهد ابنها في حضنها.

- إنني أفهمه يا حبيبتي، لكني لا أعرف ماذا أفعل. أقول.

- تزوّج. أنت كاتب معروف ومحترم وهناك ألف مَن تتمنّى الزواج منك.

تردّ ليلى بحسم.

- أنت تعرفين أنني محدود الدخل. لا أستطيع أن أصرف على بيتين. أقول وظلُّ حزن يخيّم على شفتي.

- لا تعطها نقودًا. هي لا تريدك. بإمكانك أن ترفضها أنت أيضًا. لتذهب إلى المحكمة. أنا واثقة من أنها لا تستحق أن تأخذ منك شاقلًا واحدًا.

- لكنها ما زالت على ذمتي. القانون يفرض علي أن أمنحها إمكانية للعيش بكرامة. ثم لا تنسي أنه يوجد لدينا أبناء يعيشون معها ويحتاجون للمساعدة.

تطفر دمعة من عين ليلى:

- أنت دائمًا هكذا، تعطف على الجميع ولا أحد يعطف عليك. طلّقها. أنا مَن سيزوّجك. يوجد لنا أقارب يقيمون في بلدة قريبة تعرّفت عليهم مؤخّرًا، هم مثلنا شتتتهم النكبة في عامها القاسي. بإمكاني أن أنتخب واحدة من بناتهم لأزوّجك منها. أنت الآن ما زلت قويًا بإمكانك أن تعيل نفسك. غدًا ستكبر من الافضل لك أن تتزوّج وانت قوي قليلًا.

- لكنني لا أريد أن اتزوّج. لقد فات الوقت. ربّما كان علي أن أزوّج ابنتي الاخيرة. لا أريد أن يرى أحد في زواجي سببًا لعدم ارتباطه بابنتي.

يتدخّل محمد ابن أختي:

- ليش بدهاش مرة خالي ترجعك على بيتك؟ شو هي بتفكر القانون بصفها بس؟ القانون بقلش إنك لازم تضيع في هذا العمر المتقدم.

يقول ويتساءل بعد صمت:

- مش ممكن انه يستمر هيك وضع. انت لازم تتزوّج.

 يقول محمد مُثنيًا على كلام أمه، أختي.

- بقدرش إني اتزوّج. انا بديش اني اطلق مرة خالك يا حبيبي. بلكي بكرة رجعلها عقلها. وارجعنا زي ما كنا زمان. تزورونا في الناصرة ونزوركوا في حيفا.

أقول. وأتابع: انت بتعرف انه خالك كاتب قصص. انا قررت إني اتزوج الاوراق زي ما بدها مرة خالك.

يطلّ حزن شفيف من عيني ابن أختي يتبعه حزن آخر مشابه من عيني ابني الاكبر. يخيّم صمت على جو الغرفة. لم يعد لدينا كلام. قلنا كلّ ما أردنا.

- لو كانت أمي بيننا ما حصل هذا كله.

أقول. تتجاهل ليلى كلامي، تقول بنرفزة مُحبة:

- الحكي معك خسارة، انت بدك تموت لحالك. بس والله العظيم، قسما عظما، انه ما رايح يهدالي بال دون ما اني ازوجك. تقول وتضيف: والله اني ما رايحة اخلي حدا يحضر جنازتك. محدا بستحق.

في الخارج ونحن في طريقنا إلى الشارع. تمدّ ليلى يدها لتسلّم عليّ مودعة. تتمّتم على مسمع مني:

- لقد شاب شعرك. وتقلع بعض اسنانك. بدك تتزوج الكتب والاوراق يا اخوي؟ بدك تكتب قصص؟ ما انت صرت قصة ممكن يجيي حدا بكرة ويكتبها.

أنظر إلى السيارة وهي تولّي مطلقة دويًّا صامتًا. أشعر بغصة في حلقي. لم يتبق لي أحد. تجمّعوا كلّهم وانفضّوا بسرعة. هاأنذا عدت إلى وضعي السابق. أرسل نظرة إلى الفضاء البعيد فلا أرى سوى الخواء ينتشر في كلّ مكان. لا تزعلي يا ليلى.

***

قصة ناجي ظاهر

صوّب جراحك نحوهم

ومن الضواري ..

ما بدى

وارمي بها ذؤبانهم

فاليوم يومك

لا غدا

فأما ستحيا شامخاً

والى الأبد

وأمّا ..

تُباع وتُشترى

عبدا ذليلاً

للعدى

أو لا تكون

خذ المشيئة من قرارة روحها

فحليبها يغلي

مذ كنت تحبو حينها

فقد اصطفت منه

دمك..

فاليوم يومك

لا غدا..

ودم الشهيد الآن

رسم الطريق

للسائرين على خطاه

ومن معك

فاسرع خطاك

نحو معركة ضروس

ثائرا مستبسلا

وخذ القذيفة

من يد مقطوعة

لرفيق درب

هو طالما

قد عاهدك

قاوم عدوك ما استطعت

من قوة..

وعجّل بهم

للويل..

فهي معرك الوجود

او

لاوجود

وليس معركة

جدار

او حدود

أغلظ عليهم،

وانتقم..

ما أمكنك!

ممن أتاك ليقتلك

واسمل عيون ذئابهم

بأصابعك

أمّا الأسير

فملاذه  ..

هي رحمتك

اسحق رؤس المعتدين

الغاصبين

مغاضبا..

لا تعتريك عواطفك

واشدد عليهم قسوة

لا تُبقهم بصواعقك

وارسم بلون جراحك

نار الجحيم

على الجباه

وارمي بهم

فلهم جهنم

والنصر لك

فلهم جهنم

والنصر لك

***

الدكتور ابراهيم الخزعلي

25/10/2023

عُـتُـلٌّ وابـنُ سـاقطةٍ زنـيـمُ

وشـيـطانٌ يـئـزُهما رجـيـمُ

*

تـآزرَ جمعُهمْ فغـدا عُـتُـوًّا

وظُلمًا طـالَ شـعـبًا لا يخِيمُ

*

عماهُمْ في بصيرتِهِمْ فـغالوا

وسـوّغـها لـهمْ غـربٌ أثـيمُ

*

فها هُمْ في جـرائمهمْ أبـانوا

بـغـزةَ أنّ حـقـدَهُـمُ عـظـيمُ

*

أبتْ حتّى الـوحُشُ فأنكرتْهُ

فأينَ ضـميرُ عـالـمنا السـليمُ

*

وأيـن المـدّعي من كُـلِّ هـذا

حقوقًا قـد تـعامى لا يَـريـمُ

*

فعـالـمُنا وقد شَـكَمتْ قواهُ

بنو صهيونَ عالمُـنا سـقـيمُ

*

بنو صهيونَ إن شاءوا فأمرٌ

وكلُّ مُـخـالـفٍ لـهُـمُ غَـريمُ

*

وكمْ صدرتْ قراراتٌ فآلَتْ

لأدراجٍ وشــارعُـها لـطـيمُ

*

هو الجبروتُ في صهيونَ باقٍ

وداءٌ في طـبـيعـتِهِـمْ قــديمُ

*

وإنَّ عـلاجَهُ بالـنارِ كَـيًّـا

لٍحَـسمِ الـداءِ قـررهُ الـحكيمُ

*

هو الباري تـباركَ في عُلاهُ

على أيدي رجـالٍ لا تَـخيمُ

*

فها هي غـزّةُ الابطال قالتْ

بأن الـبغيَ مـرتَـعَهُ وخـيمُ

*

تلـقّـتها بـغـزةَ نـازلاتٍ

فأبكاهمْ ومـار بهم جحـيمُ

*

بأبناءِ الرجالِ وهم رجالٌ

أولي بأسٍ توعـدَها العليمُ

*

إذا مـا عُـدْتُـمُ عُـدنا بأخرى

وأخـزى حيثُ جمعُهُمُ حطيمُ

*

تناسيتُمْ يا بني صهيونَ موسى

ومـا قُـلـتُمْ ومـا قـال الـكلـيمُ

*

وها أنـتُمْ كما الاسلافُ عُـدْتُمْ

بخـسّةِ طبعِـكمْ أصـلٌ لـئـيمُ

*

فما مِن عِـبرةٍ منها استفَدْتُمْ

مِنْ الماضي وحاضرِكُمْ هـشيمُ

*

وكان الـتِيهُ للماضينَ درسًا

ودرسُ اليومِ موقـعُهُ الحميمُ

*

فلا مَنٌ ولا سلوى، ولكن

صواريخًا سـيذكرُها الفـطيمُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

السبت في 28 تشرين أول

اسـتـنطقْ الجُرحَ، واكتبْ ما يفوه به

فالجرحُ يبقى وميضاً ليس يـــسـتـتـرُ

*

واضرمْ مــِدادَكَ كي تعـلو بصــوْلـتِه

سُمْرُ القنا ، وسـيوفُ الغدر تَــنْـدحِـرُ

*

واطفئ بـداجــيةٍ آهـــاتِ مُـوجَـــعَــةٍ

فالصوتُ في الحق يُسْـتسقى به المطرُ

*

واسْتنهضْ الحرفَ ، فالمظلومُ مُنتظِرٌ

والخُبْـزُ مُـرٌ ، وعـزْفُ الناي يحتضرُ

*

طـعـمُ الهــواءِ ، وعَـذْبُ الماءِ يسألكم

هل تسْـتطـيبـوه.. والثكلى بـها غدروا

*

قــولٌ بلا فِـعل عـند البعض،في هِـمَمٍ

كمَن الى الحَـربِ ، لا سيفٌ ولا وَتَـرُ

*

هذي اليتامى تـُوَلوِل ، لا لِمَـــــسْغبةٍ

بلْ راعَها أنّ صَوْتــاً بات ينْحَـــــسِرُ

*

روّضْ يراعَكَ واجعلْ منه سَهْمَ لَظىً

في رَوْع مُستعـمرٍ ، بالجُـرْم مُـنْغـَمِـرُ

*

ما رِفْعَـةُ الشــأنِ ، فــي ثوْبٍ وقُـبَّـعَةٍ

الشــأنُ فـي جَوْهـر الأفـعالِ  يُـعـتـبـرُ

*

فـي لُجّـة البحـرِ صَبْـرُ النفس يُـمْتَحَنُ

والحَـربُ فـي قـوة الإيـمـان تَـنْـتـصِـرُ

*

إنّ الأصـالــةَ ، لا تـرضى مُـسـاوَمَــةً

ولا الـكـرامــة ، أنْ يـَـنْـتـابهــا الــكَـدَرُ

*

تَــطـوّعَ الـجـدُّ ، والأحـفــادُ تَــتْــبـعـه

وقــلْعَـةُ الـمَجْـدِ مأواهم بـمـا صَبـَـروا

*

صِـدْقُ الـيقــينِ ، أصيلٌ فـي عَزائـمنا

حـتى تجسّــدَ  نِبْراسـاً ، بــه  الـظـفــرُ

*

يا هالة القدس ، ضوءُ الـنصرِ يُـنْـبـِئـنـا

أنعِـمْ بـبـشرى ، حَواهـا القـلبُ والبَصَـرُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

إلى غزة الصامدة في ليلها الطويل

لا شيء ..

هناك الحرب السنان تشحذ طعنها

محاريب الغرب،

واحزناه، على موت السلام،

وغصب الطفولة المغدورة ..

لا شيء ينقضي في ثلمة الصراخ،

وهجرة المبعدين ..

الخراب، يسابق ظلام الطريق

يحجب الخلاص من عماء مستعر ..

ويغمض آثام الجثث الملقاة على الأرصفة الباردة ..

لا شيء ..

هل يسمع العالم أنات المطرودين،

الرعايا تحت ظلال السيوف،

المحاصرين بين ضفة وازدحام ..

كأنه سجن يناصب طواحين الهواء ..

أو كومة من كساء ندي،

يكسر صمت الجبناء ..

يا أمتي،

ليس لي أرض، غير سماء

وعفرة من بقية ريش زاحف جيشا كئيبا،

فمضى إلى حتفه المشؤوم ..

يا أمتي،

هذا الريح الموبوء، يضاجع وصمة البيات،

شتاء قادم، أو خريف مسجى ..

كل القنابل، الصواريخ، المسيرات الحربية،

والدبابات، ودروع العساكر ..

تقتات من مواقعنا السخيمة،

ثم تعود أدراجها،

غير عابئة بمؤتمرات الذل ..

لا شيء،

هناك، جاعت المدينة، وأطفالها ونساؤها وشيوخها ..

والفناء، الذي يتربص بالضوامر والمتاريس والمستشفيات المنهوكة ..

فتلرم المجد بالحجر،

ولتحذر من شك يكظم الأنفاس،

ويستعلي، من جدار سميك ..

لا شيء،

يوغر صدرك، على مغاوير فرادى ..

معزولون في صحراء معزولة ..

لا شيء،

يؤخر الطوفان أن يغشى كل الآلام والرزايا ..

