نصوص أدبية

نصوص أدبية

هذا ما جاء في رسالة وضعت في مظروف داكن السواد تحت باب احد المفجوعين بولده في صباح يوم لم تشرق فيه الشمس بعد.

يوم تشريني. الشفق الأحمر يغطي الأفق البعيد ودخان كثيف يلف المكان. حسب الإحصاء الرسمي وهو دائما ما يجانب الحقيقة ويخفي قدر المستطاع وقائع الأحداث ونتائجها، ولكن اليوم اضطرت السلطة في نشرة الأخبار المسائية، الإعلان وعلى لسان ناطقها الرسمي، عن عدد الشهداء الذين سماهم بثلاثة قتلى، وأكمل جملته الصماء اللئيمة بكلمة لا غير.

ولكن ما أعلن رسميا عنه، ما كان ليطابق إحصاء من وقف وشاهد الواقعة عند ذلك المساء الكالح. فجميع من حضر الواقعة تبادل الروايات مع البعض ودون في ذاكرته، خمسة شهداء دون نقصان. جميعهم كانوا يتحلقون حول عربة التك تك ذات اللون الأصفر البراق، وتدلت عند مقدمتها قطعة قماش بيضاء صغيرة كانت موضوعة تحت مصباح الإنارة، كتب عليها بخط مرتبك، أريد وطن.

***

كانوا يتراقصون جذلا ونشوة على أنغام موسيقى أغنية كاظم الساهر " وين أخذك وين أنهزم بيك.. بضلوعي لو بعيوني أخليك " فجأة باغتهم سيل رصاص وقنابل دخان. سقطوا جثثاً هامدة جوار عربة التك تك، كان ذلك في ساعة نحس عند نقطة قريبة من مفترق نفق ساحة التحرير الذاهب نحو شارع الجمهورية .

بقع الدم التي خلفتها أجسادهم الغضة إثر عربدة سيل رصاص ما سمي بالطرف الثالث، راحت تسيح فوق الأرض الإسمنتية . ما كان بمقدور احد أن يحدد اتجاهات انسيابها، ولكن الدم كان فواراً قانيا أحاط بعربة التك تك من جميع أطرافها، ثم أنحدر ليتجمع أمامها، فاختلط مع بعضه ليكون بقعة دم كبيرة قانية.

بين هؤلاء الشهداء من جاء العاصمة من قرية قريبة من بلدة الرفاعي في الجنوب، وهناك من أتى تاركاً وراءه محلة الطويسة في البصرة، وثمة آخر يسمي نفسه بالمعيدي كان قادما من مدينة الشعلة،وحده أبن الأعظمية كان الأنيق بين هؤلاء رغم اتساخ ملابسه خلال عشرة أيام مضت دون رغبة تساوره في الذهاب إلى أهله والاغتسال بحمام دافئ. بينهم من هو دون دالة أو هوية، ولكنه كان أكثرهم مرحا وإفراطاً بالهزل، وكان وفي كل مرة يروي شيئا عن قسوة ما كان يلقاه على يد صاحب العمل، ينهي حديثه بضحكة طويلة شبيه بكركرة طفل. أما ذاك الصغير المقصب الشعر صاحب البشرة الداكنة، الضاج بذكر مغامراته العاطفية، وما كان ليتوقف عن سردها حتى وإن تلقى تشويش واستهزاء رفيقه المسمى المعيدي. بينهم من يرفض اليقين بتاريخ ولادته المدونة في الهوية التي يحملها. صاحب الكنزة البنية يقول إن حياته تخلو من أي أهمية يود ذكرها لرفاقه، فقط الشيء المهم الذي ممكن أن يبعث في روحه الفرح هو منظر عربة التك تك التي يمرر عليها صباحا برقة متناهية قطعة القماش المبللة وهو يصفر لها بأغنيه كان يعشقها.

صباح الخير يا لوله.

لوله، اسمها الذي أطلقه عليها حين أبتاعها له خاله صاحب بسطة الملابس المستعملة. لم يكن يدري السبب الذي دفعه لإطلاق أسم لوله على عربة التك تك، ولكن الأغنية كانت تستهويه لذا علقت بذهنه ذلك الصباح البلوري المبهج، وحان لها أن تكون أسما لعربته، فاخذ يغني لها مزهوا.

يعز من يبات قانع من الرحمن يتطلب

يذل من يبات طامع يبات الليل يتقلب

على الجنبين يالوله ولا يرتاح يا لوله

صباح الخير يالوله صباح الخير.

ثم يروح بموجة من التصفيق والقفز راقصا حولها كالهنود الحمر، يشاطره فرحه بحمية وصخب بعض أصحابه.

***

حين أنبلج ضوء الصباح كان شاحبًا رجراجًا مغبرا، وثمة أصوات أنين وبكاء خافت تتسرب من جوف نفق التحرير. في البعيد تختلط نداءات تحذير وتحوط ترافق أصوات رشق رصاص وانفلاق قنابل الغاز. ثمة ضحكات صاخبة وضجيج مزاح يأتي من الطابق الثاني للمطعم التركي.

عند ذاك الفجر الندي، جلست خمس نسوه مصفوفات متراصات بسوادهن حول بقعة الدم، يحطنها مثل السِوار، نائحات مفجوعات، يغطينها بعباءاتهن الكالحة، كان دمعهن مدرارا يخالط بقعة الدم الخاثر الذي يلتصق بثيابهن فيأخذنه ويهيلنه فوق رؤوسهن. هكذا كان الحدث وسوف يتكرر.

لكم الصبر والسلوان ولأرواحهم السلام والذكر الخالد.

***

فرات المحسن

لا احد تعرفين هنا، حصلت على عنوان من ارتبطت به في ساعة ضعف، حدثك عن الحب والاخلاص وكيف يهوى الانسان بنتا من بنات حواء ويفضلها على النساء كلهن ولا يرى امرأة اخرى، مهما قابل من النساء، استقبلوك في هذا البلد فقد عرفت انهم قوم كرام يحتفون بضيوفهم، ما زالت كلماته تقرع شعورك:

- قتلتني هذه المراة!

تبحثين عن اسرته هنا هو مريض جدا بعد عشرة ثلاثين عاما وبالرغم من كل تضحياتك يهاجمك امام بني قومه، نساء ورجال يسهر معهم ويدافعون عنه ضدك انت التي حرمت نفسك من كل المباهج التي تتمتع بها المتزوجات، قرات عن كل هذه المتع واخبرتك صديقاتك المقربات انهن كثيرا ما عشن هذه المباهج ولكن لم تتوقفي يوما لتسألي نفسك:

- ولماذا انا محرومة من كل هذا النعيم؟

لم يخطر ببالك يوما انك سوف تزهقين من عشرته التي ارهقتك كثيرا وسلبت منك شبابك وجمالك، وصلت هنا لتجدي احدا من اسرته، فان الكلمات التي كانت لا ثير نقمتك اصبحت الان تسبب لك الما ممضا، لا احد هنا يمكن ان يساعدك، اخته التي كانت تستقبله وترحب بمجيئه اخبروك انها انتقلت الى الرفيق الاعلى، ولم يفكر يوما ان يصحبك معه لتسافرا الى بلده كما يفعل الرجال عادة، جاء الى بلدك ورحب به اهلك وعرفته على افراد اسرتك، اباك وامك واخاك الكبير واختك التي تكبرك بعامين، وكان يبيت في منزلك، ابوك وافرد اسرتك كلهم يعاملونه بحب وينظرون اليه كأحد ابنائهم، ورغم الكلمات المعسولة التي اسمعك اياها في بداية معرفتك به الا انه توقف عنها حينما استقر في منزل ابيك متمتعا بحقوق الابناء ولا يسأله احد عن الواجبات، وصلت هنا لتجدي من يساعدك، فمن ارتبطت به مريض انت تطعمينه وتلبسينه من عرقك وهو مريض ويعتبر كل الناس ان هذا واجبك، فأين حقوقك التي لا تعرفين عنها شيئا، وهو الان مريض، ولا تستطيعين ان تجدي الطبيب المداوي وقد صرفت على علاجه كل ما تملكين، وكلماته تقتلك:

- ماذا قدمت لي؟

طلبت منه مرارا ان يذهب كل منكما الى حال سبيله، وكل مرة يجابهك:

- لن اطلقك وليس لك حقوق عندي !

اصدقاؤه الذين قدموا الى بلادك واستقبلتوهم بترحاب كثيرا ما وقفوا ضدك في مناقشاتكما الكثيرة التي يحرص دائما ان تجري امام اصدقائه وصديقاته الذين يتجمعون في منزل ابيك كل ليلة حميس رجالا ونساء يضحكون ويمرحون ويغادرون دون ان يشكروك .وحين تستيقظين صباحا للذهاب الى دوامك تفاجئين بمائدة الطعام وقد ملئت بكؤوس المدام، شربوها في منزل ابيك وانت نائمة .

اصبحت حالته صعبة جدا لا تقدرين عليها وتريدين شخصا يقف بجانبك فقد تعبت دون جدوى، الاصدقاء الذين كانوا يزورنه تضاءل عددهم بمرور الايام، اخر صديق جاءه قبل اسبوع وفوجيء:

- من انت؟

ترتسم علامات الحيرة على محيا الصديق ويغادر دون ان يقول شيئا وانت قد تضاعف تعبك، يخاطبك وقد تناسى انه في بيت ابيك:

- من انت ايتها المرأة؟ وماذا تفعلين هنا؟

***

صبيحة شبر

3اب 2023

همَسَ الموجُ للنّخيل سلُوها

أيّ خطبٍ سرى بها لِعُبابي

*

فحَنت نخلة الجنوب و رفّت

و حبتْني بوارفِ التّرحاب

*

قلتُ يا نخلُ لا تبُوحي بسرّي

و مُري الموجَ أن أكُفّ جوابي

*

إنّني هزّني الحنينُ لإلفٍ

كنّا كالنّورسيْنِ ذات صبابِ

*

يمرحُ الموجُ بيننا و يغنّي

هسْهساتِ تطير بالألباب

*

فإذا عزفُه سما و ثمِلنا

و انتشينا و ضاع كلّ صواب

*

رفرفت كالفراش منّا شغافٌ

نورها السّحرُ  بُهرة الإعجاب

*

كان يا موجُ موجتِي و مروجي

كان كأسا  لخمرتي و حُبابي

*

كان اهزوجة الربيع بعمري

كان صرحا نسجْتُ فيه شبابي

*

كان إشراقةَ الصّباح بروضي

ثمٌ راح كغيمة لعذابي

*

فجَرت دمعة النّخيل لِوجدي

و رمى ثمْره على الأعتاب

*

و دنا الموجُ من جفوني بعطفٍ

و تهادى مشرّعا أسبابي

*

ثمّ قال بهمسة و وداد

دُمتِ نبعَ الوفاء للأحباب

*

منْ يخونُ العهود سوف يُخان

كوني أنسي بك يزول اغترابي

***

زهرة الحواشي

بدا له جبل صرطبة رغم سخونة الأجواء حيث وقف وكأنما هو تائق إلى نقطة ماء، ولولا ما ظهر له من مواشي تدبّ في ربوعه لاعتقد أن الحياة تلاشت فيه واختفت.. إلى لا عودة. منذ وطئت قدماه أرض الوطن وهو يبحث عن مساحة طالما تحدّث له عنها والده المُهجّر المرحوم من قريته سيرين. وقد بحث عن تلك المساحة في كلّ مكان.. "فهل سأجدها هنا في هذا المكان المقفر"، هتف لنفسه وهو يتابع صخور الجبل المتناثرة هنا وهناك وكأنما هي مواشي من نوع آخر، نزلت عليها غضبة إلهي ساحقة ماحقة فحولتها إلى ماشية مجمّدة، تسترخي في كلّ مكان، منتظرة عودة الحياة إلى عروقها الظامئة، لتشارك أخواتها الجائلات ببطء لا تكاد تراه العين لقلّة تنقّله وخمول حركته. المنظر أمامه كان حافلًا بالمعاني، وبدا كلّ ما وقعت عيناه عليه كأنما هو يريد أن يتحدّث إليه وأن يخبره بقصة جديدة، تذكره بما خَبِرّه، عاشه وشهده من أحداث وأقاصيص هناك في بلاد الفايكنج.. تلك البلاد التي شهدت طفولته ويفاعته، شبابه ورجولته المتدفقة توقًا ورغبةً في الوطن الاب والحياة... استغرقته حالة من المقارنة بين هنا حيث وقف وهناك حيث عاش، فحاول أن يقرأ ما يراه إلا أنه تراجع ليقرأ بسهولة ويُسر ما اختزنه من مشاهد، وتحرّكات موّارة بالحياة هناك حيث كان.

"عليّ أن اقترب من تلك المواشي.."، قال لنفسه وهو يصعد الجيل بقدمين من إرادة وتصميم، وتابع:" مَن يعلم قد أعثر هناك على ما أبحث عنه، أحلم به وأريده". في البداية شاهد نقطة صغيرة ما لبثت أن أخذت في الكبر. شعور طاغ استحوذ عليه بأنه إنما يقف أمام سرّ طالما تصوّره، حلم به وتاق إلى حلّ رموزه وتفكيك شفراته. النقطة الصغيرة جذبته إليها كما تجذب المشاعر قلوب العشاق. فغذّ السير غير عابئ بما سال على وجهه من قطرات العرق. مسح بيده جبينه وتابع السير. رفع رأسه عاليًا ها هو يتأكد مما سبق وتصوّره قبل قليل، إنه يرى صبية غضّة الاهاب تتكئ على عصا قوية مستقيمة غير منحنية كما يُفترض في الواقع. "يغلب على ظني أنها راعية المواشي". قال لنفسه. وعندما رآها ترفع رأسها على وقع قدميه وخرخشة الحشائش الجافة تحتها، بدا أن كلبها تنبّه لاقترابه منها، فراح ينبح عليه، ويهاجمه بقوة وشراسة. تراجع خطوات إلى الخلف، فانتهرت كلبها رافعة عصاها القوية المستقيمة وطالبة منه أن يعود إلى هدوئه. خفت عواء الكلب رويدًا رويدًا، فتجرأ الزائر الغريب على الاقتراب مِن الراعية الشابّة، نظر إليها.. كانت تبدو شابة تصغره أو تكبره بقليل، وقبل أن ينطق بأية كلمة عن الحرّ اللاهب. أخذت هي نفسها المبادرة واقتربت منه. أرسلت نظرة مستطلعة إليه، كأنما هي تريد أن تستطلع أمره وسبب زيارته المفاجئة تلك. قرأ هو ما لاح في وجهها من علامات تساؤل وتعجّب وبادرها قائلًا:

- لفتت مواشيك نظري فأردت أن أراها عن قرب.

أرسلت نحوه نظرة حافلة بالشك:

- مَن أنت. سألته، فردّ عليها: أنا من قرية مُهجّرة تدعى سيرين. أهلي غادروها مُكرهين عام النكبة، ليقيموا في بلاد بعيدة. هناك ولدت. طالما حدّثني أبي رحمه الله عنها وعمّا حفلت به من خيرات..

اختفى ما ظهر على وجهها من علامات حفلت بالتساؤلات، ورحّبت به وهي تقدّم له مطرة الماء:

- الحرّ اللاهب يكاد يحرق الأخضر واليابس في هذا الجبل. خذ اشرب الماء البارد.

تناول الزائر الغريب المطرة من يدها وشرب منها:

- ماء رائع.. هو بالضبط كما تحدّث أبي عنه. قال وواصل: لم أتعرّف عليك بعد.. أنت مِن هُنا؟.. فردّت عليه بالإيجاب، وأخبرته أنها في الاصل من قرية قريبة من قريته التي تعرفها من خلال أحاديثها الدافئة مع والدها المرحوم. وذكرت له أنها من قرية الشجرة، وأن ذويها هاجروا في ذلك العام اللعين مُكرهين من قريتهم ليتشرّدوا في عدد من البلدات.. لتولد هي هنا في الناصرة القريبة من جبل صرطبة وأحراشها المتواصلة حينًا.. المتباعدة آخر. وشكت له معاملة صاحب المواشي الفظّ الغليظ معها. فسالها عن سبب تحمّلها له، فردّت بأسى واضح إنها تريد أن تعيش.

شارف الوقت على المغيب وهما يتحدّثان، وعندما شعر أنه يُفترض أن ينصرف إلى شأنه وأن يتركها تعود بمواشيها إلى عزبة صاحبها الخواجا، سألها عمّا إذا كان بإمكانه أن يعود في اليوم التالي، منوّهًا إلى أسفه لأنه تعرّف عليها متأخرًا.. وقبل انتهاء وقت زيارته بأيام قلائل. أرسلت إليه بدورها ابتسامة مطمئنة. وقبل أن يفترقا استحوذت على كلّ منهما رغبة في البقاء إلا أنهما افترقا، ليفكّر هو بها طول الليل ولتتخيله هي في الوقت الموازي...

هكذا افترقا ولدى كلّ منهما رغبة في أن يتواصل اللقاء.. هل كان ذلك لأنهما من بلدين مُهجّرين متجاورين وأن ألم التهجير نال من كلٍّ منهما ولو.. عن طريق الاهل؟ هل كان ذلك بسبب أنها هي رافقت الخواجات وعملت عندهم.. بل هل كان ذلك لأنه هو ذاته ولد.. عاش وترعرع في الشتات الفايكنجي.. أسئلة فرضت نفسها على كلّ منهما، غير أنها جمعت بينهما أكثر مما فرّقت. لذا ما إن حان الوقت اليومي الموازي لذلك اللقاء الجبلي الفريد بين المُهجّرَين التائهين. هي في بلادها وهو في الشتات. حتى سعى إليها طائرًا على جناح من الرغبة والشوق. وما أن اقتعد كلّ منهما حجرًا عاليًا في قمة الجبل حتى تدفّقت الاحاديث بينهما تدفّق امواه بلادهما العذبة القُراح. عزّز ذلك اللقاء المشاعر بين الاثنين، ما أشعرهما، كلٌّ بطريقته، أنه لا غنى له عن الآخر. وأن ما جمعه الله لا يمكن أن يفرّقه بشر.. لا خواجا ولا بلوط. وهكذا توطّدت العلاقة لقاء بعد لقاء ولحظة إثر لحظة، وبات الوقت بين الاثنين يقاس بلحظات اللقاء بينهما. أما لحظات الفراق والبعاد، فلم يعد بالإمكان احتسابها من العمر.

بقيت الأمور بين الاثنين تجري بين وردّ وودّ، إلى أن حانت لحظات الفراق، في تلك اللحظة، أطلعها على مشاعره الجيّاشة تجاهها، ولم يفاجأ عندما أطلعته هي على مشاعر لا تقل حرارة عن مشاعره تجاهها. وكان مِن الطبيعي أن يتّفقا على الارتباط. وعندما تمّ الاتفاق التام، نبقت من أعماق الغيب مُشكلة عويصة معقّدة. ظهرت تلك المشكلة عقبة كأداء فإما تُعمّر وإما تُدمّر. حدث هذا عندما أخبرها أنه سيصطحبها إلى بلاد إقامته الرائعة الجميلة، وأنهما ، هي وهو، سينعمان بالحياة الهانئة السعيدة. بل إنه بالغ في تطميعها بالموافقة ذاكرًا لها أن اصطحابها له سيعفيها من فظاظة خواجيها... عند هذا الحدّ من تطميناته فوجئ بها تستوقفه بإشارة حادة من يدها مؤكدة له أنها لا يمكن أن تترك بلادها، وأنها لا تستبدلها بجنان النعيم وليس بأية من بلاد الله الرائعة. هكذا تعقّدت الأمور بين الاثنين المُغرَمين المُتيّمين. كلٌّ يشدّ إلى ناحيته، هو يريدها إن توافق على اصطحابه لها إلى بلاد إقامته في الشتات، وهي تؤكّد له أنها لا يمكن أن تغادر بلادها حتى لو كانت مغادرتها تلك إلى جنان النعيم. عندما تعقّد الامر بين الاثنين.. كلّ يشدّ إلى ناحيته. أخبرها أنه يريد أن يفكّر في الأمر. وولّى ظهره ماضيًا في طريقه وسط نظراتها الآسية الحزينة.. وكان كلّما خطا خطوة إلى الامام.. شدّته خطاه إلى الخلف .. إلي حيث هي.. محبوبته.. راعية الجبل.

