نصوص أدبية

نصوص أدبية

الثعلبُ الأُوروبيُّ الخبيثُ

قرَّرَ أَنْ يبدأُ وليمتَهُ الجديدة

بفنجانِ قَهوةٍ

{ربما هيَ إسبيرسو}

موهِماً نفسَهُ الماكرةْ

بإحتلالِ فيروز

أُمّنا الكونيَّةِ الصابرة؛

على قَهرِ هذا العالمِ

المهووسِ بالقتلِ والدَمِ

والحروبِ والأَوبئةْ

*

يالَها من كائنةْ

يالَها من ملاكْ

كأَنَّها قدّيسةٌ وكاهنةْ

تحرسُنا منِ الهلاكْ

بصوتِها ونورِها

تطردُ عنّا الذئابْ

والخوفَ والوحوشْ

وملوكَ العروشِ

ومن ظلامِ الأَزمنةْ ".

*

هكذا يقولُ حكيمٌ أعزلٌ

وخائفٌ وحزين

بالكادِ يَقْدرُ أَنْ يتنفّسَ

هواءَ اللهِ الشحيح

تحتَ أَنقاضِ بيروتَ

الطاعنةِ بالدمِ والفجيعةِ والخراب

والقاااااااادمُ

آآآآآآآآآآآآآآخ

طرررررررر

*

هكذا تَصرخُ إمرأَةٌ

جريحةٌ

وحزينةٌ

وغاضبةٌ

لكنَّها مازالتْ

برغمِ الطعنات

والغدرِ والخيانات

والزمنِ الملعونْ

تحتضنُ الناسَ

والبحرَ والارزَ

وشجيراتِ الزيتونْ

ومازالتْ ....

رغمَ الجرحِ الراعف

ونزيفِ الموتْ

هيَ بيروتْ

بيروتُ التي دائماً

لَنْ تَسْقُطْ

ولَنْ تُكْسَرَ

أو تُقْهَرَ

لأَنَّها عنقاءٌ أَبديةٌ

دائماً تنهضُ

من رمادِ الحرائق

والعواصفِ والحروب

وتظلُّ بيروتْ

فيروزَنا الصابرةْ

وأُمَّنا الشاعرةْ

التي لاتَفْنى أَبداً ؛

لأَنَّها: {جميلةٌ

وقويَّةٌ جداً} ونادرةْ

هذا ماقالَهُ الثعلبُ المُتَشاطر

في أَوّل ِالحكاية

فضحكتْ فيروزُ

ضحكتَها الخجولْ

وضحكتْ بيروتُ

منْ هَوْلِ الفضيحةِ والذبولْ

وضحكَ البحرُ وكلُّ كائناتهْ

وضحكَ المرفأُ والميناءْ

وضحكَ اللهُ مع الملائكِ

حتى همَتْ دموعُهم

وفاضتِ الأرضونُ والسماءْ

نهراً من الدموع والدماءْ

ولم تَكُنْ فيروزْ

أَرملةً خائفةْ

ولمْ تَعُدْ بيروتْ

وحيدةً نازفةْ

والثعلبُ المُتَشاطِرْ

مهما يَكُنْ ماكرْ

قَدْ أَصبحتْ لعبَتَهُ

واضحةً ... فاضحةً

وحظُّهُ كعقلهِ

منكسرٌ .. مندحرٌ

"منشكحٌ" ... مُنبطحٌ

مُنفعلٌ ... مُتفاعلْ

لكنَّهُ ياخيبتَهْ

يظلُّ مفعولاً بهِ

ولايكونُ يوماً فاعلْ

ولمْ يَكُنْ ذكياً

ولمْ يَكُنْ نبياً

أو عارفاً وشاعراً

أَوعاشقاً زكيّاً

وإْنَّما ...

كانَ مُجَرّدَ ثعلبٍ

وكانَ يَلعبُ لعبةً

معَ أُمّنا الصابرةْ

وفيروزِنا النافرةْ

وكانَ يحلمُ

بإنتدابٍ سافرْ

أَو بإحتلالٍ كافرْ

لكنّهُ ماكانَ بالشاطرْ

وإنَّما كانَ مُجرّدَ ثعلبٍ

غبيٍّ و فاشلٍ ومُتشاعرْ

وحظُّهُ طاحَ بوحلِ المَرْحَلَةْ

لأَنَّهُ إضحوكةٌ وواهمٌ ؛ مُتشاطرْ

يُريدُ أَنْ يَجتاحَ بيروتَنا

يُريدُ أَنْ يَحتلَّ فيروزَنا

ويُعيدَ مجدَ الإنتدابْ

ويُبيدَ فردوسَ الخيالْ

ويَسْبي سيدةَ النجومِ

والأَرزِ والغناءْ

ويُشِيدَ مُقبرةَ

ا

ل

غ

ي

ا

بْ

في هاويةِ الموتِ

و

ا

ل

ف

ن

ا

ءْ

***

سعد جاسم

لا الشَّوقُ قَرَّبَهم إذ بانوا وافترَقوا

لا اللّيلُ رَقَّ لِشمعٍ بات يَحتَرِقُ

*

والفَجْرُ مُنبلِجٌ لِلْمُحْتَفِينَ به

هَلَّا أفادَكَ طولُ السُّهدِ، والأرقُ؟!

*

ولن يَمَلَّ ركوبَ البحرِ، راكبُه

فلن تُرَوِّعَه الأمواجُ والغَرَقُ!

*

يا مَنْ تَنُوءُ بِذَنْبِ الوَجْدِ، يُرْهقُكَ

تاللهِ ما ظَلَم العُشّاقُ إذ عَشقوا!!

*

لازلتَ تُنشِدُ أبياتا مِن الغَزَلِ

لو أَمطرتْ لهَمَى مِن وَدْقِها الشَّبَقُ

*

واخْضَوْضَرَتْ بِرُبَى أطلالِهم قُبَلٌ

فَاقْطِفْ هُنا عَلَنًا ما كُنْتَ تَسْتَرِقُ

*

واغْنِمْ لَذِيذَ حياةٍ سَوف تَنْصَرِمُ

حُثَّ الخُطى فَقَرِيبا تُقفِرُ الطُّرُقُ

*

والشَّيبُ يُولَدُ مِن سِنينَ قد أفَلَتْ

ونُورُ عُمرِكَ قَدْ يَلُفُّه الغَسَقُ

*

لا تَلْحُ عُودَ شُجَيرةٍ ولَوْ قَدُمَتْ

لن يَنْعَمَ الغُصْنُ حتّى يَنْعَمَ الوَرَقُ*

***

شعر: د. المنتصر العامري

..............................

* اقتباس لبيت غير منسوب ورد ذكره في لسان العرب كما يلي:

"أَنشد سيبويه:

واعْوَجَّ عُودُكَ مِنْ لَحْيٍ ومِنْ قِدَمٍ

لا يَنْعَمُ الغُصْنُ حتى يَنْعَمَ الورَقُ"

أُقَلِّبُني بَيْنَ الْمَواقِعِ

أَرْدأَ الرّياحَ الّتي تَرْخو بِأَخْفى الْمَكامِنِ

فَأُسْهِمُ في دَفْعِ الْهواءِ

وَخَلْطِهِ

أَؤُزُّ

انْتِهازِيّاً

يَعيشُ مُبَصْبِصاً

دُمىً

تَرْتَمي لِلْمِنْبرِ الْعَبْدِ

واثِقاً

يُفَرِّغُ أَوْثاناً مِنَ الشّكّ

ثُلَّةً

مِنَ الْآخِرِينَ السّابِقينَ إلى التّظاهُرِ الْشّائهِ الْبالي عَلى الْعَقْلِ نِحْلَةً

وَخَبّاً

يَقودُ الْمَيِّتينَ لِنُهْزَةٍ يَخالونَها

الْفَتْحَ الْمُبينَ

وَهَلْ دَرَوا!

***

البشير النحلي

 

نسر الوقت الجميل

لمع جناحيه

مسافرا صوب

حدائق وبساتين

البهجة الخضراء

والامل الاخضر

حاملا في قلبه

نجوما

شموسا

واقمارا

نرجسا بنفسجا

واقحوانا وينابيع

مسك فضة بيضاء وعنبر

مطاردا العناكب

الجرذ والجراد

وعازفا على

سنطور قلبه

لحن الخصب

لحن البهاء

ولحن الازدهار .

***

سالم الياس مدالو

 

رمادي إيقاع الضوء يا سلمى

رمادي إيقاع قدميك في بلاطة قلبي

رمادي إيقاع النهارات

وبستان شجر اللوز

رمادي سرد الأموات بين الأنقاض

وبين شقوق المخيلة

رمادي أنين الريح

الزارب من حنجرة الشرق

رمادي وجه الماء الهالك

رمادي شجر اللوز وأبراج الكنائس

الفجر المتجمد

يطل من الشرفات المتفحمة

إنها تمطر تمطر دون هوادة

بالجثث فوق رؤوسنا

بالتوابيت والوحل والخيانة

بينما صلواتنا المتعفنة

معلقة في الهواء

موتنا واضح وغزير

العربات ملآى بالأشلاء المكدسة

والمصادفات البائسة

القناصة يفترسون الأفق

يفرغون عيون الموتى

من الذهب والحنطة

مازلت أحبك يا سلمى

أحب  صوتك المليء بالبرق والعواصف

كثبان الغضب وزمهرير اللبؤة

شوارعك المزدحمة بالنور والبركات

برائحة الدم وآهات القساوسة

نحيب الحصان الأشقر

شمسك التي تطلع

من تحت الأنقاض

مدججة بآلاف الفراشة المضيئة

آه يا سلمى

الوطن مليء بالدسائس والعميان

بالخناجر المضرجة بالدم

القوارب المهشمة

تملأ قاع الكلمات يا سلمى

والمجاعة ترمي شباكها في الحواري

العار يضرب رقابنا

في الساحة

أمام الطوابير المزينة بالجثث

أحبك يا سلمى

أنا حامل الدلو  المقدس

في البهو الرمادي

بعينين شبه عمياوين

بأجراسك العذبة

أرتق ثياب المستقبل.

***

فتحي مهذب – تونس

مثلُ نجمةٍ تهرقُ وجعَها وتنطفئُ بعيداً، تنبتُ أزهارُ الدفلى على يدي

التي تُعتق الأضاحي على أعتابِ أسمكِ، يا قاموسي الذي أطلقَ الكلماتِ وألقى لغتَه في بئر جحودكِ الذي تبرّأ منكِ، لا حدسٌ يجيءُ ولا منفى يضمُ أسايَ, يا بلبلي الذي يغرّدُ بعيدا

عن الشجرةِ ويأنسُ بظلّها، يا خزفي المتناثرُ في الطرقاتِ

التي تقودني اليك بلا سبب، وتتركني هناك بلا سبب،

كيف لي أنْ أسألَ اوراقَ الأشجارِ المتساقطةِ عنكِ؟ ولا طريقٌ يقودنُي الى صوامعكِ البعيدة, كيفِ لي أنْ أسألَ الينابيعَ عن عذابكِ؟ وهو شوكي المزروعُ في الطرقاتِ التي تأخذنُي الى حيرتي بكِ، وأنتِ واقفةُ في بابِ قبري تنظرين أليّ،

بيدكِ مزاميرُ النساءِ كلِها، ونبيذُ شقائي الذي توزعينه على المآرة،

رأيتُ حبّي يقطرُ دماً على أعتابِ توريتكِ، وأنتِ تمرّغينه بالجحود وتلقينَ دماءه للعشب،

حتى بكتْ عليه أشجارُ الخريفِ الموحشة،

لم تعدْ الغزالاتُ تشتهي العشبَ، فناحتْ على قطراتِ دمّي التي تسيلُ على أعتابِ قلبِك،

ها هيَ نجمتي تُهرقُ وجعَها وتنطفئُ بعيدا، ولا أملٌ هناكَ غيرَ اللفائفِ التي تقودنُي اليكِ، أنا وعيناكِ والمنفى واسرابُ الطيور التي تلاحقُني كلمّا احلمُ بكِ،

حيثُ يتيهُ القمرُ بعيدا في فساتينِك التي صارتْ كفناً لحيرتي ، كيف حوّلتِ مهمازي الى مشنقة؟ وقصائدي الى مقبرة لحبِّك؟ وأنا ألوّح بيدي أليك، يدي التي أدمنت رسم أسمك على الهواء, وأحتراف مسح الدموع دون مناديل،

دعِ الكمثرى تنضج وحدهها دون قطف، فلم تعد للينابيع حكاية غيرك، ولم أعد أستهوي الجلوس على حافة النهر الذي يحتفي بوجهك،

دعينا نشيّع حبَّنا سويا بلا خجل, ونترك العصافيرَ تحمل نعشَه الى أعشاشها،

فقد أندلقَ طعم القبلاتِ التي أستلّها جحودك من بين أسناني ونثرها في العراء،

لم يعدْ بيننا غيرُ الطريق الذي لا ينصاعُ ليْ، غيرُ الذكرياتِ التي جفّ حبرُها وتلاشتْ

على الحائطِ الذي كنّا نتكّئُ عليه،

غيرُ الغيومِ التي تحملُ دموعَنا بعيدا وتنثرها فوقَ التلالِ التي كنّا نحلمُ بالجلوس عليها،

هذه وصيتي وبقايا طحالب حبِّك عالقةٌ على جدرانِ قلبي,

لم يعدْ بيننا غيرُنا، غيرُ أسمائنا التي أندلقتْ في بئر لؤمكِ، وأنت تنظرين اليه، وتضحكين بلا خجل.

***

رسول عدنان - شاعر وناقد عراقي

خَــتَــمْناها فُــصُولَ الْــعَنْتَرِيَّةْ

وَأَسْــدَلْــنَا  سِــتَارَ الْــمَسْرَحِيَّةْ

*

وَمِــنْكُـمْ  نَــسْتَمِيحُ الْآنَ عُــذْرًا

أَيَـا  أَذْنَــابَــنَا لَــكُــمُ الــتَّحِيَّةْ

*

قُـوَانَا فِي الْوَغَى خَـارَتْ سَرِيـعًا

فَــفَـعَّلْنَا خِــيَــارَ الْــمَــزْهَرِيَّةْ

*

طَــوَاحِينُ الْــهَوَى لَمْ تَجْدِ نَفْعًا

وَلَا نَــارُ الْــحُرُوبِ الْــهَامِشِيَّةْ

*

أَمَـــا آنَ الْأَوَانُ بِـــأَنْ نُــجَازَى

عَــلَى جُــهْدِ الــتِّجَارَةِ بِالْقَـضِيَّةْ

*

فــنَشْكُـرُكُمْ عَــلَى هَــذَا التَّـفَانِي

لَـقَــدْ كُــنْـتُمْ لِــغَــايَتِنَا مَــطِيَّةْ

*

مَــصَــالِحُنَا نُــحَقِّقُهَا بِــحِرْصٍ

وَلَا عجباً إِذَا كُــنْـتُمْ ضَــحِيَّـةْ

*

فَــلَــمْ نُــجْبِرْكُمُ كَــيْ تَــتْبَعُونَا

تَــطَــوَّعْتُمْ لِــخِــدْمَتِنَا هَــدِيَّــةْ

*

فَـــلَا  لَـــوْمٌ وَلَا عَــتْبٌ عَــلَـيْنَا

إِذَا  كُــنْــتُمْ جَــمَـاهِيرًا غَــبِيَّةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

يا سيد البسلاء ونغمات الوجد في ابتلال الروح في المرأة  وعسجديات  القمر المستنار

تكتمل رؤاك والجسد الموشى بالمسك والكافور وعبق النرجس، والطيون  وبسمات عيون الغار

نسيمات الجسد الفتان تسبح في طيات التاريخ وكتمان المودة وتلابيب الغرام في تناهيد التراب

يا سيدي أنت في بسمك نقرأ ابتهالات الموجوعين يرتلون القران على شرفات الأقصى والقباب والقاشان

بصيلات شعرك هي حبيبات الرمل اللامع في محيط المرقد الشريف في الكاظمية والنجف الشريف وكربلاء العطاء

هي الماذن في فتح مكة تنسج رسمك الوضاح يبتنيك موسى بن نصير شارة لفتح الله والخلصاء

هي القباب والأسباط وطريق الالام وباب الأسباط ومعراج النبي يرددون صيحات اللقاء بالسيد السعيد شهيد النقاء

يا أنت يا يحيى يا صنو عروبتي ومخيمات العز والنشامى في معان وبغداد وحواري اليمن وصنعاء

يا ابن الصحابة الفاتحين لخيبر وبني قريظة والقينقاع تسيل من نفوسهم اهات الزمان وعرى الاهات

ترى وسمات الشمس ونهدات الأقمار وأسراب النجوم تضيء من وجنتيك والجبين الأغر تنبع منه الأنهار

هي نسمات الجسد السرمدي يتبارك بها حملة البنادق الثائرين والعارفين بأمر الله في تسارع لحظات الوجدان

غبار يتناثر في المكان يحمل على جناحيه صورة الوطن المعنى في نغمات الوجد وابتلال الياسمين

