نصوص أدبية

نصوص أدبية

ها قد التقينا في محطة الجرح يا وطني..

الحزن يغمر القلوب.. الوجع يعصر الافئدة

سياط الطين تجلد الاجساد..

لا فرق هنا بين رضيع يصرخ..

عجوز عاجز.. مقعد لا حول له..

الكل  يستجدي السماء..

العيون تبكي الليلة الليلاء

حين اهتزت الارض..

توقفت عقارب الساعة عند الفاجعة..

واحتضن التراب الاجساد والاهات..

النداءات والنواح.. الانين والحنين..

الكتب تلوكها الصخور..

الثياب تعلكها الرياح

وسوط المسافات يدمي القلوب..

انياب الوقت تمضغ الامل..

الانتظار يفرك جباها بالوحل مجبولة..

قرى الحوز في الرمس مدفونة..

والقلوب.. كل القلوب نحو الله تضرع..

الذكريات من تحت الانقاض تحكي

وحش الزلزال ذي الانياب خلفها يركض

بلون الدمار  يلاحق الشيب والشباب

لا يستثني الجدران والصخور والصور المرصوصة

لا يستثني الدمى.. قصص الاطفال والسبورة

من ممشى الى ممشى.. من مدرسة الى مستوصف..

ساهمس في اذن الريح..

لعلها تحمل الرسالة الى ابناء يوسف ابن تاشفين..

احفاد المرابطين..

سلالة السعديين والموحدين :

إن دماء ابن تومرت تسري في الشرايين..

حبل ود وتعاضدد ممتد

عبر ربوع الوطن الحزين..

رافعة الاذان فوق الصوامع

وسوس العالمة شاهدة:

حي على الجهاد.. من اجل البلاد والعباد..

المغرب مازال وسيظل صامدا

في وجه الزلزال والاعصار..

بعون الله وسواعد اسوده

سينبعث  من عمق الدمار اقوى.. .

فالمحن تكشف معدن الشعوب الاصيلة..

***

مالكة حبرشيد - المغرب

مُدّي.. إلى بَوحِ اللَّيالي سِرَّنا

لِيَظَلَّ ما نُخفِيهِ ما بينَ الشُّهُبْ

*

مُدّي.. إلى سِربِ الغُيومِ كَلامَنا

لِيَكونَ بَوحُ الحُبِّ في طَيِّ السُّحُبْ

*

مُدّي.. إلى سَفَرِ الغَرامِ قِطارَنا

لِيَجيءَ بِالأحلامِ مِن غيرِ سَببْ

*

مُدّي.. إلى عَبَقِ الزّهورِ هُمومَنا

لِيَفوحَ عِطرُ الحُبِّ مِن عُمقِ الغَضَبْ

*

مُدّي.. إلى مَطَرِ الحَنينِ شُموسَنا

تَروي مِنَ الأشواقِ جَمراتِ اللّهبْ

*

مُدّي.. إلى سَهَرِ النّجومِ غَرامَنا

لِيَطيرَ نحوَ النّورِ يُدرِكُ ما طَلَبْ...

*

مُدّي المَحَبّةَ دربَ نورٍ بَينَنا

تُحيي المُنى وَتَصُدُّ عَن قَلبي التَّعبْ

*

داوي القصيدَةَ بالوِصالِ وَأَسعِفي

عُمرَ الهَوى مِن مَدِّ طوفانِ العَتَبْ

*

مُدّي غَرامَكِ لِلغَرامِ يَشُدُّنا

إنّا بِغَيرِ الحُبِّ أجسامٌ خَشَبْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

تحت الركام

انين ارواح

فاجعة الحوز

*

جبال الاطلس

تبكي مع الهضاب والتلال

ضحايا غدر الطبيعة

*

تحت الانقاض

رضيع وشيخ وامرأة

شظايا وجثث

*

صرخات ثم صمت رهيب

بكى النهر

حتى انجرفت ضفتيه

*

في الساعة23.11

غضبت الارض

وقعت الواقعة

*

دون سابق انذار

اهتزت الاجواء

منازل مهدمة

*

مشردين

دون سكن

المقابر هي المأوى

*

قرى معلقة على التلال

تقف على اعممدة الغبار

سلالات منقرضة

*

ملك الموت

يضع زهرة ذابلة

على قبورالارواح المنسية

*

قتلى وجرحى

يا هول الزلازل

غضب الطبيعة

*

قماط رضيع

اسمال ملقاة في الوحل

كل شيء ضاع

*

غرباء في وطنهم

مستضعفين

ارواح حزينة

*

يعيشون حياة

ممزوجة برائحة الموت

عزاء الغرباء

*

في جوف الارض

آهات وأوجاع

ليلة مشؤومة

*

وينحتون من الجبال

بيوتا من القش والقصب والطين

ركام فوق الرؤوس

*

الارض خالية الآن

فوق كتفيه

الموت يحمل نعوش الشهداء

*

مآذن مبتورة

منابرعالقة تحت الانقاض

صلاة الغائب

***

بن يونس ماجن

إذْمَــا تــغيَّبَ فــي الأنــامِ الــعقلُ

وإذا  الــنــعاجُ يــقودهنَّ الــوَعْلُ

*

أســفي عــلى مَــنْ يَتْبَعونَ بهائماً

بِــعَــفِيطِها يَــتَــضَجَّرُ الإســطبلُ

*

وعَــجِبْتُ مِــمَّنْ يــدَّعونَ عروبةً

وحــقــيقةٌ  هُـــمْ لــلأعاجمِ نَــعْلُ

*

لا يــمــلكونَ مــن الــعروبةِ ذرةً

لا شــيــمةٌ قــد أَثــبَتَتْ أو أَصْــلُ

*

ولو ادعوا زوراً وأبدوا حِرْصَهُمِ

الــقولُ  يَــدْحَضُ كِــذْبَهُمْ والفِعْلُ

*

يَــتَــفَاخرونَ  بــكلِّ عِــلْجٍ حــاقدٍ

و  بــخالهِ كــمْ قــد تــباهى البَغلُ

*

هُـــمْ  مُــعْجبونَ بــقربةٍ مــثقوبةٍ

ولــطــالما بــهــرَ الــتوافِهَ طــبلُ

*

قــد غُــيّبوا والــفكرُ باتَ محنطاً

(الـكـيفُ) يـَـشغَلُ بَــالَهُمْ والأكــلُ

*

خانوا العروبةَ واستباحوا أرضها

الــحِقْدُ بــاتَ مــسيطراً والــجهلُ

*

إنّــي أرى الــعربيّ حــرّاً شامخاً

لا  تــابــعــاً أو لــلــعــدى يــنــذلُّ

*

مــجدُ الــعروبةِ في الحقيقةِ خالدٌ

مــاضــرَّهُ لــو قــد أســاءَ الــهُبْلُ

*

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

بَريدُ الدَهْرِ منْ بَلدي أتانا

رَسائلهُ تُحرّرُها رؤانا

*

سَفينةُ خَلقها مَخَرتْ عِباباً

مُباركةً مُجدّدةً كِيانا

*

بلادُ الكوْنِ مِنْ ماءٍ تَنامَتْ

ومِنْ طينٍ لصانِعهِ اسْتكانا

*

رؤوسٌ عَنْ أيادٍ ما اسْتعاضَتْ

تُعالجُ مِحْنةً وَرَدَتْ مَكانا

*

بها دُررٌ مِنَ الألواحِ دامَتْ

تُحدّثنا بما فَعَلتْ قِوانا

*

سَلامٌ يا فؤادَ الروحِ مِنّا

نُحَمِلهُ التَحايا والأمانا

*

فهلْ سَرقَ التليدَ بها غَريبٌ

وهلْ تاهَتْ برَمْضاءٍ خُطانا

*

وحبلُ الوصلِ مقطوعٌ بحَيفٍ

كأنّ وجودَنا حُلمٌ تَفانى

*

وما خُلِقتْ حَضاراتٌ ومَجْدٌ

وأيّامٌ بها زمَنٌ رَعانا

*

إليها يا رُبى الأمْجاد إنّا

سَنُعليَ صَرْحَها عَلماً مُصانا

*

بفَجْرٍ عاشَ للتأريخِ نبْضاً

تَيقّظَ كلنا وغَفى سِوانا

*

أصيلٌ مِنْ بديعاتِ المَعاني

يُسطّرُ خالداً وبَنى عُلانا

*

عُبَيْدٌ قَبْلها إنّا سُرِرْنا

بأمّ السامِقاتِ على رُبانا

*

مَعالِمُها بها الدُنيا تَباهَتْ

برَوْعَتِها إذا بَرَزتْ تَرانا

*

تُحَدّثنا مَواطِنُها بفَخْرٍ

وتَمْنَحُنا مِنَ العلياءِ شانا

*

بها قومٌ تَسامَتْ في سَماءٍ

وأطعَمَها التَعزّزُ افْتِتانا

*

تَباريحٌ إذا وفدَتْ تلاحَتْ

وعانَتْ في مَرابعِها امْتهانا

*

ألا رَفضَتْ عيونُ المَجْدِ غَمْضاً

تُحدّقُ عاليا لترى العَنانا

*

عراقٌ قائدُ الدُنيا لنورٍ

بقانونٍ ومَدرسةٍ حَدانا

*

وتَدْوينٍ يُسطّرُ ما فَعلنا

فيمْنحُنا التعلمُ مُهْتدانا

*

على طرُقٍ إلى العلياءِ سِرْنا

وإنّ بَعيدَها مِنّا تَدانى

*

إذا اعْتصَمَتْ قلوبُ القومِ فيها

بحَبلِ الوَصْلِ أبْهَرتِ الزَمانا

*

بلادُ العُربِ يا وطنَ انْبثاقٍ

وإنْسانٍ يُبادلها امْتنانا

*

ظلالٌ في كهوفِ الصَمْتِ شادَتْ

عَوالمَ رؤيةٍ دَحَضَتْ مُدانا

*

بَلغنا ذروةَ الأكوانِ عِلماً

بأبْراجٍ تباركُ إقترانا

*

على قِمَمٍ من الإشراقِ كنا

بأرْواحٍ تُساقيها دِمانا

*

وطفنا قرب مَحفوفٍ بإلاّ

بُراقُ وجودِنا أبْدى سِمانا

*

ودُمْنا فوقَ إشراقٍ تَسامى

بإيمانٍ يُبادلنا ضمانا

*

فخُذْ رُسلاً رسائلهمْ وصايا

إلى أبَدٍ وما بَصَرَتْ أوانا

*

تِلالُ مَسيرةٍ فيها كنوزٌ

تَلائدُ نَهْضَةٍ سَبَقتْ صِوانا

***

د. صادق السامرائي

العرض كان مغريًا جدًا، فلم أستطع الرفض، وقد انهار كل شيء من حولي فجأة إثر سقوط نظام من تبعات كيان عظيم خفقت أعلامه على مدى عقود في أصقاع الأرض، وقد كنتُ من أحد حماته المتخفين عن العيون أغلب الوقت.

هكذا وجدتُ نفسي في بلد ما كنتُ أسمع به إلا نادرًا، وعلى نحو سريع، فهو من البلاد التي لا تقع على خط اي اهتمام أمني، وبالتأكيد لم أتوقع أنه سوف يكون ذات يوم مأوى هزيمتي، من بعد شتات في سوق الأسلحة المهرّبة من ثروات بلدي نحو كل صوب من العالم الجديد، وأني سوف أصير من ضمن الأملاك المتَنقلة بيَد من تكون له سطوة الدفع أكثر، بل خالجني الأحساس أول فترة المكوث في البلاد الغريبة أني أستُقدمتُ مثل الكثير من الراقصات والفرق الاستعراضية التي أخذت تنثر فنونها في مرامِ الشهوات المستثارة والمزدادة تدفقًا من حطام الأحلام المتهاوية، وألقاني عصفها إلى خدمة سيادة الرئيس هنا.

كنتُ من أبرز رجال الأمن في عهده الجديد، والذين شغلوا مناصب القادة العسكريين ممن ساندوه في الانقلاب على الرئيس السابق للبلاد، مع ذلك لم ألتقه إلا مرات قليلة، لأن عملي كان ينصب بالدرجة الأساس على ترصُد حركات المعارضة في الخارج، وكتابة التقارير عنهم، ثم إرسالها إلى مكتب أحد مساعديه المخلصين، والذين يُستَبدلون كل فترة بدورهم، وأيضًا إعداد خطط الاغتيال إن جاء الأمر بذلك، ولذا توَجبَ عليَ السفر أكثر الوقت بين البلدان التي تأوي مثل هؤلاء، أو تلك التي يتنقلون بينها لغرض تلقي الدعم من هذا الطرف أو ذاك، وفي بعض الأحيان كنتُ أشارك بنفسي في تنفيذ مثل تلك العمليات التي أحرص أن تكون شديد الإحكام، والقادرة على بعث الخوف في نفوس أعداء النظام.

كانت مهنة سهلة بالنسبة لي، ومثيرة في ذات الوقت، لأني تحديتُ من خلالها كل ما تراكم فوق صدري من وهَن وكسَل إثر تجريدي تلك الوضيفة الأمنية المرموقة وشديدة السرية في بلادي، وفي النهاية الجميع غرباء عني، فلأكن زناد من يملك ثمن الرصاص، أما مسدس السلطة فهو ذاته في كل نظام وعهد، مهما اختلفت التفاصيل، وإن كنتُ قد فقدتُ الحماس القديم المتشبع بكل ما وعيتُ عليه منذ كنت صغيرًا، فلم يعُد هناك وطن أحارب لأجله أو أموت في سبيله بلا تردد، وقد تم الاتفاق على مبلغ من المال أتسَلمه بعد كل عملية اغتيال ناجحة، بالإضافة إلى الراتب الكبير والامتيازات المادية التي تضَمَنها عقد توظيفي منذ البداية، ولأني لم أفشل في أية واحدة فقد تم نقلي إلى دائرة أمنية تابعة للقصر الجمهوري، كل من يعملون فيها من الأجانب، عدا بعض الموظفين الصغار، كانوا من مواطني البلد، جلَهم أولاد وأقارب المسؤولين المرتبط بقائهم بحاكم البلاد، وكذلك منفذي عمليات الاعتقال والمشرفين على شتى أساليب التعذيب، فالمواطن عادةً لا يرهبه إلا ابن بلده، وهو الأعرف بكيفية إذلاله وإجباره على الاعتراف بما فعل وما لم يفعل، وكذلك الوشاية بالآخرين، حتى لو كان أولئك الآخرون ممن لم يلتقِهم يومًا، وقد أُعِدت أسماؤهم ضمن قوائم من يفَضَل التخلص منهم، ولأسباب قد تخضع لتصفية حسابات شخصية للرجال البارزين في الدولة، تحت مسَمى (الامتيازات الثورية) فكل صاحب منصب رفيع من حقه التخلص ممن يريد، وإن كان رفيق دراسة أو صديق قديم تعارك معه في يوم من الأيام لأي شأن من شؤون الصبية التي لا تلبث أن تتهاوى عن الذاكرة سريعًا.

نظام معقد، بما تسيطر عليه من شخصيات، كان لا بد لي من محاولة دراستها قدر المستطاع، ودون أن أثير الريبة في أني قد أفعل ذلك من أجل توجهات شخصية، ربما تكون مدفوعة الثمن من جهة خارجية، خاصة وأن الكفاءة في مثل هذه البلاد قد تصير مصدر خوف أكثر مما هي مبعَث امتنان، لذلك كان لا بد من المحافظة على مسافة، حدودها غير ملموسة، بين نوازع شتى تتحكم بقيادة البلاد أكثر من أي قرار معلَن أو خطاب حماسي يثير صخب الهتافات في الساحات العامة، تلك التي رحتُ أتجول فيها كسائح يحب التقاط الكثير من الصور هنا وهناك، خاصة في الزوايا والأركان التي قد لا تثير الانتباه عادةً.

كانت تأخذني السخرية من كثير من القضايا التي كنتُ أكَلَف بمتابعتها، رغم اجتهادي في تحَري كل تفاصيلها حتى النهاية، خاصة تلك التي تتعلق بمجموعة من الشباب الذين يجتمعون وتأخذهم الثرثرة للتكلم عن الديمقراطية وحق انتخاب الحاكم بكل حرية، دون تهديد بأبسط مقومات الحياة…

كل ذلك في النهاية مجرد لغو لا يستحق الاهتمام، على العكس تمامًا، مثل تلك التجمعات قد تكون أفضل وسيلة لامتصاص نقمة الشعوب المقهورة، كي لا ينفجر البركان ذات يوم، ومثل هذه البراكين قد تخبو سريعًا، وقد تلتهب حمَمها إذا ما حان وقت التغيير، بنفحات خارجية على الأغلب.

عرفتُ بعد ذلك بموت عدد من أولئك الشباب تحت وطأة التعذيب، وفي ذات الوقت تضاعفت الامتيازات المالية، وهذا هو الأهم بالنسبة لي بالتأكيد، ومن حسن الحظ أن مثل هذه القضايا لا تنتهي أبدًا، وإلا كان ذلك مدعاة قلق من قبَل القيادات العليا، بالإضافة إلى التنظيمات التي كانت تمثل خطرًا حقيقيًا لا بد من التصدي له، مع شيء من التهويل كي تتراكم أموال أكثر في حسابي المصرفي في الخارج الذي رحتُ أتوق للانطلاق نحوه بعد الانعتاق من أسر الوظيفة التي راحت تضغط على أعصابي بصورة متزايدة مع تتابع السنوات في خدمة نظام تقليدي جدًا، مهما اصطنع من تجديد في اتخاذ التدابير الأمنية الصارمة، المهم أن يكون هذا بعد تأمين نفسي تمامًا، ولا أنكر أني في سبيل هذا الهدف لجأت إلى تقاضي الرشى وكتابة التقارير عن زملاء العمل من مختلف الجنسيات، ولا بد أن الآخرين فعلوا ذات الأمر معي، لكن يبدو أني كنت الأكثر براعة في دَس المكائد للكفاءات المستوردة، حتى صرت سبيل البعض للإيقاع بالبعض الآخر من القيادات المرموقة في الدولة التي كانت تبدو لي مثل بيوت الرمال، كان لا بد لي من إسنادها بأقصى ما يمكنني، فالمسألة  لا تعدو أكثر من استثمار ما تبقى لي من جهد وقدرة على المواصلة بأفضل نحو ممكن، ولم أجد في نهاية المطاف سبيلًا للنجاة بحياة المليونيرات التي كنتُ أحقد عليها فيما مضى غير اغتنام الفرصة قبل فوات الأوان.

واتتني على دفعات من التصفية التي لا بد منها في كل نظام دكتاتوري، خاصةً لمّا  قرر حاكم البلاد، الذي ظللتُ لا ألتقيه كثيرًا، التخلص من وجبة من أبرز مناصريه، خشية الإعداد لانقلاب ضده مستقبلًا، فقد كنتً أقوم بالإشراف الكامل على خطة التخلص من الرفاق القدامى، ليس هذا فحسب، بل ربط ذلك بجهة خارجية كان يريد الرئيس مجابهتها منذ زمن لأسباب عدة لا شأن لي بتحليلها ما دامت لا تعني مخططاتي بشيء، وقد عقدتُ من أجل ذلك الكثير من الاتفاقات والتحالفات مع أطراف خفية كي أقوم بمهمتي وفق إرادة سيادته على أتم وجه، ولمّا تم تنفيذ المخطط المعَد بعناية شديدة كانت مكافأتي الاستيلاء على كل ثرواتهم المصادَرة، كعطية من عطايا القائد المنتصر دومًا لأحد مساعديه الأوفياء، ولعله أراد فعل ذلك نكايةً بثوار الماضي الذين جعلهم عبرةً لمن تخطر على باله فكرة معاداته أو الغدر به مستقبلًا.

قررتُ الاعتزال أخيرًا، الخروج من الدائرة التي ظللت أدور داخلها منذ ريعان الشباب حتى تلبستني بالكامل، وقد عشتُ أكثر من حياة، كلٍ منها ضمن شعارات مختلفة عن الأخرى، وحسب إيقاع كل عصر، خاصة بعد أن تحقق لي أكثر مما كنتُ أتمنى، إلا أني لم أحسب حساب الهاجس الأمني لدى نظام يخشى من يعرف الكثير من أسراره أكثر من أي شخصٍ آخر.

تكررتْ محاولات الاغتيال، كل محاولة صرتُ أكاد أعرف بصمات مخططها، وكذلك جنسية المنفِذ غالبًا، أو على الأقل إن كان من أبناء البلد الذين أشرفتُ على تدريبهم في فترة من الفترات، أم من القتلة المأجورين الذين يُستعان بهم في المهمات الصعبة وغاية السرية، دون أن يعرفوا شيئًا عن الجهة الداعمة للعملية، وكوني رجل أمن قديم وشارك في خدمة أكثر من نظام، وفي أكثر من حقبة زمنية، فلم تكن مهمة اغتيالي بالسهلة أبدًا، الأمر الذي جعلني كثير التنقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة نحو أخرى، حتى كدتُ أيأس من قدرتي على الاستمرار في حياة الترحال طويلًا، إلا أن عناد ما وُطدتُ عليه عمرًا كان أكبر من كل تحدٍ يواجه شعور العجز الذي أخذ يستبد بي وأنا على مشارف العقد السابع.

لم يستلب آخر أنفاسي كما ظنتتُ، فقد بدأت تتردد هتافات تغيير جديد، وبدوري صرتُ من أكثر مناصريه، ولو عن بعد، وهو يهلل بتباشير عهدٍ آخر يخفق برايات الثوار التوّاقين إلى الحرية، ولمّا تم استدعائي مرةً أخرى، بعد سطوع وهج الأحلام المباركة، كي أعاود الخطى إلى ذات البلد لم أستغرب، فأنا ومن مثلي عماد كل سلطة، مهمتنا دومًا الحفاظ على نظام كل وليمة تعيد توزيع المناصب والمزايا والنفوذ كل حين، كما أني لم أتردد في الموافقة، لأني في النهاية تأكدت أن الأمان الحقيقي للذين عاشوا مثل حياتي لا يتحقق إلا داخل قلعة أمنية أكون ممن أشرفوا على تصميمها ووضع كافة تفاصيلها المترصدة كل خطر من قبل أن يلوح في الأفق.

***

قصة: أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

5 ـ 9 ـ 2023

قُلتُ يَومًا للذي لَوّعَني داخَل صَدري:

دَعْ شَفاعاتِ الغوايةْ

دَعْ مِنَ اللّوعَةِ روحي والضَّياعْ

دَعْك من قولِ النساءِ

والوَميضِ الغضِّ

ما خبَّئن سرًا

تحت ياقوتِ صَداريهُنَّ يومًا

من ينابيع الكلام

دعك منّي

فَلِماذا...؟؟

كُلّما رَفَّ جَناحٌ

رفرفت روحك بالبهجة وامتد حبورك

ولِماذا لا تَدعْني أهدأ الليلَ

لماذا لا تَدعني

...

...

لم يَعِد للقَلبِ قلبٌ

وانا أعرِفُ رُؤياكَ

وأدري بالعَناوين التي غَيّرتَ فيها

شَهقةَ الشوقِ وأجْفَلتَ الهَديل

...

...

وتَأنّى فائِضُ الحُبِّ..

تأنّى وامْتَثَلْ

وعلى نافِذةِ الشّوقِ تَمَلّى بِهدوءٍ..

اسْتَرقَّ السّمعَ

فاخضَرَّ المَساءُ

بأناةٍ..

كَتَمَ اللّوعَةَ بالصّمتِ

وغادر

...

...

وتداعى صمت صوتي

وتداعى

غَسَقًا كان هَسيسُ الشوقِ يَعلو

والندى كان مُغطى بِغِلالاتِ الصّدى

حافِيًا يَمسحُ عَن أذيالِ ثوبي

لَوعةَ الصمتِ الجَّسورةْ

وانا استِرُ خُطوي

بمياهٍ لَعثمَتها عُشبةُ الفيضِ الأخير

عَلّني مِن وَطأةِ الحَيرَةِ اّخْضَّرُ جَلِيًّا

في عَناقيدِ الحُضورِ

...

...

آه كَمْ رِضْتَ لِأسبابِ الغوايَةِ

فلتَدْعني أهدأُ الليلةَ

واهدأْ

**

02

لم يَكُنْ قَلبي ـ وَقاكَ اللهُ شرًا ـ

غَيرَ شَرٍّ

حَيثُ لا يَعْرِفُ إِلَّا اَلْحُبَّ أَمْرًا

فبَكيتُ!!

حَيْثُ لَا يَنْفَعُ نُصْحِي

وَلَانَ القَلبُ لَا يَفْتَأُ أَنْ يَأْخُذَ دَومًا

قَلبَهُ المِسْكينَ مِنْ شَرٍّ لِشَرٍّ

***

طارق الحلفي

اسلبهم الجنة

واتفرد بنصف حقيقة

وسؤال..

يضعني رأسي خارج الصندوق

وقدماي بالكاد تطأ ارضهم..

لكني صرت اتفرد بنصف حقيقة

وألف سؤال..

نصف شبر بيني وبين الموت..

ونصف شبر بيني وبين الحياة..

نصف شبر ايضا بيني وبين الاله..

لم يكن في نيتي ان ابتعد حين

كنت اطارد الكتب

القديمة

في اروقة الزمن الغابر

وابحث فيها عن رؤاي..

لم اكن انا حين كنت ألمع

تماثيل الملح

حتى سالت بين يدي ..

ولم اكن انا حين تخلفت عني

الشمس..

صرت انا حين..

اخذت قطعة من الليل

لاسكن فيها

مع ذاتي..

ولم يكن في نيتي

ان ابتعد ..

اعدت ترتيب دهشتي

حسب المكان والزمان

وقلت :

ربما علي ان أعترف

ان الليل مخاض عسير

للنهار..

وأن الشمس التي

تكتب كل يوم اسمها

على ظلالي قد قطعت

أشعتها ورمت بها في البحر

حزنا على فوضاي..

ولن تعود حتى اخرج من كاهل الليل

اعدت الكتب على رفوفها

بكامل غبارها..

ولم يكن في نيتي

ان ابتعد ايضا

ولكن حتى نصف الحقيقة غادرني

حين شاهدني

اسير خلف الإله

من جديد..

وصدقا لم يكن في نيتي ان ابتعد..

كنت فقط

اريد ان اسأله

لم يبدو وجهك شاحبا..

***

بقلم: وفاء كريم

كلما تدلتْ خيوطُ الشمسِ

تعثرتُ بقماطِ طفلٍ

تزحلقتُ بدمِ ثائرٍ

*

كثيرونَ اصحابُ الانحناءِ

نطقهم لا يستحي

بواباتهم بلا مصراعٍ

*

للشطآنِ اشداقُ ضحكٍ

من يسبحُ للقيعانِ

محاراتٌ تصرخُ حزناً

*

سنابلنا تنبتُ بلا ماءٍ

الجبناءُ هنا

عارهم عريُ الارضِ

*

سارقُ العبراتِ والنظراتِ

يمتطي صوتَ البكاءِ

زاحفٌ لجهلِ الحكايا

*

وحيدٌ كالزئبقِ في مهارتهِ

يشتهي تغييرَ الوانهِ

محطاتهُ أثماناً بلا حدودٍ

*

لا أخاطبكَ عن اسراري

أخاطبُ الاملَ

أما تعودُ لذاتي

*

أحتضنتُ خرائطَ العمرِ

ليتني أبتلعُ مرافئها

لتذكرني بصدى أقمارِ بلادي

*

مَن لاتلسعهُ العقاربُ

لن يجدَ الهواجسَ

تحتفي بوهجِ العتقِ

*

طفلاً أتشردُ كالغبارِ

رضيعاً جفَ حليبُ أمهِ

ليلاً اطبقَ عليه الليلُ

*

في كورنيش المدينةِ

سرقتْ أسنانَ المنشارِ شجرةٌ اليوكالبتوس

أينَ تُكتبُ الذكرياتِ

*

لماركيزَ مئةُ عامٍ عزلةً للمعتزلةِ ستمائةُ عامٍ عزلةً

نحنُ في كهفنا بعزلةٍ لن تنتهيَ ابداً

*

المتصوفةُ ارضةُ العقلِ

الحلاجُ قضبانٌ ازليةٌ

قوافلُ التيهِ اغرقتنا بلجتها

*

يأسفُ الشمعُ لانطفائهِ

فتيلهُ نديمُ الخجلِ

دموعنا متلازمةٌ لا تنكفء

*

الصدورُ تسقطها قلاداتُ الوهمِ

زيفُ الاطراءِ يعبثُ بها

تتساقطُ ورقةُ خريفٍ تحتَ الاحذيةِ

***

عبدالامير العبادي

كجرس يرنّ دون انقطاع تسأل والدتها وتستعلم منها قائلة : هل كان أخي هكذا؟ وهل زواج الأقارب ينتج عنه أطفال متخلفين؟ ترد عليها الأم كيف ذلك وما الذي تعنيه بقولك! ماذا دهاك هل اصابك الجنون، وهل ستمضي حياتك بطولها تحت مطرقة هذا الهاجس اللعين. طفلك طبيعي هو خجول ليس اِلا، خوفك عليه هو ما زاد من عزلته ومن وضعه سوءاً.