***

قصة: ناجي ظاهر

أعاصيرُ .. زلازلُ .. براكين

كلما فتحتُ جرّارة مكتبي

سمعتُ من داخلها صوتَ استغاثة

ألموتى يطرقون الأبواب بحثاً عن ملاذ

ألعمائرُ الهاربة من الكارثة

نسيتْ أثوابها معلّقة على الحبال

ألغابات تُعلن النفير العام

لكنها لن تنجو

فالحرائق لا تتوقفُ عند حدود انتصاراتها

ألحرائقُ تتقدّم

بينما تزحف من ورائها الأشجارُ الأسرى

موثقة بسلاسل الدخان والرماد

من يتبرّعُ برجليه لشجرة عرجاء؟

ربما سنفتح – بعد اليوم – أبوابَنا بألسنتنا

لأنّ مفاتيحها ستصبح أقراطاً بآذان العاصفة

**

أيها المجتمعون للتصالح مع الأرض الغاضبة

لا نفعَ من ردم شقوقها بالقبلات

لقد استهان الأقوياء بالمدفعية الكونية

فردّتْ على الضعفاء

بالمزيد من القذائف

***

شعر: ليث الصندوق

عـَلاماتُ البـَـراعَـةِ فـي عـيـونٍ

مَحــاجِـرُها وعـاءٌ مِــن ضـياءِ

*

إذا مَــدَّتْ بـــه  كشَفَـتْ خَـفـايا

لهـا فـي القلب مَصْلٌ مِن ذكاءِ

*

فَـمَـنْ أخْفى عـيوبَه فـي لِسانٍ

فـفي نـَظَراتِه كَـشْـفُ الغِـطاء

*

تَـرانِـيـمُ الحـقيقةِ فــي الـنّـوايا

تَـحُـولُ عن التصنّع في اللقاء

*

إذا ما الحُــرُّ أسْـفَـرَ عن نَقاءٍ

تَهـَاوى الزّيفُ في بِئْر الوَباءِ

*

ضِفافٌ إنْ نَمَتْ فيها غُصونٌ

فــماءُ الــنهْـرِ مِعــيارُ الـنماءِ

*

ومَـنْ زَرَعَ الفضائلَ فــي مَسارٍ

تُــؤرِّخه الـفضائـلُ فــي العَـلاءِ

*

فَـعَجِّـلْ في خُطاك الى المَـعالي

فَوَصْلُ الشمسِ مِن هِمَمِ العَطاءِ

*

ولا تَـبْني صُرُوحاً في الأماني

إذا الـتَـفـْعِـيلُ لـفـظٌ فــي البـناءِ

*

وإنْ رُمْـتَ الـتألــقَ فــي مَهامٍ

فــكُـنْ صَلْـدَاً بِعُـسْـرٍ أو رَخاءِ

*

وحاذِر مِن غـرور إنْ تَـفَـشّى

يـنامُ العَقْـلُ فـي طرَف الخِباءِ

*

تَراتِـيلُ المَلامِحِ تُعطي وصْفاً

يُــشيـرُ الى الطِـباعِ بـلا عَناءِ

*

حروف الوصل إن صيغت بزيف

ونامَـــتْ ، أيـقَضَتْ عـينَ الجـفاءِ

*

إذا اخْـتَــرْتَ الـرداءَ ، فكن لبيبا

لــكي يـبْـقـى يَـرُوق لـكل رائي

*

دوام الحُــب ، لا يجْـدي إذا  لم

يُـرافِـقْـه الـتأمُـلُ ، فــي الـنـقـاءِ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

بِكُلِّ الصِّدْقِ مِنْ أَعْمَاقِ مَا بِي

تَحِيَّةُ حُبِّنَا عِنْدَ الْخِطَابِ

*

لَمَحْتُ الوُدَّ فِي عَيْنَيْكِ دَوْماً

لِقَلْبٍ مُخْلِصٍ دُونَ الذِّئَابِ

*

تَحَمَّل يَا عُلاَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

لِأَجْلِ الْحُبِّ مِنْ أَجْلِ الشَّبَابِ

*

يُقِيمُ حَيَاتَهُ حُبًّا وَوُدًّا

لِيَعْلُوَ حُبُّنَا فَوْقَ الْهِضَابِ

*

وَعُذِّبَ فِي الْهَوَى ظُلْماً وَلَكِنْ

تَخَطَّى صَابِراً كُلَّ الصِّعَابِ

***

يُجِلُّ حَبِيبَتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ

يُحِبُّ عُيُونَهَا مُنْذُ التَّصَابِي

*

حَبِيبٌ مُخْلِصٌ أَمْسَى بِحَقٍّ

لِكُلِّ الْعَاشِقِينَ هُدَى الصَّوَابِ

*

بِكُلِّ الشَّوْقِ قَدْ وُهِبَتْ حَيَاتِي

لِيَسْمُوَ حُبُّنَا فَوْقَ السَّحَابِ

*

تَنَاوَلَهُ اللِّئَامُ بِكُلِّ مَكْرٍ

وَ مَكْرُ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْمُصَابِ

*

فَلَقَّنَهُمْ دُرُوساً قَدْ وَعَوْهَا

بِأَنَّ الْبُعْدَ أَوْلَى بِالسِّبَابِ

***

وَحُبِّي قَدْ غَدَا حُبًّا عَظِيماً

دُعَامَتُهُ الْبَشَاشَةُ لاَ التَّغَابِي

*

وَأَحْبَبْتُ الْحَبِيبَةَ مِنْ شُعُورِي

فَكُنَّا نَلْتَقِي بَيْنَ الشِّعَابِ

*

دَعَوْتُ اللَّهَ مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِي

لِأَجْلِ حَبِيبَتِي خَيْرِ الصِّحَابِ

*

تَعَلَّمْتُ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ حُبِّي

لِأَجْلِكِ غَادَتِي بَعْدَ الْعَذَابِ

*

بِقَلْبٍ هَائِمٍ لِهَوَاكِ يَهْفُو

وَرُوحٍ قَدْ غَدَتْ حَيْرَى بِبَابِي

***

وَنَفْسِي بَيْنَ أَمْوَاجِ الْأَمَانِي

وَبَيْنَ الْيَأْسِ تَسْعَى لِلصَّوَابِ

*

فَأَنْتِ حَبِيبَتِي حُسْنٌ وَسِحْرٌ

وَأَخْلاَقٌ مُسَبِّبَةُ انْجِذَابِي

*

يَفُوحُ الْعِطْرُ يَا رُوحِي عَلَيْهِ

بِخَطْوِ حَبِيبَتِي رُوحِي إِيَابِي

*

وَدَرْبٌ أَنْتِ قَادِمَةٌ عَلَيْهِ

طَرِيقُ الْحُبِّ مَرْفُوعُ الْجَنَابِ

*

لِسَانِي يَبْتَغِي إِرْسَالَ صَوتٍ

يُعَبِّرُ عَنْ أَحَاسِيسِ الشَّبَابِ

***

وَبَيْنَ جَوَانِحِي حُبٌّ وَوُدٌّ

لِأَحْبَابِي غَدَوْا بَيْنَ الضَّبَابِ

*

بِجِسْمِي دَبَّ إِحْسَاسٌ خَفِيٌّ

بِأَنَّ الْحُبَّ يَخْلُو مِنْ عِتَابِي

*

وَقَاسَيْتُ الضَّنَا فِي الْحُبِّ دَوْماً

عَشِقْتُ الْقُرْبَ بَعْدَ أَسَى الذِّهَابِ

*

وَلَمْ أُفْصِحْ بِشَيْءٍ يَا حَبِيبِي

لِأُخْفِيَ حُبَّنَا خَلْفَ الْحِجَابِ

*

وَأَسْرَارُ الْمَحَبَّةِ فِي فُؤَادِي

يَضِنُّ بِهَا عَلَى نَبْحِ الْكِلاَبِ

***

وإِنْعَامُ السَّمَا غَيْثٌ لَبِيبٌ

لِحُبٍّ خَالِدٍ بَينَ الْكِتَابِ

*

وَكِتْمَانُ الْمَحَبَّةِ يَا هَنَائِي

يُهَيِّجُ صَبْوَتِي عِنْدَ اغْتِرَابِي

*

وَلاَ أَبْغِي بِبُؤْسِي كُلَّ سَعْدِي

فَأَنْعِمْ بِالشَّقَاوَةِ خَيْرَ بَابِ

*

لِأَرْقَى مُتْعَةً وَسُرُورَ نَفْسٍ

دَوَاماً بَعْدَ هَمِّي وَاكْتِئَابِي

*

وَأُقْسِمُ أَنَّنِي أَهْوَاكِ عِشْقاً

وَلاَ أَرْضَى مُخَادَعَةَ السَّرَابِ

***

وَلَمْ أَهْوَ الْعِتَابَ بِأَيِّ شَيْءٍ

فَكَانَ الْحُبُّ كَالشَّهْدِ الْمُذَابِ

*

أُفَكِّرُ فِي هَوَاكِ غَدَا بِقَلْبِي

وَبَيْنَ جَوَانِحِي حُبَّ الْمُجَابِ

*

أَخَالُ الْحُبَّ يَرْقُبُنِي بِطَيْفٍ

لِأَحْبَابِي أَرَى حُسْنَ الْمَآبِ

*

وَكَانَ الْقَلْبُ يَخْلُو مِنْ حَبِيبٍ

وَكَانَ الدَّمْعُ يَبْعُدُ عَنْ عِقَابِي

*

وَقَدْ أَحْبَبْتُ حُبًّا نَالَ بَوْحِي

فَطَالَتْ شَقْوَتِي كَثُرَ انْتِحَابِي

***

وَتَغْشَانِي الْكَآبَةُ فِي مَسَائِي

وَجَفَّ الدَّمْعُ بَلْ كُلُّ اللُّعَابِ

*

وَأَحْزَانٌ تُخَيِّمُ فِي اللَّيَالِي

ويُضْحِي الْحُبُّ غَضًّا فِي اللُّبَابِ

*

وَلَسْتِ بِجَانِبِي حَتَّى تُوَاسِي

نُقَاسِمُ بَعْضَنَا حُلْوَ الشَّرابِ

*

وَكَيْفَ السَّعْدُ فِي وَجْهِي أَرَاهُ

وَقَدْ بَعُدَتْ غَدَتْ نَهْبَ الْحِرَابِ

*

تَخَيَّلْتُ الْحَبِيبَةَ سَامَرَتْنِي

ونُورُ جَبِينِهَا بَدْراً دَرَى بِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

لستُ أدري

إن كنتُ أرغبُ

في إطفاءِ حرائقِ الكَمدِ

أم أدعُ سحرَ اللآلئِ

في محارِ عينيكِ

يرتسمُ

*

للدَّمع مُلوحَةٌ تُغري بإبحارٍ

وروحي شِراعٌ

هائمٌ في الُّلجَجِ

يَمخُرُ عُبابَ لَحظيكِ

من غير مُسْتَقَرٍ

ولا مَثْوىً ولا مَجْثَمِ

*

ما خُلقَ الدَّمعُ لكِ

وإنَّما تلكَ العيونُ

ديَدنُها منذ البدءِ

سَبيُ الُلبِّ والعَقلِ

*

كُلَّما ساورتكِ الأشجانُ

وأَلَمَّ بكِ كَرَبٌ

تذرفُ رُوحي دماَ

وتمور وتَضطَرِبُ

*

لا تنوحي يا مُهجةَ الرُّوحِ

فإنَّ الحُزنَ ينبتُ في شراييني

أشجارَ سنديانٍ باسقةٍ

ويُشَيّدُ للغُمَّةِ

أعشاشاً وأوكاراً

سرمديةَ العُمرِ

*

وددتُ لو كنتُ لعينيكِ أرضاً

تغترفُ الدَّمعَ مِنكِ

كلما كاد أن يَنهلَّ

تمتَصُّ وتَرتَشِفُ

في حُزنُكِ فِتْنَة

وفؤادي يَحارُ

إن كان يحتضنُ الرُّوحَ مِنكِ

ويكفكفُ الدَّمعَ عَنكِ

أم يتأملَ في مُقلتيكِ

الحُسنَ ووَضْحَ المُحَيّا

ونَضيرَ الألقِ

*

وددتُ لو صِرتُ سَدَّاً

أمام بواباتِ الجُفونِ

كُلما تَنسَلُّ عَبراتُكِ

فوق هضاب الوجنتين

يُحجِمُ سَيلاً من الدُّرَرِ

ويُلجِمُ

*

كُلَّ صُنوفِ المُلِمَّاتِ

تُطاقُ وتُحتَملُ

إلا الجَوى في ناظريكِ

فلا صَبرٌ لي عليهِ ولا جَلدٌ

***

جورج عازار – ستوكهولم / السويد

تتساقط الأوراق واحدة تلو الأخرى.. تنظر إلى الريح وهي تطّاير ما تبقى منهاعلى الملامح حرقة.. حزن ودمع سيال لا يغسل دواخلها من وساخة عالم بئيس اغتصب براءتها.. واغتال اجمل ما فيها..

غير بعيد من نواحها المرير..  موسيقى.. تدحرج النهارات على بساط القهقهة.. النكات السمجة.. الكؤوس والحبوب التي تحلق بالمرء بعيدا عن الواقع.. فيرى نفسه سيد الكون وكل ما ومن حوله ملك يمينه وطاعته..

تقدمت بخطا مترددة.. واحدة إلى الأمام.. عشرة إلى الخلف.. والعيون دائما مسمرة على الريح قالت والكلمات تختنق بين شفتيها خوفا من لكمات ستنزل على وجهها وقفاها : يا ابن ام.. اشفق علي واعدني الى الحياة.. ركلة منه اوقعتها في هوة سحيقة.. حيث وجدت نفسها مردومة تحت سنوات من الصمت والسوط.. من انسان لا تعرف من هو.. أهو  شقيق او كائن من كوكب اخر.. اغتصب طفولتها.. افتض عفويتها وبراءتها..  ما عادت تعرف نوع الصلة الرابطة بينهما.. بعدما حبسها بين اربعة جدران  -والخامس جرح عميق خلفه اليتم والزمان-.. في منطقة نائية لا احد يسمع فيها النداء.. ولا النواح و البكاء.. وحده كان يعودها حين تلح عليه رغبته الوحشية.. ناسيا انه جزء منها وهي بعض منه.. في الأعلى.. عند فوهة الجب.. حيث القاها.. تتراءى لها.. أو يخيل اليها.. أن عيونا ترمقها تارة مشفقة.. وأخرى.. شامتة مقهقهة..  اعتبارا انها الزوجة المتمردة التي لا تطيع الاوامر مهما أغدق عليها من حب وهدايا.. هكذا كان دائما يردد كلما نهاه احد عن تعنيفها.. مذ انفرد بها في هذا الربع الخالي من الاحساس والمشاعر الانسانية.. مارس عليها كل انواع الشذوذ.. وانواع العنف.. دون ان يرف له نبض.. او تتحرك فيه اخوة او ينتفض في عروقه  دم ..

تذكرت أخوة يوسف حين ألقوه في اليم..كانت الذئاب أرحم.. وعواؤها أقرب إلى النفس من تلك الموسيقى المنبعثة من كوة الخوف..

مازالت تحاول تسلق التربة الهشة لتخرج من هوة الاستسلام..  بين أصابعها تتفتت.. تجد نفسها بعد كل محاولة عند نفس النقطة.. هي وحزمة الخسائر وبعض الحجارة الصغيرة.. لتقتل الرهبة ودقات الزمن التي تنقرها..  تلعب بالحصوات وهي تدندن =امي يا أمي.. لو تعلمين ما حل بي.. اخبري الله اني اذنبت رغما عني.. اخبريه اني لم اجد من يدافع عني.. من يذوذ على براءتي وانوثتي.. بلغيه ان الذئب اكلني.. واستطعم لحمي.. لا يعنيه انه لحمه.. وان ما يسكر به كل ليلة هو دمه.. تدندن.. تدندن.. فجأة وجدت نفسها تصرخ

بأعلى وجعها.. =أين أنتم يا أحباب الله..؟

هل خلا العالم منكم..؟

من منح هذا الوحش الكاسر حق اعتقالي.. واغتيالي؟

لحظتها استفاقت.. وجدت نفسها تمسك حبلا..

على الخد دمعة.. في العيون حرقة.. وفي الصدر غصة

هل كانت تحلم؟

يأتيها الجواب صعقة.. صفعة تعيدهاالى الواقع المر الذي تخجل من التفكير فيه حتى مع نفسها.. وهي تمسد بطنها التي بدات تعلو.. اقتربت من النافذة تتحسس قضبانها الحديدية.. تلاحق خيوط الشمس بعيون تعج فيها العتمة .. تحاول الامساك بها لترتقيها نحو السماء.. جاذبية الأرض أقوى.. جاذبية الهم أقوى.. زحمة الظلام أبقى.. لن تستأنف مشوار الصبر ورحلة الصمت والخوف.. ولن تترقب الفجر كل ليلة كما تعودت دائما أن تفعل.. لعل يدا تمتد لانتشالها من جب الظلم.. برق الوعي يمزق كل لحظات الحلكة المهيمنة.. وقد أنهكها الوقوف بين النور والظلمة.. بين الحياة والموت.. تمالكت نفسها.. فتحت عينيهاعزمت طرد الكابوس  لتهتدي نحو الطريق بعد طول تيه بين الحيرة والخوف.. بحبل الدم الذي يربطهما معا والذي اجادت فتله طوال سنوات طفولتها..  صمتها ويتمها.. شنقت نفسها عند قضبان النافذة التي كانت تمنحها بعض الهواء.. لترتاح من وحش اغتصب انسانيتها دون  اهتمام بروابطهما الانسانية.. وفصيلة الدم التي وحدتهما ذات فرحة مبتورة في رحم واحد

***

مالكة حبرشيد - المغرب

تتعمد بسيمة أن ترقد باكرا بعد ان تضبط الساعة على الحادية عشرة ليلا حيث يكون أكثر من في الدوار قد هجع. خصوصا تركيبة الشيوخ والعجزة.أما باقي تركيبة الساكنة من نساء متزوجات هاجر أزواجهن الى المدينة للعمل، فأنهن يتساقطن على الأفرشة مرهقات نفسيا بوحدة قاسية ورغبات مكبوتة في غياب للزوج طويل، وجسديا بأعمال مضنية لا تنحصر في أشغال البيت وتربية الصغار من أبنائها،أو رعاية حمل خلفه الزوج إثر آخر زيارة للقرية، بل تتعداه الي البحث عن الماء وجلب الحطب والعناية بمن ظلت تحت وصايتهم من آباء وأمهات، أعمام وأخوال..أيادي كليلة ونفوس منهارة.. أما الباقي فبدءا من سن العاشرة فالبنات يرحلن كخادمات في المدينة والصبيان يشتغلون كمساعدين لأصحاب المتاجر.. الكل بعد الحادية عشرة ليلا يكون في نومه قد غرق،فلا كهرباء ولا تلفزة قد تشد الساكنة بسهر.. كما لا مدرسة في القرية تكون صمام أمان من هجرة الأطفال للعمل بدل الدراسة التي قد تنفض عنهم غبار الجهل، عدا كتاتيب قرآنية قل من صار يلازمها بعد أن اهتم صبيانها بعد ختم القرآن بحفظ وتجويد الى تعلم ما يحشو العقل بالسحر والشعوذة ..

يرن جرس المنبه بإشارات لاتكاد تسمع، فتنتبه بسيمة من رقادها، تغير ملابسها بعد ان تنظف من حالها ثم تخطو على رؤوس اصابعها، ترفع باب البيت الحديدي الى أعلى حتى لا يحدث ازيزا من احتكاكه بالأرض..

بسيمة فتاة في عقدها الثاني اشتغلت سنوات خادمة في المدينة، كانت لا تستقر في بيت حتى تنتقل الى آخر على يد سمسار هو من يوجهها حسب مزاجه ومن يدفع أكثر، لكنها لاتغادر بيتا حتى تترك خلفها حكاية مع أبنائه واذا انعدم الأبناء أو كانوا صغارا فلا تتحرج من إغراء صاحب البيت مهما كان عمره ومستواه، فجمالها وقدها المياس جواز عبور الى القلوب والجيوب..

رغم جمال بسيمة وبسماتها الآسرة  لم تكن في سنوات عملها الأولى ترفع رأسا أو تطمع في ما ليس لها بل كانت تتجنب كل ما قد يمس بشرفها وعفتها وسمعتها..

 خصام دائم مع سمسار يتاجر بعرقها يعرف متى يطرق باب بيت تجد فيه راحتها فيطالب بزيادة في أجرتها خصوصا اذا وجدت نفسها في أسرة أصيلة تحترم نفسها وتقدر غيرها فلا تفرض عليها من العمل ما يفوق طاقتها.

.تعمد السمسار ذات ليلة أتته بسيمة هاربة من بيت حاول أحد أبنائه أن يعبث بها فتركها  تنام معه في دكان يستغله كمتجر لمواد النظافة والغسيل وبيت للسكن، فاغتصبها ثم شرع يلقي عليها دروس التحريض على الإغراء وتسخير جمالها في استغلال كل زوج يغريه صباها أويتحرش بها من أبنائهم ، اذ عليها أن تنظر الى مستقبل ايامها حين يجف لها عود ويخبو جمال من محياها، فحتى العودة الى البادية من أجل الزواج هو خدمة لرجل قد يكون بلاعمل يتحكم في حريتها ويستغل ما وفرته بتعبها وعرق جبينها:

ـ "يلزم ان تحولي ذل العمل في البيوت، ومهانة ما تتجرعينه بأعمال فوق طاقتك ومجهودك النفسي، الى قوة عن طريق الرضوخ لتحرشات رجال البيت مهما كانت أعمارهم، ثم اطلبي الثمن.. كلما كنت أغنى كلما رغب فيك الرجال أكثر "..

