نصوص أدبية

نصوص أدبية

ماذا لو انحنت السماء قليلاً لتلامس جباهنا؟

هل سنرفع أعيننا لنرى انعكاس أرواحنا في زرقتها؟

أم أننا سننكمش في ظلال أفكارنا، نخشى اتساع الأفق؟

*

ماذا لو توقفت الأرض عن الدوران للحظة؟

هل سنشعر بارتباك في قلوبنا،

كما لو أن الزمن أطلق سراحنا فجأة؟

أم أننا سنصرّ على عدّ الثواني، نبحث عن نغمة اعتدنا عليها؟

*

ماذا لو سقطت الشمس في البحر؟

هل سيشتعل الأفق بنار جديدة،

تكتب للكون صفحة أخرى من الضوء؟

أم أننا سنقف على الشواطئ،

نراقب المياه تغمر أقدامنا بلا مبالاة؟

*

ماذا لو انكسرت الريح؟

أيعقل أن تصبح الأصوات أوضح،

كأنّ العالم يهمس بحقيقته في صمتها؟

أم أننا سنبكي فقدان العاصفة،

نبحث عن صخبٍ يبرر وحشتنا؟

*

ماذا لو تحوّلت الغابات إلى مدن،

وصار كل غصن طريقاً، وكل ورقة نافذة؟

هل سنصير أسرى جدراننا،

ننسى أن الأرض كانت تغني في عروق الشجر؟

أم أننا سنبحث عن جذورنا بين حجارة الإسفلت؟

*

ماذا لو تكلّم الحجر؟

هل سيخبرنا عن أعباء الزمن الملقى على كتفيه؟

أم أنه سيضحك من صمتنا الطويل؟

*

ماذا لو؟

سؤالٌ يفتح نوافذ القلب على عالم لا نهائي،

على احتمالات تسبح في فضاء الروح،

على طرق غير معبّدة تنتظر الخطوة الأولى.

*

ماذا لو أجبنا على كل الأسئلة بسؤال آخر؟

هل سنكتشف أننا كنا الإجابة منذ البداية،

وأن "لو" ليست سوى مرآة،

تعكس ما نخشى أن نراه في أعماقنا؟

*

ماذا لو كان الكون حكاية نصفها مكتوب،

والنصف الآخر ينتظر أصابعنا المرتعشة،

لتكتب النهاية أو تبدأ البداية؟

***

مجيدة محمدي /تونس

 

لِي مِن الصَّمْتِ القَليلِ

وَرَقٌ مِن دَفْتَرِ اللَّيْلِ وكُرْسيٌّ

سَرِيرٌ مِن أزاهيرِ البَنَفْسَجِ

وجَناحانِ مِن القدَّاحِ..

عَرْشٌ مِن سُكونٍ

اضَعُ الحَرْفَ على عَيْنِ البِدايَةِ

كَي اَطيرَ

لسْتُ أَدرِي ما اَلمَصِيرُ

فالمَسَافاتُ بِنا امْتَدَّتْ بَعيدًا

وبَعيدًا صُرْتُ صِنْوًا لِلأَثيرْ

*

نِتَفٌ مِن ثَلجِ أيام الطُّفُولَة شاغلتني

فابْتَكرَتُ قِصَّةً أحكي بِها شَرْطُ اعتِزالي

كَيْ أعيدَ الدِّفْءَ لِليَقظَةِ مِن كفِّ الضَّياعِ

وأُغْطّي عَتَباتِ الفَجْرِ وَردًا

قَبْلَ أنْ أمْضي وَحيدًا

مَعْ رِياحٍ فَطَمَتْ ضَحْكةَ يَوْمي

فَوْق جِسْرٍ عَبرتهُ الأمنِياتُ

وأنا أحمِلُ زُوَّادَةَ صَبْري

حَفْنَةً مِن مَشْهَدٍ حُوصِرتُ فِيهِ

بعَصافيرٍ مِن الماءِ

وبَرقًا مِن يَدَيْنِ

وابْتِسَامَةْ

**

طارق الحلفي

كانَ كلُّ شيءٍ على ما هو عليهِ، كما يعتقدُ لغايةِ خروجِهِ، صباح ذات يوم، من بيتهِ، حاملاً حقيبتهُ، التي تضمُّ حاسبةَ (لابتوب)، فضلاً عن مفاتيحٍ وأوراقٍ وهويّاتٍ رسمية، وغيرِ ذلك مما يثقلُ الحقيبة، حتى بدأتْ تتهرّأُ، كما يَشعرُ أحياناً، بأنَّه بدأَ يتهرّأ، مثلَ تلك الحقيبة، وأنَّه يحمّلُ نفسهُ، تفاصيلَ أعمالٍ ومشاعرَ، أكثرَ من طاقتهِ، إلى غايةِ مطابقةِ نفسهِ مطابقاتٍ طبيعيَّة، مثلا إنّهُ سهليٌّ أكثرُ من السَّهلِ نفسهِ، وصحراويٌّ أكثرُ من الصحراءِ ذاتِها، بين الاخضرارِ والاصفرارِ تاهتْ علاماتُه. غالباً ما يقدِّر من يراهُ بأنَّهُ أكثرُ من عمرهِ الحقيقي.

وصلتْ سيارةُ الأجرةِ التي تقلُّه كلَّ يومٍ إلى مقرِّ عملهِ في إحدى صحف المدينة، عرفَ ذلك، مثلما كلّ مرةٍ، من خلال منبِّه السيّارة..           

            2

خطا أولى خُطواتهِ على عتبةِ البيت، فرأى أمامهُ صحراءً لامتناهيةً غباريّةَ الفضاء، اختفتِ المدينة، بكلِّ ما فيها، بل أصبحَ كلُّ ما فيها صَحراويّاً. أفقٌ مترامٍ بالبدوِ والخيامِ والمواشي والأحصنةِ والجِمال، هل هذا التحوُّلُ هو بفعلِ ما دهمهُ من أفكارٍ فتحولَّتْ واقعاً، عَرف عن نفسهِ التكيُّفَ مع ما هو واقع، والتحركَ وفقَ الحالةِ الجديدة. ولكنْ كيفَ يكونُ الإخلاصُ لهذهِ الحالة، وقد فرَّ منه آخرَ ما يذكّرهُ بالعالم، أينَ الحقيبة، فهو الآن كمنْ أصبحَ عارياً لا ترتديهُ أيُّ ذاكرةٍ لما مضى قبلَ ساعةٍ من الآن، وبذا دخلَ نفقاً معتماً من النِّسيانِ لكلِّ شيء، ما عادَ يتذكَّرُ بأنَّه بانتظارِ سائقِ سيارةِ أجرة، ما يمرُّ به شيءٌ يختلفُ عن فقدانِ الذاكرةِ، الذي هو حالةٌ فرديةٌ لذاتٍ إنسانية، ما حدث.. إنَّ الطبيعةَ فقدتْ ذاكرتَها.

كلُّ جغرافيا أصبحتْ صحراويّةً، وكلُّ مدنيّةٍ أصبحتْ بدويةً، سارَ ذاهلاً لا يعرفُ نفسهُ، لا يعرفُ سوى أنَّ عليهِ أن يسير، وكالمسطولِ تقودهُ قدماهُ، اقتربَ منهُ رجلُ يعتلي فرساً، توقف قربهُ وترجّل، طالباً منه أن يصعدَ الفرس، ومضيا..

كالمتطامنِ لحالهِ الجديدة، أخذَ ينظرُ لما حوالَيْهِ، إنَّها صحراءُ العربِ، كما قرأَ عنها، أو كما شاهدَها في الأفلام، يتنقلونَ من موقعٍ إلى آخر، بحسب الماءِ والكلأ. أولى خَطراتهِ، كانتْ إلى أينَ يذهب، ومن ثّمَّ إلى أين يعود، هو ذاهبٌ لأجلِ الذهابِ فقط، فالصحراءُ تُغري بالمسير، ليسَ هناك محدّداتٌ اصطناعية، ولكنه لم يستطعْ تعريفَ تلك المحدّداتِ بما يُسَمّى مدينة. فقدانُ الجغرافيا أو هبوطُ جغرافيا بديلةٍ أدّى إلى فقدانِ الذاكرة، أو هبوطِها إلى مرحلةِ (الزهايمر).

في غمرةِ خطراتهِ التي بدأتْ تتدفقُ، بما يمكنُ لها أن تصدَّ تيارَ تآكلِ الذاكرةِ فيه، نسيَ أن يفتحَ حديثاً مع صاحبِ الفرس، الذي أنقذهُ من السيرِ راجلاً في بيداء، لا يتذكرُّ بأنّه قطعَ شبيهةً لها في حياتِه.

سأل صاحبَ الفرس من أينَ أتى، فأجابَ:

- لا أدري، وجدتُ نفسي قربَك، وأنا أعتلي فرساً، وكمن يقومُ بعملٍ يعيشُ من أجله، طلبتُ منكَ أن أساعدكَ على صعودها، وأنا أترجّل، كمن يطلبُ أجراً على ذلك، أو لأنّكَ كبيرُ السّن، وأنا ما زلتُ شابّاً.

-أجر؟ تساءل - ولكنني لا أملكُ شروى نقير، كما تقولُ العرب.

حاولَ الشابُ التفكيرَ في معنى هذا، أي في تحديدِ العلاقةِ بينهما الآن، لكنّهُ أقلعَ عن التفكير، بالقول:

- لا يهم، إنّها مساعدةٌ لرجلٍ مسنٍّ مثلك.

شكرَ المسنُّ الفارسَ الشاب، بحسبِ تحديدِ الأخيرِ للفارقِ بينهما في السّن، لأنَّ الأوّلَ لا يعرفُ قبلَ لحظاتٍ هذا التحديد، ولذا بادره بالقول:

- إلى أين نحنُ ماضيان؟

فأجابهُ الشاب محتاراً:

- أنتَ الذي يحدُّد ذلك، لا أنا، إنْ قلتَ لي عدْ، سنعود..

فكَّرَ المسنُّ بالأمر، فقال:

- هذه صحراءٌ مفتوحةٌ قد نتيهُ فيها، إن مضينا بعيداً، عن نقطةِ انطلاقنا، وأينَ هي، لقد عفتْها الرمالُ المتحركة، تبّاً لها- قال - كأنَّها ماسحةُ الذاكرة.

ثم استغرقَ في التفكير، كمن يريدُ أن يبعثَ أمراً ما زالَ في المنطقةِ الرمادية، ومن ثمّ دمدمَ بصوتٍ عالٍ:

- هذا فعلٌ شيطاني. مسحَ الذاكرة، ليصبحَ كلُّ شيءٍ عايشناهُ من آلامٍ ومآسٍ في قبضةِ النسيان، لتصبحَ ذاكرتنا صفريّةً، كي يُعادَ ملؤُها من جديدٍ بأطنانٍ من المآسي المحليةِ والمستوردةِ، يا إلهي.

كان الشابُّ يُصغي باستغرابٍ وذهولٍ إلى كلماته، وكأنّها وصفٌ دقيقٌ مثلما هو حزين، لحالهما الآن.

لنعدْ- قالَ - بحزمٍ، قبلَ أن تمسحَ الرمالُ المتحركةُ كلَّ شيء، لنعدْ إلى نقطةِ الانطلاق، قبلَ أن تجرفَها الرّمال، وقبل أن تغيب الشمس، فنكون بين فكّي ليلٍ قد يغيب فيه القمر، وصحراء أقلَّ ما يقال عنها، إنّها مفترسةٌ، بكوابيس وحوشها التي ستحاصرنا من كل الجهات. هيّا.. لكي نفوِّتَ على الفعلِ الشَّيطاني فرصةَ مسحِ ذاكرتنا تماماً، لقد عرفْنا لعبتهُ، لم تعدْ لدينا القدرةُ على البدء من جديد – وأضافَ- ليس من المعقولِ أن ليسَ هناك نقطةٌ دالّة ..

3

إختطّا طريقَ العودة، قبلَ أن يشتَّدَ هبوبُ الرّياح، فتهيّج الرمالَ المتحركةَ وشهوتَها إلى محوِ كلِّ شيء.. دقّقا النظر، وكلاهما فيه لهفةٌ في العثورِ على نقطةِ إنقاذٍ لمسارِ حياتهما، فلمحَا من بعيدٍ، نهيراً جنوبيَ الرُّقعةِ التي انطلقا منها، فأسرعا المسير، كان على الفرس أن يشدُّ لجامَه، أمّا الشابُّ فكانَ يعدو.

حين اقتربا ممّا يَقصدان، وجدا ذاهلينِ أنَّ أناساً كثيرينَ، سبقوهم في التجمعِ قربَ النهير، فاتَّضحَ أنَّهُ يتشكَّلُ من غدرانٍ، تجمَّعَ الناسُ بخيامِهم قربَها.

لا يعرفُ كيف قادتهُ قدماهُ إلى خيمةٍ بعينها، وجدَ فيها امرأةً وثلاثَ بناتٍ وولدين، هم ستةٌ إذاً، قبلَ أن يدلفَ، التفتَ إلى الوراء، فوجدَ أنَّ الشابَّ وفرسه قد ابتعدا، كمن يبحثانِ عن موطئِ قدمٍ لهما في هذه الخيام.

 واكتشفَ أنَّ هناك صلةً جاذبةً بينهُ وبين المرأةِ والأولادِ والبنات، وأنَّ التجمعَ البشريَّ ينعشُ الذاكرةَ رويداً رويداً. وكأيّ فعلٍ عفويٍّ، مثلِ الأفعالِ التي قامَ بها اليوم، بتلقائيةٍ حتّمها فقدانُ الذاكرة، كمنْ رصيدهُ صفريٌّ في هذه الحياة، فركَ، بيديهِ الناحلتين، عينيهِ التائهتينِ، بين ذاكرةِ مدينةٍ وحاضرِ صحراء، كي يطردَ عنهما نعاساً أو شكّاً من أنَّ بصرهُ قد أصابهُ الزّوغان، إذ وجدَ نفسهُ، بغتةً، في غرفتهِ الدافئةِ ذاتَ البناءِ الكونكريتي، أسرعَ للخروجِ من الغرفة، هابطاً سُلَّماً متيناً، فاتحاً باباً رئيسة تؤدي إلى فناء بيته الصغير، وهرعَ إلى بابِ البيت، فتحهُ، فذهلَ إذ رأى المدينةَ قد عادت، حاولَ أن يتذكر، حاولَ أن ...

لم يبقَ في مخيّلته سوى صحراء.. ففكّرَ في نشر سبقٍ صحفيٍّ في الصحيفةِ التي يعملُ فيها، يكون حصيلةَ عصارةِ ذاكرتهِ: تراجعُ الغزوِ الصحراويِّ للمدينة، بعد احتلالٍ دامَ يوماً كاملاً.

***

قصة قصيرة 

 باقر صاحب

خلال الفترة الأخيرة لم أعد أحتمل صوت أفكاري، أشياء غريبة تحدث معي ويبدو أنّها تقودني الى الجنون.