تصمت محدثة نفسها: ربما والدتي على حقّ عليّ أن أتوقف عن هذا التفكير . ثم يبتسم ثغرها وهي تستذكر أشهر حملها الأولى ومدى سعادتها حين بدأ بطنها يكبر، بعد زواج متأخّر وعنوسة قضمت بعضاً من سني عمرها .طفلها نحيف ذو أطراف طويلة كالدمية الخشبية (بينوكيو) . وعيناه جميلتان بحدقة سوداء واسعة وابتسامة بريئة ساحرة، بلغ عامه الخامس ومازال منطويا على نفسه، متكورا كجنينٍ في بطن أمه،لا يتحدث الا ما ندر ولا يملك سوى التحديق حين يسلبه أحد الاطفال العابه وهو ينظر اليه عاجزا على أن يستجمع شجاعته في استردادها، أو معبراً عن اعتراضه ولو حتى بالصراخ ! كان هذا ما يزيد من قلق والديه وخصوصا الاب الذي كان يشعر بأن الامر يعنيه اكثر من زوجته، لذلك أخذ يفكر في أيجاد حل يخرج ولده من تلك الانطوائية والعزلة، فوجد ان الحل في الحاقه برياض الاطفال ممن هم تحت سن الست سنوات خصوصا وانه طفله الوحيد. تحدث الى زوجته قائلا لها : يجب أن نساعد طفلنا، كفي عن تعلقك المفرط به ! نظرت اليه واطرقت قائلة :نعم لابد من ذلك، تقبلت الامر على مضض محدثة نفسها لابأس بأن يكون بعيد عني لأربع او خمس ساعات يوميا طالما ذلك يجعله بحال أفضل . تحلّت بشجاعة زائفة، وفي اول يوم جهزت له حقيبته الصغيرة، واّلبسته الثياب التي يحبّ وكان معظمها يحمل صورة لشخصية (سبايدر مان)، فقد كان يمثل رمزية الرجل الخارق المُحببة لدى الاطفال وتحديداً الذكور منهم، كانت تسمعه وهو يتحدث معه همساً وحين يشعر انها تراقبه يتوقف فورا عن الكلام . وقبل ان يصعد الى باص الروضة قبلته وهي ترقيه بالأدعية وسور من القران الكريم وكأنها تزج به وسط معركة طاحنة، مضت عده أيام على ذهابه الى رياض الاطفال، لا شكوى تسمع ضده بل إشادة بهدوئه، الهدوء الذي كان يقُلق والده ويشعره بالاسى على طفله الخائب، لكن كان هناك ما أثار حفيظة والدته واستغرابها الا وهي حقيبته الصغيرة التي كان يعود بها حاملا داخلها تفاحة قضم منها قضمتين تركتا اّثار أسنانه اللبنية عليها وقد كساها اللون البني، بالإضافة الى قصاصه ورق زادت من حيرتها، اذ رسم عليها وجوه مستديرة غير واضحة المعالم سقط منها دمع غزير ملأ الورقة بعشرات النقاط . ذات يومٍ تأخر الطفل في العودة فهرعت والدته الى الروضة وهي في غايه القلق تبحث عنه ولم تجد سوى الحارس الذي كان يغط في نوم عميق في قيظ ظهيرة حارّة زادت من لهيب قلبها وقلقها على طفلها الصغير،ايقظه طرقُ الباب وصوت نداء الام الحارس وهي تتوسل إليه :أ فتح الباب بسرعة أين ولدي، نهض وهو يطّل براسه ويمد عنقه الطويل من خلف الباب قائلا : وقت الدوام قد انتهى وركب جميع الاطفال في الباص أتصلي بمعلمته لا علم لي بأي شئ ! اتصلت وهي تسأل عن طفلها الذي أختفى، وبعد السؤال والتأكد اتضح أنه لم يكن في الباص مع باقي الاطفال وانهم ربما نسوه داخل الروضة .فتح الحارس الباب سبقته الام تجري بهلع بالكاد تحملها قدماها تتفقد الصفوف خائفة متوجسة من ان تجد طفلها وقد ألم به شيء او أصابه مكروه، وكاد قلبها أن يتوقف بعد ان وجدته جالسا القرفصاء في أحد زوايا صفه واضعا كفيه الصغيرين على وجهه وهو يرتجف تحيط به بالونات ملونه تركت كما هي بعد ان غادر الجميع حملته متهمة ادارة الروضة بالإهمال والتقاعس، وكذلك كانت تلوم زوجها الذي اصر ان يزجّ بولده في هذا المكان الذي يفتقد العناية والاهتمام بالأطفال، بعد يومين من الحادثة اتصلت مديرة الروضة وقدمت اعتذارا بسبب تقصيرهم قاطعهً وعداً بأن لا يتكرر ما حدث ثانية، أعادت الأّم طفلها الى روضته بعد أن أطمأّنت انه سيكون بخير، مرّت عدّة ايام والطفل لم يبُد عليه اي تحسن ,.الانطواء نفسه والجلوس وحيدا وكذلك،الاطفال مازالوا يسلبونه العابه دون أي ردة فعل منه لكن فجأة حدث شئ غريب، حين علا صوت صراخ احد الاطفال، ركضت المعلمة نحو الصوت لتجد احد الأطفال يقف بالقرب منه لاصقاً جسده الصغير على الجدار ويصرخ بشكل هستيري، أمسكته وضمته بين ذراعيها , محاولة تهدئته قائله له : اخبرني ما الذي أصابك، أشار الى الطفل قائلّا لها : هو أخافني كثيرا ! أشار إليه وهو يفتح ذراعيه الصغيرتين على اخرهما، لقد أصبحت عيناه سوداوين كبيرتين كعيني جرذ وخرج منها ماء غزير أغرقني وبلّل ثيابي، لم تصدقه بل ضحكت في سرّها قائلة له : انت تبولت في سروالك سأسامحك هذه المرة لكن لو فعلتها ثانية سأخبر والدتك بذلك . لكن ذلك أخذ يتكرر كل يوم تقريبا يصُاب أحد الاولاد بالذعر بسببه ومعظمهم بدأ يخاف الاقتراب منه أو اللعب معه، بل وأصبحوا ينادونه بالوحش، ما كان من إدارة الروضة وخاصة بعد ان أن أبلغوا الأم بذلك معتذرين لها رافضين بقاء ابنها في روضتهم بعد ان سحب معظم الأهالي اطفالهم من الروضة بسبب وجوده، قائلين لها لقد أصبح طفلك عدوانيا مع اقرانه فهو يقوم بأشياء غريبة تثير الخوف فيهم، اصطحبت الام طفلها وقد لفها الحزن، وهي في حيرة شديدة من امرها ماذا ستقول لوالده؟ هل يعقل أن طفلها قد جُن وزادت حالته سوءاً، تعاطفت معه كما هي عادتها وفرط حنانها اتجاهه، ضمّته الى صدرها وهي تطبع قبلها الامومية على خده وعلى جبينه قائلة له : لن ادعك تذهب هناك ثانية يا صغيري ابقَ في حضن أّمّك سأشتري لك ألعابا كثيرة،رفع الطفل رأسه وهمس في أذنها بصوت بالكاد يُّسمع كمن يودّ أن يخبرها بسرّ قائلا لها : ماما لست أنا من أخاف الاطفال أنه صديقي سبايدر مان، فحين سمعني ابكي عندما اخذ الاطفال لعبتي حضر مسرعاً لمساعدتي، وهو أيضا من طلب مني في المرة السابقة أن ابقى في الصف كي نلعب سوياً! صمتت الامّ والدهشة تلفّها، وهي تنظر اليه متسائلة هل ما أسمعه وعاشه طفلي وهم؟ أم كابوس ليس هو بحقيقة ولا هو بخيال .

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء / العراق

تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ اقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل.

تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقف عند بعض الكلمات، يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدّث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردتهم منها العصابات الصهيونية المدجّجة بالسلاح، كم من مرة حكت له عن كفاحها مِن أجل أن تحافظ على ما تبقّى من الحياة.

يواصل القراءة، كم هو مُعجب بما يقرؤه. يشعر بقدمّي أمه تدُبّان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها. تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنوّ لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي.. لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.

يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسدّ الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد واخذوا معها راحة البال، لم يخلفوا وراءهم سوى الشقاء.

الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كلّ مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته.. هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.

يواصل القراءة. تهلّ تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدُبّ في ساحة البيت، تدنو منه مرةً أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كلّه؟ أريد أن أكون كاتبا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول.. ستكتب القصص؟

عام 1968

يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًّا ما يقوله الآخرون، المُهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكّن مِن الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المُتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون مِن أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له إنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مُهجّر ابن مهجر؟

ظلّ يفكّر إلى أن توصّل إلى تحدٍّ ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلًا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).

طوى القصة عدة طيات.. وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.

في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدّسة، ليُفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.

اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه تُرسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قُبالة المسكوبية؟ كلّا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي.. أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعمّا ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا.. افهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبّلين مزمر"، سأزمّر يا أمي سأزمّر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.

عام2006

تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمّن يقرأ لهم الكتب.

تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًّا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يُخبّئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا.. لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعّن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثّة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها.. أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن مَن يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء.. يشرح ويشرح ويشرح.. إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها.. لا افهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا أكتب، إلا أنني أفهم أن الواحد منّا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم. لا أفهم عليك يا ولدي، ما أفهمه أنك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟.. أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر.. يمكّنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن أبحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حُلمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

عام 1963

طوال الطريق نحو الشقة كنت أشعر بغثيان يلف رأسي وأحشائي. أحسست بخدر ودوار يجعلان جسدي يرتخي، فيسندني مرافقي لبعض الوقت. وأخيراً شعرت أن ساقي ما عادت تساعدني على المسير، فاضطر مرافقي لرفعي، وحين وصلنا الشقة وضعني على السرير وجلس جواري، فدفنت رأسي بالوسادة وبدأت أبكي بحرقة.

***

شحيح الضوء يتسرب من بين فتحة الستارة، والمساء الثقيل قد ابتعد وأنا ما استيقظت طيلة الوقت. رفعت رأسي ونظرت حولي. كانت هناك جالسة تطالع سقف الغرفة دون أن تنتبه لي. حيّيتها تحية الصباح فلم تجبني. ناديتها فلم أسمع سوى صوتي. كانت أمي هناك تجلس فوق كرسي قريباً من باب المطبخ. سمعتها تدندن، ربما كانت تحدث أحداً ما في المطبخ. من يكون ؟ هل هي راشما أم مرافقي؟ ولكن لم تتغاض أمي عن ندائي. ما الذي يجعلها تهملني بهذا الشكل!

ـ أمي..أتسمعينني..اليوم قررت الذهاب إلى يوتوبوري للحصول على الجائزة..أتودين مرافقتي..أجيبيني لا تجعلي الصمت يزيد من ألمي.أمّاه سوف ترافقينني أليس كذلك..إني أخاف هذا البولوني...سوف يقتلني إن عرف بالأمر.

دخلت المطبخ دون أن تلتفت نحوي. أهملت وجودي كلياً. لم ألمح سوى ثوبها الكالح الذي مازال يظهر جوار حافـّة باب المطبخ. سمعت صوت راشما وكان همساً خفيفاً وهي تكلم أمي.  حركت جسدي فكان ثقيلاً مثل الصخر، وازداد ارتعاش أطرافي ولكني استطعت في النهاية أن أحركه وأرفعه، ثم هبّطت من السرير وطالعت ساعة الجدار التي كانت دقاتها الرتيبة تملأ الغرفة وصوتها ينخر رأسي الذي لفـّه دوار غريب. الساعة تشير إلى السادسة صباحاً. تقدّمت نحو المطبخ فلم أجد أحداً هناك. أين ذهبوا ؟ ما عاد ذهني المشوش يحتمل كل هذا. أشياء غريبة تحدث. لِمَ يتركوني وحدي ؟ ولكنـّي لست بحاجة لمساعدة أحد. أنا قادر على إنجاز كل شيء. ما الذي يفعلونه الساعة. ألم يعدوني بالمجيء ؟ مشقة السفر لن أتحملها وحيداً. لترافقني أمي وسوف أحكي لها ما يعذبني. ما من أحدٍ سواها يعرف ما ينتابني من تعب وألم.

***

الصباح البارد يجعل الجسد ثقيلاً متكاسلاً. لملمت بعض قطع الملابس التي أحتاجها في سفري، ودسستها دون عناية في حقيبتي الصغيرة، وسرت باتجاه موقف حافلات النقل التي توصلني إلى محطة القطارات المركزية. كنت أشعر بالوحدة والخوف، فربما لا أستطيع تحمّل مشاق السفر، فيا ترى من سوف يساعدني إن شعرت بالإرهاق، وانتابتني أعراض المرض. مثلما قال بيتر الفنلندي فالموت يلاحق رابحي الجوائز، وشركات اليانصيب تنتظر ذلك ودائماً هي من يربح الرهان. أتراني أستطيع أن أغلبهم في هذا الرهان ؟  الموت، أيّ معنى سخيف وأية نهاية لا تقبل المساومات. أتراني أقع صريعاً قبل أن أتسلم الجائزة؟

الشوارع مزدحمة، وحركة سير الحافلة بطئ جداً. تلمست الحافظة للتأكد من وجود ورقة اليانصيب ونظرت نحو الأفق المترامي لفسحة الوادي المخضرّ الذي يمتد مجاوراً الشارع. هذا اليوم يتوقف عليه الكثير من مستقبلي، وتلك الورقة هي التي ستكون مصيري الجديد أو منقذي الذي بحثت عنه كثيراً.

قطعت تذكرة السفر واتجهت صوب الرصيف رقم سبعة عشر، حسب ما نبهني له قاطع التذاكر بعدما لاحظ ارتباكي وارتعاش يدي، وسألني إن كنت أحتاج لمساعدة فهناك في المحطة من يستطيع تقديم العون للذين يحتاجونه. شكرته وتقدمت أخط بقدمي فوق أرض الرصيف.

كانت حركة القطارات تملأ المحطة بضجيج طاغ، وصوت أزيز العربات المسرعة يرتطم برأسي فأشعر بثقل غريب ينتاب جسدي. القطارات تنطلق مثل البرق مخترقة المكان، قادمة أو عائدة من جهة ما، بعضها لا يتوقف عند المحطة وإنما يندفع شاقاً فضاءها مثل سهم حاد محركاً الهواء بحدة تشعرني بالخوف، وتنتاب جسدي قشعريرة باردة. جلست فوق الكرسي جوار الباب ورحت أطالع تقاطع سكك الحديد. وبين لحظة وأخرى كان هناك قطار يخترق المكان بسرعة هائلة. أشعر الآن أن قرار سفري وحيداً جاء متسرعاً، وأني اتخذت هذه الخطوة دون دراية بمخاطر وضعي الصحي. وحتماً  إن طول المسافة سوف يرهقني، ولكني أشعر بأن هدفي يستحق العناء. أردت أيضاً  أن أحافظ على سرّ ورقة اليانصيب، أن أتفرد بها، أن لا يعلم بها ذلك الوحش أو غيره.

لحد الآن لم أشاهد من السويد غير مدينة ستوكهولم، وحتى في هذا الأمر فإن لي حدوداً  لم أكن لأبرحها. لا أعرف من ستوكهولم غير بضع مناطق، وهذا الشيء يزيد من قلقي وخوفي. قاطع التذاكر أخبرني حين سألته، أنّه يكفيني أخذ سيارة أجرة حال وصولي محطة القطارات في مدينة يتوبوري، وسوف يتكفل السائق بإيصالي إلى بناية التلفزيون. سوف أحاول النوم أثناء الرحلة، فأنا لم أستطع النوم وبقيت أتخبط، ينتابني الفزع والقلق طوال الليل.

كان الزحام في المحطة على أشده وكنت أطالع الوجوه بريبة ووجل. وسيل البشر أمامي يبعث في نفسي خوفاً شديداً. فجأة اقترب مني فتى طويل أشقر، أشعث الشعر بجبهة ناتئة وعينين صغيرتين، ودون مقدمات جلس جواري ووضع رأسه فوق كتفي وهمهم بصوت مبحوح أن أعطيه بعجالة سيجارة أو قطعة نقود. دفعت رأسه وأخرجت علبة السجائر وناولته واحدة. دفعني من كتفي بقوة حين همّ بالوقوف. بعدها انحنى نحوي ووجّه لي التحية وأطلق ضحكة مدوّية أرتجف لها قلبي، ثم مد يده المتسخة فارجاً ما بين الأصابع ووجّهها نحو وجهي مباشرة وصاح بسويدية ركيكة.

ـ لن أقول لك ما سوف أفعله أو ما لا أفعله، فأنت مثلهم..لن أقول ما سوف أقوم به حتى لو حاولت قتلي أيها السويدي القذر...أيها الغبي.

فجأة بدأ ينتحب، ثم راح يدير رأسه بشدة يمنة وشمالاً، وذهب مسرعاً نحو باب الصالة الداخلية. شعرت بقشعريرة برد وبدأ العرق يغرق جبهتي وبدأت أحس بالاختناق. انتابتني حالة من الكمد والوحشة، وكأن كل شيء حولي مسكون بالأرواح. هزتني رجفة وشعرت بوهن شديد وبدأت أصابع يدي لا تقوى أمساك السيجارة. صمت ضجيج الناس، وبدت الساحة أمامي فارغة تماماً. تقاطع السكك الحديد أخذ يتشابك ويتلوّى بحدّة وثمة صوت صفير يأتي من بعيد. راح الصمت يكبر ويتـّسع، وصوت الصفير ينفرد ليخترق فضاء السكون. بدأت سكك الحديد تتلـّوى أمامي مثل أفاع تتراقص كأنها في حمى سراب هلامي غطى كل شيء. انكشفت أمامي تلال ترابية يغطيها السبخ وعوسجات تتناثر بين طيات الكثبان وثمة يد مغطاة بالدم خارجة من حفرة قريبة تلوح في الفضاء. اقتربت أمي من الحفرة وكانت تنظر نحوي بعينين متسعتين. مدت يدها وسحبت اليد من الحفرة. أخرجته، كانت بدلته مطلية بلون دم قان متيبّس. شدته أمي إليها وضمته لصدرها. كانت تنتحب، سمعت صوت نحيبها، أمال الجسد رأسه نحو صدرها ونظر اتجاهي بابتسامة شاحبة، ولوّح بيده مرة أخرى وكانت عيناه تتوسلانني. صوت الصفير يشتد ويقترب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة أن ابتعدوا عن المكان كي لا يدهسكم القطار. تقدمت أمي ساحبة معها العسكري الجريح نحو تشابك سكك القطارات. سحبته وهي تحتضنه بحنوّ. صرخت ..توسلتها أن تبتعد. كان ثغرها ينفرج عن ابتسامة رضيّة. وكنت أصرخ وأحس أن صوتي يُكتم في جوفي ويختنق بحشرجة موجعة. نزلت عن الرصيف وتقدمت نحو سكة القطار. سمعت ورائي صراخاً وضجيجاً. التفتّ فكانت هناك وجوه فزعة وعيون ناطة وأفواه فاغرة وأياد تشير نحوي. نظرت نحو القطار القادم بسرعته الجنونية ثم اقتربت من أمي. اقتربت منهما ..اقتربت وأخذت يدها، ضممتها إلى صدري وأجهشت بالبكاء. كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيَّ. لقد أصغيت له جيداً.شعرت ببرد قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة تبرق من خلالها ألوان تومض. اختلطت الألوان وثمة ضباب كثيف يغطي المكان. بدأ جسدي يرتجف وغطّتني غمامة سوداء.. صوت هدير قوي.. القطار يقترب..كان يقترب.. صوت ضجيج يملأ الكون.. يحتدّ.. ثم راح الهدير يكتسح كل شيء .

***

فرات المحسن

..........................

قصة (تلك الأيام المضنية) أو بطاقة اليانصيب. واحدة من مجموعة قصص تبحث فيما تبقى من وجع ولوثات عافتها الحروب في النفس البشرية، وبالذات عند أبناء الشعب العراقي الذين نخرت أرواحهم حروب عديدة أشدها إيذاء كانتا حربي الخليج الأولى والثانية، وهما حروب صدام. في تلك الحربين ذهب أكثر من مليون شهيد وتعوق الآلاف وترملت النساء ويتم الأطفال. وهناك من خرج منها مكبل بالوجع بعد أن حزت الحرب بمشرطها روحه وبات يلوك وجعها في ساعات يومه، في صحوه ومنامه، لوثة تغلف كيانه تتلبسه مثل شياطين، فلا يعرف كيف يهرب منها.عندها يثار السؤال الضاج أبدا.  من يسمل عين الحرب؟

زَائِري عَلى البَابِ يَقرَعْ

هُو كلّ ما بقيَ داخلي

خريف طَويل

غَلالة سِحر

تَسْبقُ المَطر

دَعِ الأوراقَ

تسْقُطُ

وتفْتَرشُ الأرضَ

كسجّادة أعجمّية

إنّه الإنعِتاق

مِن غُصنٍ مَازال قاسِياً

عَادت ألحان الهُطول

تَسْكب

رَذاذاً

عَلاَ

إيِقاع مَطر

الخَريفْ

فَتصَاعَدت

أَبخِرة أَعمِدة

مِن دُخان

مُعطرة بالمُّرِّ واللّبَان

وأَنفاس بَيلسان

سَوسنَة عَانَقتْ وَردة

مُحاطة بالأَشوَاك

زائري على الباب يقرع

هتَفت نَفسي لهُ طرباً

مَن هُناك؟

إِنّهُ خَافقي

مؤْنِسِي

مُهِرَ باسمي

أصْبح لي وَطناً

زائري الذي أَعشَق

على الباب يَقرع

أَيّتُها الأرض

التي تَحمِل ظِلّه

كوني لَه مُبارِكة

برفِّوفٍ مِنْ

طُيورِ السُّمّانْ

رَغَدٌ

وَسلام

دِفْقُ احتضان

وحَصَاد يوُسف

زائري ومن أَعْشَق

على الباب يقرع

***

راغدة السمان

تَنْأى بِيَ الذكرى وشـوقــي غامِـرُ

وبَريقُ حَرْفك فـــي الجّوَى يَتَسامَر

*

ورَفيفُ أَجنحةِ القريضِ لـه صَدَىً

فــــي الليل يسْرقُ غَفْوَتي ويُساهِر

*

وأَبُثُّ مِــــنْ شـوقي ، بـقافيـــةٍ إذا

عَـزَّ اللقاءُ ، مـــــع النسيــمِ تُسـافِرُ

*

أفَـكُـلما وَسَـــــنٌ يُـغازِلُ مُـقْـلتــــي

تَـغْـزوهُ نَسْـمَـــةُ يــَقـظـــةٍ فيُـغـادِرُ

*

وإذا رَقَـدْتُ فَمــِنْ مَحاسِن رقْدَتـــي

حُلُمٌ بــــه وَزْنُ القصيـــــدةِ  عـامِـرُ

*

وإذا ارتَقى المضمونُ صَوْبَ عَلائه

يحلــو النـشيــــدُ بـوَقْـعِـــهِ ويُــجاهِرُ

*

ينسابُ مـــــِن رَوْضِ البراعَة بُرْعُمٌ

أحْـلـــــى صـفاتٍ فيــــــه انـه زاهـِرُ

*

فإذا البـيانُ مـــــــع البـديـــــع تواجَدا

فَـلِـــرِحْلَةِ النـظـم البَـليـــــغِ تـَواتـــــرُ

*

ولِصورة الوصفِ الأنيـــــــــقِ مَعالمٌ

تـبدو اذا أذِنَـتْ لـــــذاك مَشــــــــاعِـرُ

*

إنَّ التَـفـنـنَ فــــــــي الكــلام مواهبٌ

يســـمو بها مـــَنْ في التجارب ناظِرُ

*

يبقــــى رَصيـــدُ المفرداتِ مُوافيــــا

للإنتـقاءِ ولـــــــــونُ حـَرْفِــــه ناضِرُ

*

إشراقـةُ المعنـــــــى دَليــــــلُ تَبَصُّـرٍ

ورشاقـــــــةُ الألفـــــاظِ حَـرفٌ قادِرُ

*

أوْسِـــــعْ خيالاً فــــــــي رُؤاكَ تألُّقاً

فالشِـــــعـرُ دون تخَـيـّــلٍ يــتـناثــــرُ

*

وإذا شَمَمْتَ العِطرَ فـــــــــي أرْدانهِ

وعَلاكَ ضوْءٌ فـــــــي القوافي سائرُ

*

إعزفْ لــــــه لحْـــــنَ التـفوّقِ منشدا

واسْتوْحـــــــي ما يَعلو بــه ويُـفاخِرُ

*

إنّ التبحُّرَ فــــــــــي جمالِ بُحُورِها

خَـلْـقٌ لإبـداعٍ .. لـديـــــــــه بــوادِرُ

*

وإذا عَـــــلا الأغصانَ طائرُها شدا

دُرَرا بـــــــها عَبـَقُ البـلاغةِ زاخـرُ

*

تُهدَى لمـــــــن يبغي المعاليَ منهجا

فيـــــــــه الشهامةُ والإبـاءُ ســرائـرُ

***

(من الكامل )

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

كُــنْ  ثــابتاً مِــثلَ الجبالِ رسوخا

جــارِ الــنخيلَ تــحدِّياً وشــموخا

*

قــد  يــرتضي بعضُ الرجالِ مذلّةً

أمَّــا  الأبـيُّ فلا يَـطِيقُ  رُضُـوخاً

*

تــأبى  الــصقورُ بأنْ تُدَانِي جيفةً

أو أنْ تُــنــافسَ عَــقعَقاً وفــروخا

*

لا يــخضعُ الأسدُ الهصورُ لوَبْرَةٍ

أو أنْ يهابَ مدى الزمانِ مسوخا

*

شــتّانَ  مــا بــينَ الــثُّرَيَّا والثرى

مَــنْ رامَ عِـــزّاً أو يــرومُ الكوخا

*

يَمْضي إلى الأنذالِ يطلبُ رِفْدَهمْ

دومــاً يُــصَفِّقُ أو يُــمَسِّحُ جُوخا

*

إنَّ الــخُنُوعَ لدى الخِساسِ سجيّةٌ

فُــطِــرُوا عــليها فِــتْيةً وشــيوخا

*

فاخترْ لنفسِكَ أينَ أنتَ مِنَ الورى

إمَّــا كــجِذْعٍ أو فــكنْ شُــمْرُوخا

***

عــبد الــناصر عــليوي العبيدي

كنت دائمًا أبرحُ وحيدًا بين طيّات الموائد، أنظر إلى الأشياء بزرقة العين، تفاوض مع الذات في سبيل المعرفة التي ضاع وقتها في زمن الصبا. بعد قليل من الوعي، ازدادت حيرتي بين الماضي القديم والحاضر الذي أشاهده كلّ يوم، مخالب عقلي تنتفض في عصف مأكول محاولًا القدرة على التنبؤ العظيم بعيدًا عن "نوستراداموس"، لكن طاقة الوصول تقول: لا يأس.

العجلات ما زالت تدور، أيّها الذات، رجوتك أن تبحثي مرة أخرى في غير ضياع، من هو أنا؟، عليك أن تحلم كثيًرا حتى يمضي الوقت الذي قُدّر لك، أقفلت الكتاب، لكن قبل الإغلاق وقعت على تلك المفردة التي قالت: أنت جميل. مضت العين والقلب والوجه أبعد ما يكون محاطًا بانفراد، مضيت أقرأ ما تبقّى، أكملت الجملة المتمرّدة على السطر، أنت جميل لقد رأيتك فوق الشجرة تقرأ كتابًا، غرور بدأ ينبض في داخلي، بدأ السؤال: من هو الجميل؟ أنا أم شخص آخر؟

مضيت في القراءة، ربما أجد العلّة والمعلول، الخيبة تزامنت مع الفرحة، لا شيء بعد، إنه السطر الأخير من النبأ العظيم، إذًا إنها لي، لا بل لي. فتحت المذياع على القناة المفضّلة، الموسيقى السريالية لـ أرنولد شونبرغ، تصرفت كأنّها في علم بفرحتي، وصل إلى السامعين خبر فرحتي، جاؤوا يطرقون الباب فرحًا، الباب كان مواربًا، ثلة منهم يتفقّدون المكان. وصلت إحداهما تزغرد وفي عينيها فرح وهي تقول: سوف يضمّني وأضمّه، انظروا، سوف يقبّلني وأقبّله، لا حاجة للندم بعد الآن.

تذكرت المتنبي حين قال: انثنيت ولي فؤادٌ شيّق.

وقفوا ينظرون بحرية الجمال، حتى وقعت بين يدي كأنّها وردة ذابلة في انحناءتها العاشقة، سمعتها تنادي بعضها: لا تتوقف، قالت والجمع يصفّق: أنت جميل، رأيتك فوق الشجرة تقرأ كتابي. ابتسمت ثم ضحكت بوثبة واحدة، قلتُ: أنت روايتي القادمة. نظرت إلى الورقة كي أقرأ، كانت الأحرف ممحوّة، بدأ المذياع يثير الضجيج، أطفأت النور وقلت: لا طعم للحياة بدون امرأة.

***

فؤاد الجشي

لِسُعْدى لم تَلِدْ إلّا السُرورا

أزُفُّ الشِعْرَ تاجاً والشُعورا

*

قلائِدَ سُؤْدَدٍ وَ فُصوصَ تِبْرٍ

لِخيرِ عرائِسِ الدُنْيا مُهورا

*

وَحُسنى غَرّدتْ خمسينَ حَوْلاً

فَهَلْ نَطَقَتْ مَعازِفُها كُدورا ؟

*

متى شَغَرَ الزَمانُ مِنَ المعالي

سَدَدْنا في مَحاسِنِها الشُغورا

*

أنا بَدَوِيُّها قد جِئْتُ أحْدو

وأنْحَرُ قُرْبَ جَوْسَقِها الجَزورا

*

فَمَهْما زادَني التَغْريبُ بُعْداً

وَهَدّمْتُ الأواصِرَ والجُسورا

*

سَيَبْقَ القلبُ مسْحوراً بِسُعْدى

وَسُعْدى تعْشَقِ القلبَ الغَيورا

*

شَقائِقُها تُغازِلُني نَهاراً

فَأنْسَغُ من ندى روحي الجُذورا

*

الى السَرّاءِ لا الضرّاءِ شَدْوي

وَنَفْخي في رُفاتِ المَجْدِ صورا

*

وَخُبزي من بيادِرِها لُحونٌ

متى زِيدَتْ تنانيري سُجورا

*

سنابُلُ حَقْلِنا كَمَنتْ عِجافاً

وَلَمْ تَلْقُطْ هَداهِدُهُ البُذورا

*

الى سَرّاءِنا أسْرى بِقلْبي

بُراقُ قَريحَةٍ سَكِرَتْ غُرورا

*

بِأَنْبِذَةِ القوافي ثمّ طارتْ

بِأجْنِحةٍ تأبّطَتِ الكُسورا

*

فَيا ريمَ الجَزيرَةِ والبَوادي

شَمَمْنا المِسْكَ عِنْدَكِ والعُطوراً

*

بِجَوْسَقِ عاشِقٍ كُنْتِ الثُرَيّا

إليكِ أيائِلي حَمَلتْ نُذورا

*

مَزاميرُ الأوائِلِ أمْ صَداها ؟

دَعَتني في الكَرى حتى أزورا

*

فَراديسَ الأُلى غابوا وَلَمّا

يخاصمْ جَمْرَ ذاكِرتي الفُتورا

*

مزاميري لها آياتُ شِعْري

فَدَعْ داوودَ جَنْباً والزَبورا

*

سَنادِسُها تُراوِدُني وأخشى

على أهدابِ سُنْدُسِها المُرورا

*

بِأجْنِحةِ الخسائِرِ هَمَّ قلبي

الى أبهى مَياسِمِها العُبورا

*

أَ يَلّاءَ البَصيرَةِ أَلْهِميني

كفاكِ العُمْرَ صَدّاً أو نُفورا

*

رُويْدَكِ إن تَمَنّعتِ القوافي

وَ ضاهَتْ في تَمَنُّعِها الصُقورا

*

حَناناً مِنْ لَدُنْكِ وَ ظِلَّ ذكرى

لَعَلّي أتّقي فيها الحَرورا

*

أتَيْتُكِ سابِراً أسرارَ جيلٍ

وَلَسْتُ بِنابِشٍ فيكِ القُبورا

*

فَهاتي جَمْرَ ياقوتِ القُدامى

فَحاضِرُنا يرى ماضيهِ زورا

*

وَ صُبّي هالَةَ الأسْلافِ كأسًا

لِأسْكَرَ في سُلافَتِها فَخورا

*

كَدِرْويشٍ تَواجَدَ في حِماها

وَحَوْلَ السورِ آثَرَ أنْ يَدورا

*

يَذُرُّ رَمادَها بينَ الأثافي

وَيَسْأَلُها القِيامَةَ والنُشورا

*

رأى العَنْقاءَ يَعْلوها رَمادٌ

وَسيْفُ هِرَقْلَ قد بَلَغَ النُحورا

*

وَميضٌ للجَواشِنِ في دِمائي

ترائى طيْفُها شَرِساً جَسورا

*

على أبوابِ قَلْعَتِها حِصاني

يُعاني دُونَ صَهْوَتِهِ الضُمورا

*

تَرَنّحَ في جَواسِقِها حَسيراً

يُديرُ الطَرْفَ مُحْتَسِباً صَبورا

*

فَيا مَنْ سُرَّ قَلْباً مَنْ رآها

أوانَ الضوءِ نادَمَها عُصورا

*

غَداةَ الجَمْرِ في شَبَقِ المَرايا

أحالَ البِرْكَةَ الحَسْناءَ نورا

*

وَناراً في قَياثيرِ الغَواني

بها أشْعَلْنَ بالرقْصِ الخُدورا

*

أباريقُ الكَواعِبِ أَمْ بُروقٌ

بِآناءِ الرُخامِ بَنَتْ قُصورا ؟

*

جَلابيبُ الدُجى شابَتْ ضِياءً

وَتِلْكَ سماؤها إنْفَجَرَتْ بُدورا

*

وَكَم هَتَكتْ فراقِدُها حِجاباً

ورغمَ الليلِ أعْلَنَتِ السُفورا

*

مَعاً صَدَحَتْ كَمَنْجاتُ الصَبايا

وَرَقّصْنَ المناكِبَ والخُصورا

*

كُرومُ البُحْتُرِيِّ بَكَتْ نبيذاً

كما سالتْ قَوافيهِ خُمورا

*

فَهلْ ظَنَّ البُحيْرَةَ غيرَ بَحْرٍ

يُفَجِّرُ في قريحَتهِ البُحورا ؟

*

كَغوّاصٍ مَحارَتُهُ أباحَتْ

لَآلِئها وَحَرّمَتِ القُشورا

*

رأى تيكَ الأنامِلَ ناقِراتٍ

نَواقيسَ الهَوى فَسَقى الطيورا

*

على أشْفارِ بِرْكَتِهِ قِيانٌ

كَأنَّ العِينَ قد راقَصْنَ حورا

*

مَزَجْنَ الماءَ سِحْراً كوثرِيّاً

فَمُذْ لامَسْنَهُ أمسى طَهورا

*

وَديكُ الفجْرِ أذّنَ فإسْتَفاقتْ

ذُرى مَلْويّةٍ فاضتْ حُبورا

*

يَهُزُّ سماءَها العُلْيا لِيَرْقى

نِداءُ الحقِّ والتقوى جَهورا

*

هُنا، مُتَوّكِّلاً، ألْقى عَصاهُ

فَلوْلَبَتِ الحِجازَةَ والصُخورا

*

مَضى حَلَزونُها يَلْتَفُّ لَيَّاً

يُناهِدُ في أعاليها النُسورا

*

كَلِبْلابٍ تَسَلّقَ ذاتَ فَجْرٍ

سماءَ اللهِ مُبْتَهِلاً شَكورا

*

وَحَلّقَ فَوْقَ مَسْجِدِها لِتَزهو

كُوى أبراجِها وَتُنيرَ سورا

*

تَسَلّقها فؤادي في خُشوعٍ

وَأوْقَدَ عِنْدَ (جاوَنِها) البُخورا

*

أبا تَمّامَ لا أنْباءَ عِنْدي

سِوى نَبَأٍ به أرثي الدُهورا

*

زماني عاقِرٌ لا بَلْ عَقيمٌ

وذئبُ الرومِ قد أضحى عَقورا

*

وَمُعْتَصِمُ الوَغى أمسى أصَمّاً

فما لَبّى لِصَرْخَتِها حُضورا.