أن ينبت في أكتاف الأعراب،

من طوافات زحانفهم،

من عتمة الغدر التي ألبستهم هوان الصفيق ..

لا شيء،

يأرج الحق، ويعمي إسار الباطل ..

غير وجه قبيح، واضطراب مستعاب ..

لم يكن لي ملجأ، غير أغنيتي القديمة ..

وفلسطين، أولها ..

في مهجة غزة، والقدس، ورام الله ..

أرجي لحاجة، بكفي نضال ..

وبندقية ..

بتكبيرة، ونبال قد تهيأت لرمية ثاقبة ..

وقصيدة ملحفة بصافرة إنذار ..

وهبة شعبية ..

لا شيء،

هنا يطلع القمر ..

وهنا أتكلف النبل وأتشبه بالنبلاء ..

أقتسم الملثمين أحلامهم،

وأصيد على آثارهم، قصب الرؤى ..

وأفتك بالخوف الدنيء ..

حاذقا، أكتنه السلاح ،

وأمضي في شهادة الشهادة ..

لا شيء،

ولترتق الأرواح، وتسحق الأصاغر الأعادي ..

وتسكن الرشقات، دواليب القطعان المحرقين ..

ولتكن، آيتي ..

صفات مشبهة على الثبات ..

مجد يباهي عنان القيامة ..

ورب يستعصم الخسف الراعف،

من الأهوال والخيانات، والأحلاف ،

من القفف والحصائر والورق الوهمي ..

لا شيء،

هنا، سيكتب العالم، تاريخ القضية ..

ملحمة النصر،

نكسة الخذلان .. والإنسانية ..

***

شعر:  د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

بُذورُ الشَّرِ صارت

أشجارَ حُزنٍ باسقاتٍ

في أتونِ الحَربِ

وعناقيدُ الدَّم المُعلَّقةِ

تتأرجَحُ

ولا تكفُّ أبداً عنِ النَّواحِ

عويلُ الثَّكالى

يرتَسِمُ فوق الصُخورِ

وحرائقُ الرّوحِ

حباتُ بَرَدٍ تَتَّقِدُ

ما ذنبُ الفراشات

تَذوي على مفارقِ الطُّرقِ

تصطلي وتشتعِلُ

وأفراخُ اليمامِ يقتلُها

نَعيقُ المدافِعِ

وشُدَّةُ الهَلَعِ

منذ بَدءِ الدُهورِ

قتيلاً مات هابيلُ

وقابيل قد شَدَّ الرِّحالَ

غير مأسوفٍ عليهِ

قد مَضى واندَثرَ

لَكنَّ فضاءاتَ الشَّرِ

ما فَتِئَتْ من قابيل

الملايينَ تستولدُ وتستنسِخُ

ضَبابٌ يَغشى العيونَ

والقتلُ والحرقُ والسَّملُ

كُلُّ البَريةِ تعلمُ

أنَّ الخلودَ مُحالٌ

والخِتامَ قبرٌ وكفنٌ

لكِنَّ طُبولَ الحَربِ

تَصِمُّ ذاكرةَ الوَرى

وتهشِّمُ

للوقيعةِ مذاقٌ وطُعومٌ

وويلٌ للخليقةِ

حين تصيرُ إدامةً وإدماناً

للدَّم يومُ الوَغى

شهوةٌ واشتهاءٌ

تَلِغُ فيه الأباليسُ الظِماءُ

ولكنَّها أبداً لا تروي غليلاً

ولا هم يشبعوا

ولا البطونُ يوماً منها تَكتفي

ينقضي الدَّهرُ

وأزيزُ الرَّصاصِ

وقعقعةُ السِّلاحِ

لا تعرفُ الصَّمتَ

الدماءُ سيولٌ والورودُ يَتامى

والشَّمسُ تُلَملِمُ ما تَبقَّى من ضَوءٍ

على قارعةِ التاريخِ

وتَطوي قناديلَ الفَرحِ

فيذرفُ الغيمُ دموعاً

تُخفِقُ في إطفاءِ

سعيرِ هاويةٍ تَضطَرِمُ

رويداُ رويداُ

تَنمو أزاهيرُ الأقحوانِ

في حُزنٍ وفي خَجلٍ

فوق تِلالِ المَقابرِ البعيدةِ

فيصيرُ الدَّمُ عِطراً

يسافرُ مثلَ تَرنيمةٍ

تَتَماوَجُ كالنَّسيمِ

عبرَ فضاءاتِ المَدَى

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم- السويد

وأنتِ شامخة....

مثل النجمة الثاقبة....

عُشّاقُكِ... يا عروسُ

يتزايَدون...

يتنافسون...

يصنعون زوابعَ الغضب....

مَهْرُكِ يا عروسُ؛ يرْتفع...

يتجاوزُ الألْفَ؛ إلى الآلاف...

إلى آلاف... الآلاف...

يتنافسون...

يتزايَدون...

مَهْرُكِ؛ يا عروس

أنْهارُ دِماء...

كُثْبانُ أشْلاء...

جداولُ عُطور...

أصْداءُ حناجر...

تسابيحُ أرواح...

تُبَعْثِرُها الرِّياح...

يُعانِقُها التّراب...

الزّفّةُ... تحت الأرض...

الزفّة... فوق الأرض...

سيّان؛  يا عروسُ...!

الوُجوهُ؛ بِعِشْقِكِ؛ تتلأْلأ...

لا الغُبارُ... لا الرّمادُ ينْجَح....

وِشاحُكِ؛ يا عروسُ؛

يُرفْرِفُ فوْقَ الرّؤوسِ ...

عنْدَ قدَمَيْكِ؛

حكاية شهيد

أقْسَمَ بربّ الكون:

عنْ عِشْقِكِ... لا يحيد

عند قدَمَيكِ؛

أنينُ جريح

يُرتّلُ تَعْويذَةَ العِتْقِ القريب...

وزهْرَة؛ بيْن أناملَ مقطوعة؛

لِعَريسٍ؛ رامَ الِّلحاق

بِرَكْبِ العُشّاق...

وأقدام مبتورة؛ سعتْ إليْكِ

عشِيةَ السِّباق...

يا "غزّة" العروس...

الطّبْلُ؛ عنْدَنا رصاص

المِزْمار؛ عنْدنا رَشّاش

النايُ؛ عندنا  صاروخ...

نغمة العود لَدَيْنا؛ قذائف....

يا "غزّة" العروس

التّاجُ فوقَ رأسكِ؛

أعْلامُكِ... نشْوَى؛

تحْتَضِنها البنادِق...

يا "غزّة" العَروس...

يا ملِكَةَ المَلِكات...

المَهْرُ ...يرْتفِع...!

وأنت شامخة شموخ الرّاسيات...

لَمْ تُغْرِكِ العُروض...

لَمْ تَسْتَبِحْكِ الوُعود...

يا "غزة" يا عروس؛

تجهّزي ِللحَفْل الموْعُود...

فموكبُ النّصْر قريب....

***

شميسة غربي / سيدي بلعباس/ الجزائر

مدافعٌ موصومةٌ بالعار

تُطْلِقُ في الأعياد والإفطار

*

مدافعٌ يُثْقِلُها الصَّدأْ

قنابلٌ تُصْنَعُ مِنْ كَمَأ

*

مدافعٌ للعَرضِ والجَمالِ

كزينةِ السيوف والدِّلالِ

*

مدافعٌ ليس بها بارود

مباخرٌ بها شذاً وعود

*

مدافعٌ باردةُ الحديد

يلهو بها الصَّبيُّ والوليد

*

مدافعٌ منصوبةٌ في الباب

ليس بها مشهرةً حراب

*

مدافعٌ  بالطَّين والقصب

قد شُيّدَتْ في أُمّة العرب

***

رعد الدخيلي

اُللَّيْلُ يُبَعْثِرُ أَوْرَاقَهُ

هَلْ كَانَ يَقْرَأُ لَهُمْ بُرْجَ اُلْحَيَاةْ

مُتَأَمِّلاً  خَـطَّ اُلْمَمَاتْ ؟!!

1

كَانَ يَمْشِي بِلَا هُويَّةٍ يَتَأَمَّلُ بِحُزْنٍ خُطَاهْ

مُرْهَـقًا مِنْ صَوْتٍ يِئِنُّ فِي حَنَايَاهْ

اُلْتَفَّ حَوْلَ كَاحِلِـهِ اُلْحَرِيقْ

وَفَـاضَتْ عَيْنَاه

- "لَا تَتْرُكِينِي أُمِّي لِذِئَابِ اُلْأَرْضِ

فَأَنَا يُوسُفُ اُلْقَادِمُ مِنْ بِئْرِ اُلْوَهْمِ"

صَـدَّتْـهُ

اُنْتَفَضَ جَنَاحَـاهُ :

-    " دَعِينِي أَتَدَثَّرُ بِمِلْحِ اُلْأَرْضِ

وَأَرْكُضُ كَمَا يُوحَنَّا

لِيَقْتَاتَ مِنِّيَ اُلْمَوْت."

3879 غزة2

كَانَا لَا يَسْمَعَانِ غَيْرَ صَوْتِ اُلرَّصَاصِ

لَمْلَمَتِ اُلْمَرْأَةُ شَعْرَهَا

مَسَحَتْ بِلُطْفٍ عَنْ ثَوْبِهَا

تَعَطَّرَتْ بِقِنِّينَةِ اُلْحَرْبِ

وَرَكَضَتْ نَحْوَ بِحَارِ اُلدَّم.

وَقَـفَـتْ

تَأَمَّلَتْ مَصِيرَهَا.

كَانَ اُلْقَمَرُ حِينَهَا يُضِيءُ

وَكَانَتْ خُطُوَاتُهُمَا تُزْهِرُ

ـ " إِلَى أَيْنَ يَمْضِيَانِ ؟"

وَشْوَشَتْ مَحَارَةُ اُلْغَضَبْ.

3

اُلطَّرِيقُ طَوِيلٌ يَعُبُّ مِنَ اُلْخَوْفِ حَصَاه

وَكَانَ اُلْبَرْدُ اُلشَّدِيدُ يُقَوِّسُ ظَهْرَهَا

دَفَعَتْ فَتَاهَا نَحْوَ حُضْنِهَا

وَغَنَّتْ مَوَاوِيلَ

تَفْهَمُ وَحْدَهَا جُرْحَهَا.

جَلَسَتْ فَوْقَ أَعْضَاءِ حُلْمِهَا

تَعُدُّ سُبْحَةَ عُمْرِهَا

يَـا لَلْهَوْلِ !

كَمْ مَضَى تَقُولُ فِي سِرِّهَا

- "هَلْ كَانَ عَلَيْهَا تَوْدِيعُ أَنْفَاسِهَا"؟!

قَالَ ظِلُّ اُلْأَرْضِ وَهوَ يَعْدُو مِنْ جَفْنِهَا.

4

كَانَا غَرِيبَيْنِ أَنْهَكَهُمَا اُلظَّمَأْ

دَنْدَنَ اُلْفَتَى بِلَحْنٍ حَزِين

ـ "أَنَا اُلْأَرْضُ

وَاُلْأَرْضُ أَنْتِ

خَدِيجَة ! لَا تُغْلِقِي اُلْبَابْ

لاَ تَدْخلِي فِي الْغِيَابْ

سَنَطْرُدُهُمْ مِنْ إِنَاءِ اُلزُّهُورِ وَحَبْلِ اُلْغَسِيلْ

سَنَطْرُدُهُمْ عَنْ حِجَارَةِ هَذَا اُلطَّرِيقِ اُلطَّوِيلْ

سَنَطْرُدُهُمْ مِنْ هَوَاءِ اُلْجَلِيلْ". *

5

كَانَ اُلْعَالَمُ يُصْغِي لِذَبْحِ اُلْبَرَاءَةِ

تَسَلَّلَا مِنْ تَحْتِ رِدَاءِ اُلرُّعْبِ

رَأَيَاهُ يَهْذِي بِوَطَنٍ زَائِفٍ

وَلِلظُّلْمِ يُـصَلِّي.

- "هَلْ وَصَلْنَا ؟ !!! "

مَرَقَ اُلْفَتَى مِنْ تَحْتِ إِبْطِهَا

- "عُـدْ"

قَالَتْ بِخُفُوتٍ لا يُسْمِعُ نَبْضَهَا.

6

......................

.......................

يَا لَهَذَا اُلْجُنونِ اُلَّذِي خَاصَرَ مَوْتَهَا !!

***

نجاة الزباير

............................