يطير الغبار يصفق بجناحيه يحمل صورة يد تتدلى تحملها الأجيال أوسمة في خلد الفاتحين إلى ظلال

كم هي حالات الزهو مبصرة فرائس الجراح تتناثر خارج أفق التلاقي وامتدادات  الخريف إلى اليقين

مدارات الجسد قد تتسع لمدارات الروح تذبح في اتساع أفق الرماد وتحنان السائلين إلى البروج

يا رماد الغبار كنت جمرا ولم تزل تحمل في تثنيات المدار جسدا يوقد الأيام غزة وتناغيم فداء العظماء

منائر الأيام تخفت في ظلالها أصوات الجياع تركض في عمق البحر ترى غزة معلقة في الغمام

حالات الوصول تلتمع  منها خصلات الشعر الباسم كما لو أنها تحفظ بسمات الروح فيه عن ظهر قلب

لا وطن للنوح في صدره العامر بالايمان ومحبة الغلاف وغزة وعسقلان والمسرى الجريح والظلال

يا وطني شباك ممزقة ترتديها نهمات جراح الشمعة تغرقها حالات البحر الغافي ترتبك ولا تعي تدابير الكون

ذراعي ألممزق أرصفة متحركة يعبر عليها المدافعون عن عبق التراب وخلجات القلب في زهو فوح البرتقال

تتساقط عيون القذائف على هامة تسجد لله شوارع المدينة تحاط بكل الذين تساقطوا في ارتقائهم إلى السماء

عيناه عبر نافذة المنافي عصفور يرمي نظراته الهائمة وراء فضبان الوطن المسجى في حدقات الجنان

بيده يدق غرابا سابحا ينقل صورة التلاقي في حالات العناق وجراح خطب الجنرالات في الاذاعات

حربه يفقهها الذراع لا يفقهها سلطان تربع على عتبة النهب والسلب وارتعاشة الجسد من نياشين السحت المراد

جندي متمرس في فنون القنص وهمهمات الغصيان لأوامر جنرالات لا يفقهون في دنا الأيام وهزهزات الفوهات

ظل للتراب وفيا لا يعرف الظل ولا حالات انكماش الضوء وسحب الأماني تغني لها طرائق دروب العاديات

سيد في سيادة النفس يمضي في مهمته تختلسه النظرات تقلب صفحاته قلوب اليافعين واليافعات

ينسل مسرعا حول دندنات الزحام يرسم خطو النصر تلكزه  الذكريات بحذر وسط حشود الانعتاق

ذات صباح ذات مساء مغبر يطوف المطر شوارع مدينتنا لنرى انحناءات خطوات الزمن العضال في تباريح الأيام

صبره وثبات في المكان في معمعان القنص ترى بصيص الانعتاق نراها مزهرة كسنابل في رجرجات الرياح

يبسم بسمته ترسم نبضات الحياة الشاسعة تعني لنا شيئا جميلا وتعني له ضغطة مقصودة على الزناد

قد تكون هالته حالات الخذلان من المحسوبين على نخب ثمنها شسع نعل ثائر تربى في جباليا وجنين والباذان

يتعالى الهتاف من فم الرصيف المندلق هتافا بحب خطوه الباهي والغيوم الباسلات في زمن القحط والغناء

هولاكو يتربع على عرشه تراه مرتبكا هلعا من ذراع معصوبة تهش على المسيرة بعصاه بعد أن نهنهه الجراح

بين يديه حشد من المهنئين ببسالته والثبات على استمراية الفداء في حالات نزف الخلاص من خنوع في الحياة

نرى وطنا مبللا بحبيبات المسك المتدفق من جراح نازفة تنهبها عيون الخنوع وسنابك أروقة خيول المغول والتتار

كتاب فيه صفحات مجد معطر بنغمات جراحه المتدفق مهابة وحبا لحبيبات الرمل في رفح واقانيم البرتقال

جندي يحرسه جيش يرتبك أمام بناية مهدومة فيها بقايا من نفس القسورة وحيدرة وخالد والقعقاع

غجلات تتسارع تتساقط قذائف الخوف على جسد مسجى يلتصق بالأرض وغصون المجد ونغمات الأفنان

يبصر الجنان فوهة تترصده لم يفترق  ورفاق الدرب تتقاطع الشوارع في أفئدة الماشين إلى دروب الخلاص

وجميزات غزة واريج البرتقال ينشدون لوعة النصر وخير مقال

لعمرك هذا ممات الرجال

ومن أراد موتا شريفا  فذا

وتنتشر الفرحة في قلوب الرجال في غزة والضاحية وجنين وصنعاء وتردد قول ابن عباد في خطاب بجير،،،

(ذات يوم ستكون بطولاته خير ما تتسلى به في لياليك) والناهدات من العرب والماجدات يتوشحن برسمه الباسمات

نقرأ في العاجل آخر  نبض له في حياة الدنا تتلقفه يد الله تمسده تبني له مجدا في الدنيا تفوح منه روح العطاء

ترى القصور والزبرجد وانهارا من العسل المصفى وحور العين يرشرشن  له الدرب بالكافور والمسك المذاب بالحناء.

***

نادي ساري الديك

21/10/2024م.

........................

اليه وهو يلملم ذراعا هشمتها الشظايا يهش بعصاه على مسيرة ملؤها ضغينة وعذاب

 

خرج قشّوع ابن المرحومة قشّوعة من البيت صافقًا الباب وراءه. توقف لحظة بعدها انطلق مثل صاروخ مصوّب بدقة نحو هدف محدد جيدًا. كان يعرف إلى أين سيذهب، ولم تكن الأمور واضحة له بمثل ذلك البهاء والرواء.. من قبل.. كما هي الآن، سنرى أيها الأصدقاء مَن يعرف أكثر ومَن يحبّ أغزر. تريدون أن تضحكوا.. أتقبل هذا منكم. لكن سترون مَن سيضحك في النهاية. لقد تركت لكم الضحك في البداية لكن الآن.. سأريكم الزمباع من أين يُباع، وسوف أعلّمكم درسًا لن تنسوه ما دامت هذه البلاد ترفع رأسها وترد الطامعين عن حياضها. في الامس التقى قشّوع بهم. هم مجموعة من الشباب التائه.. الباحث عن سخريات القدر وملذات الحياة العابرة. غنّى لهم فبدت عليهم علامات.. داخلها شيء وخارجها شيء آخر مختلف. تلك الألاعيب لا تنطلي على من هو مثل قشوع ابن المرحومة قشوعة المعروفة المشهورة برصانتها في طول البلاد وعرضها. في الامس ذهب إليهم هناك في دكانهم كابي الأضواء بالصدفة وغنى لهم بالصدفة. أما اليوم فإنه ذاهب إليهم بالقصد. إنه ذاهب ليقتصّ منهم. وليريهم أن ما آمن به وتعلّق به أولًا وقبل كل شيء، يستحق التقدير ومِن شانه أن يجعلهم تلاميذَ في مدرسته الخالدة لا رجالًا ساخرين منه ومن تراثه الرائع. ليتحضّر الآن وليدلف إلى دكانهم الغامض. ليخترق أضواءهم الخفيفة. وليجعلها أسطع من الأقمار في سماء صافية. هم اتفقوا معه على أن يغني لهم ولأصحاب لهم مما جادت به ذاكرته الشعبية الوطنية الواعية. وهو قَبِلَ ضمن محاولة منه لإقناعهم بما ارتكبوه من حماقة عندما سخروا واظهروا علامات الرضا. لقد قبل ان يدعو إلى تلك الجلسة مَن يسخر منه ومن أغانيه الخالدة في السرّ ومَن يقدّره في العلن.

انطلق قشوع في الشارع المؤدي إلى حانوتهم ذاك. انطلق يغذّ الخطى، كأنما هو متوجّه إلى معركة يُدرك تمام الادراك أنها ستكون رابحة. ألم تدعُه والدته المرحومة الذكية باسمه القريب من اسمها محبةً وأملًا؟ ألم تكن هي أول مَن طرب لأغانيه الشعبية المُعبّرة؟.. ألم تشجّعه على أن يحفظ كلّ أغاني فلسطين من جدة صديقه اللزم.. أحمد العربي؟ ألم يفتح عينيه وقلبه لتلك الأغاني فيتحوّل إلى موسوعة غنائية متنقلة.. تطرب الحوادي والركبان. قدّرها مَن عرفها جيدًا وسخر منها مَن لم يُدرك قيمتها. انطلاقة رجلنا الهُمام في تلك اللحظة كانت جدّية وجادة .. وها هو يقترب من هدفه.. ليصطدم بما لم يضعه في حسابه. ها هو يتوقّف بطلب من صاحب الحانوت الفاصل عن ذاك المدعو اليه بسبعة حوانيت؟ .. إلى أين أنت منطلق بكلّ هذا الحماس. جاءه صوت صاحب الحانوت.. فردّ بثقة بطل شَهِدَ له القاصي قبل الداني.. إلى تلك الحانوت.. الصوت المنخفض الاجشّ جاءه هذه المرة من صاحب الحانوت ذاته.. لقد قرّر داعوك أن تكون الجلسة الغنائية اليوم هنا في حانوتي.. أدخل.. أدخل.. تفضّل والله الا تتفضل.. دقائق وسوف يأتون إلى هنا.. وقال بفم ساخر الآن في هذه الساعة سنخلّد ذكرى الوطن وسوف نرفع راية مَجده الخفّاقة. قبل أن يوجّه قشوع سؤالًا استفسارًيا إلى صاحب مُحدّثة الحانوت.. كان رفاق الحانوت الداعون يتوافدون واحدًا تلو الآخر.. كأنما هم يتوافدون إلى عرس لا عريس فيه.. الا الوهم. اتخذ كلّ منهم مقعده وسط نظرات التقدير في الظاهر والسخرية اللاذعة في الباطن. فيما اقتعد قشّوع مجلسه القديم العريق متوسّطًا المجموعة مثل ملك..

رفع الضيف المغني قشّوع رأسه بشمم وإباء وسط نظرات الجمع المنتظر غناءه. ران الصمت على جميع أغراض الحانوت.. ابتداءً مِن الأحذية المنتشرة على كلٍّ من رفوف الدكان، انتهاء بالكؤوس التقديرية، مرورًا بالكاستيات الملأى بالأغاني المُطربة. استفز الصمت المُخيّم مجموعة الحاضرين.. خاصة أولئك الذين دعوه آنفًا لتلك الجلسة.. وتدخّل صاحب الحانوت البعيد عن حانوتهم بسبعة محلّات.. قالوا جميًعا إلى متى سننتظر؟.. ألا تريد أن تغنّي لنا؟.. وتشاطر أحدهم قائلًا اطربنا يا حضرة المغنّي مثلما اطربتنا في الأمس.. مع ولعه بالأغاني الشعبية المُعبّرة ورغبته المّلحّة الهائلة بأن يخلّد تاريخه الشخصي أولًا وتاريخ مجموع شعبه بصورة خاص، تماسك قشوع وقام بتغيير الموضوع.. وكي يكون مقنعًا راح يتحدّث لهم عن تاريخ الأغاني الشعبية في بلاده.. كان ما قدمه مجهولًا لهم جميًعا تقريبًا.. ولولا نُتف من المعرفة أدلى بها عقلاؤهم، لفرعن قشّوع عليهم ولرأى أنه وصل الى مبتغاه بسرعة صاروخ مصوب نحو هدف محدّد. غير أنه واصل حديثه مُفحمًا إياهم ومقنعًا سأخرجهم بأنهم أولى بالرثاء من المديح وأقرب إلى الجهل منهم إلى العلم..

تحرّك قشّوع في مجلسه تحرُّك ملك عرف قيمة ما يمتلك.. كان ذاك واحدًا من الامتحانات التي كان لا بدّ له من النجاح فيها.. صحيح أنه قصير القامة لكنه يرى ويسمع مِن بعيد.. بعيد.. الطبيعة حرمته من شيء وجادت عليه بأشياء.. شكرًا لكِ جدة صديقي.. شكرًا لكِ على ما فضت به عليّ من معلومات تُعمّق معرفتي.. وشكرًا لذاتي لأنني طوّرت وتعلمت وشغفت.. تمعن قشوع في وجوه مّن أرادوا أن يجعلوها قعدة سخرية.. شعور بالقوة انتابه.. لقد حوّلتهم كلماته إلى تلاميذ قاصرين لا يستحقون نصف علامة لأن ينجحوا.. في امتحان أرادوه له.. فانقلب السحر على الساحر .. وها هم يفتحون أفواههم ويُرخون شفاههم.. منبهرين به وبما جاد به مِن معلومات جمعها أولًا من فم تلك الجدة الفاضلة، ومن مصادر المعرفة بالأغاني الشعبية الوطنية من ناحية أخرى.. لفت ما هو به من زَهو واعتزاز بالذات كلّ مَن أحاط به.. فقرّب الجميع كراسيهم منه.. حتى تلاشى البُعد فيما بينهم.. فبدوا مثل رجل واحد .. ضغط الجميع بأجسادهم على ضيفهم الكريم.. وتوجّهوا إليه طالبن منه.. بلسان كاد يكون واحدًا أن يغنّي لهم مجتمعين مثلما غنّى في الامس.. غير أنه انتفض مثل نِسر توقّف على أعلى ذروة في جبال بلاده.. وهتف بهم طالبًا منهم أن يحرّروه الآن.. فقد قدّم لهم الكثير على أن يغنّي لهم في القعدة القادمة..

توقّف المحيطون حول المغني الرائع قشّوع.. فبدوا كأنهم لهبٌ تمنطق بالحديد.. وكان لا بُدّ لهم من أن ينفضّوا حوله.. منتظرين القعدة القادمة.. أما قشوع صاحب الصوت الشجيّ فقد خرج من دكانهم ذاك وعلى لسانه معلومات غزيرة وفي قلبه أغنية أبى أن يُطلقها إلا أمام من استحق الاستماع إليها فعلًا لا قولًا فحسب.. خرج المُغنّي إلى الشارع المحاذي.. "ما أجمل الأغاني عندما تكون بحجم الوطن"، قال.. فبدا له الشارع في أ أطيب حالاته.. وانطلق عائدًا إلى أغانيه وإلى تلك الجدة.. شاعرًا انه يوجد هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

مع ترجمة للانجليزية

للاديبة السورية الناقدة: فاطمة عبدالله

***

وبعد غيابٍ طويلِ التقينا

وحين التقينا

أطيارنا رَفْرَفَتْ بالبكاءْ !

*

ظل ما بيننا صمتنا برهةً

وابتدأ طيرها

يَنحني للوصولْ

*

وبدتْ بسمةٌ

بعد صَمْتِ الأُفولْ

حُسْنها عَبَقٌ

من عِقْدِ فلٍ أضاءَ المكانْ

وطيري أنا

كالجريحِ ارتمى

في حُضنِها باحثاً عن أمانْ  !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

............................

A rose...in the winter fog!

After a long absence, we met

And when we met

Our birds fluttered in tears!

*

There was silence between us for a while

And her bird began

It bends to reach.

*

It appears a smile

after the  silence faded

Her beauty is a fragrance

From a  jasmine necklace which enlightened

The place

And my bird

Like a wounded man, he fell

In her arms searching for safety!

***

The poet Muhammad Thabet Al-Sumai / Yemen

Translated by Fatima DL.

 

جئتُ قبل وقت

المغيبِ بعشرين

دقيقةٍ

إرتديتُ صمتي

وتلحفتُ بعُزلتي ..

جئتُ لأتأمل الشفق

وهو يتباهى بإحمرارهِ

في كبد السماء ..

*

الشاطيءُ هُنا مليءٌ

بالأصداف و أنا فارغةٌ

من كل شيء ..

*

حتى عقلي المُزدحمُ

بالضجيج أفرغتهُ

قبل عشرين دقيقة ..

*

أغمضتُ عيناي

وأنا تحت الشفقِ

*

فتورد قلبي

وأبتهجت مُهجتي ..

*

لمحتُ طيفاً

سمعتُ صوتاً

يناديني : يا أنت

فنظرتُ بتعجبٍ

من حولي فلم

أجدُ أحداً سواي ..

*

أما عرفتني؟

أنا شفقكِ الأحمر

تعالي إلىَّ وأبتهجي

وأرقصي

في كبد السماء ..

*

قبل أن أُغادر

طيفُكِ النقي

عانقيني يا فؤادي

وأجمعي روحكِ هُنا

و أمتزجي مع

إحمرار السماء

ثم غادريني

غادريني

قبل أن ينطفأ

المغيب !

***

أريج الزوي

على امتداد النظر كانت المنطقة مهجورة، وقاحلة، لم يكن فيها  قائم سوى قبري الذي زرته كشبح بعد دفني فورًا. كانت السماء منخفضة، والأفق مغطى بالضباب الأصفر، وساد هناك صمت حزين، فلم أر وجوه الدفانين؛ لأن الغشاوة التي كانت تغطي عيني، قد حجبت ملامحهم.