*

أَفي أُذُنيْهِ وَقْرٌ أم تُراها

صِباءُ الخيْلِ طَلّقْنَ الظُهورا.

*

غَدَتْ (لبّيكِ ياأختاهُ) وَهْماً

نعاقِرُهُ لكي نُشفي الصدورا

*

صفائحُ جيشِهِ لمعتْ بياضًا

كما إسْودّت صحائفُنا سُطورا

*

شُراةُ الهاشِميّةِ حينَ قِيدَتْ

شرارتُها كَوَتْ أسَداً هَصورا

*

ألا (لَبّيكِ) وإنْطَلَقَتْ سَرايا

وعانقتِ الأسيرةَ والثُغورا

*

صُراخُ اليعْرُبيّةِ كان يومًا

يُصدّعُ في ظُلامتِهِ الشُرورا.

*

أبا تمّام لم نشهدْ خَميساً

يصدُّ الويلَ عنّا والثُبورا

*

فَناطورُ الديارِ بَدا عُتِلّاً

أزاحَ العدلَ وإمْتَشقَ الفُجورا

*

زماني لا زمانُكَ ياصديقي

يُصيّرُ لِصّهُ شيخاً وَقورا

*

دَمي الثَرْثارُ حَمّلَني رَجاءً

الى (ثَرْثارِها) حتى يثورا

*

على نَهَمِ الكَواسِجِ والسَعالي

ويستبقي الخزامى والزهورا

***

مصطفى علي

أَيَا حُبَّ عَلْيَا يَا جَمِيلَ الْمَحَامِدِ

شَغَلْتَ فُؤَادِي بِالصِّفَاتِ الْفَرَائِدِ

*

عَهِدْتُكَ حُبًّا مُسْعِداً وَمُبَشِّراً

عَرَفْتُكَ حُبًّا ثَابِتاً فِي الْعَقَائِدِ

*

وَجَدْتُكَ أَحْلاَمِي وَحَقْلَ مَشَاغِلِي

رَأَيْتُكَ مَرْفُوعاً عَلَى كُلِّ حَاقِدِ

*

تَخَافُ الضَّنَى تَهْوَى الْوِصَالَ لِبَسْمَتِي

تُحِبُّ الْهَوَى عِشْقاً لِعَذْرَاءَ نَاهِدِ

*

تُؤَمِّلُ حُبًّا صَادِقاً مُتَمَكِّناً

يَنَالُ الْمُنَى يَسْعَى لِدَفْعِ الْمَكَائِدِ

*

وَخِلْتُكَ صَبَّاراً عَلَى كُلِّ حَادِثٍ

أَلِيمٍ يَهُزُّ النَّفْسَ صَعْبِ الْجَلاَمِدِ

*

وَبِتُّ عَلَى شَوْقٍ يُعِيدُ تَفَاؤُلِي

وَجِئْتِ أَيَا عَلْيَا بِأَشْهَى الْمَوَارِدِ

**

ضَحِكْتِ بِوَجْهٍ بَاسِمٍ مِثْلَ الضُّحَى

يُنِيرُ الدُّجَى يَمْحُو عَظِيمَ الشَّدَائِدِ

*

وَقُلْتِ: "حَبِيبِي مَرْحَباً" بِبَشَاشَةٍ

فَأَضْحَى فُؤَادِي فِي الْهَوَى غَيْرَ صَامِدِ

*

وَنَادَيْتِ بِاسْمِي فَانْتَعَشْتُ وَبَانَ لِي

مِنَ الْحُبِّ يَا عَلْيَاءُ أَقْوَى الشَّوَاهِدِ

*

وَعُدْتُ إِلَى بَيْتِي سَعِيداً بِلَيْلَتِي

أُؤَمِّلُ سَعْداً بِاتِّفَاقِ مُوَاعِدِ

**

سَهِرْتُ أَيَا عَلْيَا بِنَشْوَةِ هَائِمٍ

أُنَاجِيكِ عَلْيَائِي بِأَحْلَى الْقَصَائِدِ

*

أَنَامُ فَيَأْتِي طَيْفُكِ الْغَالِي.. عُلاَ

لِكَيْ يُوقِظَ الْأَجْفَانَ مِنْ كُلِّ هَاجِدِ

*

وَأَلْمَحُ عَلْيَاءَ الْحَبِيبَةَ بَغْتَةً

تُمَثِّلُ لِي أَحْلَى الْحِسَانِ الْخَرَائِدِ

*

أُقَبِّلُ فَاهَا يَا لَذِيذَ سَعَادَتِي

مَعَ الْحُبِّ فِي أَوْجٍ مِنَ الْحُسْنِ صَاعِدِ

***

أَضُمُّكِ .. عَلْيَائِي بِقَلْبٍ مُعَذَّبٍ

وَأَخْشَى رَصَاصاً مِنْ عُيُونِ الْحَوَاسِدِ

*

نَعِيشُ هَنَاءً مُسْعِداً فِي حُبِّنَا

وَيَرْفَعُنَا رَفْعَ الصَّفِيِّ الْمُسَانِدِ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

وقف الطفل أمام أقفاص العصافير وبدأ يتفرج عليها ويتابع حركاتها، ويلاعبها بأصابعه الصغيرة، مستمتعا بزقزقاتها وألوانها الجميلة، فيما كان والده منشغلا بمساومة صاحب المحل على ثمن  بعض العصافير وقطة صغيرة رمادية اللون عيونها مازالت مغمضة، وكان مواؤها أشبه بالأنين مما دفعه لإنقاذها من القفص...كانت عادته كلما زار السوق الكبير للمدينة من أجل شراء مؤونة البيت، أن يمر على بائعي الطيور والحيوانات الأليفة فيشتري بعضها ويطلق سراحها بسعادة غامرة.. الطفل وهو يلاعب العصافير المختلفة أشكالها وألوانها طلب من والده أن يشتري له قفصا به عصفور الحسون، وعندما صار القفص بين يديه رفض أن يطلق سراح العصفور كما طلب منه والده، وعلا صوته في السوق بالبكاء والصراخ والاحتجاج حتى اجتمع عليهم كل المتسوقين لاستطلاع الأمر وانقسموا بعد أن علموا بالموضوع إلى فريقين، فريق مع فكرة الوالد وفريق مع براءة الطفل وتربية العصافير، ورضخ والد الطفل في النهاية للأمر الواقع بعد أن خطرت بباله حيلة ترضيه وترضي طفله، فأدى ثمن القفص والعصفور وأخذ بيد ابنه وقصد حديقة غناء بجانب السوق أشجارها وارفة... عندما جلسا على كرسي طويل من كراسيها الخشبية المتناثرة في أرجائها وهدأ بال الطفل بدأ يحكي له قصته مع العصافير قائلا  :"كنت طفلا مثلك يا بني وكان حبي للعصافير والفراشات  مثل حبك هذا أو أكثر، كنت أول من ينهض من أسرتي ساعة آذان الفجر حتى ولو كان الجو ممطرا...بعد الصلاة وطلوع النهار أحمل قفصي وبه عصفور الحسون وأخرج قاصدا البساتين والحقول المخضرة والأشجار المثمرة المجاورة لحيينا حيث تتدفق  مياه النهر مضمخة برائحة البرتقال، كنت أعود إلى البيت بعد آذان الظهر سعيدا بما اصطدت من العصافير خاصة أيام فصل الصيف حيث يكثر صغار الحسون، كنت أبيع جلهم لأصحاب محلات بيع العصافير وأحواض الأسماك واحتفظ  بأجملهم وأعذبهم صوتا من أجل تربيتهم وتعليمهم أصول التغريد ...لكن عندما كبرت قليلا وبدأت أعشق قراءة القصص والروايات إلى جانب تربية الطيور والحمائم، سقطت بين يدي من حيث لا أعرف رواية أيام من حياتي لزينب الغزالي وبعدها رواية شرق المتوسط لعبدالرحمن منيف...فالعريس لصلاح الوديع.. وخلف  القضبان... والفراشة لهنري شاريير.. فبدأت يا بني أطلق سراح العصافير وأكسر الأقفاص الواحدة تلو الأخرى نادما على سجنها طوال هذه السنين، كنت  أفعل ذلك كما لو أني كنت أحرر أبطال تلك الروايات من عذاب السجن وذله، وظل والدي فترة طويلة مستغربا باحثا عن سبب انقلابي وتحولي هذا، وازداد كرهي للأقفاص عندما سجنت بسجن العقارب وذقت عذاب الجلاد وظلمة الزنزانة وجحيمها في قلب صحراء مترامية الأطراف حيث البرد وسم العقارب والأفاعي والحشرات والقمل والأمراض والتعذيب بالليل والجوع والحر والألم بالنهار ...كنت آنذاك يا بني مازلت طالبا بالجامعة أدرس الأدب والفنون عاشقا للحرية حالما بالمدينة الفاضلة حيث العدل والمساواة بين الناس ..قبضوا علي رفقة مجموعة من الطلبة العرب والأجانب واتهمونا بالانتماء لحزب  يساري محظور وبالعمالة وخيانة الوطن وحكموا علينا جميعا بالسجن لمدة عشرين سنة وهناك يا بني عرفت قيمة الحرية ومعنى أن تكون سجينا سياسيا " التفت الأب إلى طفله بعد أن أكمل سرد الحكاية، وكان عصفور الحسون مازال خائفا مرعوبا لا يتوقف عن الحركة والزقزقة وعد أسلاك القفص بمنقاره من غير كلل ولا ملل مثل le papillon بطل فيلم الفراشة يبحث سلكا سلكا عن منفذ للحرية،  وربت على شعره بحنو قائلا: "جرب يا بني بنفسك أن تفتح باب القفص للعصفور فإذا طار فله حريته وإذا ظل في القفص فهو لك إضافة إلى ذلك سوف أعود رفقتك من جديد إلى السوق واشتري لك عصفورا آخر يؤنسه "الطفل أعجبه الاقتراح وطمع في العصفور الثاني، وبمجرد ما فتح باب القفص أطلق الحسون بخفة البرق جناحيه للريح تاركا عيني الطفل في دهشة وحسرة تراقبانه إلى أن غابت ألوانه الزاهية بين أغصان وأوراق شجرة الكالبتوس التي كانت تتوسط الحديقة، وشرع الحسون بعد أن استرد حريته في التغريد بكل ما يملك من قوة ومهارة ورقة مما جعل الكل ينصت إليه بإعجاب شديد وأولهم الطفل الذي كان يمني النفس وهو على شرفة البيت بامتلاك هذا التغريد الشجي لوحده.

***

عبد الرزاق اسطيطو

هبطت من خلال سلم العمارة دون استعمال المصعد الكهربائي، وتوجهت نحو باب العمارة الخلفي المفضي إلى الحديقة، وأسرعت نحو حافة الغابة حيث اختفت أمي والطفل الذي لم أدقق في ملامحه، وما عرفت من يكون. كان الممشى طويلاً يتلوى مثل ثعبان ويختصر الغابة ليتجه مباشرة إلى البحيرة، وهناك يتفرع إلى طريق قصير يوصل إلى مركز التسوق. كل ما في المكان هادئ ساكن سوى خشخشات بين الحشائش لحيوان صغير. تقدمت في الشارع الترابي وسط الأشجار العالية الكثيفة الفروع التي تمنع نور الشمس، وتضفي على المكان دكنة شديدة وجواً رطباً خانقاً.. تتبعت الطريق محاولاً اللحاق بأمي. كان هناك رنين يدوّي في رأسي مثل رنة جرس طويلة رتيبة. أسرعت في مشيي، وعند المنعطف رأيت ظلها. كانت ممسكة بيد الطفل تسحبه وهي تتلفت، ثم توقفت ودلفت جهة اليسار عند مجموعة من الشجيرات الصغيرة. وصلت المكان وكنت أتهيأ لمعاتبتها على ما سببته لي من إرهاق. لم أجدها. لم تكن هي، وإنما كان هناك شيخ كبير السنّ بوجه مستطيل شاحب ترتسم فوقه ابتسامة خافتة، وعيناه تفصحان عن ودّ خائف. كان يمسك طرف الحبل المشدود إلى كلب أسود كبير. كان العجوز يسحبه نحو صدره بقوة، محاولاً أن يمنع انفلات الكلب الذي بدا متحفزاً للوثوب. بادرته بالتحية فردّها بصوت متهدج وبقي ساكناً في مكانه يشد بقوة حبل الكلب.

عندها لاحظت أن مرافقي يتبعني رغم انشغاله بهاتفه، وكان صوته يعلو وكأنه في شجار مع الآخر على الطرف الثاني. اقتربت من المخرج المفضي نحو البحيرة، ثم استدرت باتجاه الشارع المؤدي إلى مركز التسوق. بدت الساحة الفسيحة أمامه ضاجّة بالبشر، أطفال يلهون مع بالوناتهم بملابسهم الملونة وعجائز وشيوخ يفترشون المقاعد المحيطة بالمكان، وثمة من يعرض بضاعة فوق مناضد صُفّت قرب موقف العجلات، وسيارة شرطة تقف عند الجهة اليسرى لمركز التسوق.

ـ يبدو أن اليوم يوم احتفال..أين تنوي الذهاب. بادرني البولوني وهو يقترب ليجاورني.

ـ ليس في نيتي شيء محدد..دعني أريحك مني اليوم..لا تهتم.. سوف أشتري كالعادة علبة سجائر وورقة يانصيب ثم أعود.. دعني لحالي ولو لدقائق..

ابتسم وسألني أن لا أبتعد كثيراً، وإن احتجت إليه فسيكون قرب المدخل الرئيسي. ولجت  داخل السوق وتفرست في الملصقات على واجهة محل بيع أوراق اليانصيب. في اليومين القادمين سيكون الجوكر في لعبة اللوتري الأسبوعي أكثر من سبعين مليون كرون..واووو.

يا ربي.. أية قدرة على الاحتمال يملكها ذلك القلب وهو يتسلم مثل هذا المبلغ بعد أن دفع نقوداً قليلة لشراء تلك الجائزة.

**

كانت عضلاته المفتولة موشومة بمجموعة صور لثعابين تلتف على بعضها، وتتسلل نحو رقبته منحدرة فوق ظهره. ووجهه المنمش قاني الحمرة، بعينين ذئبيتين راحتا تتفحصان زبائن المحل. ابتسامة رضية باشّة وكف ملوحة، هكذا استقبلني صاحب المحل بيتر بتومكين وهو سويدي من أصل فنلندي، يرحب بالمهاجرين ويقربهم له، ويسميهم بأقاربه الذين تعرف عليهم في السويد. لم يكن بيتر هذا قبل عشر سنوات غير مدمن مخدرات، زار السجون لمرات عديدة وبأزمان متفاوتة، بسبب قضايا عراك واعتداء. فجأة تغير الحال معه، وهو يعزو ذلك لصاحبته المغربية التي يتحدث عنها كالمسحور، ويقول إنها أنقذت حياته وسحبته من الحطام. كان يحكي قصته لجميع المهاجرين دون إهمال الجوانب الثانوية فيها، ويختمها في النهاية بالقول إنكم أهلي وليس هؤلاء السويديون.

حين دخلت متجره رحّب بي بابتسامة عريضة وناداني باسمي:

ـ ها يا صاحبي ما الذي أتى بك اليوم ؟ أراك شاحب الوجه..هل عاودك المرض..أكرر نصيحتي لك. تزوج من موراكو..ثم أطلق ضحكة مجلجلة كان يتلذذ دائماً في إطلاقها بشكلها الهستيري وكأنما يتحدى بها الآخرين.

ـ كيف الحال ؟

ـ شكراً، عساك تكون بخير..كالمعتاد علبة سجائر وورقة تريس أليس كذلك.

ـ نعم كالعادة..ولكني اليوم أريد شيئاً أخر.. سؤال بسيط ؟

ـ تفضل، هاك أولاً ما أردت..وسل ما شئت.

ـ إن حصل المرء على الثلاث صور لشاشة التلفزيون في ورقة اليانصيب التريس هذه ما عساه يفعل.

زمّ شفتيه أولاً، ثم أطلق ضحكته المعهودة وتلفت حوله وأمسك بيدي بقوة وصرخ:

ـ أراك ربحت يا صاحبي. وجبة غداء دسمة لا تكلفك كثيراً هي حقي الشرعي..أليس كذلك.

أجبت وأنا أفتعل المرح كي لا ينكشف أمري.

ـ كلا أيها العزيز، فقط سؤال أردت منه معرفة أسرار اللعبة.. وإذا حصل المرء على ثلاث صور للديناري؟

ـ آه يا صاحبي عساك لا تراوغ..ولكن على أية حال أتمنى لك الحظ السعيد فجميع أبناء عمومتي يستحقون الخير. ألم يمنحوني جليلة التي أنقذتني من موت محقق، وهي جائزتي التي حصلت عليها منهم..انظر أيها الطيب..في الحالتين عليك الذهاب والاستفسار من قناة التلفزيون الرابعة السويدية في مدينة يوتوبوري. هناك سوف يخبروك عن اللعبة وشروطها..صورة شاشة التلفزيون تعني أنك ربحت خمسين ألف كرون بشكل أولي.  وصورة الديناري تعني أنك ربحت عشرة آلاف كرون سويدي شهرياً لمدة عشر سنوات. ولكن، هناك في البرنامج الصباحي للقناة الرابعة سوف يمنحونك حظاً جديداً، تزداد معه المبالغ حيث تسحب عندهم ورقة يانصيب جديدة، ربما تصل الأرباح فيها مع صورة الشاشة التلفزيونية إلى آلاف أخرى، أو تتضاعف إلى ملايين والشيء نفسه مع صورة الديناري حيث يتضاعف المبلغ إلى خمسة عشر أو خمسة وعشرين ألفا كرون تقدم لك كل شهر وتتضاعف المدة إلى خمس وعشرين سنة أيضاً.

صرخت بهستيريا وقفزت ولكني تداركت وضعي فصمتّ، وبادرته بالسؤال.

ـ هل أستطيع أن أحصل على المبلغ دفعة واحدة بدلاً من منحي إياه كل شهر.أريد أن أحصل عليه فمسألة توزيعه على أقساط شهرية أمر متعب.

ـ أيها اللعين، أراك ربحت وتحاول أن تخفي ذلك عني. ها قد أفشيت سرك.

ـ لا..لا ولكن فقط اسأل لا غير.

ـ أتمنى لك الحظ السعيد،  ربحت أم لم تربح،  فأنتم أقاربي وسعادتكم تهمني..يا صاحبي إنهم سوف ينتظرون موتك. وهو بدوره يأتي بعجالة غريبة.

ـ موتي !!!.

ـ أي نعم موتك وليس شيئاً آخر..هؤلاء الشياطين يحسبونها بدقة..فالرابح كم عليه أن يعيش من السنوات..فقط العجائز والمرضى من يربحون اليانصيب في هذه الدنيا. الأقساط شهرية.. لا يعطون المبلغ جمعاً بكسر. وسوف ينتظرون موت الشخص لتقطع عنه تلك الجائزة.حل بسيط جداً..لم أسمع عن شخص أكمل السنوات العشر وهو يتلقى قسط الجائزة الشهري..هُبّ.. فجأة تنتقل روحه إلى السماء ويسقط اسمه من قائمة الأحياء، عندها تحجب الجائزة لعدم وجود من يتسلمها، فيربح الميت سعة الجنة بدلاً عنها، أو يُشوى بنار جهنم متذكراً أنه كان، يوما ما، غنياً مترفاً.

ـ إذن إنه الموت..الموت..الموت يا له من قدر سخيف يسحق الفرح ومعه الجائزة.

تركني ليقدم خدمته  لزبون آخر، ثم أدار وجهه نحوي وابتسم قائلاً :

ـ حظا سعيدا مع جائزة كبرى..لا تقلق فالقلق لا يجلب الحظ السعيد.

ـ شكراً..حظا سعيدا لك أيضاً.

عند مخرج مركز التسوق، ظهر من طرف موقف السيارات المجاور جوق كبير من رجال ونساء يرتدون ملابس مزركشة بألوان فاقعة، تتدرج فوق أجسادهم بتناغم بديع.اتجهوا بهيئة فرقة منظمة نحو وسط الساحة الكبيرة وهم ينشدون بفرح أغاني بلهجة لم أكن أفهمها، ربما هي لغة الهنود الحمر أو شعوب أمريكا اللاتينية. توزعت الجوقة إلى حلقات راقصة تتألف من أربعة راقصين، يقابلها حلقات أخرى لفتيات بالعدد ذاته. على رؤوس الرجال قلانس ترتفع منها ريشة طويلة ملونة وملابسهم متشابهة الألوان تغطي النزر اليسير من أجسادهم القوية، وتنسدل تحت الخصر أشرطة ملونة، وينتعلون أحذية طويلة تصل إلى ما تحت الركبة، تلتف حولها أشرطة من الألوان ذاتها أيضاً..على صوت المزامير والصنجات والطبول يتراقصون ثم يتقدمون ليحيطوا حلقات الفتيات الرائعات الجمال اللاتي كن يرتدين صداري صغيرة ضيقة بلون زهري توشحها شرائط دانتيل خضراء، بدت وكأنها حقول ربيع ضاجّة بفوح الزهور والأعشاب، وتهبط من تحت الخصر شرائط أخرى بلونين فاقعين هما الأصفر والأزرق الشذري، شعورهن معقوصة إلى الخلف بحلقات من الدانتيل مختلفة الألوان تتجانس مع ثيابهن، وترتفع فوق الرأس ريشة واحدة بلون كستنائي. وكانت أجسادهن من أعلى الخصر تظهر سحنة بشرتهن السمراء والصديريات الضيقة لا تغطي سوى القليل من النهود النافرة التي تريد أن تهرب من مكامنها التي ضاقت بها مثلما ضاقت عليها. وقع أقدامهن يترافق باتزان مبهر مع أصوات الموسيقى، وكانت دوائر الرجال تضيق ثم تنفرج حول حلقات الفتيات، وكأن ما يحدث هو عملية محاصرة أو نزاع أو اختطاف. فجأة ومن وسط حشد الجمهور الذي أحاط الفرقة من كل جانب متلذذاً بمشهد الحفل الراقص، ظهرت حورية جميلة سمراء خلاسية البشرة، لم تتعد بعد سنواتها العشرين. مشت الأميرة بهدوء وتقدمت بخطى وئيدة وكأنما أقدامها تقرع نقراً خفيفاً فوق طبل. كانت حورية يتوج رأسها إكليل غار، وينسج الثوب بشرائطه الشفافة ملاءة من زخرفة تغطي شيئاً يسيراً من جسدها.سطعت شمس الصيف ببهاء نورها فوق هذا الجسد المشدود والقدّ الميّاس، وتقدمت الفتاة برشاقة وغنج لتقف أمام الفرقة الموسيقية، وإشراقه لابتسامة ملائكية ترتسم فوق محياها.

إنها راشما..يا ربي إنها هي..تسمّرت مكاني ووجدتها تطالعني بابتسامة ملائكية، فشعرت بدوري بالرضا وأنا أتفرسها بنهم، حيث تقف وسط الجوق. حين وقفت راشما كانت فرقة الراقصين قد شكلت جدارين متوازيين، الفتيات مقرفصات على الأرض والرجال يقفون خلفهن، وكان الصفان يتمايلان بتناغم مع صخب الموسيقى، والرجال يدقون الأرض بأقدامهم صعوداً وهبوطاً، ويطلقون صوتاً مكتوماً يدل على القوة والتحدي. تقدمت راشما نحو منتصف الساحة، وكان شعرها المزدان بإكليل من الورد ينساب فوق الظهر المكشوف، ويعكس بريق لمعان الشمس، وجسدها أسفل الخصر غطـّي بملاءة من قماش التول الأصفر الشفاف. كانت ترتدي صديرياً بلون أصفر يخفي صدرها الناهض، وحين تقدمت بدأ جسدها يتلوى مثل أفعى. تقدمت فضجّ الجمهور بالصراخ والصفير وتصاعدت معه ضربات الطبول وأصوات المزامير.انحنت الفتيات المقرفصات نحو الأرض فقفز الرجال من فوقهن وهم يصرخون صرخات الحرب، ثم ركضوا ليحيطوا أميرتي بحلقة محكمة فبدأت تتلوى مرتعبة ولكن فجأة تحركت جوقة الفتيات ليتقدمن مهرولات ليولجن أجسادهن من بين جدار الرجال، ويقفن كسدّ منيع يحيط بالملكة لمنع الرجال من اختطافها، وبدأت عند ذلك رقصة جميلة، تتقدم النساء فيتراجع الرجال ثم تدور الدوائر وتتراجع النساء. يشن الرجال غارتهم وتردّ النساء بقوة بغارة تبعد الأعداء. تتوتر الأجساد وتندفع بصبوة وفتوة. كانت رقصة أخاذة أشاعت الفرح وسط جمهور المشاهدين الذي راح يتمايل ويهتف مع حركات الراقصين والراقصات.

كانت دقات قلبي تتسارع وصداها يعلو ويهبط خوفاً من أن يحدث شيء ما لراشما. كانت الأجساد بملابسها المزركشة الموشّاة بتلك الألوان تختلط بتوليفة حركات كرّ وفرّ ومعها ترتسم على وجه راشما تعابير الخوف والرهبة وتقطيبة غضب حين يتقدم الرجال، ولكنّ ابتسامة عريضة لفرح ملائكي تحل فوق وجهها. جسدها الطري يتمطى ويهتز طرباً حين تكر فتياتها المدافعات والموسيقى تصدح بنغمتين مختلفين بين تارة وأخرى.

فجأة تشتت حلقة الرجال، وراح بعضهم يصطدم ببعض كمن يريد الهروب أو يلوذ بمكان بعيد، ووجوههم يعتريها الخوف، عند تلك اللحظة خرج من وسط الجوقة الموسيقية شابّ فارع الطول جميل المحيّا مفتول العضلات، خصلة من شعره تسقط نحو وسط ظهره وتتطاير أحياناً مع قوة حركاته التي بدت متناسقة.كان يتمنطق بحزام يربط بنطاله الجلدي القصير عند الخصر، وامتد منه غمد عريض يضم غّدارة طويلة، واعتلت رأسه ريشة عريضة بلونين فاقعين، يمسكها رابط أخضر حريري رفيع.ورغم الملامح الغاضبة والعبوس الذي يظهر على وجه الفتى، فقد كانت عيناه تشعّان ببريق طاغ كان يصوبه بدقة نحو راشما التي جلست القرفصاء وسط حلقة وصيفاتها.تقدم الفتى واستلّ غدّارته، ولوّح بها في الهواء، فانسحب الرجال إلى الخلف وشكلوا نصف دائرة، بعدها استوت أجسادهم ثم انحنت، وتقدمت سيقانهم وطُويت إلى الأمام بحركة ركوع. تقدم الفتى نحوهم وهزّ غدّارته عدة مرات فتمايلت معها أجساد الرجال تعبيراً عن خضوع واستكانة وتذلل، فأرجع الفتى غدّارته إلى غمدها وطلب منهم بإشارة واضحة أن يحيطوا به ففعلوا ذلك، وكانوا ينطـّون حوله مثل الأرانب. استدار الشاب نحو الأمام بمواجهة حلقة الصبايا وعروسهنّ، ثم رفع وجهه ويديه نحو السماء وبدا جسده الضخم يبرز عضلاته المتناسقة، ثم تمتم بجمل غير واضحة فتسارعت أصوات الطبول والمزامير.ومع الموسيقى وتراتيل الفتى بدأت راشما ترفع جسدها رويداً رويداً لتستوي منتصبة ووجهها يطفح بالحبور والبهجة، ودارت الفتيات حولها برقصات متوازنة تمايلت بها الأجساد بغنج وخفة،  وكأن هناك موسماً  للربيع قد حلّ، وعليهن استقباله والترحاب به. وفي الوقت عينه كانت مجموعة الرجال تؤدي رقصة جميلة أخرى تصاحبها همهمات لأصوات مكتومة، وكانوا يتحلقون حول الفتى وكأنهم ديوك تتقافز بخفة ورشاقة.تقدمت الحلقتان إحداهما من الأخرى فتلامست الأجساد ودارت دورتين ثم انفرطتا ليختلط الجميع. عندها وقف الفتى بمواجهة راشما ثم ضمها إلى صدره بقوة فصدحت الموسيقى وعلت الأصوات وضج المكان بالتصفيق.  دخل بعض الصغار والفتيات من الجمهور وسط الحشد.

اندفعت هائجاً نحو المكان وسط الجوق ثم سحبت راشما من يدها ودفعت الفتى من صدره.عزلت عنه راشما بلمح البصر وضممتها إلى صدري. أبعدتني عنها بقوة صارخة في وجهي بصوت أجش، وكان وجهها يكتسي بسحنة من غضب، والشرر يتطاير من عينيها، ووثبت مبتعدة وهي تنظر إليّ شزراً. رفعني الفتى بقوة ودفع بي بعيداً. التف جسدي دورة كاملة وسقطت على الأرض. كان الطنين يملأ رأسي وبدأ جسدي يرتعش. نظرت نحو راشما فوجدتها تبتعد وكانت تمسك يد إحدى صاحباتها. رفعني مرافقي عن الأرض وضمّني إلى صدره. بدأت أجهش بالبكاء وأنادي على راشما.

ـ أيّ راشما أيها المسكين..يكفي هذا.. لقد أفسدت فرحة الناس.

ـ ولكن راشما..راشما.

ـ أي راشما يا صاح..إنها فتاة الفرقة

***

فرات المحسن

في عالم تقطنه الفوضى ويسود أنحاءه العبث

تنهض الجماجم

ينتفض الفرات

*

الدم بركان يوعد بالانشقاق

الليل مقدمة لنهارات خائبة

الحركة تتنفس وقار المسافات

*

الأرض

تستفيق من نومتها

تفترق الأشياء

*

الطرقات تفترش الوجع

يستيقظ أنينها

ينبت عند وريقات ثكلى بالاحزان

*

عند منتصف الطريق إلى الأجل

تضع العواصف أوزار نهاياتها

نبصرها

*

قائمة الموتى تتلوها استغاثات

تحكي عنها

نتبعها

*

الزرقة الجميلة حبلى

السماء كثافة لا حدود لها

المقابر ظلام يسكنه الخواء

*

قوائم الوافدين نعوش

تحمل بين أكفانها صرخات المحتجين

الماضي مكتظ بالحكايات

*

شحوب الارض وجع قائم

الأشجار

أجساد تم دفنها

*

الإعلام وسيلة للحرب

طريقة الكلام أقنعة بها

تتبجح الألسنة

*

عقيل العبود

صعد على منصة قاعة الدرس، وضع حقيبته على الطاولة التي في منتصف المسافة بين حدي المنصة، ألقى التحية على الطلبة وأخذ يتلفت على الجانبين بنظرة استطلاع، وكأنه يبحث عن أجابة، كانت القاعة تعج برائحة (اللافندر)، استدار نحو النافذة وأستنشق الهواء بعمق بعد أن لفحت وجهه نسمة هواء باردة مشبعة بعطر (الكاردينيا).

قال يالله على هذا الجمال في سره، أستدار بنظراته نحو الشباك وأخذ يمعن النظر في غابة (الورد) التي على جانبي مدخل رئاسة الجامعة، شرد بذهنه حين أعاده المشهد المطرز بألوان الزهور إلى أيام أن أصطحبه المختار (أبو خالد) ليقابل معالي رئيس الجامعة إثر اتصال سابق جرى بينهما أنتهى بالموافقة على أن يعمل (علي) في وظيفة (جنايني) مزارع يعتني بالحديقة التي على مدخل الرئاسة فقط، ولاعلاقة له بالزروع والحدائق الأخرى، فقد كان رئيس الجامعة شغوفاً بالزهور ومن يعتني بها.