كانت ايزلي تنصت بانتباه الى ما تقوله حنين، زائرتها التي ظهرت من العدم وألقت على رأسها سؤالا محيّرا دفعها بعد تردّد قصير لدعوتها للدّخول. طبيعة عمل ايزلي كمعالجة نفسيّة جعلتها تتعامل بمهارة وبشيء من المرونة مع هذيان تلك الشّابّة والتّشتّت الذي بدا جليّا على عينيها وحركاتها اذ قد سبق وأن مرّت عليها عديد الحالات المشابهة لحنين وتعلم ما يمكن أن يمرّ به المرء، وخصوصا النّساء، في هذا السّنّ المُربك. فقرّرت أن تنزع تطلّعاتها لذلك المساء وترتدي ثوب الأخصائية النفسية ذلك أنّ أخلاق المهنة تجبرها على أن تستجيب لمثل هذه النداءات غير المتوقّعة.

جعلت كلمات حنين تخرج مرتعشة ثمّ تنكسر فوق شفتيها رغم محاولاتها لكبح انفعالها.

"- ثلاث مرّات هذا الأسبوع، لقد زاد الأمر عن حدّه. نوبات الهلع هذه تستنزف جسدي. في كلّ مرّة أفقد فيها السّيطرة على نفسي أشعر وكأنّ عالمي على مشارف الانهيار وأنّني أخسر كلّ شيء. فجأة تتمدّد احدى مخاوفي الّتي أستمرّ بقمعها وتغمرني بالكامل حتّى تبدو حقيقيّة ومرعبة. إنًني..

وقفت حنين وجالت بعينيها حول الغرفة ثم صمتت لوهلة وكأنّها تحاول التّذكر أو الهروب ممّا كانت ستبوح به.

خطت بقدميها الى الأمام وأدارت ظهرها كأنّما تتحاشى النّظر في وجه ايزلي بينما كانت الأخرى تتابع حركاتها بتمعّن.

- "أكملي".. قالت ايزلي محاولة الحفاظ على ملامحها المحايدة بعد أن استفزّ الصّمت المفاجئ فضولها " كلّ ما تقولينه سيبقى بيننا لا حاجة الى الخوف أو التّردّد."

أخذت حنين نفسًا عميقًا ثمّ قالت وهي تُدير خاتمها ذي الجوهرة الزّرقاء حول اصبعها:

"أعتقد أنّني أعاني نوعا غريبا من الفصام، إنّني أرى أشياء لا يُمكن أن تكون حقيقيّة. أشعر وكأنّني أعيش في عوالم متداخلة. أحداث الماضي لا ترحل يا سيّدة ايزلي انّها لا تمرّ! تظلّ تلاحقني وتلتفّ حولي كظلّ لا يغادر. تصرخ بي وتؤنّبني كلّ الأشياء الّتي لم أخترها بينما تهزأ بي اختياراتي الضئيلة.."

أخفت حنين وجهها بين كفّيها وأكملت هامسة: أصوات ضحكهم لا تتوقّف إلّا نادرا. البارحة أيقظني صوتٌ ينادي باسمي كنت وحيدة في المنزل لكنّني أعرف صوتها."

سألتها ايزلي وقد ارتسمت في عينها نظرة تجمع بين الحذر والاهتمام:

- صوتُ من؟

اقتربت حنين من ايزلي وكأنّها ستبوح اليها بسرّ ما:

"-صوتي. انّها أنا الّتي كان يجب أن تحلّ محلّي. لكنّها الآن تقيم في مكان بعيد، مكان لم أذهب اليه سابقًا رغم شعوري بأنّه مألوف جدّا."

شعرت ايزلي بقشعريرة خفيفة سرعان ما أخفتها بإيماءة مشجّعة، وقبل أن تتكلّم أكملت حنين:

"كلّما نظرت الى مرآتي، أشعر أنّ الشّخص الّذي يحدّق بي ليس أنا. أحيانا أراها أكبر سنّا وكأنّها تحمل ذكريات لا تخصّني."

شعرت ايزلي بالاختناق للحظة، لطالما راودها الشّعور ذاته، ذلك الانفصال عن انعكاسها في المرآة.. تمالكت نفسها وحاولت تجميع كلماتها بحكمة ذلك أنّه يجب عليها دائما فصل مشاعرها الشّخصيّة عن مشاعر المريض..

"-حنين، يبدو أنّكِ عرضة لضغطٍ هائل. ما تصفينه قد يكون مرتبطا بشيء دفين بداخلك، رغبة هي أو ذكرى قديمة أو حتّى خوف. فكّري جيّدا.. فلنعُد قليلاً الى سنوات طفولتك."

صمتت حنين كي تفسح المجال لذاكرتها بأن تمتدّ الى جذور الطّفولة البعيدة.. ثمّ عادت تلفّ الخاتم حول اصبعها بانفعال وقالت:

"-حين كنتُ طفلة كنتُ أهرب دائما الى الحديقة وأجلس بجانب شجرة التّوت.."

"-ممّا تهربين؟"

سألتها ايزلي بانتباه وكأنّما أمسكت بطرف الخيط الذّي سيوصلها الى حلّ لغز مهمّ. واصلت حنين وكأنّها لم تسمع السّؤال:

-" أذكر أنّني كنت أشغل نفسي بعدّ حبّاتها حتى لا أسمع صراخ أبي وشتائم أمّي " حبّة اثنتان ثلاث... فلتعلمي أنّني باشرت بالفعل باجراءات الطّلاق! لم أعد أحتمل ادمانك على الكحول ولا عجزكِ المقيت عن القيام بدورك كزوجة..

أُكمل العدّ بصوت أعلى حتّى لا تتسلّل بقيّة الكلمات الى أذنيّ "أربعة خمسة...سأترك هذا المنزل، إنّك وغد حقير لا أريد شيئا منك ولا حتّى ابنتك."

كُنت أشد على أذنيّ حتّى تؤلمانني وأنا أحاول عبثا اخراج الكلمات من رأسي. شعرتُ بنفسي عبئا قاتلا على والديّ. لم يكن هنالك أحد لينبّهني الى أنّ الذّنب ليس ذنبي بل كنت أشعر أنّ وجودي يذكرهما بالخطأ الجسيم الّذي ارتكباه وأنّني سبب شجارهما..."

نظرت حنين الى ايزلي نظرة تحمل في طيّاتها شيئا من المعنى فوجدتها جامدة الملامح ولاحظت حجوظ عينيها وقد تراءت في احداهما دمعة مُجهَضة.

كانت صورة تلك الشّجرة واضحة جدّا في ذاكرة ايزلي بل إنّ تلك الكلمات ظلّت تحفر عميقا وتتغلغل الى نقطة دفينة في عقلها..

"- سيّدة ايزلي هل من خطب ما؟"

أفاقت ايزلي من سهوها الذي سحبها منه صوت حنين. فنظرت إليها وهي تتفرّس في ملامحها علّها تقتلع من بينها جوابا على كمّ الأسئلة الذي انهال عليها دونما انذار.

"-من...من هُما والداك؟"

همّت حنين بالإجابة لولا مقاطعة صوت رنين هاتفها الخلويّ. انتفضت الفتاة بسرعة وحملت حقيبتها وقالت وهي تغادر:

"- يحب أن أرحل، سأزورك في يوم آخر. مازال لديّ الكثير لأخبرك به يا سيّدتي. الى اللّقاء."

أغلقت الباب خلفها ثمّ تتالت طرقات خطواتها على السلّم حتى انطفأت بينما ظلّت ايزلي قابعة في مكانها. شعرت بالاختناق وهي تستعرض على نفسها ما روته زائرتها.

كيف يمكن أن تكون قصّتهما بهذا التّطابق المريب؟ أتكون محض صُدفة؟ وهل يمكن للصّدفة أن تكون دقيقة حتى يصل الأمر بأن تطرق بابها وتجلس على كرسيّها؟

حاولت أن تطرد الهواجس المزعجة الّتي يُسرّ بها عقلها وبينما همّت بالنهوض وقعت عيناها على خاتم حنين ملقى على الكرسيّ الّذي كانت تجلس عليه.

"لابدّ أنّه وقع منها بينما كانت تروي لي تلك القصّة"

دنت من الخاتم حتّى تلتقطه فما ان وقعت يدها على قماش الكرسي حتّى أدركت أنّه مازال باردا، وكأنّ أحدا لم يكن يجلس عليه من الأساس..

يتبع

***

مريم عبد الجوّاد - تونس

 

نهر الحب المضيء

لن ينضب

لن ينضب

مهما ابتكرت

بنات اوى

الثعالب والذئاب

من اساليب مكر

خبث وخديعة

ومهما عوت

في البراري

والواحات

في الضفاف

وفي الطرقات

الثعالب

فشعاعي قوس

قزح الصباح

والشفق الازرق

سيعكسان على

جدار الحقيقة

نواياها

وايايل وغزلان

المرج المضيء

ستعزف على

نايات وقياثر

قلوبها

لحن هزيمة

الثعالب بنات

اوى والذئاب.

***

سالم الياس مدالو

 

إنـنـي الـمـشتاق عـيـناكِ سـلامـي..

ولـــهــذا هَــجَــر الــحــبّ كَــلامــي

*

قــد قـسـى قـلـبي فـماذا قـد يـعيدُ

نُـضـرة الــروح لـقـلبٍ فِــيَّ ظـامـي

*

حـيـنـمـا أنْــظُــرُ نــجــلا يـسـتـفيق

لـهبٌ فـي أحـرف الإحساس حامي

*

ويــثـيـر الــــروح شــجــوٌ بـنـشـيـدٍ

فـي حـنايا الـذاتِ مـن جمر هُيامي

*

فــهـلـمّـي لا تــظــلّـي مــثــل بــــدرٍ

قــد تـخـفّى خـلـفَ أســراب الـغمامِ

*

وأزيـحـي عـن رمـوشي كـلّ حـزني

حـيـنـها ســـوف تُـداويـهـا كِــلامـي

*

بــحـديـثٍ مــنــكِ حــلــو ولـطـيـف

تـسـتريح الــروحُ يــا بـنـت الـكـرامِ

*

لا تـغـيبي قــد مـللت الـصبر عـمري

سوف يدنيني التجافي من حِمامي

*

وابـعـثي لـي كـلّ حـينٍ مـنك شـيئا

هــاتـفـي يــشـتـاقُ رنـــات الــغـرامِ

*

إذ يـــرنُّ الـهـاتفُ الـمـشتاقُ قـربـي

أحـسـب الـكـفين مـنّـا فــي الـتـئامِ

*

أسـمـعُ الـصـوتَ كـلحنٍ فِـيَّ يـسري

تــنـصـت الــــروح إلــيــهِ بـاهـتـمامِ

*

يـنـشر الـفَـرْحَ بـروحـي مـثـل نــورٍ

يـرقـص الـنبض وصـوتي بـانسجامِ

*

اذكــــري حــيـن تـقـولـين حـبـيـبي

صـوتـك الـتّـحنانُ يُـهديني مـرامي

*

اذكـري الأنـفاس حـرّى فـي فـؤادي

تُـخـرِج الـبـوحَ شـعـورا مــن ضِـرامِ

*

أطــفـئـي نــــار اشـتـيـاقـي بــلـقـاءٍ

فــي رحــاب الـحبّ يـا بـدر الـتمامِ

*

عـانـقـي الـــروح بـعـشـق أدفـئـيـها

راكَــمَ الـبـعدُ شـتـاءً فــي عـظـامي

*

لـيـفيق الـزهـر فــي نـبض عـروقي

ويـفـوح الـحـرف بـالعطرِ الـخزامي

*

هـانـت الـدنـيا بـعـيني دون عـيـني

هـل أراهـا؟! قـد دنـا فـصل الـختامِ

***

صـلاح بن راشـد الـغـريـبـي

 

كان الطريقُ ضفافاً

والذكرياتُ نسائمُ بردٍ لا تهابُ

*

تقبلُ الأضواءُ شفاهَ الماء،

راقصةً

غيداءَ راكضةً

كمقبض السيفِ خصرُها

والطولُ رماحُ

*

لولا الظلامُ،

لقلت فراشةٌ بين نسائمِ العطرِ ترتاحُ

وأخرى تحنو على كلبها،

كجدولِ الماءِ رقراقُ

*

أخبرني الليل

أن النجمَ يسطعُ

وصوت الطير صداحُ

*

تيممتُ بالبرد

فحط الله بين يديَ

الشمسُ ترتاحُ

*

مللت بحور الدم قالَ

وصوت الحزنِ ذباحُ.

***

كريم شنشل - الدنمرك

 

أحدث الطيور:

أن جناحي مجرّد رماد،

لا يعلو،

ولا يُسافر.

*

أجمع كلماتي،

أحملها كمن يحمل غيمًا،

أمضي فارغ اليدين

تحت قناع غامض،

مرتعبًا من ظلي،

أنصت لخطاي تتبعني

ولا أدري،

أترافقني النجوم

أم يبتلعني

ظلي.

*

هاك بعضًا من رمادي،

أعطني شعلة،

أو غرفة ضوء،

فما لي غير النور المكسور،

وما حولي سوى بقايا

تركها العابرون بلا ظل.

*

خذ ما تريد مني،

أعطني بقايا عطرٍ لنسمة،

لأتنفس ذاكرةً وحيدة،

فأنا مذ خمسين وجعًا،

أعبر فوق الكلمات،

أجلس على موائد الغياب،

وفي كل لقمةٍ طعمُ الحنين.

*

متى يا ربّ

نتخلى عن ذكريات الأيام،

نشرب مراراتنا

ونحن مغمضو العيون،

ولا نحفظ سوى الأحزان،

وحدها تلوّن ليالي الصمت

وتحاصرنا كقرى منسيّة.

*

أيامنا غادرها الصباح،

خانها الورد القابع خلف الفواجع،

وحكاياتنا تئنّ،

نكسيها بأمل مزيّف

لغدٍ يختلس دموعنا،

حتى من أحلامنا المؤجلة.

***

د. جاسم الخالدي

 

كان الأرقَ رفيقها كظلٍّ، لا يريد ان يفارقها لذا لم تستطع أن تغفو. رغم إرهاق السفر ومشقّاته، والظروف الجوية القاسية التي رافقت رحلتها، والتي لاحت لها، كأنها تختبر صبر انتظارها الطويل الذي بدا ممتدًا كأفق بلا منتهى. 

تركها بمفردها في غرفة الفندق لفترة، بدت كاستراحة لالتقاط الأنفاس، ثم عاد ومعه مسؤول التنظيم، الذي كان زوجها نائبًا له في إدارة شؤون الرفاق في الفندق. لم يمضِ وقت طويل حتى امتلأت الغرفة بالوجوه المرحبة بسلامة وصولها. ظنًا منهم ان دفء الرفقة قادر على ان يعيد للروح طمأنينتها المبعثرة.

 سرعان ما غُمرت الغرفة بأصواتهم الصاخبة، وتزاحمت قناني الشراب وتصاعدت في فضائها سحب الدخان، كأنها تخطّ حدود عالم جديد يفتقر للهواء النقي. احست بالاختناق، واجتاحها شعور بغثيان غريب، مما جعل تفاعلها مع هذا المشهد باهتًا، كأنها غريبة عنه، او أنها كانت تشاهد مسرحية لا دور لها فيها.

انزوت في زاوية السرير، الذي تقاسموه معها للجلوس، مربكة ومشوشة تصارع الضجيج الذي انبثق داخلها. حاولت ان تلملم شتات ذاتها وسط هذا الواقع الجديد، واقعا بدا غريبًا وهي تشعره كضيف ثقيل يفرض هيبته عليها بكل قسوته وجبروته، لكنه أيضًا، يمكن ان يكون بوابة لإدراكٍ جديد، ونقطة تحوّل ربما لم تتكشّف بعد.