لم تخرج بسيمة من المدينة الا بعد أن حملت سفاحا من صاحب آخر بيت كانت فيه ،وبعد أن امتنعت عن الإجهاض ساومت رب البيت الذي تجاوز الستين مستغلة غناه ويسره ، فضل الرجل أن يتجنب الفضيحة بين أبنائه وأصهاره فأرضي بسيمة على شرط أن تغادر المدينة وتلزم الصمت..

جمعت بسيمة كل ما لديها وما كان لديها ليس قليلا ثم عادت الى القرية بين أمها وابيها بعد أن قضت مدة في بيت امرأة مشهورة باجهاض الخادمات برعاية السمسار..

صارت بسيمة في القرية وقد اكتسبت خبرة في الإثارة و الاغراء ونسج الكذب تخرج كل ليلة للسهر مع أحد العمال رأته يوما وهي فوق التل يحط رحله بوصول الى بيت والديه فأثارها بقده ورشاقته وفخامة السيارة التي يسوقها، فصارت تتعمد الوقوف في طريقه.. وجدت فيه بسيمة قابلية لخيانة زوجته والتغرير به لحمل جديد ومساومة أقل ما قد تناله منها حَرْكة الى خارج الوطن.. فالحمل سفاحا صار لها كلعبة البنات على التربيعات لكنها مقنعة ومربحة..

كانت تلتقي به في حلكة الليل ينسل من سرير زوجته أو يدعي السهر في المدينة مع أصدقاء طفولته ويأتي للحظات المتعة مع بسيمة  الى ساعات متأخرة، فالفصل صيف حار يغري بالتعري والسهر..

في لحظة انتشاء وغيبوبة متعة تهتز الأرض بزلزال تحت جنبات العاشقيْن، وفي سورة رعب يدفع العشيق بسيمة عنه، وما أن تحاول الوقوف حتى تداهمها الاتربة فتدفنها تحت الركام فوق عشيقها، تميد الأرض وعليهما تترامى الأعمدة والطوب من البيوت يحاصرهما بضربات من كل جانب الى أن أفقدتهما الوعي..

الكلاب المدربة هي التي دلت رجال الإنقاد على بسيمة وعشيقها تحت سقيفة عريش قد انهارت ومنعت عواميده وعوارضه الخشبية أعمدة البيوت الاسمنتية من سحق بسيمة وعشيقها..

كانت بسيمة حين تم استخراجها غائبة عن الوعي تكاد تفقد روحها من جراء الاختناق،وقد غاب جزء من أحد اثدائها بينما عشيقها استطاع أن يستعيد أنفاسه بساق مكسورة ورأس مشروخ بعد ترويض من أحد المسعفين..

حين سألوا العشيق عن الأنثى التي كانت متشبثة به في عناق أدعى أنه لا يعرفها ولم يسبق له رؤيتها...

حاصره أحد رجال الانقاد:

ـ وكيف تم وجودك وهي فوقك لصيقة ، عاريان معا ؟

ـ لا أدري، لا أذكر الا أني كنت مارا وقد ظهر لي شبح شخصين قريبا من المسلك الذي كنت أسير فيه..

ـ وهل كنت مارا وأنت عار تماما ؟

ـ لم أكن عاريا، ربما ثيابي تمزقت بفعل الزلزال

ضحك رجل الانقاد وتركه للبحث عن ضحية أخرى، فهذه ليست مهمته..

بسيمة خضعت لعملية جراحية تم بتر ما تبقى من ثديها، عانت كثيرا خاصة لما بلغها أنها قد فقدت والديها معا، لكن ما ظل يؤرقها هي صندوقتها النحاسية والتي كانت بنكها وفيها تكنز كل ما توفر لها من ذهب و نقد هو مال أجرة عملها ومساوماتها عن شرفها.. كانت لا تتوقف عن الاستفسار عمن كان رئيس الرجال الذين اهتموا بإخراج جثة والديها من ركام بيتها..

خرجت بسيمة من المستشفى نفس منهارة وعقل عليل ما لبثت أن دخلت في حالة من الهوس على صندوقتها..

كانت تظل في ساحة مخيم المنكوبين تروح وتجيء، مفتوحة الصدر، منفوشة الشعر، تصيح بأسماء كل من اشتغلت عندهم وتروي حكايات عما وقع لها في كل بيت منهم:

ـ "أموت أنا واليهم يعود كل شيء، اضبطوهم قبل أن يرحلوا "

" اتهمتُ الرجل بالسفاح وهو بريء، اقبضوا على السمسار فهو من يملك الحقيقة "

انشقت الأرض وبلعت كل شيء، وأدت أحلامي، فماذا بقي لي ؟..

"خدعني السمسار فخدعت ذاتي واستبدلت واقعي بوهم"

"ازددت فقيرة، تربيت فقيرة،يا ويلي كيف أموت فقيرة؟ "

عشيق بسيمة كان يحاول ان يبادر تجنبا للفضيحة رغم راسه الملفوف قطنا وكسر ساقه والمشي بعكازتين الى شد الرحال مع زوجته الناجية بسلام والعودة الى وطن الغربة حيث يعمل، مدعيا أن العلاج خارج الوطن أحسن، فهو مجرد شاب تلقفته أنثى غنية في عمر أمه ضالا بلا عمل،تائها في بلاد الغربة تزوجها وباسمها صار يدير تجارة لايملك منها غير رضا الزوجة عليه..

صارت بسيمة حبيسة مخيم المنكوبين، جمال سارب وقوة خائرة تتركن في إحدى الزوايا ، تشاركها جماعة ممن حولهم الزلزال الى أصحاب عاهات وأتى على ذويهم،لاتكلم أحدا أو تلتفت لاحد بنظر، فهي تختص بأوهامها وصور تظل تراها عبر تخيلات المدى، تهمس لها أحيانا بمدح،أوتلعنها أحيانا أخرى بذم، بل امتنعت حتى عن الاكل والشرب الى أن تدهورت صحتها و فقدت كل قدرة على الكلام..هيكل عظمي وجلد يلتصق بعظم..

بعد شهرين تقريبا أتى أحد رجال الدرك يهرول اليها،وفي سيارته صندوقة نحاسية صفراء وجدها من يعيدون تسوية الأرض وحفر ساسات البناء الجديد لبيت أسرة بسيمة..لم يتلق الدركي أي ردة فعل فبسيمة قد لفظت أنفاسها الأخيرة.....

***

محمد الدرقاوي - المغرب

زرت الرباط بعد غياب سنتين في يوم ممطر، نزلت من الحافلة وسط محطة طرقية شاسعة، تتوفر على مرافق متعددة وأمور أخرى كثيرة تشي بالفرق بينها وبين نظيرتها القديمة في القامرة، ونحن نتحرك بحقائبنا المثقلة صوب المخرج، تهنا وسط الممرات الكثيرة، وكلما قصدنا بابا زجاجيا ضخما ظهر حارس أمن ليشير بيده أن تقدموا إلى الأمام، فنفهم الإشارة ثم نسير إلى الأمام. وبعد أن مشينا أمتارا معدودات وجدنا منفذا للخروج لكن ممراته مغلقة بحواجز زجاجية صغيرة، رآها شخص ثرثار كان يمشي جانبي أهتدي به الطريق ظنا مني أنه يعرف المكان جيدا، وما إن بدت له الحواجز مغلقة حتى صرخ متأففا:

"بالله عليكم من أين نخرج؟"

ثم عاد القهقرى نحو الممر المحاذي لمرابض الحافلات، فتبعه شخص آخر ليخبره أن الحواجز الزجاجية تفتح نصفين مجرد أن تقف أمامه، فعاد صاحبنا غاضبا متأففا أكثر من ذي قبل. ولما عبرنا الحواجز ألفينا سلالم كهربائية، خطا صاحبنا فتبعته مسرعا، ولكن ما لفت نظري هو طريقة خطوه، إذ قفز كأنه يمشي على أرض ملغمة، فكاد يفقد توازنه ويرتمي على السلالم الكهربائية لولا أن لطف به الله فتمالك نفسه، بيد أنه ازداد غضبا حتى قال معاتبا:

"نريد المال وليس هذه السلالم المقيتة"

استغربت كلامه في بداية الأمر؛ لأني كنت أعتقد أن المواطن في هذا البلد الحبيب كلما توفرت له وسائل التحديث، وتيسرت له سبل الحياة والعيش نوعا ما، سيزداد فرحا وبهجة وإقبالا على الحياة طولا وعرضا. لكني استدركت خواطري المضطربة، فتساءلت في نفسي: "من الأسبق والأولى: بناء الإنسان أم بناء الجدران؟".

قفزت ثنائية الحداثة والتحديث إلى ذهني، وتأكد لي ما كنت قرأته في أحد الكتب التي تناقش وتنتقد الحداثة المؤجلة في العالم العربي... ذلك أن لا تحديث بدون حداثة، لأن التحديث في البنى التحتية والخدمات العامة يأتي بعد حداثة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

فهل قمنا ببناء الإنسان فكريا ووجدانيا؟ هل غيرنا بنية عقل المواطن حتى تكون مأهولة لاستقبال وسائل التحديث، والتعامل الرشيد والحكيم معها؟

أكتب هذه السطور وأنا جالس في إحدى المقاهي الشعبية الزبائن المستحدثة الأثاث والديكور. وأنظر من جانب الرصيف إلى الشارع المقابل لي، وأتملى جمال قطرات المطر وهي تسقط على الإسفلت في قسوة؛ لأن حنو المطر يظهر كلما سقط على التراب، فصعدت من التراب رائحة طيبة ندية.

يعرب المطر عن جماليته حينما يسقط في البوادي والقرى على الأرض المتربة، ويغازل أوراق الأشجار والنخيل الباسقة في جو حميم ملئه العناق بين الأوراق المغبرة وقطرات المطر الباردة. في هذا المنظر البهي تتشكل شعرية المكان، ويكشف عن مكنوناته الجمالية الدفينة، ويفتح شهية الذات على القراءة والكتابة.

فتحت كتابا أتصفحه في الهنا والآن، أتذوق كلماته الرصينة، وأتأمل أفكاره وتأملاته العميقة، ثم أرفع بصري صوب الشارع الرئيس بين الفينة والأخرى، وأمعن النظر في المارة وهم يسرعون الخطو هروبا من قطرات المطر الثقيلة، ثم أعود إلى القراءة من جديد منتظرا توقف المطر، ومتأهبا للعودة إلى المكان الذي غادرته صباحا.

كنت أريد معرفة أجواء الرباط ساعة هطول المطر، وأتملى بجمال الشوارع المبتلة، وأنعم بالنظر إلى هذا المنظر البهي وأنا وسط سكان المدينة، أرصد طريقة كلامهم، ونوع المواضيع التي يخوضون فيها، وتفاعلهم مع المطر واستجابتهم لقطراته المتساقطة.

تهت في المحطة الطرقية مثل الكثيرين ممن يعيشون خارج المدينة، فركبت سيارة أجرة تأخذني إلى المكان الذي جئت من أجله، ثم تقصر المسافة البعيدة التي تفصلني عنه. وما إن غادرت باب المحطة الكبير حتى ألفيت سيارات أجرة بلونها الأزرق بهية المظهر، وذلك بفعل قطرات المطر التي أزالت أدرانه.

تقدمت نحو إحداها فامتطيتها، استفسرني سائقها عن غايتي، فقلت له مكان كذا، ثم رد بحركة تشي بأنه فهم قصدي، وما هي إلا ثواني حتى يسألني عن المكان وقد ألحف في السؤال، وجدت صعوبة في تحديد النقطة التي سأنزل فيها، لأني غبت عن المدينة سنتين، والمحطة الطرقية لم تعد في القامرة.

كان السائق يرتدي فوقية بيضاء، ويحمل في يده هاتفا ضخما، تقدمت نحوه امرأة في سن الأربعين تستفسره عن بنك ما في أكدال، فرد بأن هناك أبناكا كثيرة، لم تهمله المرأة إذ أدخلت يدها في صدرها، فأخرجت هاتفها ودفعته أمام ناظري السائق ليقرأ العنوان، بيد أنه اعتذر متبرما بدعوى أنه لم يحضر نظارته البصرية، ولكن ما إن خضت معه في الحوار حول أمور بسيطة، حتى بدا لي أنه لا يعرف القراءة والكتابة، لذلك خاطب السيدة التي تجلس خلفنا قائلا:

"اعط هذا الولد يقرأ لك العنوان لأنه يبدو متعلما"

فمدت السيدة يدها نحوي، فأخذت أقرأ الرسالة بصوت مرتفع، وأحدد الموقع المقصود للسائق.. استغربت معرفتي المفاجئة هذه؛ لأني لا أزور المدينة إلا مرات متباعدة، ولا أقضي فيها سوى يوم أو يومين كأقصى مدة.

تساءلت في خلدي عن الأسباب التي تجعل أهل مدينة من المدن المغربية يجهلون أزقتها وشوارعها وأحياءها؛ إذ كثيرا ما سألت أبناء مدينة من المدن التي زرتها عن مكان ما، فلا ألقى منهم إلا الرد بعدم معرفة ما سألت عنه.

لم نعد جوالين كما كان أجدادنا يفعلون، وإنما بتنا نكتفي بالمكان الذي نسكنه وما يحيط به من أحياء، وربما السبب يعود إلى اتساع المدن وترامي أطرافها، ومن يدري لعلنا عزفنا ونأينا بأنفسنا عن معرفة أماكن لا حاجة لنا بها.

تشير الساعة إلى الثانية عشرة، وأنا ما أزال قابعا في المقهى، جالسا على كرسي خشبي يشي بحداثة المظهر، ولكنك ما إن تقضي عليها ساعة حتى تحس بألم في كل جسدك، فتختار الخروج على عجل، لتجد أن المكان قد لفظك خارجا كما يلفظ البحر غريقه.

مضى اليوم مسرعا في هذه المدينة، ولم أحس قط بحميمية الناس تجاه بعضهم البعض، إذ الكل يجري صوب غاية هو طالبها، ولا يلتفت جهة الآخر ولا ينظر إلى وجهه حتى. تساءلت في نفسي وقد بدأ الدوار يكتنفني بسبب ألم منغص في معدتي: من سيساعدني إن سقطت هنا؟ من سيتوقف ثوان معدودة ليعرف حالي أنا الغريب الذي لا يملك أهلا في المدينة؟

استجمعت قواي وتمالكت نفسي، ثم أصررت على متابعتي الخطو لعلي أسترق لحظة من وقتي لأزور صومعة حسان، ثم أتملى بساحتها الواسعة وأتجه صوب محطة القطار، لأبتاع تذكرة العودة قبل أن يجثم الظلام على المدينة.

تسألني فتاة في مقتبل العمر إن كنت أتوفر على بطاقة أو وثيقة تخول لي ابتياع تذكرة بثمن مناسب، فأدخل يدي في محفظتي مسرعا، أبحث عن حقيبة الوثائق في حركة مضطربة لأن الطابور ممتلئ بالمسافرين.

أخرجت بطاقتي ودفعت ثمن تذكرتي المناسب، ثم ألقيت نظرة استغراب على الجمع الغفير من المسافرين الذين ينتظرون دورهم، فخطر لي خاطر مفاده أن نسبة كبيرة من الناس لا تعيش إلا في القطارات والحافلات، وأنها لو حسبت عدد الساعات التي تقضيها متنقلة من مكان لآخر لوجدت أن وقتا طويلا قد ضاع من عمرها.

فتحت الكتاب للمرة الثانية وأنا جالس على أحد الكراسي الموجودة على هامش سكة الحديد، فانغمست بضع دقائق في سطور فقرة يصف فيها الكاتب الأماكن التي مر منها، تساءلت عن مصدر تحصيل شخص أعمى لهذه الكفاءة الوصفية الكبيرة؟ فتذكرت الشاعر بشار بن برد وهو يصف المعارك وفصل الربيع وصفا دقيقا شاملا بهيا، ثم أبا العلاء المعري وهو يصف مشاهد من الحياة الأخروية في سياق رحلته الفكرية التي تجاوزت الحياة الفانية وارتمت في لجج الحياة الأخروية، ثم تذكرت طه حسين وهو يصف في كتابه "الأديب" شخصياته وأماكنه ومواقفهم.

تأكد لي أن من ينظر ببصيرته يرى أكثر مما يرى الناظر ببصره، ذلك أن في البصيرة غوصا عميقا في الأشياء والأشخاص والمواقف، وأن في البصر خداع الحواس وتمسكها بالمظاهر.

وصل القطار فامتطيته ثم ملكني النوم، ولم أستيقظ إلا على وقع صوت أنثوي يخبرنا بوصول المحطة التي سأنزل فيها، فحملت محفظتي ثم اتجهت إلى مخرج المحطة لأمتطي سيارة أجرة تقلني إلى البيت.

***

محمد الورداشي

قريبا يعود نبضي

كما كان منتظما

انفض الموت عن شراشفي

واكنس الحزن خارج مجرتي

قريبا انتشي بالقهوة

و الاغاني

كما كانت عادتي

كل صباح...

و افتح النوافذ على البريق الازرق  القادم

من عينيك

قريبا

اعد نفسي لامسيات

يشاغبها ضوء القمر..

و اعتذر لنجوم كنت اطفئها لكي انام

باكرا

واسهر داخل الليل

وخارج العتمة

على ضوء شموع سكرى..

قريبا ساطفو على سطح الوجع

واسبح باتجاه يداك

الممدودتان  نحوي

قريبا تسقط مدن الصمت و العتمة

واسحب قلبي

من غياهب الجب الى

نور الحب

قريبا..

قريبا جدا

وربما الآن

اعود الى الحياة..

***

بقلم: وفاء كريم

الوقت ليس في

صالح

الاقحوان

فالاشواك تتحالف

مع الخفافيش

2 -

لا تخيطي

احلامك بابرة صدئة

بل بابرة من بهاء

الشمس

وروعة قوس قزح

3 -

لاتتاملي بمرايا

من قصدير

بل بمرايا من

زمرد وياقوت

كي تعكسي عليها

ماساةالغزلان القطا

والعصافير

4 -

كي لا يداهمك الليل

التحفي بمدارات

الشفق الازرق

وبكبرياء قوس قزح

5 -

تاملي تاملي

الغيمة التي فوق

جبينك ودعيها دعيها

تمطر مطرا

لازورديا

بنفسجا

واقحوانا

6 -

كوني حار سة

لشقوق الليل

كي لا تتامر على

رؤاك بنات ازى

والثعالب

7 -

ازيحي عن رؤاك

الهواء المشوب

بالكبريت

والغبار

لكي تشمي

نور الشمس

وعطر الازهار .

***

سالم الياس مدالو

هذا المُحِبُّ أفانينٌ وموسيقى

مُعتّقٌ في دِنانِ الشِّعرِ تعتيقا

*

مِنْ خمرةِ الحُبِّ يَسقينا سُلافتَها

مِنْ خمرةِ الشِّعرِ يروينا أباريقا

*

بتلكَ نثملُ حتى آخرِ  الرَّمَقِ

وهذهِ تُحرقُ الأنفاسَ تحريقا

*

عندَ المناجاةِ غِرِّيدٌ فيُطربُنا

مُفلِّقٌ لأغاني الحُبِّ تفليقا

*

وفي الشدائدِ سَيفٌ صارمٌ ذَلِقٌ

نسرٌ  يُحلِّقُ في الآفاقِ  تحليقا

*

الشاعرُ الحرُّ صوتٌ صادِحٌ وصدىً

وصادقٌ ... يملأُ الأسماعَ  تصديقا

*

وصائغٌ ماهرٌ للقولِ ينسجُهُ

مُزوَّقاً  ببريقِ الماسِ تزويقا

*

عندَ المُحبينَ صَبٌّ بالهوى نَزِقٌ

يهديهمُ القولَ تجميلاً وتشويقا

*

وللرذائلِ شرَّاحٌ ، ومِبضعُهُ

مُمزِّقٌ لِسِتارِ القُبحِ تمزيقا

*

إنَّ القصيدةُ كَشْفٌ ذاتَ صاحبِها

مُطوَّقاً  بذواتِ  الجَمْعِ   تطويقا

*

الذَّاتُ يا صاحبي ذاتي وذاتُكُمُ

وذاتُ كلِّ نظيرٍ عاشرَ الضِيْقا

*

فإنّما الأممُ الأشعارُ مارفعَتْ

ذواتَـهمْ  ألَقاً ... تزدادُ تأليقا

***

عبد الستار نورعلي

تموز 2023

جارتي الكنديةُ الصَهْباءُ

التي تعوَّدتْ أَنْ تدعوني

في مناسباتِها الشخصيةِ والوطنيةِ

والموسميةِ أَيضاً،

أَمسَ كانتْ قَدْ فاجأتْني بدعوةٍ غرائبيةٍ وعجائبيةْ

وكذلكَ كانتْ دعوتُها فنطازيةً وسرياليةً

وفجائعيةً حدَّ الدهشةِ والدموعْ

حيثُ أَنَّ جارتي الكنديةَ الشقراء

كانتْ قَدْ دَعَتْني " أَنا الوحيدُ طبعاً "

الى حفلٍ خاصٍ وغريبٍ وإستثنائيٍّ جداً

ألا وهو :

الحفلُ الذي قررتْ إقامَتَهُ بكلِّ فخامةٍ وأُبَّهةٍ

وكرنفاليةٍ وسحرٍ وجنونْ

وذلكَ بمناسبةِ نجاحِها في كسْبِ قضيةِ طلاقِها

من زوجِها الهنديِّ الأَحمرِ

الذي ماتَ قبلَ عشرةِ أَعوامٍ

مُتأَثِّراً بكوابيسِ أَحلامِها

وسيولِ شتائِمها

ومواعيدِ غرامياتِها الليلية

وطقوسِها الجسديةِ المُتَوهِّجةِ

في كلِّ الأَوقاتْ

وعلى فكرةٍ ، وللعلمِ والإعتراف

فإنَّ جارتي الكندية الحمراءْ

كانتْ قَدْ بدأَتْ علاقتَها معي :

بـ " نظرةٍ وإبتسامةٍ وموعدٍ ولقاءْ "

ولَحْظَتَها كنتُ قد أَحسستُ أَنَّ لقاءَنا هذا

سيكونُ فَخّاً مُريباً ورهيباً

قَدْ أَعَدَّتْهُ لي بكلِّ كَيْدِها العظيم

كي أَكونَ زوجاً جديداً لها

ومن ثمَّ يُمْكنُ أَنْ أَكونَ

ذئباً " أَمْعطَ " السريرةِ

لأَحلامِها الشرِّيرة

و :

"body gard"

لحراسةِ مواعيدِ غرامياتِها الشرِهةِ

وحماراً نشيطاً لأُشارِكَها

في ممارسةِ طقوسِها البدائيةِ المُتَوحّشةِ

وحالاتِها الجنونيةِ المَرِحَةِ

والعجيبةِ والغريبةِ في كلِّ شيء

***

سعد جاسم

اوتاوا في 2022-7-1

قصيدتان

(1)

مُستيقِظاً في عَتْمَةِ الغَبَشِ

في الضفة الأخرى من الوادي

ثلج السماء يغمرُ ذرى الجِبال،

والروابي وبُطونِ الأَوْدية

ثلجٌ ناصعُ البياض متحجّر

هناك.. عشُّ طيورٍ جبليّة

تستنشقُ نَسِيماً عَلِيلاً مع الألم

*

مُستيقِظاً في عَتْمَةِ الغَبَشِ

انحدر من القِمَّة ِ الشَّمَّاءِ

قندل في طريق النفق

في نهار سماؤه مُتّشِحة بالغيوم.