جلست أمام ضريحي ونظرت إلى اللوحة المصنوعة من الإسمنت، والمحفور عليها اسمي وتاريخ ميلادي ورحيلي إلى عالم الخلود. مدونة قصيرة لا تلفت الانتباه ولا تولد الحماس؛ فهو ليس إلا اسمًا كغيره من الأسماء التي اختفت في غياهب السجون وكوارث الحروب والصراعات الطائفية والتصادم الديني والعنصري، هؤلاء ايضًا كانوا يحملون يوم ميلاد ويوم وفاة.

كانت تلك… لحظات مؤلمة وقاسية، ملآن بالجراح العميقة تركد تحت وطأة اليأس من ركام الخيانة والخداع. بدأت أتحدث مع نفسي، وأنا أعلم أن صوتي لن يسمع الآن، هذا الصوت الذي كان حيا قبل ان ينقطع عنه الهواء، مكتومًا على الرغم من السماح له بالصراخ.

وبينما كنت أحدق إلى اللوحة، نشأ حاجز من عدّة خطوط مرئية التي كانت تمر بشكل متوازي أمام العينين، عموديا وأفقيا، ولكن يصعب التقاطها أو إزالتها، لم أعرف مصدرها؛ لأنها كانت تتسرب من بوابات غير مرئية. بدأت هذه الخيوط تتشابك حتى أصبحت شبكة عنكبوت شائكة، يوحي المشهد بتعقيدات الحياة ومعاناتي عندما كنت ولا زلت أتنفس.

طفقت أقارن نفسي بجثتي الهامدة تحت التراب. لم أجد أي علامات واضحة على الاختلاف. الحياة عبارة عن قيم وأسس ومبادئ، وقد دُفنت تحت التراب، أمام عيني، ولم أتحرك ساكنًا، لأنني كنت حينها مشغولاً بالاستماع إلى الوعاظ والكهنة وهم يتحدثون عن أهمية الموت في حياتنا؛ ففاتني القطار ولم يبق أحد على أرض المحطة في انتظاري.

هل رأيت يا جثتي كم أنا بائس؟ كانت السماء تذرف دموع الحسرة على محنتي، وتحرك الرياح الأشجار لتهز أغصانها، عسى ولعل حفيف أوراقها يوقظ في داخلي الألم، وقد فقدت الأمواج طاقتها وهي تندفع إلى الأعلى بكل قوتها، لتحذر من قدوم الخطر، والأفق ما زال شاحباً من الحزن والأسى.

وبينما سفينتي كانت تغرق، فبدلًا من أن أطلب الخلاص، أصرخ: "هيهات أن أكون شخصًا ذليلًا وخانعًا"، بل ممتنًا لنعمة القوم الذي أنتمي إليه.

***

كفاح الزهاوي

مَعَ خيوطِ الفجرِ انطلقتْ بنا سيارة الجيب السوداء الحديثة ذات السبعة مقاعد، بَعد تجهيزها بمعدات واحتياجات السفر، السيارة تَسير عَلَى الطريق الأسفلتي الحديث (ذي الاتجاهين) بمعدل يتراوح بين (80 إلى 120) كم في الساعة، جلست ُ بالمقعد الأمامي بجوارِ السائق، هذا هو اليوم الأول من عملي كرئيس للجنة (تدوين المعلومات بشكل حيادي للأماكن المهمة لجبهات القتال والمعارك لأيام زمان؛ خوفاً عليها من الاندثار والتشويه والنسيان).

قبلت العمل بهذه الوظيفة، بل المهمة والتي استقبلتها بفرح كبير؛ فلكم وددتُ وتمنيت أن أوثق شيئاً عن تلك الأماكن ووصفها وتسجيل أسماء من معي في حينها لكن الخوف من التدوين والتصوير قد منعني من ذلك؛ فمثل هكذا تصرف ممنوع منعاً باتاً في تلك الفترة، ومن يقدم على هكذا عمل يعرض نفسه لعقوبة الموت المؤكد.

مَعي في اللجنةِ يعمل موظفان، أحدهما كان ضابطاً بالجيش برتبة (رائد) متقاعداً حالياً، وسبب أحالته على التقاعد اصابته بإحدى المعارك العسكرية منذ سنوات عديدة خلت، بانفجار لغم، مما أدى الى إصابة بليغة في ساقه اليمين، والأخر رجل في الخمسين من عمره، ذكي كثير النشاط، يعمل بجد بمجال تخصصه البيئي، ويحمل مؤهل تخصصي جامعي بذلك، كان يجلسان بالمقعد الذي خلفي، فيما جلس معنا بالسيارة بهذه المهمة (شخصان) من الحرس الخاص مدججين بالسلاح، وشخص ثالث (مصور فوتوغرافي) يحمل أله التصوير معه للتوثيق.

أنتهى الطريق الاسفلتي، وبدأت السيارة تسير وسط طريق ترابي صحراوي، أخبرنا السائق أنه يعرف الطريق جيداً، والطريق مؤمن ومكشوف من الألغام، فلا داعي للقلق، كان يتحدث بثقة تامة، وكأنه يسير على طريقٍ مألوفٍ له، السيارة تشق الطريق الصحراوي، والأفق يمتد إلى ما لا نهاية؛ فلا شيء غير السراب أمامنا يتلألأ على حبات الرمل.

رأسي يدور في دوامة فلك عصف الذكريات، لم تزل النُّفُوس محطمة تأنُّ، من هول وجع وآلم سنين العبودية المفرطة بقسوتها، فقد أصابها بمقتل اليأس والإحباط، أضحت مأزومة مهزومة خاوية، كخرائب الحروب المهجورة، يستوطنها الحزن والدمار، وأثار حقول الألغام، جهد ما تبقى من عمل مضنٍ لمصابيح الأرض الحرام، وذكريات حياة الضيم والصبر، والخوف، والموت، والظلام، والجوع.

بعد أكثر من ساعتين من السير المتواصل ونحن في هذا الطريق، بدأت تنكشف أمامنا على مرمى البصر (سواتر ترابية وبقايا مواضع وأطلال أبنية نصفها في باطن الأرض ومعدات عسكرية متروكة، وأبعد منها أماكن تحيط بها بقايا أسلاك شائكة) نظرت بالخريطة التي بيدي، طلبت من سائق السيارة التوقف في هذا المكان، ترجلت من السيارة، وهكذا فعل الجميع بعدي.478 ream

 امتد نظري إلى أقصاه يمسح المكان كالرادار

صمت مترامٍ بلا أطراف أو نهايات معلومة

وبقايا اسلحة حطام، كأنها سفينة غارقة في رمال الصحراء

قُحُوف آنية بالية وَ(قِصَاع) طعام

ورميم عظام، وخوذ جنود مثقوبة من الأمام

وشظايا متنوعة الاحجام

وأطلال ملاجئ لغرف كالجحور

مصنوعة من الواح من الصفيح والتراب والطين والخشب

وخنادق ومواضع شقية.

عجيب، كيف كنا نعيش في هذه القبور المهجورة؟

الأرض جدب، خلا المكان من الحركة والضجيج والدبيب، لا أنهار لا زرع لا ضرع ولا طير.

أتحدث مع نفسي كالمجنون، بصوت عالٍ (رباه) هنا في هذه المواضع دارت فواجع لا تعد ولن تُحصى لحوادث الدهر.

أنها رحى حرب ضروس دموية بربرية

أزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح البريئة

وأرهقت على اديمها أنهار من الدماء الزكية

وتحطمت من خلالها ملايين الأحلام الوردية

يصنفها اليوم محللو السياسة والتاريخ بالحروب الدموية العبثية!

رغم السكون الرهيب الذي يحف بالمكان، لكن لم يزل رعب الموت يعشعش فيه.

على عجلٍ أخرجت من حقيبتي قلماً ودفتر مذكرات جديد: وبكلمات كبيرة واضحة بدأ القلم يدون:

سأكتب بدفتري بعض ذكرياتي من جديد عن هذا المكان الفريد، في الصفحة الأولى دونت فقط هذه العبارة:

(أكتب بقلب مكلوم، وصراخ ألم مكتوم)

سريعاً سرح عقلي يحدق ويذوب بعمق بذكريات الزمكان، وراح يسترجع شريط الذكريات المخيف، الذي يرافقني كل هذه السنين الطوال، وجوه رفاقي الجنود، المعفرة بالوجع واللوعة والتراب، بعيونهم المفزوعة اليقظة القلقة الراصدة للعدو، خلف ساتر التراب أو اكوام الحجر، فيما كانت الأيادي متهيئة للضغط على زناد المنون، وهي تقارع الموت بالموت، أجسدنا التي كانت ترتجف في المخابئ والملاجئ كالجثث محبوسة النفس عند اشتداد تبادل القصف الثقيل.

رباه، أَي قلوب كانت لنا ونحن نتحمل بجلد رعب الليالي المظلمة، وخطر اقتراب خطوات الموت في الليالي المقمرة، كم أخافنا نور القمر، فهو يكشف حصوننا ويعرضنا لشديد الخطر.

توقف القلم عن الكتابة، وأصخت السمع لأصوات اعرفها جيداً رافقتني لسنين طوال، أزيز الرصاص، ودوي المدافع، هدير الطائرات، ها هي تتداخل مرة أخرى برأسي مع أصوات أنين، وتوجع وَاستغاثة ونحيب.

لمْ يبرح الذاكرة أوامر القادة الضباط النزقة المتكررة

الآمرة الناهية الحازمة الصارمة:

- عليكم اليقظة والحذر

ممنوع المجادلة والاحتجاج

يتحدثون كأن بداخلهم ألف حجاج!

كان حديثهم هذا يزداد صرامة وحدة في المواقف الخطرة والشديدة الحذر، وخصوصاً عند التنويه من هجوم متوقع!

كان القائد (الضابط) يبلغنا التحذير متوتراً كالموتور رافعاً يده اليمين صوبنا، مهدداً بأصبع السبابة، فيما عيناه ترتعب من هجوم مرتقب.

نعرف حالاً أن هجوماً وشيكاً جديداً سيقع، لا بل هو أقرب الينا من حبل الوريد.

جلست على بقايا دكة من الطين أمام مواضع شقية في الأرض (حفر) خلف ساتر ترابي، والتفت الى المجموعة التي معي: - الرجاء أصغوا إليّ سأحدثكم عن هذا المكان.

وأنا أشير بيدي الى بقايا حائط لغرفة بجوار الحفر:

- في هذه الزريبة كنا ننام ونأكل ونتألم ونحلم، في الليالي المرعبة بهجوماتها المتكررة، كنا نجلس ونتكور على أنفسنا متيقظين من الهلع، وعندما يأخذنا التعب والنعاس، كنت أنام بعينٍ واحدةٍ، حيث يستقر في العين الأولى الخوف، فيما يستقر بالعين الأخرى القلق، وكلما يزداد هدير المدافع وأزيز الرصاص، كنت أقول لصحبي بالموضع، جاء الذي يأخذ بأيادينا، جاء مسرعاً ليقرب أيامنا وأحلامنا وآمالنا الى المقابر!

- هذا المكان من أكثر الأماكن تعاسة، التي خدمت فيها، مكثت بهذا المكان ردحاً من الزمن، كانت أيامه متخمة بالمخاطر والموت، هنا لا وقت للتفكير بالفرح والتأمل والأحلام، كان الخوف من رعبِ الموت يداهمنا في كل لحظة، التشاؤم والسوداوية تسيطر على الجميع، الكآبة واضحة على الوجوه، حتى الأغاني والموسيقى المنبعثة من المذياع لا تسعفنا، لا نصغي لها، نصغي لبعض أغاني ومواويل الحزن، والحنين، والشجن، والبكاء، والوجع.

توقفت لحظات عن الكلام، وسحبت نفساً عميقاً، وتبعته بزفير أطول، كأني أطرد حالة الانفعال والحزن الذي تملكتني في هذه اللحظات، ثم حدثتهم من جديد بأعصاب أكثر هدوءاً:

- سأقص عليك هذه الحكاية: ذات ليلة مظلمة، السحب الرمادية المحملة بأطنان الماء، تجري مسرعة، برق ورعد، يرعب النفوس، تندلق من خزانات السماء انهار من المطر؛ المطر ينزل مدراراً، رائحة العفن في الموضع تزكم الأنوف، الطريق الى المراحيض لم يكن يعبد كثيراً، لكن الظلام حالك، خارج الموضع الذي نقيم فيه، أحد الجنود، يخرج للمرحاض. بعد لحظات نسمع صراخه، طالباً المساعدة، خرج له من يستطلع الأمر، ليجد رفيقنا بالسلاح، يستغيث، جاءنا وهو مسرفناً بالماء والطين، أخبرنا أنه تعثر بالدرب وسقط في حفرة مليئة بالوحل!

ونحن في مثل هذا المكان الخطير الحقير البائس التعيس، في الليل وكلما حلت عتمة الظلام، وتذكرت جور قسوة قوانين العبودية في الجيش؛ يجافيني النوم، فيتأجج في القلب صراخ عنيف يصعب البوح به، فهنا قمة الممنوع وغير مسموح به أن تتذمر سواء كان ذلك بالحديث أو حتى بالتلميح، فهنا الجميع في قمة الحذر نخاف بعضنا من البعض، ففي كل مكان زرع ضعاف النفوس من الوشاة وكتبة التقارير الحزبية، فقط مسموح لنا أن نكثر من الدعاء ان ينصرنا الله على أعدائنا الظالمين!

في جوف الليل عينايّ ترصد صحبي في الموضع الذي يجمعنا، أردد مع نفسي: هل فعلاً هذا قدرنا الذي كتب علينا، أن نكظم غيضنا ونجتر الصبر صاغرين؟

فأردد مع نفسي وأنا أسيرٌ مكبل في عتمة الظلام وقيود قوانين الظلم وهاجس الرعب الذي بسط سلطانه علينا فيأتي الصوت همساً ضعيفاً مرتجفاً من جوف قلبي يا لحظنا العاثر التعيس، فيما صوت قرض الفئران التي تشاركنا المكان، يوقظني من رحلة الضنك والخيال.

أستوقفني أحد زملائي في اللجنة ضابط الجيش المتقاعد، أود ان أسألك سؤال شخصي.

- أجبته تفضل، على الرحب والسعة.

- ماذا تعتقد وتقيم الحروب؟

- اجبته وعيناي تحدق في عينيه من وجهة نظري: إنَّ كل أنواع الحروب قذرة مدمرة؛ كان سؤاله كوخزة خنجر في قلبي.

- سألني مرة أخرى وكيف ذلك؟

- الحرب يا زميلي العزيز، صِنو الشر والخراب، أنها الويل والهلاك، وتتسبب بإزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات، وإلحاق الأذى بالمدنية والمدنيين، وتشيع التخلف والجهل، وتعمل على تعميق الانقسامات وتشجع على الكره والبغض في النفوس والمجتمعات، وهي انتهاك صارخ لحقوق الانسان؛ وأن أسوء وأخطر شيء في الحروب هو تبريرها، والدفاع عن مفتعليها؛ إجابتي له أنهت المحادثة.

توجه زميلي (الضابط) لتكملة مهمته، أخذ منظاره العسكري ووقف على الرابية القريبة يمسح المنطقة ويدون معلوماته.

- أرجو التقيد بالتعليمات، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب من بقايا الاسلاك الشائكة التي أمامنا، أنها حقل للألغام، أنها مناطق شديدة الخطورة، انها عملت في زمن الحرب، لمنع تسلل العدو وأعاقه هجماته، واحتمال كبير لم يزل قسم من هذه الألغام فعال، وتكون أخطارها جسيمة، تحدثت بصوت مسموع موجهاً كلامي للجميع.

بدأت ُالعمل (أنا) وزميلي (الاختصاصي في البيئة) كمنقب حاذق للآثار، بقفاز وملقط، نلتقط اللقى ونجمع ونحصي ونصنف بعض بقايا مبعثرة من الحطام، الملقاة أمام ناظرينا، ننتقي بحذرٍ بعضها نرقمها، ونحفظها بأكياس شفافة، وأدون على كل كيس منها ملاحظاتنا عليه؛ وأنا أرزمها في الصناديق كنت أردد مع نفسي:

من يرممها ويعيد لها، البهجة والحياة

والعقول مخدرة، تسير في التِّيه.

استيقظت من نومي فزعاً مرعوباً، على صوت ارتطام مخيف هزني بعنف، أرتطم رأسي في الكرسي الذي أمامي، فتحت عيناي مذعوراً، كان صوت زوجتي يهمس بأذني وهي تقول:

- وصلنا المطار، الحمد لله على السلامة.

في صالةِ انتظار الحقائب، وقبل أن أستلم حقائب السفر، جلستُ على إحدى المصاطب، وعلى عجلٍ أخرجتُ دفتر المذكرات والقلم، وبدأتُ أدون هذا الحلم الحقيقي.

***

يَحيَى غَازِي الأَمِيرِيِّ

كتبت في مالمو أكتوبر/تشرين1 - 2024

.........................

تعريف لبعض الكلمات التي وردت في النص

- مصابيح الأرض الحرام: لقب يطلق على جنود الهندسة العسكرية الذين يعملون بزراعة حقول الألغام.

- القِصاع: جمع القَصعة والقَصعَة ُوعاءٌ للأكل مصنوع من المعدن مخصص لأكل الجنود والمراتب دون الضباط.