بعد وفاة والده كان (علي) قد ترك الدراسة وهو في المرحلة النهائية من الثانوية، ليتفرغ للعمل وإعالة والدته وأخواته الأربع، تقلب بين مهن عدة في السوق، إنتهى به المطاف عامل في (سوبر ماركت) وفي يوم عاصف تصاعدت حدة الخلاف بينه وصاحب المحل الذي اتهمه بالسرقة، ليتضح بعد الرجوع للكاميرا أن أبنه هو الذي سرق، وأن علياً كان يوبخه على فعلته تلك، والحمد لله كانت الكاميرات هي الشاهد الحي، ترك على العمل في ذلك المحل رغم توسلات صاحبه واعتذاره، أحس بالإهانة من تصرف صاحب المحل وقال (ليس كل مرة تسلم الجرة) الله الغني، الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

حمد الله على كل حال وعاد إلى البيت وآثار ما جرى طبعت على قسمات وجهه، في طريق عودته لابد أن يمر على  أبي خالد (مختار الحي)، وهو رجل سبعيني يحب الخير للجميع ويسعى لمتابعة علي وأخوته باستمرار لما يربطه من ود والمرحوم أبي علي، فقد كانا أصدقاء  طيلة حياتهم، و تربطهم وشائج القرابة عن طريق النساء، ناهيك عن كونهما من نفس القرية التي نزحوا منها إلى المدينة وعاشا فيها طولا بعرض حتى بات أبو خالد (مختار المنطقة) و توفي أبو علي الذي كان يعمل في الميناء القريب من الحي بعدها.

استعاد علي شريط الذكريات هذا كله  من خلال النظرة الفاحصة الطويلة التي تأمل بها المكان وتلك الأزهار التي رعاها طيلة سنين وهو يعمل في تلك الحديقة ويواصل دراسته حتى أكمل تعليمه الجامعي بتفوق وتعاقدت معه الجامعة ليكون استاذاً فيها.

مشهد الذكريات ذاك قطعه نداء إحدى الطالبات حين تجاوز صوتها مسمع الدكتور علي، قائلة دكتور لم أجد سوى مصدر واحد يتناول موضوع البحث الذي كلفتني به، وأعادت الكلام مرتين، حينها أنتبه الدكتور علي للطالبة فأستدار نحوها وقال عفواً لم أفهم سؤالك، قالت الطالبة سلامتك دكتور (إلى أي مدى أخذتك الذكرى).

فرد عليها "الدكتورعلي" بحنين وود (إلى أيام الورد يابنتي).

***

سعد الدغمان

12-05-2023

كنت أقف على رصيف محطة (غار دو نورد) الباريسية، أنتظر القطار المعاكس لقطارها، عندما ربتت على كتفي وقالت (أريد منك أن تجعلني أموت، إن كنت تستطيع، فهيا اصعد معي القطار المعاكس لوجهتك).

حدث هذا قبل عامين، ورغم أني لم أكن أعرفها من قبل، بل كل ما كانت تعرفه عني وأعرفها من خلاله هو لقائنا على رصيف تلك المحطة، لنصف الساعة التي سبقت وصول قطارها وصعودها إليه في رحلته المعاكسة لرحلتي.

ما اسم تلك المرأة؟ أين تسكن؟ ماذا تعمل؟ هل لها عنوان ثابت في باريس أو في أي مدينة فرنسية أخرى؟ لا أعرف. كل ما أعرفه عنها، وأظن أنه هو الذي تعرفه هي عني، هو لقاء نصف الساعة العابر ذاك، على رصيف محطة (غار دو نورد)، والذي كانت قد بدأته بقولها ((هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها وجه رجل يرفع ياقة معطفه اتقاءً لبرودة الريح.. كل الذين سبقوك رأيت أقفيتهم فقط وهم يمضون بعيداً في الطرقات، ولكن ورغم ذلك كنت أعرف أنهم أوغاداً من صنف خاص. هل تعرف ماذا أعني بأوغاد من صنف خاص؟ أعني أنهم صنف الرجال الذي تنتظره النساء في أحلام يقظتهن ليسحقهن بكبريائه وصلابته، ونادراً ما تطاله إحداهن. إنه نوع الرجال الذي تحبه النساء لأنه قادر على منحهن الموت الكبير الذي يحلمن به، وها هو وجه أحدهم أخيراً، وجهك أنت، أمامي ليؤكد لي صحة ما نحلم به)).

لِمَ لم أركب قطار تلك المرأة وأذهب معها، رغم أنه لم يكن يشغلني شيء حقيقي في ذلك اليوم، لا في باريس ولا في بوردو التي كنت أعتزم الذهاب إليها؟ تركتها تركب قطار تبددها، بكل غباء، وتمضي بعيداً، وربما إلى لا مكان. وها أنا منذ رحيل قطارها أطارد وجهها، والطريقة التي تسدد بها نظراتها، ونبرة صوتها، التي قد تسمعها من كل امرأة وهي في حالة شوق، ولكن من دون أن تكون لصوتها أو صادرة عنها. كان لها وجه وطريقة تسديد نظرات ونبرة صوت، يمكن أن تصادفك في جميع الأماكن التي تمر بها، ولكن من دون ان تكون لها. لقد كانت امرأة كل ما فيها لها وحدها، وكأنها نيزك يداوم السقوط كي لا يشبه غيره بعد ملامسته للأرض.

طفت معظم شوارع وأحياء باريس والكثير من المدن بحثاً عنها، وما أكثر المرات والصدف التي تراءت لي بين وجوه النساء، في الكثير من ملامحها ومن طريقة حديثها، ومن الطريقة التي مشت فيها باتجاه عربة القطار والطريقة التي دخلتها بها، ولكن لم تكن أي من أولئك النساء أبداً. بل إني رأيت سروالها والجاكيت اللذين كانت ترتديهما يومها، رغم تفرد ألوانهما، ربما مئات المرات، وعلى عشرات الأجساد التي تماثل جسدها في مقاساته وتكوراته، ولكن من دون أن يكونا لها أو تكون هي فيهما.

يوماً حدثت عنها صديقي الفنان المتخصص في رسم وجوه المجرمين ومن يعتدون على الناس في الشوارع، عن طريق الأوصاف التي يتذكرها الضحايا، ورغم أن تلك الأوصاف لا تكون دقيقة، لأن الضحايا يكونون قد رأوها وهم في حالة عدم التركيز التي يسببها الخوف، إلا أنه دائماً كان يجيد رسم تلك الأوصاف ويخرجها بدقة إلى حد أن الضحايا سرعان ما يصرخون (نعم هذا هو بالضبط) حال رؤيتهم للوحاته، إلا أنه ورغم أني وصفتها له عدة مرات، ورغم أن توصيفي لصورتها لم يأت وأنا تحت الخوف، أي كان أكثر دقة بكثير من توصيف ضحايا الاعتداءات العابرة، إلا أن صديقي عجز عن رسم ملامحها واتمام صورة لها، وإلى حد أنه رمى القلم من يده ومزق عدة أوراق من دفتره وقال، وهو يرمقني بنظرة تشكيك (لا أظن أن في الحياة امرأة تحمل الملامح التي تتحدث عنها.. هذه الملامح عصية على التشكل وكأنها لم توجد يوماً.. بل كأنها ملامح امرأة ماتت قبل أن تولد).

ذات يوم وأنا أتقدم لدخول أحد بنايات المكتبة الوطنية الفرنسية (هي تتكون من أربع بنايات متشابهة ومتقابلة، تكوّن مربعاً بأربع زوايا حادة، وكل زاوية هي عبارة عن بناية مستقلة وبارتفاع ثمانين متراً وعلى شكل كتاب مفتوح) لمحتها تقف أمام أحد تلك البنايات، ولكني عندما اقتربت منها وجدت امرأة تشبهها كثيراً وترتدي ذات ملابسها، ولكنها لم تكن هي. وعندما توقفت في اللحظة الأخيرة عن محادثتها واستدرت راجعاً، وجدت امرأة تشبهها تهم بدخول بوابة البناية التالية، فأسرعت باتجاهها، ولكنها أيضاً كانت مجرد شبيهة لها ولم تكن هي. ومن غريب المصادفات أن هذا المشهد قد تكرر مع البنايتين الأخريين من بنايات المكتبة الوطنية، وإن النساء الأربع اللاتي اشتبهت بهن كن يشبهنها إلى حد المطابقة في الملامح وفي الملابس ومقاسات الجسد الخارجية، التي اختزنتها ذاكرتي لها، ولكن من دون أن تكون أي منهن هي. فلم تكن لأي منهن لا دقة رسم ملامحها ولا طريقة توجيه نظراتها ولا نبرة صوتها.

ولأن اثنتين من النساء الأربع اللاتي صادفني في ذلك اليوم، كن الأكثر ايحاءً بهيئتها، عمدت إلى الاقتراب منهن والجلوس بالقرب منهن، من أجل سماع أصواتهن ورؤية وقع نظراتهن، ولكن لم تكن لأي منهما لا نبرة صوتها ولا وقع نظراتها أو طريقة تسديدها. وربما لشدة يأسي، في تلك اللحظات، تنبهت المرأة الرابعة إلى أني كنت أراقبها بطريقة غير طبيعية، فتركت الكتاب الذي كانت تقرأ فيه واقتربت مني لتسألني:

-أنت تراقبني بطريقة تثير القلق فعلاً فماذا هناك؟ هل لك أن توضح لي؟ ولكي أطمئنها إلى أني لم تكن لي أي نوايا أو أبيت لها أي سوء، حكيت لها قصة لقائي بتلك المرأة، ثم حكيت مصادفة ذلك اليوم العجيبة فقالت باهتمام: هل تعني أني أشبهها تماماً؟ قلت وأنا أشير لها بالجلوس إلى جواري، كي لا يؤثر حديثنا على رواد قاعة القراءة التي كنا فيها:

- باستثناء وقع نظراتها ونبرة صوتها. وبعد لحظة تفكير سألتني:

- وكيف كان وقع نظراتها، وكيف كان يختلف عن وقع نظرات باقي النساء؟ هل كان يترك أثراً في الأشياء مثلاً؟

- كيف أصف لك وقع نظراتها؟ لنقل إنه كان ساماً، ولكن ليس بالمعنى السيء للمادة السمية..

- بأي معنى إذاً؟ تقصد بمعناه كترياق؟ هززت رأسي بطريقة مبهمة وقلت بنبرة يأس:

- ولا هذا أيضاً.. وبدل أن يظلم وجهها بسبب اجابتي اتقدت عيناها لهفة وسألت بلهجة متأثرة:

- إذن...؟ هززت رأسي بنفس الطريقة السابقة وقلت:

- لا أعرف. ربما الأمر يشبه حالة غياب يشبه الموت، فكل من مروا بهذه الحالة قالوا إنهم تنعموا بحالة سلام لا توصف وندموا على عودتهم لوعي الحياة.

أومأت برأسها متفهمة وأنا أقف على قدميّ من أجل أن أنصرف، وعندما بلغت البوابة الخارجية للبناية وجدتها تناديني لتقول:

-أنا آسفة على وقاحة سؤالي، ولكني لم أستطع مقاومة فضولي: لم تواصل البحث عن تلك المرأة؟ هل تأمل أن تمنحك شيئاً استثنائياً لا تملكه غيرها من النساء؟ قلت بغياب وأنا أتابع شبحاً جديداً لامرأة محطة القطار وهو يمر أمامي ويبتعد:

- أليس لكل امرأة شيء استثنائي تمنحه لرجل بعينه، حتى لو كان موتاً خاصاً يتوق هو إليه؟

أومأت برأسها موافقة وعلى وجهها علامة سؤال لم أستطع معرفة وجهتها، قبل أن أمضي مسرعاً لألحق بشبح المرأة الجديدة، وعندما بلغتها كانت تشبه امرأة محطة القطار، لكنها أيضاً لم تكنها، عندها توقفت وسرت باتجاه المنفذ الذي يقودني باتجاه نهر السين، وعندما مررت من أمام بوابة البناية التي كنت فيها، كانت تلك المرأة مازالت تقف حيث تركتها، وعلى وجهها ذات تعبير التساؤل المبهم.

***

سامي البدري

في شبابي كنت أنوي اخبار أبي أن تصرفاته معي كانت مزعجة وكنت أود أن أقول له بأن كلماته جارحة اغلب الأحيان فمن غير المنطق أن يكون الإنسان صريحاً بهذا الشكل الجارح، أنا اتذكر كلامه بالحرف الواحد (ابني أنت لا تصلح أن تكون رساما جادا فأنت مثلي ترسم الوجوه على حقيقتها!!)، لم آخذ كلامه على محمل الجد أو اليقين وكنت أخبر نفسي أن أبي قديم الطراز ولا يعرف شيئاً عن الحياة حالياً، فهو كبير و آراء الكبار محصورة بماضيهم !! . مضت الأيام وأصبحت ارسم أجمل اللوحات كنت أتقن كل الرسوم أرسم الاطفال ببرائتهم الجميلة وارسم العصافير والأشجار والأنهار، وذات يوم جاءني مسؤول كبير معروف عنه الفساد والبطلان وسرقة أموال الناس والعباد . أمرني أن أرسم وجهه بوقار ! فقلت لنفسي هذا سهل فأنا رسام والرسام من السهل عليه أن يرسم ويجمل صور الناس ليفرحوا بها، أتممت الرسمة على أكمل وجه وكنت أتفنن برسمهِ بأدق تفاصيله لم اكون أنوي غشه أو التلاعب بملامحهِ، قلت لنفسي ساغتني من رسمتي تلك فالمسؤول الفاسد (يبعزق) أمواله (أموال شعبه بلا ضمير) وعندما استلم رسمته أخبرني أني رسام فاشل ومتبجح وغير محترم !!، أشار إلى أحد حراسه لأخذي بعيداً وأثناء الطريق أخبرني أحد حراسه أني تفننت في رسم أبغض وابشع صورة لسيادته !! . أودعت في السجن وها أنا ذا أذكر كلام والدي ونصحه بأني أرسم الوجوه على حقيقتها .. وأنتم أي شخصية تريدون مني رسمها فقط أخبروني فقد قررت أن أعيش في السجن مدى الحياة !!

***

الكاتبة الروائية سراب سعدي

وقفت أطالع الشارع المتعرج الممتد أمام نافذة الشقة. كان لون الزهور البرية الصفراء يغطي جوانبه ، وثمة عجوز ترعى كلبها الذي راح يقفز مرحاً ويلتف حولها بدورات مشاكسة. تذكرت كوب القهوة الذي وضعته فوق المنضدة منذ حين، وانتبهت إلى أني نسيت أن أغلق جهاز القهوة. جلست أرتشف القهوة بتلذذ. سحبت علبة السجائر فسقطت ورقة اليانصيب أمامي، شعرت ببعض الراحة فتناولتها بهدوء ووضعتها فوق المنضدة، طالعتها وأنا أسحب نفساً عميقاً من سيجارتي. تناولت الملعقة وبدأت أقشط بنهايتها العريضة مواقع الأرقام فوق وجه الورقة.

سرت في جسدي رجفة، وتوقف ذهني كلياً وأنا أشاهد العلامات الثلاث للديناري تظهر على الورقة. لقد جاء الحظ أخيراً. لم أهيئ نفسي لمثل هذا الموقف، وسعادتي عند تلك اللحظة كانت أكبر من أن أحتملها. نفسي أشرقت أيما إشراق، فرحت أصرخ وأضحك وأبكي، أهذي وأنا أحلق فرحاً مثل فراشة، لم تلامس قدماي الأرض. لا لم تلامساها. تأكدت أن العالم يحتجزني في رقعة صغيرة منه، يغلق منافذ الهواء ويسد في وجهي نظـّارة النور. كان جسدي يلتهب حماساً وهياج أعصابي دون حدود. تدحرجت على الأرض ورحت أضربها وأبكي. تبعثرت قواي وشعرت بالإنهاك الشديد وبألم موجع يحرق يدي المتيبسة العليلة. سحبت ورقة وقلماً وحاولت احتساب ما سوف احصل عليه من مبالغ. ذهني المشتت المرتبك لم يستطع السيطرة على الأرقام، وعجزت كلياً حتى عن إدراج ما عرفته من أرقام بسيطة. كانت إشراقة قلبي لا يحتملها صدري وروحي فكانت لحظة تتقافز فيها شرارات من نار وحديد مصهور تحاصر ذهني وتعتصره عصراً، فسقطت وجسدي ينتفض مثل عصفور تتقاذفه الريح دون رحمة. اضطجعت على ظهري ورحت أصفق بيدي. غنيت معها أغنية تذكرتها ولكن وجدتني لم أكملها فصرخت بقوة، لقد أصبحت الآن غنياً، نعم سأكون غنياً مفرط الغنى، سوف أختار مرافقاً أخر وحسب رغبتي وبالمواصفات التي أريدها. سوف أطلب من رشما أن تساعدني وربما أناشدها لتكون بجانبي كمرافقة، سوف أدفع لها ما تريد. أشتري سيارة فارهة، لا..لا أحب ذلك ولا أحبذه..سوف أنجز الكثير من رغباتي دون تقتير. عليَّ الآن أن أدوّن ما أريد بوضوح ودقة. لقد تغير الحال فجأة وعليَّ أن أستعد لذلك. كانت الحياة تحوم حولي مثل ذبابة، تستفزني بأزيزها وطنينها الذي يذكرني دائماً بفقر أهلي وعوزهم.

كانت تتراءى لي صور البيوت المؤثثة ولذة الطعام الفاخر المتنوع كحلم طري، أحلم بساحة فسيحة لبيت فاره يتراقص في باحته إخوتي الصغار وصيحاتهم ترددها جدرانه الرخامية السامقة وأبوابه بزخرفتها المغربية. لم تكن تلك سوى أحلام فتى أرهقه الفقر وبات مقتنعاً بأن اللامحال هو سيرته اليومية، كان ولن يكون حاله غير ما هو عليه. أنا ذلك المسلوب من متع الدنيا والمبهور بمنظر أبناء المترفين لا بل الحاسد لهم، كنت كالمضيّع الذي يبحث عن طريق للهداية. حتى تطوعي في الجيش كان ضرباً من غواية استدرجتني نحو معسكرات البؤس والشقاء، وسارت شؤوني في تلك المعسكرات المهملة المجدبة لا بل القاتلة دون هداية أو قرار. كنا جميعاً مزروعين في متاهة لا حدود لها، مجهول لا متناهٍ. نعلف كالبهائم ونجتر حديث السفاسف المبتورة ونترقب أملاً يقال إنه قادم. جميعنا متشابهون متشابكون بسحنات مصفرة وأرواح كابية. بدأ لغز الحياة ومجونها يتوضحان لي منذ الأيام الأول بالرغم من أننا كنا في وهدة موحشة وكانت هناك جملة واحدة توصفنا دون عناية، عبيد ..عبيد، نهرب من الجحيم والخوف والابتذال إلى الجحيم والخوف والاحتقار. مع كل ذلك فلم أجلب معي حين هروبي وقدومي إلى السويد ندوباً وجروحاً من معارك دفعت إليها عنوة ولم أكن فيها مغواراً، ولم أكن لأسميها معارك، فهي عندي رنين لابتذال يتكرر صداه يومياً وكنت أسمعه بقدر ما بلغته جروح روحي التي كانت تلوكه وتتلمسه أشد وطئاً وأبعد وأقسى وقعا. ولكن هاهي اللحظة قد جاءت.

ولكن الآن ما عساي أن أفعل مع مرافقي البولوني الغدار. إن أخبرته بأمر ورقة اليانصيب فسوف يحاول سرقتها دون شك، أو ربما يسارع لقتلي غدراً. ألم يحاول رميي في البحيرة، أما كان ولازال يتلصص على أشيائي. لو عرف بأمر ورقة سعادتي هذه فالظن كل الظن أنه سيسارع ويدس لي السم أو يقذفني من الشرفة ويدّعي بأني انتحرت. سوف تكون شهادته مقبولة عند الشرطة فقد لفقت لي سابقاً تلك السماجة، وحذرني من تكرارها جميع من قابلتهم عند السلطات المحلية. سوف تكون عملية قتلي سهلة جداً عند مرافقي البولوني وليس هناك من بد منها. لا داعي لإضاعة الوقت، فعليَّ أن أعيد ترتيب الأوراق التي دونت بها حادث البحيرة وكيف أراد مرافقي قتلي عنوة وأمام الناس. ليس هناك من مفرّ للخلاص منه غير تقديم شكواي إلى مجلس البلدية، حيث أثبت لهم بالدليل القاطع أن مرافقي يريد قتلي وهو يسرق الكثير من أشيائي، ويتلصص على حاجياتي وأوراقي. سوف تتعاطف معي السيدة كاترينا.حتماً تتعاطف معي بعد أن أضع بين يديها الدليل الوافي على أساليب مرافقي الخسيسة. بعد أن تطلع وتشاهد صدق ما أقوله، لن تبخل بمساعدتها. حتما سيكون ردها ودوداً مفرحاً، وستقول ياله من بولوني خبيث، لقد أسأنا التقدير، وما حاول فعله جريمة لا تغتفر يستحق عليها العقاب الشديد. وحين أظفر برضاها وتعاطفها سوف أخبرها عن ورقة اليانصيب. كلا ليس في ذلك الوقت. ففي البداية عليَّ أن أتأكد من مسألة الاستغناء عن خدمات المرافق بشكل كامل، عندها أخبر السيدة كاترينا بالأمر وأطلب منها مساعدتي على تهيئة أمر الحصول على المبالغ التي سوف أنالها من ورقتي الذهبية. ولكن العجوز كاترينا كانت عدائية وحادة الطبع في المرة الأخيرة، وقابلتني بجفاء وغلظة، واعتقدت أن خيالي، وحسب ما قالته، قد شط ّ كثيراً وصنع معارك وهمية وتحديات وحقداً وسماجات مع جميع من عمل معي كمرافقين، وأني أرى بخيالي ما لا حقيقة لوجوده، وأني غضوب فزع، تصوراتي شكوك وأوهام غير واقعية لا طائل منها، لا بل ثرثرات ليس إلا. إنها تبغضني خاصة حين تأخذ بإلقاء مواعظها الغاضبة كنمرة مكشرة عن أنيابها تريد افتراسي. كيف أضمن أنها لن تثور بوجهي إن طالبتها بالاستغناء عن خدمة مرافقي البولوني. إنها عجوز، ولكنها صلبة العود مكفهرة الوجه عابسة، تتملق الناس بضحكة شاحبة ملساء مجردة من الطراوة والعاطفة. أفسد بشرتها العمل الطويل بين الملفات والأوراق، وربما دارت بين أروقة مصالح حكومية سويدية عديدة واستقرت أخيراً كمساعدة للمهاجرين في سلطة بلدية منطقة سولونتونا التي أنا واحد من سكانها، وهي الآن في سنواتها الوظيفية الأخيرة، وقد أورثها العمل الطويل تلك السحنة العجفاء واللسان الذرب وعيوناً لا تتكلم دون أن تتحدى ما يقابلها من عيون كسيرة. نعم منذ البداية شعرت بأنها تكرهني، بالرغم من أنها وفي كل مرة تودّعني بابتسامة وتهز يدي بحرارة. وفي رأس السنة الماضية ضمّتني إلى صدرها، وتمنـّت لي سنة جديدة جميلة. لكنها كانت، وفي أغلب المرات، تزجرني على أبسط الأمور وأتفهها، وتحسبني شخصاً مهملاً قلقاً ومقلقاً. لا أشك في كرهها لي وأنا بدوري ما كنت لأستلطفها. وفي أكثر المرات كنت أخرج من عندها مهموماً غاضباً مشتـّت العقل لا أدري أو أعرف ما أريده.

استيقظت فزعاً وأنا أسمع صوت باب الشقة يوارب بقوة. وصوت مرافقي يلقي تحية الصباح بالرغم من أنه لم يشاهدني، فقد كان جسدي ممدداً فوق الأرض بموازاة السرير من الجهة القريبة للنافذة. كنت منهكاً لذا غفوت مكاني. شعرت بتقلصات شديدة في قدمي ويدي المعاقتين وكأن أشهر العلاج الطبيعي وتناول الدواء قد ذهبت أدراج الرياح. حاولت أن أنهض فوجدتني أعجز عن هذا وكانت يدي تضغط بشدة على ورقة اليانصيب فخفت من أن يكون قد أصابها ضرر أو تمزقت فأخسر كل شيء. أمسكتها ومسحت عليها ثم وضعتها بسرعة في حافظة النقود وحاولت أن أخفف عن قدمي رعشة انتابتها وهذا يحدث لي للمرة الأولى وبهذا الشكل.

كرر مرافقي نداءه دون أن أفكر بالإجابة عليه، ورغبت أن أستمر في رقدتي دون أن أدلـّه على مكاني، ولكني وجدته يقف فوق رأسي بابتسامة بلهاء.

ـ ما الذي تفعله تحت السرير يا صديقي ؟

ـ لا شيء ... لا شيء. فقط أردت أن أستريح..لا علاقة لك بشؤوني هذه. دعني لوحدي لا حاجة لي بمساعدة اليوم. تستطيع أن تنصرف، فلا وجود لغسيل وعندي من الطعام ما يكفي.

ـ ولكن واجبي يحتـّم أن ..

ـ أعرف ذلك ولكني أشعر اليوم بتحسن شديد وقد استيقظت مبكراً وتناولت الدواء، وسوف أتناول الفطور والشاي بعد حين.

ـ أي دواء تناولته ؟

ـ لقد حضرت راشما وعملت كل شيء.

ـ أي راشما ومتى جاءت ؟

ـ لقد كانت هنا مع أمي، وسوف تعودان بعد قليل لتأخذاني معهما في رحلة خارج ستوكهولم. هذا قد تقرر قبل عدة أيام مضت. ربما تعتقد أن هذه الرحلة سوف تفقدك وظيفتك، ولكني أعدك بالعودة السريعة وسوف أكلم السيدة كاترينا لتبحث لك عن عمل جديد. لا تفكر كثيرا. لا تهتم، أنا وحدي من يستطيع إيجاد مخرج لمشكلتك. ولكن دعني أقول، إنك تستطيع أن تجد أفضل من هذا العمل. أقصد أنك قادر على العمل في أماكن أخرى مثل شركات ومصانع، وليس من المناسب أن تعمل مثل هذه الأعمال التي تبخس قوتك الجسدية وروحك الفضولية. فالجسد القوي صنع للعمل الجبار، وأنت تبدو مزارعاً قوي البنية، تحب الحديث مع الحيوانات والطيور، وتستطيع أيضاً البحث عن حبيبات في وارشو تقضي معهن وقتاً سعيداً، وربما استطعن إقناعك بالمكوث في وطنك بولونيا، دون الحاجة لوجودك في السويد. وراشما، لا بل حتى أمي، قالت إني لم أعد بحاجة لمساعدتك، وهما ستتكفّلان العناية بي وتسيير أموري. وإن جسدي لم يعد منهكا مثل قبل. تعرف أن راشما تقدر مثل هذا الأمر أكثر من غيرها وقد كانت في المستشفى خير مرافق لي.. ليكن السّر بيني وبينك ولو أني لم أفاتحها بعد، ولكني نويت الزواج منها. قبل ساعة من الآن لمّحت لي، ولو بشكل بسيط، عن إعجابها. والأكثر من هذا كانت تتهامس مع أمي وتتبسمان وهما تطالعانني، وحين سألت أمي عن الأمر قالت إن راشما  تودني  كثيراً وهي معجبة بشخصيتي. لقد غسلت ملابسي وطوتها ورتبتها بعناية. آه لو أنك شاهدت وجه أمي، كان يطفح بابتسامة الرضا والموّدة. أعرف رغباتها وأعرفها حين تكون ضجرة وكدرة، ولكنها كانت اليوم شديدة الفرح مبتهجة مسرورة. ومع كل ذلك كنت أود لو تتركني لبعض الوقت أنفرد براشما لأبثها شجوني وتفصح هي عن رغباتها. قل لي أواجهت مثل هذا الموقف مع إحداهن. لا أعتقد ذلك، فعلاقتي براشما تختلف كلياً عن علاقات الآخرين. سوف نسافر اليوم سوية وأفاجئها بالأمر، سوف تصعق من الفرح وربما ترتبك، ولكن أمي تستطيع أن تكون خير معين. إن أمي تتحدث أحياناً كلاما يثير الإعجاب والقناعة في نفوس الآخرين. أنت واحد من البائسين إذا لم تتعرف على أمي ولم تسمع حديثها. لقد نبهتني لأمرك عدة مرات، وأبدت عدم رضاها عن رفقتك لي، وقالت إني أتعس الناس حظاً لأني قبلت وجودك واستمرارك معي. أعتقد أن أمي على صواب وهذا رأي راشما أيضاً. تستطيع الذهاب الآن فأنا لست بحاجة لك اليوم. وأيضاً فإن عودتهما بعد قليل سوف تثير مشاكل لا أجدني أحتملها. أعترف لك أن أمي وراشما لهما المكانة الأولى في نفسي، وسوف أقف معهما بالضد منك، ويحدث ما لا أريد أن يزعج حبيبتي وأمي، ويعكر صفو فرحي بلقائهما. اذهب وأعتنِ بدجاجاتك في القرية أو سافر إلى وارشو وابحث عمّا يسلي قلبك.لا تدع الوقت يمر ..أرجوك لا تحرجني فأنا لا أحتمل غضب أمي وبكاءها. وإن غضبها وبكاءها سوف يجعلاني أقوم برد فعل لن يرضيك وربما يؤلمك جداً، وهذا ما يجعلني أقول، يجب علينا أن لا ندع هذا الأمر يحدث. لقد تناولت الدواء وراشما من ساعدني على ذلك، في حين كانت أمي تجلس عند حافة السرير تطالعني بفرح وروح منتشية، وهي من قالت إن رقودي بجانب السرير على الأرض سوف يقوي عظامي، فوافقتها الرأي وجلست راشما جواري تمسد شعري فغفوت. اذهب الآن قبل قدومهما. إذهب ولا تظن أني بحاجة إليك بعد الآن.

ـ أعرف ذلك جيداً، لقد اخّبرت به ..رغم كل هذا، ما عليك الآن غير النهوض والذهاب إلى الحمام ثم تناول الدواء. يبدو أنك سهرت البارحة لوقت متأخر ؟

قال ذلك وتقدم نحوي يحاول إنهاضي.أمسك بيدي ورفعني عن الأرض. ما كنت أستطيع تحريك جسدي، وشعرت بثقله مثلما شعر البولوني بذلك. كنت منهكاً وجسدي متيبسا، ولكني طاوعت يديه ورفعت جسدي، وفي الوقت ذاته كنت أحاول جاهداً أن لا يمد يده نحو جيبي، فقد أمسكت جيب بنطالي بشدة. فعليَّ أن آخذ الحذر، وأن لا أترك له فرصة لخطف الورقة مني. لا أحد يعرف ما يدور في ذهن الآخر، وأنا على يقين بأن هذا الشيطان لن يترك الأمر يمر بسلام. آه لو أن راشما وأمي تصلان الآن وتمنعانه من الاستيلاء على ورقتي الحبيبة. لقد تأخرتا كثيراً، وأنا أتهيب اقتراب لحظة اعتدائه عليّ وسلبي ورقتي. إنه قوي بجسد ضخم وعضلات مفتولة، وهو قادر على خنقي ورميي من الشرفة. عليَّ أن أكون لطيفاً مهذباً معه كي أجعله يبعد عن باله فكرة قتلي، أو على الأقل أسايره لحين قدومهما وإبعاد أمر الجريمة بما يكفي من الزمن. ولكن يا ترى ما سبب تأخرهما كل هذا الوقت. لقد أخبرتني راشما أنها تتحرق شوقاً لرؤيتي والعناية بي، وأمي أيضاً كانت كثيرة الدعاء وتطلب من ربها أن يتفضل ويمنحها العمر الطويل كي تعتني بي وترعى أطفالي.أعرف ذلك، فهي سوف تجلس ابني في حضنها وتداعبه.إنها تتشوق لهذا وأنا وعدتها بذلك وأخبرتها بموافقة راشما.

بادرني مرافقي البولوني قائلاً بأني لست في حاجة إلى الإلحاح في الحكاية، واستهلاك نفسي المتعبة بسرد كل تلك التفاصيل، علينا الخروج للتنزه جوار البحيرة لاستنشاق الهواء، والتخلص من الكوابيس المزعجة، وناولني كأس الماء ومسح على رأسي بيده الثقيلة، ثم جلس جواري مطالعاً وجهي بعينيه العصفوريتين. لم تكن لدي رغبة في تلبية طلبه، ولكن خطر في رأسي خاطر، أن أذهب إلى السوق فهناك أستطيع أن أبعد عن نفسي الخطر، وأقضي الوقت لحين قدومهما وفي الوقت ذاته أتأكد من قيمة الجائزة.