كان انتظار انصراف الضيوف طيف أمل يتراقص أمامها كمنقذ عاجل، حينما اجتاحها شعور مُلّح بالحاجة إلى الاستحمام، كأن الماء وحده بوابة للنجاة مما هي فيه. حين خطت نحو الحمام المشترك في الفندق، لم تلتفت إلى وجود بعض الشباب البلغار في الرواق؛ لكنها لم تلق بالًا لهم، إذ كانت خصوصية اللحظة التي منحها إياها إغلاق الباب كافية لتغمرها بشعور من الأمان المؤقت. خلعت حليّها بهدوء ووضعتها وهي ساهمة على رف مغسلة الحمام الصغيرة.  جلست على البلاط وسمحت للماء الساخن أن يتدفق بشدته عليها، أملا في تبديد ما فيها من ثقل. اختلطت دموعها المنسكبة مع تيار الماء المنهمر، كأنها كانت تطهّر روحها، وتغسل همومها، وتحرر أحزانًا لم تجد لها منفذًا سوى في هذا الخفاء الرقيق.

فجأة، اخترق الطرق العنيف على الباب هدوءها، فتشظت لحظات سلامها الداخلي كزجاج رقيق، متناثرة واياه في زوايا الحمام. ارتفعت أصوات بلغارية غاضبة تطالبها، كما فهمت، بسرعة الخروج. تسرّب إليها شعور مرير بانعدام الأمان. عادت إلى الغرفة لتجد إصبعها عاريًا، لقد اختفى خاتم زواجها، تذكرت كيف انها ارتدت ملابسها على عجل وهرعت إلى خارج الحمام، غافلةً عن اخذ حليّها. اسرعت علها تستطيع استرجاع ما نسيت، الا انها لم تجد سوى بخار الماء يتلاشى، كأن ذكرياتها القديمة تتبخر معه، تاركة خلفها فراغًا لخسارة لا تعوَّض.

حزنت لفقدان حليّها واعتبرته نذير شؤم، خاصة أن العقد كان يحمل أسم زوجها. أخبرته بما حدث، فقابلها بتجهم وصمت. طلبت منه أن يخبر إدارة الفندق علهم يعلمون شيئا عنها، لكنه اكتفى بعبارة مقتضبة: "سأفعل".

مع خيوط الصباح، سعت من جانبها جاهدة بالسؤال والبحث عنها، لكن مساعيها باءت بالفشل ومحاولاتها تلاشت كسراب. لم تجد سوى الخيبة.

بمرور الوقت، لمحت عوائل مهاجرة تتواجد في المكان الذي هي فيه؛ أطفال يلهون ونساء حوامل يخطون نحو مستقبل مجهول كحالتها. كان لهذا المشهد وقعا إيجابيا، مدعّما ومشجّعا ومخففًا عما هي فيه من توحد، كأن نبض الحياة الجماعي يربّت على قلبها ويمنحها أملًا وعزمًا على التواصل.

كانت تجربة الحياة وسط هذه المجموعة الغريبة من الرفاق تحديًا بحد ذاته بالنسبة لها، انه أشبه برحلة عبر أمواج متلاطمة، تحدٍّ لا يهدأ. صحيح أنهم كانوا يجتمعون حول فكر مشترك واحد وهدف محدد، لكن تبايناتهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية واضحًة كاختلاف بصماتهم. فقد تمايزت طباعهم واختلفت أمزجتهم، وتباعدت سبل مواجهتهم للواقع. بين من يُخفي طموحاته الانانية تحت ستار الرفقة، ومن يرى في الظروف الفوضوية المتقلبة فرصة لجني المكاسب، حتى لو داس على أحلام الآخرين وطموحاتهم التي يستحقونها بجدارة. مع ذلك، كان التعامل معهم يُشعل داخلها شعلة إدراك جديدة لقوة متطلبات التعايش الرفاقي ومرونة الروح.

كما لاحظت، مع مرور الأيام، أن من بين ساكني الفندق او زواره وجوهًا معروفة ولامعة، لا تضيء في سماء العراق فحسب، بل وتمتد بألقها إلى آفاق العالم العربي في الأدب والفن والمسرح، غير أن هذا البريق لم يبدد تمامًا ظلال التوترات والمصالح الانانية الكامنة في الشللية والنميمة، وهي تنمو كالأشواك بين الورود، والتي كانت جزءًا من يومياتهم. كما وانسلت صور التقارير الكيدية كهمسٍ مسموم يهدد تماسكهم، ويمزق لحمتهم. رغم ذلك، بقي هذا المجتمع لوحة معقدة من الطموح والإبداع، تجاهد ملامحها المتشابكة لتظل متألقة رغم التشققات والخدوش.

 كان توخّى الحذر يحيط بكل خطوة يخطوها الرفاق، خوفًا من عيون النظام العراقي التي تتربص بهم او تندس بين صفوفهم، في غفلة منهم. كما وكانت قواعد السلامة والأمان والسرية صارمة لا تقبل التأويل والاستهتار: لذا تم الإبقاء على استعمال الأسماء الحركية ليس لحماية الرفاق في صوفيا وحدها فحسب بل ولأسرهم وعوائلهم في العراق. لذا فان الرصد المتواصل للزوار الغرباء، ومنع الخروج الفردي للرفاق ملزما للجميع. ومع كل ذلك، كان في قلب تلك الظلال القاتمة والرؤيا المشوشة لحظات من التآلف الصادق، كالسهرات والزيارات العابرة، التي جلبت نورًا في ليل الغربة، وأفسحت المجال للتعارف والتآخي، فكانت راحة للقلب وسط العزلة، ونسمة هواء تنعش الأرواح.

 مرة وهي تجاذب أطراف الحديث مع امرأة كانت قد رافقتها، في أحد الأيام، مع أطفالها للتسوق، بسؤال جفلت من توقيت طرحه، ومثل لها صدمة شخصية غير متوقعة هز كيانها، الامر الذي استدعى منها، مذ ذاك، التأهب والتثبت من اسئلة الاخرين وحديثهم وآراءهم، بل والنظر الى ذلك بعين من الحذر والترقب.

قالت المرأة:

ــ في الغربة، أصبحنا أكثر حبًا وانسجامًا مع بعضنا (تقصد هي وزوجها)، مضيفة، ان هذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لما استجد من حياتنا هنا.. ولكن ماذا عنكما؟"

فوجئت بسؤالها وكأنها تغمز من طرف خفي الى شيء ما، يستوجب التوثق منه!

كانت كلمات تلك المرأة ثقيلة على قلبها كالصخور، نطقتها وكأنها تدس شيئا ملوثا بالريبة والظنون بين عباراتها.

ابتسمت، وأجابتها، دون أن تفصح عن عمق ما تحمله الكلمات من صدى في داخلها.

ــ بالطبع، الحب والانسجام كانا حاضرين دوما، ولا زالا منذ اللقاء الأول لنا، ثم أنى سأضع قريبًا طفلًا، سيعزز، بالتأكيد لحمتنا واواصر ما يربطنا ببعض أكثر فأكثر.

أسْرَت بها الذاكرة إلى مواقف قديمة، حيث تساءلت مع نفسها صادقة عن اخفاقاتها، ان كانت لديها ثمة إخفاقات، او عن أخطائها المحتملة، ربما، تلك التي ارتكبتها بمسحة العفوية، او التي تعمدتها بغموض مبطن، لتستدعي ان تطرح عليها هذه المرأة مثل هذا السؤال. هل هي من ضمن شكواه للآخرين التي طالما اعتادها من قبل. عادت لتستكشف خزين ذاكرتها وهي تستعيد شريطا متيقظًا من حياتها معه.. ما السبب يا ترى وراء اثارة مثل هذه الأمور من قبل الاخرين، اولئك الذين ما ان تتوطد علاقتهم بهما حتى تنزف الأسئلة المربكة من أحاديثهم. أهي وساوسه القاتلة ام غيرته الطائشة.. او ربما ذاك الشك الذي كان يلازمه على الدوام اذا ما ضمتنا حلقة من الأصدقاء والمعارف. انها اللحظة الفارقة، التي ربما جاءت متأخرة.. لحظة إدراكها للأمر الذي ظل مستعصيا عليها لفهم ما هي فيه، او ما هو عليه، والذي أصبح فيه الزمن شاهدًا على ما مضى..

**

سعاد الراعي 

..............................      

* رابط القسم الأول من رواية "بين غربتين"

https://www.almothaqaf.org/nesos/978832

(مُهداة إلــى من نعتني بشاعر الحب والجمال الشاعر عبد الستار نور علي، أحد الأسماء البارزة في الشعر العربي المعاصر. أقول له شكرا

وشرفٌ لي أن أكمل مسيرة شاعر الحب والجمال الأول بشارة الخوري، الملقّب بالأخطل الصغير)

***

تجلّي الصمت:

لا تشغليني بالحديثِ لأننـــــي

في الصمْتِ يشغلني الهـــوى الغلّابُ

*

وأرى الجمال َ إذا صمت ُّ مفكّرا ً

إنَّ الحديث َ عن الجمــال ِ حجـــاب ُ

*

إنَّ التفكّر َ في الجمال ِ عبادة ٌ

تجلو الفؤادَ فتُفتــح ُ الأبــــــــــواب ُ

*

الحسْن ُ معنى ً كالمحبّــة ِ ساكن ٌ

أعماقنا لا صـــــورة ٌ وثيـــــــــاب ُ

*

إنّي ليبلغني التفكّـــــر ُ نشــــوةً

أضعاف َ ما تاتــــي به ِ الأكـــوابُ

*

كُثْــر ٌمحـاريبُ الجمال ِ وإنّمـا

الكون ُ كلُّ الكون لـــي محـــــراب ُ

*

سألوا : أأنت ِ حبيبتـــي فأجبتُهـم ْ

بالصمْت ِ، فالصمْت ُ العميق ُ خطاب ُ

*

إن َّ الإجابةَ َ حين َ يفتضح ُ الهوى

عبث ٌ ، ففي بعض ِ السؤال ِ جــواب ُ

*

ولكم أثاروا في غيابــــــي شكّهم

لِم َ قدْ عشقتُك ِ؟ مـــا هـي َ الأسباب ُ

*

إنّـــــــي أحبّك ِ هكــــذا بتجرّد ٍ

معنىً ، فما الأسمـــاء ُ والأنســــابُ

*

في الحب ِّ تنصهر ُ الفروق ُ ويختفي

نَسَــــب ُ الحبيــب ِ وتسقـط ُ الألقاب ُ

*

لا شئ َ غير ُ الحــــــــــب ِّ يجمعنا معــــا ً

إنْ لــــم ْ نعشْـــــــه ُ فإنّنــــــــا أغراب

*

***

تجلّي المكاشفة:

قالت صحبت َ العشْــق َقُلْــ

ــتُ وفيهِ يوما ً مُنتهــايْ

*

فصــــلاةُ عشقي لنْ يكـــــو

نَ وضوؤها إلاّ دمــــــايْ (1)

*

أُمْنيّتــــــي يــا نجمتــــــــي

أنْ تسمعي يوما ً نِـــدايْ

*

أنْ تتركي الفلك َ البعيــــــــ

ــد َ وتنزلـي حتّى سمايْ

*

ما عادَ لي وطـــن ٌ أحـــثُّ إليـــــه ِــ مُشتــــاقا ًــ خُطــــايْ

*

مــا عاد َ لِيْ وطــن ٌ ســوى

عينيـــك ِ أُنبئه ُ أســــايْ

*

في غربتي انطفـــأتْ قنــــا

ديلي أعيدي لي ضحايْ

*

مــا مِنْ حبيــب ٍ قبْل َ هــــ

ـــذا اليوم ِ تحضنه ُ يدايْ

*

لا تسأليني مــــن أنـــــــا

فـــي أيّ أرض ِ مُبتــــدايْ

*

مــا معدنــي ما ملّــــــتي

ما وجْهــتي ما مُبتغـــــايْ

*

أنا نسمة ٌ جذلــى أظـــــــــلُّ كمـــا أنـــا ....هـــذا مُنـــــايْ

*

أنــا مُنْـــذ ُ بـدْء ِ ولادتي

الحبُّ يسكنُ فـي حشــايْ

*

مَنْ يُصْغ ِ لِـي يومـا ً يَقُــلْ

قَـدْ أُنزِلَتْ للعِشْــــق ِ آيْ (2)

*

كمْ مرّة ٍ أصبحْت ُ كهْــــ

ــلا ً ثُم َّ عدْت ُ إلى صبايْ

*

كمْ مرّة ٍ قـدْ مُـتُّ في الــ

ــدنيـــا وأحيــاني هـــوايْ

*

بين َ الورود ِ وِلدْت ُ مِــنْ

نسْــــل ِ البنفسْــج ِ والـدايْ

*

إنْ تعجبي مِنْ سحْر ِشعْـ

ــري في سروري أوْ شجايْ

*

هو َ مِنْ لِسـان ِ الغيب ِ لمْ

يَصْــدَحْ بـه ِ أحــد ٌ ســوايْ

*

لمّـــا نطقــْتُ به ِ سَـرَتْ

أنغــــــامُـــــه ُ في كلّ نايْ

*

وترددتْ أصــــــداؤه ُ

حتّــــى المجرّة ِ يـــا مُنايْ

*

إنّــي أحبّــــك ِ مُرْغَمــــا ً

وإليـك ِ تدفعُني خُطايْ

*

انــا بانتظارك ِ أنْ تقـــو

ليـها ... أتيتُـــك َ يا فتايْ

***

(1) في البيت تلميح الى قول الحلاج وهو على الصليب...

ركعتان في العشق لا يصحّ وضوؤهما إلاّ بالدم

(2) آي جمع آية والآية: العلام

..................