ملاحظة: اللوحة الفنية بريشة الفنانة التشكيلية ريام الأميري.

ما بيـنَ مَظهــرِ أَحــوالي ووجـــداني

مسـافــــةٌ بين تابـــــوتٍ وبـركــــان

*

مـا كـانَ أَكــذبَ مـرآتي، وقـد عَكَستْ

طبائـــعَ البـردِ عن أَعمـاقِ نيـــراني

*

إِنّي لأَعجــبُ ممَّـــا فيَّ مـن عجــبٍ

أَرضَى بموتٍ، ونبضي مِلءُ شرياني

*

عَـــلامَ أُســـلِــمُ أَنـــدائـي إِلَى جَـدَثٍ

قَـفْـرٍ، وأُودعُ لحني بين أشـــــجانِ؟

*

مـالـيْ وثِـقــتُ بميــزانٍ يُضيِّــعُ لـيْ

حَقّي، وفي شِرعتي عدلي وميـزاني؟

*

زيــفٌ بـزيــفٍ، ودربٌ لارجــاءَ بـــه

غيـــرُ السَّـــرابِ، وبهتـــانٌ ببهتـــانِ

*

تَعـبـتُ من غـابـةٍ حمـراءَ مُفـزِعـــةٍ

بكـلِّ ذئـبٍ معي في شــكـلِ إنســـــانِ

*

إِلامَ أزرعُ قـــولاً مـن ملائــــكــــــــةٍ

فيهــا، وأَحصـدُ أَفعـــالاً لشــــيـــطانِ؟

*

إِنِّي سأَنفضُ صمتَ الموتِ عن لغتي

وحـدي، وأَخرجُ من قبري وأَكفـــاني

***

شعر عبد الإله الياسري

أغسلُ وجهي بأسمالِ الذِّكرى

عميقاً أغوصُ

في كُهوفِ العَتمةِ

وأغفو هُناك

على صدرِ آمالٍ كاذبةٍ

*

أخبرتني العَرَّافَةُ

ذاتَ عُمرٍ

أنَّ كُلَّ الخيباتِ

ستُزهرُ بَراعمَ جُلنارٍ

وبيلسان

وأنَّ كُلَّ الأوجاعِ ستثمرُ

تيناً وزيتوناً وصباراً

وأن وَجهاً عَشِقَتهُ

شَمسُ حُزيرانَ

واختبر مَعارِكَ الجيرانِ

سيَحكُمُ ذاتَ يومٍ

جميعَ المَمالِكِ

*

وسوف ينبُتُ لِكُلِّ أطفالِ الكَونِ

أجنحةً من زُهورِ الأُقحوانِ

وعلى جَبهاتِ الحَربِ

سيُفتَتَحُ مَقهىً

ترقصُ فيهِ

حتَّى أوَّلِ سَاعاتِ الفَجرِ

سالومي ابنةُ هيروديا

*

رَمت تلكَ العَرَّافةُ

من جديدٍ أحجارَها

وتابعتْ قَصَّ الحِكاية:

سيختِم السَّيافُ، يا سيِّدي

بالشَّمعِ الأحمرِ

سيفَه البَتَّار

وستُصبِحُ كُلُّ السَّنابِلِ

أشجارَ سَرْوٍ

تُغازِلُ بِسِرِّيَّةٍ جَسدَ المُزنَةِ

عندما يَغيبُ عَنها المَطرُ

*

وحينما تَهرَمُ الشَّمسُ

ستُنيرُ اليَراعاتُ

وَجهَ البَريَة

وفي الزَّنَازينِ

ومن غيرِ شَفقةٍ

سوف يُحبَسُ أهريمان

وجندُ الشَّياطينِ

وستُغلِقُ جمعياتُ النَّخَاسين

أبوابَها

وسَيعتزِلُ الغُزاةُ

ويُطلَقُ سَراحُ السَّبايا

وستُزيَّنُ السَّاحاتُ بالورودِ

وبِصُورِ الزَّعيمِ المُفَدَّى

وفي الأرجاءِ ستَتَعالى

زغاريدُ الفاتناتِ الغِيدِ

*

مَن أخبرَ العَرَّافةَ

ما يَحمِلُ للإسكندَرِ الغَدُ؟

ولِمَ فاتَها

عن المآلِ والخواتِمِ

أنْ تُخبِرَهُ؟

كُلُّ العَرَّافاتِ سِيَّانِ

إنْ كَذَبوا أو صَدَقوا

وسيرِسُ في يدَيها

الحَلُّ والرَّبطُ

*

دَعوا كُلَّ السَّتائِرِ مُسدَلَةً

لا تُوقِظوا النُّورَ

فَحِدادُ الشَّمسِ

سوفَ يَطولُ

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم السويد

........................

مفردات:

 أهريمان: إله الشر في الديانة الزردشتية.

سيرس: هي شخصية من الأساطير اليونانية وهي ساحرة وابنة إله الشمس هيليوس.

الإسكندر: من أهم القادة العسكريين والفاتحين عبر التاريخ مات وعمره 32 عاماً.

سالومي ابنة هيروديا: زوجة هيرودس فيلبس، هي التي رقصت في حفلة عيد ميلاد هيرودس أنتيباس، عمها غير الشقيق، فسرَّته، ووعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها؛ وبناء على مشورة أمها طلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق؛ لأنه كان يوبخ هيرودس أنتيباس، قائلًا له إنّه لا يحلّ أن تكون له زوجة أخيه.

عندما جاوز عتبةَ العمارة

تقدّم خطوة على الرّصيف

فزلّت قدمه

مِن وقتئذ

لم يدر كيف صار يسيرُ على رأسه

*

يا عجبا

أصبح يرى النّاس مثلَه

يسيرون وأرجُلُهم مرفُوعة

في الهواء

*

الأشجارُ أيضا

أضحت مقلوبةً على رؤوسها

جذورُها تشابكت مع النّوافذ

أوراقُها تناثرت على الشّرفات

والسّطوح

*

سيّارةٌ

رَفّافةُ الأضواء

عاويةٌ

مَرقتْ مُسرعةً

صَدمته

لم يشعُر برأسه

عندما اِنفصل عن كتفيه

ثم تدحرج على الرّصيف

*

رأسُه صار كرة

تتقاذفها الأرجل

في كل رَكلة ألمْ

حتى صاح المارّة :

ــ هدف...هدف...هدف !

حينذاك صفّر الحَكمْ

*

أفاق مذعُورًا

تحسّس رأسَه على المخدّة

فإذا المخدّةُ

تَقطُر بالدّمْ !

***

سُوف عبيد - تونس

ستعبرين

تلكَ المسافةَ بين أناملِكِ

وبينَ صورتي الملقاةِ منسيَّةً

وبينَ مفاتيحِ الهاتفِ المحبوسِ في كفَّيكِ

*

ستكتبين لي

حروفًا حُبلى تنوءُ بحملِ المودَّة

ستتخيلينني

غافيًا وفي يدي وردةٌ مختلفة

مهجورةٌ منكِ

وردةٌ خلقتها لكِ أفكاري ومتاريسُ تحجبُنا عن بعضِنا معًا

*

وستعرفين أنَّني

أتسللُ كلَّ ليلة

أقفُ على فراشِكِ طيفًا

لأتلوَ لكِ صلاةَ الراحة

وأطلَّ على نوافذِكِ نسائمَ من تشرين

وأطرقَ أحلامَكِ

وأختبئَ بينَ الصفحات

لتقرأيني يا ناريَّةَ العينين وبيضاءَ القلب وسوداءَ الغياب

*

ستعرفين أنَّني في كلِّ الشرفات

وأنَّني لمسةٌ من أقداحِ الخمر وفناجينِ القهوة وصحونِ الحلوى التي تصنعين وتفضِّلين

*

وستُقبلينني كثيرًا لو رحلت

ثم تبكين فراغًا راح يأكلُنا معًا

مقيَّدين، أنا وأنتِ

بكلِّ حمولةِ غضبِ الرب

بكلِّ تقاليدِ قبيلتِنا البربريَّة

بأطواقٍ من سنواتٍ سبقتْ قدرَنا الذي لم يُكتب

ولكنَّنا في النهاية

وجهانِ لقمرٍ واحد

وجهُكِ مشرق

ووجهي يأفُل لو تقتصدين

*

جنِّيَّةٌ إنسيَّة

أغازلُكِ بلا عنوان ولا نيَّة

أحييكِ صديقةً قريبةً بعيدة

حاضرةً كالنعاسِ الجاثمِ فوقَ جفني منهزمًا

غائبةً، كعادتِكِ

مثلَ حلمِ الأطفال بقطعةِ حلوى شهيَّة

ناعمةً كزَغبِ النور

كقبلةٍ مسروقةٍ في الظلام

*

صديقتي

لا تضعي لقصائدي عنوانًا

فأنا رجلٌ من عَرَقٍ وجبينٍ وكرامة

أخافُ على سترِ كلماتِي منكِ

وأخشى أن تطلعَ الشمسُ على أسراري

*

فخذي منِّي

وهبيني مجنونًا

ضلَّ الدربَ فاهتدى لعالمٍ وحده

بينَ الحضورِ والغياب

يقفُ مردِّدًا تمائمَ الودِّ الصافي

*

يا طاهرةَ الروح

اغفري لي بَوحِي

وتبنِّي قلمي

سفرًا طاهرًا

يقتاتُ على ذِكرَاكِ أو مَرآكِ

بلا عنوان

ولا دَنَسٍ أو قصدٍ رثٍّ أو مضمر

***

أيمن الناصح

بين نار ونار

ثمّة اختبار

إمّا أن نقفز من إحداهما

ونهوى بالأخرى

وأمّا أن نمكث وننظر أيهما أسرع بالتهامنا!

***

ألسنة تتطاير

وشرر

يتقاذفة

لفح نار

ضاقت به

واختار أجسادنا

موطنا له

*

نار

تبدو رحيمة

حين تدنو من أجسادنا

لن تدع لنا حيرة البحث عن مفرٍّ

فتنقضّ

مطبقة فكّيها

ليصطبغ الفضاء

بسواد

خلفتها حفلة شواء

لنار

كانت رحيمة

رحيمة جدا

*

لكنها

تبقى عصيّة

وقد آثرت التحليق

فكرة

أنسلت بهدوء عن جسد

عوّل على فكرة

ولّادة

لأفكار

تعشق التحليق

بعيدا عن ألسنة النار

*

من رحم

نار

اضطرمت أعمار

للتوِّ

أطلقت للريح صهيلها

لتبحث

عن تراب

خلّفه

صهيل لحوافر متقهقرة

***

ابتسام الحاج زكي

فهمت كل شيء متأخرة جدا، لكن لم يكن القدر ليتركني قبل أن ينهي معي دروسه العظيمة ..

ها أنا ذي ممددة فوق السرير، وقد نخر السرطان كل جزء من أحشائي..لقد استاصلوا أجزاء من امعائي ومعدتي

لطالما عانيت من تخزين مشاعر الغضب والحزن في تلك المناطق داخل بالذات، كنت أظن أن الحزن شيء منفصل عن الجسد المادي ولا يؤثر على جودته وقوته..

كنت أحرق نفسي بدل احراق هذا العالم، الذي سيفنى عندما تفنى نفسي، إنه ليس له وجود فعلي الا بوجودي

كم كنت غبية، عندما حملت هذا العالم داخل صدري، وتركته يلعب بأنفاسي..

كم كنت ساذجة عندما اعتقدت أن الحب يمكنه أن يغير شيئا في من حولنا، وان العطاء المبالغ فيه يمكنه أن يلف أحبابنا ببعض العواطف الشفافة..

في ذلك اليوم تجمع حولي الأحبة وبعض الأصدقاء، وكان هو يجلس عند طرف السرير إنه "المعلم"، يلمس قدمي بكل حنان، وعيناه تملأهما الدموع، لكن لا اظنها ستنزل قريبا، لقد كان ومازال لهذه اللحظة الدرس الأعظم الذي تعلمته بصعوبة، لم أكن لأفوت هذه الفرصة واستمتع بهذه اليقظة والإستنارة

كان يجب ان نفترق من أول يوم التقيا فيه..

أتذكر ذلك اليوم جيدا، كان شابا طموحا، وسيما، ابن بلدي، وأنا الفتاة المغتربة ذات الخبرة الكبيرة في التعاملات الإدارية في روما ..

لا انكر أنني انجذبت اليه من أول لقاء، وقلت في نفسي "اخيرا هذا هو حلم حياتي "..

ساعدته في استخلاص أوراق الإقامة، فقد كان مهاجرا سريا، فتحته له باب منزلي، قدمت له نفسي دون أن اشعر بأي عار أو خوف من ردة فعل أهلي بالمغرب..

مرت الشهور وبدأ ينبت لعصفوري الصغير ريش، كنت أشعر في أعماقي أنه أوشك على الطيران، كنت أعلم أن هذا التحليق سيكون بعيدا جدا عن سمائي..

شعرت بخوفت شديد لمجرد الفكرة..

فقررت أن أغامر مغامرة كبيرة، أضمن بها رباطا ابديا بيني وبينه..

حبيبي ! أنا حامل

تسمر في مكانه، كان للتو قد نهض من مائدة الطعام، لازالت آخر لقمة في فمه لم يكمل مضغها بعد..

اصفر لونه، تعثرت الكلمات داخل حنجرته، إلى أن ابتلع كل شيء دفعة واحدة، ولم يستطع النطق ولو بكلمة واحدة..

وظهر الرجل الشرقي الخائف والمنهزم والذليل بشكله الطبيعي..

كنت أراقب عينيه الممتلئتان بالدموع كما رايتهما اليوم، لكن مشاعري تجاهها مختلفة ..

أنا أراه اليوم "المعلم" إنه من أولئك الذين لا يستسلمون حتى يفهم التلاميذ الدرس جيدا ويستظهرونه أمامه ..

لقد كان دائما يحاول هجري وأنا أمسك به وأسجنه داخل عالمي المتخيل..

لكن وقتها انا أيضا كنت شابة، ولدي الكثير من الجرأة والتحدي..كنت اظن أنني أدافع عن حبي..

لكنه كان هجوما ضدي، دفع ثمنه جسدي واطفالي ..

اتصلت بعائلته في المغرب، كنت أعلم أنهم اناس محافظون ولا يرضون بهذا العار الذي ورطهم به ابنهم الملتزم..

ضغطوا عليه ..فتزوجنا

كانت الحياة بيننا مثل ساحة معركة، هو يريد الفرار وأنا ألزمه بمسؤوليات جديدة..

عشرون عاما لم تهدأ فيها أنفاسي يوما، لم اذق فيها لحظة سلام ..

عشرون عاما وأنا مصرة على أنا هذا المر الذي أشربه حلو، وأن الحب يغفر كل الذنوب..

إنه يجلس أمامي الآن، ويدعو لي بالرحمة.. ليرتاح هو من حملي الثقيل..

لا أنكر أن ما حصل كان جنونيا، كيف استطعت قص جناحيه دون وعي مني، لو عاد بي الزمن لتركت له هذا العالم منذ أول لقاء، لو تتاح لي الفرصة لحياة جديدة لاخترت حب ذاتي ..

***

بقلم الكاتبة سلوى ادريسي والي - المغرب

 

هُوَ لَا يَدْرِي الَّذِي تُخْفِيهُ عَنْهُ

وَهِيَ لَا تَدْرِي اَلَّذِي يُخْفِيهُ عَنْهَا

وَأَنَا أَدْرِي الَّذِي لَا يَدْرِيَانْ

و الَّذِي لَا يُبْصِرانْ

غَيْرَ  أنّي لَسْتُ عارِفْ

كَمْ سَأَبْقى

حائراً  بَيْنهُما

لَيْسَ عِنْدِي مِنْ جَوابْ

مَنْ أتَانِي بِهِما؟

= 2 =

لَمْ يَكُونا يَعْرِفانْ

كَيْفَ صارَ الوقتُ رَمْزًا

كَمْ سَيَبْقى الرّمزُ  لُغْزًا

مَا اَلَّذِي يُخْفِي اَلزَّمَانُ

لَهُمَا، أَوْ عَنْهُمَا

= 3 =

خَيَّرَانِي

بَيْنَ أَنْ أَكْتُمَ صَوْتِي أَوْ أُسَافِرُ

قُلْتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ أَغْدُرَ وَقْتِي

وَمَكَانِي

وَسَأَبْقَى

فَاتِحًا لِلرُّوحِ أُفْقَا

أَرْغَمَانِي

أَنَّ أُصِيخَ اَلسَّمْعَ قَسْرَا

فَاجَآنِي

عِنْدَمَا رَاحَا يُعِيدَانِ عَلَيّْ

بَعْضَ مَا كَانُوا رَوُوهْ

مِنْ خُرَافاتٍ زَمانٍ،

لَمْ يَكُنْ يومًا زَمانِي

رَغَّبانِي

أنْ أسافِرْ

فاَحْتَجَجْتُ

قُلْتُ لَا أَرْضَى اَلسَّفَرْ

نَوّمانِي واقِفاً

أَيْقَظانِي خائِفاً

نَوّمانِي مِنْ جديدْ

صَحّياني راجِفاً

بَعْدَ أَنْ نُمْتُ، وَجَاءَ اَلصُّبْحُ،

كَانَا رَحَلا

تَرَكانِي في اِنبهارْ

وسؤالي يتشظّى

فوق مرآة اِنتظارْ

أين وقتي ومكاني

وأنا مستلبٌ بينهما

أَسْفَحُ الأيّامَ

قربانَ اِحْتِراسٍ مِنْهُما

***

شعر: خالد الحلّي

 

خَفَقَ القَلبُ

فَأَسْلَمتُ زِمامي لِصَهيلِ الذِّكْرَياتِ

رَكَضَتْ بِي لِلمَواعيدِ نَجِيباتُ القَصَائِدْ

بِيَقينٍ دنفُ الوَجْدِ بِأَنّي..