*من " قصيدة الأرض" للشاعر الكبير محمود درويش

أَلا كُلُّ قَوْسٍ لا يُشَدُّ فَخِرْقَة

وَيَصْدَأُ سَيْفٌ ما ابتلاهُ بِرازُ

*

وَكُلُّ حديثٍ دونَ فتيةِ غَزَّةٍ

هُراءٌ وانغامُ القصيد ِ نَشازُ

*

وكُلّ بَليغٍ  ليس يذْكُرُ  مَجدَها

عَييٌّ ولَنْ يُجدي لَديهِ مَجازُ

*

ففيها صراطٌ للفَخارِ مُعَبَّدٌ

واطفالُها مَروّا عليهِ وجازوا

*

عُبورُكَ قَدْ يَحتاجُ مَوتاً وفيزَةً

وَيُصَدَرُ مِنْ ختم الدماءِ جَوازُ

*

هُنالِكَ في الأنفاقِ قبر وجنّة

تداعى لها شوس الرجال  ففازوا

*

فأين بلادَ النفطِ هل ماتَ أهلها

وماتتْ هُنا نَجدٌ وماتَ حِجازُ

*

وكنّا بوقت الحرب نوقف نفطَنا

وتُغلقٌ آبارٌ  ويَقطع غازُ

*

سألتُ عنِ الحكّام اينَ ضميرُهُمُ

فقالَ حديثُ النَّقعِ ذاكَ مُجازُ

***

محمد آل حسوني

يَا حَبِيبَةْ

عِشْتُ أَيَّامِيَ فِي شَوْقٍ إِلَيْكِ

مَا عَرَفْتُ الْحُبَّ

مَا ذُقْتُ الْحَنَانْ

**

أَيْنَ أَلْقَاكِ؟!

وَمَاذَا أَبْتَغِي إِلاَّ هَنَاكِ ؟!

يَا حَبِيبَةْ

أَقْبِلِي

جَدِّدِي مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِي

أَرِيحِينِي

لَقَدْ ضَاعَ الشَّبَابْ

**

يَا حَبِيبَةْ

أَقْبِلِي بَيْنَ ذِرَاعَيَّ

وَهَاتِي

كُلَّ مَا أَهْوَاهُ مِنْكِ

اِمْنَحِينِي

كُلَّ أَسْبَابِ السَّعَادَةْ

وَتَعَالَيْ

يَا فَتَاتِي

نَحْضُنُ الْأَيَّامَ

هَيَّا نَزْرَعُ الْأَرْضَ غَرَامَا

وَهُيَاماً

وَحَنِيناً

أَنْتِ دُنْيَايَ الَّتِي عِشْتُ لَهَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

 

يتمتم وهو ينظر إلى فضاء المدينة من خلال نافذة المطبخ:

"سانهي كل شيء الآن.. لا جدوى.. لم يعد بإمكاني تحمل رؤية هذا الدخان اللعين.. البنايات احترقت وظل دخانها سائباً في الجو.. المدينة مغطاة بهذه العباءة الرمادية على مدى أسبوع كامل".

كان دؤوباً على الخروج اليومي، وإخماد أي ضرمة نار متسللة. المساحة التي تحيط منزله مساحة آمنة، بعض السيارات المركونة كانت كساتر طويل تقي المنزل من دنو الأوساخ والنفايات، ورذاذ الرماد والأوراق والتراب. ثم أن بعض الحيوانات السائبة كانت تجول في الليل، تبحث بشراهة عن طعام هنا أو هناك. مستعيناً على تحرشها ببندقية ورثها عن أبيه. يحملها في هذا الوقت بكفيّن يرتجفان وينقطان عرقاً.. تحدق عيناه بشكل مباشر صوب نهاية الشارع المؤدي إلى تقاطع يقبع منزله عليه. ينظر مركزاً في حركة بانت له خلف ستار الدخان البعيد، إنه شبح كبير يتحرك ببطء صوب المنزل. الشبح بان خيالاً ضخماً بفعل الضوء الساطع خلفه، ثم بدأ يتضح رويداً رويداً.. إنه رجل يحمل حقيبتين كبيرتين، يرتدي معطفاً طويلاً، لم يتضح شيء من ملامحه لأنه كان يحجب وجهه عن الرؤية بلفاف ونظارتين سميكتين. يمشي متمهلاً صوب تقاطع الطرق، ولم ينتبه لصاحب المنزل بعد. لقد كان رأسه متدلياً صوب الأرض، ويسير ويتعثر ثم يقف. يُنزل الحقيبتين بهدوء ويتأكد من سلامتهما، ثم ينظر في كل الاتجاهات كأنه يبحث عن شيء تائه، ويعاود حمل الحقيبتين ويسير.. يظل صاحب المنزل متسمراً في مكانه، لم يفعل شيئاً سوى النظر. المسافة بين النقطة التي كان يسير فيها الرجل الغريب، والنقطة التي كان يقف فيها صاحب المنزل مسافة تُقدر بمائة متر، يستغرق الرجل ذو الحقيبة وقتاً لكي يصل إلى مفرق الطرق الذي كان المنزل يطل عليه. ثم أن الرجل الآتي لم يلاحظ وجود صاحب المنزل، لأن الثاني يقف تحت مظلة المنزل خلف السور، منتظراً لحظة اللقاء بينه وبين الآتي. عند تقاطع الطريق يقف الغريب مرة أخرى، ينزل الحقيبتين بهدوء كمن ينزل طفلين رضيعين، ثم يلتفت يميناً وشمالاً محاولاً تحديد وجهته. يعيد النظر إلى الطريق الذي أتى منه. يكتشف أنه في منطقة لم تعبث بها النار، وكان الرصيف والشارع شبه نظيفين. يتقدم بضع خطوات صوب المنزل ليتفاجأ بفوهة البندقية الممتدة من على السور، ويرى بوضوح الرجل وهو يهتف به:

 - هي...من أنت؟؟

 يرفع الرجل الغريب ذراعيه عالياً كأسير، ثم ينزل كفه اليمنى يزيل اللثام عن فمه، ويعود ليرفع ذراعه مرة أخرى ويهتف بصوت ناعم:

- مرحباً...أنا طبيب.. لا أرجو أذيتك صديقي ارجوك انزل بندقيتك لنتفاهم.

 يكرر صاحب المنزل: ماذا تفعل هنا ومن أين أتيت؟.

يتقدم الرجل الآتي خطوة إلى الامام لكن صاحب المنزل يرفض هذا، ناصحاً له البقاء في مكانه لحين التحقق من هويته. يبتسم ثم يهتف بصوت أعلى:

 - صدقني لا أريد أذيتك ..أنا باحث وطبيب، وجدت نفسي هنا بعد أن تعبت في البحث عن مكان آمن ونظيف وخال من التلوث.. بإمكانك تفتيشي وها هي هويتي معي باستطاعتك التأكد منها.

 يخرج صاحب المنزل من خلف السور عبر الباب المؤدي للشارع، يبقى الثاني على وضعه رافعاً يديه، يبدو الرجل الضيف قصيراً، يلبس نظارة طبية مستطيلة الشكل، رأسه ضخم وعيناه صغيرتان لم يستطيع الكاتب تمييزهما مع أن المسافة بينهما صارت أقل من مترين. يسأل الكاتب الطبيب: ماذا تخفي في الحقيبتين؟. يبتسم ويقول بارتياح:إنها عدة أبحاثي وعملي، بالكاد حصلت على جهاز الميزان الكيميائي، وجهاز عتيق للطرد المركزي، مع احتفاظي بعدد من الماصات والدوارق والأنابيب والمكثفات اللازمة، وقد حفظتها هنا في الحقيبتين وبإمكانك رؤية كل شيء بنفسك.

***

(يجب أن نحترس من التلوث) يتكلم الطبيب وهو يدخل إلى المنزل حاملاً الحقيبتين بحذر. صاحب المنزل ينظر إليه متابعاً تفاصيل وجهه، حركاته، نبرة صوته. الطبيب لا ينظر إليه بل هو مشغول بالبحث عن مكان آمن لوضع الحقائب، ثم يضيف كأنه في درس: التلوث شيء مريب، يهدد أبحاثي العلمية. يجب أن أحترس من كل شيء قد يصيب بدني، خصوصاً هذه البقع الرمادية التي تكسو الأبنية، كأن بركاناً أنفجر وغطى المدينة بسحبه المعبأة بالرذاذ السام. ولكم أنا محظوظ حين حافظت على معدّاتي المختبرية في هذا الوقت اللعين. يتساءل المُضيف: أين وجدت هذه المعدات؟ يبتسم الطبيب ثم يتكلم وعيناه تنظران إلى الضوء الخافت عبر النافذة: لم أنس منزل الطبيب المشهور في المدينة، ذلك الطبيب الذي تتلمذت على يده بضع سنين، دلفت إلى منزله واخذت من مختبره عدداً من الأنابيب والأقماع، متناسياً وصاياه القديمة في دروس البحث المختبري "لا تدخل إلى المختبر بمفردك...ادرس التجربة قبل مجيئك للمختبر...يجب لبس النظارة الواقية...لا ترجع المواد الكيميائية إلى عبواتها الأصلية.." وغيرها من وصاياه التي تبطئ من سرعتي في اكتشاف علاج ناجع للعقم. أنا واثق من إتمام مهمتي، لأنني كنت الأذكى بين الطلاب، صحيح أننا لم نكن سوى خمسة طلاب، ندرس الطب والكيمياء الدوائية والأحياء. لكنني كنت الأذكى بينهم، وأنا واثق من نجاحي...نعم واثق.

ينظر المُضيف صوب الطبيب ثم يسأله وعيناه تحدقان بقوة: هل أنت تبحث عن علاج للفايروس RRS..؟.

(نعم.. بالطبع) يهتف الطبيب كأنه انتصر في مباراة، ثم يضيف: بالطبع لم يجد العالم تفسيراً لفايروس العقم، كيف انتشر وكيف تطور حين كان العقم وأسبابه القديمة معروفة لدينا. ملايين الدولارات صُرفت على تقوية الغدة النخامية وحماية الغدة الدرقية، لكن الفايروس كان أقوى. إنه يضرب على الحبل المنوي ليجعل القذف ارتدادياً إلى جوف الرجل، لهذا سُمي المرض ((Reflux sperm sperm)) أو ((ارتجاع الحيامن المنوية)) ،وقد اختصر العلماء اسم المرض بـ (RSS)..أتخيل الرجل حين يصل إلى مرحلة الشهوة، ويقذف بشكل معاكس، يالهذا الألم الذي يلحق به !! ينسيه سكرة اللذة التي يريد الشعور بها، لتتحول إلى جحيم قاتل في قضيبه. في النساء يهاجم الفايروس عنق الرحم، يقفل الطريق نهائياً بوجه أي حيمن متطفل، هذا الانسداد الكيميائي والذي يعدم بشكل نهائي افراز المخاط الناقل للحيامن إلى البويضة. يكمل الطريق إلى عدمية الإنجاب نهائياً. مع ألم كسيخ ناري يكوي مهبل المرأة. ثم يواصل الفايروس طريقه ليميت الإنسان بعد مدة قصيرة حيث يهاجم جهازه المناعي ويعطله تعطيلاً عجيباً. (هنا حدثت الكارثة الانقراض؟) يضيف المُضيف ويسانده بالقول الطبيب مضيفاً: نعم...بدأنا نتآكل، العالم كله وصل إلى مرحلة النهاية.. هل تصدق؟. لقد كنت أعتقد أنني الوحيد الباقي على وجه الأرض، آخر رجل يعيش على سطح الكوكب، لكنني الآن ارتحت بشدة لأنني وجدتك وهذا ما يزيد في تصميمي على اختراع المضاد الفايروسي، الذي يقضي على المرض. سيكون هذا انجازاً كبيراً لي. لن أفشل.. لا أذكر أنني فشلت يوماً في تجربة أو درس. من المعيب أن يصيبني النكوص وأنا بعمر وصلت فيه إلى ضفة الأربعين. ولم يكن لقصر قامتي وصلعتي الكبيرة وضعف نظري أي تأثير عليَّ. كانوا يعيبون عليَّ صفاتي الجسمانية وكأنها نقاط سود في تركيبة بدني. ولو كنت من النوع الحساس، ذلك الذي يحسب حساب كل شيء لكنت مختلاً الآن. ولكنني بفضل تجاهلي العجيب، وشغفي في ان أكون متميزاً على أقراني شغلني عن التفكير كثيراً بكلام من حولي. صحيح أن الانشغال والتفكير بالجزئيات وهجومها على عقل الإنسان قد يرجع إلى تركيبة مخه الكيميائية، فالنواقل العصبية تكون أضعف عند هؤلاء الذين يُصابون بالوسواس والقلق، هذا مادرسته قديماً وعرفت كيف أحتمي بزق الفيتامينات اللازمة، لقد كنت أأكل السمك بغزارة لأن السمك اللعين يحمي من الكآبة، والمكسرات لا أفارقها لأنها تعطيني ذاكرة وغذاء كامل للمخ...ياااه ...كم أعشق مخي، أنا أهواه كما يهوى الشعراء حبيباتهم وقصائدهم.. ينتبه الطبيب إلى نفسه، يعتذر من الرجل صاحب المنزل لأنه كان جائعاً للكلام مع شخص، ثم يسأل الرجل صاحب المنزل عنه عمله، يجيبه المُضيف: أنا ...أنا أعمل كاتباً. يبتسم الطبيب ويقول: لا أنا لم أسألك عن هواياتك المفضلة، أنا سألتك عن عملك قديماً أو الذي تتقن ممارسته؟. يجيب الرجل مرة أخرى: أنا كاتب أكتب القصص، وهذا عملي. يهز الطبيب كتفيه، ثم يقول: لا أدري ولكن هذه المرة الاولى التي أعرف فيها أن تأليف القصص عملاً !!هل كان يدر عليك ربحاً؟. ينفي الكاتب هذا الشيء بهزة رأس، ثم يقاطعه الكاتب قبل أن يبدأ الطبيب بحديثه: أنا أكتب لأنني مؤمن أنها عملي الذي أعيش لأجله، أنا لا أعترف بباقي الأعمال التي لا يكون للجمال دور فيها. يضحك الطبيب ثم يتحدث: وااو.. أنت تنسف الحداثة والتطور وكل ما وصل إليه العلم. نعم أن التطور توقف عند نقطة منذ نصف قرن، صحيح إننا في العام 2100، ومازلنا نراوح في آخر نقطة للحداثة الصناعية بسبب بداية الانقراض قبل عشرات السنين، ولكن إذا قُدر وعادت الحياة إلى طبيعتها لن يكون الفضل للجمال ياصديقي الكاتب، بل سيكون الفضل للعلم والمعارف المجردة، وهذا ما يجب عليك الاعتراف بفضله).