تجلّي الوداع:

ولمّـــا احتوانــا الطريــقُ الطويــــل ُ

وغابَ المطــارُ مـــــع َ الطــــائــره ْ

*

غفـــتْ فوق َ صدري كطفـل ٍ وضمّتْ

يـــــديَّ كعصفـــورة ٍ حائــــــــــره ْ

*

أحبّـــــك َ ــ قالــــــت ْ ــ وأنفاسُـــــها

تطــوّق ُ أنفاســـــي َ النافــــــــــــره ْ

*

لأجلك َ أعشــق ُ نخْـل َ العـــــــراق ِ

وأعشــــــق ُ أهــــــــواره ُ الساحره ْ

*

وأعشـــق ُ مصْر َ لأنّــــك َ فيـــــها

تمجّـــــد ُ آثـــارهـــــا النـــــــــادره ْ

*

صمــتُّ وحــرْت ُ بماذا أجيــــــب ُ

تذكّــــرْت ُ أيّامــــــــي َ الجائــــره ْ

*

تمنيّت ُ أنّـــي نســـــــيت ُ الوجـــود َ

ونفســــي وعشــت ُ بلا ذاكـــــــــره ْ

*

فقلْــت ُ وإنّــي أحبّـــــــك ِ جـــــــدا ً

بكُثْـــــــــر ِ نجـــــوم ِ السما الزاهره ْ

*

مكـــــانك ِ في القلْب ِ يا حلوتــــــي

وليس َ ببغـــــــداد َ والقاهـــــــــــره ْ

*

وخيّــم َ حزْن ٌ علــــــى وجههـــــا

بلوْن ِ غيــــــــوم ِ السمــــا الماطره ْ

*

وقالت حبيبي إذا غبت ُ يـــــــوما ً

فلا تحْسـَــــبنْ  أنّـنــــــــي غــادره ْ

*

ولا تحـــزننْ سوف َ أأْتـــي إليك َ

وتشعــــر ُ بي اننــــــــي حاضــره ْ

*

سيحملنـي الفـــــلُّ  والياسميــن ُ

إليــــك َ بأنفاســـــــه ِ العاطــــــره ْ

*

وســـالت ْ علــى خدّهـــا دمعة ٌ

فضقْـــــت ُ بأفكـــــــاري َ الحائـره ْ

*

نظـرت ُ إليها أريــد ُ الجـواب َ

فردّت ببسمـتهــــا الســــــاخــــره ْ

*

قصــــدْت ُ المزاح َ فلا تقلقَـنْ

خيــــــالات ُ عابثــــة ٍ شاعــــــره ْ

*

أجبت ُ هو َ البحـر منتظــــــر ٌ

يريـــــــد ُ لقاءك ِ يا ساحـــــــــره ْ

*

هنالك ّ في المـــوج ِ نرمــي الهموم َ

وأوهـــام َ أزمنـــــــة ٍ غابـــــــره ْ

*

نخـــطُّ علـــى الرمْل ِ أسماءنـــــا

كطفليْــــن ِ في دهْشـــــة ٍ غامـره ْ

*

ونرشــف ُ في الليل ِ كأسَ الهوى

تســـامرُنــــا نجمــــــة ٌ ساهــره ْ

*

ويوقظنا البحر ُ عنْـــد َ الصباح

فنصغـــــي لأمـــــواجه ِ الهادره ْ

*

ومـــرّتْ على البحْـــر ِ أيّــامنا

ســـراعا ً وعادت بنـــــا الطائره ْ

*

فقـــدْ كان َ هــــذا اللقاء الأخير

فقــدْ رحلـــــتْ جنّتـي الناضــــرهْ

*

وليس سوى الجرْح يحيـــــا معي

كوقْـع ِ  السكاكين ِ فــي الخاصره ْ

****

جميل حسين الساعدي

قصيدتان ..

(1) أيا مصرُ!!

اذا ضجَّتِ الأنوارُ وارتفعَ البدرُ

فهلْ تدفنينَ الرأسَ في الرملِ يا مصْرُ؟

*

عهدناكِ أُمّاً قلبُها يوسعُ المدى

وأطفالُها دهرٌ يلاعبُهُ دهرُ

*

وانْ سارَ خطبٌ للبلادِ أتى لَهُ

ـ ليرجعَ مقهورَ الخطى ـ فتيةٌ سُمْرُ

*

أيا مصرُ مَن قالَ: الكريمُ مودِّعٌ؟

وفي كلِّ قلبٍ مِن مكارمِهِ ذِكْرُ

*

سلي دورةَ النيلِ العظيمِ وما سرى

لَهُ مِن فراتِ الله هل ينتهي السفْرُ؟

*

وقد كانَ في أصلِ الوجودِ بيانُهُ

واِقدامُهُ سرٌّ يَحارُ بِهِ السرُّ

*

اذا لمْ تكنْ شمسٌ يعزُّ بِضوئها

فتىً في ربى مصرٍ فلا أشرقَ الفجرُ

*

وماذا اذا غنّى المغني وصوتُهُ

ذليلٌ وفيهِ الليلُ خمرٌ ولا أمرُ

***

(2)      لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ ..

لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ

أمّا اعتراضُكَ أسبابٌ لَهُ عجبُ

*

لأنك العينُ ما خَلَّ الظلامُ بِها

ولا المظالمُ والتسويفُ والكَذِبُ

*

يا أيُّها المبصرُ الحاني وقامتُهُ

فوقَ العواصفِ مهما زختِ السحبُ

*

ويا فؤاداً بِكبرِ الكونِ، يارئةً

تنفَّسَ الخلقُ منها والردى يثِبُ

*

على البيوتِ فتغدو الأرضُ مقبرةً

وأنتَ فيها فضاءٌ أخضرٌ رحبُ

*

ضاعَ الكلامُ و باعَ الصحبُ أتعسَهُ

الى العدوِ، ولمْ يفقهْ بِهِ العربُ

*

وجرجرتْ زمرُ الاعرابِ خيبتَها

الّاكَ انتَ بسيلِ النورِ تنسكبُ

*

أرادَ يكتبكَ الكتّابُ أغنيةً

فما أنوصفتَ، وما كانوا، وما كتبوا

***

شعر: كريم الأسدي

عد خيبتين إلى الوراء، وتذكر،

كل الذين تركوك نصف فرحة، واعتذر

*

واكبر وحدَك، هذا ما قالته

لك الحكايةُ فإن نسيت، اعتذر

*

ولا تُحص هدايا انتظرتَها

ولم تصل أو قُبل

لا شيء لك، واعتذر

*

وقل للأغاني كفى ليلا

واحكِ للورد عن يأسك العاشق، واعتذر

*

وإذ تمشي إلى الذكريات ولا من أثر

إلا بقايا كذبٍ صدقته، اعتذر

*

اعتذر لمن خذلوك

قناعا، قناعا

ولا تعتذر لنفسك

***

فؤاد ناجيمي

 

دَعْ بلابلَ الشمس تُولدُ مِن حَنجَرَتي

لتُغرِّدَ نشيدَ السعادَة...

جُذوري من سُلالةِ الفرحِ

ومُنذُ ولادةِ فَجرِيَ

أَلِدُ النَغَمَ تِلوَ النَغَمِ

وأُحَوِّلُ الصمتَ إلى مِهرجان..

دعْ فراشاتِ نَيسانَ تَرفُلُ مِن عُروقي

لتُعانِقَ زَهرَ الَليمونِ

و حَمامُ الوداعَةِ يَرفُّ مِن فمي

لينشُرَ سَلاماً جَديداً

ويوقِظَ النائمينَ في كُهوفِ الظَلامِ

اِسمحْ لعصافيرِ القمرِ

أَنْ تُزَقزِقَ حُرَّةً

كي أَستَخرجَ أَيقوناتِ الفجرِ

من ذاتِيَ عَلى إيقاعاتِها

كيف أَشرحُ لك مشاعِري؟

وقَد وَأدتُها قبل أَنْ تولدَ؟

كيف أُغازلُكَ

ورَذاذُ الثلجِ

يُغطِّي مساحاتِ جسدي؟

سنونوات الحلم تنزف جريحة

على أعتاب قلبي

وزَهرُ الجُلَّنارِ يُحتَضَر

على وقعِ شهَقاتي

عطرُ إكليلِ الغارِ غادر جسدي

لا أستطيعُ عشقَكَ أَيُّها التائهُ عن ذاتكَ

أَنتَ مَن كسرَ أَجنِحَةَ الطيورِ

في خَفْق ِ قَلبي

وسرقَ نفحاتِ القَرَنفُل

من ربيعِ أيَّامي

جَفَّ رَحيقُ الزهرِ على شِفاهِ النَّحل

أَيُّها المُزَيَّفُ...

أَنا لا أُحسِنُ سِياسَةَ النِفاق ِ

وَلا كَياسَةَ التَنميقِ

ولا أُجيدُ أَدوارَ التَمَلُّق

ولا أُبدعُ في اِرتداءِ أَقنعَةٍ

لا تُناسِبُ استدارَةَ وجهي

***

برعمَ زهرٍ أَغفو بين أَكمَام النَّدى

لا تتفَجَّرُ يَنابيعُ أنوثتي

إلاَّ في أَحضانِ وطني

أَخافُ الاِقتِرابَ منك وخطُواتي

مُطَوَّقَةٌ بأَشواكٍ

رسَمتْ لوحَةَ دِمائي النازفةِ ...

حُرّاسُكَ يَحرقونَ ياسمينَ خاصِرَتَي

وَأَسلِحَتك تَقصِفُ أَعوادَ الرَياحين

بأَيّ حَقٍّ تُجَدفُ في بحاريَ

وتَصطادُ اللُؤلؤَ مِن يَمِّ أَحلامي؟

لَنْ أقبّلَكَ

وأَنتَ تَسرقُ كُلَ صباحٍ

شَقائقَ النُّعمانِ مِن دَمي

وتخطفُ عطرَ البخورِ مِن أنفاسي

أَيُّها الحالِمُ ...

لن أَذوبَ مثلَ الشَّهدِ بين شَفتَيكَ

وأَنتَ تَقطفُ كُلَّ مساءٍ الحَبَقَ مِن بَسَماتي

ولن أُؤمِنَ بكَ وأَنتَ جَلادٌ مُحتَرِفٌ

أَيُّها الغاضِبُ مِن سُلالَةِ نَيرون

كيف أُضيءُ شُموعِيَ في مَخدَعِكَ

وأَنت تُطفئُ نورَ أَفكاريَ

وَتَحبسُ هواء حُريَّتي؟

تَفصلُ بيني وبينكَ ..

مئَةُ سَنةٍ ضوئيَّةٍ وآلافُ القُرونِ

أَنت خانِقُ الأَرواحِ

وأَنا سَلوى المُعَذَبينَ

لا نلتَقي تَحتَ سَماءٍ واحِدَةٍ

ولن أَمنَحَكَ قَلبيَ وَأَنتَ جَزارٌ ماهِرٌ

في جرح المَشاعرِ والأَحاسيسِ

وَفنانٌ بارِعٌ في تَتبيلِ خَلطَةِ الذُّلِ في صُحونِ الغشّ

روحي خالِدَةٌ مُنذُ الأَزَلِ وما تَزال

لن أَركعَ في محرابِ ذُكورَتِكَ

ولَنْ تَحلَمَ بقَطفَةِ زَيزَفونٍ مِن عُنقِي

اِرحَلْ عني أَيُّها الجاهِلُ

أَنا لَستُ نَعجَةً طَريَّةً للاِلتِهامِ

لَحمي مُرٌّ وزُعافٌ مُميتٌ لحَضارَتِكَ الزائلةِ

لنْ أَسمَحَ لكَ

بالزَّرعِ في أَرضِي وَأَنتَ مستعمرٌ دخيل..

ارحل ودَعِ اليَماماتِ تُحَلِّق

إلى ما فوق النُّجومِ عَزيزَةً

وأَعِدِ القَمرَ لإمارَتي المَسلوبَةِ..

اِرحَل.. لقد ولَّى عَهدُكَ

وماعادتْ لنعناعِكَ نَكهَةٌ في مَذاقي

***

سلوى فرح - كندا

 

جَنى المأمونُ فيها دونَ حِلْمِ

فترْجَمَها وفلسَفها بظلمِ

*

بتأويلٍ وتَعقيلٍ وجَبرٍ

وإمْعانٍ براعيةٍ لوَهمِ

*

دَعى شُهبا لمُعتَزَلِ النوايا

ومَنْ يأبى تولاهُ بنَقمِ

*

ومِحْنةُ خلقهِ فتكَتْ بجيلٍ

بمُعْتصمٍ وواثقها بتُهمِ

*

وإبْن سَليطها أفتى بقتلٍ

لمَنْ أدْلى بصادقةٍ وفهمِ

*

عَجائبُ فكرةٍ أزرَتْ بقومٍ

أصابتْ مَن يُعارضها برجْمِ

*

رموزٌ لامعاتٌ في رُبانا

توسّدتِ الثرى والسيفُ يُدمي

*

تبعْثرَ لبّنا والناسُ حَيْرى

تشوّهَ رأيُها ومَضى لعُقمِ

*

عَباقرةٌ تُضللها الخَطايا

فتحْسَبُ إثمها مَيدانَ عَصْمِ

*

إذا بلغتْ نواهيُها مُناها

تحيّرتِ المَزاعمُ بعدَ شكْمِ

*

تَجبّرَ واثقٌ وسَعى لنَطعٍ

وسيّافٌ يبادُرها بصَلمِ

*

ومُفتيها المُبجلُ باعْتزالٍ

يُسائلهم ويَدعوهم لختْمِ

*

فكمْ قتلوا إذا نَكروا لخلقٍ

فلا أزلٌ ولا قولٌ بعِلمِ

*

تراهمْ في بلاطاتٍ كبارا

عقيدتهمْ تبارتْ نحوَ حُكمِ

*

ومِنْ جورٍ إلى جَورٍ شديدٍ

كأنّ رجالها أفتتْ بجُرمِ

*

مَعاذ الله مِن خبَلٍ مُقيمٍ

أصابَ وجودَنا فيها بقصْمِ

*

تَمحّنَ خَلقها ورأى عَجيبا

خليفتهمْ يسائلهمْ بزَعْمِ

*

توارثَ جيلُها مَعنى كلامٍ

وعَقلٌ فاعلٌ يَحظى بدَعْمِ

*

هوَ المَخلوقُ لا شكٌ تَدانى

فأوّلْ مثلما وفدتْ كعجْمِ

 *

بواصِلها وجاحِظها وحادٍ

لمَثلثةٍ مُخنّعةٍ بدَهْمِ

*

ومأمونٌ ألا أوْصى عَقيبا

فكنْ سنداً ومأمورا لعَمِّ

*

ألا شهدتْ بسامراء حَيفا

خلافتهمْ أباحتْ كلَّ شؤمِ

*

بها نَطعٌ وسيّافٌ ألوسٌ

يَجزّ رقابَهمْ وَحشٌ بنَهمِ

*

بجَعْفرها تعافتْ من ضَلالٍ

فغابَتْ مِحْنةٌ نزلتْ بقومِ

*

فهلْ عادتْ إلى رُشدٍ نُهاها

وهلْ فازتْ بما نظرتْ لخَصمِ؟

*

تعوّقَ عَصرها برؤى اعْتزالٍ

فغاصَتْ في مَتاهاتٍ ونوْمِ

*

عذابُ ضميرهِ أزرى بعَهدٍ

فأعْطاها لمُعتصمٍ بسَأمِ

***

د-صادق السامرائي

مهداة الى استاذي العلامة

الدكتور فاضل صالح السامرائي

تحية تجلة وإكبار

***

زَهــا، فــي كـلّ قافـيـةٍ نَـشـيـدُ

يُـبــاركُ نــهْـجـَكم وبه يـشـيـدُ

*

يُـفاخِـرُ بعضُ مَـن يعلو بمَجْـدٍ

ونَـبـْعُ عُــلاك قــرانٌ مَـجـــيـدُ

*

سَــماواتُ الــبيانِ رأتْـكَ فيهـا

فـطـوَّعَـت الحروفَ كما تُريدُ

*

تــحـيّـاتُ الــثريّـا مُــسْـبِـغات

لـِـجُـهْــدٍ قـاده فِـكْـرٌ رشــيــدُ

*

يـُـقَـرِّبُ فـهْمَ مضمونٍ فَيَسْمو

بــإبـــداعٍ ، لــه عَـبَقٌ مـديــدُ

*

بتـفسير الكتاب أنَـرتَ فِــكرا

بإســلوب بــه قَـرُبَ البعــيـدُ

*

لـمَسْـتَ بـيانَه فازددتَ نـورا

فَــنَـوّرتَ العـقـولَ بما يـفـيـدُ

*

وللأذهـانِ قَــرّبْــتَ المـعـاني

فَـشاعَ بجـوِّهــا فـهْـمٌ عَــتِـيدُ

*

يلائـمُ كلَّ مـَن يشكو وصولا

لإدراك النصوص بما يجـيـد

*

تَـرَنّـمْـتَ المقالَ فزاد حُـسنا

لِـمـا قــد زانـهُ رأيٌ سَــديــدُ

*

بـمَـوْهِبــةٍ حَـبـاكَ الله فــيـهـا

حُـروفُ عطائها ، دُرٌ نَضِـيـدُ

*

وفي (اللمساتِ) للتأريخ قولٌ

وتـوثــيــقٌ وذِكـْـرٌ لا يـَـبــيــدُ

*

بهــا جسَّــدتَ أبعادا تســامت

وبَـحـثـك فـــي تـناوله فَــرِيـدُ

*

رعـاك الله ، يا أفـقـاً تـجَـلّى

بــضوء عطائه نهْـجٌ جَـديـدُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