حدقت في المرآة، وطالعت وجهي الشاحب ولحيتي التي نمت بإهمال. كان رأسي يرهقه صداع ثقيل وعيناي كانتا كابيتين ناعستين. شعرت بالقرف والاشمئزاز وأنا أشاهد شعر رأسي المشعث. فكرت جيداً، ووجدت أن من الخطر أن لا أرى في نفسي غير المرض، وأن أمحض روحي كل هذا الإهمال بعد أن نلت تلك الورقة الذهبية، مصدر سعادتي القادمة. ولكن يا ويلي فإن ما ترسب في نفسي يبدو أكثر ثقلاً من أن يتركني طليقاً. ولكن ما دام الحال هكذا ولا منفذ للخلاص منه، فليكن ما يكون وسيان إن فرحت أو حزنت؛  فأنا أشعر دائماً بأني لست بقادر على تغيير الأشياء. حتى هذا البولوني أصبح جزءً من كياني، فهو الذي يداري عوقي وعيونه تغلّ فضولها الخبيث في روحي دون توقف، وأنا من الضعف بحيث لا أستطيع أن أبعد أذاه عني. لا أدري ما مبعث كل هذا التشويش. كنت فرحاً طوال ليلة أمس، ولكني الآن أشعر وكأنها امتدت مثل كابوس مقيت. تغير كل شيء بعجالة وبتّ أسير في لحظة قاتمة لا بل شديدة السواد.

بكل تمهّل، ارتديت ملابسي. وحين أراد البولوني مساعدتي على ارتداء القميص دفعت يده بقوة. نوبة من كراهية حادة شعرتها تسيطر على مشاعري، ليس فقط  اتجاهه وإنما تجاه كل ما يحيط بي. واجه خشونتي تلك بابتسامة بلهاء قائلا:

ـ سوف يكون الحال على ما يرام حين نكون وسط الناس..أنت تحتاج إلى هواء منشّط...ربما نلتقي بعض المعارف فيتغير المزاج.

كانت جملته مبطنة ومقلقة بعثت في روحي الكثير من التوجس، ولكني لم أشأ الرد عليه، ورحت أطالع هندامي في المرآة الكبيرة المجاورة لباب الشقة الخارجي، وانتبهت إلى صورته ورائي وكيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة زادت من رعبي.

دفع الباب بهدوء، ووقف ينتظر خروجي. مشيت بتثاقل أخط بقدمي المعلولة فوق بلاط الممر الطويل المؤدي إلى كابينة المصعد.امتدت أمامي فسحة الحديقة الواسعة التي تتوسط العمارات السكنية الثلاث والمغلقة من الجانب الأيسر بأشجار الصنوبر العالية التي تشكل وجه الغابة الأمامي. نظرت نحو نهاية طرف الحديقة عند امتداد الغابة، حيث ينفرج من وسط الأشجار الكثيفة طريق ترابي ضيق. كانت أمي واقفة هناك عند بدايته تنظر نحوي بعينين جاحظتين، وتمسك بيدها طفلاً صغيراً. ناديت عليها ولكنها سحبت الطفل وولجت بين الأشجار عند الطريق الترابي.صرخت بأعلى صوتي، لوّحت بيدي..ناديتها إن تقفِ ..إلى أين تذهبين....انتظريني ...انتظري... ولكنها اختفت..أردت اللحاق بها. كان جسدي مضطرباً يهتز دون أن أستطيع التماسك ..رأيتها تظهر بالقرب من أشجار الصنوبر. كانت ابتسامتها شاحبة وشفتاها متيبستان، وثمة لوم تريد الإفصاح عنه. نعم شاهدتها. لا تريد المجيء اليوم. ربما تركتها راشما وضاع عليها الطريق. ولكنها كانت قريبة وشاهدتني، فما الذي جعلها تبتعد.

***

فرات المحسن

كانت الساعة قد تجاوزت الساعة السابعة مساء كثيرا عندما نظرت لها. استرخيت على الكنبة في محاولة مني للتغلب على قلقي واضطرابي وخوفي وتوجسي من أن يكون حدث لها أمر ما. لكن، سرعان ما تذكرت؛ من انها تتأخر قليلا عن موعد عودتها من مراجعتها الدورية للطبيبة للفحص وتنظيم بروتوكول العلاج، في أغلب الأحيان. وجدتني والجدران تحوطني؛ أتنفس ضوعها في جميع موجودات الشقة من السرير والمرآة وبقايا غرفة النوم، جسد من عطر وضوء. تمسكي بها كتمسكي بمكونات وجودي. إنما حين اشارت عقارب الساعة الجدارية امامي الى الثامنة مساءا؛ انتابني القلق عليها كثيرا، فقد قالت لي، في أخر اتصال لها معي، في الساعة الواحدة قبل انتهاء الدوام:- مؤيد، سوف أتأخر، لأني سوف اذهب في نهاية الدوام الرسمي، الى عيادة الطبيبة، فقد حجزت عند سكرتيرتها، عبر هاتفها في مساء امس لمساء هذا اليوم؛ لأكون اول من تدخل للمعاينة. اعذرني فقد نسيت ان اخبرك. سوف اكون في البيت قبل الساعة السابعة او في الساعة الثامنة على ابعد احتمال. اتصلت بها. سمعت الرد البارد من المجيب الألي:- الرقم المطلوب مغلق او خارج التغطية. ظل هذا الرد البارد يتكرر مع كل اتصال لي برقم زوجتي. عندما اقتربت عقارب الساعة، من الساعة التاسعة مساءا؛ قررت ان اغير ملابسي واذهب الى عيادة الطبيبة. كان الطريق الى الساحة؛ حيث توجد هناك؛ عيادة الاخصائية النسائية، زحام السيارات فيه، شديد جدا، الى درجة الاختناق.. حين بلغت التقاطع الذي يسبق الساحة؛ توقفت. الزحام شديد، ارتال السيارات المتوقفة؛ شكلت انساق متوازية على مدى الرؤية، ممتدة بمسافة لا تقل عن كيلومتر عن التقاطع. ثار استغرابي هذا الزحام مع اني في جميع المرات التي امر فيها من هذا التقاطع؛ كان زحام السيارات شديدا، إنما ليس بهذا الاكتظاظ وهذا الامتداد. تأففت. أخرجت سيجارة من العلبة. بدأت ادخن والقلق والخوف يهزان نفسي بألم أوجع قلبي.. أقترب شاب مني، من هؤلاء الشباب الذين يبيعون قناني المياه الى اصحاب السيارات المارة في التقاطع، ضرب بأصابع يده، زجاج نافذة الباب الى الجانب مني. انزلت زجاج النافذة، التي كنت قد اغلقتها؛ حين فتحت التكييف، وأنا ادير محرك السيارة؛ استعدادا للانطلاق. قال:- الانتظار سوف يطول كثيرا جدا، وربما يستمر لساعات، حاول ان تخرج من التقاطع. قلت له مستفهما:- لماذا؟ قال بسرعة وكأنه كان قد اعد الجواب مسبقا:- مسلحون هاجموا رتلا امريكا قبل ساعة، واحرقوا دبابة من دباباتهم. اطفأت المحرك، ووضعت رأسي على الوسادة الكائنة فوق مقعد القيادة.. في احد المساءات، رجعت مهمومة من عيادة الطبيبة، كانت المراجعة الثانية لها، على ما اتذكر. كان وجهها مصفرا وشاحبا. لكنها لم تقل كلمة. أنا ايضا من جانبي تركتها، لم اشأ ان اضغط عليها؛ كي تبوح بأسباب همها، فقد ذهبت الى الطبيبة، وهي مشرقة ومتفائلة تماما. كانت قبل اسبوع من الآن؛ قد فاجئتني، بعد سنتين على زواجنا، قالت لي في الليل، في الصالة حين كنا معا نسهر على فلم كان يجري بثه من احدى القنوات، لم اتذكر اية قناة كانت، فقد عادت في المساء من زيارة، كانت قد قامت بها الى مدينة العمارة، لمدة اسبوع :- مؤيد اريد منك وليدا؛ ان يضفي الحيوية والدفء على هذا البيت، ذكر كان ام انثى لا فرق عندي في الحالتين. افصحت عن رغبتها هذه، من دون اقل او ادنى مقدمات لكن من قوة المفاجأة؛ سكتُ ولم اجبها، ربما لعدة ثواني، او اكثر قليلا. في النهاية وبعد ان امتص عقلي قوة الصدمة، اجبتها:- لكنك يا سمية خلال السنتين، رفضت هذا الامر رفضا تماما، بل انك اصررت على تناول الموانع كي لا يكون هناك حمل وأنا قبلت بهذا الوضع نزولا عند رغبتك تلك. اجابتني:- هذا صحيح يا مؤيد. إنما حدث امرا خلال الاسبوع الفائت؛ غير موقفي هذا، تغيرا كاملا. في سفرتي لوحدي، فقد كنت انت مشغولا بعملك، لذا، لم تصحبني؛ الى مدينتنا العزيزة، العمارة. كانت الزيارة هي لمعاودة خالتي المريضة، التي كما تعرف؛ تعيش وحيدة في بيت واسع وكبير/ مطل على نهر دجلة، في حي عواشه. في الاسبوع الذي امضيته معها، اكتشفت كم كانت خالتي وحيدة ومتألمة، وتشعر بالوحشة في بيت واسع وكبير. حتى انها كما هي قد اباحت لي ما في صدرها من فراغ مخيف وحزين وقاتل. في الليلة الثاني لي معها، في البيت، وهذا هو ما جعلني، امضي بقية ايام الاسبوع معها، على عكس ما خططت واتفقت معك؛ على ان ابقى معها يومان واعود. فقد تدفقت بالحديث عن الليل الذي تعيش هي، فيه وحيدة تماما:- في الليل افز مرعوبة على اصوات غريبة جدا. هذه الاصوات على الرغم من غرابتها فهي معلومة لي، او ان نبرات اصواتها في هذه الليالي الموحشة والمخيفة؛ اعرفها تماما، فهي لزوجي الذي رحل قبل عدة سنوات، لكن الغرابة في هذا كله؛ هو ان صوته كان اشبه ما يكون بالنواح او ندب النادبات في المأتم او في بكاء من رحلوا بغتة من غير سابق معرفة او انذار. اجلس على منامتي، احدق مليا في ظلمة الغرفة. اشرب قدحا من الماء، واستغفر ربي. احاول ان آهدىء نفسي. لكن من الغرف الأخرى اسمع اصوات هي كما هو صوت زوجي؛ اصوات بكاء ونواح يفطر القلب كما هي بذات الدرجة تبث الرهبة في نفسي. أنها يا بنيتي اصوات امي وابي اللذان رحالا عن هذا العالم قبل عقود خلت. ان هذا الوضع يتكرر معي في كل ليلة، من ليالي السنة، قبل اكثر من ثلاث سنوات. :- يا مؤيد هذا هو ما دفعني للاهتمام بموضوع الأنجاب وليس هناك اي امر اخر. في السنتين الماضيتين؛ سمية زوجتي لم تعر، موضوع الحمل اية اهمية، بل رفضته رفضا كليا. من جانبي كنت في ذلك الوقت؛ منشغل بها، في علاقة حميمية فارطة الرقة والنعومة. لذلك ومن دون اقل تفكير موضوعي وعقلاني، وبالذات في السنة الأولى على زواجنا؛ تعطل في داخلي، فعل العقل، توقف عن ان يأخذ مساحة اكبر من مساحة العاطفة، مما قاد الى ان تظل مخرجاته، تعتمد على مدخلات الحب والعاطفة التي ينتجها الحب، ورأي ورغبة وزوجتي في وقتها؛ فقد رفضت الحمل في السنتين المنصرمتين. كي تتحوط ان لا يحصل الحمل؛ اخذت بانتظام تتناول موانع الحمل. طال الصمت اكثر مما يجب. ثم اني شعرت بثقل هذا الصمت على نفسي، كما أني من الجانب الثاني؛ اردت ان اعرف اسباب همومها التي عادت محملة بها، بعد مراجعتها للطبيبة.  سألتها:- ما بك؟.. ثم انتبهت الى غرابة سؤالي لها، قلت لها بسرعة مصححا سؤالي:- ماذا قالت الطبيبة؟ اجابتني والحزن يقطر من كل حرف من جميع حروف كلماتها، التي تدفقت من فيها؛ قالت الطبيبة:- السبب الرئيسي؛ ضعف الرحم. لا شىء يفيد، ألا بمتابعة العلاج لتقوية الرحم، حتما، نخرج بنتيجة، أكدت الطبيبة. عليك فقط بالصبر. على الرغم من انها؛ استمرت لعدة سنوات؛ بأخذ العلاج بانتظام؛ لكن الحمل لم يحصل بعد مرور تلك السنوات من المراجعة لذات الاخصائية، مع مواصلة العلاج باستمرار من دون انقطاع، باستثناء سنوات الحصار. حتى في سنوات تلك، لم يحدث ان توقفت عن اخذ العلاج، لعدم توفره؛ لأكثر من اسبوع او اسبوعين على ابعد فترة من الانقطاع. تاليا بعد الاحتلال توفر بكثرة، في الثلاث سنوات الأخيرة حتى الآن. وجدتني في السنة الأخيرة في حيرة وألم وخوف، ليس لأن الحمل لم يحصل مع أنه يشكل وجع دائم في جانب من جوانب روحي، قلقي وخوفي عليها وبالذات في الاشهر الأخيرة من الآن، التي بدأت فيها؛ لا تنام ألا القليل من الليل. في أغلب الليالي، توقظني حركتها في الصالة، عندما تنسل إليها، من غرفة النوم خاصتنا بسكينة وهدوء تام. في أحد الليلي رأيتها أمامي، تبكي وفي حضنها رضيع في الأيام الأولى من ولادته. كانت غرفة النوم مظلمة. انتزعت جسدي من دفء منامتي. في الحقيقة لم تكن تبكي، كانت تنوح، نواحا مرا، يفطر القلب. كان الرضيع ينزف الكثير من الدم من جبهته حتى تحول ثوبها وقماطه الى اللون الأحمر. كان هناك أفعى مرعب ألتف حول رقبتي، كدت أختنق. مسكت الافعى من رأسه، بقوة او بكل ما في ذراعي من قوة، حاول التملص من قبضة يدي، إنما أنا بدافع من خوفي، من ان يفلت مني، فقد كان يحاول  ان يغرز اسنانه في رقبتي؛ لذا، بعزم وحسم شديدين؛ ضغطت على عنقه، حتى تمكنت من ان افصل الرأس عن الجسد، رميت جسده ورأسه بعيدا عني. رأيت رأس الافعى يزحف الى الركن المظلم من الغرفة خاصتي. اندفعت بسرعة الى غرفة زوجتي التي لم تزل تنوح. عندما اقتربت منها، تأكدت من أن الرضيع، فراق الحياة. سألتها:-  ما الذي جرى؟ . صرخت في وجهي صرخة شقت سكون الليل. فززت مرعوباً، أحدق في ظلام الغرفة، لم تكن هي معي، وجدتني نائما وحدي ولا أدري، كيف ومتى أنسلت وغادرت. بكاء يأتيني من الصالة. أنها هناك؛ تناجي بدمع القلب؛ ظلام الليل. وضعتها في حضني وتجولت شفتاي بالقبل على وجهها ومسحت بلل الدمع من على خديها. في تلك الليلة ظللنا نتحادث بحميمية ما تبقى من الليل الى أن أبلغتنا طلائع الفجر بقرب شروق الشمس لصباح جديد. في تلك الليلة تيقنا؛ لابد من التعايش مع الواقع والذي لا مفر منه. الشيء الأكثر أهمية، متابعة العلاج. ألمتني الذكريات هذه. تخلصت منها. نظرت الى الطريق. رأيته قد ازداد ازدحاما بالسيارات. نظرت الى ساعة يدي؛ كانت عقاربها تشير الى الساعة العاشرة. تمتمت مع نفسي:- لقد امضيت ما يقارب ساعة من الانتظار. قررت ان اعاود الاتصال. أتصلت، تواصل الرنين في الطرف الأخر ولم ترد. مرة، مرتان، ثلاث... ولا تجيب. قلت:- "ربما هي في الطريق الى البيت ولا يسعها الاجابة. أو، لم تزل في غرفة الفحص. لأنتظر. لم تمض سوى دقائق ورن هاتفي. نظرت الى الرقم المتصل، كان رقم زوجتي. وجدتني اشرق بالفرح. دست على زر الاتصال؛ سمعت صوتا لرجل أبح. أرعبني، حطت امامي جميع مخاوفي. سألتني بصمت كلي الاطباق على لساني:- أين هي؟ لم أسأل المتصل. كنت في سحابة الصمت الثقيل المحمل بالخوف والتوجس و رهبة القلق. إنما الرجل صاحب الصوت الابح، ان هذه البحة في الصوت والذي اكتشفتها لاحقا بعد ثواني؛ انها كانت خنة ألم؛ لصوت مختنق بالوجع؛ عندما ابلغني بملخص ما جرى مع محاولته طمأنتي على حالة ووضع زوجتي. وصلت الى المستشفى الكندي، ودخلت الى اروقته، حتى وصلت الى مسافة امتار عن باب صالة الطواريء، لأن المكان كان مزدحما بالناس، والهاتف  في يدي. وأنا أقترب أكثر، من زحام الناس أمام صالة الطوارىء. نواح وبكاء ولطم وصراخ، كأني اسمع صراخا في مقبرة. لم أحتاج للسؤال،  فقد كان هاتف زوجتي هو الجواب؛ رأيت احد الممرضين؛ يقف وحيداً وعيونه تفتر على الداخلين. في يده هاتف زوجتي، مثل كتاب صغير.. قال الممرض بعد ان عرفني او أنا من عرفته بنفسي، لم اعد اتذكر؛ هل هو من عرفني أم أنا من عرفته بي؛ عندما رأيت هاتف زوجتي بيده :- أنها في العناية المركزة. أما المفاجأة الأخرى، التي تتعلق بالجنين، عندما سمعتها؛ هزت أعماق روحي وضاعفت من ألمى، بت لا أقوى على الوقوف، كدت أسقط على البلاط، لولا ان أمسكني الجراح، أخذ يهدئني ويربت على كتفي وينظر الى الممرض بغضب ومن ثم قال:-  لا عليك ماهي ألا أيام وتخرج كما كانت قبل الانفجار. أما الجنين، لم يتجاوزالشهرين؛ وأنتما لم تزلا شابان، أمامكما طريق طويل... ساعتان، جالس على الكرسي؛ أنتظر أن تصحو من الغيبوبة بفعل التخدير والذي يستمر تأثيره لساعات كما أبلغني الجراح قبل أن يغادر. العملية صعبة؛ البعض من الأمعاء ممزقة وكانت خارج الجسم. حط الليل وعم الهدوء والسكون. أتأملها وهي غائبة عني. قلت لها:- متى تخرجين من عالم الغيبوبة...اصحِ.

***

مزهر جبر الساعدي

عَـصـمـاءُ أنـــتِ سَـــلامٌ حــلَّ أيّـامـي

وأنـتِ فـي نـبض هـذا الـقلبِ أنـغامي

*

أمـــدُّ نــحـو ســمـاكِ حَــبـلَ أُمـنِـيـتي

فـتَـقـطِفُ الـنّـجمَ والأقـمـارَ أحـلامـي

*

بَـوحـِي إلـيـكُمْ يَـزيـنُ الـشِّـعرُ أحـرُفَهُ

كــمـا يُــزيِّـنُ نُـــورٌ بــدرَهـا الـسّـامـي

*

وبـتُّ أعـشقُ جـريَ الـحبِّ فـي بـدَني

كـأنّـهُ الــروح فــي عـزمـي وإقـدامي

*

لـــولا جـنـابُـكِ مـــا حِـيـكـتْ عـبـاءَتُهُ

بـوشيِ فُصحى عميقٌ بحرُها الطامي

*

كــلّا ولا ســلّ حـرفـي سـيـفَ روعَـتهِ

يُـذيـقُ مـن شـاء بـوح قـلبِيَ الـحامي

*

أهوى أنا زهر روض الشعر من صغري

يُـبـرعِمُ الــوردُ فــي حـبري وأقـلامي

*

كــأنّــمـا جـــئــتُ لـــلأحــلامِ أكـتُـبـُهـا

أنــصـاع مـــن دون جـبـرٍ لا؛ وإرغــامِ

*

أدمَـنـتُ أســرِيَ فــي مـعـنىً وقـافـيةٍ

حـــتّـــى كـــأنّــي مــقــيّـدٌ بــإحــكـامِ

*

الـشـعـر والــحـب كـالأقـمـار أنـجُـمُـها

تُــنِـيـرُهـا؛ بـــفــؤادٍ لاهـــــبٍ دامـــــي

***

د. صلاح بن راشد الغريبي

- يمّا..

يجثو شطر وجهها المنصرف عنه إلى الأفق الجهم.

تنغرز نتوء الحصى في ركبتيه. يزدرد الألم المتلبّد على عتبة المريء ويجْلد. يخجل من صبرها على شظف الأرض فيما تجلس على مفرش رثّ فلا تكِلّ أو تتذمّر. تتمتم، تنكتم، تشرد، تعبس، تنبسط، تتجهّم، تقوّس خطّ الشّفتين في هيئة البكاء ثمّ تنفلق في ضحكة خرقاء مختصرة.. تتوه عنه حتى يحسب أنها لن تعود إلى وعيها ثانية، وفي لحظة ما خاطفة مفجوعة تنتبه لوجهه المنتحب خاشعا إلى وجهها فترتسم ابتسامة بلهاء نصف جذلى على كمد الشّفتين. يشرق فيها الذّبول حينذاك، والعتُم عن تقاسيمها ينقشع..

يأخذه فرح مرتبك. ليس على يقين أنّها تبتسم له هو بعينه، أنّها إذ تُوليه جانب وجهها فهي تراه فعلا، غير أنّه يحبّها أشدّ حين تبتسم..

كالأمل يضرب بعصاه المقدّسة يمّ الغسق فينشقّ عن درب النّور يعبر عليه الخائفون إلى النّجاة بسمتها، كضمّتها، كحنانها يُغالب الوجع فيغلبه.. هي لا تدوم غير نهزات مِزَق بسمتُها، بيد أنّها تكفي ليتمدّد الفرح في العمر أيّاما طويلة قادمة، تكفي ليجدّد قلبه القانط عهد الصّبر فيما يتسمّر أمامها على مقعد التّرجّي..

تمدّ يدها ناحلة مخضرّة عروقها إلى طرف منديل الرّأس المعقود عند جيدها العاري. تعالج الصّرة المعقودة بشدّة بأصابع مرتعشة ثم تستعين عليها بأسنانها حتى يمدّ يديه يهمّ بمساعدتها ثمّ يستدرك تاركا أصابعه معلّقة على حبل الرجاء الممتدّ بينهما. تفتح العقدة ملء كيانه المتهافت عليها. تسحب منها قطعة نقديّة تدسّها في يده بضغطة حرص وتحذير كما لو كان طفلها ذاك بعْد.. يطبق مالك على القطعة النّقديّة بوجع محتقن وتبتسم هي ثانية موغلة أكثر في الذّهول، ثمّ تعود لتكِنّ إلى هدأة مرعبة..

- يمّا..

يسكن العالم على حرف النّداء اليائس. ينتظر مالك من جديد أن تجيب، أن تحوّل بصرها بوعي منها عن الأفق قليلا لتراه على وجه اليقين. لعلّ حركة أو غرغرة صوت فَقَدَ انسجامه الطبيعيّ مع اتجاه الرّيح في حنجرتها تندّ عنها، أو قد يظلّ الظّهيرة كلّها بانتظار ردّ ما.

خلفيّة المشهد غيم أحقد ممّا يتراصّ تحت سقف القلب يتدانى الحينَ من الأرض. وموسيقاه التّصويريّة رعود تدمدم في أنحاء الفضاء هوجاء ممسوسة. بروق كأذناب الشّياطين تجلد الأمكنة الجرداء والأراضي الجافّة المصفرّة وأطراف الأشجار التي تأخذها نوبة عويل في شعاب الوادي وبواطنه الفقيرة، فيستشعر مالك اللّذع في فروة رأسه، وعلى حدبة ظهره المحنيّ باتجاهها ويستكين ذِلّة. طوق من غبار قتِر كثيف، عكِر، يخاصر السّاحة الشّهباء المفتوحة بذراع قويّة حامية، ويُضيِّق على الرّوح مجراها فيه.

لا مطر في الأفق، هي فقط عادات الخريف النّزق في وادي الزّان. وعيد بجحيم قد يتحقّق قريبا في وابل قصير ومكثّف من برَد خشن يفقأ عيون الكائنات الصغيرة ويُحتْحِت الورق من على غصونه وقد يتلاشى الوعيد في هجرة الرّعود إلى سماء ثانية.. لكنّ العاصفة التي تتبرّج الآن في سماء التوقّع الذّاتية لا تبشّر بانقشاع قبل كارثة ما.

تكسو طبقة الأتربة المترسّبة الأسطح الواطئة وتدرّجات القرميد الذي حال لونه الأرجوانيّ إلى حمرة متفسّخة باهتة، وتتجمّع حولهما خفاف الطبيعة الجافّة: ورق الشّجر، كِسر الأغصان الصغيرة، الأشواك، الثمار اليابسة، قَصْف القشّ، روائح  الكائنات الحيّة المختلفة.. عالم من الجثث يحفّ مجلسها الواقع بين جسد حيّ وقلب بارد وما بينهما طفلها الفارع مشعّث الشّعر، هذا الذي يخاف الآن أكثر من أيّ وقت مضى أن يكبر أكثر.. أن يغادر إلى الثانية والعشرين من عمره بلا رجعة..3673 بمسة الشوالي

حيران هو، خائر، قلق، ضاجّ، فائر، ضجر، مُنْخسِفٍ خيبة، مندفع ثورة وفي الآن نفسِه واهن ومخذول.. يفتّته نمل أحمر، فيشعر بجدرانه الدّاخليّة تتآكل ولا يملك أن يتدارك ما ينهار، فيه فيتضوّر من نفسه في نفسه وبعضه يقود انقلابا على بعضه لانتزاع السّيادة على حياته القادمة خارج هذا المكان المُغتصَب المنتهك المرميّ كجسد شقيقه مروان إلى أقصى النّسيان العطين، المعلّق إلى رقاب الجبال كأوّل اللّصوص الخيّرين تأكل الغربان الوضيعة من كبده ثمّ يتجدّد ليُنهش كلّ يوم جديد1[1] نهشا جديدا، وفي البلاد، في كلّ شبر من البلاد تنتشر أعين السيّد الذي أوثقه، مستميتة في حراسة موته الذي يتمّ صرفه بتقسيط مريع..

تتهيّج النّدبة المسجّاة طوليّا على كامل فخذه الأيمن. يشعر بجنبه يندى وسائل لزج يسحّ نحو ركبته.. يشكّه الوجع حادّا كما لو بعضه يُقَدّ منه قديدا وعينه تشاهد تقطيع بيتها ولا تملك أن تنفر أو تستغيث.. يتحسّس جانب بنطاله الجينز. ينظر مليّا في كفّه. لا بلل ولكن برودة تتفصّد ألما مُزْرَقّا طريّا متورّما عند الجرح القديم، متشعّبا كما اللّبلاب مدى فخذه الأيمن، وصرخة هي الصرخة نفسها ما انفكّت، منذ سنة، تدوّم بين جنبيْه ذليلة متفجّعة مسترحمة صغيرة منتفخة..

النّجدة.. !!

حرارة فوّارة تندفق لاهبة من أخمص قدميه نحو رأسه، وكغطاء قارورةِ مادّة غازيّة مضغوطة انفتحت فجأة، انتفض ماجد عن الجثوّ مستقيما في حركة فجئيّة سريعة تحت تأثير ضغط داخليّ مرتفع جعل مساحته الباطنة تنكمش ورأسه تحت وطأة كبسة قاسية، يكاد ينفجر..

لم تندَّ عن أمّه التفاتة لنهوضه كأنْ لم يكن يُقْعي كجرو أمامها. يمشي أمتارا قليلة في التيه والغضب، يركل أكوام جثث الطبيعة المتكدّسة حولهما فتنتفش الأوراق والأتربة والحصى والصّبر.. ثم يعود يجثو قبالتها. ينظفّ بكفّ منفعلة مشوّشة محيط قعودها من الأوساخ وينضو ما علق برأسها وحجرها من فتات القش ونثر الأوساخ، يمسح بطرف قميصه وجهها المبلّل بدمع لزج مختلط بغبار..

سامحيني يمّا.. سامحيني.. لم أكن أعرف أنّ ذلك سيحدث.. يمّا..

وحده دمعها المنتظم. يكفكفه فينبجس غزيرا من رمشها المتورّم، ويحْرُش مؤلما تحت جفنه هو.

تتذكّر أذن "الشّكوة" التي تحتلّ قبضتها فتعود ترجّها ذهابا دفْقا وجيئة متدرّجة..

دُمْ تِكْتِكْتِكْتِكْتِكْ دُمْ..

عَدّيتْ عَ اللَّمْرارْ دايِرْ سايِرْ/ حَطّيتْ عَ الْقَرْعونْ[2] ذِبْلِتْ شِفّه/ حَطّيتْ ع النّوّارْ تْلوِّنْ حَلْفا/ وزْهاتْ لي الشُّوكاتْ فَرْشْ حْرايِرْ..

دُمْ..

يعتو الفقد المُغنّى على جسمها المهزول حتى لا يبقى منه سوى حبل صوتيّ نتَشه الشّجن وتفرّق رجْعا على الأصقاع..

تِكْتِكْتِكْتِكْتِكْ..

-2-

أمّه !؟

لم تعد جسدا.

منذ سنة وهي تترمّد بتؤدة صارمة دؤوب. تتجمّد سحنتها الشّاحبة، تبيضّ أكُفُّها، يسكن وجودها. يجلس مالك عند رأسها يذرف الحسرة، يتأتئ ولا ينشئ معنى. يرمرم. ينشج. يلعن.. فجأة تستدرك العافيةَ تامّة اليقظة. تُجيل حدقتين مفجوعتين في شقوق السّقف.. يَمِض شحوبها القتِر، وترجف شفتها تروم بسمة لا تتيسّر. يلوك اللّسان الفراغ الثقيل مرارا قبل أن يلفظ الجملة ذاتها..

مروان جا.. !؟

قبل إجابة لا يمتلكها تنتفض في عسر وثقل. تطقطق كلّ أعظمها لكلّ حركة. يهمّ مالك من شفقة أن يحملها بين ذراعيه فتنهره..

- لم أشخ بعد يا ولد.. أمّك ما تزال شابّة..

- لكنّكِ اليوم طفلة كلمى وضعيفة يا أمّي، وقد صار بوسعي أن أكون لك أبا، فتعالي إلى حضني أطعمك بيديّ، أسقيك من كفّيّ، أقيس ضغطك والسّكّري، وأعدّ طعامك مالحا أو بلا طعم ويعجبك دوما، عودي إليّ ثانية يمّا وسأغسل أدباشك، وقدميك، وأحمِّمُك، وأقلّم أظافرك، وأسرّح شعرك الجميل هذا، وأكفّر في حجرك عن كلّ أخطائي السّابقة..

تعالي إليّ ولن أبتعد عنك ثانية، سأكون أقرب إليك ممّا كان مروان سابقا، وإذا جاء موعد نومك أقصّ عليك خرافة " يا بو غْريبه يا صاحْبي"، هل تذكرينها أمّي؟

كان يا ما كان، كهل خمسينيّ متين الجسد والبنية يعيش مع عجوز في عِتِيّ المشيب وذِلّة الجسد، وقد تضاءل من فرط النّشَف حتى صار جِذْمة رجل يتكوّم مُقعدا في قفّة من ريش النّعام متهدّل الرّأس، معقوف الكتفين، واهن الكلام، وكان الكهل قد استضاف عابر سبيل. وطيلة أيام إقامته، كان الضّيف يلاحظ ما يبلبل فكره ويكتم احتراما لمضيّفه. فقد كان الكهل يقضي كامل اليوم في العمل، فإذا عاد مساء يهشّ في وجهه العجوزُ متأدّبا:

- أعانك الله يا أبي وبارك رزقك.

فيردّ الكهل:

- سلمت يا بنيّ. كيف حالك اليوم؟

- بخير يا والدي، قرّت عينك وطال عمرك.