يستمع الكاتب إلى كلام الطبيب، ثم تطير به الأفكار ولا يظل من كلام الطبيب سوى حركات فمه، حينها يسرح الكاتب بعيداً وتعصف به أفكار، ثم ينتبه كالمفزوع حين ينبهه الطبيب قائلاً بصوت عال: هي...أين ذهبت؟ هل أنت معي؟. يجيب الكاتب: نعم .. أنا معك .

***

(يحتوي المنزل على غرفتين علويتين وغرفتين في الطابق الأرضي إذا أحببت وضع اغراضك) يقول الكاتب. يوافق الطبيب ثم يختار غرفة في الطابق الأرضي، يدخل إلى الغرفة يتفحص دواخلها، ثم ينقل الحقيبتين إليها ويخرج مسرعاً كأنه نسي شيئاً، يحضن الكاتب ويشكره على استضافته ويقول بصوت خفيض كأنه يهمس في أذنه:

- شكراً لكَ يا صديقي ..إنها محنة ويجب علينا مواجهتها. لقد كنت يائساً من وجود شخص يعيش في بلدنا، لكنك ارجعت الأمل لي في نجاح تجاربي وبحثي.

يعود الطبيب إلى الغرفة ويتبعه الكاتب متسائلاً:

- أنا أيضاً سعيد بلقائك ..لكن..! ما الفائدة من تجربتك حتى لو نجحت وليس هناك من تعالجه. ما فائدة الدواء بلا مرضى؟!

يرتب الطبيب ملابسه في دولاب عتيق ثم يتذكر ما قاله الكاتب عائداً إليه:

- نعم نعم...لا فائدة من دواء بلا علة ..العلة موجودة والمريض أيضاً موجود

- أين؟(يتساءل الكاتب )

- (في العالم حولنا) يجيب الطبيب ثم يضيف: لن ينقرض البشرُ بشكل نهائي يا صديقي، الجنس البشري جنس ذكي وقادر على عبور أزماته بشكل لا يصدق. لقد قرأت قديماً عن أنواع وأشكال وفرضيات كثيرة لانقراض البشر، ولكنها لم تتحقق إلى الآن. فرضيات الحروب والتلوث ونفوق الحيوانات والتهام البشر للبشر ذاته. صحيح أن الفقاريات تنقرض بسهولة. حيث أن العلماء يؤكدون انقراض أربعمئة نوعا منها كل مئة عام. لكن هذا الشيء لا ينطبق على الجنس البشري. لأنه سيصمد في النهاية وسترى بعينك أنه قادر على تجاوز هذه المحنة.. إنه متكيف ومتغير ومتطور يا صديقي.

يجلس الكاتب على أريكة بعيدة متعباً، ثم ينادي بصوت عال للطبيب الذي اندس في الغرفة يرتب حاجياته:

- أنا قرأت سابقاً أن البشر انقرض بشكل جماعي خمس مرات. لعل هذا الانقراض هو السادس؟ هل توافقني؟

- (لا أوافقك) يخرج صوت الطبيب من الغرفة ثم يسكت قليلاً ويضيف: أنت تقول أنه انقرض خمس مرات...صحيح؟ إذن كلامي أنا صحيح، أن البشر قادر على تجاوز محنة الانقراض السادس..

يخرج الطبيب من الغرفة، ثم يطلب من الكاتب أن يكون القبو الدافئ مكاناً لإكمال أبحاثه. يتساءل الكاتب في كون الغرفة مكاناً صالحاً أيضاً، لكن الطبيب يقنع الكاتب في أن الدوارق والمحاليل جهاز الطرد وباقي الأدوات لا يمكن ان تكون مكشوفة. ويجب أن يكون المختبر آمناً و ذا درجة حرارة معينة ناهيك عن الهدوء الذي يحتاجه الطبيب في مواصلة البحث. لهذا يفكر الكاتب في القبو، وتصير الفكرة أن ينظف الأثنان القبو صباحاً. أثناء جلوسهما يتنفس الطبيب بارتياح مرة أخرى ثم يسأل الكاتبَ: كم عمرك الآن..؟ أووه ...دعني أخمن !! عمرك خمسون سنة؟. يضحك الكاتب ثم يتحدث: اييه... يالهذه السخرية ! على أية حال أنا عمري أربعون سنة مثل عمرك بالضبط. رحل أبي السبعيني منذ سنوات بعيدة ورحلت أمي بعده بثلاثة أشهر من المرض.. رحلا من غير عودة.

يتحدث الطبيب مباغتاً صورة الوالدين التي طافت على ابنهما الكاتب:

- الحياة في أمريكا معدومة، اليابان بدأ الانقراض فيها منذ زمن بعيد حتى انتهت كل علامات الحياة فيها، أوربا لم تعد سوى غابة كبيرة. وهذا طبيعي لأن المجتمعات تلك بدأت تنقرض حتى قبل وجود الفايروس (RSS). لقد قرأت في تلك الفترة كيف كانت الشركات تنتج دمى جنسية، وزواج المثليين الذي نسف العائلة القديمة، أعني العائلة التناسلية بالطبع.. شعبنا تأخر في الانقراض كثيراً، فبعد دخول العالم في هذه المرحلة منذ أن سيطر الفايروس وشعبنا أصر على العائلة الكلاسيكية. تيارات كثيرة حاربت وناضلت من أجل بقاء العائلة القديمة، وطرق الحمل والانجاب التي سمعنا بها، من خلال الوقاية والتحصين، ولكن لم ينجح كل هذا في مواجهة فايروس العقم اللعين.

ينظر الكاتب إلى وجه الطبيب وهو يتحدث، لم يضع الطبيب عينيه في عينيّ الكاتب طوال حديثه، يتضايق الكاتب قليلاً ثم يحاول جر الحديث إلى زاوية أخرى قائلاً:

- هل كان آدم يفكر بهذه الدرجة من الخوف والوحدة؟! مهمة آدم كانت يسيرة بالنسبة إلى مهمتي، على الأقل أن آدم بدأ سير العائلة الكلاسيكية مع امرأة ،أما أنا الآن حائر في بداية أو نهاية العالم. لا أعرف على وجه الدقة هل سيكون وجودي هو الحلقة الفاصلة بين بداية جديدة أو انقراض أخير!.

يضحك الطبيب ثم يقول بصوت واضح:

- لا أؤمن بهذا

- لا تؤمن بماذا؟

ينظر الطبيب للمرة الأولى في جلسته إلى الكاتب ويقول:

- الإنسان تطور يا صديقي، لم يكن سوى كائن حي وتطور بالتدريج، وما يُقال عن الخلق وآدم لا أعتقد به مطلقاً.

- لا أدري...هذا رأيك بالطبع

يعود الطبيب إلى حيويته ويسأل الكاتب:

- ماذا ستفعل لو استمرت البشرية؟

يزفر الكاتب نفساً خبيئاً في رئته ويقول:

- لن تعود البشرية كما كانت.. نحن في طريقنا إلى الانقراض.. ومع هذا سأمارس الحياة والكتابة أيضاً، سوف أكتب أخر قصة لي حتى لو كنت الوحيد الذي سيقرأها بعد انهائها، معتمداً على ما تيسر من قوتي، متجاهلاً كل الوحدة التي أعيشها، فأنا كما قررت لست وحيداً، بل أنا أعيش مع نفسي وأكلمها حين أكتب.

***

(أكلمها حين اكتب...) حلقت هذه الجملة في مخيلة الطبيب، ولم يحاول استدراج الكاتب لإكمال الحديث. يغيّر الطبيب الحديثَ صوب مدّخرات الكاتب الغذائية، من أين يأكل وماذا يخزن في مطبخه. يتجول الأثنان في المطبخ قبل هطول الظلمة، يشرح الكاتب للطبيب كيف أنه خبأ عشرات العلب الغذائية، وأنه عاكف على زراعة الخضروات في بقعة قريبة من المنزل. يصف له اللحم وشوقه إليه فيهتف الطبيب: واااو .. كم أتمنى شوي سيخين من اللحم الآن، لحم حمل صغير أو طبخ مخ بقري.. جسمي بحاجة إلى دفقات من البروتين والدهون، أشعر أنني أتضاءل وهذا يؤثر سلباً على بحثي وتركيزي). ينظر الكاتب إلى الطبيب طويلاً، ثم يسأل:

- هل أنت جاد في بحثك؟أنا أستغرب اصرارك على انجاحه بالرغم من خلو العالم الآن من بشر غيرنا، وحتى لو كان هناك بشر غيرنا يعيشون في أماكن أجهلها، هم مصابون بلا شك بالعقم

- سأبدأ غداً بتجهيز مختبري وسترى (يقول الطبيب ويضيف): لا تنس يا صديقي الكاتب، مستقبلك قائم على نجاح هذه التجربة

- لماذا؟

- نجاح تجربتي يعني أن هناك قرّاء سيقرؤون لكَ مستقبلاً، ألست تؤلف لكي يقرأ الناس ما تكتب؟

- أنا أتصالح مع نفسي حين أكتب

(يضحك الطبيب ثم يقول بصوت ناعم):

- كل نتاج وتقديم ثقافي كان او علمي هو بحاجة إلى جمهور. لا تظن أن التجارب لا يحتفي بها جمهور معين، شانها شأن الأدب والفن وغيرها. فإذا كانت التجارب العلمية المجردة بحاجة إلى الجمهور والإشادة، فكيف بالأدب والأدباء مثلاً؟. لا أعرف كيف تفكر يا صديقي؟. الفنون الجمالية والادبية كما تطلقون عليها، أكثر الأمور في العالم تحتاج إلى الجمهور والإطراء المباشر والاحتفاء العلني. نعم نحن العلماء نحتفي بأنفسنا بخصوصية شديدة، ولكن هذا لا يعني أننا لا نتذوق طعم النجاح إلا بتأصيل المنجز العلمي، بل بالتشجيع والإشادة والجائزة أيضاً تعطينا حافزاً قوياً في المواصلة...

يقاطعه الكاتب أثناء تفتيشه بين علب مركونة في خزانة المطبخ قائلاً:

- هل تريد فاصولياء خضراء عشاء أم تُراك تشتهي سمكاً معلباً؟

يهز الطبيب رأسه ويقول: أي شيء يا صديقي...المهم أن لا ننام ومعدنا فارغة فهذا لا يجعل النوم مريحاً.. يضع الطبيب كفيه على صلعته ماسحاً ويقول ومازالت الابتسامة مرسومة على فمه مخاطباً الكاتب الذي بدأ بتحضير العشاء:

- هل لديك مكتبة؟

- نعم...في الطابق الثاني. مكتبة جمعت أغلب كتبها منذ سنوات عديدة، اعتقد أن عمرها ثلاثين سنة، وانا أجمع بكتبها منذ ان كنت طفلاً في العاشرة وحتى عمري الآن.. ثلاثون سنة من القراءة يا صديقي إنه وقت طويل، أليس كذلك؟

- نعم بالطبع أنه وقت طويل ..وكم كتاباً ألفت؟

- أنا ..؟أنا الآن عاكف على تأليف قصص دوّنت أفكارها في دفتر.

- عن أي شيء تتحدث؟

- لا لا.. لن أستطيع البوح بتفاصيلها

- قبل هذه القصص هل كتبت شيئاً؟

- لا لم اكتب...نعم ..كتبت مقالات وأفكار ومذكرات، وبعض الشعر

- إذن انت لست كاتباً محترفاً.. أعذرني يا صديقي على صراحتي

- لا بالعكس...أنك تقول الحق ولكن ليس بالضرورة أن يكون لي مُؤلَف سابق لكي اكون محترفاً، الكثير من الكتاب ألفوا الكتاب الاول وكانوا في أنصع حالاتهم الجمالية والتأليفية، ثم أنك تصلح مثالاً لي هنا.