لَمْ أَجِدْ غَيرَكِ يَرفو

من وجيبِ الروحِ يا روحي جَنحًا من خُزامى

لِحِوَارٍ

ضَفتاهُ:

تَرَفُ القَلْبِ

وأَحلامٌ تَطيرُ

كَيْ أَطير

لأَشُمَّ العَبَقَ المِنْثال مِنْ أَردِيَةِ اليَومِ المُبارَكْ

طَرَفَاهُ:

نِعمَة الأَوَّلِ مِنْ أَيَّارَ نذرَ العافِيَةْ

وانحِناء الأفق كَي يَلثمَ ما بَينَ يدَيْنا مِنْ كَلامْ

**

مُشْرِقًا كانَ النّهارُ

وأَنا كنتُ اغترفت مِنْ بهاءِ الفَجْرِ عِطْرًا

لمَساءٍ تنثني فيه القَوافي

فتنَةً خَضراءَ ما بينَ يَديكِ

وَمِنَ الشَّمْسِ لِعَيْنَيْكِ استَعَرتُ

كُحلَ ضَوْءٍ وفَوانِيسَ سَهَرْ

**

رُبَّما كنْتُ قَرِيبًا مِنْ نَدى النّجْمِ على خَيْطِ المَساءِ

عاقِدُ النِّيَّة أَنْ أَغْزِلَ مِنْ صَفوَةِ زَهْرِ الأُقْحُوان

تاجَكِ الدُّرّي يا عُرْفَ صَلاتي

لِأوَشِّي بِالمَديحِ

خُطْوَةَ الوَجْدِ النَّبِيلَةْ

وطُقوسًا مِنْ تَراتيلِ الهُيامِ

قَبْلَ أَنْ أنثرَ مِنْ زنبَقِ وَجدي

ضِحكةَ الدّهشةِ مِن وَقعِ رُؤاكِ

قَبْل أَنَّ تصحو على أَهدابِ صمتي

شَهْقَةُ النشْوى على عَيْنِ المَكانِ

لِيَظَلَّ الكونُ ظِلَّيْنا اِتِّقادًا

لغَدٍ تكمِلهُ نجوى الأغاني

وازدِحام الأمنيات

***

طارق الحلفي

تورنتو

غابةٌ خرسانية

أَشجارُها:

ناطحاتُ سحابٍ

وأَبراجٌ شاهقةٌ

تُشاكسُ السماواتِ

بالموسيقى والنساءْ

*

تورنتو

وطنٌ لملايينِ المنفيين

والفقراءِ والعشّاق

وملاذٌ للهاربينَ من حرائقِ الحروب

والموتِ المجاني

والجوعِ والأَوبئةِ

وجنرالاتِ الدمِ والفضائح

*

تورنتو

غابةٌ شاسعةٌ وغامضة

أَحياناً تأخذُ شكلَ مدينة

مُكتظةٍ بالاسرارِ والصبايا

والشعراءِ والمجانينَ والعباقرة

وأحياناً تغدو فردوساً ساحراً

يأخذُ هيأةَ قوسِ قزح

وكرنفالاتِ أَعيادِ الميلاد

وكذلكَ فهي تُصبحُ أَحياناً

مُتحفاً مُكتنزاً بالتواريخِ والذكرياتِ

والاشياءِ التي تفوحُ بالروائحِ

العجيبةِ وتحتشدُ بالكائناتِ الغريبة

*

تورنتو

مدينةٌ بلا ضفاف

وهي مسكونةٌ بروحٍ صاخبةٍ

ومجنونةٍ تهيمُ بالحُبِّ والعُطرِ

والحرّيةِ والخمورِ والبناتْ

وهي أُنثى بذاكرةٍ خرافية

لاتنسى أَبناءَها وعشاقَها

ومجانينَها وسحرتَها

وشعراءَها ومهرجيها

ورواتَها وروائيها

ونساءَها الفاتنات

*

تورنتو

مدينةٌ مفتوحةٌ القلبِ

والأذرعِ والغاباتْ

تورنتو

مملكةٌ شاسعةُ الأَبعادِ

والآفاقِ والسماواتْ

تورنتو

مدينةُ الاحلامِ

والنساءِ والحياةْ

***

سعد جاسم – كندا

........................

* تورنتو: هي العاصمة الاقتصادية لكندا؛  وتُعَدُّ من كبريات مدن العالم .

 

إعرف نفسك..

أبحرت كثيرا يا باوسانياس..

كل مراكبي غرقت في محيط الضباب..

محكوم علي الدوران العبثي

خارج القلعة ..

يا سقراط البهي

كم حاولت إدخال أصابعي في حلقي..

لعلي أصل إلى العش الهلامي ..

لعلي أسحب روحي من ذيلها..

فأطلقها في سقيفة بيتي..

لترتاح قليلا من أغلال الجسد..

وتحط على حافة المزهرية..

لكن لماذا ترتد إلي أصابعي

ملطخة بأطواق الدم..

تكسوها كدمات زرقاء...

كما لو أن ذئبا ماكرا عض تلافيفها

بشراهة مفرطة..

في حديقة رأسي يغرد متصوفة كثر..

طيور لا ترى إلا بباصرة السمع..

كلما أقترب كثيرا..

تفر باتجاه الغيوم ..

كما لو أنها زمرة نوارس

تدق نواقيس الخطر ..

كلما هاجمتني الموسيقى

بعذوبة فائقة ..

قلت روحي تحاول الهروب

من الباب الخلفي.

***

فتحي مهذب

عندما عَادَ من مِيلانو كانت ذَاكرتُه لا تزال تَختزن تلك المشاهد التي عَبَرتْ إلى وجدانه مباشرة وأرضتْ ذائقته الفَنِّية ونزعتْ بها نحو رِحاب الجمال وسحر الإبداع الانساني في أروع تجلياته، وحَقَّقتْ له درجة قُصوى من الاسْتِمتاع بِجَماليات يَعزُّ وُجُودَ مَثيلٍ لها في هذا الزَّمن الذي تلوّثَ بالغُبار والإسْمنتِ واعْتَرتْه مَثالب القُبح والسوداوية، لقد وقف مُتهيِّبا أمام لوحة العشاء الأخير الجِدَاريّة لليوناردُو دافنشِي بِدِير سانتا مَاريّا، يتأمل تعبيرات وجوه المسيح وحوارييه الاثني عشر، وجوه كان بعضها كان يحمل ملامح بريئة كَوَجْه يُوحنا، ووجوه البعض الأَخر كانت ترتسمُ عليها علامات الغدرِ كَوجه يهوذَا الإسخريوطي خائن يسوع، الذي باعه لبيلاطس البَنطي الحاكم الروماني، وكان سببا في صلبه(أو من يشبهه) بالقدس، وعندما غادر الدير كانت أصداءُ المَاضي تَحُفُّ خُطاه وروحه تحلّق في رحابه متماهية مع عِبقِه الذي كان يتنسَّمه في الهواء، فتسري في جسده رعشة انتشاء وشعور بالسعادة، ظلت ترافقه حتى وَجدَ نفسه أمام تمثال ليوناردو دافينشي الشامخ مُحاطا بتلاميذه الأربعة يتوسّط ساحة ديلا سكالا، وجموع الزوار الحاضرين مأخوذين مثله بجمالية المنظر الذي يسافر بهم إلى الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما أزاح ملك إيطاليا فِيتُوريو إيمانويل الثاني سِتار تدشين هذه التحفة الفنية، تكريما لدافينشي عبقريِّ عصر النهضة الذي جاء لِيطوي صفحة العصور الوسطى المُظلمة، ويفسح المجال لإحياء الفكر الكلاسيكيِّ للإغريق والرومان، وترسيخ مفاهيم جديدة مثل الانسانية والإصلاح الديني والواقعية في الفن، كل هذا مرّ بخاطره وهو يجلس على واحد من المقاعد الرُّخامية المنتشرة في محيط الصرح السَّامق الذي يَحتضن التمثال، تساءَل:" هل حقا عُمْرُ هذه التُّحفة قرن ونصف، وكيف تَأتَّى لها أنْ تصمد أمام عوادي الزمن وتقلّبات الطبيعة؟ " تَذكَّر فجأة عملية تدمير تماثيل بوذا بوادي باميان بأفغانستان بمعاول ومتفجرات طالبان، ماذا كان يَحُلُّ بتمثال دافينشي لو كان الحل والعقد بيد المُلّا عمر؟ تَجاوز هذه الفكرة، وقام من مكانه وأجنحة الأفكار المُتهاطلةِ على دماغه تُحلِّق به بين الأَزمنة المُتَواترة ومواطن الخيال الخلّاقِ، قادته قدماه إلى 1824 MARCHESI PASTICCERIA لتناول وجبةِ إفطار بصالون الشاي بالطابق العلوي، مستمتعا بعبق القرن الثامن عشر الميلادي . ومُتِلذّذا بوجبة تقليدية إيطالية أصيلة، بدا له العالم بشكل مختلف وأحس بأنه يتجاوز ثقل السنين واحباطات الأيام الماضية، اتصل بزوجته وأخبرها بأنه قادم في اليوم الموالي، وأنه كان يتمنى حضورها معه، وردَّت عليه بأنّ ظروف عملها حَرمتْها من مُتْعة الوُجود صُحبته ولقاء ابْنهما المقيم بمدينة "كومو" صُحبة زوجته، أنهى المكالمة ثم غادر المكانَ.

دفعَ به خَطْوُه التَّائه نحو غاليري فِيتوريو إيمانويل الثاني، المُركّبُ التِّجِاريّ الضَّارب في عُمق التّاريخِ، حيث يحضر التَّرفُ المِعْمَارِيّ الذي يجمع بين الثقافة والفنّ والتسوّق، وفخَامة القَرن التّاسع عشر بِجماليّة مَبانيه وروعة معالمه الحضارية، فَكّرَ" أن حِكمة الحياة تقتضي أن نعيشَ لحظاتها بشكل يرضي ذَائقتنا ويُحَقّق لنا مُتعة الرُّوح والجَسد في آن واحد ما دمنا مُقبلين ذَات يوم نجهله على تَجربة الموت التي تَعْنِي الفناء المادِّي، ونهاية الحياة بما لها وعليها، وليس أمامنا سوى انتظار النُّشّور " تَوقّف فَجْأَة عَن التَّفكير وهو يَجد الزّوار مُجتمعين حول فُسَيْفساء الثَّور يُمارسون طُقوس جَلْبِ الحَظّ، اِنْدفع نَحوهم بِجرأة لم يتعوّد عليها من قبل وهو يَرطُن باللغة الفرنسية:"اِسمحوا لعمكم عيسى بأن يجرب حظه "،أَفْسَحُوا له الطَّريق فَوضَع قدميه على خِصْيَتي الثَّور ودار حول نفسه ثلاثاً، وتمنّى الصِّحة والعافية وسِعة الرّزق لِنَفْسه ولأسْرته، ولَعَنَ المُلّا عمر وبن لادن والزّرقاوي والبَغدادي وبن بطوش، ثم أخلى المكان لغيره، كان وجهه يستقبل بَياض الأشِعّة المُتسربة من السقف الزجاجي فَيُطْبِق عينيه ويَتَحوّل لون البياض إلى اِحمرار طَيْفي، وتَغمره موجة مُتصاعدة من الأحاسيس مُطوِّقة رُوحه بِفرح لذيذ يَتجاوز المَعقول، وتَراءى له العالم غريبا،مثيرا وحافلا بأسرار كونية تـأخذه نَحو زمن راقصٍ ومتحَرِّك يَتأرجَح بين الماضي والحاضر، تذكّر فجأة أمّه التي رحلتْ ذات مساء شَاحبٍ، كانت دائما تُربِّتُ على كتِفه وتقول بصوت عذب:" ابتسمْ يا ولدي للدنيا تبتسمُ لك"،كانتْ متفائلة حتى في لحظات مرضِها، وتُحاول أن تُشعرَ منْ حولها أنّ الحياة يجب أن تُعاش حتى أخر رمق، عَبرَ الذكرى وتجاوزها، ثم غادر المكان.

اختار أن يقضي ليلته الأخيرة بميلانو بفندق صغير غير مصنّف وسط المدينة، أصرّ ابنه أن يدفع ثمن الإقامة به أيضا رغم تكلّفه بتذكرة الطائرة ومصاريف الرحلة التي امتدت أسبوعا، قال لاِبنه وهو يُعانقه مودِّعا:" يبدو أن رضى الوالدين قد استنزف ميزانيتك أيّها الابن البارّ" ضحكَ الاِبنُ ومعه زوجته وقال: " رضى الله من رضى الوالدين، الله يَسْمَحْ لِينَا منكم أَسِّي عِيسى".

كان الفندق قريبا من ساحة لويجي دي سافويا، وقد تَعمَّد اختياره، حتى يستطيع أن يستقل الباص الذي سينقله لمطار "ميلانو بيرغامو" في فجر اليوم الموالي، للعودة إلى بلده.

في تلك الليلة حلمَ بأشياء جميلة ورأَى صُورا متداخِلة تربط بين الماضي والحاضرِ، رأى وَجْهَ وَالدِه وَضِيئا وهو يُخاطبه بِصوت تَشُوبه نبرةُ حنان: "أنت ولد بارٌّ، ولم يخبْ قط ظنِّي بكَ"، تلاشتْ صورة والده لِتحلَّ مَحلّها صُورةُ زوجته في فترة شبابهما مَدّتْ له يدها ثم اِنْطلقَا نحو الأفق كانت هناك الشمس بلون أرجواني تُعانق البحر، وكانتْ هناك أيضا نَوارس بيضَاء تحلّقُ في اِتجاهات متباينةٍ، قالت له: أنه الحَبيب الأوّل والأخِر ولن تستقيمَ الحَياة دونَ وجُوده، تغيرت الصُّورة فجأة ووجد نفسه يَمتطي زورقا مطَّاطيا بِمحرك دِيزل وهو يخوض عُباب البحر.

 استيقظ على صوت منبّه هاتفه الذكي معلنا بأن ساعة الرحيل قَد أزفت. تَوضّأ وصَلّى، ثم اِرتدى بدلته وحرص على وضع ربطَة عنق جديدة اَهدتها لهُ زوجة ابنه، ووقف ردحا من الوقت أمام المرآة لتسوية قُبعته الأُوربية على رأسه، ولم ينْس رش بعض العطر على ثيابه قبل أن يغادر غرفة الفندق وهو يَجرّ حقيبته.

كان غبش الليل يخيم على أجواء المدينة، وقد خالط بياض الفجر بقية ظلمته،

وكانت أضواء مصابيح النِّيون تبدو شاحبة وهي تختلط بالضَّباب المُنتشر، أحسَّ بهواء رطب يلفحُ وجهه وهو يتجه نحو موقف الباصات، وفيما هو يَسُتحثُ الخطى شعر بيد تُربت على كتفهِ التفتَ، وجد نفسه أمام كهلٍ بلحية كثَّضة ولباسٍ مُهملٍ، كانت ملامحه تشي بأنه ينتمي إلى المنطقة المغاربية، وهو في حالة سكر طافح، كان يَرطن بلغة إيطالية تُخالطها لغة عربية دارجة، طلب منه سيجارة فاعتذر له، وأخبره أنه لا يدخن، مضى الكهل إلى حال سبيله وهو يترنح، وتابع سيره، ليست المرة التي يصادف فيها مثل هذه الحالات فهي كثيرة ومتعددة، كثيرون هم الذين دخلوا بلاد "الطاليان" بعقود شرعية، وكثيرون أيضا الذين دَخلُوها راكبين موجَ البحر وعبابه، كلهم كانوا يلهثون خلف الحلم الإيطالي1 الذي تحول فجأة إلى كابوس بالنسبة للبعض، فصارت الشوارع والساحات وأبواب الكنائس مأوى لهم، يَعِيشون دون أوراقٍ ثبوتية بلا غاية أو هدف.

عندما ركب الباص كان لا يزال تحت وقع مشهد الكهل المتشرد، الذي يبدو أنه ترك خلفه أُسْرة تنَتظره واِختار الضِّياع في بلاد الفِرنجة، اِختلطت الأفكار برأسه، ومرّت بِخاطره قولة الكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا:

"إن كل الناس دون استثناء يستحقون الشفقة إن لم يكن لشيء إلا لأنّهُم أحياء".