في الصباحِ المكللِ بضوءِ الشمسِ

المكللُ بزرقةِ السماءِ

المكللُ بالوانِ الخريفِ

الجالسةُ بأوراقِ الشجرِ

أعينُ قوامَ الأملِ

للخروجِ من كوابيسِ الليلِ

نشرات الأخبارِ

وأكاذيب الساسةِ

في الصباحِ المكللِ بضوءِ الشمسِ

بينما المحاولة ُفي أوجِها

لإستذواقِ كوب َ الشاي بزيادةِ سكرِهِ

والتغلب على فقدانِ الشهيةِ

برائحةِ الخبزِ الحارِ

بينما أحاولُ كسرَ حدةَ المنفى

بضوءِ الشمسِ وبالصورِ القديمةِ

لتجنبِ سفالةَ الحاضرِ

وبراغيثَ اللحى

بينما كلَّ ذلك في الصباحِ

المكللِ بضوء ِ الشمسِ

أعينُ الأملَ للأبتسامِ

مرةٌ آخرى

**

من مشاغلِ حسين الموزاني

يتذكرُ الموتي

يتذكرُ موتى المنفى

يَعِدُهمْ واحداً بعدَ الاخرِ

ويحثُنا خشيةَ النسيانِ

كأنه يرصفهُم أمامُنا

. ليأخذَ مكانَهُ بينهمْ

**

حلولية

مع سبق الإصرار والترصد

أقول : وأنا أنظر بماء نهر شبريه (Spree)

أنت دجلتي

باصرار من على جسر فردريش

أبادل الأسماك ، الزوارق ، طيور الماء

على جسر الشهداء

أبادل الهنا بالهناك

أبادل الهناك بالهنا

.  بلا مفرِ

**

وجوه الليالي

وجهُ يائسٍ

أطلقَ القصائدَ في الريحِ

وأشارَ لأعاليَّ الشجرِ

هناكَ تغتسلُ أو تكتملُ

عندما يهطلُ المطرْ

وربما تقصُ تحتَ الشمسِ

أمٌ لصغارها بعضَ أوهامِ البشرِ

**

ليلة الجدل الطويل

ألم ترَى

على أية رابية لم يجلس الذئب

وبأية زاوية لم نلتم

على نصاعة أسنانه

ألم ترَى

كيف نفعل بالروح الجالسة

لنا بالمرصاد في مجريات الأيام

محفوفين بوقت مصاب بداء القلب

نتمدد بأسرة على قدر ألامنا

ليس بدعة أن أصرخ حتى الملل

وليس بدعة أن أجر قوادم الذئب

لشرك حياتي

ليلتهم صوتي النافر

هكذا تكون الخيوط محكمة بين شاهقات الضياع

**

إصرار

لا يعرفُ الطيرُ قاتلهُ

لا يعرفُ الرصاصةَ

والرصاصةُ لا تدري وقت إيابهِ

غير أن المنايا

شاخصةٌ والطريق سفر

والقاتل يترصدُ

ورغم كل الخفايا

نسمع أجملَ الأغاريدِ بزفةِ الفجرِ

ويأتلقُ الريشُ في النهارِ

يرقصُ بين الرياحِ طَرِبُ

ليبني في السماءِ عشَهُ

***

رضا كريم - شاعر

 

فقدوا أباهم البريء

بطعنةِ غلاءٍ غادرة

أيتام الرغيف!

*

الجوع كافر

والشِّبْعُ مُسْلِمٌ لا يتعاهد

جيرانه!

*

كرش مترهلة

تَسُدُّ رَمَق شِبْعِهَا

لقمةٌ جائعة!

*

كِسْرَة يتيم

تُسدد فاتورة جوعها

حِرماناً!

*

على الرصيف

يبكي وطناً جائعاً

رغيفٌ شاحب!

*

شاهد عيان

على معاناة الجياع

برميل القمامة!

*

في دائرة الجياع

فاز الرغيف على خَبَّازِهِ

بالأغلبية!

*

في معركة الجياع

فقد ساقه اليمنى

رغيف مناضل!

*

رواتب الحكومة

يدفعها من عَرَقِ جبينه

رغيفٌ أسمر!

*

حملة أغذية وأدوية تبعثها

دعماً لغزة ولبنان

نخوة أرغفة!

*

بدون دعوة رسمية

يشارك فيها الذباب.. والجوعى

وليمة القمامة!

*

لتعليم الزعماء

يقتطع الرغيف من إنسانيِّتهِ

درساً!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

9/12/2024

 

مهداة الى شاعر الحبِّ والجمال

جميل حسين الساعدي

***

صديقي، ما لديكَ، وما لديَّا

قصائدُ تعزفُ اللحنَ الشَّجيَّا

*

فبيتُ الغُرْبِ صارَ لنا ملاذاً

وبيتُ الأهلِ جبَّاراً عَتيَّا

*

هجرْنا صُحبةَ النَّخلِ الظَّليلِ

صحِبْنا الظِّلَّ ليلاً أجنبيَّا

*

وما كانتْ بأيدينا، ولكنْ

بأيدي مَنْ طغى وازدادَ غَيَّا

*

نشيجُكَ يملأُ الخِلَّ المُعنَّى

بحزنٍ لم يزلْ غضّاً طريَّا

*

غريبانِ استفاقا ذاتَ ذكرى

فكانَ الشَّوقُ خفّاقاً نديَّا

*

أهاجَ مواجعي وأقامَ فيها

بجمرٍ زادَ مِنْ لَهَبٍ عَلَيَّا

*

ذئابُ الليلِ تعويْ في سريريْ

لتملأَ مَضْجَعِي أرَقاً سَخِيَّا

*

فعاقرْتُ الكؤوسَ وما غفوْتُ

فبتُّ معَ الكؤوسِ فتىً عَصِيَّا

*

أداويْ خيبةَ الأيامِ فيها

بأخرى داؤُها يشتدُّ كَيَّا

*

هي الأحلامُ لا تُغُنِي ولكنْ

سرابٌ قرَّبَ الأمسَ البَهيَّا

*

شربتُ الرَّاحَ حتى كَلَّ قلبي

ولمّا كلَّ، كلَّ العمرُ فيَّا

*

تداوَيْنا بمَنْ يُغْنِي ويَشفي

ويأخذُنا إليهِ ذُرىً عَلِيَّا

*

إلى مَنْ يملأُ الأرواحَ أمْنَاً

ويغمرُها سلاماً سرمديَّا

*

هو الوطنُ الرَّحيمُ الحقُّ يعلو

هو النُّورُ الَّذي يَهدي الشَّقيَّا

*

وما آوي إلى مَنْ حَدَّ سِنَّاً

فيرميني إلى الذُّؤبانِ حيَّا

*

وباسمِ الله يحكمُ مُستبيحاً

حقوقَ الخَلْقِ نشَّالاً رَدِيَّا

*

أيحكمُ مارقٌ مَنْ كانَ حرّاً

أبيَّ النَّفْسِ مخلوقاً نقيَّا!

*

فكمْ مرَّتْ علينا مِنْ دُهورٍ

صحائفُ أرَّخَتْ زمناً فَرِيَّا

*

ليحكمَنا الأقاربُ والأعادي

خبيثاً، أمْ سَفيحاً، أمْ بَغِيَّا

*

سلاماً أيُّها الوطنُ البديلُ

فقد أهديْتَنا وطناً سَوِيَّا

***

عبد الستار نورعلي

تموز 2024

.....................

* كتبتُ الأبيات الأربعة الأولى تعليقاً على قصيدته (أرق) في صحيفة المثقف بتاريخ الأربعاء 19/6/2024، ثمَّ أضفْتُ عليها بعد ذلك لتكتملَ بهذه القصيدة.

اطلع على صحف غربية خلال سفراته العديدة فوجد عندهم فنا قائما بذاته وقد انتشر في كافة الصحف اليومية والمجلات انها رسومات كاريكاتيرية لمجموعة من الرسامين المبدعين لشخصيات سياسية وبإشكال مثيرة للسخرية والتهكم رسمتها ريشة هؤلاء العباقرة الموهوبين بهذا المجال وتحت كل صورة كُتب التعليق المناسب الذي يليق بتلك الشخصية وما وعد به صاحب الصورة من وعود قبل انتخابه لكنه حين تسنم السلطة لم ينجزها أو انجز الكثير منها وأهمل واحدة منها فقط وبما انهم يمتلكون مصداقية الوعود واحترام شعوبهم فتكون مهمة الرسام الكاريكاتيري ان يذكّر اياهم بتلك الوعود التي لم تنجز.

وبما ان صاحبنا رسام كاريكاتيري معروف وحاذق ويعرفه القاصي والداني في بلده التي لا أعرف اسمها على الخريطة فربما هي مدينة الواق واق أو كما أظن كوريا الشمالية أو غيرها لا أدري.

قد تصدرت رسوماته سابقا الصفحات الاخيرة من الصحيفة الورقية التي يعمل فيها في بلده حيث ان القراء يبحثون عن رسوماته بشغف دائم قبل اطلاعهم على الاخبار السياسية وكانت جلّ مواضيع رسوماته تخص اقتناص احدى سلبيات مجتمعه مثل عالم السحر والشعوذة والسحارين وأكاذيبهم ورسومات تخص البعض من الشباب ممن يقلد ملبس النساء أو بالعكس والكثير من اخبار الدلالات مواضيعه تشبه الى الى حد ما رسومات الرسام الكاريكاتيري المعروف عندنا عباس فاضل في الثمانينيات والتسعينيات ورسوماته عن الدلالة أم ستوري وقد نجح فيها عباس فاضل نجاحا باهرا واكتسب شعبية محببة من قبل القراء. نعود الى رسام الكاريكاتير الذي تأثر برسومات الغرب إذ إنه لم يجرب.

 فكرة رسم الشخصيات السياسية في بلده وقد راقت هذه الفكرة لذائقته المتعطشة للإبداع في هذا المجال فقرر ان يجرب حظه لعلها تثير اعجاب القراء وان يدون اسمه انه رائد هذه الفكرة في بلده وتمنى ان لا ينزعج منها رجال السياسة كونها تجربة عالمية تغص بها الصحف والمجلات الرصينة في كل انحاء العالم.

وبعد عودته حاول ان ينشر أولى رسوماته وقد عكف على رسمها لعدة ايام وبذل جهودا جبارة في إظهارها بالشكل المناسب وقد حاول قدر الإمكان ان يجعلها أخف وطأة عما شاهده هناك في تلك الدول الغربية مشيرا مع كل صورة بتعليق يناسب صاحب الصورة الكاريكاتيرية مذكرا إياه ببعض المشاكل التي يعاني منها جميع الناس.

نعم انها فكرة جذابة للقراء وقد اعتمدها الفن الغربي لامتصاص نقمة الناس وبذلك ستكون فكرة ذكية لفائدة تلك الحكومات.

اما بالنسبة لهذا الرسام الذي حاول ان يجرب حظه فهي تعتبر بمثابة إنجازا كبيرا ومهما ليثبت جدارته بهذا الفن ان نالت إعجاب القراء، ورضا الطبقة الحاكمة الا ان رئيس التحرير في تلك الصحيفة بعث بطلبه قبل نشرها وحذره من مغبة هذه الرسومات على الصحيفة وعلى من رسمها بالذات الا ان الرسام الكاريكاتيري وصاحب الفكرة كان متفانيا بالرد على كل صغيرة وكبيرة بشأنها وشارحا له ان تلك تجربة ناجحة وتمتلك صدى كبيرا بين صفوف الناس هناك في بلاد الغرب ولا نخسر شيئا ان قمنا بتطبيقها هنا ونحن لا نختلف عنهم بشيء. وتلك مسألة ليس عليها غبار فاستطاع الرسام بأسلوبه المقنع وطريقة دفاعه المستميتة عن فكرته ان يجعل رئيس التحرير يرضخ لفكرته ثم انها راقت له ايضا وبرأيه ان مجتمعه بأشد الحاجة الى هكذا مواضيع مقارنة بالدول الغربية التي تنعم بالراحة والاستقرار.

 قال رئيس التحرير: إذن لنجرب هذه المسألة مع اعتقادي انها لا تمتلك مقبولية حسنة، ليس من قبل القراء انما من قبل الأشخاص الذين رسمتهم ولكن لنجرب وأقسى عقوبة نحصل عليها ستكون إنذار أولي للصحيفة ان لم تعجبهم .

بعد اسبوع من نشر تلك الرسومات لبعض الشخصيات المؤثرة في ذلك البلد

أختفى الرسام الكاريكاتيري ولم تجد اسرته أثرا له.. وبعدها أغلقت تلك الصحيفة الى الأبد. ولوح رئيس التحرير لكلبه الذي ودعه من مدرج الطائرة.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

البرق الساطع

فرط عقده

وخرزاته ضاعت

في حفر الشك

واليقين ويماماته

وعصافيره استمالتها

النسور الصقور

الحدات والبزاة

والعنادل العنادل الغريدة

فرت فرت

وما عادت تلمع

مرايا البرق الساطع

فرت صوب

حقول  حلامها

امنياتها

ورؤاها

وهناك هناك

على تلة من

مسك وعبير

عزفت على

قياثر قلوبها

لحن الينابيع المضيئة

لحن الخصب

ولحن المطر

***

سالم الياس مدالو

 

ليلة سقوط طاغية

وهروبه الى المجهول

 ***

لا شكراً لكَ

أَيُّها الرئيسُ الفارُّ

والهاربُ كجرذٍ أَحمقٍ

من جحرِكَ الدمويِّ

لا من عرينِكَ

الذي كنتَ توهمُ نفسَكَ

بأَنَّكَ أَسدٌ فيهِ

وبلادكَ غابةْ

*

ليسَ شكراً لكَ

أَيُّها الرئيسُ المخلوعُ

لأَنّكَ كنتَ مُتَخلّفاً ومتأخراً

بأَكتشافِ اللعبةِ ،

لعبةُ تلويثِكَ بالسياسةْ

لعبةُ توريثِكَ للرئاسةْ

ولعبةُ توريطِكَ بوظيفةِ الجلّادِ

بدلاً من حكيمٍ لمعالجةِ

عيونِ الناسِ والبلادِ

التي كانتْ مُبتلاةً

بمخالبِ ومخارزِ

وسكاكينِ وحوشِ أَبيكَ

الديكتاتورِ الطاعنِ بالدمِ

والخديعةِ والطغيانْ

وما كانَ حافظاً

لياسمينِ " الشامِ والغوطةِ

وقاسيونَ والضيعاتِ

وتُرابِ الجولانْ ".