- أنا ...كيف أصلح لك مثالاً؟

- أنت لم تكتشف دواء او علاجاً من قبل، وها أنت تزعم انك قادر على اكتشاف دواء للفايروس الذي على وشك أن يفني البشرية كلها، وهذا اكتشاف عظيم على باحث مستجد مازال يتلمس طريقه، وبالمقابل انت واثق من نجاحك ..أليس هذا صحيح يا رفيقي؟.

ينظر الطبيب صوب الكاتب، في حين أن الكاتب ظل يحضر العشاء، ولم يتردد الطبيب في سؤال الكاتب عن امكانية رؤية المكتبة لاحقاً (نعم بلا شك سوف أأخذك إلى مكان عملي ،أو مختبري الشخصي الذي هو في الحقيقة مشغل الكتابة الخاص بي) يجيب الكاتب وهو يخرج الكلمات من فمه بسرعة. يجلس الرفيقان على العشاء، المائدة ذاتها التي كانت تجلس عليها الأسرة، أسرة الكاتب، يقول هذا لصديقه الطبيب ثم يستذكر معه أياماً قديمة. ذكريات عن المنطقة والمدينة والسوق والمعارف والدراسة. حين يصل الكاتب إلى كلمة (دراسة) ينتهز الطبيب الفرصة ويسأل الكاتب عن شهادته، يجيب الكاتب من دون أن ينظر:

- لم اكمل دراستي، لقد كنت أكره كتب المناهج، كنت أشعر انها قيود تحيط بعقلي لهذا لم افلح

يتساءل الطبيب:

- لا أدري ولكنني أعتقد أنك مخطئ يا صديقي

- لماذا؟

- الدراسة المنهجية تقوّم أسلوبك في الحياة، توفر لك الخبرة مثلاً، وهذا ما تحتاجه حتى في كتاباتك على ما اظن.

يبلع الكاتب آخر لقمة من صحنه، ثم يتحدث بهدوء:

المسألة بعيدة عن قصدك ،أنا قرأت مئات الكتب، الكتب التي لم تُفرض على ذائقتي، المسألة يارفيقي هي مسألة حبس. أنا أشعر بالحبس داخل زنازين الكتب التي تُفرض عليَّ، وهذا ما يرهقني صراحة. ناهيك عن أن الإبداع فن، والفن لا يحدده أو تصنعه دراسة، بل هو ملكة داخلية لدى المبدع، يستطيع الوصول إليها بمجسٍّ جمالي خالص. ولكَ في عشرات الكتّاب الذين لم يفلحوا أو تركو الدراسة مثالاً. أعتقد لو اكملوا دراستهم لصاروا حبيسي زنازين المناهج والدروس..

- رأيك.. أختلف معه ولكن أحترمه

***

في اليوم التالي يعلن الكاتب أن مخزون الطعام سينتهي، يعترف الطبيب أنه كان السبب معتذراً عن حضوره المفاجئ، لكن الكاتب يرد: لن يجدي اعتذارك الآن. سنخرج لنفتش عن بقايا طعام في المباني القريبة، وإن لم يحالفنا الحظ نحن مجبوران على توسعة رقعة البحث في المدينة. يوافق الطبيب، ويظهر للكاتب أنه سيضحي بوقته وجهده الذي هو مكرس لإنهاء بحثه حول الفايروس وعلاجه، الطبيب يعلن بين حين وحين أن الوقت ثمين بالنسبة إليه، ليرد الكاتب عليه في كل مرة: النجاح الوحيد الذي يجعلك تحقق حلمك هو العثور على طعام في هذا الجو البارد.

يخرج الاثنان إلى الشارع، منزل الكاتب يطل على تقاطع طرق على يمينه وشماله هناك مجموعة من المنازل، وأمامه شارع طويل على جانبيه بنايات كبيرة معظمها شقق سكنية، ومحلات في الطابق الأرضي من تلك البنايات. الطبيب يحمل على كتفه حقيبة فارغة، والكاتب يحمل سلاحه قائلاً:

- هناك الكثير من الحيوانات المفترسة، بعضها أتى من البوادي والغابات، لا أعلم من أين جاءت الفهود أيضاً، لقد رأيت فهداً قبل فترة ،ولعل هناك أسوداً ولبوات ونمور. بالطبع الضباع والذئاب والثعالب وبنات أوى كلها هؤلاء موجودون منذ زمن بعيد. إذا وجدنا أي حيوان نصيده.

- هل تعمل الادوات لديك بشكل صحيح؟

- نعم

- كيف بنا إذا عطلت إحداهن؟. من أين نأتي بمصلح أو ميكانيكي ونحن نسير بمفردنا في مدينة كانت تضج بالناس قديماً؟ أنا خائف لو اتى إعصار مفاجئ مثلاً أو ريح حمراء عاتية، تهشم ما تبقى من أعمدة كهربائية ومحطات التحويل، حينها سنغط في ظلام، وأفشل أنا على المستوى الشخصي في إدارة عملي وإنجاز تجاربي المستقبلية؟

يحث الكاتب خطاه ساقاه الطويلان يساعداه على المسير أسرع من الطبيب القصير، ثم يجيب الطبيب وهو ينظر إلى الأفق أمامه:

- لا أعلم ولكن عزاؤنا أن محطات التوليد التي تعمل على الطاقة المائية مازالت على قيد التشغيل، لقد تعطلت أغلب المحطات التي تعمل على الطاقات الاخرى كالنفط والغاز. ثم أن الطاقة التي لم يعد أحد بحاجة إليها لخلو المدينة من ساكنيها، صار فائضة الآن ومع هذا وجدتني اكثر من مرة وانا أجول في الشارع، ادخل هنا وهناك أطفئ الانوار المنبثقة من النوافذ، وأثناء تجوالي اليومي في البحث عن طعام أيضاً، لقد تعمدت المحافظة على الكثير من المنازل وأدواتها وأثاثها

- لماذا..؟ هل يهمك أمر المنازل الخالية من البشر

يزيد الكاتب سرعته حتى تصير المسافة بينه وبين الطبيب عدة خطوات ويكمل كلامه بصوت عال لكي يسمعه الطبيب بوضوح:

- أحافظ على المنازل لأنني مازلت على قيدهن، في كل يوم أجلس صباحاً وأنا أفكر في عودة الحياة إلى طبيعتها. المنازل والمدينة والشوارع كلها تسكن في ذاكرتي قديماً ومازالت، لهذا انا أعيش معها حتى تراءت لي أنها تحدثني وأحدثها، بل صارت هذه البنايات والأماكن الخالية كالرفيق الذي يهمس في قلبك من دون أن يحرك شفتيه.

يتوقف الكاتب عن المسير، وقد وصل إلى نهاية الشارع الذي أتى منه الطبيب أو مرة، ثم يلتحق الطبيب بالكاتب بصعوبة ليقول له الكاتب شيئاً:

- أنا لست مصاباً بالفايروس على فكرة، وأنا قادر على تلقيح بويضة أي امرأة لكنني عزفت عن هذا وكان خطئاً وصواباً في الوقت ذاته

- لست مصاباً؟ كيف عرفت هذا؟

- حين أنام وتزورني بعض الأحلام الحمراء، لم تصادفني أعراض الفايروس (RSS) من ارتداد منوي يؤذيني.

يكمل الكاتب سيره ويظل الطبيب سائراً على مهل، وهو يفكر في ما قاله الكاتب قبل لحظات ثم يهتف وراء الكاتب:

- انا أيضاً معافى من الفايروس، لقد كنت أظن أنني الوحيد الذي لم يصبه الفايروس، أعتقد أن مناعتك التي حمتك من الفايروس ذاتها المناعة التي عندي، لهذا نحن سليمان.

- لست أدري ولكن هذا لا يهمني

- لا يهمك إن كنت سليماً أو غير سليم ! عجيب ! إنه شيء سار وانتصار حقيقي لتطور الجسم البشري على آفة فتكت بنا وانت لا تهتم؟!.

- لقد قلت لك سابقاً أنا مهتم بمنجزي، كتابي الذي سوف أنهي تأليفه لاحقاً سيكون سلالتي التي ترثني، ولست مهتم بسلالة غيرها.

***

يطالع الطبيب بنايات شاهقة، يضع كفه على عينه اليمنى ويغلق الأخرى، ثم يصدع لأمر المسير منطقة بعد منطقة. يقطع الاثنان مسافة بعيدة عن المنزل. يدخلان إلى مبان ومحلات. يضع الكاتب أي شيء صالح للأكل في الحقيبة. لم يجد الكثير من المعلبات، ولم يعثر أيضاً على الطعام في الثلاجات. يعثر فقط على علبة متوسطة من مربى التين، وعلى علبتين من معجون الطماطم، يتأكد من تاريخ صلاحيتها، ثم يضعها في حقيبته المحمولة. يحدثه الطبيب اثناء خرجوهما من إحدى البنايات:

- هل ستعود الكائنات التي اوشكت على الانقراض إلى الحياة؟

ينظر الكاتب بعيداً ثم يحدد وجهة أخرى للمسير ويجيب الطبيب:

- لا أدري..

- لقد عشت مدة في إحدى المنازل القريبة من الجانب الثاني للنهر، كنت أعيش مرعوباً في الحقيقة لأن أغلب الأضواء في تلك البقعة قد انطفأت، أعتقد أنها مرتبطة بمحطة التوليد النفطية في صوب المدينة الآخر، لم يعد يعمل في المحطة أحد، تهالك العمال وفنوا، وظل مستمراً في العمل واحد أو اثنان من العمال، لكنهم لم يصمدوا ولم نرهم بعد. لقد صار الصوب الآخر من المدينة خالياً نهائياً من أي حركة، لهذا تحركت إلى هذا الصوب بحثاً عن رفيق.

ينظر الكاتب بعيداً ثم يتأكد من سلاحه، يبطئ الكاتب من مسيره ثم يتحدث وعيناه لا تحيدان عن النظر إلى الأمام:

- نعم نعم.. كما قلت لك أن محطات التوليد الكهرومائية هي المحطات الوحيدة التي تعمل، ولن تعمل طويلاً بالطبع فهي معدة افتراضياً لعمر معين وسيصيبها عطل بلا شك إن لم تكن هناك يد بشرية فوقها تديرها وترعى معداتها وصيانتها.

- هل سمعت عن الكوارث التي حلت بالعالم نتيجة تبخر المياه في المحطات النووية؟

- لا (يقول الكاتب ثم يأمر الطبيب بالتريث عند المشي)

- حين تبخرت المياه انفجرت تلك المحطات وصارت كوارث عديدة. لكن الكوكب الآن بدأ بالتعافي. الأرض كالبشر أيضاً تتطور وتحمي نفسها من أي كارثة تحيط بها أو في بيئتها. بعد تلك السنوات التي اعقبت التلوث في العالم، اختفت الغازات الضارة، هل تصدق أن غلافنا الجوي الآن أكثر نقاء من السابق، انظر إلى الخضار كيف يزحف على المدينة ،هذه الشوارع تملأها الخضرة في الطرقات. المدينة سوف تكون غابة كبيرة بعد مدة، كما حدث في المدن الأخرى التي سبقتنا إلى الانقراض قبل سنوات.

يتوقف الكاتب ثم صوب بندقيته إلى الأمام، ينظر الطبيب إلى الحيوان الذي اقبل صوبهما. لحظات فهم فيها الطبيب أنه ورفيقه الكاتب في مواجهة حقيقة مع لبوة ضالة. يستمع الرفيقان إلى هريرها ثم تزأر بقوة، يجفل الطبيب ويختبئ وراء خزان كبير، يهتف الطبيب: اطلق عليها النار...ستأكلنا ...ياويلي خرجنا نبحث عن طعام وسنصبح طعاماً. يتريث الكاتب قبل أن يطلق النار عليها، تراوح اللبوة في مكانها ثم تنظر مرة أخرى إلى الكاتب وتزأر بصوت أعلى، لكن الكاتب يظل صامداً في مكانه يفكر حينها برمي رصاصة عليها مباشرة، لكنه يستثني عن هذه الفكرة. ففي تلك اللحظة يخرج من الشارع الضيق شبل صغير، تنظر اللبوة الي شبلها ثم تعود إلى الشارع الضيق، تمرغ رأسه بلعاب لسانها، يفهم الكاتب أن المنطقة تلك صعب عبورها، يرجع إلى الوراء على مهل مخاطباً الطبيب بحذر منبهاً إياه بالرجوع إلى الوراء وترك المنطقة تلك فوراً. ينهض الطبيب ثم يركض. يحذره الكاتب (لا تركض) ومازال مصوباً بندقيته إلى اللبوة، يبتعدان عنها مسافة ثم يرتب الكاتب حاجياته قائلاً: أنثى عنيدة.. لو لم يكن لها شبل تدافع عنه لكانت حكيمة وهربت. الإناث لعينات يدافعن حتى الموت عن فراخهن.