بروح حالمة ومتوهجة،

اختار الطريق

معلقاً ما بين الأرضِ والسماء

وفي دَيجورِ دَهره

طفحَ لونُ الشمسِ على مستقبله!

***

(2)

ها قدْ خلت السَّمَاء،

من السحبِ الغبراء

فانْهَالَ الْمَطَرُ فِي لَيْلَةٍ ليلاء

تطغى عليها عاصفةُ العَماء

تتهدّده العاصفة الهوجاء

بالتهامِهِ؛

فهاجتْ ذاكرةُ حلمِهِ:

- لمْ تقهرني في الزنازين

مكابداتُ ليالي الزمهرير

حيثُ كان يتفجّرُ أنينُ الملائكة

ولمْ تتضعضعْ عزيمتي،

مُتَمَنْطِقًا بِخِنْجَرٍ

وأحملُ (زاگروژ) على ‌أكتافي

إلى حلمٍ زاهي التخوم!

***

سهيل الزهاوي

في مدينة درنة

حيث عاصفة دانيال

مزقت اروقة سدين

وفتحت الباب على مصرعيه

لسيول جارفة

ثمة اعصار عنيف يزبد ويرعد

يتسلل الموت

ويركب تيارا  قويا

من الماء الهائج

*

اغتسل الموت

بارواح الابرياء

وسكب البحر ويلاته

بامواج من الوحل الرهيب

*

في مدينة درنة

السيول تنهش الضفاف اليابسة

وجثث طافية فوق الماء

*

جثث جرفتها السيول الغادرة

اطلال واشباح

تطل من المدينة المنكوبة

*

أفرغ السدان حقدهما الدفين

يا لها من غطرسة الماء الخائن

*

ماذا فعلتما يا سدي دربة

هل ضاق بكما الماء

المتكدس في حناياكما؟

يا صديقي الحقول والمراعي

وفرحة المزارعين

يا ويحكما

لماذا ذلك التهيج كله

من ازعجكما

هل الماء اثقلكما

هل حقا تشيخ السدود

وينخرها الماء الغزير

وتنهار خرسانتها؟

*

سدود لها عمر مفترض

بلغ جسمها الهرم والخرف

ثم تشققت..

ولفظت الموت من جوفها

"فأصبح ماؤها غورا"

***

بن يونس ماجن

قصيدة سَرْديّة

(1)

قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ

مِن ألْفِ بابٍ، كُلُّ بابٍ ألْفُ لَوحٍ

هل قرأتَ؟

سمعْتُ عنهُ وجئْتُ أصعَدُ

كيْفَ تَصْعَدُ ، لا سَلالِمَ؟

عُدْ إلى (اللوحِ  الكتابْ)

وأينَ ذاكَ؟

عليكَ وحدَكَ أنتَ أنْ تَجِدَ الجوابْ

(2)

في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ

مِن كتابِ اللوحِ

قالَ: البُرجُ بُرْجي

صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً

وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ

فانتَحَلَ القصيدهْ

وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى

طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه

(3)

ومِنَ القصيدةِ:

حينَ تَصعدُ  قال قرْميدو  تَرَيّثْ

أجملُ الحُجُراتِ

في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ

بَلْ تُسَمّى

ومِن القصيدةِ:

إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ

وَلَمّا

(4)

هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟

سيّانِ

قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ

مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ

(5)

كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ:

البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ

وَهْيَ تَمْشي عاريَةْ

.......................

البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ

قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ

لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ

إنَّ النزولَ كَهاويَةْ

(6)

قافانِ

في (قَلَقِ) الوجودْ

والّلامُ بينهما أسيرةْ

اللّامُ أنتَ فيا تُرى

ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟

....................

حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ

(7)

إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ

زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً

في كُلِّ مَدْخَلْ

لو جاءَ

تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ

(8)

إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً

ولكِنْ لا امتِيازْ

فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ

ويُقالُ:

عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ

خَرجوا كما دخَلوا حَيارى

(9)

إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ

أو كان مَرْدوخُ الإلهْ

أو كانَ جَدُّهُما

النتيجةُ واحِدةْ:

نحْنُ العبيدُ ، نَظلُّ في الوادي

وهُمْ أعلى الجَبَلْ

.....................

البرجُ حَلْ

(10)

ها أنتَ تَصعدُ،

ها هِيَ الثيرانُ

جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها

لِتَنْفَتِحَ السقوفُ

..............

البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ

(11)

البُرجُ أعْرَقُ مِنكِ بابِلْ

البُرجُ أحلامُ الأوائِلْ

في لَجْمِ غطْرسةِ البُغاةِ الآلِههْ

مَنْ يَحْسبونَ الأرضَ سَلَّةَ فاكِههْ

والناسَ تَحْتَهُمو عبيدا

......................

البُرجُ فاجأَهُمْ صعودا

(12)

في البدءِ كان البرجُ محمولاً

على رُخِّ الخُرافةْ

حتى أناخَ بأرضِ بابلْ

أخَذَتُهُ مِنهُ قصيدتي

كالهودجِ الحَلَزونِ تحملُهُ زرافةْ

وبهِ تَطوفُ على المدائِنْ

(13)

في البُرْجِ بُرْجٌ لِلْطيورِ

مَعاً تَطيرُ لِكيْ تُطَرِّزَ في الصباحِ

سماءَ بابِلْ

(14)

هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فارِغةٌ تَماماً

لَو دَخَلْتَ تَصيرُ غابَةْ

هِيَ حُجْرَةُ الشامانِ

فيها قد تُفَقِّهُكَ الأيائِلُ بالتَخاطُرِ

فِقْهَ إبْكاءِ السَحابَةْ

(15)

في باب مانعةِ الصواعقِ

عَنْهُ في اللوح الكتابِ إشارةٌ:

أنْ سوفَ يَجترحُ الصديقُ ......

إنارةَ البُرْجِ المُعَلّى

لَمْ يذكروا مَن كانَ ذيّاكَ الصديقُ

لَربّما خوفاً عليهِ كأنّهُ

قد كانَ (تِسْلا)

(16)

هي حُجْرَةُ التيجانِ

تَدْخُلُها بِقِيراطَيْنِ مِن ذَهَبٍ

دقائِقَ

كامبِراطورٍ، كَقَيْصَرَ أو كَكِسرى أو كَسلْطانٍ

كما مَلِكِ المُلوكْ

العرشُ فيها، الصولَجانُ، الخاتَمُ الطُغْراءُ

وحْدَكَ ها هنا الآنَ المُتَوَجُّ

بَيْنَ مَن قد تَوَّجوكْ

(17)

في حجرةِ الشطرنجِ يَمتَدُّ السِجالُ إلى الشروقْ

والفائزونَ يُكَرَّمونَ

بأنْ يزوروا حُجْرةَ الأسرارِ ما فوقَ الغيومِ

ليَسألوا: أنّى وكيفَ متى وأين؟

.................

في الصُبْحِ سادِنُ حُجْرةِ الشطْرنجِ

يَشْطفها بِخُرطومِ المياهِ مِن الدماءِ

ويُوقِظُ الصَرْعى مِن الجيْشيْنِ

يُوقِفُهُمْ على ذاتِ المَرَبَّعِ مِن جديدْ

(18)

في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

في النهارِ يطوفُ مرفوعاً بِذاتِهْ

...............

في حُجْرةِ الحُجُراتِ

نعْشٌ

يَختفي ليْلاً فلا يبقى هناكَ سوى بَناتهْ

(19)

في بابِ (هاروتٌ و ماروتٌ) مِن اللوحِ الكتابْ

قالا لِقرْميدو: سنجعلُ فوقَ بُرْجِكَ

غيْمةً في صيْفِ بابلَ

تُنعشُ البرْجَ العظيمَ وتَغْسلُهْ

لكِنَّ قرْميدو تَوَجّسَ:

عنْدنا تِسْلا ، كذلكَ عندنا الشامانُ

يَجْتَرِحانِ ما شِئْنا بِلا سِحْرٍ،

بِأيْدينا نُصُمِّمُ ما نُريدُ ونَجْعَلُهْ ...........

(20)

الطابقُ العشرونَ مُتْحَفُ (سوفَ كانَ) وفيهِ: أجنحةٌ

لِجبرائيلَ، ألواحُ الزمرّدِ، نَعْلُ آدمَ، مشطُ حواءَ، البراقُ،

وفُلْكُ نوحٍ، صُورُ إسْرافيلَ، والرُخُّ الذي عَبَرَ البِحارَ

مُحَلِّقاً بالسندبادِ، فَرائِصُ الأسرار تَرتعدُ ارتعاداً في

ضميرِ الغيبِ قُرْبَ عمامةِ الخَضِرِ، الدفوفُ تَزُفُّ بَدراً مِثْلَ

فاكهةٍ يُقَطِّعُهُ بِخِنْجَرِهِ إلهُ المَدِّ سْكْراناً لِيأكُلَهُ أهِلَّهْ

في (سَوفَ كانْ) :

حَجَرُ الفَلاسِفةِ، الهِيولى، والبَهيموثُ المُحَنّطُ،

واهتزازُ ضفيرةِ الزمَنِ المُولِّهُ والمُوَلَّهْ

(21)

مِن بابِ لُغْزى في الكتابِ

بأنها عذراءُ ساحِرةٌ جميلَةْ

في البرجِ حُجْرَتُها تُطلُّ على الفراتِ،

يَفُضُّها مَن يستطيعُ لِلُغْزِها حَلّاً

ولكنْ

لَمْ يَفُزْ أحَدٌ فَعاشَتْ هكذا في البرج

عذْراءً وساحرةً جليلةْ

(22)

عن نَحلَةٍ في البُرْجِ

إنَّ صديقَها فَرَسَ النَبي

كانَتْ لهُ في البُرجِ شِبْهُ جُنَيْنَةٍ

فيها مِن الخَشْخاشِ ما يَكفي

تَعالي جَرِّبي

(23)

في حُجْرةِ العمْيانِ لو دخلَ البصيرُ

يَصيرُ أعمى،

هيَ كُلُّ ما فيها مَرايا

لا يَرى العمْيانُ صورَتَهُمْ ولكِنْ

ما عَداها يُبْصِرونْ

فيها جميعَ وكُلَّ ما قد يَشتَهونْ

(24)

في الصيْفِ في السَنةِ الكبيسةِ

يومَ مَوْلِدِ عشْتَروتَ وعرْسِ بابِلْ

في مهْرَجانِ الليْلة البيضاءِ أو سَهَرِ العنادِلْ

قبْلَ الغروبِ،

البرجُ تَصعدُهُ النواظيرُ التي حَملَ الرجالُ

رجالُ بابلَ كُلُّهُمْ أوْ جُلُّهُمْ عندَ المساءْ

لِيُشاهدوا غَسْلَ العريسِ البَدْرِ

يَسبحُ في الفراتِ معَ النساءْ

(25)

يا بابَ أبوابِ الكتابِ اللوحِ

والمُغْني عن

الأبراجِ،

والأعشابِ أجْمَعَ،

والأطِبَّةْ

يا بابَ (حَيَّ على المَحَبَّةْ)

(26)

في سرّةِ البُرجِ البليغِ وأنتَ تَصعدُ:

حُجْرةُ الفُصْحى هناكَ، بَناتُها مِن حَوْلِها

سَبْعٌ وسبعينَ انغماسةَ لثْغةٍ

في ريقِ مَرْشَفِها الذي فَتَن الإلهْ

يا بُلْبُلاً قد عَلَّقَتْهُ على حبال غرامِها حتّى اعتَراهْ

طَرَبُ الهبوطِ الحُرِّ

مِن

آهٍ

لِ آهْ

يا بُعْدَ سدْرةِ مُنْتَهاهْ

(27)

هيَ حجرةٌ للأنبياءْ

زرْقاءُ: سُرّةُ ما وراءْ

يَتَجادلونَ على طبيعَة ذلك المعبودِ رَبّا

سرعانَ ما ضاقتْ بهِمْ:

كُلٌّ يُريدُ مِن المُهندسِ حُجْرةً

قالَ: ابشروا سعَةً ورَحْبا

(28)

هيَ قُبّةٌ فَلَكيّةٌ أمْ مَكْتَبَهْ؟

إدريسُ حُجْرتُهُ تَطيرُ كَمَركبَهْ !

ويُقالُ: شُوهِدَ مَرّةً يَمشي

وسطحُ البرجِ لا أحَدٌ عليهِ سواهُ حتى

ويُقالُ والأقوالُ عن إدريسَ شَتّى:

الحُجْرةُ انتُهِبَتْ وأُفْرِغَتْ الرُفوفْ

(29)

هيَ حجرةُ البوذا صغيرهْ

ليستْ مؤثَّثةً

إذا دخَلَ المُريدونَ الحُفاةُ تَرَبّعوا:

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يَسألُ الكُفّارُ بوذا

أيْ نَعمْ كانَ الجوابْ

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يسألُ العُبّادُ بوذا

لا ولا كان الجوابْ

هيَ حجْرةُ البوذا منيرهْ

(30)

هيَ حجْرةٌ ليسوعَ

تَعرفها لأنَّ أتانَهُ بالبابِ واقفةٌ

وتعرفها لأنَّ قبْلَكَ أعرَجاً

شاهدْتَ يَدخلُها ويَخرجُ غيرَ أعرجْ

هي حجْرةٌ لِيسوعَ تَعرفها

لأنَّ قلادةً مِن زهرة الثالوثِ

ألطَفَ زهرةٍ روحاً بِعائِلةِ البَنفسجْ

تُرِكَتْ هُناكَ مُعَلَّقَه

(31)

هيَ حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ

.................

مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ

ثُمَّ استعانَ بِمُقْرِىءٍ مِن مصْرَ يَصدحُ:

(إذا الشمسُ كُوِّرَتْ)

هي حجْرةٌ لِلْمُصطفى

يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ

(32)

هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ و قَلْبْ

يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ

...............

يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ

(33)

السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ

في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

(34)

إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ

نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا

إنَّ المجرّةَ

حُجرةُ البرجِ التي مِن دون سَقْفْ

في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا

(35)

بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ

وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ

إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ

(36)

في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ

مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فَلاسِفَهْ

يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ

(37)

في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ

البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ:

مِن لَوحةِ (البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ)

ثُمَّ لوحةِ (لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ) ثُمَّ ثُمَّ إلى الكبيرةِ:

(راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ)

البُرْجُ قِبْلَةُ كُلِّ مُرْهَفْ

كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ

(38)

في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى

فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا

وهْوَ ليْسْ

في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ

(39)

سَيّدةٌ، فاتِنةٌ ، لَمْ تَزَلْ

في البُرْجِ سَهْرانَهْ

تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو

لَمْ تَكُ سَكْرانَهْ

حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ

(40)

البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟

تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ

البرْجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ

(41)

أيّامَ كانَ البرجُ تَوأمَهُ القصيدهْ

صَعَدا معاً نَحْوَ السماءِ لِيلْعبا صيْدَ النيازِكْ

غضبَ الإلهُ على القصيدةِ: حرّضَتْ بُرجاً رزيناً

أنْ يَخِفَّ لِيَجْمَحا صُعُداً كَهالِكةٍ وهالِكْ

التابعونَ يُردِّدونْ:

صدقَ الإلهْ

(42)

في مفْخَرِ القَرْميدِ يُسْمَعُ عامِلانْ

يَتَحاورانْ:

هذا البِناءُ ويا لَهُ بُرْجاً ولكنْ

لو أنَّ قرْميدو كإقصيدو اكتفى

عن بُرْجِهِ القرْميدِ بالبُرْجِ القصيدهْ

أو كانَ شَيَّدَها مَساكِنْ

لِمَنْ مِثْلي ومِثْلِكَ ها هنا بالأمْسِ بابِلَهُ الجديدهْ

(43)

يا نَغمةَ البرجِ التي صعَدَتْ إلى لا مُنْتهاهْ

هو لا صداكِ ولا صداهْ

هو هكذا في البدْءِ كانَ كَلا يَكونْ

بُرْجاً إلهْ

مِن تَحتِهِ عَرْشُ الظنونِ وفوقَهُ العَدُمُ المَتاهْ

(44)

الأمَّهاتُ بِبابِلٍ يَخْشيْنَ مِن غضَبِ الإلهِ

على الذَراري

فَلَسوفَ يَفتكُ بالعبيدِ إذا رآهُمْ يَصعدونَ

إلى الدَراري

إلّاهُ ما مِن سَيّدٍ أبَداً

ولكنْ

أتُراهُ حَقّاً مثْلما قد صَوّرُوهْ؟

أم حاجِباهُ وكاهِناهُ ومَن يُخطِّطُ في الظلامِ

ومَنْ تَكَرَّشَ بالأضاحي والنُذورْ؟

(45)

هلْ شابَ بُرْجُكَ يامُهَنْدِسُ

أهلُ بابِلَ، بعضهُمْ قالَ:

الحجارةُ مِن أعالي البرجِ قدْ سقَطتْ

على أحَدِ البيوتْ

والمُغرضونَ يُروِّجونَ بِأنَّ بُرْجَ العَنْكَبوتْ ....

(46)

في البرج سَلّةُ موبِقاتٍ كانَ

قد زعَمَ المُؤرِّخُ أنها ألْفٌ و سَلّهْ

زعَمَ المُؤرِّخُ ثُم لَم يَملأْ لَنا

مِنهنَّ حتّى سَلَّتَيْنِ فما أَضَلّهْ

يا بُرْجُ إنَّ المُنصفينَ أقَلُّ قِلَّهْ

(47)

البرْجُ غادَرَ بُرْجَهُ جسَداً بِبابِلْ

جَسَداً تُقُوِّضُهُ المَعاولْ

ألْفاً مِن الأعوامِ ، كانْ

يأوي إليهِ: إلى رُفاتِهْ

شُعراءُ ما بَعْدَ الخرابِ المُنْتَمونَ إلى بُناتِهْ

(48)

في بابِ (لا تَحْزنْ) مِن اللوحِ الكتابْ

.............

وهناكَ عُشٌّ في أعالي البُرْجِ

أو بيتٌ لِمالِكْ

أيّامَها ما كانَ يُنْعَتُ بالحزينْ

نَعْتُ الحزينِ أتاهُ مِن بعْدِ الخرابْ

(49)

البرجُ يَغتابُ القصيدةَ:

ما القصيدةُ؟

ليس أكثَرَ مِن كلامٍ، مِن جُمَلْ

أنّى تُقارَنُ بي أنا!