أخذ العجب من الضّيف كلّ مأخذ وهو يسمع ما لا أذن تصدّق ويرى ما لا عين قد ترى، والشكّ كثوْب ضيّق ما انفكّ يضايقه باللّيل والنّهار حتى أعجزه عن الصّمت أكثر، فرفع عن نفسه الحرج وسأل عن سرّ الوالد كهلا قويّ البنية والولد الذي يقعد عجوزا منتهيا في قفّة من ريش..

حينذاك، أخذ العجوز يقصّ عليه القصص التي مرّ بها في حياته فشيّبت رأسه وأقعدته على حاله ذاك، فلمّا أنهى زفر الضّيف من هول ما سمع ولم يجد غير أن يقول:

- يا بُو غْريبه يا صاحْبي.. !

ذلك أنا يمّا " بُو غْريبه " هذا الزّمان ولا صاحب لي، إن لم تأخذيني إليك تُشيّبني القصص التي تُحاك لي الآن في الظّلام..[3]

يمّا..

بيد أنّه يستر شفقته عليها حين تلقي عليه كلّ علبتها العظميّة خاوية ناتئة التفاصيل حتى جذع الكرمة.

مقتل مروان الفظيع كان الكارثة التي أحرقت شحما كان طباقا تحت جلدها. اِبتلعت الغصّة كلّ الفرح الضاجّ في ضحكة إذا قُدّر لها اليوم أن تخرج من مأزق الحلق المجرّح، كانت خرقاء تخلط الفرح والتّرح في جفنة المحجر الواحد. جفّ عشب عينيها، حواشيه غدت حمرة قاتمة. شعرها تقصّف وتساقط، أسنانها صدئت، وجهها اختفى تحت عظامه المبرّزة، جلدها اكفهرّ حتى اسودّ..

كانت تحترق باستمرار، وتنتظر عودة مروان باستمرار..

آلت في خِفّة جناح لا طائر له يطوّف به حيث أيْك تأوي إليه روح فقيدها، في ثقل قلب يعيى بالأمل المتوقّد نبضُه، جسما يلازم صاحبتَه اضطرارا، ولا ينتمي إليها إلاّ بسلطة عمر يأبى أن يقضي وبه أمنية ديْنا بذمّة الحياة، ولا يعني لها إلاّ أن يكون محض علامة دالّة يهتدي بها الغائب إليها حين يعِنّ له أن يعود، تحشره إلى أخلاق فستان لا تغيّره إلاّ مُكرهة، ثمّ تجرجره على ساق مُرمّلة وأخرى تهرّأت أربطة مفاصلها لتلقي به كيفما اتّفق تحت الشّجرة معبد انتظارها اليوميّ، تعتكف إليه من الصّيف حتى الصيّف الموالي، ومن مطلع النّهار إلى مصرعه على سفوح الجبال الشُّمّ القاسية.. يزورّ عنها الظّل ناحية الزّوال ويخلّي بينها وبين الشّمس الرّمضاء تصبّ عليها الوهيج صبّا، وإذ يأتي المطر يرجم كيانها الفارغ كما صحراء هجرتها نخلتها الأخيرة بَرْدا وبرَدا وماء كسيور جلديّة تلذعُها ولا تبالي.. يجور العالم الخارجيّ عليها أو يحنو سيّان. لا تنفعل، لا تتفاعل، لا تجيب إن سئلت، لا تسأل إلاّ إن كان مروان قد عاد، ولا تنتظر أحدا ليردّ.

هي ليست يعقوب تبيضّ عيناه من فقد ضناه ثمّ ينصفه ربّه فيردّ عليه البصر والكبد. هي فقط نبيّة الصّبر الأخيرة تنشر وهم الرّجوع بين الثّكالى بوحي من قلب شفيق، ورجاء يتّصل بالسّماء حينا وكثيرا ما ينفصم.. لكنّها، لحظة لا تخلف موعدا للانتظار، مؤمنة دوما، مرتّبة فينة، شعثاء طويلا كغرفة متوجّسة ترتقب حبيبا تعرف أنّه لا يأتي لكنّها تترك باب الرّجوع مواربا وعينها على الجلبة خارجا..

-3-

- يمّا سقط اللّيل لندخل.. يمّا.. ستمطر يمّا..

يكرّر الرّجاء الخائب. يرجّ رفيقا كتفها. تخضّ عنيفا شكوتها. يُنْشِب الحصى ذؤاباتِه أشدّ في ركبتيْه. يخذله الصّبر. يسأم. ينفُخ أوداجه على أهبة التّأفّف ولا يلبث يتعفّف. يلتقط حقيبة الظهر ويقف. يذهب عنها قليلا، يستدرك. تسدّ هامته أفق انتظارها. تُميل رأسها جانبا لتظلّ على صلة بالأفق. يذرع متوتّرا بضعة أمتار يجرّ ساقه اليمنى كأنّما وزر يُثقلها. ثمّ يعود يجثو على طرف جلد الخروف الرّثيث الذي تفترش مطأطئ الكتفين، منهمر الرّأس، مشتبك الأصابع المتشنّجة، والغيظ يؤرحج شطر جذعه الأعلى بابا تخلّعت على عتبة الرّيح مصاريعه..

- مروان آ كبدي أنت هنا..؟

تشرع إليه ذراعا ناشفة تهدّل لحافها الجلديّ. يتهاوى إليها. تمسّح على تقاسيمه الدقيقة..

- وجهك شاحب ولدي، بك سوء..؟

يشخر متجرّعا ضِرامه. تجرّده موسى الحزن في حضورها الذّبلان من لحم البأس في عضلاته المشدودة.. ينشدّ الجلدُ الحافّ بندبته من جديد يوشك يُشَقّ، وتثور مواجعه الكامنة كما لو غُرَز الجرح القديم على أهبة أن تنفلق ثانية..

ينحسر فيه المدّ العُنفيّ الذي كان قبل رعشة موّالها الأولى يهدر بين أضلعه.. يهِن.

تتآكل في كيانه غضاريف تمفصلاته، يتفكّك.

تفرغ أدراجه الباطنة من كلّ احتياطيّ القوّة والجَلد، يتجوّف..

تصدى حناياه بأصوات غائرة فلاةً تعمرها أرواح الظِّماء المهلكين وقتلى السّراب.. يهزم الدّويّ داخل صندوقه العظميّ، يعلو.. يعتو.. يرتجّ.. يؤزّه القرّ في مساء خريفيّ حارّ أجرد مسفوع النّاصية..

يااا الله.. !

تستجير دواخله.

يُريعُه النّظر الارتداديّ إلى بيت أناه الشّخصيّ الصّدع.. سقف الحياة العشرينيّ يوشك يندكّ عليه ولا يعرف أيّ "مالك" سيخرج من تحت الرِّدم.. يتقفقف من صرَد ينهمر من حُمَّى انفعالاته المتقرّحة.. يدرك أنّه يفقد آخر صلاته بكونه الخاصّ المعرّف باسم وجذع فارع وحسن لافت ونزق عشقيّ يوقد الغرام في قلوب الحسان الصّغيرات ولا ينام إلاّ في حضن امرأة أجنبيّة في مقتبل الأربعين.. يمقت الآن "ألين" وكلّ فراشات الغرام التي تفزع إلى ضحكتها الوضّاء ليلةَ تراود نجما غُفلا على نفسه.. يودّ فقط لو يصرخ في أمّه محتجّا أنا لست مروان، أمّي اُنظري إليّ.. أنا لست هو.. لكنّه لم يعد على يقين أنّه مالك الذي تعرف. يعذرها. يغلبه حسّه الأبويّ نحوها فيرقّ لها ويشفق عليها من حزنها الاسترجاعيّ يقف بها بُعيْد عمليّة الفصل بين ولديْها التّوأم السّياميّ..

كان مروان يلتصق به عند مستوى الفخذ إلى سنّ السّادسة، وكان أقصر قامة منه وأكثر نحولا، فيلفّ ذراعه حول كتفه ويسنده إليه كما يسند أحدهم نفسه النّاتئة على جانب منه. حتى بعد أن فُصلا بعمليّة جراحيّة بفرنسا تكفّلت بها جمعيّة "ألينا الخيريّة" استمرّت أمّه توصيه به مشفقة عليه حدّ إثارة غيرته..

" أخوك يا مالك.. اِعتن به.. إنّه نحيل وضعيف البنية، لقد استحوذتَ على أكثر من نصيبك في الغذاء وأنتما في بطني، فلا تترك أحدا يضيمه أو يطغى عليه ما دمتما معا.. ظلاّ دوما معا.. لا تنس أخاك يا مالك.. "

لم ينسه. صار مروان أكثر حضورا منذ غيابه.. يكره هو أيضا مثل أبيه، أن يعترف أنّه قُتل بشراسة بشريّة باردة..

لم ينسه.. فقد توازنه من بعده، يسير ناقصا جنبا، منحرفا نحو اليسار.. يشرب غيظه حارقا يجرّح مجراه من صدره ويجيبها:

- لا أمّي، أنا بخير. متعب قليلا لا غير. قربك البُرء والسّكينة.

يرخي إليها جناح الذّلّ ويقترب. تلامس ركبتاه قصبتيْ ساقيها المتقاطعتين في جلسة المتربّعة. يغرورق في صدره الشّوق إلى حضنها الذي ينأى عنه مرمى حضوره المهزوم حزنا وحنينا وحاجة وضعفا وغيظا يسودّ في بطن القلب المحموم.. يغالب رأسَه المتهاوي إليها ويردّه قسرا عن السّقوط. مسامّ فروته تهفو جمّا إلى أناملها تدغدغ الطّفل فيه لا يكبر، وصوتها يرتّل " نَنِّي نَنِّي جاكِ النُّومْ أُمِّكْ قمْرَة وْبُوكْ نْجومْ.." تنفلق في فمه الغدد اللّعابيّة وذاكرته تتلمّظ طعم الحليب الأوّل، تتحسّس رائحة العرق في جسمها الدّافئ مرَّ الفصول. يدسّ وجهه ما بين نهديها فتنهره.. اِستحِ يا ولد.. لقد كبرت..

فيحرّك رأسه سريعا منفعلا منكرا لعنة العمر، ويعود يمرّغ الوجه في صدرها..

يصطدم أنفه بعظم القصّ ناتئا تكاد حروفه تمزّق الجلد. يلهج في غمغمة كالدّعاء..

ذريني على زندك أمّي صغيرا لا يكتهل، لا تُسلميني إلى الكبر. أرجوك.. ضمّيني لألتئم، إنّي أتشقّق، أنشطر، أتبعثر.. اجمعي بعضي إلى بعضي بين ذراعيك، لا تفرّطي فيّ أمّي، لا تدعيني إليّ.. أناي تخرج عن أناي لكنّها لا تعرف أين تذهب، فيمن تحُلّ..؟ روحي تُقيم فيّ مكرهة، ضلّت سكينتها فيّ، وضلّ جسدي هويّة طينه فيها..

أنا لم أعد مالك أمّاه، ولم أستطع أكون لأجلك مروان.. خذيني إليك لأراني في غير هيأته، لأستعيدني من على حافّة الجرح الذي قسمني نصفين متنافرين واحدا مستقلاّ لا اثنين ملتبسين.. قد صرتُ وحيدا جدّا، ناقصا كثيرا، فاقدا نصف كياني فاعرفيني ثانية لأكتمل..

بردان حدّ الجليد يمّا، غطّي جنبي العاري. أنا الآن أعنف من جوف الأرض المضطرم أمّاه، فلطّفي غلظتي وهدهدي نزقي ورطّبي قيظ روحي بفيض حنانك.. أنت لي بكلّك اليوم فلمَ تنأيْن عنّي وتُمعنين في الجُفوّ..؟ لمَ أمّي..؟ بُعدك عنّي يحرّضني عليّ، يشحذ نار الشرّ بين جنبيّ.. الرّجل فيّ يشرس، يتوحّش، يزيّن لي القتل بفتك وضراوة ونشوة كافرة فأنقذيني منه يَمّا.. هو ذا يساومني فيك، يخيّرني: أظّل قربك طفلا لا يشبّ أو أدخل تجربة رجولة تنفيني عنك إلى الأبد.. خذيني إليك ودعيني أسكن في المجرى الحليبيّ العتيق رضيعا فِصاله في النّزع الأخير من العمر..

يمّا..

عودي إلينا أمّي.. ردّي على أبي طريقه التي تاه عنها. رأيته اليوم يدفن ذراعه الميتة ولا يُقيم لها حدادا يليق بها. لقد قضى كامل السّنة يحملها إلى صدره كما لو كان يحمل مروان صغيرا ثم فجأة يقرّر بترها ودفنها.. لم يفعل ذلك إلاّ لغاية في نفسه، وأخشى أنّه يُقدم على انتقام لن يكون قادرا على تحمّل تبعاته عليه بعدئذ..

عودي إلينا يمّا..

-4-

حُبَّهْ دَمْعَه/ عَ طولْ خدِّ الوردْ/ تنزِلْ وشْمَه/ تَطْلَعْ بِحوضِ القلبْ/ شجرِةْ دِفْلى/ ريقاتْها/ كاسات ليل العِدْوى/ وشِفّاتْها في الشوقْ/ نِجْمِةْ حايرِ/ يا قلبي يا محزونْ حُبَّه جْرايِرْ..

من عمق رطِبِ زنِخ لم يفتح نوافذه للشّمس منذ سنة، تتصاعد كلمات فقيدها مروان موّالا لأغنية جريحة. كان يؤلّف لها الأغاني فتلحّنها، وتغنّيها له، ويتبادلان الأسرار والسّرّاء والضرّاء وما بينهما من أحلام ورديّة وغير ورديّة، يتغامزان في حضرة مالك فتنخسه الغيرة حتى يهجر مجلسهما، فيجد والده فسحة ليفصح بدوره عن غيرته المكتومة بأن يقرّعهما وينهاهما ولا جدوى.. ثمّ فجأة رحل مروان..

هل كان يعلم أنّه ينظم نعيه لنفسه بنفسه ويهدي أمّه نواحها الخاصّ.. !؟

يسْحَلُه الألم الحادّ في صوتها، يرْمَحُه بشوكة سميكة تنغرز في لحم القلب الموجوع.. ينتفض عن حجرها يتفصّد نقمة، متهدّما، مرتعشا، محتقنا.. يدمدم رعد في العُلا. تنداح السّماء في فضاء الذّاكرة يكاد بطنها المثقل سوادا ينبقر على رأسه حجرا وأسياخ ماء متْرب تفتّت الغصص المتلّبدة في مجرى الكلام..

"الآن يا مالك.. الآن..، يُلِمّ به صوت باطنّي مبحوح، الآن..

جنح أبوك إلى التّيه هربا من الحقيقة، وعثرت أمّك على طريقتها السّحريّة في التّعايش مع الكارثة، وضللت أنت طريق النّسيان..

الآن..

إن لم تستطع أن تُجَنّ، فلتقتل.. ستعثر إذّاك على الممرّ السّريّ لعمرك الباقي..، يُسِرّ له المنجل المشحوذ داخل حقيبته..

شرُّك هذا مدهش مشرق متألّق.. ويدك مُتَمَترِسة على مقبض الانتقام، وعدوّك فرح ببراءته، موقن بغلبته وفداحة ضعفك.. هذا موسم حصادك الأخير يا مالك فاغمر السنّابل النّخرة، وأهْوِ على السّوق السّامّة، وذرِّ إبر الحسك في العيون المتوحّشة.."

تصطكّ أسنان الخريف على مدخل الشّتاء الضيّق.. تتنادى الرّعود، تنهال أذناب الشياطين على وجه السّماء. يستفحل النّحيب عند أقدام الجبال وفي زوايا الفراغ المتفرّقة. تصاب الرّيح بجِنّة تهْوَج تعوي تنوح تسِفّ ما على وجه السَّفل سفّا.. تدعو اللّحظة الآنيّةُ المجنونة مثيلتها المنقضيةَ منذ سنة، وذات مساء خريفيّ بمزاج شتويّ ثقيل كهذا المساء..

تغدو السّاحة الأماميّة للذاكرة الملتاعة شاشة جداريّة كبيرة تعرض في وضح اللّحظة المستفزّة كلّ الذي كان.. يرتفع عنه سقف التناسي الذي كان يحميه من قسوة التذكّر، فينكشف عري الواقع عن كيس بلاستيكيّ أسود متروك للضّلالة تحت جذمة شجرة مُسوّسة في جانب مظلم من الغابة بعيدا عن هذا الربّع الجافي بُعْد الصّبر عن الثكلى..

يشعر مالك بثقل يسحب ذراعه للأسفل كأنّما الكيس نفسه ما يزال بيده يتدّلى ويقطر.. لا يعرف حتى اللّحظة كيف اهتدى إلى مكان أخيه قبل الجميع.. من دلّه عليه؟ هل كان طرف ثالث يعرف تفاصيل الجريمة..؟ من قد يكون؟

لا يفصح أرشيف الذاكرة المشوّشة عن تفاصيل أخرى، تُركت الأحداث ملقاة على الأرض تُرى ولا تُرى.. وحده أثر الصّدمة على أمّه ما كان يُرى بوضوح كريه..

- ماذا في الكيس يا مالك..؟

- رأس مروان وبعض مقاطع لحميّة من جسده أمّاه..؟

- لماذا هو هناك؟

- "المحشْ" قام بسرقته..

- المحش سرق ولدي..؟ هذا المجرم "مْتاعِ الحاكمْ" يا ولدي لا قدرة لنا عليه. لكنّ الحاكم غنيّ، ومروان فقير لا يملك ما يُسرق.. !

- له جمالٌ ثروة لا تُجمع باليمين ولا بالشِّمال أمّاه.. المحشْ كان دائما مْحَشِّشْ عليه..[4]

- وخطيبته نورة؟ ألم تأت بعد؟

- هي أيضا لن تأتي يا أمّي. اِنقلبت السّيّارة التي كانت تُقلّ عائلتها حتى هنا. تحدّث النّاس عن تعرّضهم إلى حادث خطير، ولا أعرف إن كانوا أحياء بعد أم لا.. يبدو أنّ مروان وخطيبته قد غيّرا مكان اللّقاء يمّا.. لن يبيت أيّ منهما عندك اللّيلة، سينزلان ربّما في دار أخرى..

- دار أخرى..؟

تطوّح برأسها مستنكرة. كان باديا أنّها تغادر الواقع من سمّ الخياط بعسر وإصرار.. تصوّب اعوجاج المعنى بما يلائم الواقعيّة البسيطة التي كان يجب أن تنتهجها الأحداث: يعود مروان من عمله بمدينة طبرقة بُعيْد الغروب كعادته. وتنزل عندها خطيبته الفلسطينيّة نور رفقة والديها ضيوفا لبضعة أيّام.. لا غير..

- اُنظر خارجا يا مالك. ألم يصل مروان؟ أنا لم أعدّ العشاء لخطيبته. طلبت نورة أن أطبخ لها.. ماذا قالت تحبّ أن تأكل؟ لكن.. لماذا تأخّر هو..؟ لماذا لم تأت هي؟ غيّرت رأيها..؟ ناري على كِبْدي، سيحزن أخوك كثيرا يا مالك..

الكيس الذي هناك ماذا قلت يحوي يا مالك..؟

"في الكيس مروان يا أمّي.." غمر الدّمع الكلام فغرق في الغرغرة المالحة ولم يصلها منه غير حركة خرقاء لشفاه مرتعشة..

من أثْلام النّدم ينبثق مجدّدا صوت أخيه الذي لا شكّ كان يستصرخه في عواء جريح حَرِشٍ يئزّ في سمع المخيّلة أزيز صفيح معدنيّ على سطح حصيب.. تحتدّ الصّرخة الثّاوية فيه، تكبر، تكبر، يرتاع، يرتجّ..

النّجدة..

يسمعه الآن جليّا.. لكنّ أوان الغوث انقضى يا مالك.. خذلت أخاك، خذلت نفسك..

على الشّاشة الجداريّة المنتصبة على مدخل السّاحة الأمامية للذّاكرة يتغيّر مجرى الأحداث، وتركّز كاميرا الخيال بؤرة الضّوء على لحظة التوتّر القصوى:

ينتحل مالك جسد شقيقه ويرى "المحشْ" في ذروة الهلوسة ينقضّ على ظهره.. يقاومه الفتى النّحيل وينهزم.. منذ طفولته وهو المهزوم في كلّ معاركه، يلوذ بأخيه قويّ البنية، مالك أنجدني.. فيندفع يردّ عنه أذى خصومه، فلمَ المساءَ يتخلّف عن نجدته ليُعدّ حطب المدفأة لـ "ألين"..؟

ألين.. !

كانت عاتية الفتنة ذاك المساء، مستبدّة على نحو لم يألف من قبل.. نساء جمعا في واحدة كلّما فرّ منها أُسِر إليها.. أمّا عاتية الحنان تستبدّ بالطفل المدلّل فيه، عاشقة درِبة تراوغ مراهقته الغريرة، غانية تأخذ بيد الطالب الجديد إلى أجمل دروسه.. يخافها، يخاف سقوطه في اختباراتها فيهُمّ يفرّ متعلّلا بأوهى الأسباب فتحاصره بوجهها البلسم يروّض جزعه فينسى العالم، ويتمكّن المجرم من أخيه يهزّه، ينفضه، يرجّه رجّ أمّه لشكوتها.. دُمْ تكْتكْتكْتكْتكْ دُمْ.. حمارا كلِبا والفتى حتّى الكبِد يتمزّق.. يضحك نهيقَ أهبل يُرزم في الرّكن الغابيّ المهجور كأقْطُع حجر تتنزّل دمدمة من علٍ متدرّج والجنون يرْغو على مفرق شفتيه المسودّتين.. ينهار مروان خرقة لحم ضريجة.. ينجرف مالك غُثاءة وجع شريدة تتنقّع في دمع آسن، تلتفّ في خجل مسنون. يرزح كاهل الوعي تحت خزي متكثّف.. يسحّ عرقه، يشتدّ نشيجه الباطنيّ، ويزبد مخيض غيظه..

أين أخوك يا مالك..؟

تشمّر الأمّ الذّاهلة ثوب السّؤال من جديد وتعبر مجرى الحكاية الموحلة..

ذهب مروان ولن يعود يا أمّي..

اِرتفعت غشية الخدر عن "المحشْ" فآل غرابا يُواري سوأته مقطّعا فريسته أثمانَ، ملقيا بها مُجزّأة في كيس بلاستيكيّ وليمة الضّواري الشّريدة.. ثمّ يغادر التّوقيف التحفّظيّ بريئا ممّا ارتكب..

نُسبت الجريمة المعلومة إلى فاعل مجهول..

الحاكم لا يخذل مريديه الخُلّص يمّا، لا يفقأ أعينه في الأرض.. أنا أفقؤها..

يترنّح مالك فارغ الفؤاد، ممتلئا غيظا، مستنفر العضل، رجِف العظم، يتمالك أناه المتهاوية ثمّ على حرف الهُوِيّ يستوي على دُوار. يجسّ المقبض الخشبيّ للمنجل في حقيبته، وأعضاءُ "المحشْ" شلوا إلى شلوٍ مكوّمة بركن مُضاء من خياله.. يعرف جيّدا ما عليه أن يفعل.. يمض شرّ صاف مشرق بعينيه. القرار رسيخ في قرارته والخطّة محكمة. يقبّل جبين أمّه. يعرف أنّها لا تعرفه فلن تفتقده. تسمِّر كلّ قلبها على رأس الدّرب في انتظار مروان ولن تنتبه إليه حتى لو ترمّم مرمى قعودها هذا كجذع منقعر تأكله دابّة الأرض. يمضي عنها خطوة كَميل.. ينعطف ملتفتا إلى الخلف الحميميّ ويلقي في نظرة لامّة مروّعة بالفقد مشبعة برطوبة الاحتباس الحراريّ للحنين المضغوط ينمل في كفوفه، ويتطاير غبارا رصاصيّا سامّا في أفقه الدّاخليّ..

كلّ تفاصيل الأمكنة بأحجارها وعيونها المتدفّقة وترابها وحصاها وأشجارها وخنازيرها وعجَفِها وثراها الشّحيح وجوعها المستحكم في الفصول.. كل سقطاته من أعالي الأشجار التي تسلّق، وجراحاته وضحكاته ونزف ركبه وصدى خصامه مع أخيه وكدمات عراكه مع الصبيان لأجل احتكار بيع ثمار "اللّنْج"على قارعة الطريق.. جميع دقائق العمر وخطوط انحرافه الصّغرى تتكوّم الآن في ساحة المنزل المفتوحة على رياح الشّهيلي ونواح الشّتاءات البكّاء.. قد لا يبقى له لو غادر الآن إلاّ العوْد الخبيث إلى هنا.. وقد لا يعود البتّة.. لكنّ هذا المكان المتعدّد في فقره المكتظّ في فراغه هو ما سيحدّد جغرافيا العمر القادم ويرسم حدوده على خارطة الغد..

رجرجة المخيض في جوف جلد الماعز المجفّف بين يدي أمّه ستكون الموسيقى التّصويريّة لكلّ أفلامه المحترقة سلفا..

رجْعَ الثّغاء الوجيع لسلالة الماعز التي أُنزِلت من أعالي الجبال إلى حوافّ المُدَى المسنونة..

يحرف نظره في عنف شطر الأمام الغائم خلف حجاب من غبار قظّ ملوّث. يمضي عن أمّه الذّاهلة خطوتين.. ثلاثا كدرب لا تنتهي.. يتوقّف على شواظ الحزن في صوتها المتكسّر..

- مالك، أين تذهب يا ولدي..؟ حلّ المساء. هيّا ندخل..

***

بسمة الشوالي

.................

* فصل من رواية

[1] - سرق بروميثيوس النّار وأهداها إلى البشر فغضب منه كبير الآلهة زيوزس و" عاقبه بأنّ شدّ وثاقه إلى صخرة ثمّ أرسل نسرا كي ينتزع كبده"- الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضيّ- د شاكر عبد الحميد. عالم المعرفة عدد 360/ فبراير 2009. ص35.

[2] - القرعون ( تقرأ القاف جيما قاهريّة) بالعاميّة التونسيّة هي زهرة شقائق النّعمان.

[3]- مقدّمة خرافة طويلة متشعّبة الفصول من الموروث الشعبي التونسي تحمل عنوان" يا بو غريبة يا صاحبي".

[4]  - المحشّ آلة تشبه المنجل تستعمل عادة في جزّ الحشيش وفي حصاد الحبوب. و"محشِّشْ" من الحشيش أي المخدّرات في العامية التونسية وتفيد هنا معنى الإدمان على الشّيء والرّغبة الملحّة فيه حدّ فقدان السّيطرة على النّفس.

الحَــزْمُ وَحْـــدَهُ لا يَكـفــي لِمُعْضِلـــةٍ

ما لم يَـكُـنْ في مَـداهُ الحِـلـمُ والحِـكَـمُ

*

مـنْ سِيـرةِ المَـْرءِ،لا مِـنْ رُتبةِ العَمَلِ

يُـسْتَـكشَفُ السَّلْـبُ والإيجـابُ والقِـيَـمُ

*

شـتّـانَ بـيـن رَبـيـب الـعِـلـمِ يَـعْـشقُـه

وبـيـن إنْ مَـرَّ ذِكْـرُ العِـلـــمِ يَـنْـهَـزِمُ

*

تَـرْنـِيمةُ الأدبِ السّـامي عـلى شـفَـةٍ

تُحْي القـلوبَ التي قــد مَـسّـهـا سَـقَـمُ

*

(  فـقُـمْ بـِعِـلــمٍ ولاتَـبْـغـي به بَـدَلاً )

ومَــن تَـهـاوَنَ ، يـغْـزو قـلـبَهُ الـنّـدَمُ

*

( ونـودِيَ اقـرَأ تـعالى اللهُ قـائـلُهـا )

مذ أشْرَقَتْ زال عنّا الجهـلُ والوَهَـمُ

*

نَـيْـلُ العُـلا بالتمنّي ، مَحْضُ تَسْلـيةٍ

إنْ فـارَقَـتْهُ الخُطى، والعَزْمُ والهِمَمُ

*

تَــسْمو النفوسُ اذا كــان النّـقاءُ بها

والصِّدقُ دَيْـدَنُها ، والعِــزُّ والكَـرَمُ

*

أنّى يكـونُ لِقَـلْبٍ، أن يــَــرى أَلَقــاً

ودافِعُ التّوْقِ صَوْبَ الشمس مُنْعَـدِمُ

*

والجَهْلُ إن سادَ تَسْـوَدُّ الوُجُوهُ بـــه

والعِلمُ انّى تسامى في خُطاه ، فَـــمُ

*

(ومـا انتفاعُ أخـي الدنيــا بناظِــرِه

إذا استوتْ عندهُ الأنـــوارُ والظُلَمُ)

*

مَنْ يَحْجُب السّمْعَ عن نُصْحٍ وَمَأثَرَةٍ

كَــمَنْ يُعَلِّـلُ مَـــنْ فــي أذنـــهِ صَمَمُ

*

حُسْــنُ المَسيرةِ، أخـــلاقٌ لهـــا أثَـــــرٌ

يُـــديــمُ سُمْعَـتَها الإنصــافُ والقَلــــــمُ

*

(وإنّمـــا الأمــمُ الأخــــلاقُ مـا بَقيتْ)

والعِلــمُ يَصْحَبُها مـــا دامـتْ القِيــــــمُ

*

الإقـتداءُ بأهـــــلْ العلمِ، نـــورُ هُـــدىً

وكُـــلُّ طِيبٍ سَــرى، يبقى لــــه شَـمَمُ

*

تَـنْـسابُ بـيــنَ صُـروح المَجْـدِ قافــيـةٌ

تَــزْهـو بمــا يَـرْتَـقِـيه العِلــمُ والعَلَــــمُ

*

فَخْـرُ البَواسِــلِ فــي سَيـفٍ تـفـوزُ بــه

وذو الفصاحـةِ ، فيمــا تَـفْـعـلُ الكَـلِـــمُ

*

مَــنْ يَدّعي الشـأنَ لا يَقــوى مُواصَلـةً

وذو الأصالــةِ ، فيه الشــأنُ يَـبْـتَـسِـــمُ

*

شُــمُّ الأُنـوفِ ،فضــاءُ العِــزِّ مَنْزِلُهُـمْ

وَمَــــــنْ تَعَــوَّدَ ذلّاً ،صَحْبُــهُ البُـهُـــمُ

*

عُمْقُ التجاربِ ، في العينين صورتُه

ومُقْـلةُ العـيـن، طـوْعَ القـلب تَرْتَـسِـمُ

*

يامـن يـرومُ الـمَعالي نـهْـجَ ســيـرتـه

نـوّر مـساركَ ، أنّـى حَـطّـتْ الـقــدَمُ

***

(من البسيط )

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

دخلت صبيحة الى بيتنا طفلة في عامها الأول لا تفارق ظهر أمها.. شعر مجعد بني غزير يغطي عنقها،ووجه كل مافيه دقيق صغير، يلطخه المخاط بمزيج من فتات الخبز وزغيبات الشعر، ودموع لا تفتر من عيون الصبية، فهي إما نائمة أو باكية تنفخ فقاعات المخاط من منخريها، ثم تمسح خليط السوائل الخارجة من أنفها وعيونها بمجمع يدها في كتف أمها.. حتى أني توسلت أمي ألا تنظف ام صبيحة غرفة نومي وبنتها محمولة على ظهرها..

تنمو صبيحة وتبدأ المشي متعثرة، تقترب من باب مكتبي بين خوف واحتراس،تمد رأسها في حذر كأنها تخشى نظراتي،أو تقيس درجة قبولي لها، أو ربما تسترجع صوتي حين كانت تبكي على ظهر أمها، فأصيح من مكتبي أو غرفة نومي: "آش هاذ الصداع "..

لكن سرعان ما صارت صبيحة تألف نظراتي، وتستغل بسماتي في وجهها بعد أن بدأت تتخلص من مخاطها مذ شرعت الحاجة والدتي تمضغ السواك وتقطره في منخريها كما تهتم بنظافة وجهها وملبسها.

ما أن تقف صبيحة بباب مكتبي حتى ترفع رأسها في تحدٍّ الى أعلى كأنها تقول: "أنظر الى نظافتي"، ثم تقتحم مكتبي بجرأة وشجاعة،تسبقها بسمة رضا ملائكية..