يضحك الطبيب لكن وجهه مازال مصفراً ويتحدث بسرعة:

- الأنثى تحب أفراخها أكثر من الذكر. تشعر إنه جزء منها كعضو من اعضائها الجسمانية. الذكور لا يشعرون بهذا لأنهم لم يهبوا غير حيامن مليئة بسكر الفركتوز والبروتين ومجموعة من المعادن في لحظة نشوة. أما النساء يهبن الأولاد في لحظة موت حين يلدن، لهذا تراهن مهتمات إلى هذا الحد.

(انا معك ...) يخاطب الكاتب رفيقه الطبيب الذي يستمر في حديثه:

- الإناث عموماً ماكرات، والمرأة البشرية خصوصاً وبشدة، تخطط بذكاء كبير، وتتحرك وفق مسارات مدروسة. المرأة لا تعبث، فهي المسؤولة عن بقاء الجنس البشري، لأنها تبحث عن لذة الإثمار في هذه الحياة.. الإثمار هوسها وهوس الإناث الباقيات من الأحيائيات حيوانات وأشجاراً.. الرجل مع كل قوته وسطوته وغطرسته ومسكه لمفاتيح القرار، يظل غريقاً في بحر من التوافه. مشاريعه ذاتية، تجارة، إدارات، شهادة، قذف ملايين الحيامن بلا تخطيط...الرجل مسكين بلا مشروع، هو ليس مع زوال السلالة أو بقائها. العالم الآن متوقف على وجود أنثى لديها مناعة، لكي نبدأ مسيرة أخرى في حياة البشر..

***

قال الكاتب أثناء دخوله للمنزل مع رفيقه الطبيب:

- أريد الحديث معك بصراحة.. هل عثرت على خيط يوصلك إلى اكتشاف علاج ناجع للفايروس؟، أم أبحاثك مجرد تسلية.

- تسلية..؟!!.. كلامك مضحك فعلا - لا تؤاخذني - فبحثي العلمي مستمر وأنا متفاءل

دخلا إلى المطبخ لترتيب غنائمهما ثم قال الكاتب:

- على ما أظن أن كل ما جاء به الإنسان منذ بداياته وحتى هذه اللحظة، هو لكسر حاجز الملل في هذه الحياة البائسة. تخيل التجارة والسياسية والبحوث العلمية والفن وصولاً إلى الألعاب والأعراف الاجتماعية وقائمة طويلة في كل شيء عهدناه من تسلية وترفيه، كل هذا لمجرد المساعدة على محاربة الملل. البقاء على قيد الحياة لا يتطلب معجزة. لهذا أعتقد أن بحثك مجرد تخدير لعقلك، لإيهامه أنك قادر على صناعة شيء فريد. وهذا ما يمنحك خيار البقاء على قيد الحياة إلى الآن، ولم ترم نفسك من شاهق أو تطلق على رأسك رصاصة.

ضحك الطبيب بصوت عال، ثم سكت وهو ينظر إلى الكاتب قائلاً:

- وإن قلت لكَ أنني وصلت إلى مسك طرف الخيط. لم أشأ أن أبوح بكل شيء سابقاً، ولكن الشيء المهم الذي أريدك أن تعرفه أنني توصلت، وقد رصدت موقعاً من قبل لإنشاء مختبر أبحاثي ولا ينقصني سوى العيّنات التي سأعتمد عليها في بحثي، أشخاص مصابين بالطبع، وهذه مهمة لا يمكن إنهائها بمفردي

- هل تريدني أن أساعدك في صيد ما تبقى من البشر المصابين لكي تستخدمهم في أبحاثك؟

- أحسنت (يهتف الطبيب ويكمل) إذا عثرنا على مجموعة من البشر المصابين، سأستخدمهم في بحوثي، وهذا ما لا أقدر على فعله لوحدي بالطبع، وأحتاجك في إنهاء هذه المهمة..

بعد أن أكمل الكاتب العشاء، يجلس على بعد يقلب في أوراق، وينظر في كل حين إلى الطبيب الغافي على الأريكة. يترك المكان ويذهب إلى غرفته. يقترب من جهاز العرض المربوط بشاشة. يشغله ويطالع بعض الفيديوهات القديمة لأبيه وامه وله حين كان طفلاً. يراقب أدق تفاصيل الفيديو تلو الآخر، لتلك اللحظات التي مرت ولن تعود. يفكّر في كلام الطبيب طويلاً، ثم يخرج من الدرج صوراً لأصدقائه وصور عائلته.

"لعل بعض الأصدقاء موجودون، لعل كثيراً منهم قد أصيبوا وتناثروا في آخر بقعة على وشك الانقراض. ومنهم من مات"

يتمتم وهو ينظر إلى الصور المرصوفة في ألبومات.. يقف مطالعاً منظر المدينة من النافذة، الدخان يتماوج في الأفق. كلام الطبيب يبعث في قلبه بعض الضيق. يحدث نفسه بصوت مسموع أمام النافذة:

"ماذا يحدث..؟ هل كلام الطبيب هذا حقيقة أم خيال؟!. هل هو قادر على اكتشاف علاج حقيقي لهذا المرض؟!. الأمل في بعض الأحيان باعث لقلق قاتل. بعد أن شعرت بخدر وراحة اليأس، يعيدُ هذا الطبيب إلى قلبي الأمل مرة أخرى؟!. لأفترض أن كلامه حقيقي، هل نعود من البداية ونحن على وشك الزوال؟!. لقد كانت آخر سنوات يعيشها العالم عبارة عن حروب وكوراث وآلام لا طاقة لأحد على تحملها، فهل سيعود هذا من جديد؟!. إنه أمل مشوّه..".

***

يفتح الطبيب عينيه على مهل، ليرى فوهة البندقية مصوبة نحوه. ينهض من مكانه، يخاطب الكاتب:

- ما هذا يا صديقي..؟ ماذا تفعل؟ هل دخل حيوان إلى المنزل؟!.

يصمت الكاتب وحين يطول الصمت يخاطبه الطبيب:

- انزل البندقية أرجوك.. لا نعلم ماذا تصنع المفاجأة

يتنفس الكاتب بقوة ثم يخاطب الطبيبَ:

- عليّ إنهاء حياتك الآن.. أنت مصدر قلق غير مجد، ولا يمكن تركك لتواصل هذا البحث اللعين وعودة البشرية إلى ما كانت عليه.

يضحك الطبيب بذعر ويقول:

- دعك من هذا.. هدِّئ من روعك يا صديقي.. إنه بحث غبي لطبيب يتسلى.. لا أدري واحتمال كبير أنني سأفشل

- لا.. لن تفشل

- إذن دعني أغادر.. أعدك أنني لا أريك وجهي ثانيةً.. سأغادر المدينة كلها

- حتى لو غادرت.. الفكرة لن تغادر رأسك.. فأنت مصمم.. لقد كنت أنتظر زوالنا. لا بقاء لنا هنا فنحن الكائن الأكثر وحشية على سطح هذا الكوكب.. لنتركه إلى الحيوانات تعيش فيه بسلام..

يمسح الطبيب العرق من على جبينه قائلاً:

- ألست تصبو لكتابة قصة؟ ألا ترغب في عودة البشرية والقراءة لك فهذا شيء عظيم

يهز الكاتب رأسه نافياً:

- لم يعد يهمني هذا.. لا قصصي ولا عِلْمكَ سيصنعان معجزة..

يريد الطبيب الوقوف والاقتراب من الكاتب لكن الأخير يصرخ في وجه الطبيب صارخاً:

- أنتهى كل شيء.. دعنا ننقرض بهدوء..

الرياح في الخارج تتحرك بقوة، بعض أبواب وشبابيك المنازل المجاورة تطرق بعنف. الحيوانات تتجول في المدينة التي بدأت تتحول إلى غابة كثيفة من الأشجار. كل هذا لم يحجب دوي صوت طلقتين ناريتين، علا صوت واحدة ثم تلاها صوت الأخرى بزمن قصير..

***

أنمار رحمة الله

دون إزميل

كسَرَتْ أطواق الياسمين سجني

عبثا أحاول مسك ذيول الحرية

عبثا أحاول الصراخ في الصمت

عيوني تلك الفنارات الدائبة

ترشد نوارس قلبي الصغير

إلى لازورد عيون أمي الدافئة

أتلهف اللقيا بمن غابوا من كوة سجني

بيني وبين أبي أرتجل الحديث داخلي

تحت الخيام هناك حيث تسكن روحي

حذائي من صقيع وعيوني جوعى

أرتشف الريح عطشا

ونافذتي من بقايا زجاج وخوذات دامية

أحلم بالعودة من نبوءات الغابرين

حيث نبتْتُ طوقا من ياسمين.

***

صباح القصير (كاتبة - المغرب)

الصّغير

فلسطينيّ من الجذوع إلى الجذور

أنا يا أبتي

فلسطينيّ أرضى، شجرتي، حجارتي

فلسطينيّ الجينات

القدس هرموناتي

القضيّة مُعلّقة في لُهاتي

وشم منحوت على جدار قلبي

من قبل قطع حبل سرّتي

ومنذ تكويني في رحم أمي..

وتد أقمنا عليه نخوة شرفنا

راية جعلناها سترة للحيّ والميّت

فَلسطينيّ أنا يا أبي

أوصيكَ

بحقْ موسى، عيسى ومحمد النبيّ

ألاّ ترثني..

يوم تشهد مصرعي

لا تجعلْ دمعة تسقط من عينك

على وجنتي

دموعك درر.. والدّرر قلادة في جِيد هذا الوطن

أرجوك أبي

لا تقل قصفوا ولدي حين كان يلهو بالحجارة

قل كان يشكّل له قصرا في جنّات عدن

لا تقل مات...

الشّهداء لا يموتون

سيظلّ طيفي مرابضا في الأقصى

وفي كلّ مسجد

ويظلّ صوتي رعدا معربدا في قلب العدوّ الخائن

وتظلّ نظرتي سيفا في عين الجبان القاتل

نسرا ينقضّ على الغادر عند كلّ مضجع

ارفعني أبي وصلّ على النّبيّ

صلوات الله على الحبيب الأمجد

عصافير الجنْة عند المعراج تنتظرني

والزّبانيّة لهم في الموعد

فَلسطين موطني

فَلسطين فصيلة دمي

فلسطين سمعي، بصري، رئتي

فإن مِتّ على صغري

ألفُ حبّة قمح ستنبت في ماء جبهتي

الفُ حمامة سلام ستحطّ على شفتي

ألفُ غرسةِ زيتون ستنبت في كفّ يدي

وبين أضلعي

الرّبيع لا يخبو في فلسطينَ بلدي

فلا ترثني أبي

قل استشهد فلذةُ كبدي

قل كان أُسوة في النّضال والمقاومة

لقّن العالم دروس البسالة

لا ترثني... عدني أبي

أنا حيّ.. وعطري يفوح

أنا حيّ... ودمى يُشفي القروح

عدني...

ولا ترثني يوم ترى مصرعي

الفَلسطينيّ لا يموت وحقّ النبيّ

الفلسطيني فخر لكلّ العرب

الفلسطيني فخر لكل العرب

***

سونيا عبد اللطيف

تونس في جوان 2021

- نعم سيدي الأديب المحترم.

يتخذ الأديب المحترم مجلسه قبالة المذيع التلفزيوني، المذيع يهيئ نفسه للبدء في طرح الأسئلة، فيما يحاول الأديب المحافظة على العلاقة البصرية به، كي يكون التواصل بينهما قويا كما اقنع نفسه بعد أن قرأ مقالة حول هذا الموضوع.

يتوجه المذيع إليه سائلا إياه:

- لنبدأ الأسئلة، كيف تنظر إلى الأدب الفلسطيني اليوم، بعد كل ما حصل من متغيرات فيه وفي العالم المحيط به؟

يتحرك الكاتب في مقعده:

- اعتقد أن هذا الأدب يشهد حاليا فترة غير مسبوقة من الازدهار، وان فترة تبعيته للسياسة انتهت، قارئ هذا الأدب شرع اليوم يطالب بأدب حقيقي يوقظ الإنسان في داخله، قارئ هذا الأدب لم يعد يكتفي بالشعارات، كما حصل في العقود الماضية، وبات الكاتب أمام واحد من تحديين إما أن يكتب عن إنسانيته، معاناته اليومية، ما يفرحه وما يحزنه فيها، وإما يلم أوراقه ويركن إلى الراحة. الأدب الفلسطيني في الفترة الماضية اثر أن يكون تابعا للقرار السياسي، لهذا لم ينتج قصة وشعرا ذا بال، ومن أراد الإبداع فيه، تحول فيما بعد عن تبعيته هذه وتمرد عليها، وانصرف إلى الإنتاج الحافل بالحس الإنساني، اعتقد أننا يجب أن نولي هذا الحس ما هو جدير به من اهتمام، لأنه هو ما يساهم في التطور الأدبي والمجتمعي، أنا مثلا من قرية مهجرة إلا أنني كنت واعيا منذ البداية إلى أن للسياسة رجالها وللأدب رجاله، لهذا لم اكتب أدبا سياسيا مباشرا، وأنتجت منذ البداية مثل هذا الأدب. أنا مثلا...