*

لا شُكراً لكَ أَبداً

أَيُّها الرئيسُ المخدوعُ

بأَمجادٍ وهمية

ونياشينَ صدئةٍ

وزنازينَ مُكتظةٍ بأَدواتِ القمعِ

وسواقي الدمعِ

وغياباتِ الموتِ السوداءْ

*

أَيُّها الرئيسُ الموهوم

لا شكرَ لكَ ولا هُمْ يظلمونْ

إِذهبْ وحيداً وبعيداً

وغيرَ مأسوفٍ عليكَ

ولا على زمنِكَ الفاجعِ

إِذهبْ، حيثُ ينتظرُكَ

مصيرٌ أَسودٌ

وتُطاردُكَ كوابيسُ ضحاياكَ المساكين

وصرخاتُ أُمهاتِهم المنكوباتِ بالقهرِ والفقدانْ

ودموعُ آبائهم المفجوعينَ باليُتْمِ النازفِ

والخساراتِ والحرمانْ

*

إسمعْ أَيُّها الرئيسُ الطويلُ الطاغي

المتورّطُ بما لا تَفقهُ وتُدركُ جوهرَهُ

ومعناهُ ورسالتَهُ الكونية

إِيّاكَ أَنْ تُفكِّرَ بالعودةِ ثانيةً

الى البلادِ التي خرّبْتَها

وشوّهتَ صورتَها الجميلةَ

وسحقتَ ياسمينَها الرهيفَ

ببسطارِكَ الروسي وجنودِكَ القُساةِ

وثعالبِكَ المتوحشينْ

وإيّاكَ أَنْ تُفكِّرَ بالإعتذارِ

من شعبِكَ الذي أَهنتَهُ

وأَدميتَهُ وجوَّعتَهُ وقتلتهُ

وشرَّدتَهُ في كلِّ منافي العالم

وخرائبِهِ وزرائبِهِ وبحارِهِ

ومستنقعاتِهِ وغاباتِهِ البدائية

*

أَيُّها الرئيسُ الفارْ

كجرذٍ أَبلَهٍ أَو فارْ

عليكَ لعنةُ الأُمهاتِ

الاطفالِ والشيوخِ

والضحايا والشهداءْ

حيثُ كانوا كلُّهم شهوداً عليكَ

في ليلةِ سقوطِكَ الدراماتيكية

وهروبِكَ المُضحكِ، المُبكي

نحوَ المجهولِ والغامضِ

واللا شيءِ واللا أحدْ

*

يااااااااااااااااااهٍ منكَ

وآآآآآآآآآآآآآآآآهِ عليْكَ

ياآبنَ آدمَ الخطّاءْ

ويا ماءَ الخطيئةِ

وطينةَ الاخطاءْ

كمْ أَنتَ طاغيةٌ

وأَحمقٌ وببغاءْ

أَنتَ لمْ تَعدْ رئيساً

لأَنَّكَ لسْتَ جديراً

بمهنةِ الرؤساءْ

لا اليومَ ولا غَداً

ولا بعدَ بعدَ الغدْ

وحتّى نهايةِ الوجودِ

والكونِ والأَشياءْ

***

سعد جاسم

2024-12-8

قصيدة بثلاث لغات

(يا أيُّـها الرجلُ المُـرخي عِمامتَـه)

شُدَّ الرِّحالَ فإنَّ القـــومَ فــي ظَعـَنِ**

*

هيهاتَ تسعَـدُ في الدّنيـا وبهجـتـها

من قوتِ شعبٍ ذوى جوعاً ولمْ يَهُــنِ

*

هيهاتَ تبقى طَوالَ العُمــر في دَعةٍ

فالمـوجُ يقـذف بالأصدافِ والعَـفـنِ

*

لا تحسبنَّ ليالــــي السُّحتِ نـائــرةً

دوما وغيرُكُ في ليلٍ من الدُّجَــنِ

*

صبراً، سيأتيك إعصارٌ بلا مهــلٍ

فاحْـزِمْ حقائـبَـكَ الملآى مـن الدَّرَنِ

*

وغادرِ الوطنَ المنكوبَ في عجلٍ

لا أنْ تــغــادرَهُ روحـــــاً بــلا بـَـدنِ

*

أما تَـرىَ أنَّ مَـنْ سادوا ومَــنْ حكمـوا

قد فارقوا هذه الدَنيــا بلا كـفَـنِ

*

هلّا اعتبرت بصدّام وعصبتـــه

كيف انتهتْ ساحةُ الأفـراح في شجــنِ

*

فلستَ أحسنَ حظّــاً منهـــمُ أبــداً

يا سارقَ القوتِ باسم الدّين والوطــنِ

*

لقد حسِبْتُ بأنَّ الدِّيـنَ يغمـرُكــمْ

بالزُّهـدِ والعَطْفِ والإحسانِ والمِنـــن

*

فخاب ظنّـيَّ لمّا قــدْ رأيتُكـًـمُ

عُمْـيـاً، وفــي سَمْـعِـكـُمْ وقـرٌ بلا وهَـــنِ

*

إنْ كانَ ذا الشَّعبُ يغفـو في تعاستِهِ

فسوف يصحو من التخديرِ والوسَنِ

*

رُدّوا الذي قد نهبتُمْ من خـزائـنِـه

مِن قبلِ أن تُبتَـلـوْا بالرُّزْءِ والمِحَــنِ

*

غــداً سيأتيكـمُ العاتــي فيسلبُكمْ

فـتَرجعــونَ كمــا كنتُـمْ بلا سكَــنِ

***

د. بهجت عباس

.......................

* صدر لبيت الشاعر جرير المشهور بهجائيّاته للفرزدق.

يا أيّها الرجل المُرخي عِمامتَه **هذا زمانك إنّي قد مضى زمني

** ظعْـن: ارتحال، والفعل ظعن يظعن

........................

English

O You, who is hanging down his turban”

Translated by Bahjat Abbas

O You, who is hanging down his turban”

Be ready to go, since the people are leaving.

You would never enjoy life and its pleasure

From the food of people,

Who withered from hunger and didn’t kneel.

You would never thrive in your whole life,

And the wave throws away the shells and mold.

Don’t think that the nights of the unlawful are always bright,

And others have a night of darkness.

Hold on! A storm will come to you soon,

Pack your bags full of dirt,

And hastily leave the ruined land,

Rather than you depart as a soul without body.

Don’t you see those, who dominated and ruled,

Left this world without a shroud?

Wouldn’t you learn from Saddam and his gang,

How they left the ground of joy in sorrow?

You are never luckier than them,

You, who stole the food by name of religion and country.

I thought religion will overwhelm you

With asceticism, sympathy, friendliness and generosity.

I was disappointed to see you

Blind and deaf.

If these people sleep in their misery,

They will wake up from drugging and sleep.

Give them back what you stole,

Before you’ll be inflicted with disaster and ordeals.

Tomorrow, the tyrant will come and plunder you.

And you’ll be without shelter as you were.

................

Deutsch

O du, der seinen Turban herunterhängt,

Sei bereit zu gehen, denn die Leute reisen ab.

Du würdest das Leben und sein Vergnügen nie genießen

Aus der Nahrung von Menschen, die vor Hunger

Verdorrten und nicht knieten.

Du würdest nie während deines ganzen Lebens gedeihen,

Da wirft die Welle Schalen und Schimmel weg.

Denke nicht, dass die Nächte der Rechtswidrigen immer hell sind,

Und andere haben die dunkle Nacht.

Wart mal! Bald kommt ein Sturm auf dich zu,

Pack dein Koffer voller Dreck,

Und verlasse hastig das zerstörte Land.

Stattdessen du nur mit Seele ohne Körper gehst.

Siehst du nicht diejenigen, die dominierten und regierten,

Verließen diese Welt ohne Leichentuch?

Würdest du nicht von Saddam und seiner Bande lernen,

Wie sie den Boden der Freude in Trauer verließen?

Du hast nie mehr Glück als sie,

Du, der die Nahrung mit Namen der Religion und des

Landes gestohlen hast.

Ich dachte Religion würde euch überwältigen

Mit Askese, Sympathie, Freundlichkeit und Edelmut.

Ich war enttäuscht, euch zu sehen,

Blind und Taub.

Wenn diese Leute in ihrem Elend schlafen,

Würden sie von Drogen und Schlaf wieder aufwachen.

Gebt ihnen zurück, was ihr gestohlen habt,

Bevor ihr mit Katastrophen und Qualen konfrontiert würdet.

Morgen würde der Tyran zu euch kommen und plündern,

Da würdet ihr zurück, ohne Obdach sein, wie ihr wart.

 

كانت غارقة في متاهات أعماقها، تنظر إلى الفراغ الممتد أمامها وكأنها تستعرض جروحًا قديمة تنزف بصمت، فجوات داخلية لم يشفها الزمن رغم عقود مضت. اقترب منها بحنان وطبع قبلة على جبينها، فأفاقت من شرودها واعتذرت:

ـ عذرًا، كنت شاردة الذهن.

ــ لا بأس، حبيبتي. أين كنتِ؟

ــ رحلتُ قليلًا إلى الماضي... ظننتك منشغلًا بقلمك.

ــ ولماذا أرى الحزن جليًا في عينيك؟ حدّثيني، فأنا هنا لأصغي.

ــ إنه الجرح القديم...

ــ الم يكن بيننا اتفاق على دفن الماضي والمضي قدمًا؟

ــ ليس بهذه السهولة يا حبيبي.

ــ إذن لدي اقتراح: جربي الكتابة.

ــ الكتابة؟

ــ نعم، عبّري عن كل ما يُثقل روحك على الورق. اجعليه قالب ذكريات تستعيدينها أو تحاورينها بصدق وانفتاح.

أعاد اقتراحه إلى ذهنها ذكريات عملها السابق كمترجمة في عيادات الطب النفسي، حيث كان يُوصى المرضى باستخدام الكتابة كعلاج للصدمات. فكرت للحظة وقالت:

ــ فكرة معقولة، لكن كيف سأوفق بينها وبين التزاماتي اليومية؟

ــ سأساعدكِ وأوفر لكِ وقتًا من يومك.

ــ شكرًا، لكنني لا أريد أن يكون ذلك على حساب وقتك.

ــ لا تقلقي، سنتجاوز هذه الصعوبة معًا. فقط ابدئي، وأنا معك.

ــ نعم... دائمًا تكون البدايات هي الأصعب.

بدأت تبحث في أغوار ذاكرتها، مستعرضةً محتويات صندوق باندورا الخاص بها. وجدت أول خيوط تجربتها الأولى في الحب والزواج، وشرع قلمها يقودها بحذر بين أروقة الذكريات، مستكشفًا تلك الجراح القديمة التي كانت تنتظر أن تُحكى...

**

المكان: صوفيا

الزمان: أواخر السبعينيات، بعد ظهر أحد أيام يناير.

أعلن قائد الرحلة عبر مكبر الصوت وصول الطائرة إلى مطار صوفيا، قادمة من بغداد. وأتبع ذلك بإعلان الساعة المحلية: الثانية بعد الظهر، مع درجة حرارة تصل إلى 10 درجات تحت الصفر. شهقت بدهشة، ثم حدّقت من نافذة الطائرة. أمام عينيها امتدت بُسُطٌ من الثلج الأبيض الكثيف، تغطي كل شيء في الأفق وكأنها عالم جديد لا تعرفه. كانت تلك المرة الأولى التي تشاهد فيها الثلوج بهذا الحجم والطغيان، ولم يخطر ببالها أنها ستواجه شتاءً بهذا القسوة.

لم يخبرها زوجها، في آخر اتصال له، عن ضرورة الاستعداد لمثل هذا البرد القارس، خاصة وهي تحمل في أحشائها جنيناً نابضًا بالحياة وموعودا بالبدايات الجديدة.

أدارت رأسها ببطء، تتفحص الركاب بعينٍ قلقة تسبر الجلبة التي احدثوها، فإذا بهم جميعاً يرتدون معاطفهم الثقيلة، وشالاتهم الواثقة حول أعناقهم، وقبضات أيديهم تستكين في دفء قفازات تحارب صقيع صوفيا القارس، بينما وحدها هي لا زالت ترتدي فستانها الأبيض القصير مع حذاء بكعب، كما لو أنها في يوم عادي في بغداد. لم يكن لديها أي تصور مسبق من انها ستقف أمام لهيب البرد الصامت.  لم يكن لديها أي تصور مسبق عن قسوة شتاء بلغاريا، ولم تكن تمتلك الأدوات التي نمتلكها اليوم من وسائل التواصل والبحث لتستعد لهذا الموقف.

بدا مشهدها وكأنه يمثل غربتين في آن واحد: غربة المكان، حيث الثلج صديق قديم للجميع هنا، إلاها، وغربة التجربة، وهي تتأمل عالَمًا بدا، كليًا مختلفًا عنها.

 هذه الأفكار وسواها كانت تدور في ذهنها حين صفعها الهواء البارد وهي تنزل. انزلقت خطواتها على سلم الطائرة، مسرعة بنبض لهفة يسبق قدميها، تتأرجح بين لهفة اللقاء المنتظر، أو غارقة في ارتباك اللحظة التي احست فيها ان المسافرين يتطلعون اليها بدهشة تكسوها علامات تعجب، حول ملابسها الخفيفة التي تبوح بتناقضها الصارخ مع قسوة الشتاء الثلجي الذي يحتضن المطار. تشبثت بحاجز السلم في محاولة لاستعادة توازنها، وكأنها تحمي تماسكها الداخلي من الانهيار. كل تفصيل في حركتها كان يعكس صراعًا خفيًا بين هشاشة ما كانت فيه، وعزم الروح على المضي قدمًا. أكملت إجراءات المغادرة بشيء من الارتعاش المكتوم، وكأنها تطوي صفحة خوف قديم. حين خطت إلى الخارج، تنفست الصعداء؛ نسمة حرية لامست قلبها، وابتسامة صغيرة شقت طريقها إلى شفتيها، إشراقة فرح ممتزج بترقب القادم. كان اللقاء بزوجها الحبيب بعد غياب يلوح كدفء تنتظره الروح وسط زمهرير الذاكرة. ستجد حتما في هذا اللقاء أمانًا مؤقتًا لحياتها التي خيم عليها هاجس الفقد والهروب من مصير مروّع. كل خطوة هنا هي نجاة من الاختفاء القسري الذي ابتلع رفاقها، كل بتلة نفس هنا هي دليل على النجاة من أقبية التعذيب التي غيبت الكثيرين.

توجهت مباشرة الى صالة الاستقبال، بحثت في وجوه المستقبلين، لكنها لم تجده. انطلقت الى خارج المطار علها تجده هناك في انتظارها، خاب مسعاها. دفعت العنوان الذي احتفظت به لمثل هذه الأوقات للسائق، وبنبرة تحمل بين طياتها أملًا هشًّا. أومأ برأسه بابتسامة ودودة، ثم خطا خارج السيارة متجهًا نحو مؤخرتها. لم يجد الحقائب التي توقع ان يضعها في الصندوق الخلفي، فالتفت نحوها بنظرة تملؤها التساؤلات الممزوجة بالقلق. ابتسمت بخفة، ورفعت كتفيها في إشارة عفوية.

همست: "أنا هنا بلا حقائب."