كانت أم صبيحة ترفض أن تدخل بنتها الروض فهي تخشى أن يعترض أبوها طريقها فيأخذها، فأم صبيحة لم تنل طلاقها الا بعد أن عانت من تعاطي زوجها للحشيش يضربها ويستحوذ على ما تربحه من كدها وعرقها، وحتى يحرمها من البنت فقد ادعى أن أمها تظل غائبة عنها في الحقول وتتركها للضياع والمجهول..

فشل الزوج في دعواه وصارت أم صبيحة تشتغل في بيتنا بدل الحقول، وتركت بيت طليقها مستغلة غرفة كانت في سطح بيتنا..

بدأت صبيحة تألفني،و إلي َّترتاح ؛ تدخل مكتبي، تجلس على كرسي صغير وعيناها تمسح المكتب بالطول والعرض وكأنها تضع تصميما لمحتوياته، ثم تنزل من الكرسي وكجندي في باب ثكنة تخطو الى الأمام و تعود الى الخلف ثم تشرع تعيد ترتب كل أشيائي بمهارة تثير الإعجاب:

أنى لصبية في عمر صبيحة أن تصير لها مهارة الترتيب والتنظيم وتنسيق الأشياء بمثل هذه الطريقة المبهرة؟. !..لا تنجو منها غير الكتب التي لاتميز بينها الا بألوان الصفحات الأمامية أو صورها.. ثم بلا حرج تتقرب مني، تضرب براحة يدها على ركبتي و حين أتعمد عدم الاستجابة، تدس يدها في أحد جيوبي،أمسكها من معصمها:

ضبطتك أيتها السارقة ماذا تريدين؟..

لست سارقة..هات شوكولاتا..واليك الثمن..

تستخرج درهما أو أكثر من جيب تنورتها وما أن تتسلم الشوكولاتا حتى تقول:

ـ كلٌّ من عند مولانا، هي دريهمات منك سقطت وأنا وجدتها.

.تضحك ملء فيها، وتبادر جذلى الى أمي تروي مهارتها في السخرية مني.. والحقيقة أني كنت أتغافل عما يسقط من جيوبي حتى أستمتع بضحكات صبيحة الملائكية..

فالسنا ماكان يغمرني لسعادتها، وأمي تدعو لي: الله يفرح قلبك بدخول الجنة..

كان لصبيحة حدس قوي، فمهما أخفيت عنها علب الشوكولاتا الا وجدتها بمهارة تفوق الخيال..وكما كنت أقول لها: شمَّامة مثل كلب..

بسمة عتاب خافتة من عينين نفاذتين ثم تقول وهي تضرب على جبهتها براحة يدها:

"المخ" ولمن أعطاه الله.. (عبارة محفوظة ترددها عن أمها )

أمي نفسها كانت لها ثقة عمياء في ذاكرة صبيحة:

ـ إذا خفت أن تنسى شيئا فاخبر به صبيحة فهي تبارك الله لا تنسى..

تكفلت بصبيحة وأدخلتها الروض..

من لحظتها الأولى خطت قلب الحجرة بثبات، بادلت الأطفال البسمات ناظرة اليهم وكأنها تقرأ سحناتهم، بعد أن تطلعت في تحد اليهم،اختارت طفلا وجلست قربه..

كانت صبيحة شعلة ذكاء تلتقط المعلومة من قبل أن تخرج من بين الشفاه وهذا ما كان يسبب قلقا لمربيات الروض، اللواتي كن يتضايقن من تسرعها وجدالها، فصبيحة لا تتقبل أية معلومة بسهولة الا بعد أن تجادل وتقتنع، حتى الأناشيد المدرسية كان لها رأي فيها، فكثيرا ما كانت تحس باختلال الوزن في نشيد فتفرض أن يغنَّى بعد أن يتم تصحيح نغمة اللحن بتمديد او إدغام، أوتسكين حركة..حس فني خارق..

اتفقت معها وهي في المدرسة الابتدائية على حفظ حزب يومي من القرآن الكريم مقابل خمسين درهما عن كل حزب، كان قصدي أن تتعلم كيف تتصرف في المال في تدبير احتياجاتها..تحدتني وصارت تستظهر مابين حزبين وثلاثة أحزاب في اليوم، وفي أقل من شهرين كانت تستظهر كتاب الله عن ظهر قلب بقراءات سبع،مستغلة حسها الفني في التجويد.

ما أخذ بلبي وأبهرني ما استنتجته صبيحة في الأخير وكأنها قد ادركت خلفيات ما أقصد:

ـ ثيابي تشتريها ماما الحاجة (ترفع يديها بالدعاء لها)، وأنت تهتم بأدواتي المدرسية وواجبات الدراسة،(هذا واجبك فأنت رب الأسرة) أما ما ربحته منك فسأحتفظ لنفسي بنصيب،والباقي هدية مني لصندوق أبناء المحتاجين في مدرستنا..

صارت صبيحة مضرب مثل في كل مراحل تعليمها لا تودع المدرسة في آخر السنة الا وهي محملة بعشرات الجوائز.. كثيرا ما سألتني:

ـ متى تنوي الزواج؟ الم تمل من العزوبة؟ ستشيخ ولن تقبل بك أية أنثى !!..

بصراحة كانت صبيحة فتنة تتحرك على الأرض، تتحدى بجمالها فلة وباربي، ذاتا مسبوكة محمولة على ساقين رشيقين، وجه فاتن بلا مساحيق وكأنها مصنوعة من لدائن الدمى لا من لحم بشري..

حين كنت أقول لها أترقب نهاية تعليمك كان ردها يأتيني صادما:

ـ حضانة على بيض فاسد، لا تترقب السراب.. فلا اريد أن تموت كمدا اذا عرفت الحقيقة..

لم أكن أدرك أية حقيقة كانت تعني،وبها تمتنع أن تبوح؟.. ربما حقيقة أفضلية العلم على الحب والزواج..

انتمت صبيحة الى كلية الطب وأنهت تعليمها كبروفيسور في طب جراحة النساء، وبدل أن تشتغل في مؤسسة عمومية أو تبدأ مساعدة لاحد أصحاب العيادات الخاصة لشهرتها وذكائها استطاعت ان تحصل على منحة من إحدى المنظمات العالمية فطارت الى أمريكا أمام اندهاش الكل وتأويلات المختصين قبل العموم..

من يستطيع أن يرفض لصبيحة طلبا؟؟ !!..

أم صبيحة تكتفي بدموعها وبعبارة لاتردد غيرها:

لا أدري ما ذا يدور في مخها؟ صبيحة تختلف عمن خلق الله..

كنت أرد ذلك الى ذكائها وفطنتها..

 بإحساس مني قوي، كان يقيني أن صبيحة تشكو شيئا أو تريد أن تعوض نقصا، لكن حين اقارن بين ما قد تشكو وبين ذكائها وما بلغته، كنت أتشتت وأصير شظايا في أمس الحاجة لمن يلتقطني، ويلملم بين أجزائي..

حتى الحاجة والدتي كان لي اليقين أنها تعرف شيئا عن صبيحة لكنها لاتنبس بما لديها أو تلمح ولو بإشارة، فأي أم تتعلق ببنت كاملة مكمولة كصبيحة لن تفكر الا في ابنها خصوصا وهي ترى "الشيخوخة الظالمة" تأكل من عمرها..

صورة سكانير سلبية سوداء (نيكاتيف) لصبيحة عارية وهي صغيرة ظلت تلهب دماغي، سقطت من ثياب أمها في السطح، ليس لصبيحة الا ثقب صغير فوق عانتها، وقريبا من تجويف سرتها، وما عدا ذلك فمجرد صفحة بيضاء لا اثر لاي عضو جنسي، تمعنت في الصورة ثم تركتها مكان سقوطها وما لبثت ام صبيحة ان عادت اليها راكضة،وقد تنفست بعمق حين وجدتها: "الحمد لله "..

بصراحة لم افهم شيئا،ربما وحمة، او دمل لم يتم علاجه قد ترك بثرته..

ماتت والدتي وتبعتها أم صبيحة، وتزوجت بعد يأسي من صبيحة بأنثى جميلة من القرية، كانت تصغرني بعشر سنوات، لكن حنين صبيحة هو ما ظل يلازمني،عني لا تغيب،حتى أن زوجتي كانت تغار من صور صبيحة التي ظلت تغطي جدران مكتبي..من صباها الى تخرجها بروفيسور متخصصة في جراحة الجهاز التناسلي الأنثوي..

ـ بقي لك أن تصنع لها صنما نركع ونسجد له بالصبح والمساء !!..

ـ ياهبلة تركتها عمدا حتى تتوحمي على بنت في ذكائها وجمالها !!..

ـ إنسان بالمظاهر مفتون، هذا رأيك في جمال زوجتك وذكائها؟؟.. !!..

على كل حال هو اختيارك،و لوما يقيني بحبك لتركتك منذ يومي الأول ورجعت لأهلي..

عدت ذات مساء من عملي فوجدت صور صبيحة فوق مكتبي..

بلا تعليق، حملت الصور و وضعتها داخل خزانة في الغرفة التي كانت تسكنها صبيحة مع أمها، وأعميت عين إبليس..فما غاب عني أن زوجتي تضعني تحت الاختبار..

مشتت الذهن أحيا بين زوجتي التي أحس غيرتها العنيفة وبين البياض الذي خلفته صور صبيحة على جدران مكتبي،صبيحة التي غابت أخبارها وانقطعت عني رسائلها ومكالماتها..

ملأت فراغات جدران مكتبي بصوري وصور زوجتي،وأخرى لأمي وأبي ثم تركت الذكريات تدرس بيادر مخي وصدري، أستعيد صبيحة وهي طفلة صغيرة ترتب مكتبي، وتمد يدها الصغيرة لجيوبي تطلب شوكولاتا..

أخذت ذات مساء آلة التحكم عن بعد وشرعت أمرر محطات التلفاز بلا تركيز...

فجأة تظهر صبيحة بأناقتها وفتنتها تحاورها مذيعة في محطة أمريكية..

اهتز صدري ومن حماسي الشديد ناديت زوجتي..

المذيعة: المعروف عنك أنك الى جانب تخصصك في جراحة النساء، لك فراسة في علم الاجرام،طبيبة شرعية بارعة وذكية، وعضو بارز في الشرطة القضائية الدولية لكنك دوما تبحثين في أغلب الجرائم عن المرأة أولا، هل لانك أنثى تعرفين اثر الجمال في تهور بعض الرجال واندفاعهم لارتكاب الجرائم.؟..

صبيحة ( تضحك) ومن قال لك أني أنثى؟ أنا لا أنثى ولا ذكر ولايوجد مثلي بين بني البشر، ولا انا جنس ثالث ولا رابع ولاخامس ولو كان مسموحا لتعريت امام كافة المشاهدين.. لا أخجل من وضعي..ثم من قال أن الرجل أكثر تهورا من المرأة في ارتكاب الجرائم، ياما تحت السواهي من دواهي !!..

تستغرب المذيعة وتضطرب فالبروفيسور التي أمامها متخصصة في علم الاجرام جريئة وتستطيع أن تنفذ ما يخطر ببالها في جسارة و بلا حرج..

أخذت المذيعة كراسة وشرعت تقرأ وهي تضحك:

أعرف أنك تمارسين عملك بصرامة ودون تحيز،فعنك يقولون:من مهارتك انك تكشفين المجرم بنظرة، صيتك كبير في أمريكا كما في جرائم وقعت خارج أمريكا، أكثر من دولة استعانت بخبرتك وفراستك في اكتشاف أكثر من جريمة حتى ولو لم يتكلم المجرم.. تقرئين العيون والحركات باندهاش..،زرقاء اليمامة..

تتابع صبيحة كلمات المذيعة ببسمة هادئة لكن عينيها تقولان شيئا آخر..

المذيعة تكمل كلامها لكن بنبرة لا تخلو من سخرية:

ـ عبارة ضبابية وردت في ردك بروفيسور، الا تشرحين للنظارة كمتخصصة ماذا تعني "لستِ جنسا معينا ":

هل تعدين نفسك فوق البشر أم من كوكب سماوي؟؟..

أدركت صبيحة بذكائها أن المذيعة تريد أن تسخر منها،أو تقلل من وقع حضورها أمام المتابعين، أو ربما هي غيرة الأنثى من جمال يتحداها ويزاحمها أمام النظارة، ضحكت بسكينة وبرودة دم ثم قالت:

أحدد لك ماتريدين،فأنا هنا من أجل النظارة أولا،وأنا هنا لتصحيح أخطاء ربما التسرع وطغيان الثقة والغرور ما يجعلنا نرتكبها دون قصد أحيانا،لكن أخبريني، انت متزوجة للمرة الثانية أليس كذلك؟.

المذيعة في إعجاب بنفسها: أنا من أسأل بروفيسور وأنت ضيفتي على البلاطو.. طبعا متزوجة واحب زوجي..

ـ أنا لم أسألك عن حب.. لايهم.. زوجك الثاني هو من كان عشيقك قبل زوجك الأول..

ـ ومن بعد،هل هذا يضرك في شيء؟ تقولها وقد أتسعت عيناها في غضب

تضحك صبيحة ضحكة معلبه ثم تضيف وكأنها غير مهتمة بما ترد به المذيعة:

ـ سنة مرت على زواجكما أظن؟ (تتعمد صبيحة أن تثير غيظ المذيعة )

ـ سنة ونصف بروفيسور،الى أين تريدين الوصول؟

ـ وهل هو يحبك؟

ـ أكيد..(تقولها بثقة وتحدٍّ حرك عيون صبيحة بضحكة قاسية )

ـ لو ظهر فيك عيب خلقي أو طارئ فاجأه هل يمكن أن يتخلى عنك؟

ـ تحرك المذيعة عينيها وكتفيها وتقول بتثاقل وغير قليل من كبر وفخر:

 ممكن، لم أفكر في هذا أبدا، لكن ما دمت أتربع على عرش من الجمال آسر يلوي الرقاب فلماذا يتخلى عني زوجي..

ـ أنا سألتك "لو ظهر فيك عيب " ثم ليس بالجمال وحده تستطيع أنثى أن تلوي رقبة رجل..

هناك الاغراء،الشهرة والنفعية،وهناك المقابل المادي الذي على أنثى أن تتنازل عنه لتكون محبوبة..

تحرك المذيعة عينيها وتقول وقد رابها ما تتلفظ به صبيحة:

أفلسفة هذه؟ !!

تتابع صبيحة وكأنها لم تسمع السؤال:

ـ هل تقدرين المقابل المادي الذي أخذه عشيقك ليتزوجك دون أن تلتوي له رقبة؟

اضطربت المذيعة وحاولت تغيير الموضوع فقد أدركت أن ضيفتها تجرها لشيء لا تريد الخوض فيه، لكن صبيحة أرجعتها..

ـ لا تغيري الموضوع والا لن أكمل معك البرنامج..

اصفر وجه المذيعة،اضطربت وصار الاهتزاز باد على حركاتها، من يدها سقطت الكراسة، قالت:

لنودع النظارة الكرام إذن..

 تضحك صبيحة وتقول:

ـ ليس قبل أن يسمع النظارة المعجبون بك وبجمالك:

 لماذا قتلت زوجك الأول؟ وكيف؟ ومن ساعدك على قتله؟

وما قيمة المقابل؟ ولماذا؟

اهتزت المذيعة، ريشة تتحرك في تيار هوائي، المفاجأة أقوى من احتمالها، ارتباك شديد أخرجها مما كانته من قبل.. ارادت أن تدافع عن نفسها لكن نظرة من صبيحة كانت كافية لتجعلها تنهار وتهوي على الأرض..

انقطع البث وظهر مذيع الربط يعتذر عن العطب..

كدت أن أصاب بخيبة لتوقيف الحلقة، كيف ستقنع صبيحة المشاهدين بصدق ما اكتشفته وللمذيعة سمعة وصيت ربما قبل أن تظهر صبيحة في أمريكا..

تحولت الى صفحة صبيحة على اليوتيوب فوجدتها على المباشر تعتذر للنظارة عن توقيف الحلقة التلفزية لانها كانت مباشرة ثم توضح ما اكتشفته من قضية المذيعة..

لم يخطر ببال أحد من المشاهدين ان المذيعة عني لم تبحث بل أنا من عرضت نفسي عليها كمهتمة ببرامج القضايا الشائكة والتي قلما يوجد لها حل..

على إثر لقاء مصادفة في لندن مع أم القتيل المكلومة وأبيه الذي شلته الصدمة، تطوعت الى إعادة البحث في الجريمة.. سمعت القصة، قرأت تقارير تفاصيل البحث الجنائي، وناقشت أكثر من خبير شارك في البحث، واعدنا تقييم الحادث، بعد أن وقفت على وصف دقيق للجريمة، وسلاح الجريمة، ومكان جلوس القتيل لحظة قتله،وإجراءات أخرى خاصة بسر المهنة ثم عرفت سببين دفعا المذيعة الى التضحية بزوجها الشاب الثري..

تلقت المذيعة عرضي كخبيرة تستأنس برأيي في قضية انتحار رجل سياسي شغلت الناس وحيرت مجلس البرلمان الأمريكي بغرفتيه مستفيدة من شهرتي العالمية في برنامج يتابعه الملايين من المختصين كمن ضربها" بشفنجة بالعسل "كما نقول في وطني المغرب والذي بالمناسبة أحيي أهله وأخص بالذكر أعز الناس لي فيه من أوى أمي البدوية، رباني وسهر على تربيتي و تعليمي..

أخبره أني مهما غبت فأنا آتية لاشتري الشوكولاتا بدراهمه التي لم تضع أبدا..

أحييه وأحيي زوجته الجميلة فانا في شوق لرؤيتها..

تتمسك زوجتي بذراعي وتحتك بي وقد اسعدها ما سمعت:

ـ أمرأة جد ذكية تذكر فضل الغير عليها.. الآن اطمأنت..

كيف تمت الجريمة؟:

المحققون تعاملوا مع الرصاصة التي أُطلقت على القتيل كاية رصاصة عادية خرجت من مسدس من قبل لص فر بعد أن داهمه رجوع الزوجة من عملها، لهذا لم يستول سوى على مبلغ من المال الزوجة من تركته متعمدة على مكتب زوجها قبل خروجها الى العمل..

المحققون توهموا من أثر خطوات بجوارب على أرض المكتب أن اللص لم يكن يرتدي حذاءا.. في حين أن الزوجة المصون هي من رسمت ذلك بقدمي دمية كبيرة فوق كل خطوة كانت تخطوها في المكتب وهي خارجة الى عملها حتى تظهر آثار حذائها وفوقه أثر الجوارب ثم أخذتها معها وقد كانت الجوارب صوفية سميكة لا ترسم حجم القدمين..

الرصاصة التي قتلت الزوج كانت محشوة بسم السيانيد لم تنطلق من مسدس لهذا فقوتها كانت محدودة، تثقب الجسم ولا تخترقه حسب القرب والبعد من الضحية خصوصا والضحية لم يكن يرتدي غير قميص حريري شفاف.. فمهمة الرصاصة احداث ثقب وافراز سم، وقدانطلقت من آلة قاذفة مبرمجة من قبل عشيق المذيعة والذي هو زوجها الثاني، والمذيعة تبعا لتخطيط العشيق هي التي وضعت الآلة القاذفة في مكتب الزوج بين كتبه تقابل مكان جلوسه،وعلى مسافة مترين ونصف فقط،وهي آلة صغيرة قد لا تثير انتباها

و المذيعة هي كذلك من أطلقت الرصاصة بآلة التحكم عن بعد من سيارتها خارج البيت

و هي تتابع العملية عن طريق كاميرا خاصة من خلال هاتف غير هاتفها، وبعد ان نزف الزوج وخارت قوته وقد تيقنت من غيبوبته الكلية بفعل النزيف و سم الرصاصة الذي لم ينفذ منه الا نزر قليل الى دمه ومعدته التي ثقبتها الرصاصة وتوهمه المحققون من أكل قد يكون تناوله عند أبويه قبل العودة مساء.. لكن تبين أن أبوي الضحية أخذا الطائرة الى لندن صباحا ووقت الحادثة كانا قد حلا عند بنتهما، وهو ماغاب عن علم المذيعة..

 وصلت المذيعة بسيارتها الى باب الفيلا، وضعت جوارب سميكة في يديها معا حتى لا تخطئ في ترك بصمة، صعدت بسرعة الى بيتها،دخلت مكتب الزوج، وجدت الرصاصة الأولى بين فخديه على الكرسي لان اختراقها كان محدودا ولان الآلة لم تسددها بالقوة التي يقوم بها مسدس،مسحت الرصاصة في قميص القتيل وهو مالم ينتبه اليه المحققون وصوبت مسدسا على الجرح الأول واطلقت رصاصة ثانية حسب تعليمات عشيقها لتحقيق التخريب الذي يحدثه الرصاص في الجسم حين ينطلق من مسدس... أحد المحققين شك أن الضحية قد أصيب برصاصتين الواحدة بعد الأخرى بزمن يسير وهو ما أشار له في تقريره لكن فقدان الرصاصة الأولى جعله يسلم بان القتل تم برصاصة واحدة..

 سحبت المذيعة الكاميرا والآلة المبرمجة كما الهاتف وحزمة الجوارب والنقود التي كانت فوق المكتب وسلمت الكل للعاشق الذي كان في سيارتها ينتظر، ثم أدارت رقم هاتفه من هاتفها الخاص للتمويه وطلبت منه نظارتيها المنسية عنده.. ساقت السيارة فأوصلت العشيق الى بيته ثم عادت المذيعة لتعلن حضورها وتستدعي رجال الشرطة،وقد شهد العشيق زورا وكذبا أن المذيعة كانت عنده ونسيت نظارتيها محتجا بساعة المكالمة بالضبط..وهو ما يتفق مع هاتفها..

شيء تغافل عنه المحققون ثقة بالمذيعة:

 أين كان حارس الفيلا في تلك الليلة بالضبط؟ ولماذا لم يغب الا ليلة الجريمة؟

ومن هي الخادمة التي باتت معه وغيبته بسكر وحشيش؟

ومن أحرق الصمام الكهربائي الخاص بكاميرات المراقبة من بداية المساء؟

لقد تعودت خادمة المذيعة أن تسافر كل ليلة سبت الى زوجها

فما القيمة التي تم اغراؤها بها لتهتم بالحارس وتلغي سفرها؟

ولماذا أتت شهادتها وشهادة الحارس وشهادة المذيعة متطابقة أبعدت الكل عن الشبهات؟

أما سبب الجريمة فالقتيل داهمة مرض السكري بعنف خرب جهازه التناسلي بسرعة لكثرة تعاطيه للمنبهات الجنسية حتى صار عاجزا عن تلبية رغبات الزوجة رغم عمليتين جراحيتين، وقد حنت المذيعة للحبيب الأول وممارساته السادية العنيفة، التي تعشقها وقد عاد اليها ونفذ رغبتها في أن يساعدها على قتل الزوج مقابل التنازل له عن نصف الثروة التي سترثها من القتيل حسب وصيته اليها، وهي من أغرته بكتابتها، بعد أن داهمه مرض السكري، اما السبب الثاني فقد أحست أن الزوج صمم على تغيير وصيته بعد خصام بينهما اثر غيابها بحجة العمل خارج الاستوديو لكن أنثى قد وشت بها أنها قضت الليل في "فندق جزيرة البحر " مع عشيقها.. كلف الزوج أحد عماله بمراقبتها فأكد له علاقتها بالعشيق و صار الزوج لا ينتظر غير عودة المحامي من إحدى المؤتمرات ليعيد كتابة وصيته..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

سأخطف بعلتك

وأنكل بشرفها حيثما وجدتها.

في المبغى

في ساحة الماريستان

في الحانة التي يؤمها الغزاة

والمنتحرون.

في الحواري المليئة بالقمل والصديد والبلهارسيا.

في الباص المزدحم بالمومسات والفهود.

سأغتصبها وأرجمها بأجراس الجسد.

أكسر كتفيها بحوافر شهوتي الجامحة.

ألوي عنقها وأصرخ أيها القبار:

أسرع يابن الزانية

أحملها في عربة يد إلى الجحيم.

أقطع نهديها الطازجين بأظافرك

ارم مؤخرتها لكلب البولدوغ.

لا تدع أحدا يمشي في جنازتها.

لا تصغ إلى جوقة المعزين

ولا تأبين الصيارفة.

سأخطف بعولتك أيها الموت.

سأعنفها وأمزق مهبلها بأسناني.

سأهتك عرضك أمام العالم

أيها العنين الخلاسي.

اللص الذي قطع أصابع أبي في العتمة.

أشعل النار في بيتنا.

مختلسا مصابيحي السحرية .

أخذ كل شيء إلى ضباب الميتافيزيقا.

لم يسلم باب الحديقة من عضته السامة.

لم يسلم أحد من أذاه اليومي.

أرجوحتي الصغيرة

دراجتي التي تتكلم في الليل.

قططي المتلامعة مثل ليرات تركية.

سمائي التي كانت ملآى بالفستق والذهب.

ستصير أرملا مثلي.

تملأ فمك بالقش والضباب

برغوة الخزي والندم والخواء

تلحس جروحك المتعفنة

جراء الضباع وخفافيش الشتاء المريع.

آه أيها الرفيق

العزلة سيدة شبقية

تعصر خصيتيك المليئتين

بالأطفال المتجمدين.

(ستدور عيناك المظلمتان إلى الداخل)

مثل نسر عجوز قابع في المرتفعات

ستصفق البومة العمياء

فوق رأسك

وأنت متهالك على سرير

في كنيسة النهار الأجرب.

يا لعازر المسكين

سيخذلك الزناة والأقزام

ويجرون صليبك إلى الهاوية.

أسبل جناحيك

القمم الحية في انتظارك

النور وأسرار الأبدية

أرجوك لا تهبط مرة أخرى

إلى  مضرب الوحل والنميمة والعفن.

***

فتحي مهذب

(الى روح كريم العراقي)

كافٌ... راءٌ... ياءٌ ...ميمْ

اسمٌ من الرحمٰنِ الرحيمْ

الذي علَّمَ آدمَ وعلَّمكَ

وعلَّمَني الأَسماءَ كلَّها

تَنْزيلٌ منِ العرشِ العظيمْ

عرفتُكَ…..…………و

عرفتُكَ مُنذُ سنواتِ صباي الخضر اااءْ

وأعني : عرفتكَ منذُ (المطر وأم الضفيرة)

ديوانكَ الشعبيِّ الأَوّلْ

حيثُ قصائدُ الحبِّ الجميلْ

واشواقُ العشاقِ المُشتعلة

ومواعيدهم السرّيةِ اللذيذةْ

وأحلامِ الفقراءِ الطيّبينْ .

*

وفي معهد الفنون الجميلة،

كنّا قد إلتقينا وجهاً لوجهٍ

وقلباً لقلبٍ

وروحاً عاشقة لروحٍ شاعرةٍ

حيثُ كنتُ انا أَدرسُ (المسرح)

وأُمثّلُ وأُخرِجُ تراجيديات الانسانِ المستباحِ

والمقموعِ والباحثِ عن الحقيقة

وفراديسِ الجمالِ وفضاءاتِ الحرّيةْ

وأَنتَ كنتَ تكتبُ الاغاني والاناشيدَ

لمسرحياتنا الباسلةِ تلكَ،

ومنذُ ذاكَ الزمانِ

ونهرِ المحبّةِ والأَغاني

قَدْ صرْنا صديقينِ

وأَصبحْنا طيرينِ

نحلمُ بالرحيلِ والخلاصِ

هنااااكَ في المنافي

وغربةِ الانسانِ والمكانِ

*

ثُمَّ شرّقنا وغرّبنا

في ارضِ اللهِ العجيبةِ والغريبةِ

والرهيبةِ في تقاويمِ الحزنِ

والحنينِ والحروبِ

وكلِّ حاءاتِ الحياةِ الحارقةْ

حينَ دارتْ علينا واستدارتْ

و"من منفى الى منفى"

ومن حلمٍ الى حلمٍ

ومن وجعٍ الى وجعِ

ومن فرحٍ الى فرحٍ

ومن مرضٍ الى خيبةْ

ها أَنت تغادرُنا الى غربةٍ أُخرى

وها نحنُ نبقى ننشجُ في الغربةْ

بانتظارِ رحيلنا اليكْ

فنَمْ صديقي

نَمْ هانئاً

الى أنْ نأتيكْ،

وسلامٌ لكَ

وسلامٌ عليكْ

***

سعد جاسم

2023 - 9 -1

هذا المرافق البولوني بزغ أمامي فجأة. وجدته بعد أقل من يوم، ممّا جرى مع المرافق الثالث، يطرق بابي ليلقي عليّ تحية الصباح بابتسامة عريضة ويقدم لي نفسه شارحاً مهمته التي كُلّف بها من قبل دائرة البلدية، مظهراً لي ورقة قرار المرافقة الممهور بتوقيع السيدة كاترينا. كانت رائحة دخان السجائر الكريهة العالقة بثيابه تبعث على الغثيان. سمحت له بالدخول ولكن لم يفتني أن ألقي عليه نصيحتي التي أكررها مع الجميع. على المرء أن يحذر من أن تعلق به رائحة السجائر، ولذا عليه أن يقوم بغسل فمه واستعمال الفرشاة أو العلكة لتنظيف أسنانه بعد كل مرة يتناول بها سيجارة، وإلا علق الدخان بملابسه وفمه، فكره الناس صحبته والتقرب منه.

ابتسم وولج نحو الداخل عبر الباب المفتوح، وهو يكيل المديح لنصيحتي هذه، وقال إنه سوف يفعل ذلك في المرات القادمة، لا بل سوف يفكر بخاتمة قريبة لعلاقته بالتدخين. ولكنه حين جلس على الكرسي المجاور لمقعدي نظر نحو الصفيحة التي كنت أستعملها لإطفاء السجائر اكتسى وجهه بملامح دهشة ظاهرة وقال وهو يزم شفتيه، وابتسامة صفراء علقت عليهما، بأني أعفر الشقة بالدخان، ويظهر أني مفرط بالتدخين، وهذا ما يبدو من كثرة أعقاب السجائر المرمية داخل علبة الصفيح الصغيرة. وزاد على ذلك بقوله إن دخان السجائر يعلق حتماً بجدران الشقة والأثاث والملابس، فلم لا ألاحظ ذلك وما دوافع نصيحتي التي قدمتها له إن كنت أهملها من جانبي. تلك اللحظة شعرت أن هذا الشيطان البولوني بدأ المعركة دون مقدمات، وهو يستفزني، لا بل يحتقر فكرتي عن موضوعة دخان السجائر، ويريد إحراجي ووضعي في الموقف الضعيف واتهامي بالرياء والكذب. جلب انتباهي حذاؤه العالي الكعب، المدبب، وبمقدمة دقيقة طويلة تبدو كمنقار طائر. دهشت وكتمت ضحكتي. كنت أعرف أن هذا النوع من الأحذية لا ينتعله غير الصبيان وبالذات الوقحون منهم،  وهو يدل على شخصية مستهترة قليلة التهذيب، عندها نبهته إلى أن حذاءه ربما يسبب نوعاً من الإيذاء لأرضية الشقة، فعليه أن يخلعه دائماً جوار الباب الخارجي. وأنبأته بأني تسلمت هذه الشقة قبل سنة مضت وحافظت عليها، ولا أسمح لأي كان تخريبها. ابتسم وهمّ بالوقوف وهو يسألني إن كنت أرغب قهوة أم شاياً. لم ينتظر مني الجواب فقد أعطاني قفاه متوجهاً نحو المطبخ فصرخت: أتعرف أين توجد القهوة... لم تسألني حتى.. فما كان منه إلا أن التفت نحوي ونظر لي شزراً وصرخ بوجهي: ما الذي يجعلك تصرخ هكذا....أيستحق الأمر ذلك.

كإحساس عارم لا يغالَب، سيطر عليَّ خوف غريب وشعرت بمدى ما أنا عليه من عجز أمام هذه النظرة القاسية الوقحة. يؤلمني دائماً أن أتذكر تلك اللحظة. لحظتها كان يتصاعد غضب عارم في أعماقي، ولكني كنت كمن تملكه رعب شديد فأطرقت نحو الأرض ملتزماً الصمت واستغرق الأمر كله بعض الوقت. ولكنه حين عاد ربّت على كتفي وهو يضع كوب القهوة أمامي وكانت شبه ابتسامة عالقة على طرف شفتيه فبادلته الابتسام على مضض.