يقاطعه المذيع:

- فيما بعد، فيما بعد نتحدث عن تجربتك الشخصية، الآن أريد أن أسالك هل كان الأدب الفلسطيني كله مسيسا في الفترة السابقة؟

- كلا ، بالطبع كان هناك مبدعون اثروا أن يكونوا أدباء، يكتبون أدبا إنسانيا إلا أن هؤلاء كانوا قلة واستثناء، أما الكثرة فقد فضلت أن تستفيد من سطوة الأحزاب لهذا تم تسليط الضوء عليها وتم تجاهل الشريحة الحقيقية في مجال الإبداع، ربما لهذا بات من الواجب علينا أن نعيد تقييم أدبنا شعرا ونثرا.

- الم يجمع البعض بين الإبداعين ألسياسيي والأدبي؟

- كانت هناك محاولات، إلا أن السياسة كانت هي الطاغية، وأنا لا أنكر أن انتهاج أدبائنا للسياسة أحسن للقضية والوجود الفلسطيني في البلاد، إلا انه بقدر ما أحسن، أساء، لقد أحسن على المدى القريب، في توصيل قضيتنا إلى العالم، إلا انه تجاهل بهذا، الدور الذي يقوم به الأدب ويؤديه في الحياة وهو اغناء الروح الإنساني، عبر نقله للتجارب الحقيقية.

المذيع مقاطعا:

- وما هي هذه القضايا؟.

- إنها قضايا تتعلق بالمشاعر تجاه ما يدور في مجتمعنا من قضايا، قضية العنف في الأسرة، قضية المرأة، قضايا القوانين التي تفرضها السلطة الإسرائيلية علمنا كمجتمع ما زال اقرب إلى ألفلاحي في عقليته منه إلى المديني، أنا مثلا أثرت في كتاباتي معاناتي..

المذيع مقاطعا:

- فيما بعد نتحدث عن تجربتك الشخصية. نحن نعرف انك صاحب تجربة غنية وخاصة، فيما بعد نتحدث، الآن أريد أن أسالك عن استقبال القارئ لهذا الأدب.

يتأفف الكاتب في مقعده:

- القارئ عادة ما يستقبل ما يقدم إليه بحسن نية، في الفترة السابقة انجرف هذا القارئ مع الجو العام الذي فرضته الأحزاب السياسية بتشنجاتها، أما في الفترة الراهنة، فترة الفضائيات فان هذا القارئ بات أكثر حرية في الاختيار، فهو يجلس في بيته ليقرا ما يشاء وليشاهد ما يروق له، دون أي حسابات خارجية كما حصل في الفترة السابقة.

المذيع:

- لكن يوجد هناك من ما زال يحن إلى الفترة السابقة ويرى أن كتابها أنتجوا أفضل مما أنتج كتاب هذه الفترة المتصفة بالتشتت كما يرون.

الكاتب:

- من هم هؤلاء؟ لقد قرأت ما كتبه بعضهم، هو من بقايا الفترة الماضية، وما زال يؤمن بقيمها، ولا يستطيع أن يتأقلم مع الفترة الجديدة لأنه غريب عنها. ما كتبه هذا أو ذاك في هذا المجال لا يعدو كونه حنينا إلى الماضي، لا يرى أصحابه الواقع كما ينبغي. هؤلاء لا يعرفون أن القضايا المجتمعية باتت هي الأشد إلحاحا، أنا مثلا كتبت عن قضية...

المذيع:

- فيما بعد فيما بعد نتحدث عن تجربتك الشخصية وعما كتبته. لقد انتهى وقت البرنامج، هل تريد أن تقول كلمة خلال ثانية هي المتبقية من وقت البرنامج؟

الكاتب:

- فيما بعد فيما بعد نتحدث.

يغادر الكاتب الأستوديو، يضرب في الشوارع على غير هدى، يلح عليه ما جرى في المقابلة، هو تحدث عن العديد من القضايا، عن معظم القضايا تقريبا، إلا عن قضية واحدة هي قضيته الشخصية، قضيته الحارقة مع زوجته ومجتمعه، يرسل الكاتب نظره إلى الأفق العيد، ما هذا الفراغ؟

***

قصة: ناجي ظاهر

شاعرٌ وحيدٌ

يبحثُ عن امرأةٍ كونيّة

ويُفكّرُ بكتابةِ قصيدةٍ

بسعةِ حلمٍ لا ينتهي

فَهَلْ سيجدُ الأنثى

التي يُفتِّشُ عنها

منذُ صبواتِهِ الاولى

وأَمكنتهِ السريَّةِ

وأَزمنتِهِ السائلةِ

مثلَ ساعاتِ "سلفادور دالي"

المرميةِ في فراغ الغيبِ

وعراءِ الله؟

وهَلْ يقدرُ في يومٍ ما

أَنْ يكتبَ القصيدةَ

التي لم يستطعْ كتابتَها

أَيُّ شاعرٍ آخر

في هذا العالمِ

الذي يفتقدُ الحُبَّ

والحقيقةَ والبُرهانَ

ويخلو لأسبابٍ غامضةٍ

وربَّما واضحةٍ جداً

من أَيّةِ شعلةِ يقينٍ

وإشراقةِ فرحٍ وجمالٍ

وهديلِ يمام

ويفتقرُ لغناءِ العاشقينَ النبلاءِ

الذينَ لا يعرفونَ القهرَ

والخيانةَ والجوعَ

وقسوةَ الغياب

***

سعد جاسم

2023 - 8 -12

يغفو و يصحو بالتّمنّي

بالظَّنِّ .. لا ضنّاً بظنِ

*

يمشي و تتبعه الرؤى

رهن الخيال و محض وَهْنِ

*

لا تمشِ خلفي مسرعاً

بل إبتعد بالنأي عنّي!

*

ما كنتُ أنظرُ تابعاً

يسعى لشأنٍ غيرِ شأني

*

ما كنتُ أقصدُ غايةً

سارت بمجذاف التَّجنّي

*

دعني .. فلا (ليلى) أتتْ

حتى تجيءَ بنظم لحنِ

*

ماتتْ بليلى القهقها

تُ و أضمرتْ حزناً لحزنِ

*

دعني و دعها لا نطيـ

ـقُ حكايةً ضاعتْ لحُسْنِ

*

ها قد عقلنا بعدما

عشقٌ تعطّلَ عند سنِّ

*

ابعد فقد عقلتْ نهاي

و صحتْ من السُّكْر المُجِنِّ

***

رعد الدخيلي

في مقهى الطّرف،

وعلى حصيرٍ حَفَظَ عظامَ مؤخراتِهم،

وتشمّمها واحداً واحداً،

أملساً كان أم خشناً،

ليّناً أم متكلّساً.

يدخّنون ما تبقّى من أعمارِهم،

يجترّون ذكرياتِهم التي رحلتْ بزورقٍ  مثقوبْ،

يحلمون بامرأةٍ، متوثّبةٌ أثداؤها

كعصافيرَ فزعةٍ من صيادٍ أثول،

عسى أن يتذكروا لحمتَهم المتهدلةَ .

معظمهم يتباهى بذكرياته في شارعيَّ النهرِ  والعرصات،

وببناطيل (الچارلس) والكذلةِ المدهونة بدهان تاتا (زيت جوز الهند).

النّسوةُ الآن غير النّسوةِ بالأمس، يطالبنَّ بالإثباتِ علناً،

لكن الشاهدَ مات سريرياً .

والمزاجُ  انقلبَ عابرَ سبيلٍ،

وشهوةُ لساني في انزلاقِ الحروفِ

باتت كهجرةِ الألوانِ من قوس قزح .

*

يطهرون ألسنتهم بملحِ كتابِ الله صباحاً،

لا أحدَ يعثرُ على ظلالِهم في ظهيرةِ تموز،

شتلة روحٍ تمشي نحو غارسها،

بصريح العبارةِ جسدٌ يخذلُ صاحبَه.

*

لا أحدَ يحتاجُ إلى ألَم  الآخرِ،

نبوآتُهم مضحكةٌ،

وأحلامُهم حصةٌ خفيفةٌ من الأوكسجين،

وقرص (باندول) صنع في سامراء.

وعقار يخذلُ شموخَ الضغطِ،

ولفافة تبغٍ  و(استكان) شايٍ بلا سكر ٍ

ملّوا من النّظر إلى تجاعيدِ وجوهِهم في المرآة

فابتلعهم  زئبقُها،

متضامنون في السّعالِ

والتّثاؤبِ

والعودةِ الى البيتِ قبل فطام الأطفال .

***

مهدي القريشي

نحن لا نساوم الاحتلال

وإن رسخت مداميكه

وأمم الأرض تناصبنا العداء

نحن نقاوم دولة السراب ..

ونُخرج الخبث والتنقير

من ارومته

والكيد والتلوين

من سرائر الأحزاب ..

ما ضرنا ألسنة القدح

وإننا ضراغم

نشرب كؤوس الموت

ولا نخشى في الدنيا عذاب ..

ان طوى الإخوان بعض جوانبنا

فالطوفان سيف قائم وصواب

به لا نرجو حديث مجد أو مدح منقبة

نحن أولي البأس الشديد

نجوس الديار ونفعل

إنه وعد الكتاب ..

***

د. علي الباشا

كاتب سوري / مقيم في السويد

في غــزة

حيث الدم:

وضوءُ  الكلماتْ

*

وطَهُور  المارِّينَ إلى الله ِ

بأرواحٍ صَدَقَتْ

عهـــداً..وثبـــــاتْ

*

وصلاةً  أخرى حاضرةٍ

ترفعها الفصحى بتحريرٍ...

تَحْمِلها إلى النور

فضــــــــــــــاءاتْ

*

والحــــجرُ:

بياض الوجهِ..

رَأْب الصَّدْعِ

شَـــرَفٌ آخر:

بأيدِ ممانَعَةٍ

وعكاكيزٍ...

وشموخ ظفائرِ باسلةٍ...

وأبابيل بَـــــــراءاتْ:

ترمي بسم الله: العزى

ومناة الثالثة الأخرى

والـــــــــــــلاتْ !

*

وحقائب واعدةٍ

بحضور الدرس اليومي

والإقدام بحزمِ

وركوب (اللابُدْمِنْهُ يوماً)!؟

والخوض

بأقــــلامٍ...ودواة !

*

في غــزة...

ياكــــــــــل الجهاتْ

حي على خير جهادٍ

حيَّاها النخوة يا (قاتْ) !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

طِلّي لغزّةَ يا عيوني

طَلّاً تفيضُ بهِ جفوني

*

واسقي السُّفوحَ المُصحِراتِ

المُطْبِقاتِ على الغُصونِ

*

وتجاذبي التأريخَ مِمَّنْ

يكتبونَ ليكتبوني

*

فأنا الحقيقةُ والجميعُ

تجَمَّعوا كي يدفنوني

*

دُوَلٌ تُحاصِرُني وكم

مِن مرّةٍ قد حاصروني

*

لكنَّ أبناءَ العروبةِ

والعُروبةَ ضيَّعوني

*

حتى إذا إيرانُ جاءتْ

والعراقُ لينصروني

*

قلتُمْ تشيَّعْتُمْ إذنْ

ومِنَ المجوسِ حسبتُموني

*

ولغيرِ أُمتِّكُمْ خلالَ

دقيقتينِ نَسَبْتُمُوني

*

مِنْ أجْلِ مَنْ بِعْتُمْ دَمي

مِنْ أجلِ مَنْ بعتُمْ عيوني؟

*

نِمْتُمْ على ضرَباتِهِمْ

ضرباً يَشُقُّ عصا السكونِ

*

خسِئوا يغيبُ جميعُهُمْ

وأظلُّ مُشرِقةَ الجبينِ

*

مِنْ بيتِ لحمٍ للخليلِ

لخانِ يونُسَ مِنْ جِنينِ

*

مِنْ جانِبِ اللَّدِّ القريبِ

لبيتِ مقدِسِنا الأمينِ

*

يافا أريحا رَمْلَةٍ

مُدُني التي شاخَتْ بدوني

*

مِنْ كلِّ ناحيةٍ أصولُ

مِنَ اليسارِ إلى اليمينِ

*

يا مُرجفينَ تعلَّموا

لغةَ الرجالِ وكلِّموني

*

أنا أختُ هارونَ العفيفةُ

لم أخُنْ بل خُنتموني

*

عندي دليلٌ فاسألوا

يا أُمّتي هذا جنيني

*

قالَ انصُروها إنّها

عربيةُ الدَّمِ والعيونِ

*

عذراءُ مِن قبلي ومِن

بعدي وتبقى كلَّ حينِ

*

لكنّهم رجَموكِ يا

أُمَّ القَداسَةِ والفنونِ

*

قتلوا الطفولةَ فيكِ

واجْتثُّوا العفافَ معَ الغصونِ

*

منعوكِ شربَ الماءِ يا

أُمَّ المنابعِ والعيونِ

*

منعوكِ حتى الخُبْزَ يا

قَمْحاً ويا خبزَ السنينِ

*

أنا مريمٌ تحتي السريُّ

يفيضُ بالماءِ المَعِينِ

*

سأهزُّ جِذْعَ النّخْلِ ذا

رُطَبٌ لآلافِ البطونِ

*

شكراً لكمْ يا أمّتي

يا أُمَّ مُخْتَلَفِ الظنونِ

*

مَنْ كانَ مِنّا خائناً؟

مِنْ حَقِّكمْ أنْ تسألوني

*

فمعَ اليهودِ وجدْتُكمْ

ومعَ الحُسينِ وجَدْتُموني

***

وحيد خيون

22-10-2023

تجُربة لم تألفها من قبل ولمّ تفكر أَنها ستخّوضها في يومِ من الايام بعد ان طلّب منها أبناءُ السيدة (تغريد). هكذا كانت تحُب أن ينادوها دون مكّنى، بالعملِ عنٍدهم في المنزل تحت مُسمّى خادمة لوجودهم فترات طويلة خارجه. فما كان منها اِلا المواّفقة على عرِضهم الذيْ جاءَّ في الوقتِ المنُاسب، لتكَون بعيدةٍ عن منزلِ شقيّقتها وزوّجها، الذي أبدى تذمراً واضحاً من وجودهِا، بعد أن اِّفنت شبابها وأشتد عود ابنائهم وأنتفّت الحاجة اليها.