وأنا أنا

حتّى حُطامي عندما أنهارُ يَبدو كالجَبلْ؟

(50)

في الحُجْرةِ الخَمْسينَ

إزميلٌ مِن الألْماسِ

سارِقُهُ بهِ طَعَنَ الذي لَولاهُ ماكانتْ

لِثيرانِ القصيدةِ أجنِحهْ

الحجرةُ الخَمْسونَ مقبرةٌ

وقرْميدو يقولُ: أنا الذي أغْلَقتُها:

فيها لآمالي الطعينةِ أضرِحَهْ

(51)

في بابِ لاهوتا مِن اللوح الكتابِ:

البرجُ قنطرةٌ على بحْرِ المَجازْ

البرجُ شهْقةُ تُرْكُوازْ

البرْجُ فازْ

بِشاهِدَهْ

مِن دونِ قبْرْ

(52)

في باب لاهُوتا كذلك: إنّ لاهُوتا الصغيرةَ وحْدَها

صعَدتْ تُطَيِّرُ طائرَ التنّينِ (مِن ورَقٍ مُقَوّى)

حينَ باغَتَها العُقابْ

يا بِنْتَ والدِها المُهندسِ باختفائكِ

حَلَّ بالبُرْجِ الخرابْ

(53)

كانتْ صنوبرةً قد اتَّشَحتْ بِشالٍ مِن وجومْ

إذ أنَّ لِبْلاباً تَطّفَّلَ ، راحَ أسودَ يَعتليها

البعضُ قالَ: هيَ الأفاعي السودُ

قرْميدو أفاقَ على

فحيحِ صُعودِها قَدَّ الصنوبرةِ الطويلِ إلى الغيومْ

(54)

في حُجْرةِ البلّورِ أعلى البُرجِ

تلكَ بِخلْوةِ الرُؤيا تُنادمُهُ الحُدوسُ

سهْرانَ يَخشى أنْ يَنامَ

إذا غفى سِنَةً تُقَطِّعهُ الفؤوسُ

(55)

لِلْإفْعُوانِ حُجَيْرةٌ صغْرى: قَفَصْ

.............

عيْناهُ ياقوتِيّتانِ، لِسانُهُ المَشْطورُ سَيْفْ

لا تَقتلوا ذا الأفعُوانَ فَإنَّهُ في البُرْجِ ضَيْفْ

وَهْو الذي لَدَغَ الذي اغتالَ المُهَنْدِسَ

...............

هكذا في بابِلٍ بَعْدَ الخرابِ

البَعضُ يَبْتَدِعُ القصَصْ

(56)

مِن بعْدِ آلافِ السِنين

قوافِلُ الدنيا على طُرِقِ الحريرِ تَراهُ يَطفو

مِن بعيدٍ في سُراها ثُمَّ يَغْطسْ

...............

لا بُرجَ

ذي شَهَقاتُهُ مِن بَعْدِهِ يَلْمَعنَ لَيْلاً

كالجواري السابِحاتِ هناكَ كُنَّسْ

(57)

البرجُ مِن بَعْدِ الخرابْ

أَثَرٌ كما الختْم اسطواني

طبْعٌ عراقيُّ المَعاني

في الشِعْر في شَجَنِ الأغاني

في النَوْحِ مُرّاً

في معاتَبَةِ الزمانِ

(58)

مَرثيّةٌ في بابِ قرْميدو

مِن اللوحِ الكتابْ:

..............

لكَأنَّ بابِلَ آهِ مِن بَعْدِ المُهَنْدسِ

أرضُ بُورْ

حتّى لو ارتفَعَتْ جنائِنُ أو قصورْ

حتّى لو امتَدَّتْ على نهْر الفراتِ بِها الجسورْ

(59)

الفيلُ والنَحّاتُ ماتا

وهُو مُنْتَصِبٌ على الرَفِّ الزُجاجي:

برْجُ عاجِ

(60)

أولادُ قرْميدو المُعَلّمِ

بَعْدَهُ كَمُهَندسينْ

فَرّوا إلى الهندِ التي فَرحَتْ بِهِمْ

فَرَحَ الكفيفةِ بالعيونْ

أولادُ قرميدو المُعَلّمِ

ها هُمو يَتَناسلونْ

(61)

في الليلةِ البَغْضاءِ

في الثُلُثِ الأخيرِ

تَناهَبَ المُتَلَثِّمونَ البُرجَ

فاحتَمَلوا الكنوزَ لِيَختفوا

قَبْلَ انجِلاءِ المَذبَحةْ

حتى لَقد خَلَعوا عن الثِيرانِ

كُلَّ الأجنِحةْ

(62)

في البرجِ

في أحشائِهِ قرْميدةٌ ذَهَبِيَّةٌ

جاءَ الحفيدُ

مِن بَعْدِ قرْنٍ أو يَزيدُ على الخرابِ

فَحازَها

كُلُّ الذينَ تَمَلَّكوها بَعْدَ ذلكَ يَزعمونَ بأنَّهُمْ

أحفادُ قرْميدو وقرْميدو وليْسَ سِواهُ جَدُّهُمُ الوحيدُ

(63)

في بابِ جَلْميدو بنِ قرميدو مِن اللوحِ الكتابِ:

هُوَ الذي قد هَرْمَنَ الأهرامَ

في شَتّى بِقاعِ الأرضِ إذْ قدَّ الحَجَرْ

ولِأنَّ جلْميدو تَدارَكَ سَهْوَ والِدهِ

فَقَدْ بَقيَتْ بَدائِعُهُ وقَد صَرَفَ النَظَرْ

عن بابِلِ الأولى وعن برجٍ يُقالُ ... ولا أثَرْ

(64)

مَن قالَ أنَّ هناكَ بُرْجاً ؟

لا دليلَ سوى القصيدةِ والمَكيدةِ:

في القصيدةِ لا يَزالُ

وفي المَكيدةِ لا تَزالُ الشاهدةْ

***

جمال مصطفى

العشاقُ يحملونَ جَسارَتِهم صَقيلةً كالبلّور

بكلماتِ الحَياءِ يُزرِّرونَ اِيماءاتِ تيهِهم

يُغَطونَ ذَواتَهُم بِبَياضِ الأصْغاءِ

وهَمَساتِهم بِدِيَمِ القَرائِنِ

مُنشِدين تَأْويلاتِهم بِمَوفورِ السُّرى

يَشطِفونَ ضَحَكاتِهم بِالماءِ النوراني

ساكّين مِنْ كَمالِ الرفْقَةِ

اَسرارَ المُشتَهى

وعَفافَ الشهْوَةِ

*

2

تشقّين َمَمَرًا اَبيضًا لِنوافيرِ وَجعُكِ

تَتْلينَ فيها خِفيَةً اَناشيدَ دُنوَّها وابتِعادَها

رَأفَةً مُتَغافِلةً من حَفيفِ الألَمِ

سَماحَةً للشّْكْوى

وهِبَةً للدنَفِ المُتَلوي بين الضُّلُوعِ

مُعَلِّلَةً العَذاب المُقطَّر في الروحِ بِسخاءِ الدُّموعِ..

قبلِ ان تَمْسكي نَفسَكِ

مُضرَّجةً بِسِرّْ الذهولِ..

*

3

لنْ اَدَعَ اَترابي ـ بَعدَ مُنادَمَةٍ

يَعودونَ الى بُيوتِهِمْ

دونَ ان يَحْمِلوا من ثَمَرَةِ قلبي

نَفحَةَ حُبورٍ

تُنيرَ لَهُم سِرُّ سَكْرَتِهم آخِرَ اللَّيلِ

***

طارق الحلفي

أَرْوَاحُنَا اشْتَاقَتْ إِلَى لُقْيَانَا

وَتَبَاعَدَتْ كُلُّ الْخُطَا بِرِضَانَا

*

يَا نَفْسُ مَاذَا قَدْ جَنَيْنَا كَيْ نَرَى

حُبًّا عَظِيماً قَدْ غَدَا نِسْيَانَا؟!!!

**

هَلْ كُلُّ هَذَا فِي الدُّنَا كَطَبِيعَةٍ

تَسْرِي لِكَيْ نَنْسَى الْهَوَى أَزْمَانَا؟!!!

*

أَرَأَيْتِ كَيْفَ يَصِيرُ قَلْبِي وَاحَةً

فِيهَا الصَّفَاءُ يُنِيرُ كُلَّ خُطَانَا؟!!!

**

أَعَرَفْتِ كَيْفَ تَحَوَّلَ الْحُبُّ الَّذِي

عِشْنَاهُ يَوْماً بَاسِماً بِهَوَانَا خُطَانَا؟!!!

*

مَاذَا أَقُولُ؟!!!هَلِ انْتَهَى الْكَلِمُ الَّذِي

مَا زَالَ مَكْتُوباً لَنَا دِيوَانَا؟!!!

**

اَلْحُبُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا يَا عُلَا

وَبِهِ نُحَقِّقُ حُلْمَنَا النَّشْوَانَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

 شاعر وناقد وروائي مصري

 

إشْــراقَـةُ الـمَجـَاِلـسِ البَـهِـيّـه

مـَـدارِسٌ ، تُـعــزِّزُ الـهُـويـّـه

*

فِي صَدْرِهَا اوْسِـمَةُ الثَّـقَـافَـه

تَـفْخَرُ فِي أقلامِهَا الصَحَافـَه

*

أجـْواؤهَا تَـزْهُو بِعِطْرِ الأدَبِ

تُــزَوِّدُ الفِـكْـرَ بِـنُـورِ الكُــتُـبِ

*

للشِـعْرِ فِــي رِياضِهـا انـتـِقـاءُ

يـَبـْـرزُ فِــي اجْـوائِه الإصْغاءُ

*

خُـلاصَةُ الآراءِ فِـيـهِ مُـثْـمِـرَه

والنقدُ حُـرٌ في حُروفٍ مُقْمِرَه

*

فـِـي نَهـْجِـهَـا الـوِئامُ والسَّـلامُ

مُـزْدَهِـرٌ فِـي رَوْضِهَـا الكلامُ

*

يَسْتأنِسُ الحَاضِرُ في أشْعَارِهـَا

يَسْتَـلْهِمُ العِـبْـرَةَ  مِـنْ أخْبَارِهـَا

*

طمُوحُهَا صَوْبَ خُطى الأجْـدَادِ

ومِــنْ سَــنَاهـَا قَـبَـسُ الأحْــفـَادِ

*

أهْدافُهَا الـتـنْويرُ فـي الدِّراسَه

بَعِـيـدَةً عَــنْ محْـوَرِ السِّـياسَه

*

تَـسُـودُهَا الأُلـفَـةُ فِي المَسِـيـرِ

وَرِفْـعـةُ الآدابِ فِـي التعْبـيـرِ

*

مِنْهاجُـهَـا يـَبْـعـَثُ فـِي النُـفـُوسِ

أطايـبَ المَـوْرُوثِ والـمَـدْرُوسِ

*

مِنْ مِرْبَدِ الشّعْرِاسْـتَـقَـتْ نَكْهَـتَهَا

وَمِنْ عُـكاظٍ ، وثّــقَـتْ بَصْمَـتَـهَا

*

مَـحْـفِـلُهـَا ، يَزْهــُو  بـِـهِ اللقـَاءُ

يَـسُــودُه الـتـوْقـيـرُ ، والـنَّـقــَاءُ

*

يَغِـيـبُ فِيهـَـا الفَخْرُ  بالمناصِبِ

ويَـحْـتَـفي الحُضُورُ بالمَـواهِـبِ

*

مَـناهِـلُ التـثْـقِـيـفِ فِــي آدابِهــَا

طُوبَى لِمَنْ يَسْعَى إلى أعْـتابِهــَا

*

فـمَـنْ عَـلا  كَعْـبُه فـِـي الآدابِ

يَـسْـمُو عَـلى أوْسِـمَةِ الأنـسَابِ

***

(من الرجز)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

الرسالة التي وصلت إليّ هذا الأسبوع أصابتني بصدمة عنيفة. كادت تجعلني أغيّر بعض مارحت أرسمه للمستقبل

في الوقت نفسه

أرجعتني للماضي البعيد

لسنوات الحرب

لأمّي

للطفولة

للحزن العميق.

يوم وقع الحدث الذي غير مجرى حياتي كنت صغيرا في الرابعة من عمري. أسمع عن أشياء كثيرة وأحداث أفهم معناها وبعضها لا أفهمه. وقد عرفت أن هناك حربا ووعيت أنّ أناسا يقتل بعضهم بعضا.

إذن

هي الحرب التي تغلغلت في ذهني وأنا صغير.

ومازالت بعض صورها تنطبع في ذهني

رأيت والدي يرتدي البدلة العسكرية، ووجدت أمي تصمت وتكاد دمعة تترقرق بعينيها كلما استقبله وهو قادم في إجازة أو ودّعته..

هل أعود إلى السنة الرابعة؟

كانت الحرب بدأت منذ ولادتي.. لست نحسا ولا أظن أن أي شخص نحس، وإلا لكنا نحن الذين ولدنا قبل أن تندلع الحرب بأيام منحوسين.. وقد رأيت والدي الذي تتشرف غرفة الضيافة بصورته مع الشريط الأسود رأيته يذهب ويجئ بالملابس العسكرية.

خلال إجازاته لايخرج من البيت.

يظل يلعب معي أو يصحبني فيبتاع بعض الألعاب ويعود إلى البيت. بدا أيضا، لطيفا مع أمي. لا أدري إن كان لطيفا معها قبل أن أولد إذ ولدت بعد سنتين من زواجهما.

في السنة الرابعة حدثت المأساة

صرخت أمي

ولطمت خديها

شقت ثوبها، وكاد يغمى عليها فقد حضر جنود إلى بيتنا بصدوق خشبي لم يخف الرائحة النتنة التي في جوفه.. وقيل وقتها إن الجثة التي أصبحت ممزقة مشوهة، منفخة الملامح.

هي جثة أبي.

ولم تسمح أمي أن أراه. قالت أبعدوه عن المكان، وكنت أبكي لبكائها. بعض أقربائنا رآى جثة أبي مع أمي. كان مشوها إلى حد بعيد، كل أوصافه التي لم يتبيّنها أحد وهو في الصندوق ورائحته النتنة كل ذلك سمعت عنه بعد سنوات، ووعيت مفتخرا أن لي أبا سقط شهيدا وهو يدافع عن الوطن..

يسمّيني الناس ابن الشهيد

وأمي زوجة الشهيد.

أمي التي رفضت الزواج لتتفرغ لي ، حصلت على امتيازات مادية صرفتها علي تعليمي، وعلى تقدير الدولة والمجتمع، أما أنا فكنت أطالع صورة أبي في الصالة وهو ينظر إلي بعينين مفعمتين بالفرح.

تقف أمي أمامي تربط لي خيط الحذاء وتعدل حزام السروال القصير الذي اعتدت على ارتدائه إلى الصف الخامس الابتدائي ثمّ استغنيت عنه. ذهب عهد الطفولة أصبحت رجلا، وبدلا من أن ألقي تحية الصباح على أبي كل يوم بصوت مسموع تطرب له أمي، رحت أسلم عليه بالسرّ، وأتفاءل بعينيه الودودتين

ثمّ

بعد سنوات طويلة وضعت في الردهة وصالة الاستقبال صورة أمي جنب صورته وعليها شريط أسود!

2

كان علي أن أرقد فغدا عند الفجر أقصد مطار المدينة لأستقبل ذلك الرجل الغريب!

بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل

هو أو لا هو

المهم أن أصل في الموعد المحدد لأستقبل ذلك الشخص الذي يقول عن نفسه إنه أبي. رأيت صورته التي بعثها لي في الرسالة. إنها تشبه صورة تشخص أمامي على الجدار في الصالة يحفّها من زاوية الإطار الخشبي اليمنى شريط أسود.

لست قلقا، أما الدهشة فقد استهوتني لأنّني أعيش في زمن اللامحال. لم أستغرب من الشارع الذي تغيّر ولا من الأضواء التي بدت تلفظ أنفاسها عند الفجر. كلّ شئ يبدو جديدا بحلّة قديمة وقديما بثوب جديد. لا أريد أن أسأل أحدا فالشارع أشبه بالخاوي ، وهناك على الرصيف الآخر أناس يمشون نحو اتجاهات مختلفة.

متأكد أني لست نائما.

من المنعطف الواسع الذي تغيب نهايته عند المنارة الأثرية العالية، انعطفت نحوي سيارة أجرة.

لن يسرقني الوقت إذن.

لوحت بيدي فتوقفت، فتحت الباب فوجدتها تغص بالركاب.

أين ؟

المطار لكن يبدو لا مكان لي.

إصعد..

لا أظن لي مكانا.

بل قلت اصعد هناك أكثر من مكان.

ترددت وتمتمت:

معقول.

لا أدري كيف سمعني السائق:

نعم معقول وأراك لن تجد سيارة أخرى تقلك إلى حيث تريد.

أخيرا

دلفت..

لا أدري كيف جلست. لم أشعر بضيق على الرغم من أن الداخل كان يعجّ بالركّاب. كانوا صامتين. لا أحد يتكلّم ، والغريب أنهم شبه أثير لا يضايقونك في زحمة المكان.

هناك رهبة

دهشة

وبعض الخوف

قلت أدراي بعض هاجس القلق:

لديّ ساعة واحدة على إقلاع الطائرة.

قال السائق الذي لم يلتفت والذي تبيّنت ملامحه أول ما استوقفته ونسيتها الآن:

أتسافر من دون حقيبة.

داريت كذبتي والإحراج:

هكذا تعوّدت.

لا تقلق إذن سنصل في الوقت المناسب

كان زجاج النافذة معتما فلا أبصر مشاهد الطريق، ولفت نظري أنّ الركاب يتهامسون مع بعضهم بعضا من دون أن يلتفتوا لي، وفجأة قطع السائق همسات الراكبين القريبة من الصمت:سننزل لنتناول طعام الغداء في أقرب استراحة!

انبريت محتدّا:

ماذا؟ الطريق إلى المطار..

قاطعني متحمسا:

عشر ساعات على الأقل أنا واثق أن هذه الاستراحة هي الأفضل

أنا بين مجموعة كثيرة لا أستطيع إحصاءها، تضمّنا سيارة صغيرة، لامعقول في المعقول، أخشى أن أعترض على شئ لا أتصوّره، ماذا لوفاتني الوقت، والسائق يشك أو شك في أني أسافر فقد صعدت معه من غير حقيبة، عليّ أن أقنع نفسي بما يقول ، وبهمس الركاب الذي لا أتبينه.

في منتصف الطريق كما يقول نزلنا، بلغة الأرقام قطعنا مسافة250كيلومترا. أظن المسافة بين المدينة والمطار 20 كيلومترا ، الذهاب قبل ساعة واحدة يكفي لاستقبال ضيف، فكيف انقلب الوقت إلى أضعافه؟

لا شكّ أن هناك خطأ ما، فأبي، أو الرجل الآخر الذي يدّعي أنّه أبي، يمكنه الانتظار وعلى أقلّ تقدير ربما يمل فيستقل سيارة أجرة ويتوجه إلى بيتنا مباشرة. الرسالة التي بعثها إلى العنوان حيث أقيم تدلّ على أنّه يعرف البيت والشارع.

ولكي أكون على بينة من أمري اتجهت إلى قبو قديم ، هناك أردت أن يتزحزح شكّي قليلا. تمنيت أن تختلف الرسالة الغريبة القادمة من الخارج بنكهتها وخطّها عن وثائق وتواقيع قديمة جمعتها أمّي مع مستمسكات أبي من نياشين، وسيف، وعصي وبدلات، والبومات صور. زشياء صغيرة لاها نكهة الماضي التي راحت تتلاشى أمّا الذي يهمّني فهو بعض المذكرات والرسائل التي كتبها بخطّ يده. قد أكون خرجت من السيارة لأدخل القبو، أو دخلت استراحة تقع بيني وبين المطار لألتقط أنفاسي، لا أنكر أن الرسالة القادمة من الخارج كانت تطابق تماما خط أبي، وحين رجعت إلى السيارة ثانية لم أجد الركاب. بل لم أعن بالسؤال عنهم.

3

واستقبلت الرجل الذي يشبه أبي

كان هناك حاجز بيني وبينه.

عشر ساعات في السيارة وربما ساعة واحدة

احتمالات متناقضة لم أتعمّد تجاهلها..

لا أدري كيف ظهر لي القبو القديم بين الزمنين المتناقضين في الطول. مدّ يده لي ، فمددت يدي ببرود. لم أشعر برغبة لعناقه.

هذه المرة عدنا بسيارة أخرى، والذي اثارني أني وجدت السائق نفسه. السيارة الأولى التي قدمت بها إلى المطار كانت رمادية اللون قديمة بعض القدم. لا أقول مستهلكة، والجديدة التي عدنا بها أنا والرجل الآخر سيارة حديثة زرقاء اللون. في البدء لم أتبين ملامح السائق، وحين التفت يسألني عن العنوان عرفته هو الذي أقلني منذ عشر ساعات إلى المطار.

السيارة الجديدة لا تعجّ بالركاب.

وحدنا كنا أنا والرجل الذي يدّعي أنه أبي

قال السائق:

وجهك ليس غريبا ياسيدي أظنني جئت بك إلى المطار لتسافر منذ عشر سنوات.