"كلنا في حاجة للشفقة لأننا أحياء، فمن يُشفق عَلى منْ في هذا العالم التي تختلط فيه المفاهيم؟! ربما الأمْوات الذين نلجأ لأضرحتهم أحيانا للتفريج عن انفسنا وتفريغ الهموم الجاثمة على صدورنا" هكذا فكّر، ثم حَمْدلَ وحوْقلَ.

في الطّائرة أخد مكانه بجانب شابّ في عمر ابِنه، تبادل معه التحية ثم أنتظر اقلاع الطائرة ليَستسلم لسُلطان النّوم، عندما أفاقَ مِنْ غفوته اِنتبه إلى أنّ الوقت المُتبقِّي للوصول إلى مطار محمد الخامس هو في حدود السّاعة والنصف،

الوداع الطُّقوسي الذي عاشه هذا الفجر بميلانو ترك في نفسه شعورا مؤثرا لأن الكهل المدمن على الكحول الذي قابله هذا الصّباح ذَكَّره بشقيقه الذي كان يعيش بجزيرة صقلية، بدأ حياته مَيسورَ الحال يَكسب أموالًا طائلة لكنه سقط في المحظور وتعامل مع عصابات المافيا التي تنشط بالجزيرة، وما لبث أن غرق بين براثين الإدمان، أدمن شرب الكحول واستهلاك الكوكايين، ثم انتهى به الأمر نزيلا بأحد المراكز المتكفلة بالمدمنين، وفي ليلة باردة خرج يبحث عن نفسه ويحاول إعادة ترتيب أورقه، لكنه عبر إلى العالم الأخر، واُكتشفتْ جثته جامدة على مقعد جرانيتي في صباح اليوم الموالي.

توارت هذه الذكرى وتلاشت وعيناه تحتضنان كتل السحاب المتسارعة عبر نافذةِ الطائرة سَابحةً في السماء اللَّازُو رْديّة اللون، يُمكنه الأن أن يهنأ بلحظة سكينة ولا يَهُم ما ستحمله الأيام القادمة من أحْداثٍ ووقائع، فَدوْرَةُ الزَّمن ثاَبِتَةٌ ولا شيء يُمكنه أن يُبدِّل في مَسَارِها لأن الحَياة مبنية على التِّكرار رغْم التَّفاصِيل البَلهاءِ التِّي تَبْقَى مُجَرّد تَحْصِيل حَاصل، مَادامتْ النَّتِيجةُ واحدة والسِّياق بِكُلّ دلالاته يَنْتَهِي إلى نُقطة نِهَاية لَا مَحِيد عَنْها.

***

قصة قصيرة 

محمد محضار 25. أكتوبر 2024

...................

1- الحلم الإيطالي تمت استعارته من عنوان المجموعة السردية الواقعية للصديق الإعلامي الشرقي بكرين

أحاور ليلي

أشكو إليه سهادي:

ليتك تجود علي بالكرى..

مذابا مع قطرات الندى ..

او منهمرا على شبابيك وحدتي ..

يجيبني برشقات من هموم..

تكوّرت كحبات البَرد ترجمني ..

او كسيلٍ من الطوفانِ هطول ..

أتوسد القلب كطفلٍ..

ينزوي بعيداً..

يعدّ أحلاما كباراً ..

فلا الاحلام ترتجى

ولا دجاك الحالك يزول ..

والصبح البعيد ..

حبيب ارجوه وصالاً..

فلا يراعي لي عهداً..

فهو في الوعود نكول..

طلاسم انقشها على الهواء..

وأوراد اتلهّى بها من كوابيس ظلامكَ

فليس هناك سوى أمنياتٌ ثقالٌ ..

تهديني أشواكاً ،وطحالب..

غرستها حوريات البحر..

في قاع الامنيات ..

اصنع منها اقراصاً..

واخبزها عند شواطئ خريف العمر..

وطيفكِ مازال بعيداً..

يفرّ تارة من بين يديّ كفرسٍ جموحٍ..

واخرى يقبل صوبي مهر ذلول..

وأنا أعتّق من رضابِ الشوقِ خمرا

في قوارير ،نسيت فيها فرحي ..

أمنياتي كأسرابِ سنونو ..

تطوف في دمي ، وقد ضلّت سبيلها ..

وانا اراقب زورقكِ..

المترنح بين امواج التيه ..

ودوامات الرغبة..

ألـوّح إليكِ بيدي مثل بحار اضاع بوصلته ..

فيجذبني الوهم الى الاعماق..

مربوطا بأحجاراليأس ..

وحين يجتاح عينيّ ألقُ الصباح

يخبرني نادل الشمس أنكِ غادرتِ

***

جواد المدني

 

أصعد من الماء

كما أتيت من السماء

بوجه غارق في الصمت

وروح مبللة بحزن ثقيل

وبقايا كحل يصدح بأغاني الجدات فوق قمم الجبال

**

وكما أنجبتني أمي

دون عمليات أو مساحيق التجميل

أغوص في البحر

أستعيد حدسي الدقيق

ووعيي العميق بالذات وبالعالم

فتحدثني المحارات

عن سر الملوحة في الدمع

عن سبيل القطرة في الموج

عن السفن الضالة

وعن الغرقى وقد يئسوا من الحياة

وأحدثها عن سحابة تستحم في ضوء الشمس

عن التنهيدة

عن ثقوب ناي تصدح بالأنات

وعن طفلة غادرتني بشعر كالليل وبعينين كالبستان

فاحترق عقلي

وبقي قلبي يتأرجح بين الجرح والقصيدة

**

أنا الأنثى بصوت واهن ومؤثر كالبلور

لا أتحمل الأصوات المرتفعة

تحدثوا بصمت أيها العابرون

فهنالك مرضى دائما بالجوار ،

أتحدث لطبيبي النفسي

دون أن يكون هناك من يربط خطاياي

بسبل السماء وانقطاع المطر

ودون أن يكون هناك جحيم بالإنتظار

أبتسم للنوارس بشكل يائس

لا أركض نحو الغد

ولا أجر إلي الأمس

أدندن voila qui je suis لِـ Barbara Pravi

أكنس ذاكرتي من أعشاش ذكريات ترهقني

وكامرأة لا تخشى أن تتبلل داخلها الحياة

أمضي إلى البحر بكثير من اللامبالاة

أنظر من نافذة الموت

أدس حزني

في حكايات الموتى

ووصايا أمهاتهم التي ابتلعتها المياه

وأمضي نحو المجهول دون ظل خفيفةكفراشة.

***

نجية الأحمدي المغرب

 

كلّ مجدهِ، وهو يقاربُ سنَّ الشيخوخة، إنّهُ كان  مصارع ثيران، رسَّخ رياضةً غريبةً  على مستوى البلاد.

جوبه بالاستنكارِ والسخرية، لئلاّ تصبحُ تلك الرياضةُ العنيفةُ تقليداً، المستنكرونَ يرونَ أنّها رياضةٌ أجنبية، اشتهرت في أسبانيا، كبلدٍ أوروبي، كلُّ شيءٍ مُستثمرٍ لديهم من أجلِ كسبِ المالِ والمتعةِ وتفريغِ الدوافعِ العنفيةِ بحسبِ علماء النفس.

هي أجنبيةٌ لن تنجحَ في ظروفنا.. كفانا عنفاً.. كما يقول الناس هنا في البلاد،  ويستمرّونَ في القول.. ومن ثمَّ تأتي رياضةٌ كهذه، بإمكانها جذبُ النشءِ الجديد، بوصفها تدلُّ على الرجولةِ والشجاعة، ويقول آخرون.. يمكنُ اعتبارُها فرصةَ عملٍ رأسمالُها المغامرةُ والقوةُ البدنيةُ والتنفيسُ عن مشاكلهمِ الاجتماعيةِ والهربِ من التفككِ الأسري، فضلاً عن الانتحارِ بطرقٍ يعتبرونها نبيلةً لأنّها تتمُّ أمامَ ملأٍ من الناس، نبلُها ينبع من أنّها رياضةُ انتقامٍ من كلِّ مسبّبات مشاكلهمِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والنفسية .

كان مصارع الثيران  رائدهم، جميعُ متفرجي الملعبِ الأولمبي الكبير، يترقّبونَ ماذا سيفعل،  في الحلبة، حين دخلَ ثورٌ ضخمُ البنيةِ وذو قرونٍ حادّة. هم يعرفونَ مُسبقاً بحسبِ مشاهداتهم في الفضائياتِ عن مصارعةِ الثيران في إسبانيا، التي يُوجدُ فيها

أكثرُ من 400 حلبة، حيثُ يُقتلُ فيها 300 ألفُ ثورٍ سنوياً،  أما في البرتغال فيشارك نحو2500 ثور في 300 نزال في العام.. يعرفونَ أنَّ هناكَ مساعدينَ للمصارعِ الأساسي الراكبِ مترجلينَ، يُسهمونَ في تشتيتِ انتباهِ الثور، فيسدِّد الأولُ سهامهُ واحداً تلو الآخر.

هو افترق عن هؤلاءِ بكونه وحيداً، وافتراقه الآخرُ، في أنَّ الثور الذي يسعى إلى مصارعتهِ لهُ دلالةٌ معينة، يريدُ أن يصرَعها، كي ينتصرَ على ذاته أولاً، يصرعُ الطيبةَ الزائدة، التي تمنح الآخرين فرصاً ذهبيةً لاستغلاله مادياً ومعنوياً، إنّها شريعةُ الغاب، ليس ضعيفاً، ولكنَّ مكنوناتِ قوتهِ الحكيمةِ تغلّفُها الطيبةُ، التي ينوي القضاءَ على ثورها المتضخّم الآن. ولكنَّ ضخامته  أكثر مما يتصوّرُ لأنَّهُ شبَّ معه/ هو ظلّه، مُردّداً بتسليمٍ" من شبَّ على شيءٍ، شابَ عليه" ولكنَّهُ ظلّه، هل يجتذبهُ  بقماشةٍ زرقاء، بدلاً عن الحمراء،  لعلّه بالأولى، يصرعهُ بالركضِ السريعِ والدورانِ حولَ الحلبةِ لساعات، ثم يخرُّ على الأرضِ تَعِباً، مستفيداً من وجودِ حلباتِ مصارعةِ في كاليفورنيا وجنوبِ فرنسا لا تجري فيها إراقةُ دماء، لكنَّ ما حدثَ أنَّ ثورَ طيبته، الذي انفصل عنه وتغوّل عليه، أقعى على أرضِ الحلبةِ من الضّحك، وبدورهِ شبَّ الجمهورُ سخريةً مما حدث، تصوّره وهو يضحكُ يقول"( لعب أطفال)، أنا لا أنازلُ فارساً، خَسرَ كلَّ شيء، حياتهُ كلُّها خسارات، جعلتهُ يبدأُ من تحتَ الصّفر، خَسرَ كلَّ مالهِ، يثقُ بما حولهُ ثقةً عمياء"، ورفعَ قوائمهُ عالياً" أنا المنتصرُ من دونِ نزال"، ومن ثم ردّد كلماتٍ بصوتٍ خفيض، لم يسمعها سواه" ستظل طيباً جداً، وسيستغلك آخرون، حتى أقرب الناس اليك". في أثناء ذلك،  صفَّقَ لهُ الجمهورُ ضاحكاً من فارسٍ مخذولٍ من دونِ نزال.

أخرجَ بعضُ الحاضرينَ، من الذينَ لمْ يسخروا من مجرياتِ النزالِ قماشاتٍ حمراً يلوِّحونَ بها، ما أثارَ حفيظةَ الثور، فانطلقَ سريعاً نحو أماكنهم على مدرّجات الملعب، مجتازاً الموانع،  فأثارَ رعبَ آخرينَ يتمسخرون، فأصبحَ نزالاً هزليّاً فوضوياً على المدرّجات، لكنهُ حوصرَ في دائرةٍ أغلقها بانتقامٍ رهيبٍ ذوو قماشاتٍ حمرٍ ممن يحملونَ سكاكينَ حادّة، فتناوشتِ الثورَ الهازلَ من جميعِ أجزاءِ جسدهِ حتّى خرَّ صريعاً مدمّى، بينما كان المصارع في الحلبةِ فرحاً باكياً لما جرى، لقد قتلوا طيبته، قتلوها كلّها، لا لأجله، بل لأجلِ  أن يصبحَ شرّيراً مخادِعاً مثلَهم، كان يفكّرُ في ذلك، وأمامه في المدرجات قتلةُ الثورِ من أصحاب السكاكين، يتصارعونَ على نيلِ حصصهم من لحمِ الثورِ الضّخم البنيةِ الذي  ربّاه لما يزيدُ عن نصفِ قرن، كأنَّهم يريدونَ اجتثاثه، وينهبونه أموالاً ومعنويات.

خرج من الملعب، بعدَ أنْ غادرَ الجميع، وهو أفكّرُ في قصّابي ثورِ طيبته، كانتْ وجوههم لها ملامحُ أعداءٍ وأصدقاء، لا فرق، رآهم في الشوارع والمقاهي يرتدونَ بذلاتٍ حمراً، استعداداً لمواجهته في يومٍ ما، كأنهم ثيرانٌ لاهيةٌ تتجوّلُ بحرّية، كي تطعنَ  إخلاصه وكفاءته في العمل، وتستقبحَ كلَّ جميلٍ في سيرته، وتسوّدَ كلَّ ما هو ناصعٌ في سريرته.

إستيقظ من نومه فَزِعاً، انتبه إلى رداءِ نومه، عجباً.. قماشةُ الأمامي من الأعلى إلى الأسفل حمراء، والجزء الخلفي قماشةٌ زرقاء، وحينما عاد إلى النوم، بزغتْ له فتاةٌ جميلةٌ تلوّحُ له بمنديلٍ أبيض، فصرخ بها.. لن أستسلم، ولكنّها اختفتْ مع منديلها حين استيقظ ثانيةً، وهو يبتسمُ مع بزوغِ طلائع فجرٍ جديد، لن تشرقَ فيه الشمسُ على حلباتِ مصارعةِ الثيران.

***

قصة قصيرة: باقر صاحب

 

قصص قصيرة جدا

ثَوْرِي …

1- أَنِّي بِحَاجَةِ إِلَى مُهْلَةٍ تَجُودُونَ بِهَا عَلِي، لِكَيْ أَسْتَعِيدَ بِهَا أَنْفَاسِي اَلشَّارِدَةُ، وَأَطَلَّ عَلَى زَمَنٍ، لِكَيْ أَزْرُهُ، بَعْدَهَا لَنْ أَبُوحَ بِمَا فِي دَاخِلِيٍّ، سَأَسْقِيكُمْ اَلْمَرَارَة وَسَأَجْعَلُكُمْ مُتَعَطِّشَيْنِ لِلْبَوْحِ.

***

قَضِيَّةٌ …

2-  أَلْغَى كُلُّ شَيْءٍ ، بِرَفَّةِ جَفْنٍ ، دُونُ تَرَدَّدَ ، بِأَيْدٍ مُكَبَّلَةٍ خَلْفَ اَلظُّهْرِ ، وَعُيُون مَعْصُوبَةٍ لَنْ أُفْضِيَ بِمَا فِي دَاخِلِيٍّ. كُمٌّ يُرْهِبَكُمْ هَذَا اَلصَّمْتِ رَغْمَ سَادِيَّتكُمْ فَإِنَّ لَم اِسْتَنْجَدَ بِكُمْ وَاسَاومْكِمْ عَلَى قَضِيَّتِي ، فَالْمَوْتُ أَجْدَى.

***

غُرْفَةُ اَلْعَانِسِ

3- صَمْتٍ يَقْتُلُوا ضَجِيجُ اَلْأُسْرَةِ ، لَا لِرَائِحَةِ رَجُلِ فِيهَا ، لَا سَجَائِرِهِ ، لَا مِعْطَفَهُ ، لَا أَزْرَار مُبَعْثَرَةً ، سِوَى سَرِيرِ صَدَأٍ لَا يَئِنُّ مِنْ وَجَعِ اَللَّذَّةِ.

***

رَجُلُ اَلْإِطْفَاءِ

4- كُلَّ مَا صَادَفَتْ عَانِس قُلْتَ لَهَا: أَيُّ رِجَالٍ أَحَبَّ إِلَى قَلْبِكَ قَالَتْ: رَجُلُ اَلْإِطْفَاءِ؟ اَلَّذِي يُطْفِئُ نَارَنَا بِخُرْطُومِهِ اَلَّذِي يَحْمِلُهُ مَعَهُ دَائِمًا

***

نِصْفُ اَلْعَالَمِ

5- مَا اِسْمُ هَذَا اَلْحَيَوَانِ يَا أَبِي قَالَتْ اَلطِّفْلَةُ اَلصَّغِيرَةُ، اِسْمُهَا اَلسُّلَحْفَاةُ قَالَ اَلْأَبُ: اُنْظُرِي إِلَيْهَا كَيْفَ تَسِيرُ بِبُطْءٍ؟ نَظَرَتْ اَلطِّفْلَةُ بِتَعَجُّبٍ وَقَالَتْ: نَعَمْ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ نِصْفَ اَلْعَالَمِ عَلَى ظَهْرِهَا.