لم تكن قد حملت معها شيئًا عندما غادرت العراق سوى حقيبة كتف نسائية. تركت كل شيء وراءها، متوقعة أن يُلقى القبض عليها قبل أن تصل إلى الطائرة. هي مطلوبة من الأمن العام لنشاطها السياسي المعارض للنظام. عادت بها الذكرى إلى وجه أمها عند صالة المغادرة، شاخصة ببصرها المليء بالدعاء، تهمس بآيات من سورة يس، متشبثة برجاء ان تصبح الكلمات جسرًا من الأمل يعبر بابنتها الى السلامة. كانت الأم تلتقط الأخبار من بعيد، مترقبة لحظة إقلاع الطائرة كعلامة على عبور ابنتها نحو الأمان.

 كانت المدينة تستقبل عينيها بفيض من الأضواء والألوان التي ما زالت تحمل عبق احتفالات رأس السنة. راقبت كل شيء يمر أمامها بفرح طفولي وفضول متقد، وكأنها تبحث عن إشارات تُنبئها بشيء خفيّ من المبتغى. تساءلت في أعماقها عن سر غيابه، وهو الذي كان يعلم تمامًا توقيت وصول طائرتها. ربما أصابه عارض، أو أعيته علّة قديمة كان يُصارعها بصمت. لم تشأ أن تستسلم للقلق، بل احتفظت ببارقة أمل تشعلها الاحتمالات المطمئنة.

دفعت الباب الدوار للفندق، كان يعج بالأرواح القلقة، حيث تجمعت حكايات منفى حزينة في وجه المهاجرين السياسيين العراقيين الهاربين من قبضة الديكتاتورية الدموية. في وجوههم انعكست حكايات منفى مشتركة، ووجع واحد يسكن الملامح. شعرت وكأنها جزء من هذا الزحام، كأنها تحمل ذات الندوب، وذات التوق للأمان والطمأنينة. *

في قاعة الاستقبال، حيث تغمرها موجة من الترقب والاضطراب، حاولت استعادة نبضها الذي أرهقه الانتظار وسط ضجيج الرفاق الذين كانت حركاتهم تشبه عاصفة من النشاط والتواصل. كانت أجواء القاعة تختلط بين حرارة الترحيب وبرودة التساؤلات المبطنة التي قرأتها في عيون ممن حولها. لمسات الترحيب الحزبية من رفاق قدامى، أو من العارفين لزوجها في الداخل، منحوها لحظات دافئة في هذا المكان الغريب، قدح من الشاي العراقي الساخن الذي قدمه أحدهم والذي بدا كهدية من الوطن، يلامس شغاف قلبها. جلست تنبش في دفء الشاي الذي لم يسعفها في محو التوتر ولم يستطيع اختراق القلق الذي يتأجج في أعماقها. غمرتها قشعريرة خفيفة، وجدت نفسها عاجزة عن إمساك القدح، وضعته على أقرب مائدة اليها وجلست.

كان الحضور حولها يتحركون في دائرة من التساؤلات الصامتة. تهامس البعض بنظراتٍ غير خفية. هل أخبر أحدهم زوجها بوصولها؟ لماذا تأخر إن كان يعلم؟ كل هذه الأسئلة تضغط على روحها، تملأ رأسها المتعب، وكأنها دقات طبل في عقل مشوش. احاطت قدح الشاي بأصابع مرتجفة، تبحث عن دفء حقيقي ليس فقط لجسدها، لكن لطمأنت الروح التي أثقلها الإعياء وقلق الانتظار.

كانت هذه اللحظات بمثابة مشهد تجسدت فيه الغربة بأقسى صورها؛ قاعة مكتظة بالوجوه، لكنها وحيدة في تساؤلاتها، وأصوات تتحرك من حولها، لكنها صامتة أمام قلقها. الرفاق يدورون حولها، ليس فقط كحضور مادي، ولكن كمرآة لتلك التساؤلات التي زادت من حدة الصداع الذي بدأ يستولي على ذهنها نتيجة للإعياء والبرد وتعب الرحلة القلقة، الامر الذي أدى الى شعورها بالدوار والترنح في حالة من الغثيان والاغماء. أحضَر لها أحدهم قدحًا من الماء، كأنه أدرك أمنيتها الصامتة. رغم برودته، تناولته، علّه يُنعش روحها المنهكة، ويغسل عنها إرهاق اللحظات الثقيلة.

كان الليل قد حل، مرحبًا بها بطريقته، فيما أضواء القاعة تُبدد ظلام الانتظار. لم تُعِر انتباهًا للخطوات التي تقترب، لكنها عرفت وقعها كما يُعرَف نداء الحبيب من بعيد. كان يهبط السلم نحو القاعة بخطواته التي حفظتها ذاكرتها. نهضت فجأة، كأن الحياة بثّت في أوصالها نبضًا جديدًا. نسيت نفسها وما حولها، حتى قدح الماء الذي أفلت من يدها، سقط مرتطمًا بالأرض، ليبلل قدميها الباردتين، لم تكترث، وقفت بشموخ يليق بها، تُعلن حضورها بكبريائها.

دخل القاعة بهدوئه المعتاد، كانت المسافة بينهما تشبه تلك البرودة التي لم تعرف لها سببا ولم تألفها فيه من قبل، وابتسامة مُتكلّفة رسمها على وجهه، كأنما ليغلق باب الأسئلة. بادلته بعض الخطوات، ثم ارتمت في حضنه بكل ما تبقى فيها من حب وفرح، ناسِيةً معاناة الرحلة والانتظار. لم تبحث عن العتاب، ولم يسعَ هو لتقديم الاعتذار. كان اللقاء، بحد ذاته، كافيًا ليختزل كل شيء.

وحين استقر بهما الحال داخل الغرفة، انطلقت كلماتها كخيوط ضوء تتلمس طريقها، وهي تسعى جاهدةً لنسج تفاصيل أيامها المتناثرة منذ غيابه، محاولة أن تجمع شتات حكاياتها وصدى ذكرياتها المبعثرة على صفحات يومياتها بعد سفره، عن انقطاعها عن العمل، وتخليها عن الدوام الجامعي المسائي، وعن تلك الايام الصعبة التي أمضتها بين شراسة مضايقات رجال الأمن وفظاظة تهديداتهم المستمرة. أخبرته عن اختبائها وتغيير سكنها، وكيف نقلت، لوحدها أثاث منزلهم إلى بيت اهلها، في ليلةٍ واحدة، بحيطة وحذر يشبه من يمشي على خيطٍ رفيع خشية السقوط.

 أخبرته عن اخر ما كان عندها من التوصيات والمعلومات الحزبية وأشارت الى انهم قد طلبوا منها بضرورة الاسراع في السفر لدواعي امنية ملحة. سلّمته بقية المال الذي تدبرته للرحلة، وجواز سفرها الذي ينبغي ان يصل إلى الرفاق. قالتها وعيناها ممتلئتان بفرحة النجاة، بنفسها وبجنينها. سألها عن والدته، وعن أحوال عائلته. طمأنته، وأخفت عنه تفاصيل المواجهة الشرسة التي خاضتها نيابة عنه، وعن قسوة تهديداتهم لها، وحتى عباراتهم التي وصلت حد الإنذار، استدركت بصوت يختلط بين الأمل والوجع: "كان لديهم يقينًا بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم، وكأنهم لم يفهموا!".

شعرت فجأة بالحاجة إلى شيء من الدفء. لم تجد في خزانة ملابسه ما يناسبها، فاستعارت إحدى ستراته. التفتت إليه وسألته: "وكيف أنت؟ كيف هي الأحوال هنا؟". نظر إليها مطولًا، كأنما يقيس وقع كلماته قبل أن يقولها: "لقد تغيرت هنا كثيرًا!... لم أعد الشخص الذي كنت تعرفينه!" قالها بوضوح كالسيف، ثم كررها وكأنه يريد أن يثبتها امامها في الهواء. انتظرت منه تفسيرًا، لكنه اكتفى بمراقبة ملامحها. لم تسأله. لم تشك بسلبيته. كانت تحبه حد اليقين الذي لا يهتز. لم تفهم إشاراته ولا بروده، من عدم استقباله لها في المطار، إلى تأخره وفتور استقباله لها في الفندق. ظنت أن الوقت سيعيد كل شيء إلى طبيعته، لكنه باغتها بعبارات واضحة وصريحة، كأنها سهمٌ أصاب قلبها دون رحمة. صمتت، تركت كلماته تُعيد صداها في رأسها، وراودها شعور غريب لم تستطع استيعابه او تسميته.

أرهقها التعب، فاستلقت مكانها، تحضن جنينها، واستسلمت لغدٍ مجهول المعالم، كأنما حياتها كلها أصبحت مُعلقة على حافة غربتين، غربة الوطن وغربة الوحدة.

***

سعاد الراعي

فصل من رواية تحت الانجاز

............................

* تجلت مواقف جمهورية بلغاريا كملاذٍ آمن للشيوعيين العراقيين، ففتحت أبوابها تضامنًا مع أرواحهم المثقلة بالاضطهاد ومصائرهم المهددة. كان ذلك تعبيرًا إنسانيًا لافتًا في وجه موجات القمع والتصفية التي تفاقمت خلال النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، حيث امتلأت السجون والمعتقلات بأجساد النشطاء، وشهدت أعواد المشانق كوكبات من المناضلين. جاء هذا الحِراك تضامنًا مع الديمقراطيين والمثقفين الذين وقفوا بشجاعة ضد ممارسات السلطة القمعية التي استباحت الحريات، والتي كانت فيما سبق محمية بظل تحالف سياسي هش سرعان ما تحول إلى سجنٍ آخر.

"حبيبي الغائب عُد، إن لم تكن مقيدًا بالأغلال أو غادرت روحك جسدك، كما غادرتنا براءة الصبا وزهو سنوات الشباب دون العثور على غصن زيتون تستظل به أمانينا، وإن قررتَ الرحيل عن بلادنا المحترقة تحت أقدامنا خذني معك.

لا... لم ولن أعتاد لوثة الفقدان في وطن الفقدان.

حبيبي صرتُ وحيدة، وحيدة تمامًا، في انتظار أية إشارة تلَوِح لي بابتسامة غدٍ لا تلوثة حمرة الجنون، ودون أن يستلب النفي داخل أوطاننا ما تبقى لنا من نبض الحياة.

حبيب عمري عُد، عد قبل فوات الأوان، علنا نستطيع أن نخاتل زماننا وننتشل بقايا خفقات حلم حلمناه يومًا ولم يقتنصه رصاص الحروب بعد.

أكتب إليك من خلف السواتر التي تهبنا للدمار كل حين، من تحت الخيام المحروقة عند كل غارة لا تنتهي إلا لتعود مع شبح الموت من جديد، من بين الصياح والعويل... من شاطئ البحر المُدمى الذي كنا نخطو فوق رمله سوية، تحوطني بذراعيك وتدفئني بصهد أنفاسك، وأعذب القبلات، قبلات لا تنصت للعلعة الرصاص كل حين.

جسدي المشتاق إلى لمساتك الحانية مهما استبدت بها رعدة الزناد اليوم ذوى مثل أشجارنا اليابسة، لم يعد كما كان، حلم الراقصين في أمسيات الحصاد، عربدت به ريح البارود العاصفة مثل كل محاصيلنا، عامًا بعد عام وعقدًا تلو الآخر. انتهت كل أمسياتنا وتلاشى من الأسماع شدو أغانينا وانطفأت مصابيح أفراحنا، مثلما انطفأ كل وهج عشناه وحلَ محَله الحطام في قلبي، ومثلما نزعت مدننا وقُرانا حُلة أمانها ولبست ثوب أجيال من الحداد.

لكن رغم كل شيء، كل مدامعي وعويلي ما بين النيران، أهجس أنه ينمو بين أحشائي، جنين عشقنا المتخفي عن عيون القناصة وفوهات المدافع وومض الصواريخ. أظنه سوف يولد مع تهاليل الربيع الذي تحب أن تبصره في قسمات وجهي، في الأرض البراح التي تتشرب رماد الحرائق مثل رذاذ المطر. أتمنى عودتك قبل الولادة، أن أبصر في وجهك فرحة الظفر رغم كل حرائق عمرنا الفائت، كما أتمنى أن يمتلك ابننا حرية الاختيار، دون أن يُفرض عليه قرار الموت، ولا خضوع الاستسلام."

*

لم يتم إرسال الرسالة إلى جدي المتوفى من قبل ولادة والدي. وجدتُها مصفرة، بخط مهتز اهتزاز الأرض مع دويّ الانفجارات، تحت وسادة جدتي المُستبقة الرحيل برحيل، كما لو أنها كانت ترغب بالتكتم على سر عشق مطارَد، حرصتْ أن تخفيه عن الجميع مهما توالت العقود.

خلَفتُ الورقة المهترئة من كثرة الطيّ في دارنا، فلم أرضَ أن تشهد المزيد من الاغتراب، ثم مضيتُ بخطى وئيدة تحت وطأة الحَبل نحو نزوح جديد، دون أن أدري متى يحين أوان العودة، لعل هناك من يجدها بين الأنقاض.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

22 ـ 10 ـ 2024

إليها في تجليات الجلاء عن كل موت...

سنى ليل قابع خلف كآبة خرجت بأحمر شفاه من بين رواية كورية لعينة. صهيل معتم بتسارع نبض هزل بسبب ما عاشه خلال عام. قطة صغيرة تتلوى خلف الباب وترقص رقصة زوربا الهرية لتنجح في طرد نشيد الموت بعد ارتشاف جرعة سم لذيذة.

نجاة أولى واحتراق \هنيئ بموت آخر خرج يطفو عليها من بين سواد ليل القرية وغبار الوحدة السحيق.

- هل ماتت الهرة؟

لملمت سكرات موتها، وعاشت بأعجوبة مرغت أنفها في تراب الحياة. وموت آخر أُهْمِل على رف السرد كماء  آسن ماتت أوكسيجانته. اختار حيزه الروائي وارتدى ملابس السهرة الحمراء ووقف على وسادتها دافئا، أو تعمد أن يبدو كذلك لاغواء ما. "يونج هاي" المرأة الشجرة واقفة كغصن افتراضي صنعته "هان كانغ" كما لو كانت ذكاء اصطناعيا بارعا. مواء قطة يشتد في راسها وتتلاشى فرحة النجاة، وتتسمر الشجرة التي ظنت أنها خضراء والتي تعاند في استقبال الموت القادم من شبح تسلط عليها لكي لا تأكل حتى الرمق الأخير من الموت المذهب بلهيب من حولها.

- هل أنا شجرة؟

قال الليل المتخفي للشبح الخارج للتو من قبر ثنايا رواية "النباتية".

-    لا تقرأني أرجوك، ودعني أصير شجرة على نار هادئة وأعذب من قربي ليشهد موتي الذي أغازله كصبايا بادية أصيلة.

تدور يمينا، و هي تقول للكتاب، لا ليست رواية صادمة، ولا فيها أي دهشة أو جديد أو احتفال جميل بالموت. تمرد نسائي وضع على بياض الورق على  شكل مأساة تبكي شجر كل الغابات.

تتقلب يسارا وهي تنشد من وحي لحظتها:

بطلة حقيرة

تموت بعذوبة

ولا من يمنع موتها المنة

لا والدها

ولا أمها

ولا أختها

التي ماتت قبلها

كمدا

حتى القارىء يا سادة

لا قدرة له

لمنع هذا الموت المحتم

إلا بالاجهاز على صفحات الرواية

تشد على هاتفه، وهو يعترف بفشله في منع تلابيب الموت الورقي منها، قبل أن تنهار بكاء داميا، وصل شهيقه إلى قلب الكاتبة بسيول قبل أن تفتح قنينة جعة صفر كحول.