قال الشخص الذي جنبي: ربما فبعض الوجوه تتشابه.

ودلفنا في الصمت ثانية.

كل العلامات تدينني: الرسالة والرجل الذي كتبها ووقتا قضيته في الذهاب. وددت لو أكون في حلم :

ولدي العزيز لا تستغرب أنا أبوك مازلت حيا سأصل الساعة..

حالما دخلنا، وقع بصره على الصورتين اللتين في القبو. سأل بنغمة شاردة:

متى ماتت أمّك؟

قبل أربع سنوات بالضبط بعد تخرجي من الجامعة بسنتين.

هز رأسه متأسفا، وقال:

والله كبرت هل تذكر حين كنت آخذك في إجازاتي إلى المدينة

واندفع إلى غرفتي وعاد وهو يلهث من الفرح:لابد أن تكون احتفظت ببعض الصور. أعرف البيت جيدا..

قلت بشئ من الضيق:

أنا لحد الآن منحتك الوقت لتتكلم من دون أن أبدي رأيي أستطيع أن أسلمك للجهات الأمنية بتهمة التزوير.

ألا تقتنع بشكلي؟

الشكل لا يدل على أنك هو.

وخطّ الرسالة؟

ممكن أنّك تجيد التقليد.

لكني واثق من أني أبوك العلم تطوّر.. تطوّر جدّا. ماذا تقول عن تحليل الحامض النووي!

الرحل يدينني، ولكنّي أحاول أن أنفيه بعد أن تيقنت من موته قبل أكثر من عشرين عاما:

هل بحثت عني في النتّ؟

نعم وعرفت أن لك صفحة. هناك

لماذا لم تكتب إلي لكان الأمر أسرع.

فقهقه بمرارة وقال:

النت.. ياهو.. غوغل.. فيس بوك تغامر بك. تجعلك في وقت طويل وقصير في الوقت نفسه ألم تستفد من تجربة المطار.

علي أن أقنع نفسي أنّه أبي.. صورة الرجل الذي على الحائط بشريط أسود تلاحقني فأشعر يبرود تامّ للرجل الآتي من بعيد:

مهما يكن فأنا وعيت أنّك متّ.

لذلك لم تحضنّي ؟

نعم

إسمع سأقص عليك الحقيقة.. أنا لم أكن أقتنع بتلك الحرب قطّ.. بعد أربع سنوات من اندلاعها تيقّنت من عبثها مثلما لم أكن جبانا ولو شاركت في حرب آخرى غيرها لما همنّي الموت..

قلت مقاطعا:

أم نت تظنها تطول إلى الأبد.

نعم وإن بدا ذلك أمرا سخيفا لأنني شاركت بحروب قبلها وحصلت على أوسمة وجرحت..

تعجلت ما يقول فكررت:

ثم أخطأ حدسك فوقفت الحرب بعد أربع سنوات من هربك أو استشهادك!

فكرت فيك وفي أمك.. لم نكن نحب بعضنا. قلت لتكن النهاية حين أكون شهيدا تتمتعون بامتيازات وحياة مرفهة واغتنمت فرصة تعرض الفوج لهجوم كاسح. واختلاط الجثث فهربت إلى العدو. لم يعاملوني بقسوة بل سمحوا لي بمغادرة بلدهم إلى الخارج هناك عشت باسم آخر، اشتغلت وكونت ثروة. وتابعت عن بعدالنّزر اليسير من أخباركم التي كانت تسرّني.

اجتازتنا لحظات صمت ثقيلة.. لقد اعتدت على الصورة التي ترمقني وهي على الجدار وعلى الصورة نفسها.. أبي جنب أمي ببدلة العرس.. ومعي في البيت أوالحديقة.. الذي أعرفه مات من زمن

لكن الحرب توقفت بعد أربع سنوات وعرفني الناس والدولة ابن شهيد فكل جوارحي تنطق بموتك.

فقال بتأفف: اسمع الآن الوضع تغير لافرق عند الناس أن أكون حيّا أم ميتا (وهز رأسه مؤكدا) لذلك جئتك عبر رسالة.. لجأت إلى الزمن القديم ولم أدخل لك عبر صفحتك الشخصية عندها لا تقدر أن تتقيّن منّي.

قلت من دون رغبة:

يمكن أن أقول للناس إنك قريبي لكني لا أريد أن أفعل شيئا يزعزع تصوّر الآخرين عن أبي.

تقصد عنّي؟

قلت مكابرا :عن أبي الذي مات

فنفث الهواء عميقا وقال :عنيد

ثمّ رفع بصره إلى صورة والدتي متساءلا:.

لم تتزوج؟

طلب يدها ابن عمها فرفضت واحتجت أنها تفرغت تماما لتربيتي.

أتعرف ليست الحرب وحدها التي دفعتني للفرار نحن وأمك لم نكن نحب بعضنا كانت تحب ابن عمها نفسه الذي خطبها بعد موتي المزعوم كان البيت جحيما!

وقد غلا الدم بعروقي:

لن أسمح لك بالحديث السئ عنها هل فهمت.

كلّ ما أريد قوله إني جئت من أجلك لم تسألني عن حياتي في الخارج ولا..

لا أريد أن أعرف أي شئ عن:

لقد تزوجت لك إخوة وأخوات.. تاجرت وغامرت أنا الآن ثري مليونير وعلى وشك الموت.. ستأتي معي لتأخذ حصتك من أموالي.

صرخت فيه منفجرا:

لا أريد أي شئ كفى أنك خدعتنا أنا وأمي. خدعت السلطة والناس

لم يتوقع مني هذا العنف وبقي صامتا. ارتمى على المقعد وهو يلهث.. ظلت يلهث حتى هدأت أنفاسه وسكن..

سكن تماما

بصره استقرّ على الجدار.. فتقدمت نحوه.. انتقلت عيناي بين الصورة ووجهه الهادئ. همست:

أنت.. أيّها.. سيدي..

كان ساهما شاردا اقتربت منه فرفعت يده التي سرت في أناملي منها برودة ساكنة صفراء. فارتخت قبضتي عنها لتسقط على الأريكة، وعن دون وعي هتفت:

أبي..

كان قد مات وهو يتطلع في الجدار.

***

قصة قصيرة

قصي الشيخ عسكر

رَجَــوتُكَ يــا إلــهي والــطريقُ

طــويلٌ والــشرورُ بــه تُــحِيقُ

*

فأَمشي والــظــلامُ لــهُ اِمــتِدادٌ

ولا  أدري مــتى يأتي الشروقُ

*

وَتُــرْهِــقُني هــمومٌ مُــوحِشَاتٌ

يكادُ  الكونَ في صدري يضيقُ

*

فــلا  أحــدٌ أبــثُّ ألــيهِ حُــزْني

ولا  هـــادٍ يـــدلُّ و لا رفــيــقُ

*

تــكــالبَتِ الــنــوائبُ والــرزايا

وبــاتَــتْ  حـــدَّ طــاقتِنا تَــفوقُ

*

تُــشَرِّدُنا  الزلازلُ حيثُ شَاءَتْ

وتَــقتلُنا الــعواصفُ والــبروقُ

*

وبِــتْــنَا كــالسَّفِينِ بــلا مــراسٍ

تُــحَرِّكُها  الــسَّمُومُ أو الخَرُوقُ

*

بنا قد ضَاقَ أهلُ الأرضِ ذَرْعاً

فـــلا  أحـــدٌ لــرؤيَــتِنا يــطيقُ

*

فَــتَغْمِزُنَا الــنَّطِيحَةُ دونَ ذَنْــبٍ

ويَــشْــتُمُنَا مِــنَ الأنْــذالِ بــوقُ

*

كــأنَّا قــد سَــرَقْنَا الشّمسَ يوماً

وبِــتْــنَا  لــلــتقدمِ قـــد نَــعُــوقُ

*

كــأنَّ  الــعُرْبَ ناموا في سُبَاتٍ

مــتى يَصْحو الضميرُ ويستفيقُ

***

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

تسيرُ في حديقة فتنتها

فراشات على شفتيها الكلامُ

تصحو... تنامُ

وإن لامسته ومال القوامُ

يكاد

يَئنُّ من شوقه للحياة الرخامُ

*

تسير في حديقة فتنتها

كأن ليس في الكون سِواها

فإنّ الله سوّاها

بوردٍ وعطرٍ ونور مُكثّفْ

كأنّ الزمان

رقّ ولانَ

ومن أجل سحر الجمال توقّف

*

فاتن

واقع من خيالِ

يحفظ كبرياء الجمالِ

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

على شُرفَةِ الانتِظارِ

حُلمٌ مُعَتَقٌ

على دروبِ المَطَر

أَملٌ يَلهَث

وعلى مَذبَحِ القَدَر

أشوَاقٌ تُصلَب

ماذا خَلفَ السِّتارِ؟

شَهَقاتٌ تُحتَضِر

في نَفَقِ الَلَّيلِ

تَوَسُّلات ٌعَلى رَصيفِ النِّسْيانِ

جَفَّ نَدَى اَلعَذارى

وَرَحَلَ اليَاسمينُ

أَفَلَتِ الشَّمسُ

وَحُجِبَتِ النُّجومُ

بوشاحِ النَّفاق ِ

فَتَدحرَجَت الحَقيقَةُ

إِلى قاعِ الوَهْمِ

ببَرقِ رَعْدٍ بِلا وَميضٍ

سَقَطَ اَللؤُلُؤ

من أَعنَاقِ حَواري الشَّرقِ

سَرابٌ مُرَقّعٌ

سُكونٌ بلا عِطرٍ

وبَسماتٌ خَريفِيَّةٌ

صَلاةٌ عَمياء

اِبتِهالاتٌ باردَةٌ

وأَجراسٌ بلا صَدى

التُّرابُ يَنزفُ

والأَرضُ سَكْرَى..

لُطفاً أيُّهَا الرَّبُّ بظِلالكَ

بَأرواحٍ تائِهَةٍ

عَلّها تُبصِرُ الطَريق

إِلى سُفوحِ الصَّحوَةِ

وبَسَاتينِ الخَلاص

فَتُزهِرُ الأُلوهِيَّةُ

عَناقيدَ مَحبَّةٍ

مُضَمّخَةً بِماءِ اَلنُّور

***

سلوى فرح - كندا

بلادُ الأرْضِ مِنْ هَلعٍ تهاوَتْ

عَلى أمَمٍ بما مَلكتْ تفانَتْ

*

بباءٍ حاوَلتْ طمْسَ الخَطايا

فَهلْ بَرَزتْ عَجائبُ حينَ طارَتْ

*

نفوسُ الخلقِ مِفتاحُ الرَزايا

إذا أمَرَ الدفينُ لهُ اسْتَجابَتْ

*

وحوشٌ في ثيابٍ ذاتِ أنْسٍ

أبانَتْ عَنْ حَقيقتِها وكادَتْ

*

مَيادينٌ بها رَتعَتْ جُموعٌ

ذئابُ وجودِنا أكلتْ وعاثتْ

*

جَهالتُنا وغفلتُنا أجازَتْ

بنور الديْنِ ناراً إسْتقادَتْ

*

تدورُ بنا كأنّا في ثراها

جُزيْئاتٌ بلا أصْلٍ توارَتْ

*

أعاصيرٌ على مُدِنٍ أصالتْ

تُدَمّرُ عامِراً ولنا أبادَتْ

*

لإهْمالٍ ونكرانٍ لِحَقٍّ

وإمْعانٍ بفاسِدةٍ تعامَتْ

*

تَحَرَّكَتِ الشوامِخُ بارْتِعاشٍ

فوارَتْ كلَّ مَوجودٍ وفاقَتْ

*

قُراها أصْبَحَتْ عَصْفاً هَشيْماً

مَعالِمُها بأعْماقٍ تَداحَتْ

*

وخلقٌ في مَواضِعهِ تَلاشى

تُكفّنهُ المَخادعُ ما اسْتطاعَتْ

*

وريحٌ صَرْصرٌ رَفعتْ مِياها

وجاءَتْ أمّةً حَيْثُ اسْتكانَتْ

*

فماتَ الجَمْعُ في لحْظٍ عَجيْبٍ

وأبْدانٌ غدَتْ جُثثاً وطافَتْ

*

كَوارثُ نَكْبةٍ وَرَدتْ إليْنا

لتُرْهِبُنا بفاجعَةٍ أصاخَتْ

*

تَحدّى أيّها المَتكوبُ فيها

ولا تَرْكنْ لعاديَةٍ تحامَتْ

*

بمَغْربها زلازلها بأرْضٍ

تَطامرَ ناسُها والنَجْدُ حارَتْ

*

بدَرْنَتها مياهُ البَحْرِ قامَتْ

لتُغْرَقَ كلها فهَوَتْ وماتَتْ

*

دَمِقْرَطتِ النوازلُ في رُبانا

وروحُ الشرِّ عَنْ شررٍ أباحَتْ

*

وإنَّ النفسَ مِنْ كَنَدٍ ولؤمٍ

تَمَزّقَ شأنها فبَغَتْ وساءَتْ

*

تُروّعُنا الخُطوبُ ومُنْطواها

وتُلقينا بهاويةٍ تَساوَتْ

وما عَرَفَ الزمانُ بها سَعيْداً

نَوائبُهُ  على سُعْدٍ توالتْ

*

فلا تيأسْ إذا دارتْ رَحاها

ولا تنهرْ عَجوزاً إنْ تَصابَتْ

*

تَصارعَ خلقها ومَضى هَصوراً

كما الأمْواجُ في نَهرٍ تلاحَتْ

*

تدورُ دوائرُها والناسُ سَكْرى

ولا تدري بما كتمَتْ ورامَتْ

*

تباغِتُنا بأخْطارٍ جِسامٍ

ونَفْسُ المرءِ ما يوماً أخالتْ

*

تُرغّبنا المَطامِحُ بانْدفاعٍ

وتَنهرُنا الفواجعُ إنْ تَدانَتْ

*

إذا نظرتْ لبُعدٍ أو لقرْبٍ

فَعْينُ الكونِ عن زمنٍ أشاحَتْ

*

تَعاضدَتِ الخَطايا والمَنايا

وأتْرَعَتِ الكؤوسَ وما أفاضَتْ

*

عَرينُ وجودِنا أضْحى مُبيراً

يُوافينا بأخْطارٍ تَبارَتْ

*

بأرْضٍ زُلزِلَتْ وبها توارَتْ

خلائقُ أمّةٍ فيها تنامَتْ

***

د. صادق السامرائي

16\9\2023

كنت في طريقي إلى راس الجبل، عندما تألّقت شمس تموز اللاهبة في وسط السماء، غير عابئة بي ولا بعرقي المُتصبّب من وجهي وجسدي، وحتى قدمي، ورغم أنني عامل مفتول العضلات و " بعجبك"، لا سيما عندما أنحو نحو التعقّل والتفكير، كلّما واجهتني محنة، أو وقعت في ورطة مفاجئة مع أحد الاسياد، فقد شعرت بشيء من الانهاك، سهّل عليّ هذا كلّه لأنني كنت أفكر وأتخيّل ما سأتمكن من قطفه بيديّ القويتين من أكواز الصبر. زاد في هذا التسهيل، أنني تصوّرت أبنائي الثمانية وهو يتناولون الصبر بشوق ولهفة.

الدرب الترابيّ نحو تلك الصبّرة القائمة قريبًا من قصر يسكنه أحد الأغنياء من أصحاب الأموال الغزيرة الطائلة.. كان في الواقع طويلًا، غير أنني لم أشعر بطوله، رُبّما لأني كنت أفكّر في غلال الصبر التي سأقطفها بيدي المتمرّسة و.. سوف أعود بها إلى بيتي المتواضع في الحي الفقير القائم في البلدة القديمة. هكذا قطعت الطريق بقدمين ثابتتين رغم ما حلّ بي من تعب وإنهاك. لأطل على الصبرة المنتصبة فوق تلّة راقصة، قُرب بيت كبير وفارِه، تمنّيت طوال أيام عمري ولياليها الإقامة في مثله، ولم أتمكن، "أقطُف الصبّر يا رجل الآن ودع افكارك الجهنّمية .. تسترخي في خزاناتها"، قلت لنفسي وأنا أتابع السير غاذًا الخطى نحو هدفي، بالضبط مثلما يحدث مع كلّ مجتهد، حتى لو كان فقيرًا مثلي. اقتربت من الوصول إلى هدفي، توقّفت قُبالة شجرة الصبر، وأنا اتمعّن فيما ناءت به وحلمته من أكواز الصبر الذهبية، كانت تلك الاكواز تبدو وكأنها قناديل النور الالهي في ليل مظلم، لذا قلت لنفسي أمرها غريب. كلّ هذه الخيرات ولا أحد يدنو منها؟.. ما هذا الامر الغريب، البلدة ملأى بالمُهجّرين الفقراء ممن ينتظرون موسم الصبر لقطفه من أرض الله الطيبة المعطاء دون أن يُطالبهم أحد بثمنه، كونه نبت في مكان لا صاحب له ويعتبر أرضًا مشاعًا.

اقتربت من الصبّرة. كانت حاملة وممتلئة، تمعّنت في الواحها علّي أرى كوزًا ناقصًا مما جادت به تلك الصبرة المباركة في موسمها المعطاء السخي، إلا أنني فوجئت بثمار الصبر تصطفّ في نظام ساحر مُبهر، يُشبه النظام العسكري عندما يصطف الجنود الكرام استعدادًا لتحرير الوطن من أيدي الغزاة العتاة الظالمين. انتابتني حالة من الفرح وسرعان ما تحوّل هذا إلى قوّة، فمددت يدي العارية لأقطف الكوز المبجّل الأول، وما إن لامسته بحنو لا حدود له، حتى استوقفني صوت انطلق من قريب:

-مَن أذن لك بقطف الصبر؟.. قال صاحب الصوت وهو يُرسل نظراتٍ حافلة بالخبث وقلة الحياء. أرسلت نظري نحوه وواصلت قطفت الكوز الأول. وضعته في كيس النايلون وقطفت كوزًا آخر وآخر.. فعاد صاحب الصوت المزعج يدردب:

-قلت لك مَن أذن لك بقطف الصبر. نظرت إلى السماء الواسعة وعزمت أن أقول له: " الله هو مَن أذن لي"، غير أنني عدلت في اللحظة الأخيرة. وسألته:

-لماذا توجّه إلي مثل هكذا سؤال.. هل أنت حارس عليها؟

-وتقول مثل هذا الحكي؟ .. ألا ترى أن الصبرة قريبة من بيتي؟.. ردّ بوجه يفيض احمرارًا.

ما إن استمعت إلى حكيه هذا حتى انتهرته:

-كلا.. لا أرى.. أنا أعمى..

عندها اقترب مني، أمسكني من يدي:

-قلت لك هذه الصبرة لي. صرخ بتصميم.

انتزعت يدي من يده بقوة وتابعت قطف الصبر، فما كان منه إلا أن هجم عليّ موجّهًا لكمة قوية إلى وجهي. غامت الارض في عيني واربدت السماء. انتصبت قُبالته وأنا أدعوه لمعاودة توجيه لكمة أخرى.. دنا مني وهو مطمئن إلى أنني استسلمت إليه، وقبل أن يوجّه لكمته إلى وجهي.. كنت قد رميته أرضًا ووضعت قدمي على رقبته:

-هل تريد أن تتوقّف عن ادعاءاتك؟.. أم تريد أن أقضي عليك؟..

طلب مني أن أزيح قدمي عن رقبته واعدًا إياي بالخير، فرفعت قدمي من موضعها وأنا اهتف به:

-عن أي خير تتحدث.. وأنت تريد أن تستأثر بما تركه إخواننا المهجرون من خيرات أرضنا المباركة؟.. قُمْ لا أريد أن اوسخ يدي بدمك..

نهض الافندي، وبدلًا من أن يكتّ ما علق من غُبار على ملابسه الجديدة، راح يكتّ الغبار عن ملابسي العتيقة المرقّعة، ويرجوني أن أهدأ. "أنت ترى أن الصبرة قريبة من بيتي، وأنه من حقي أن أقطف بعضًا من ثمارها.. لا تزعل مني.. لم أقصد إغضابك".. فهمت ما أراد طلبه.. ملأت كيسي بثمار الصبّر وعندما امتلأت دوكما. خطرت في بالي خاطرة.. ماذا كان هذا النجس يفعل بي لو لم أكن قدّ حالي ومن رجال الشمس الذين انتصبوا شامخين في وجه التهجير ودقوا جدار الخزان.

قبل أن أمضي في طريق العودة إلى بيتي المتواضع وابنائي الثمانية المنتظرين، أرسلت نظرة باتجاه ذلك الكائن المُزعج، فرأيته مصفرّ الوجه.. مسودّه.. انتابتني حالة التعاطف تجاهه.. وقدّمت إليه عددًا من ثمار الصبر.. وولّيت ظهري ماضيًا في درب العودة.. فيما راح هو يتمتم بكلمات فضلت ألا أسمعها ترفعًا و.. حقنًا لدمه..