***

سَاقٌ

6- فِي كُلِّ مِهْرَجَانٍ عَسْكَرِيٍّ يُقَامُ فِي مَدِينَتِنَا ، كَانَ أَبِي يَشْتَرِي بَاقَةً مِنْ اَلْوَرْدِ ، يَهْدِي وَرْدَةً إِلَى كُلِّ جَرِيحِ حَرْبٍ وَبِالتَّحْدِيدِ مِنْ فَقْدُو إِحْدَى سَاقَيْهِ؟ عِنْدَهَا سَأَلَتْهُ: لِمَاذَا هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ اَلْجَرْحَى. قَالَ: لِأَنَّهُمْ مَثَّلَ اَلْوَرْدَةَ بِسَاقِ وَاحِدَةٍ.

***

رَجُلُ أَمْنٍ

 7- فِي حَاجِزِ اَلتَّفْتِيشِ وَبَعْدَ عَوْدَتِي مِنْ مَوْعِدًا خَاص. اِسْتَوْقَفَنِي   رَجُلُ اَلْأَمْنِ، أَنْزَلَنِي مِنْ اَلْحَافِلَةِ وَأَخَذَنِي بَعِيدًا عَنْهَا هُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْتَسِمُ؟ اُخْرُجْ مِنْ جَيْبِهِ مَنْدِيلاً وَقَالَ: اِمْسَحْ اَلْقُبْلَةِ اَلَّتِي عَلَى رَقَبَتِكَ قَبْل أَنَّ يَكْتَشْفُوا أَمْرُكَ؟

***

طَيَرَان

8-  طِفْلِ اَلَّذِي كَانَ يَقْفِزُ كَثِيرًا مِنْ فَوْقِ سُورِ اَلْمَدْرَسَةِ، كُنْتَ اِحْذَرْهُ دَائِمًا مِنْ هَذِهِ اَللِّعْبَةِ. اَلْيَوْمُ رَايَتَهُ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْنِ فَوْقِ سُوقِ اَلْمَدِينَةِ اَلَّذِي فَجَّرَ اَلِانْتِحَارُ نَفْسُهُ فِيهِ.

***

ديار الساعدي – قاص عراقي

 

عش خاضعًا إن لم تكن سنوارا

ستموت مثل نعامة  تتوارى

*

من يزرعون خنوعهم، في امسهم،

سيكون عند حصاده استعمارا

*

واشد من فقد البسالة شامت

والناس تبكي الباسل المغوارا

*

صلب المسيح عند غزة داميا

وبكل طفل، يستغيث جهارا

*

اعمار ابناء المبادئ غضة

ستظل اعمار الكرام قصارا

*

والجبن ملهاة الذين تغافلوا

الراسمون على الوجوه العارا

*

لا تنهزم …لا تنحني …

وارمي عصاك لتستحيل نهارا

*

ودع الذين تخلفوا عن ربهم …

القاعدون على السراط حيارى

*

لا تنكسر …لا ترتقب …

صحو  الجماهير التي تتمارى

*

فالخوف من اسمى الفضائل عندهم

ويبررون لعجزهم كسكارى

***

د. رحيم الساعدي

ماذا يكمن في صوتك؟

صوت المطر على زجاج النافذة،

في ليالي الشتاء الباردة.

وصعودك سلمًا

لتبديل لمبة محترقة.

أتعرف ..

ماذا يكمن في صوتك؟

فيه رائحة الأوراق القديمة،

وآهات التعب بعد نهار طويل،

وحبك لهذه المدينة،

كطفل يلعب بقطاره الخشبي

وينسى نداء أمه للعشاء.

أتعلم،

ماذا يكمن في صوتك؟

تكمن فيه الذكريات المعتقة،

وصدأ المفاتيح القديمة،

وألحان أناشيد الطفولة

وانعكاس أصابعك على الجدار في لعبة الظلال.

أتعرف،

ماذا يكمن في صوتك؟

فيه همس الورق على مكتبك،

ولمساتك لشعرك عند التفكير،

وترتيبك لعزلتك المبعثرة في الهواء.

أتعلم ،

ماذا يكمن في صوتك؟

تكمن فيه الكلمات المقيدة،

وأشياء صغيرة ربما،

لكنها تقف في ساعات هذا النهار،

كنصب تذكاري للأحلام.

أتعرف ماذا يكمن في صوتك؟

فيه كلمات لم تُقَل،

وأسرار لم تُكتَشَف،

وعمق شعورك الذي يختبئ خلف عينيك.

***

ريما آل كلزلي

 

ترصّعون سلاحَ النَّصر بالقُبَلِ

ما اهتم بالموت من يرنو إلى الأجلِ

*

إنْ حان في السّوح مخضلّاً بما نزفتْ

فيه الجراحات من خلفٍ ومن قُبُلِ

*

يقبّلون سلاح النَّصر في فمهم

من بعدما أذّنوا خيراً على العملِ

*

هم يعشقون سلاح النَّصر لا خبلاً

إنَّ العدوَّ يحُبُّ القتلَ في خبلِ

*

هم يحملون سلاح النَّصر في يدهم

مذ أرغموه إلى (لبنان) لم يصلِ

*

هم أرهبوه برغم الخوف في زمنٍ

(إخوانُ يوسفَ) من واشٍ و منخذلِ

*

باعوا الضَّمير - وهل كان الضَّميرُ بهم!؟ -

كي يشتروا العرش بالتّطبيع في الدُّولِ

*

باعوا العروبات والإسلام في قدحٍ

للذّلِّ .. يا حيف؛ لم يُبقوا من الثّمَلِ

*

حتى على الحيف ما اهتزّت بجبهتهم

عُرَيقةُ الشّهم في يومٍ على خجلِ

*

عافوا القياد لحبل البئر يأخذهُ

كي يغنموا المال في بخسٍ على عَجَلِ

*

جاءوا أباهم .. وهم يبكون: يا أبتي

قد جاءنا الذئبُ .. إسرائيلُ بالأَسَلِ

*

ما كان شيءٌ بأيدينا لنمنعها

أقوى من العُرْبِ إسرائيلُ بالدَّجَلِ

***

رعد الدخيلي

 

كلماتي

عالقة على الورق

كالندى..

(2)

كقطرات المطر

ساحت على الزجاج

دمعتان..

(3)

ضباب جليدي

شارب

ابيض..

(4)

شتاء قارس

جفون ناعسه

صورة وساده..

(5)

كالشبح..

بين الضباب

جسد يتأرجح..

(6)

زجاجة خمر

رأس يدور

اقدام متعثرة..

(7)

الريح تصفر

يتسلل البرد

شقوق الباب..

(8)

الشمس باهتة

سكون

قبل العاصفة..

(9)

الناس نيام

زقزقة العصافير

الفجر..

(10)

عند الفجر

تغريدة البلبل

أذان الصلاة..

**

د. جودت صالح

23 تشرين الأول 2024

فوق جبالِ ضمائرَ بارزةٍ

يتربَّعُ شمساً

تُشرقُ

حتى آخرِ قطرةِ ضميرٍ

وكلامْ،

*

أمَّا السَفْحُ المُستتِرُ ضمائرُهُ

في كرةِ النار.. المُتدَحرِجةِ ....

هناك.....

في أروقة ِالسادةِ..

عُبَّادِ الأصنامْ،

فالفعلُ الماضيْ لم يمضِ،

ومضارعُهمْ مكسورٌ

ماضٍ في ذيلِ الأقزامْ....

*

إقرأْ آياتِ الحكمةِ

فوق وسادتِكَ!

فاللهُ الحكمةُ والحاكمُ..

ربُّ الأحلامْ،

فاصبرْ...!

الظَّاهرُ يظهرُ مُتصِلاً

بضميرِ القادمِ مِنْ

سيلِ أنامْ.....

*

فوق جبالِ ضميرِ الأنديزِ

تربَّعَ ....

ذاكَ الشَّيخُ

في الماضي المَبنيِّ..

بالمنجلِ والچاكوچِ..

وضميرِ الأقوامْ،

في الحاضرِ مرفوعٌ

بالضَمِّ

في صدرِ ضميرِ الوافرِ..

مِنْ أحلامْ،

فقرأْنا فيهِ....

وفيهِ....

سِفْرَ الخالدِ

منْ تاريخِ الأيامْ

*

إقرأْ

على أرضِ شهيدِ الأحلامِ..

الأقوى

مِنْ خيمتِهمْ

ألفَ سلامٍ.....

وسلامْ.....

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2024

........................

* الچاكوچ: المِطرقة بالعامية العراقية

 

كَشغفِ الملائِكَة

بماءِ الحياةِ

أنتَظِرُ..

الوطن المُبلَل بالمَطَر

كَرعشَةِ غَيثٍ

عاشِقةٍ

في بحرِ المَرايـــــــا

تَدلَى النَّدى على جِلناري

**

لَنْ أرتَوي مِن بريقِ العِشق

تَحبو النجوى نَحوي

يطيرُ الحنان بينَ الأَراجِيح

**

عِندَما تَرتَشِفُ السَّماء..

ثَغرَ الوجد

أكتَمِلُ بِكَ غراماً

اكتملْ بي ولهــاً

**

لا ُتعِد تَرتيبَ لُغزِي

وأطفئْ قِنديلَك ..

قبلَ احتِراقِ الفَراشات

إنني عاصِمةُ القمر..

سأمنحك الهُيام

ميثـــاق عهـــــــــــد.

***

سلوى فرح

 

هما شيخان مُسنّان، لكنهما شابان في الفكرة والحلم.. وصلا إلى ما وصلا إليه من عمر متقدّم بعد رحلة حياتية قضياها معا لم يفترقا إلا حين هاجر أحدهما إلى الخارج بادعاء البحث عن الحياة المفقودة في البلاد. وهو ما وتّر الجوّ بينهما، ففي حين أكد مَن بقي في البلاد أنه رأى الدنيا فيها، فقد أصرّ الآخر على أنه رأى ما لم يره صديقه.. لذا أيضًا كانا شديدي الاتفاق وفي الآن ذاته كانا شديدي الاختلاف، وبعيدًا عن المحبة وركوب نجم أحدهما على نجم الآخر، فقد كان كلّ منهما، مع تفاوت في المستوى والدرجة، يرى أنه هو المُحقّ. كان هذان الشيخان المسنّان الشابان قلبًا وروحًا، وهو أمر غريب آخر مُتقاربي الاسم الشكل الطول والعرض. فقد اتفقا في كلّ شيء واختلفا، وهو الامر الغريب مرة أخرى، ولم يكن اسماهما كما شكلاهما غريبًا عن الآخر فقد دُعي مَن هاجر منهما وعاد بعد نحو العقد  من البُعد باسم نادر فيما دُعي صديقه اللدود باسم ندير.

لحظة وقعت أحداث هذه القصة، لم تبتعد كثيرًا عن خلافاتهما واتفاقاتهما التاريخية، بقدر ما اقتربت.. هكذا ابتدأت عندما قطع الاثنان مسافات طويلة في رحلة أطلقا عليها اسم رحلة التنقيب والبحث، التوتر والقلق.. وقد توقّف الاثنان على مرتفع تظهر منه قمم الجبال الثلاثة الراسيات قبالتهما.  وجرى بينهما الحدث التالي:

نادر: ما أبعد هذه الجبال.. الجبل الثالث بعيد.. بعيد جدًا..

ندير ساخرًا: ما رأيك أن نبدأ السير وان نمتحن بذلك شيخوختنا.. فاذا وصلنا إلى ذاك الجبل البعيد..

هنا قاطعه صديقه الشيخ نادر قائلًا: اسكت يا ختيار.. الجبل الثالث بعيد حًقا إلا أنه قريب في رأيي. فرد ندير: ما أبعد ذاك الجبل.. أعتقد أنه مِن الصعب علينا تجاوز هذين الجبلين والوصول إلى تلك القمة الثالثة العالية.

هكذا مضى الحديث بين الاثنين إلى أن لمعت عينا ندير متحديًا: هل تراهن على أنه بإمكاننا أن نصل إلى تلك القمة؟

ركب شيطان السفر القديم راس نادر فردّ بأنفة وشمَم: أراهن أيها الشيخ العجوز.

تمتم ندير قائلًا : سترى مَن الشيخ العجوز بيننا.. مَن هاجر أم مَن بقي؟

انطلق الاثنان صاعدين الجبل الأول بهمّة أطفال وقوة شباب، وراحا يصعدان الجبل الأول. كان صعودهما صعبًا على نادر سهلًا على ندير. غير أن الاثنين أخفيا مشاعرهما.. ولاح في عينيّ كلّ منهما الإصرار على كسب الرهان، فإذا ما عجزا خسر نادر وإذا ما واصلا ربح  ندير.. وهنا تعقدّت الأمور وبدت لكلّ منهما في غاية التعقيد، فماذا يفعل نادر إزاء إصرار ندير؟.. وانطلاقته الشبابية.. المندفعة اندفاعة سهم عرف هدفه وانطلق باتجاهه.. ما إن دنا الاثنان من قمة الجبل الأول حتى هنف نادر بصديقه ندير محاولًا مداعبته وخداعه.. ألم تتعب يا ختيار. قلت لك انك انت الختيار.. كلا لم أتعب. هيّا بنا نحن نقترب من القمة . ومضى الشيخان احدهما/ نادر يحاول أن يفتّ في عضد الآخر/ ندير، فيما انطلق ندير عاشق البلاد ومحبّ جبالها يغذّ الصعود.

عندما وصل الاثنان قمّة الجبل الأول كان المساء قد بدأ بالهبوط، ومع هبوط المساء راح الاثنان يهبطان الجبل الأول مُتنقليَن من سفح إلى مُنحدر. في الناحية الأخرى من اسفل ذاك الجبل توقّف الاثنان، وفي بال كلّ منهما فكرة واحدة تلحّ عليه، مفادها كيف أفوز بالرهان؟.. ندير يُريد أن يواصل وفي خاطره تلقين صديقه درسًا في التعلّق بارض الوطن جبالًا وسهولًا، ونادر يحاول أن يعرقل المسيرة أملًا ورغبة في اقناع صديقه بأن الهجرة افضل وأن تلك البلاد التي قضى فيها قُرابة العقد من الزمان أفضل من بلاده الجاحدة الناكرة للمحبة. وهنا لمعت في خاطر نادر فكرة ما لبث أن ابتدأ بتنفيذها، أرسل نظره إلى أعلى الجبل الثاني، ابتسم وغرس عينيه في عيني صديقه ندير، قال:

-اسمع.. صحيح أننا تراهنا لكننا لم نحدّد المكافاة لمن يفوز..

بدا أن ندير فهم ما رمى إليه زميله فقال مِن توّه:

-المُكافأة واضحة فإذا ما فزت أنا بيقينا في بلادنا وتوقّفت عن مديح أهالي تلك البلاد التي سحرتك واخذتك منّا.. حتى انطبق عليك المثل القائل "غاب يوم وليلة ورجع يسأل وين باب الدار"..

قبل أن يواصل ندير قاطعه نادر:

-وإذا فزت أنا وعجزنا عن الوصول إلى الجبل الثالث ذاك الصعب البعيد.. وهو ما أراه رأي العين.. وافقت حضرتك ورافقتني في قضاء ما تبقى لدينا من محبة وعمر.. في تلك البلاد اللي ما تتسمّى كما تدعي.

ابتسم ندير ولمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل. خرج منه ذاك الشاب المُحبّ لبلاده المتيّم بمياهها الطيبة الرقراقة وجبالها الراسية العالية.. مدّ يدَه إلى يد صديقه التائه المشاكس، فاضطر هذا لأن يمسك بيده الممدودة اليه.. وابتدأ الاثنان في صعود الجبل الثاني، وفي عينيّ كلّ منهما حلم وأمل. نادر يريد أن يُقنع نديره بالموافقة على مغادرة البلاد ضمن هجرة أبدية هذه المرّة وتليق بشيخين متفقين ومختلفين في ذات الوقت، فيما يحاول ندير أن يُقنعه بأن أرض الآباء والاجداد إنما هي جنّة الله على الأرض ولا بديل لها مهما حفلت جنة تلك البلاد البعيدة بالأشجار.. الرياحين الاثمار والنساء أيضًا.. بين هذا العزم وذاك الإحباط المرغوب به انطلق الاثنان أحدهما يشدّ الآخر إلى الوراء والآخر يشد قبيله إلى الامام.

عندما وصل الاثنان إلى أسفل الجبل الثالث كان التعب قد أخذ مأخذًا جديًا في جسدي كلّ مِن الصديقين المتفقيَن المختلفين، ولمّا كان نادر راغبًا في تلك البلاد البعيدة، كان ندير مندفعًا برغبة جنونية هائلة في كسب الرهان وإقناع نادر، بأنّه لا بلاد لنا في هذه الدنيا الفانية، إلا بلادنا واننا مهما اندمجنا في بلدان أخرى وأناس آخرين فإننا سنبقى الغرباء. ولما كان ندير يتّصف بكلّ هذه الصفات.. يضاف إليها أنه سبق وتمرّن على صعود جباله ومعانقة اتراحها قبل أفراحها.... فقد شدّ منطلقًا إلى الامام.