حاولت أن أسبر ما تضمره ملامح وجهه لأكتشف ما ينوي عمله بعد لحظة المخاشنة التي صبغت لقاءنا الأول.كانت عيناه صغيرتين مثل عيني عصفور، تحيط بهما هالة رمادية داكنة بعض الشيء. كان من الصعب أن أكتشف ما تنويه تلك العينان المتلصصتان وهما تجوبان دون توقف في محاولة للإحاطة سريعاً بتفاصيل الشقة وهيئتي التي بدت في أقصى حالات رثاثتها.

كان مجرد تفكيري باللقاء الأول مع هذا الأخرق يجرح مشاعري ويؤذيني أيما إيذاء، وهذه المشاعر بدأت تتحول إلى كره بعد مضي الشهر الأول من مرافقته لي، وبدأت أشعر بأني اتخذت قراراً حاسماً بالوقوف في الضفة الأخرى، وهي ضفة أسميتها أخرى لأضع هذا الشيطان بعيداً عنّي بمسافة تعطيني القدرة على رؤية ما أريده بشكل مناسب. وضعته بعيداً عني رغم حضوره اليومي ووجوده جواري وقد قررت مقاطعته واخترت أن أكون وحدي حتى بوجوده.كنت أريد أن أثبت له قوتي وقدرتي على الخصومة. ربما شعر بهذا الشيء وحاول أن يكسر هذا الطوق ليعبر إلى ضفتي، ولكني قررت ألا أسمح له، لا بل أمنعه بكل ما أوتيت من سبل. بدأت أشاكسه وأناكده. وبدوره لم يكن يعاملني برقة ولطف، ولم أشعر ولو للحظة بغير ذلك، لذا وضعته في خانة الأعداء. فإن كان يحاول إثارتي بفضوله وتلصصه على أشيائي الخاصة فهو أيضاً يستفزني دائماً بعبارات مباغتة خشنة أحسبها أكثر ابتذالاً من وجهه العبوس وضحكته الشيطانية الساخرة.

الساعات الثماني التي يقضيها في مرافقتي بدت ثقيلة عليَّ مثلما هي ثقيلة عليه، وبدأت أحاديثنا شبيهة بألغاز.  نزر من حديث متقطع حول أمور ليست بذات بال. كنت في أغلبها التزم الصمت طيلة الوقت، وكانت أسئلته وجمله الفجائية تغيظني، فأحاول عدم الرد، وأروح أطالع التلفزيون متنقلاً بين قنواته بسرعة دون توقف. ما كان يتذمر من ذلك أو يبدي أي استياء، بل يجلس ويروح يراقب حركاتي مبتسماً بتشفّ. الساعة العاشرة صباحاً يعطيني المجموعة الأولى من أقراص الدواء، ويذهب لغسل ملابسي ومن ثم ينظف ما اتسخ في الشقة، ويحضر لي بعض الأحيان شيئاً من طعام. وقبل نهاية دوامه يعطيني الوجبة الثانية من الدواء ويضع أمامي قرصاً أخر على الطاولة عليّ تناوله في المساء.

كانت أحاديثه تكتسي دائماً طابعاً غريباً يستحيل معه أن أكون فكرة متكاملة عما يريد أن يوصله لي. أعتقد أن لكنته البولونية واللغة السويدية التي يملكها كلانا، لا تنفع في التواصل بشكل ناجز. نحن نمتلك المزايا ذاتها في هذا الجانب، ولذا لا يمكن أن نخوض بشكل معمق في حديث متواصل. وأنا كنت، في أغلب الأحيان، أفضل الصمت وأترك له ما يشاء التحدث فيه. الحديث بهذر واصطناع المرح والخفة كانت أكثر مزاياه ظهوراً، لا بل لا يملك ميزة غيرها. جلّ حديثه عن حياته يدور حول إحدى القرى القريبة من وارشو، وكيف هي الحياة اليومية للفلاح هناك. كان يقلد ثغاء الأغنام وخوار البقر ونقيق الضفادع وزقزقة العصافير، وأصوات الحيوانات الأخرى، ليضفي على وصفه طبيعة الواقع، وكان يفعل هذا بصوت طافح بالفرح، ووجهه يكتسي حمرة وشغفاً باللحظة. كنت أبتسم في داخلي مستهزئاً بمحاولاته التي لا أدري كيف أفسرها. أحيانا، ومن خلال ثرثرته، أستشف وبشكل أكيد أنه يعتقد أني قدمت إلى السويد من عالم آخر يختلف كلياً عن عالمهم الأوربي. عالمنا لا يحوي غير صحراء جرداء يهيم فيها البشر، بحثاً عمّا يسد الرمق، ولذا لم تسنح لي الفرصة لمشاهدة الريف وسماع أصوات حيواناته، وكان في بعض الأحيان يفصح وبجدّ عن فكرته هذه. وفي أحيان أخرى يراودني ظن بأن ذلك الأمر جزء من الخفة التي تتلبسه دون مقدمات، ولا يمكن له كتمانها. وهذا ما توحيه بعض جمله أثناء الحديث. وحين يريد استفزازي وإثارتي، يروح في وصف الشرق، والعراق منه، بالبلدان الفقيرة غير المتحضرة، فيجدني قد استشطت غضباً، فيبدأ بإسباغ الفكاهة على حديثه ليبعد الجو الملبد بالشر. كان ترددي والحزن والكآبة الحادة التي تتملكني في أغلب الأحيان تجعلني في قلق وشك دائمين ينغصان عليَّ حياتي. حتى الترهات التي يفتعلها مرافقي تتحول في روحي إلى وساوس وأحاسيس غريبة من الخوف والانفعال يمنعانني من أن أستكين وأهدأ، فأشعر بالانقباض لساعات طوال، لا بل تأخذ مني تلك المشاعر أياماً طوالاً دون أن أستطيع إبعادها.

كان يخرج معي لساعة أو ساعتين، نتسوق ونقضي بعض الوقت في مسيرة تمتد جوار حافة البحيرة الواسعة التي تقع غير بعيد عن شقتي والطريق المفضي إلى مركز التسوق. إنه لشيء ممتع أن يصمت المرء وهو يطالع فضاءً من الزرقة يمتد بعيداً دون حوافّ أو حدود في فراغ أزرق رجراج، ويسير دون أن يطلب منه أحد ما، شخص ما، مزعج ما إيضاحاً عن شيء محدد. فسحة الوقت تلك والمسير نصحني بهما طبيبي الخاص قائلا إنهما أفضل من الدواء لاسترجاع عافيتي وقدرة ساقي اليسرى على الحركة. ومع تكرار المسير اليومي، بدأت أشعر بنوع من التحسن، أخذت معه أنقل قدمي بحركة رغم بطئها، فقد كانت تعينني على إنجاز تنقلاتي بشيء من الراحة، وبدأت حاجتي للكرسي المتحرك غير ما كانت عليه سابقاً. وكان ذلك فارقاً كبيراً عن السنة الماضية التي كنت فيها عاجزاً كلياً عن السير لأكثر من عشرين متراً.

في كل مرة أنبهه بأن يبتعد عني بعض الشيء حين نسير جوار البحيرة، وكنت ألقي عليه طلبي ذاك بإيجاز ووضوح تامين، رغبةً مني أن أسير بطمأنينة ووثوق من قدرتي على المشي دون عون، فكان يدعني أقطع شوطاً طويلاً مبتعداً عنه. أما هذا اليوم فقد وافق رغبتي، ولكني كنت أشعر بأنه لم يكن بعيداً عني بما فيه الكفاية، وأحياناً يحاول كسر صمتي بدندنة سخيفة سمجة أو استعمال الهاتف والحديث بصوت مرتفع مع الشخص على الطرف الآخر، أو رمي الحجارة في الماء أمامي أو تحذيري دون مبرر من السير بسرعة أو التقرب من الماء.

ـ لماذا تلطخ ملابسك دائماً عندما تتناول الطعام؟

كانت جملته هذه مثل صاعقة هطلت على رأسي، ولكني لم أحفل بها بادئ الأمر وبما تستحقه من غضب، وضبطت إيقاع مشيتي مثلما أعصابي التي توترت إلى أقصى حدود التوتر. التزمت الصمت ولكنه اقترب مني وكررها بشيء من الحدة، فالتفتّ نحوه وأنا أغلي غضباً وأجبته وأنا أصرّ على أسناني.

ـ لا شك أني أتصالح مع الجميع في هذا الكون عداك.

وببرود مفتعل وضحكة ضاجة أجابني:

ـ ولكنا لم نكن متخاصمين مطلقاً. وسؤالي يتعلق بوضعك مع كثرة الملابس التي تتسخ دون مبرر.

أجبته وأنا أشيح وجهي عنه.

ـ هذا شأني، وإن كنت تجد نفسك متعباً من تنظيفها فدعني أغسلها لوحدي.

احتواني بيديه الثقيلتين وهو يطلق ضحكة مجلجلة، وحاول أن يهزني مقرباً جسدي نحو حافة البحيرة. كان واضحاً أنه يهم بدفعي نحوها، فارتجّ جسدي وشعرت ببرد وخوف شديدين. تشبثت برقبته بكامل ما أملك من قوة، وبدأت أصرخ طالباً النجدة. ظهر بعض الأشخاص من بين الأشجار القريبة وكان واضحاً أنهم يستطلعون الأمر ليس إلا، فلم يحاول أحد منهم التقرب منا. شاء حسن الحظ أن يظهر هؤلاء في تلك اللحظة، على حين غرة، ولولا ظهورهم لما عرفت كيف يمكن أن ينتهي عليه الأمر مع هذا الوحش البولوني المستهتر. كان مرافقي يطلق ضحكات متقطعة، ويدفعني نحو الأمام وكأنه يمازحني، ولكني كنت على يقين بأنه حاول دفعي عنوة نحو البحيرة. تنحيت جانباً وأنا أنظر بتوسل نحو هؤلاء الناس، شاهدت ابتساماتهم ونظراتهم المتطامنة، والتي تعني في كل الأحوال أنهم غير معنيين بما يحدث. ولكني كنت وقتذاك مضطرباً أشد الاضطراب، فعقدت المفاجأة لساني فكتمت صرختي التي أطلقتها بادئ الأمر.

سجّلت كل ذلك في دفتر ملاحظاتي اليومية. سجلته واصفاً الواقعة بدقة متناهية لم أغفل حتى وصف تلكم الوجوه التي لم تكترث لطلبي النجدة منها. دوّنت ملاحظاتي، بالرغم من أني أهملت عن عمد، ومنذ زمن طويل، أن أسجل فيها أية ملاحظة عن هذا المخلوق البولوني، اعتقاداً مني بأن ذلك يمثل احتقاراً حقيقياً له، وأنه لا يستحق أن يدخل في ملاحظاتي كشخص له أهمية ما، وتلك رغبة سكنتني بالكامل لفترة طويلة.

لقد دوّنت الواقعة بالكامل، دوّنت حركته، وسجًلت حتى عدد صرخاتي حين طلبت النجدة بادئ الأمر، ووضعت وصفاً دقيقاً لوجوه الناس الذين شاهدوا الحادثة، بهيئاتهم وأنواع وألوان ما يرتدون من ملابس. رسمت خارطة لموقع الحدث وساعته. مضى على الحادث أكثر من شهرين، ولكنه وضعني في حالة حذر واستنفار شديدين، ولم أستطع إهماله بالرغم من جميع محاولات البولوني التي أراد فيها أن يوحي لي بأن الأمر ما كان ليعدو غير مزحة أراد منها إخراجي من حالة الكآبة التي تنتابني. رحت، وبحذر شديد، أراقب حركاته وسكناته وهو لا يفعل شيئاً سوى تكرار ابتساماته البلهاء واجترار الحديث عن مغامراته وطبيعة الحياة في قريته البولونية جوار العاصمة وارشو.

في المسير الاعتيادي جوار البحيرة، رحت أبتعد مسافة ليست بالقليلة عن حافة الماء وأتلصص بنظري نحو مرافقي. وبدأت رغبتي في التنزه تقل يوماً بعد آخر، خوفاً من أن يكرر فعلته.

كالأيام السابقة، ولجنا داخل السوق واتجهت إلى الكشك في طرفه الأيسر حيث طلبت علبة سجائر وبطاقة يانصيب تسمى (تريس ) كنت ومنذ قدومي إلى السويد أشتريها مرة كل أسبوع، ولم يفتني ذلك الأمر حتى حين رقدت في المستشفى، حيث كنت أطلب من الممرضة راشما أن تشتريها لي. كنت أستخدم مع تلك البطاقة طقساً خاصاً. أختلي فيه مع الورقة، أتناول الشاي وأنا أقشط ببطء وتلذذ طلاء الأرقام والصور من على الورقة، وأمنّي النفس بجائزة دسمة. لم يخطر على بالي أن أحسب عدد المرات التي اشتريت فيها ورقة اليانصيب، فالسنوات الثماني مضت سراعاً ولم أكسب من تلك اللعبة غير مرتين فقط، الأولى كانت مائة كرون والثانية خمسة وعشرين، ولو أردت جمع ما أنفقته في شرائها لكان الحال أفضل من دون هذه الورقة الساحرة.

مشيت جوار البحيرة مسافة طويلة، فشعرت ببعض الإعياء وكأني سرت على قدمي نهاراً كاملاً. كان قرص الشمس يهبط رويداً خلف المياه التي بدت تتلون بلون الغسق الأحمر. شعرت بشيء من البرد رغم أن الصيف لم يخبُ بعد. عبر الشارع جوار البحيرة، هناك غابة صغيرة كثيفة الأشجار تفضي مداخلها إلى ساحة صغيرة بالقرب من شقتي، أما جانب البحيرة الشمالي فهناك غابة أخرى كثيفة تفصح عن كامل وحشتها وربما أسرارها حين يهبط المساء. لم أرغب قط الدخول في جوفها بالرغم من الإغراءات والتطمينات التي كانت تقدم لي من قبل أغلب الذين عملوا معي كمرافقين. كنت أشاهد الناس يدخلون إليها ويخرجون منها. ومسيراتهم تلك خطـّت العديد من الطرق الميسمية الظاهرة كمخارج ومداخل لتلك الغابة. كنت أتهيب حتى التفكير بالوصول إلى مسافة قريبة منها أو تصور ما يحتويه جوفها من غرائب. أحياناً يشط ذهني فأجدني أفكر بتلك الغابة وكأنها تبدو مثل مصيدة للبشرتسكنها السعالي التي تصنع من رؤوسهم المسلوخة تعاويذ تعلقها فوق أعالي الأشجار. راودني هذا الإحساس طيلة المرات التي اقتربت فيها من تلك الغابة اللعينة. حدسي هذا قارب الحقيقة لمرات عديدة حين لمحت عيوناً تتلصص من بين كثافة الأغصان، وسمعت أيضاً أصواتاً  لحشرجات كائن يذبح أو يعذب. لذا كنت أتحاشى أن أكمل المسير وأختصر الطريق مبتعداً عنها. فالرعب الذي يسيطر عليَّ لا يوازيه خوف سوى رعب أيامي القاسية الموحشة التي قضيتها عند السواتر في معركة الشوش.

استدرت متوجهاً نحو الشقة، فتبعني مرافقي الذي كان يثرثر مع أحدهم عبر الهاتف النقال. فتحت باب الشقة وقلت له: لم يبق من الوقت غير نصف ساعة، تستطيع الذهاب، فأجابني إنه سوف يضع الأغراض في مكانها وينصرف. فعل ذلك بعجالة وأغلق الباب خلفه. شعرت بالارتياح، فتحت جهاز التلفزيون وأخذت أبحث في القنوات العربية. لا أذكر بالتحديد المدة التي انقضت على شرائي لجهاز اللاقط للقنوات الفضائية العربية، ولكن التأريخ ذلك ليس ببعيد، فجاري المصري الطيب صاحب الوجه القريب الشبه بوجه فأرة، والذي يحمل قلبا طيباً محباً ويتودد للآخرين بفرح ومسكنة، تصل أحياناً حد الإزعاج والضجر، هو من نبهني لأهمية حصولي على لاقط القنوات. وقال بلهجته المحببة، إن القنوات العربية سوف تذهب عني وحشة الشعور بالوحدة، وإن الإنسان يحتاج التواصل مع خلفيته حسب التعبير السويدي، لكي يعيد أواصر روابطه بشعبه وبلغته. عندها اقتنعت  بفكرته وتكفل هو ومرافقي نصب الجهاز اللاقط كاملاً. ولكن فكرة الإمتاع تبددت تدريجياً وبدأت أسأم تلك البرامج التي أغلبها سياسية أو تتحدث عن كوارث ومصائب وخيبات، أو أخبار مؤذية لا بل سخيفة جداً. حتى برامج المنوعات ما عادت تستهويني، فأصبحت مهووساً بالتنقل بعجالة دون التوقف لفترات طويلة عند قناة تلفزيونية بعينها، ولكن ما كان يهمني هو أن أستمع لأصوات عربية تتردد في داخل شقتي، دون أن أعير اهتماماً بالموضوعة التي يدور الحديث حولها. أصبح ذلك عادة مألوفة عندي.لم تكن نصيحة جاري المصري بالذات ما رست عليه قناعتي أو فضّله خياري، بالقدر الذي عنيته من وجود رطانة قريبة مني. هذه الرطانة العربية، بالرغم من إحساسي بسخافتها وعدم اهتمامي بمواضيعها، فأنها كانت تبعد عني بعض الشيء مشاعر الوحدة وتضفي على محتوى غرفتي المتجهم الرتيب شيئاً من حياة. ما أكثر ما تستطيع فعله تلك الأصوات في النفس، بالرغم من أني ميال للعزلة، ولكني أدرك أيضاً مقدار ما تكتنزه روحي من الفضول، وهذا لوحده صار المبرر المقنع لكسر وحدتي ووجود لاقط الفضائيات.

***

فرات المحسن

قصص لمحة

إذ يراودني وجع أجلس في ممرّ المنزل على كرسيّ قبالة مرآة الحائط.. أحدّق فيها.. أسأل الرجل الذي هو أنا: هل تحسّ بألم في جسدك، فأجده يجيب بالنفي، أقول لنفسي مادمت أنا في مكان آخر لا أحسّ بأيّ ألم فليس هناك من شئ قط، فأغادر الكرسيّ والمرآة.

2

الرجل الذي هو أنا في المرآة يغادر حالما أطفئ النور

لا أظنّه يلتفت إليّ.

3

أسأل الرجل الذي هو أنا في المرآة أن يبقى حين أغادر

فيبتسم لي ويهزّ رأسه بالنفي.

4

اشترى الأعمى مرآة.

5

المرآة الجديدة التي صنعها ساحر مدينتنا في آخر ابتكاراته :يمكن أن تنظر إليها فلا ترى وجهك بل وجه جارك الغائب.

كنا نقف طوابير طويلة ليرى كلّ منّا وجه الآخر.

***

قصي الشيخ عسكر

المرحلة الاولي

عِنْدما كنتُ صَغيرًا

كُنتُ أستفيقُ على صَوتِ أمِّي

،،هيا ّ...طَلعَ النّهارْ.. ،،

كانتْ أمِّي تستفيقُ على صوتِ صِياحِ الدِّيكْ

أخطأَ الديكُ أوْ أصابْ

فقدْ طلعَ النّهارْ

لاَ مَفرّ مِن الْقَرارْ

*

أُزيلُ الْغِطاءَ عنْ وَجْهيِ

فَيُهاجمُني برْدُ الشِّتاءِ

وقدِ اٌنْحدرتْ جُيوشُهُ منْ قاعدةِ جوڨورْطا

وجِبالِ وَرْغَةَ ليلاً

وباتتْ تَتربّص بِي

كالإعْصارْ

لكنْ لا مَفر

طلعَ النّهارْ

*

أَرْتدي ميدعتِي

أغمسُ سبّابتيَّ في الْماءِ

أمسحُ بهما عينيَّ

أهُبُّ لِلإفْطارْ

*

بعضُ كِسرَى

بعضُ بعضِ زيتٍ

و... اٌنتهى الإفطار!!

*

في ركنِ الْغرفةِ مِحفظتي

فوق مائدةٍ قديمةٍ تنيرُها،، لمبةُ بترولٍ،،

لا مكتبَ ولا كهرباءْ

لا أريكةَ ولا سِتارْ

*

أُكمِّلُ ما تبقىَّ منَ الْفروضِ

وأتهيأُ لبقيةِ الْمشوارْ...

*

أحملُ مِحفظتي

أخرجُ لمصارعةِ الأخطارْ

حذائي، بُوط" مَرْكبتِي

تصد عن قدمي عرق الامطار

ومعطفي "قشابيتي"

درعي ضدّ رصاصِ الثلج

والريح والامطارْ

لكنني كنتُ صغيرا

غَضًّا رقيقَ الْعودِ

لا أُدركُ الْخُدعَ

ومكْرَ الأشرارْ !

*

وها هُوَ الْعدُوُّ يُهاجِمُ  وَجهيَ الْعاري

فيجرّحُه تجريحًا

ويزيدُه احمرارْ !!

*

ثمَّ يمرُّ إلى أصابعي

ويحاولُ افتكاكَ محفظتي

فأقاومُ وأقاومُ

دفاعا عن محفظتي

قائلا في نفسي:،،البردُ ولا العارْ!!،،

*

فأذا به يُحرّقُ أصابِعي

تماما مثل حرقِ النارْ!!

*

جريمةٌ مع سبقِ التّرصُّدِ

والإصرارْ!!!

*

بَيني وبيْن مدْرستي

درْبٌ طويلٌ ووادٍ

تُحيطُه الأشجارْ

*

أَقطعُ الٌدربَ

أنزلُ الوادي

وأقتحمُ الأخطارْ

*

وكأنني السِّنبدادُ البحريُّ

يصارعُ أهوالَ البحارْ

*

.. فأتذكّرُ صديقي وصاحبَ دربي

لقد جرفَه هذا الوادي ذاتَ عودةٍ من المدرسة

فتستحيلُ مغامرتي رعبا ومَرارْ

لكنْ لا مفرَّ

لا خِيارْ.....

*

في القسمِ كنتُ ممتازا

وإن تجمَّدتْ أصابعي

واعْوجَّ الخطُّ والْمسارْ

*

فلا أخطاءَ

ولا تدليسَ

ولا استمرارْ ...

*

كنت أعودُ إلى أمي

كطيرٍ صغيرٍ

أطلبُ دفئَها

وبعضَ الطعامِ

*

فتحيطُني بروعةِ الأمومةِ

والكانونِ ...والدِّفءِ

وإخوتي الستة

والصّخبِ الكثيرِ.

فانسى معاناةَ النهارْ....

المرحلة الثانية

أعوامٌ وظروفٌ وصروفٌ

وذكرياتٌ تابى الإندثارْ

*

مجاملاتٌ وتبجيلٌ لأبناءِ السيادةِ

ولنا الحيفُ والتّجاهلُ

والإحتقارْ

*

فما زادنا الْعسرُ إلاّ شدةٓ

وعزيمةٓ

فكان الإنتصارْ...

*

وهلَّتْ مرحلةُ المعاهدِ

ابتعدنا عن الدّيارْ

وأصبحتِ المبيتاتُ ديارَنا

والأوكارْ

*

ومن لا يعرفُ ما يخلِّفُ المبيتُ من آثارْ

*

إسألوا المطابخَ عن ولائمِ التَّعفّنِ والاخطارْ

تكشف لكم الأسرار

*

أمّا الأساتذة‍ُ فقد ندرَ الشريفُ

وتكاثرَ السِّمسارْ

ترغيبٌ وترهيبٌ

حصصٌ وتسريبٌ

واستهتارْ

*

والويلُ لمنْ لا يملكُ الدينارْ !!

*

فاشتدتِ الْهممُ

واحتدّت القممُ وإلى العُلا

انطلقت الأفكارْ

*

ورُغم الفقرِ والقهرِ

والحيفِ والإحتقارْ

ها هي الجامعاتُ في الانتظارْ

المرحلة الثالثة

الْجامعات:  دورُ العلومِ والرياضياتْ

والفلسفةِ والإنسانياتْ

*

موطن الذّكاءِ والإبداعِ

والإبتكارْ

والنّقدِ و"حَجرةِ سقراط"

وتعدُّد الأفكارْ

*

وعلومِ الطِّبِّ والتشريحِ

والبيولوجيا والجيولوجيا

والأنتروبولوجيا والحفرياتِ

وعلمِ الآثارْ

*

خَبرْنا دواليبَ التاريخِ

وخلفياتِ الحروبِ وتقسيمِ العالمِ

ومرارَ الإستعمارْ

*

وقرأنا تاريخَ الثوراتِ والعبيدِ

وبطولاتِ الزنوجِ والهنودِ والأقلياتِ

ومدى ظلمِ الظالمينَ

والماغولِ

والتاتارْ .....

*

وعلمنا طبَّ ابنِ سينا وزريابٍ والرازي

وباستور والبنيسلّين

وأمراض الكوليرا

وما سببته من دمارْ

*

واّطلعنا على علوم اليونانِ والإغريقِ

وفلاسفةِ الظنة وفلاسفة العربِ

وابن رشدٍ وفلاسفةِ الأنوارْ

*

وارتوينا بقيمِ الإنسانِ

واتخذنا العقلَ بوصلة ً

والعدلَ ميزانًا

والعدالةَ منظارْ

*

تحدَّيْنا هُزالَ مناقِدِنا

وشدَدنا أحزمةَ بُطوننا

وكمْ عذّبنا غَلاءُ العيْش

وسكنُ الإيجارْ

*

كانت شعلةُ الأملِ في عيوننا

وكان حبُّ الوطنِ ملءَ قلوبنا

حلمًا بغدٍ مزهرٍ

وأمنٍ واستقرارْ  ...

المرحلة الاخيرة

أَحرزتُ الشهادةَ العليا

فعمَّتِ الأفراحُ والمسارُّ

*

أبي عاملٌ بسيطٌ

لا املاكَ لا عقّاراتٍ

ولا دفاترَ ادِّخارْ

وبعضُ إخوتي هجرَ المدارسَ

لتمكيني من الإستمرارْ

*

تذكرتُ  وأمِّي تضُمُّني

يومَ باعتْ لأجليِ حَليَّها

خلخالاً وخُرصيْنِ و'تيڨارْ'

*

وعدتُه...وعدتُهم ...وعدتُها

بالعمل والجِد.ِّ

وردِّ الإعتبارْ

لكنّ الوعودَ ضاعتْ وتبخَّرتْ

غبارا في غبارٍ

في غبارْ

*

فأنا منذُ سنينَ باحثُ بحَّاثٌ

وشهادتي الرّسمية

وإسمي وتعريفُ هويتي:

متخرِّج ...بطالْ .

***

زهرة الحوّاشي

من كتاب: رأسي في قفص الاتّهام

يا ربّات العالم، ما يفعل ربّان غاضبْ

والسفينةُ الجسد، يضربها الموج

والريح تضربُ، والسماء مطيرةٌ

ما يفعل؟ والليل يطولْ!

*

ما يفعل حبيبٌ، يبكي هجر الحبيب!

يداعب الضفيرة،

يترك الخيال، يمسك الموت ضفائرهُ

يضربه النعاس، ليموتْ

*

ما يفعل وردٌ، يذبله الماء القاسي

حين يسقط على التربة، سريعا

يسّاقط غضباً، كالرمح

هل يعشق الورد الرقيق حدّ الرّمح !

*

ما أفعلُ أنا، حلميْ كابوسٌ

والمعنى، مذبوح ينتظر اللحظةَ

ينشدني الكفنُ الأبيضُ،

كدتُ أهيم، لو لا النبضُ

*

ما يفعلُ غصنٌ والشوقُ النازفُ يتعبهُ

كالحرزِ كان الشوقُ... كالحرزِ

والحُب الناطقُ ...

يقلقُ بهجتنا، نحن الخائفون ...

*

ما يفعلُ طفلٌ، والحربُ تبكيهِ

أخذتْ لعبتهُ

والصوت يؤذيهِ

ما يفعلُ، طفلٌ هذا الجرحُ يفنيهِ ...

*

الوقتُ، ما يدري الوقتُ

حزني على الجفنِ يسري، ما يدري

وقتي يمضي، لا شيءَ فيه

وقتي يمضي، كل الموت فيه!

***

الكاتب / كمال انمار

كريم العراقي شاعر يستحق الرثاء!

يبتعدون هكذا

ومعهم حقائب الوطن

تسافر في قلوبهم

*

حاملة دكات الموت عبر توابيت العودة

إلى ذكريات المدرسة والطفولة وشوارع المحلة

وبيوت الجيران

*

هو الشقاء هذا الذي يتنفس القصائد

يشاركنا الحزن

يجلس معنا

عند مرافئ  العشق المكتوب

*

تلك الهواجس صرنا نرددها

نفتش عن أسرارها

نردد الأغاني نكتبها معهم

نحدو  بها على شاكلة المقامات

*

كريم العراقي هو الشاعر الذي ينطق القوافي

يرسمها بطريقة اللحن

تدمع عيناه وهو يغني

يرسم خارطة الشعر المكتوب على

جدران ماض غادرت ساعاته

*

ولذلك كغيره من المبدعين

رحل ومعه  لغة القلق

هذا الذي ما انفك يبحث عن أبنائه

أملا أن يودعهم

لكنهم على حين غرة تفيض أنفاسهم

*

هنا للرثاء حق علينا ونحن نفترش التراب

نوزعه عند اسمائهم

بعيدا عن نهارات الفرات

ومساءات دجلة.

***

عقيل العبود

في جبة درويش أسمر

يحتفل الأخضر

يتهادى كنهر في اطمئنان

في جبة درويش أسمر

تلاحق عيناي خطاه

يحلق قلبي

ويعانق وجه الله

في جبة درويش أسمر

يتسامى جسده في خطوات

نحو هناك

حيث الأفق فسيح

حيث العدل متاح

حيث الكلمة سر الله

في أذن الروح

لمحت البشرى قنديلاً مبحوح الصوت يناديني

في جبة درويش أسمر

يتوكأ على أوراد مهموسة

ومسبحة تتأرجح

فوق رحابة صدره

وعرق ينضح من جنبات الروح

يكسو ملامحه بالنور

لمحت الدنيا عصفوراً في كف الريح

في جبة درويش أسمر

رسمت بدمع كالشلال همومي

سالت من بين يديه بستاناً من أفراح

وبكيت بحب ورجاء

يا الله

يا الله

يا الله

في جبة درويش أسمر

سماء ونجوم

وبحار تهدر باستمرار

سفر من دون محطات

وقطار يتلو أن غادر يا مسكين

قبل فوات العمر

غادر نحو الأخضر

نحو مرايا الذات

غادر فالأمل مساحته مناجاة

والخطوة مفتاح الباب

***

أريج محمد أحمد

26/8/2023

الريح تعول

بين اغصان الشجر

وفراشات حيرى

تبحث عن غصن

عقبقي وعن ينبوع

الرحى البنفسجي

والوراوير الحزينة

والمطاردة تفر

تفر صوب   حقول

امانيها

احلامها

ورؤاها

والعندليب

الغريد الحزين

خبا البرق

بين جناحيه

وطار صوب

مدار الافق المفتوح

المفضي الى

سكسفون الامنيات

فيما انا امضي

صوب مروج

الارادة الحرة

كي احتضن

زرافات وغزلان

واحصنة

قوس قزح الصباح

والشفق الازرق

وكي اعكس

على مرايا قلبي

بهجة الايل

المحتضن

البنفسج

الريح والبرق

وقطرات المطر .

***

سالم الياس مدالو

تُـصْبـَغُ السيَّارةُ الشَمْـطاءُ

كي يَـخْـفـَى الصَدَأ ْ.

كي يَضيعَ المشترونْ.

*

تُـلـْصَقُ الأوراقُ أزهارا ً،

على الجدرانِ في الأوتيل ِ،

كي تَخْـفَى الشقوقْ.

كي يَضيعَ النزلاءُ القادمونْ

*

يُوضَعُ الحُـبُّ على الأفواه ِ

كي تَخْفَى السمومْ.

كي يَضيعَ العاشقونْ.

*

تَخْـتـَفي الأشـكالُ، والأعماقُ، والأفعـَـى.

إِذَنْ.

كيف ليْ أنْ أ ُسْـقِطَ الأصباغ َ،

والأوراقَ،

والـوهــمَ؛

وأنْ أ ُسْـقِطَ زيفَ الأقـْنِعَـهْ؟

كيف لي ْ أنْ أُخْبرَ الناسَ جميعا ً

أنَّ عصفورا ًجميلاً ضفـْدَعَـهْ؟

كيف ليْ أنْ أمنعَ المكياجَ،

كي يَبْـقَى الجمالْ؟

آهِ! لو يَلقَى الطريقَ الضائعونْ.

***

شعر

عبد الإله الياسريّ

في نصوص اليوم