***

قصة: ناجي ظاهر

بنَخلَتي .. وداعةُ السَماءْ

وحشمةُ الخشوعِ

فلا دموعْ.. ولا نُواحْ

ليستعيذَ من عَويلهِ المساء

كأنّها تَهمُّ للصلاة

وحينَ قُطِّعَتْ فداءَ سيّد الحروبْ

وغزوةِ الرعاع

أنا الذي بكى

حَمَلتُ ذُلَّها كوَصْمِ عارْ

تغتالُني في ذَنْبِها الجِراحْ

*

أبا الخصيب

بحثتُ في انتفاضةِ الحَنين

عن نَخلةٍ تُسامرُ المياه

وعن شريعةٍ تغازلُ الدِلاء

وبِضعةٍ من القَمر

أباحَت الرُؤى لنُوَّمِ السُطوح

وعن وَتَر

يطارحُ المساءَ نَشوةَ السَمَر

فعُدتُ بالخَواء

وأوجُهٍ غَريبةٍ

وفيضِ حُزنْ

*

تَسعىٰ بيَ الخُطى لشاطئٍ بلا مياه

فمُ الشُرودِ فيهِ لايكلُّ من عُواء

تبَلَّدَتْ على رمالهِ أصابعي

ولا تشيرُ لاتّجاه

فانسابَ في صُدوعهِ الرَجاء

مُخضِّباً جَفافَهُ الوداعْ

سمائيَ اختفى من إزرِها السَعَفْ

فغاضتِ الشِفاه

وتاهَ بعضيَ المفتونُ بالضياع

الشرقُ يَقضمُ الشًروق

فأستغيثُ بالغروب

وأنتَقي الظلام

فلا أرى في أُفْقيَ البعيد

سوى الفِرار

وأضلُعاً تُلملمُ الضياءْ

***

عادل الحنظل

اَلْكَوْنُ يَعْـزِفُ أَجْــمَـلَ الْأَنْغَامِ

وَالْغُصْنُ غَـنَّى سَـاعَةَ الْإِلْهَامِ

*

وَالْحُبُّ أَضْحَى صَادِقاً مُتَمَكِّناً

وَالنِّيلُ يَأْتِي خَيْرُهُ لِكِرَامِ

*

وَالْهَجْرُ زَالَ بِظُلْمِهِ وَظَلاَمِهِ

وَالسَّعْدُ سَارَ عَلَى الطَّـرِيقِ أَمَـامِي

*

وَتَبَسَّمَ الْحُبُّ الْعَظِيمُ مُحَيِّيـاً

كَالنُّورِ يُجْلِي وَرْطَةَ الْإِظْلاَمِ

*

وَسَفِينَتِي تَرْسُـو عَلَى شَطِّ الْهَوَى

وَالْبَحْرُ يَمْحُو هَيْكَلَ الْأَسْقَامِ

*

والْغُصْنُ مَالَ بِخِفَّةٍ وَرَشَاقَـةٍ

وَالْحُبُّ زَلْزَلَ قَسْوَةَ الْأَيَّامِ

***

أَنْتِ الْحَبِيبَةُ يَا مَلاَكَ سَعَادَتِي

وَلَقَدْ ظَمِئْتُ لِثَغْرِكِ الْبَسَّامِ

*

وَيَدَاكِ سِحْرُ الْحُبِّ فِي لَمَسَاتِهَـا

وَحَنَانُكِ الْفَيَّاضُ رِيُّ أُوَامِي

*

وَالدِّفْءُ فِـي الصَّـدْرِ الْحَنُونِ بِضَمِّهِ

وَالْبَعْثُ مِنْكِ وَأَنْتِ بَدْرُ تَمَامِ

*

أَنْتِ الْحَيَاةُ رَبِيعُ عُمْرِي كُلِّهِ

قَـلْـبِي اصْـطَـلَـى بِـالشَّـوْقِ زَادَ غَرَامِـي

*

وَالْقَلْبُ عَاشَ حَيَاتَهُ فِي حُبِّهِ

وَتَبَغْدَدَ الْمَحْبُوبُ بِالْأَحْكَامِ

*

فَلْتُطْفِئي النَّارَ الَّتِي اتَّقَدَتْ بِهِ

يَكْفِي الْفُؤَادَ شَدِيدُ كُلِّ سِهَامِ

***

سَاعَاتُ لُقْيَاكِ الْجَمِيلَةُ نَشْوَتِي

فَالنُّورُ أَنْتِ وَزَوْرَقُ الْأَحْلاَمِ

*

وَحَدِيثُكِ الْعَذْبُ الْجَمِيلُ بِخَاطِرِي

مَعْزُوفَةٌ فِي عَالَمِ الْأَنْغَامِ

*

مَازَالَ حُبُّكِ – يَا حَيَاتِي- سَاكِناً

فِي الْقَلْبِ رَغْمَ تَقَادُمِ الْأَعْوَامِ

*

بِالْحُبِّ يَا (عَلْيَا) تَكُونُ هِدَايَتِي

وَبِشَمْسِ حُبِّكِ زَالَ كُلُّ قَتَامِي

*

مَا فَاتَ فَاتَ قَدِ انْقَضَى مِنْ عُمْرِنَا

لاَ تَشْغَلِي الْبَالَ الْخَلِيَّ بِعَـامِ

*

عَاهَدْتِنِي,لاَ تَنْقُضِي عَهَدَ الْهَوى

لاَ تَسْمَعِي الْأَقْوَالَ لِلُّوَّامِ

*

وَبِحُبِّنَا الشَّادِي تَوَثَّقَ عَهْدُنَا

لِنَعِيشَ دَوْماً فِي الْهَنَا بِوِئَامِ

***

يَا نَبْعَ حُبِّي لاَ يَكُونُ فِرَاقُنَا

فَبُعَادُنَا- لَيْلاَيَ- كَالْإِعْدَامِ

*

فَهَوَاكِ يَجْعَلُ زَهْرَ عُمْرِي غَالِياً

فَحَسِبْتُهُ وَالْحُبُّ كَانَ إِمَامِي

*

وَعَلَى الْفُؤَادِ وَضَعْتُ كَفِّي صَامِتاً

وَأَنَا أُوَدِّعُ قِبْلَتِي بِسَلاَمِ

وَتَأَوَّبَ الطَّيْفُ الْجَمِيلُ بِثَغْرِهِ

وَالْقَلْبُ مَشْغُولٌ بِكُلِّ هُيَامِ

*

غَنَّيْتُ لِلْحُبِّ الْوَفِيِّ عَشِقْتُهُ

يَسْقِي الْفُؤَادَ بِخَمْرِهِ الْبَسَّامِ

*

وَنَسِيتُ كُلَّ مَتَاعِبِي وَسَعَادَتِي

فِي الْقَلْبِ تَغْسِلُ نَوْبَةَ الْآلاَمِ

***

وَلَقَدْ ظَلَمْنَا الْحُبَّ فِي مِيلاَدِهِ

جَاءَتْ عَلَيْهِ مَقَالَةُ الظَّلاَّمِ

ضَاعَتْ مَحَبَّتُنَا بِعِنْدِ قُلُوبِنَا

وَالْآنَ لَمْ نَنْسَ الْهَوَى لِصِدَامِ

*

أَسَتَنْجَلِي آهاتُ حُزْنِي يَا (عُلاَ)

وَالْحُبُّ يُضْحِــي ثَابِتَ الْأَقْدَامِ؟!!

*

كُلُّ الْمُنَى أَنْ تُسْعِدِي قَلْبِي الْحَزِي

نَ بِنَظْرَةٍ يَا مَاءَ كُلِّ ضِرَامِ

*

اَلْحُبُّ سَوْفَ يَعِيشُ فِي ثُكُنَاتِنَا

وَيَزُولُ ظُلْمُ الْمِعْوَلِ الْهَدَّامِ

*

وَ الْحُبُّ آرَاءٌ لِكُلِّ تَفَاهُمٍ

وَ الْحُبُّ يُبْعِدُنَا عَنِ الْآثَامِ

*

وَ الْحُبُّ يَجْعَلُنَا نَهِيمُ بِفِكْرِنَا

فِي نَشْوَةِ الْعُشَّاقِ بِالْأَنْسَامِ

*

أَشْجَارُ..حُبِّي حَاوَلُوا تَحْطِيمَهَا

لَمْ يُفْلِحُوا وَتَحَوَّلُوا لِحُطَامِ

*

مَاذَا أَقُولُ وَسَعْدُ أَيَّامِي دَنَا

لِهَنَائِنَا بِزَوَالِ كُلِّ قَتَامِ؟!!

*

أَمَلُ الْحَيَاةِ مَصِيرُهُ لِتَحَقُّقٍ

وَالْحُبُّ  مُنْتَصِرٌ مَعَ الْإِقْدَامِ

***

شعر. أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

أيـن أرضـي أيـن بـيتي يـا بلادي؟!

أيـــن ابـنـي أيــن أمّــي وتــلادي؟!

*

أيــن مـن كـنت أراهـم مـلء عـيني

عـزوتـي فــي كــلّ حــالٍ وعـتـادي

*

سَـكَـب الـبـحرُ عَـلـينا جَـمْـر بــؤسٍ

حــطّ نــارا أَشـعَلَت فـي كـلّ نـادي

*

غَـــدَر الـبـحـر وغـطّـى كــلّ أهـلـي

وأنــــا حــيــرانُ بـــردانٌ وصـــادي

*

(دَرنَــةُ) الـحـسناء تَـنـعى يــا إلـهي

وجــهَ طِـفـلٍ بـثـياب الـعـلمِ بــادي

*

(درنَــةُ) الـحـسناء تَـنـعى يــا إلـهي

زوجةً حُبلى غدت في جوف وادي

*

وجـــــهَ أمٍّ نــاضــرٍ ضــــاء بــطُـهـرٍ

لـــطّــخ الــطــيـنُ ســـنــاهُ بــقـتـادِ

*

أغــنـيـاتٍ مــــزّق الــسـيـل هـنـاهـا

بــمـغـنٍّ؛ كــــان بــالأحـلامِ شـــادي

*

نــكـث الـبـحـرُ عـهـودا مــن ســلامٍ

كـــــان يـــرعــى؛ بــســخـاءٍ وودادِ

*

(لــيـبـيـا) هــــلّا تــشـدّيـن قــلـوبـاً

وتــقــيــمـيـنَ بــــنــــاءً بـــاتّــحــادِ

*

يـــا بــنـي الـمـختار لـبّـوا وتـنـادوا

يــا بــلادي لــك روحــي يـا بـلادي

***

صلاح بن راشد الغريبي

هَجمـــتْ بســرعةِ رفّـــــةِ الرمـــْشِ

ســـــودُ المصــائبِ هجمـةَ الوحــشِ

*

وقسَـــتْ علـــــيَّ لعلمِهــا سَلَفــــــاً

أنّـــــي وحيـــــدٌ وهْــــيَ في جيــشِ

*

فــــــرَحَ الحســــودُ بهــا وأبهجــــهُ

أنَّ المصائـــبَ كـدّرتْ عيشــــــــي

*

فكأنني فـــــــي حالتــــي ملـــــــكٌ

في لحظةٍ أمســى بـلا عـــــــــرْشِ

*

يـــا مَــنْ هواهـــا حاضــــرٌ أبـــداَ

متأصّـــلٌ فــي القلـــــبِ كالنقــــشِ

*

هذي جراحـــــاتي تسيـــــــلُ دمــاً

والجـرحُ يؤلــــمُ ليـــسَ كالخـــدشِ

*

أمشـــي وتخدعنــي الدروبُ ومـا

هــــدفٌ ســـواكِ لأجلــــهِ أمشــي

*

حتّـــى بلغـــتُ البحــــرَ أســـألــهُ

والبحـــــرُ بالأســــرارِ لا يُفشـــي

*

فرجعــتُ منــــهُ مُعاقــــراً حُلُمــي

مُتناسيــــاً مــا فيـــهِ مِــــنْ طيــشِ

*

حُلمـــــي بأنْ أحيـــــا بأجنحـــــةٍ

ويكـــونُ لــــي بيتٌ مــن القــــشِّ

*

وأرافـقُ الأطيــــارَ فــي سفـــــــرٍ

وأعــــــودُ ثانيـــةً إلــــى عشّــــي

*

يا منْ ُوهِــبتِ الحســن َ أجمعـــهُ

وحويتِ كلَّ السحْــرَ فــي الرمشِ

*

إنْ مــــرَّ نعْشــي مِــن أمــامكِ لا

تبكــــي وألقي الورْدَ فــي نعشــي

*

فالمــوتُ ميــلادي ومُنطلقــــــــي

فــــي عالــــمٍ خالٍ مــنِ الغـــــشِّ

*

وأنـا الذي عشَــــقَ الجمــالَ ولــمْ

يضعـــفْ أمــام الغــــدرِ والبطـشِ

***

جميل حسين الساعدي

.........................

* كتبت القصيدة في السادس عشر من ايلول للعام 2023

كلماتٌ

تدورُ رُحاها في رأسي

كطاحونةٍ أعياها إنتظارُ

ذلك الآتي بحبوبِ قَمحهِ

ولا يأتي

أدورُ بلا هُدى مغلوبةً على

أمري

طريقّي إليكَ مُعلّمٌ بفَتاتِ

الخبزْ

الذي أكلتهُ العصافيرُ

فما عَرِفتُ الى أينَ تتجهُ سواقي

روحي

سافرتُ بِكَ وأنتَ مسافرٌ

بِدمي

أحملُ بيدي إعترافاً

بفقدانّيَ الحكمةَ في إختيارِ

مواسِمي

لكنّهُ بصيصٌ منْ ذلكَ

الأملُ

بإفلاتِ بذرةٍ عن قانونِ

المطرِ

لتُنبِتَ شجرةً تطرحُ

الظِلال

على قارعةِ الإحتراقِ

قريباً من أسوارِكَ

أنتحّبُ مصلوبّةً

على خَطيّنِ متعامِدّينِ

من حُدودِ العذابْ

أرتكبُ مخاطرةَ الدورانِ

حولِكَ

سمحتُ لغيرِ المتوقّعِ

بالحدوثْ

ودرّتُ حولَ كوكبكَ بتوجّسِ

المُكتشِفِ

أغمرُ أصابِعي بزيتِ

الحياةِ

ونبضِ الجُنون

بينما ترددُ إستغاثتي

يضيعُ

في المسافةِ بينَ كلماتكَ

وعيني

وحينَ راوغتُ وجَعي

كذبتُ كثيراً على

الحياةْ

ففي المنطقةِ الرماديةِ بين النسيانِ

والتذكّر

تَفقدُ الأشياءُ

وجهتُها

وتستحيلُ الخطوةُ منفى

أُناغي مَقامَ صَباكَ

باحثةً عمّا تبقّى

مِني

متشظيّةٌ كفرحٍ سَقطَ

سهواً

مِنْ يدِ طفلةٍ يتيمةٍ

وانكسرْ

أنتظرُ إلقائكَ للنردِ

لأرى مَنْ سيفوزُ بلعبةِ

الحزنِ

أيها الطائرُ الغريبُ

ليتكَ أسقطتَ لي ريِشةَ

أملْ

كي أبقى باحثةً عن جناحكَ

ماتبقّى مِن عُمري .

***

بقلم: عالية محمد علي

..............................

* القصيدة الفائزة بالجائزة الأولى لقصيدة النثر في مهرجان همسة الدولي / مصر،  للعام / ٢٠١٧

من سكب الازرق الازوردي

في دمي

لأصبح من سلالة النبلاء

وأمطر القصائد

فيروزا

*

جيوش من الأزرق الملكي

تحتلني

وتجبرني على إعادة تلوين مدينتي

انا التي عشت دهرا

بين الأبيض والأسود

*

على حافة البكاء

أتوقف قليلا عن الكتابة

لأطيل النظر الى

الهوة الزرقاء

التي تغريني بالسقوط

داخل عينيك

*

لم يكن الموج يدرك

انه

يحمل سلالة دمك

الا حين أبحرت فيه

قصيدتي

*

لا أدري ان كان البحر

ام السماء

داخل عينيك

كل الذي اعرفه

اني أحيانا

أطير

واحيانا أغرق

*

تلك العيون التي

تسبح في دمي

تعيد النظام

الى نبضي

***

بقلم: وفاء كريم

عاد بيَ الحنين إلى مدرستي الإبتدائية العزيزة وإلى ساحتها المزهوّة بالأشجار والعصافير وصخب التّلاميذ وأوقات الرّاحة وفجأة وجدتني أمرّر يدي على خدّي الأيسر في ذكرى لم تمّحّ آثارها من خاطري.

كتت بالسّنة الثالثة ابتدائي وكنت الأولى في المرتبة دأبي منذ أول امتحان.

و كان معلّم الفرنسية صديقا لعائلة إحدى زميلاتي الميسورة ويسكن مجاناً جانبا من منزلهم الكبير لكونه أصيل منطقة قصر هلال.

كان ذلك المعلّم منزعجا من وجودي ومن نشاطي داخل القسم ومن أعدادي التي مكّنتني من نيل المرتبة الأولى في كلّ امتحان وقد تعمّد في كلّ مرّة أن ينقص أعدادي التي تخصّ الموادّ الفرنسية التي تعود له بالنظر. إلّا أنّ مدير المدرسة ومعلّم العربية كانا معجبَين بنتائجي وخاصّة المدير الذي كان يراقب عن كثب أحوال التّلاميذ النّجباء في مدرسته ولا يغفل عن استدعاء أوليائهم كلّما تراجعت أعدادهم أو تغيّبوا عن أقسامهم.

و لولا هذه العناية والرّقابة الجديّة للإدارة آنذاك لكنتُ أنا وعديد التّلاميذ ضحيّةالمحاباة والحَيف وتضخيم الأعداد للبعض وربّما كنّا انقطعنا عن الدّراسة لما يصيب التّلميذ من إحباط نتيجة مثل هذه الممارسات من معلّمه او أستاذه.

استعصى على ذلك المعلّم أن يؤخّر مرتبتي ويضع زميلتي ابنة صديقه تلك في المرتبة الأولى لجدّية المدير ويقضته

إلا أنّه ذات يوم اضطرّ لمغادرة القسم لبعض الوقت فترك تلك الزّميلة تحرسنا وأمرها أن تسجّل اسماء كلّ من يترك مكانه او يشوّش في غيابه.

قامت الزّميلة بمهمّتها ولمّا رجع أشارت له ببعض الأسماء فأنّبهم تأنيبا خفيفا ولم أكن من بينهم لأنّي لازمت مقعدي وهدوئي خوفا منه فقد بثّ في نفسي الرّعب.

و ما راعني إلّا أنّه أمرني بمغادرة طاولتي والإلتصاق بالجدار وزميلتي تقول له وتعيد : " لا سيدي زهرة خاطية ما شوّشتش !" لكنّه أمرني بوضع يديّ وراء ظهري وصفعني على خدّي الأيسر صفعة تورّم لها وجهي وخلّفت آثارا على عيني لعدّة أيام.

و في الغد قدم أبي إلى الإدارة واستدعى المدير المعلّم واستجوبه وكذلك زميلتي. لكنّها غيّرت أقوالها تحت ضغط والدها وشهدت ضدّي.

مازالت تلك الصّفعة تُحرق خدّي إلى الآن.

فهل يا ترى تذكّر ذلك المعلّم ولوْ مرّة واحدة ما فعلهُ بي....

***

زهرة الحواشي

من مجموعة: كُتّابُ أبي

للمرة الثالثة مذ انحازت بهيجة بعد طلاقها الى أختها خلال هذا الشهر وهي تحس أن يدا بليل تنزع عنها غطاءها ثم تتحسس ساقيها، تقفز بهيجة من مكانها ثم تستقيم جالسة والذعر يتلبسها، لاترى غيرشبح يمرق منسلا من الغرفة دون ان تتبين له وجها؟..

ليس في البيت غير أختها وزوج الأخت وابنهما الطالب الشاب الذي يتابع دراسته الجامعية في العاصمة والذي لا يزورالقرية الا في العطل والأعياد..

في الصباح وهي على مائدة الفطور تحاول بهيجة أن تسرق نظرات خاطفة لسحنات زوج أختها وابنه:

 أيهما قد كان الشبح الزائر؟..

 لا يسعف بهيجة نظر ولا تفكير، فالزوج رجل ستيني متدين، يعرف ربه، مارأته يوما يحاول أن يرفع اليها عينيه بسوء قصد، تعود النوم بعد صلاة العشاء،ولا يغادر سريره الا قبل الفجر بقليل، ثم لا يعود الى البيت الا حين تستدعيه زوجته للفطور بنداء من كوة صغيرة تطل على الكتاب الذي يعمل فيه الزوج كمدرر لابناء القرية الصغار لايفصله عن البيت غير حاجز من طوب.. الابن متخلق يستحي من خالته ويعزها لمواقفها الكثيرة في إصلاح ذات البين بين أمه وأبيه،ومن احترامه لها أن وجهه يصير كطمطمة حمراء حين تفتح معه حديثا..امتنع أن يشاركها غرفته بعد أن تنازل لها عنها رغم معارضة أمه مكتفيا بالمبيت تحت سقيفة البيت كلما حل بالقرية..