هكذا بات من الواضح أن ندير ابن البلاد الباقي فيها المتشبّث بشمسها وترابها هو مَن سيفوز في الرهان، وهنا دوّر نادر في ذهنه ما يحدث في الآن واللحظة وما يمكن أن يحدث بعد الرهان، ومرة أخرى لمعت في ذهنه فكرة جهنّمية " كيف لم تخطر على بالي تلك الفكرة منذ البداية"، .. ابتدأ نادر بالتراخي.. وعندما وصل منحدر الجبل الثالث.. أبلغ جسده ما نوى عليه من تراخ.. وتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف عن أشجار البلاد.. ولم يتوقّف جسده المتهاوي إلا في أسفل الجبل.. بدا أن ندير أدرك ما انتوى صديقه نادر فعله.. وتصوّر نفسه غريبًا في تلك البلاد البعيدة الغريبة.. فدبّ في أوصاله العزم.. الإصرار والمثابرة.. وقفز.. قفزة بطل احتوى بين جانحيه عزائم كلّ ما ظهر من بطولات في بلاده.. رفع جسد صديقه المُراهن المحتال، رفعه شاهرًا إياه إلى أعلى ما يمكن وأنزله رويدًا رويدًا حتى جعله يستقر على كتفه و.. مضى صاعدًا به الجبل بخطى متعبة.. لكن ثابتة، عارفة ومدركة ما تنفذ وتفعل.

***

قصة: ناجي ظاهر

.. وعندما تختفي كشيءٍ كان هنا قبل قليل

أو كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي

كقارئٍ تركَ الكتابَ على المنضدة

كخُلُوِ الرصيفِ منكَ تماماً

عندما تركبُ القطارَ قبل لحظات

أو كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً

يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً

ومع استبعادِ أن تكونَ قد لمستَ شيئاً قاتلاً

أو.. مَسَّكَ شيءٌ قاتلٌ

فقد خرجتَ من المسرح

-تأويلاً- يعني هذا أنكَ صرتَ مُشاهداً يرى غيابهُ

ولعلهم يذكرونكَ في مناسبة

ويقولونَ: روحهُ الآن تُطِلُّ علينا

ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير

-مجازاً- الغائبُ رهينةُ الحضور

ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت

في النتيجةِ أنت غائبٌ وصامتٌ

ولا تستطيعُ الكتابةَ

لكن، مع افتراضِ وجودك اللّامرئيِّ

ستكونُ حُراً خفيفاً

ويكونُ الهواءُ عادلاً

ولن تكونَ لك وِجهةٌ أخيرةٌ

مُقبلٌ من كل الجهات

قابلٌ لكل شيءٍ

منهمرٌ

مضيئٌ

حالمٌ

‏ممتلئٌ مالئٌ كالأثير

إن اتَّحَدْتَ بشيء صِرتَهُ

آمِلٌ

متأملٌ

وقد تختارُ أن تكون سلاماً..

ورغيفاً..

وكماناً يُهَذِّبُ الكوكبَ من جديد

‏وعلى سبيل البساطة

تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ

فتصبحُ تغريدةً، أغنيةً

وستغدو حفيفاً في النسمةِ

قصيدةً في الخميلةِ

نبضاً في الأغصانِ

أيها التناغمُ الكبير

هل تسمعني؟

هل تسمعُ، قلبَ الشجرة؟

***

فارس مطر

برلين 19.10.2024

 

تحت سقفٍ واحدٍ

أنا وغُربتي

نُطيل النظر دوماً

في هذا الليل الذي

لا ينجلي إلا عندما يُحلق

بنا في فضاءٍ يسعُ

كل الأشياء المنسيه

كتبي القديمة

حُلم الطفولة

و شجرة الياسمين في

بيتنا القديم

كلها باتت في

طي النسيان ..

*

كم يُحزنني أنني

تركتها تنوح خلفي

لقد كنتُ مُجبرةً على

الرحيل والركضِ

في إتجاةٍ أخر! ..

*

لقد تركت في رأسي

ضجيجاً لا يهدأ

لذا اختلطت عليَّ الدنيا

فلم أعد أعرفُ

هل أنا هنا؟

أم مازلتُ هناك؟ ..

*

كل ليلةٍ أكتبُ

وأمحو ما كتبت

أرسمُ وأمزقُ ما رسمت

وسأظلُ على حالي هذا

حتى يستقيم قلبي

وأودعُ في الليلِ البهيم

غُربتي

***

أريج الزوي

 

تَــبًّا لِـمَنْ قَــتَلُـوكَ يَــا ســنْوَارُ

الْـخِــزْيُ لَـفَّ كِـيَانَهُمْ وَالْــعَارُ

*

إِنْ يَــقْـتُلُـوهُ فَسَوْفَ يَأْتِي غَيْـرُهُ

هلْ يَنْتَهِي مِنْ أَرْضِنَا الْأَحْـرَارُ.؟

*

سَتَـظَلُّ شَامِخَـةً بِرَغْـمِ جِرَاحِـهَا

لَا تَـنْحَنِي إِنْ مَــاتَـتِ الْأَشْجَـارُ

*

أَرْضٌ بِهَا الْأَشْجَارُ دومـاً طَلْـعُهَا

فِــي حَــلْقِ مُغْتَصِبٍ هُوَ الصَّـبَارُ

*

خَذَلُوكَ مَنْ بِالأَمْسِ قَدْ نَاصَرْتَهُمْ

وَغَــوَاكَ مِــنْـهُمْ ضَــجَّةٌ وَخُـوَارُ

*

لَا يَــنْــصُـرُ الْأَحْــرَارَ إِلَّا ثَــائِرٌ

هَــيْهَاتَ مَــنْ فِــي طَــبْعِهِ غَدَّارُ

*

مَــن شَادَ بَـيْتًا في الرّمـالِ تخونُهً

إِن هَــبَّ رِيـــحٌ بَــيْـتُهُ يَــنْهَارُ

*

فَـالْغُصْـنُ لَا يَـحْيَا بِــغَيْرِ لِحَائِهِ

لَــوْلَا الــرِّعَايَـةُ مَــاتَتِ الْأَزْهَارُ

*

فَغَدًا إِذَا كُشِفَ الضَّبَابُ وَجَلَّجَلَتْ

لَــكَ يَــثْأَرُ الــشُّرَفَاءُ وَالْأَحْــرَارُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

نيرانٌ تسبحُ في اليَمِّ

وحيتانٌ تلتهمُ نَجمةَ الصُّبحِ

والبلابِلُ على قارِعةِ الطَّريقِ

تتسوَّلُ...

*

حُلكةُ الدُّخانِ

تغتالُ ابنةَ الشَّمسِ

وحافيةُ القدمينِ

بين مفارقِ النِّهاياتِ

تُلَملِمُ أشلاءَ الصَّمتِ

*

كُلُّ الضمائرِ أصابَها الصَّمَمُ

والحقُّ صارَ أبكمَ

وعيونُ الضَّوءِ مَسمولَةٌ

*

ترانيمُ الصِّغارِ

فوقَ أجسادِ الغَيمِ

صخبٌ وضجيجٌ

وفي مَهبِّ الرِّيحِ إعصارٌ

*

طَعناتُ الحِرابِ

ما عادتْ تُؤلِمُني

لا تبحثوا بعد اليومِ عَنِّي

فأنا لَستُ هُنا؛ وإنْ كُنتُ

غَلَبَني الرُّقادُ

بينَ أكفانِ اليَمامِ

فما عُدتُ أعلَمُ

إنْ كانَ ذاكَ نحيباً

أم وشوشاتِ الهَديلِ

*

هطلتْ أجنحةُ الشَّمعِ

وتاهَ فوقَ جبهةِ الفَجرِ

عُبوسُ الجَّليدِ

*

نعيقُ غربانٍ

والنُّسورُ تَحومُ

والمِلحُ فوقَ الوجنتينِ

يَخُطُّ ودياناً

وفي القاعِ يئنُّ

*

عَلَقٌ يَمتَصُّ

بقايا ذاكرتي

وظمأُ الأرضِ

ترويهِ الدِّماءُ

وبذورُ الحِقدِ

على مَهلٍ فيها تنضُجُ

*

مُحنيةً رُؤوسَها

تتلو السَّنابلُ

صلواتِها الأخيرةَ

خاشعةً صاغرةً

تُقدِّمُ أعناقَها

إلى المناجِل الغادرةِ

قُرباناً في طقوسِ التَّضحيةِ

رؤوسٌ من غيرِ رؤوسٍ

صامتةٌ غاضبةٌ ضاحكةٌ

في الحَدائقِ مُعلَّقةٌ

*

أبا مُرَّةَ، متى تُنهي

جولتَكَ الأخيرةَ؟

ملكَ المَوتِ،

ما عادتْ تَخشاكَ الرَّعيةُ

فقد صارَ المُرادُ والأُمنيةُ

هو المَنيَّةَ...

***

بقلمي: جورج مسعود عازار

ستوكهولم - السويد

 

لن تتهاوى نجمة الصباح

رغم غيابها عند الغروب

ولا أماني المتعبين

 يخرج مبكرا صبي القُمامة.. أبن العشرة أعوام.. عند سماعه صوت المؤذن وبعد تناوله لكسرة خبز وكأس شاي يرتدي أسماله البالية.. لا تتوضح ملامح الوانها لكثرة اتساخها.. حافي القدمين.. تميل خصلات شعره المبعثرة لشقرة باهتة يحمل كيسه الكبير ليجمع فيه ما ترميه بعض الأسر في المدينة المجاورة لقريته.. يقصدها كل يوم سيرا على الاقدام..

جدته هي الأخرى كانت تجمع القُمامة.. ولكن شاخ جسدها وضعف بصرها لذا تكتفي بما يعود به الحفيد بعد أذان الغروب.. تجود بعض سيدات الحي بمنحه بقايا طعامهن.. كوجبة عشاء لذيذة له ولجدته.. الا ان الجدة تلفعت بصبرها وأوجاع روحها من أجله..

جدته لأبيه قد سجلت اسمه (مظلوم) في الوثائق الرسمية

 مظلوم.. الذي لم يرَ والده أبدا بل قامت جدته بتربيته.. وهو لم يبلغ سنته الأولى عند وفاة أبيه.. وقد تم تزويج أمه مكرهة لشيخ عجوز.. وقد أبدى هذا الشيخ رفضه القاطع لولدها مظلوم..

تعلق الفتى بجدته لأبيه رغم ظروفهما القاسية لكنهما تعودا على ذل الحياة ومرها وشظف العيش..

 المت بجدته حالة من الأعياء وعلى أثرها أصيب الفتى بالكآبة والسأم وأخذ يجهد نفسه بالعمل كي يجلب لها الدواء والغذاء دون ان يتناول هو سوى النزر القليل..

.. وبينما هو يتجول في أحد الأحياء الراقية في المدينة اذ يبهره بيتا مغلفا بالرخام المستورد.. ترتفع دكاته المرمرية عن الشارع العام.. فتدفعه قدماه الى اعتلاء الدكة الاولى فالثانية والثالثة.. يضع أصبعه دون ان يفكر على جرس الباب.. جفل الصبي وارتعدت أوصاله وهو يسمع من يقول له.. من أنت.. ؟؟ دون ان يرى أحدا.. !!

أنا مظلوم..

وماذا تريد.. ؟؟

عيناه شاخصتان نحو أعلى المبنى..

ينفتح الباب ويندهش مظلوم.. انه لم يحدث صريرا وأزيزا مثل باب دارهم..

يقابله وجه صبي بعمره.. ماذا تريد.. ؟؟

مظلوم.. أ.. أ.. أ.. لا أدري.. !!!

يسمع مظلوم صوتا نسائيا من الداخل.. هل هو الفلاح الذي طلبناه..

مظلوم.. بصوت خفيض نعم نعم

تخرج سيدة الدار وهي في غاية الوقار والجمال.. لكنك ما زلت صغيرا.. ؟ وما أدراك بشؤون ترتيب الحدائق وتنظيفها.. ؟؟

مظلوم.. في حالة ارباك شديد لكني مستعد لأي عمل تطلبين سيدتي وبالتجربة ستكونين راضية عن ترتيب حديقتكم..

سيدة الدار.. طيب لنجرب يا فتى ولكنك لن تتقاضى أجرا ان كان عملك رديئا..

مظلوم.. انا موافق

سيدة الدار.. غدا سيكون موعد استلام عملك.. ولا أود رؤيتك الا وأنت بكامل قيافتك وترتيبك ونظافتك..

تفرح الجدة بهذا العمل الجديد فعلى الأقل يتخلص حفيدها من أوساخ القُمامة ولن يلتقي مع أولاءك الصبيان الذين يسخرون منه ويرفضون ان يلعب معهم..

 في اليوم الثاني تقدم مظلوم واعتلى دكات المنزل الثلاث واضعا اصبعه على زر الجرس بإرادة لم يعهدها بنفسه من قبل

يخرج الصبي ويسمح له بالدخول.. تفاجأت سيدة الدار بهذا الفتى الجميل والأنيق ذو الملابس الجديدة التي ابتاعها مما يدخره من مصروفه ثم انه أغتسل بالصابون تحت حنفية دارهم وأمام دهشة جدته واستغرابها وهي التي كانت تحثه على الاغتسال دون ان يبالي بكلامها..

سيدة المنزل وهي مندهشة.. هل انت مظلوم.. ؟؟

نعم يا سيدتي جئت لاستلام عملي في حديقة داركم

 تتساءل السيدة مع نفسها عن السر الذي يغلف حياة هذا الصبي المسكين ولماذا ترميه الأقدار ان يترك دراسته ويتجه للعمل رغم صغر سنه.. فأشفقت عليه من السؤال..

يدخل مظلوم الى حديقة المنزل ويبذل أقصى جهده كي تبدو الحديقة على ما يرام.. يكسر الاغصان الزائدة ويجمع الحشائش الميتة ويركنها في احدى الزوايا.. ثم ليقوم بنقلها الى خارج الدار والمرأة تتابع عمله من نافذة المطبخ.. ثم يسقي شجيرات الحديقة بعناية فائقة وكأنه مزارع قديم.. يحاول تنظيف ما حول نخلة صغيرة الا ان أعذاقها متدلية لوفرة أثمارها ونضجها بأشهى أنواع التمر.. دون ان يمد يده..

وهي ما زالت تراقبه و قد أدهشتها رغبته بالعمل وسرعة خطواته وتفانيه.. والأشد غرابة أمانته وهو بهذا العمر ثم أنه لم يطلب منها مبلغا ماليا محددا..

وعند موعد الغداء بعثت له بما لذ وطاب من أصناف الطعام مع ولدها.. وقد تحدثت عنه لزوجها فنصحها ان تبقيه على عمله دائما

وجد الفتى صعوبة كبيرة ان ما يراه حقيقة وخيل له انه في عالم الأحلام والخيال وقد حصل على فرصة جيدة للعمل مع توفر وجبة غداء لم يرَ مثلها في حياته.. !!

انبهر الفتى بنوع الطعام وتعدد أصنافه.. لكنه تمنى ان تأكل جدته معه وتساءل مع نفسه.. يا ترى ماذا تأكل الجدة الان وهي لم يتم شفاءها بعد..

طرق باب المطبخ وطلب الأذن من السيدة ان يذهب الى جدته كي تأكل معه وأخبرها بمرض الجدة وحاجتها لهذا الطعام

سيدة الدار.. لكن بيت الجدة بعيد عنا..

مظلوم.. سوف استأجر دراجة هوائية ثم أعود بدون تأخير

سيدة الدار.. نظرت له بعين العطف وشعور الأمومة التي فقدها مبكرا وتمنت بداخلها ان تحضنه وتضمه لما يحمله من حنان تجاه جدته لكنها راعت مشاعر الفتى فربما لم يتعود عليها بعد

.. أجابته.. رافقتك السلامة.. ولكن بإمكانك ان تأخذ دراجة ولدنا

شعر بسعادة غامرة وهو يسابق الريح.. ولأول مرة يحدثه قلبه ان بإمكانه ان يتعلم القراءة والكتابة مع الصبي أبن السيدة.. فقد وجد فيه الصديق الطيب..

دخل مبتهجا بما يحمله للجدة من أصناف الطعام وستفرح الجدة كثيرا وتسترد عافيتها.. فتح غطاء الأناء وأخذ يشم رائحة الطعام ثم

نادى بأعلى صوته جدتي.. جدتي.. أحضرت لك طعاما لذيذا

لكنها لم تجبه أبدا.. أصيب الفتى بصدمة قوية وسقط الاناء من بين يديه وهو يجدها دون حراك..

آه يا جدتي لماذا كُتب علينا ان نجمع قُمامة الآخرين وكان ذلك سببا لمرضك ولموتك..

وقد يكتب التأريخُ

عن قرابين الفقر والجوع

وعن سراق الأمل المطعون

 لا توقظوا عمق أسئلتي

ودعوني أغفو بأحلامي الكاذبة

***

قصة قصيرة:

سنية عبد عون رشو

 1 / 10 / 2024

 

في نصوص اليوم