كاَن للسيدةِ (تغريد) عقلاً خوارّزميا في الحسابِ رغمَ كِبر سِنّها أضافة لمِا تقوم بهِ من كتابةً وتدّوين لْا حداِثها اليوميةَ في دفتٍر لا يفارًقها نهاراً، و يقبُع تحّت مخِدتها ليلًا. أول شئ فكرت فيه هو أن تنُسج علاقةٍ ودودةٍ بينها وبين العُجوز، بعد اْن ترّكت منزل شقيّقتها و شعرت بأنها امرأة كسيرة لا سَند لها. العجوز التي تبدأ صباُحاها بوضع أحمر الشفاه يوميا و بعنايهٍ فاّئقة، ليبدو شكلها أشبه بشكل الملكة اليزابيث، و بعدها تبدأ تروي لها و تقص عليها ايامِ شبابها وسفرها مع زوجها حول العاّلم في حديثِ قد يطول في كثير من الاحيان. بعد عدة ايام أصبّحت حياتها لا تقل عتمةً عما كانت علية فقد كان نومها متقِطعا مع طلبات العجّوز التي لا تنتهي حتى صياّح الديك، بالإضافةٍ للمنزل الكبير الذي كان يأخذ منها وقتاٍ و جهدٍا كبيرين لا يتنّاسب مع سنها، الذي لم تستطيع أن تخفُية بسببِ أخاديد الزمن التي لا يمكن رُدمها. وسلوك العجوز الذي تبدل فجأة نحّوها، حين بدأت بتوبيخها لأتفه الاسباب حتى انها في أحيان كثيرة كانت تُناديها يا خادمة، أصبحت تلُقي بالحججِ واللوم عليها، تاّرة بالطعامِ المالح، وتاِّرة أُخرى ا نها لا تلبي لها طلُباتها، مما دفعها لتقوم بكتابةِ وتدوين أشياء من نسجِ خيالها في دفترها واِتهامات باطّلةُ لا حقيقة لها، وتقوم بعرضها على أولادها كي يقوموا بطردها، وكأن عناّداً قد تمحض لديها ففي أحيانا كثيرة تسمعها تردد، أنا لست عجوزا انا فقط أكبرك ببضع سنين، يبدو أن غيره متأخرة قد أصابتها. أقسمت المرأة لأولادها بأنها تقوم بواجبها مع والدتهم على أتم وجه، حتى تحشرج صوتها ولم يعد هناك كلمات تخرج قسمًا اخر تقسمُهِ،

تقطعت بها السبل مما دفعها بأن تطلب من احد مكاّتب التشغيل ان يجدوا لها عملًا اخراً في احد المنازل، سألها الرُجل الذي كان يتحدث اليها  كم عمرك ؟ اربعون او اكثر بقليل. اعتذر لها بسبب سنها. قائلا : غالبية الناس تطلب نساء شابات للعمل من الصعب أن اجد لك عملٍا وأنتِ في مثل هذا السن ثم أردف قائلا هل تعانين أمراضا مزمنة ؟ لا أبدا أنا بصحة جيدة، فأنا طباخة وماهرة ولي خبرة كبيرة ايضا بالتمريض. بعد الحاح كبير منها حصلت على عملٍ جديدٍ في منزل لزوجين مسنين. وافقت على الفور وحملت صرة ثيابها كلاجئة تبحث عن وطنٍ، وانتقلت للمنزل الجديد. كان الزوجان يشغلان الطاّبق الارضي، اما الطابق العلوي كان يشغلُه أبناؤهم واحفادهم. الزوجة تعاني من الزهايمر و لا تعرف من حولها، والزوج يسير بقدم ثالث (عكاز خشبي)، وهكذا كانوا هم الثلاثة فقط يتواجدون معا، الزوج منشغل يتابع نشرة الاخبار ويعد حبات مسبحته وحين ينتهي منها، يتركها تنساب من جديد من بين اصابعه، وأحيانا أخرى يسير بخطواته نحو المطبخ، يتفقد و يفتح القدور منتشيا برائحة الطعام اللذيذ، قائلا لها : منذ ان اصاب زوجتي الزهايمر وأنا لم أشم مثل هذه الرائحة الزكية أنت طباخة ماهرة، وفي مرة وهي في غفله تقوم بشؤون المطبخ ! اقترب من اذنها كمن يخبرها بخطة حرب !قائلا لها لقد تركت لك قطعة من الدجاج من عشاءي في الثلاجة تناوليها انها لك، (قلب الاغراب ارحم من قلبي ذوي الارحام)، قالت في سرها.و في اليوم التالي كرر ما فعل وجلب علبة حلويات فاخرة قدمها كهدية لها،استغربت تصرفه وطفح قلبها بشتى صنوف الوجس، بعد ان لاحظت اهتمامه المبالغ بها و بهندامه، لكنها كذبت ظنونها ولعنت الشيطان الذي همس في اذنها، وفجأة تأكد حدسها حين اقترب منها مرة ثانية وهو يلوح لها بورقة نقدية قائلا، عندي منها الكثير انها لك، فقط لي طلبا واحدا منك لا غير ! نظرت اليه تفضل أنا تحت خدمتك سيدي من دون مقابل، اقترب منها اكثر وهمس في أذنها بصوت حذر مرتجف امنحيني قبلة واحدة فقط، واعدك أن يكون ذلك السر بيننا لا يعلمه سوى الله وكلانا أنا وأنت. نظرت اليه بذهول و تركته ملسوعة وكأنها تذكرت شيئا، الى غرفتها واغلّقت بابها بأحكامٍ وبكت بنفس الدموع التي الهبت وجنتيها حينما أغلقت ابوابُ السماء في وجهِها بعد ان طردتها تغريد .اتصلت على الفور بمكتب العمل طالبة منهم عملاً جديدا في منزلِ أخر، سألها الموظف كم عمُرك.. صمتت وأصبحت سادرة مع صمتها وصوت عكاز العجوز.

***

نضال البدري - عضو اتحاد الادباء

لأن ابليس من وزع الأدوار

لم يترك سقراط كتابا

يفك لغز الشعر المتمترس

في عباءة عنترة

المبني بإحكام في معلقة

طرفة بن العبد

الذي شنقه اختياله

لتستمر سخرية سقراط

في حكايا شهرزاد

ومقصلة شهريار

*

لم تكتمل هندسة المدينة الفاضلة

في جمجمة أفلاطون

ليظل العراء مأوى المارقين

الضالعين في قراءة الجرائد

وكتابة التاريخ الخلفي

للأمم المنقرضة

لا ضير من تدوينها فوق صخرة

تشهد أن الإنسان

أكثر الكائنات كمالا

بينما عيون القردة المطلة من الأشجار

تثبت أن داروين كان على صواب

حين قال=

إن مالك الصفات الحسنة

هو الذي يعيش ويتناسل

ومن له خصائص السوء

يموت ولا يتكاثر

ولأننا ننتمي إلى الفئة الثانية

تكاثرنا ...ولم نعش

صرنا ثقلا على الكرة

زحاما في الوجود

أمطرته السماء غضبا

فجادت الأرض بالقهر

*

الإنسان والقرد...تفرعا من أصل واحد

لكن القرد تطور

نحن أتخمنا الفكر ببول البعير

وربطنا الذاكرة ببراميل النبيذ

على أمل تطور فجائي

يقتحمنا من حيث لا نحتسب

كان لدينا طائر مجنح...أسد مجنح...

ثم سرب خيول مجنحة

لكن الأصفاد والسلاسل

لم تسمح يوما بالتحليق

والمقاصل اغتالت الفرسان

قبل الحرب ...بتواطؤ وهزيمة

ليخلو الوجود من تأنيب الضمير

تتسع المساحات للسحرة الموهوبين

يسخرون شياطين الإنس والجن

ويعبثون بالمصائر

على إيقاعات الأناشيد الوطنية

وتصفيقات الجماهير المسحورة

*

كنا ...وكان لدينا....

يا أمة الأمجاد الـ خلت

أمازلت تبكين على الأطلال؟

والسيوف طائرات

تجز المدن والقبائل؟

القنابل تقتلع الحفريات من جذورها

وأنت تبكين ليلى على الربابة

هذي فلسطين الأنبياء

وهذي دمشق صلاح وبيبرس

وهذي بغداد ...ذاكرة التاريخ

أرشيف القوانين ....

على كتفيها حطت المآسي

والمسافات شرقا وغربا جنوبا وشمالا

مجرد ثكالى....انعكاسات تاريخ أعرج

يمشي الهوينا

جغرافيا عمياء.....تخيط ثوب الهراء

عباءات لأمة ....خلعت الشمس

تحت السوط...بمحض إرادتها ...تمددت

وقالت للجلاد =

ارسمني بلادا مشنوقة

على مدافنها ترقص

في قلوب أبنائها تبني أعشاش الموت

فكيف يحلق الغد والأجنحة مكسورة؟

كيف يعيد أبو العلاء المعري خطابه

وهو يدرك أن الساحة خاوية

والخشبة دكتها الخيانة؟

ما من داع لفلسفة الشعر

ولا الحديث عن فوضى الأخلاق

قد عمت المهانة ...

العتمة ...صوت مجروح يصرخ فينا

وأكواب الموت بالتناوب تسقينا

أُودَبا1.. الذي يمسح بالزيت

يحافظ على الطقوس

بيديه يعد الرغيف ومائدة القرابين

كسر جناح الريح

نفس الريح تنفخ اليوم فينا

حطبا يذكي زئير الموت

لا مطر يطفيء لهيب النار

لا شعر يطلع من بين الجثث

كما طلع الدم من قصائد لوركا

وطلعت الحياة من صرخة نيرودا

وحدها نداوة الخيانة

تطلع من حروفنا

تزمجر في خطاباتنا

وألواننا تقضم الحدود

عربون مودة تقدمها

لسيوف تتوغل فينا

تصفية عرقية...إنسانية ..

حضارية ...تاريخية .. ! !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

..............................

1- أُسطورة أودَبا أو آدابا: كان أودبا شخصية أسطورية من بلاد ما بين النهرين رفض دون قصد هدية الخلود...هذه القصة المعروفة باسم «أودبا والرياح الجنوبية» معروفة من ألواح مجزأة عثر عليها في تل العمارنة في مصر (حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد) ومن المكتشفات التي عُثر عليها في مكتبة آشور بانيبال حوالي القرن السابع قبل الميلاد. استخدم أودبا اسمه لطلب القوة في طقوس طرد الأرواح الشريرة. كما أصبح نموذجًا للحاكم الحكيم

هدنة بين فصلين

خريف على أهبة الاستعداد للتراجع

تنازل مرغما عن تاجه المذهب

لشتاء دمعها يزهر الحياة

في الغابة الرياح العاتية تدق طبول الحرب

على جناح الحمام مات السلام

غدا تتحدث العصافير

عن طوفان نوح

عن الجودي الذي يسرد الفجيعة

عن الأزواج التي ضلت الطريق

عن هجرة الطيور من أعشاشها

عن الفجيعة تنسج اليباب بكف النار

عن أكوام الرماد من بقايا جثث وبعض صور

عن نبوءات الجائعين

عن أوراق الشجر التي مات عنها النهار

وعن النظرات الشاخصة من الموت على أشجار الحور

غدا تتحدث العصافير

عن سردية خريف لم يستطع الانحناء لاستعادة تاجه

كُسر كبرياءه الممشوق

بلعه الطوفان !!

***

صباح القصير – المغرب

18/10/2023

في نصوص اليوم