لم تكن بهيجة صاحية فتتوهم طيفا أو خيالا من التصورات قد تشغل انتباهها بل كانت نائمة غارقة في سبع نومة و لم تصح الا على لمسات يد حاولت أن تبلغ شيئا أو تحقق أمرا مبيتا..

أيكون الشوق الى زوجها وهي لا تدري هو ما يلاعب أحلامها مما يجعلها تستعيد لحظات كان الزوج لا يعود فيها من عمله الا بعد منتصف الليل فتصحو على يده وهي تتلمس فخديها او شفاهه وهي تطبع قبلة على خدها، يصر على أن تصحو لتجالسه قليلا..

كم تريد أن تبعد الزوج عن تخيلاتها حتى تقطع كل علاقة كانت تربطها به بعد أن ضحت وعانت وفي كل مرة يدعي الثوبة ثم يكرر الزلل..

تغلبها دموعها، فتحاول أن تمنع صرة الغيم قلب محاجر عيونها، من فتق، فهي من أصرت على الطلاق بعد أن استعظمت زلة سقط فيها الزوج حين لبى رغبة أحدى الجارات يتحدث الناس عن مرض خبيث قد أصابها، دعته ليغير لها حبابة فاسدة ثم ألحت على أن تهديه كاس قهوة لكن ما لبث أن طوقها بذراعيه وهو يودعها فلانت و تبادلا القبل... وكانت الخادمة بالمرصاد فصورتهما بهاتفها وأبلغت زوجته محذرة أن ينقل الى بهيجة عدوى الجارة..

لم تكن هذه هي الزلة الأولى لدى الزوج، فكثيرا ما وقع في زلات غيرها مع عاملات المعمل ومع غيرهن وكأنه يريد أن يختبر استمرار فحولته خاصة بعد فحوص وتحليلات طبية أكدت عجزه الكلي عن الانجاب..

ـ " لئيم، لا امنعه شيئا متى شاء وكيفما أراد، ولم أحرك رغبة في ضنى بحديث أو شكوى أو حتى بالتلميح قد يحسسه بالدونية لكن جرثومة الخيانة تينع في أعماقه بلا ذبول"

بهيجة أنثى في العقد الرابع من عمرها لا يخلو وجهها من مسحة جمال خصوصا حين تكون بكامل زينتها وبحكم أنها لم تلد فقد ظلت تحافظ على جمال قوامها وتناسق جسدها، لكنها كانت نقيض أختها، عفة نفس ورجاحة عقل،مقابل رذالة أختها وخسة نفسها وطيشها..

بعد العطلة الأسبوعية عاد ابن أختها الى جامعته لكن في الليلة الثانية لرحيله تستفيق بهيجة مفزوعة على نفس اليد تتحسس خصرها، حاولت أن تمسك بها لكن صاحب اليد كان أقوى منها واستطاع الانفلات من قبضتها، وقفت وشرعت تصيح، وعلى ضوء شمعة خافتة أضاءت غرفة أختها رات بهيجة من خلاله أن أختها وزوجها يهرعان معا من غرفتهما إثر صياحها..

لم تصدق عيونها، فاذا كانت أختها وزوجها وهي تراهما رؤية عين وهما خارجان معا من غرفتهما فمن يكون هذا المتسلل اليها بليل يحاول ان يتحسس جسدها؟..

ضاق بها التفكير، فذاكرتها العرضية تؤرقها،فهل حولها طليقها الى أرشيف من زلات تؤرقها حتى بعد طلاقها، لكن مايقع لها ليس تخيلا بل حقيقة يتصرف فاعلها عن قصد وإصرار..

 نصحها زوج أختها أن تقرأ آيات من القرآن الكريم قبل النوم، أما أختها فقد كانت نظراتها بين السخرية والارتياب؛ وكأنها تحاول أن توجه ظنون زوجها منحى آخر..

دخلت بهيجة في جلبابها بعد طلوع الشمس وخرجت الى فتيحة صديقتها التي تسكن نفس الدوار..كانت تريد أن تتنفس هواء غير هواء بيت أختها، أن تنشغل عن أحداث ليلها وتخفف من أثرما يؤرقها وقد غطى على كل هدوء تتميزبه بهيجة..

أدركت فتيحة أن بهيجة تعاني وأن إصرارها على الطلاق ربما كان تسرعا وخطأ،فالأخبار الواردة عن الزوج تقول أنه قد ارتبط بإحدى عاملات المعمل والتي كانت تربطه بها علاقة قديمة..

حقا بهيجة قد تعبت من السلوكات الوضيعة لزوجها، خيانة بعد أخرى، لكن أن يربط علاقة بأنثى قد تكون عدواها وبالا عليها فهذا ما لن تقبله..

 "ليس بالجنس وحده يحيا الانسان.. لو كنت أحرمه أو أرفض له رغبة لتحملت مسؤولية طلاقي.. أما وفضيحته مع أختي لازالت تؤرقني بالليل والنهار تحملت وتسترت عليه على حساب كرامتي وحالتي النفسية والعقلية حتى لا أشتت شمل أختي لو بلغ الخبرالى زوجها فقد بالغ في علاقات أخرى بلا خجل ولا حياء "..

الحديث يسرق المرأتين الى ساعة متأخرة من العشي، حيث تعود حماة فتيحة من عملها في بيت أحد سكان المدينة..

تحية وسلام، وخيوط الكلام تنسل من هنا وهناك فتقترح الحماة على بهيجة عملا كخادمة لوالد مشغلها السبعيني في مدينة كبيرة، توفيت زوجته وامتنع عن الزواج،وأبناؤه يبحثون له عن سيدة ثقة ترافقه وتقوم بأعبائه..

 تلقت بهيجة العرض بترحيب وفرحة بعناق حار لحماة صديقتها..

ثم عادت مهرولة الى بيت أختها وهي تحمل الخبر السار.

.أخيرا أتى الفرج وستغادر القرية بل تترك أختا ما لجأت اليها بعد طلاقها الا لتحميها من نفسها..

تقترب بهيجة من باب غرفة أختها فتتناهى اليها ضحكات ثم كلمات من نافذة صغيرة ذبحتها:

ـ اياك أن تعرفك فننفضح، حاول أن ترهبها ما استطعت..حظ من زفت ما ان تخلصت من الابن بدخوله الجامعة حتى فاجأتني الأخت بطلاقها..

تتداعى الصور على بهيجة، تهتز نفسها بقشعريرة وهي تستعيد لحظة ضبط أختها بين أحضان زوجها وعلى سريرنومها..

كانت بهيجة لا تفكر في زوج تعودت سلوكاته لكن تفكيرها كان في الرجل الطيب زوج أختها والذي لم تهدأ زوبعة الشك الذي انتابته في ابنه إثر خروج أختها اليومي بلا إذنه، وقد لعبت فيه بهيجة دورا كبيرا في تهدئة الأوضاع الى أن عادت أخت بهيجة الى بيتها، وكان الجزاء خيانة مع زوج بهيجة..

قبل أن تعود بهيجة أدراجها بكل هدوء، تعتلي على نتوء صخري  وتمد رأسها قليلا من النافذة الى الداخل لتجد أختها عارية تماما مع أخ زوجها الحارس لفرعية مدرسة ابتدائية تقع في الدوار..

انقبض صدرها بألم وقد غالبتها دموعها..

 أنثى لا تثوب، يحركها شيطان مارد بِشرٍّ وفجور تلك هي اختها منذ صغرها وهي لا تنتهي من زلة الا لتبدأ أخرى..

في العاشرة من عمرها أسلمت نفسها لراع في الدوار ففض بكارتها وحين بلغ الامر الى أمها اصابتها جلطة صدرية افقدتها الروح..

قبل زواجها بسنة حملت سفاحا من شيخ القرية الذي بادر الى اجهاضها في المدينة وهو من زوجها الى قريبه فقيه القرية..

لم تجد بهيجة غير بيت فتيحة تبيت فيه ثم تصاحب حماة فتيحة صباحا لمقابلة والد مشغلها..

ما أن رآها الرجل الذي يريد تشغيلها حتى اختلى بخادمة أبنه:

ـ السيدة لازالت شابة هل انت متأكدة من عفتها وأمانتها.. لا يخفى عليك أني أقيم في مدينة سياحية تغري،ولست مستعدا أن أجد نفسي قلب مشاكل،معرضا للقال والقيل..

طمأنته الحماة بان بهيجة امرأة درويشة ولا تبحث الاعن سترها في مكان ترتاح فيه،وتبتعد عن أختها ومشاكل أختها وهي الضامنة لها..

وجد الحاج في بهيجة أنثى تعيد اليه ما افتقده بعد موت زوجته، اهتمام به فاق الحد وعناية بكل ما يحافظ على حياته..ارتاح لأمانتها ونظافتها وصدق تعاملاتها..

تعود الحاج أن يخرج كل صباح ليمارس هواية المشي، لايغيب أكثر من ساعة ثم يعود الى بيته أو يجلس في أحد المقاهي الى أن يؤدي صلاة الظهر في المسجد ثم يعود الى بيته..

فتح الباب بمفتاح ثم دخل ليجد بهيجة وسط الدار تسبح في بركة من الدماء، ورائحة الغاز تخنق البيت !!..

من فعل بها هذا ؟ هل سقطت ؟ كيف ؟ بسرعة فتح النوافذ ثم استدعي الشرطة وبسرعة تم حمل الضحية الى المستشفى حيث تم انقادها..

بمجرد ما اطلع رجال الشرطة على تسجيلات الكاميرات الموجودة في بيت الحاج حتى تعرفوا على المجرم الذي لم يكن غيرعشيق أختها وأخ زوجها بايعاز من أختها حسدا وغيرة

والتي أرادت أن تنهي زلات حياتها بعشرين سنة سجنا مع عشيقها..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في مثلِ هذا اليومِ

قبلَ مواسمِ الفقدِ

*

كنَّا نحلقُ عاليًا

ونتيهُ في الخلدِ

*

نشدو لأيَّامٍ نديَّا

تٍ  من الوردِ

*

ونطوفُ في دنيا الـ

منى ومواسمِ الودِّ

*

لم ندرِ أنَّ الدهرَ يو

مًا يرتضي وأدي

*

وبأنَّ طيرًا صادحًا

سيؤولُ  في لحدِ

*

أسفي على زمنٍ غدا

حربًا على فردِ

*

أنَّى  لمثلي أنْ يعيـ

شَ مرارةَ الصّدِّ

*

يا منيتي عدْ لم أعدْ

أقوى على البُعدِ

*

أدري محالٌ نلتقي

والدمعُ لم يُجدِ

*

تتراكضُ الأيَّام مسـْ

رعةً  بلا ودِّ

*

علَّ الذي ترك الحيا

ةَ يعودُ في الوعدِ

*

فجرًا يدقُّ البابَ أوْ

في شهقةِ البردِ

*

نصحو ويأخذُنا النَّعا

سُ  نلوذُ بالعدِّ

*

ونعودُ مكسورينَ نشـ

كو  لوعةَ الفقدِ

*

نستذكرُ الماضي التليـْ

دَ و أدمعَ الوجدِ

*

نتذكرُ الولدَ الأنيـْ

قَ  الساحرَ القدِّ

*

مَن يوقفُ الذكرى إذا

ما أضرمت كبْدي

*

مَن يقنعُ المفجوعَ وال

مذبوحَ في الحدِّ

*

مَنْ يقنعُ الثكلى إذا

بالغتَ في البُعدِ

مَنْ يوقفُ النزفَ الذي

يجري مع المدِّ

*

لا شيءَ  يجبرُ خاطري

ويعيد لي رشدي

*

إلآ اللقاءُ يضمّنا

في جنة الخلدِ

***

د. جاسم الخالدي

استيقظ باكراً بعد ليلة دخل فيها إلى النوم بصعوبة حاملاً أحلام سعادته يترقب بلهفة شروق الشمس وحلول الصباح، حتى ذرّت الشمس خيوطها على نافذة الغرفة؛ أسرع بحماسة نحو الصالة مزاحماً أفراد الأسرة وهي تحزم مستلزمات الرحلة السياحية، يسبقهم في حشر ألعابه ومستلزماته الخاصة في صندوق السيارة. بينما تشق السيارة قلب الطبيعة خلف أرتال السيارات الهاربة من سجن المنازل إلى أحضان الطبيعة للتنزه والاستجمام، تباهج أنظارهم مشاكسات الغيوم لقرص الشمس، وتراقص الأشجار والأزهار وسط ألوان الطبيعة الخلابة. حالما أقاموا في الرَّبع تحت ظل شجرة صفصاف تغازل أغصانها الطويلة المتدلية مياه النهر، شرع الأب بترتيب مكان الاستراحة وموقد النار، بينما انطلق كنان متوقداً بالمرح يطارد ذكر فراشة تشابهت ألوانه مع ألوان الطاووس الذكر قبل اقترابه من عائلة تجاورهم بالموضع الذي نزلوا فيه حتى ارتطم بصبية تماثله العمر تشع من وجهها بشاشة ساحرة حدق بها طويلاً، ثم تبسما ابتسامة ودية اقتحمت بعمق فطرتيهما الغريزية، فهب معتدلاً التقط يديها الممتدة إليه ساعدها على النهوض وأسبل ثوبها الملتف حول نحرها، فأخذا ينفضان أيديهما من التراب العالق بهما ثم انطلقا يتعقبا الفراشة حتى وجدوه راكن على غصنٍ شجرة وملتحم بشعيرات أنثى فراشة. بينما كان الأب يحتطب من شجرة عظيمة الارتفاع وكثيفة الأغصان برفقة والد الصبية ليان شاهدا في جويف الشجرة طائر يكبر السنونو حجماً لكنه يتشابه معه بالألوان يجثم فوق بيضاته، اقتربا بخطوات وئيدة من العش، فهمس أحدهما بتعجب قائلاً:

- يبدو إنه طائر فريد! يضارع المارتليت في شعارات النبالة.

- السمام كغيره من الكائنات والظواهر الطبيعية الخاصة بالإنسانية والطفولة التي لم تسلم من تسخيرها لنزوات أنانية تنتهك جمال الطبيعة وتنسبها إلى دلالات تغير المعنى الذي وجدت من أجله.

- وما أنزله؟ أليس طائر دائم التحليق في السماء!؟

- لا يهبط السمام إلا حينما تناديه غريزة التكاثر والإنجاب؛ بدافع المحافظة على الذات والنوع واستمرار الحياة.

- حقاً؛ الجنس غريزة فطرت عليها أغلب الكائنات الحية من أجل استمرار الحياة والحفاظ على النوع، لا وسيلة للإمتاع فحسب.

- كل هذه المخلوقات الجميلة التي نراها في الطبيعة ما هي إلا خلاصة هذه العلاقة المقدسة بين الذكر والأنثى؛ وما غير ذلك يتنافى مع مقاصد وجودها.

عاد الأب بما جمع من حطب فحشره تحت ألسنة اللهب المتراقص مع  دخان الموقد، وأخذ يتسلى بتحريك هواء الموقد، يوقد لهب الجمر المكدس تحت وجوانب الإبريق، لا يبالي بالدخان الذي يغطي ملامح وجهه، مستمتع بفواحة عبير الهيل الممتزج برائحة الشاي، تناسلت نظراته بنظرات زوجته، وماجت الغرائز مداً وجزراً مع رشقات الابتسامة المكللة بالأنوثة الباذخة التي تطلقها وهي تهدهد صغيرها في المهد، ومع نسمات الهواء العابق بالربيع وتناثر الخيوط البرتقالية لأشعة الشمس التي تخترق أوراق الشجرة أخذ يفتل خواطره ويدونها على الورق ويتطلع إلى المنظر الفردوسي للسهول والجبال وهما مكتسيتان بالثوب الأخضر المرصع بشقائق النعمان الحمراء، أدام نظره إلى السماء يتابع حركة غيوم داكنة تمضي بجموح مسرعة نحو قرص الشمس، فأسترسل بالكلام مع زوجته؛ الربيع عروس الفصول؛ إنه موسوم التزاوج؛ سيولد الجمال، ومع تقعقع صوت السماء؛ تراقصا الصبية فرحاً على أنغام موسيقى المطر، وتهللت وجوه الجميع بالبهجة وهم يشهدون ولادة القوس قزح.

***

صفاء الصالحي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

أشرس المعارك

ما إن جلس على كرسيّه الدوّار وأخذ يمرّر بصره على الوثائق التي سلّمته نسخة منها حتّى بدأ جسده ينكمش على نحو سريع ويكسوه شعر كثيف.. كشّر عن أنيابه وهرّ ونبح كثيرا..

ولم يكن لي من سلاح غير قلمي أشهره في وجهه. بيد أنّ نباحه اشتدّ أكثر من ذي قبل، ثم لم ألبث أن سمعت نباحا آخر يأتيني من كلّ مكان..

***

النّبوءة

جلس العمّ سام إلى طاولته الفخمة وشرع يأكل من طبق لحم مُرّ المذاق..

قال خادمه: "مولاي هذا آخر ما تبقّى من ابنك (هيستيا) فهل أذبح (هيرا) كما اتّفقنا؟"

وافق بإشارة من رأسه فخرج الخادم.. فجأة أخذته رعدة بكاء حارّ وهو يتذكّر قول العرّافة: "يولد من صلبك من يقتلك!"

قائل: "لم يدر أنّ منيّه سقط منه في البحر واختلط بالماء الأجاج حيث بدأ يتخلّق (أورانوس).."

***

الحرب القادمة

لم تكن الحرب متكافئة على الإطلاق ومع ذلك كنّا نشعر كلّ لحظة بأنّ الدّائرة على قوّاتنا.. لم تنفعنا المدافع ولا الطّائرات أمام تلك المخلوقات الغريبة.. كانوا رجالا عراة أقوياء الأبدان، يركبون الغيم وفي أيديهم رماح رفيعة. ينسلون كما ينسل الهواء. فجأة يظهرون وفجأة يختفون..

لاحظ بعضنا أنّ تلك المخلوقات كانت تقاتل في انتقائيّة شديدة. تستثني الرّعاع والبسطاء وتشدّ على أصحاب الكروش الكبيرة..

***

نيــد*

كنت وحيدا في عرض الشّهباء والسّماء فوقي مكتملة البدر حين رأيته. كان على هيئة رجل مذبوح من العنق تتّسخ أسماله بدماء كثيرة.. اقترب منّي.. شخر.. لم أبد أيّ ردٍّ للفعل.. احتطبتُ حطبا ففعل مثلي.. أشعلت نارا وجهّزت فطيرة دفنتها تحت الجمر.. قاسمته إيّاها.. تظاهر بمضغها مقلّدا حركاتي وسكناتي.. شخر مجدّدا.. قلت في هدوء: "لماذا لا تظهر إلى قاتلك؟"

تبخّر ولم أره بعد ذلك..

***

حسن سالمي

......................

* نيد: شبح

عندما كان وحيداً يتأملْ

بحكاياتِ دروبٍ عَشِقَتْها مقلتاهْ

كانَ يَجْهَلْ

كَيْفَ تاهتْ قدماهْ

في دروبٍ غيَّرَتْ مَسْرى خطاهْ

كَيْفَ صارَتْ بهِ تنأى

من متاهٍ لمتاهْ

تتهكّمْ

كلما كانت تراهْ

وهو لايمكنه أن يتحكّمْ

بدروب سالكةْ

فالمتاهات بهِ كانتْ تسيرْ

في دروبٍ حالِكةْ

تتلاقى

في الأخيرْ

عِنْدَ بحرٍ  دون مرفأْ

ما المصيرْ ..؟

وإلى أين المسيرْ ..؟

لم يكن يدري

ولا يمكنه أن يتنبأ

*

مرّتْ الأيّامُ تجري

وَهْوَ يسألْ

ظلَّ يسألْ

ظلَّ يسألْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن

حَنّت بضلعي نياط القلبِ من ألمِ

تبكي مراكشَ أبناءً لها بدمِ

*

في عتمة الليل والأطفال نائمةٌ

والأمّ تُهدي بنيها قُبلةَ الحُلُمِ

*

والشيخ يتلو بآياتٍ وأدعيةٍ

بقريةٍ حفّها الرحمن بالنّعمِ

*

والبعض في فرحٍ جذلانُ قد صدحت

قلوبُ أحبابهِ بالطبلِ والنّغمِ

*

أبكي عليها دما والقلب محرقةٌ

فأين بهجتها قيثارةُ الأممِ؟!

*

يا للبديع وقد خطّت حضارتُها

عليه رسما من الآياتِ والحِكمِ

*

ويا لجامعها قد زان ساحتَها

ما كان إلا نداء غير مُنكتمِ

*

أتظلمُ الأرضُ أحبابا لها رسموا

في كلّ ناحيةٍ صرحا من القيّمِ

*

إن هُزّت الأرضُ أو ساخت منازلهم

فقد أبان بنوها ذروة الهِممِ

*

وأينعَت في رحاب المجد أفئدةٌ

بالبذلِ تُعطي دروس العزمِ والكَرمِ

*

لله درّهمو من أمّةٍ صدقت

إيمانُها نَضِرٌ في كلّ مُحتَدمِ

***

صلاح بن راشد الغريبي

في نصوص اليوم