- لا تبك قالت الشجرة، نحن نلعب، وهذه مجرد رواية صديقتي الجميلة!

- لكني أكره الموت، سلبني أعز من أملك ولازالت اللائحة تطول.

- موت الحياة يا عزيزتي غير موت هذا الكتاب.

وقبل أن تلتفت لتر الكتاب كانت الشجرة بوسط منزلها الصغير بالقرية البعيدة قد سالت مع ما تركته دموعها من سيول وفيضانات فاتق سيول مدينة فالينسيا الأخيرة. ولم تشأ أن تخبره أنها حزينة حد الموت في فسحة احتضار محتمل لجدتها المتبقية من إرث والدها الراحل. فالأقوياء لا يعترفون قالت القطة وهي تتلمظ بحليب منقذ.

***

عزيز ريان - كاتب وناقد من المغرب

شفشاون ذات سيول

‏منذ الخطوة الأولى

بدا حذائي مريحاً جداً هذا الصباح

أيتها الكرة الأرضية

هل عليَّ أن أخبركِ..

أنني أكملتُ شهراً في عملي الجديد

أستغربُ وأنا امرُّ بجانب تمثال كارل ماركس*

الذي ينظر الى مباني الاسمنت والزجاج والفولاذ

ويُرَبِّي ساعات العمل الطويلة

مديراً ظهره للنهر..

نهر  ال Spree* الذي أعبرهُ

الى حيث أعمل بالقرب من ضفته الأخرى

‏في المساء أعود مستقلاً قطار الأنفاق

المحشو بالركاب والأصوات والمعاطف والحقائب والكلاب ‏

قبل أن أدخل بيتي،

أتفقد صندوق البريد المحشو بالفراغ

‏بعد أن أدخل،

آكل شيئاً لأجلِ أدوية المساء

ثم أستعيد ساعات العمل الثمانية

وطيلة نومي القليل المتقطع أرمم بها فجوة النهار

‏في صباح اليوم التالي، بقطار الأنفاق

أحشر نفسي بصمت مع الصامتين والصامتات

أصلُ إلى محطتي ‏

أمر بجانب تمثال كارل ماركس متأملاً فَكَّهُ الكبير

أعبر النهر إلى الضفة الأخرى

وأعملُ لأَسُدَّ فجوة الليل

فارس مطر، موظف بدوام كامل في الموات

وبحلم مضاعف في القصيدة

***

فارس مطر/ برلين 5.12.2024

.........................................

* كارل ماركس، يقع تمثاله وسط العاصمة الألمانية برلين في حديقة عامة، وخلفه نهر الشپري.

* نهر الشپري الذي يمر خلال العاصمة الألمانية برلين

 

(هل تتذكر فان جوخ؟)..

خرج الفنان الشيخ وديع الفادي من باب كوخ أخيه، تاركًا وراءه بابًا موصدا، آلامًا تنوء بحملها الجبال الشماء، وحالمًا بآمال عظام تغطي المحيطات والبحار وتطوي فترت التاريخ المتلاحقة طيًا بالضبط مثلما طواها عظماء الماضي. مثل كلّ يوم كان الفنان يغادر ذلك الكوخ الفقير.. منذ ساعات الصباح المبكرة كي لا يثقل على أخيه وابنته الصغيرة وكوخهم الوحيد المتواضع. وكان كثيرًا ما يقطع الأرض طاويًا المسافات الطويلة، منطلقًا بين السهول والمرتفعات حاملًا حلمه وأمنيته الخالدة في العيش السعيد والبقاء الرغيد، إضافة الى ريشته والوانه.. وكثيرًا ما كان يتوقّف عند هذا المنظر او ذاك المشهد، حالمًا في تلبية رغبة خضراء في احتواء هذا اللون أو ذاك في لوحة يخاطب عبرها الدنيا ويطلعها بالتالي على مكنونات قلب لم يعرف إلا الحب وانطبق عليه ما ردّده بينه وبين نفسه وهو "لا وقت لديّ لأن أكره أحدًا لأنني مشغول بمن أحب".

بعد مسيرة طالت هذه المرة وأوشكت أن تصل إلى أميال تساوي سنوات عمره السبعين، توقّف قُبالة سهل تمايلت في ربوعه السنابل واحدة إلى جنب الأخرى، معلنة عن اكتنازها بذور الحياة، وراح يتأمل بها.. "في كلّ سنبلة من هذه توجد العشرات من الحبوب الحيّة النابضة.. انها تشبه الألوان الهاجعة في قلبي، روحي وعيني". وتابع" على من لم يحالفه الحظ أن يصبر.. فما بعد ظلام الليل إلا نهار ونور"، هذه الكلمات الذاتية دفعته لأن يتذكّر ما قاله وردّده لأخيه حول الصبر وأهله المحظوظين. هو يعرف أنه إنسان محظوظ ولو لم يعرف هذا منذ البداية ما كان سلك طريق الفن المُتعب العصي والطويل سُلّمه..، بين كركدنات الفن الكبار أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف يبيعون اللوحة تلو اللوحة لمن يعرفون انه يشتريها، ناعمين ومتنعّمين بما يُسبغه عليهم بيعهم هذا من راحة. "منذ وعيتّ على الدنيا وأتيت إليها في ليلة باردة شديدة البرودة آليت على نفسك أن تبعث الدفء في صقيع هذا العالم"، هتف به صوت انبعث من أعماق أعماقه البعيدة. فهل تعبت الآن؟.. هل أرهقتك السنون.. هل حانت نهايتك دون ان يشعر بحلمك أحد".. هتاف هذا الصوت طالما استنهضه وأراد ان يساعده في إشعال شموعه النائسة في رياح لا قدرة لها على مواجهتها.

سار الفنان الشيخ بخطى مُتعبة مُرهقة مُتجنّبًا ما أحاط به من سنابل، وتابع سيره بحذر مُحبّ مُدنف لهذه النباتات، التي احتضنت خضرتها ويناعتها في أعماقها وتصاحبت مع شمس الحقيقة والحياة، وهناك في أعماق قلبها ورحها استلقى مُفكّرًا فيما عساه يفعل كي يُبدع لوحته المُعبّرة المميّزة والمؤثرة أيضًا. وشرع بحالة تُشبه لحظات الولادة والموت يرسم بألوانه الساكنة في قلبه وروحه، كان يرسم بجنون، وببراعة مَن أراد أن يركض فيسبق ظِلّه. يرسم .. ويرسم.. ويرسم مغترفًا كلّ ما بداخله من مشاعر وأحاسيس، إنه يرسم ما يراه وليس ما هو ماثل قُبالته، لهذا كان منفعلًا شديد الانفعال وقد بدا عالمه الداخلي في مُحيّاه الشيخ الوسيم الآن، الشاب الذي كانه في الامس القريب. ونسي الفنان ذاته فقد استولت رسمته عليه وأنسته كلّ شيء حوله.. متنقلةً به من لون إلى لون ومن جوّ إلى جوّ.

عندما اقترب المساء أرسل نظراته الحالمة إلى هناك.. إلى البعيد.. البعيد، إلى حيث تلتقي السماء بحفاف الجبال العالية، أيقظ ذلك المنظر كلّ ما هجع في داخله.. وهناك.. في أعماقه السحيقة مِن حُلم وحِلم. فسعى إلى حقيبة ألوانه وتناول فرشاته وراح يرسم ذلك المنظر البديع شاعرًا أنه بات مُمتلكًا لقدرة إله.. كانت الألوان مُنصاعة إليه تحمله حينًا ويحملها آخر إلى حيث يُفترض أن يحمل أحدهما الآخر. وكان في تلك اللحظة الفريدة يرى الى وجهه وعينيه وهما تلمعان رغبةً وحبًّا في الحياة " ما أجمل هذا العالم حينما يمكّنني من تكوينه.. إنه يتكوّن لحظة إثر لحظة يا أخي.. لقد وصلت إلى الذرى العالية.. وصلت إلى هناك.. إلى تلك القمة الشاهقة التي وقف عليها بازات الفنّ وصقوره. الآن بإمكاني أن أقول إنني وصلت ألى أعماق الخالق الصغير.. الانسان الفنان.

تحرّك الفنّان الشيخ مِن هجعته تلك شاعرًا بنوع من الاسى والخسارة. وعاد إليه الماضي بكلّ ما حمله اليه من معانيات، انتظارات وترقّبات لِما لم يات. نبقت في فكره وقلبه المُرهف عيون لامعة صافية اللمعان، تقول له هذه ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها مثل هكذا حالة. لقد عشت مثلها العشرات والمئات من المرّات، وأنت لم تتمكن من بيع أيٍّ من لوحاتك العزيزة الغالية.. فعلام تحزن. هذا قَدرك. اختصرت تلكما العينان عيني أخيه زوجته وابنته الصغيرة وكوخهما الصغير.. والآلاف وربّما الملايين من الاكواخ الصغيرة والعيون التي ترى جمال عالمه.. الذي يرى ولا يُرى...

استفاق الفنّان الشيخ وديع الفادي على نفسه وقد حلّ الظلام على السهول والجبال، وأطبق بفكيه الفظّين القاسيين على كل شيء حوله وفي سمائه، فنهض من مرقده وانطلق عائدًا باتجاه كوخ أخيه حيث الألم والامل ينتظرانه.. يرافقهما عذاب أطلق عليه ..منذ سنوات بعيدة.. صفة سرّ البقاء.

***

قصة: ناجي ظهر

لا تستغرب يا صاحبي فنحن في زمن يزداد الموت فيه كزيادة تساقط اوراق الشجر في خريف يلبس كفن الريح وهي تعصف في جميع جوانبه، صدقني إن المعادلة سهلة جدا، كل ما عليك فعله ان تفلسف الحدث، اجعله شيء ماض او حدث  تسبقه مفردة كان حتى يندثر وانت تزحف على أرض تغطيها شظايا مرايا وهم تضم صور من هم على شاكلتنا فتناثروا غيظا، حسبوا انهم سيتخلصون من عوالق شاء ت ان تكون سمة للوجود... فالوجود يا صديقي نحن من نمثله جملة وتفصيلا، نخبئ بداخلنا عكس ما نظهر كي نستمر في امنية نكنها مثل شهيق طويل املا في تغيير... او اننا نتحول الى رماد بعد ان نوقد طموحاتنا ايامنا اعمارنا بطاقات يانصيب، كثيرا ما نخطئ و نخسر ونادرا ما نصيب... كما ذكرت المعادلة الرقمية لا تشبه خوارزمية الاحداث والاقدار، لذا نعول على ان نكون رموز وشواهد قبور، نبكي على انفسنا بكاء الثكالى، نرحب بالحزن ضيفا دائميا، نجلسه حول ذلك الموقد، يرانا نحرق جذم ايامنا ليدفئ القادم من بعيد يستدل بضيائنا، يأكل من موائدنا، يعبد الاوثان، يتخذ نسائنا قوارير عارية... يعتد الوجود سفينة بعدة موانئ، اما نحن فنتحول الى رماد مثل اجسادنا التي يوهنها الانتظار بعبارة ربما سيأتي المخلص كي ينتقم لنا فنحن الفقراء الى الله المستضعفين في الارض الراغبين في العويل والنياح والبكاء فلا ذلة ترهقنا فمأوانا الجنة وبئس المصير... عذرا!! مأوانا جنهم ونعيم الفردوس... او هكذا بين العبارتين اعلم جيدا ان هناك من يستخدم المناخ ليسرع في حرق الجذم فنافخ الكير لا يمكن ان يتوقف فحياته لا تتوقف عند موقد واحد... إنها الخوارزمية المعادلة فيها مقلوبة كالارقام الغير محسوبة ضمن مصفوفات غير مرئية او تلك المخبأة في طلاسم واحاجي اصحاب الدين الدعاة الى الوجود المنسي والعيس في موت محتم، صديقي المغترب في وطنك ماذا تظننا!؟؟ هل تعتقد أننا نستحق الحياة؟ أم الحياة هي التي تستحق ان نحياها او نعيشها؟ أظنك لا تستطيع الاجابة.. فهذا السؤال كما من جاء اولا البيضة ام الدجاجة، على اية حال لا تفرك يديك ولا تلجأ الى التفكير، كما قلت آنفا المعادلة الخوارزمية سهلة للبعض وصعبة للكثير لانا بخلاصة مجرد ارقام تنتهي ما ان يتم عدها قد تتزاوج او تتراكم او حتى تترافق مع بعضها البعض فتقبل القسمة او الطرح او الجمع وحتى الضرب لكنها في الآخر تبقى ارقام.. واظها تتحول الى بقايا متشظية حين تُبقي الكسور كما تبقي النار الرماد دوما بحاجة الى قلبها او إضافة جذمة ما كي تستعيد قوامها كي تحسب من جديد، إننا يا صديقي توليفة معقدة مثل اجسادنا حين خلقها من كونها فجعلها معقدة الى حد ان تجد البعض منها سهل، ومنها السهل الى حد الصعوبة في تفسير ماهيتها..

أرى انك يا عززيزي قد توصلت الى حقيقة اننا مع مرور الوقت نصبح كا الرماد ما لم نكن فعلا رماد فحين يسبقا الموت ونسكن اللحود يأتي ومت تحول فيه عظامنا الى رماد، شأننا شأن جذم النار فلهيبها دنيوي ولهيبنا في الآخرة... لا مناص، أرى اني قد فهمت ما تعنيه و الى ماذا ترمي إليه... دعني الآن فالحديث معك يحتاج الى دماغ و رأس لا تتزاحم فيه صور الحياة وتعقيداتها... سأراك في العالم الآخر حين تتطاير الأجداث الى عالم القرار الاخير.

***

القاص والكاتب - عبد الجبار الحمدي 

 

بلقياكِ عُمْـــرُ الهوى يبتدي

فأنـــــتِ مُنــــــايَ فلا تبعــــدي

*

هجرتُ الديارَ وعفتُ الصحابَ

وهِمْــتُ أفتّـشُ عن مقصـدي

*

تركتُ الضَــلالَ ورائي ورحْتُ

بعينيــكِ يا قبلتي أهتـــــــدي

*

حيــاتيَ مِنْ قبــلِ أن ألتقيــــكِ

ضيـــاعٌ كأنــــيَ لمْ أُوجــــدِ

*

فأمســــيْ توشّـــحَ أحزانــهُ

ويومي بكى خائفا ً منْ غدي

*

وكمْ من مواعيد َ مرّتْ سراباً

إلى أنْ أتيـــتِ بــلا موعــدِ

*

تضوعين َ عطـرا ً كما الياسمين

ترشّيــن َ وجْهي بروْحٍ ندي

*

وكـــان َ البنفســج ُ لِيْ والــدا ً

وبيـــن َ أزاهيرهِ مولـــــدي

*

سليمــانُ أنصــت َ مستبشــرا ً

لهـــدْهدهِ وهْـــــوَ في المعبدِ

*

تأمّــــل َ خيْــرا ً وأمّـــا أنـــا

على كتفي قــدْ بكى هدهدي

*

لمــــاذا تخــافين َ يــا حلْــوتي

لمـــــاذا عيـــونكِ لمْ ترْقــدِ

*

أشك ٌّ! وأشواقنـــا تغتلــــي

ونارُ الهوى بّعْــدُ لمْ تخمــدِ

*

أشكٌّ! وقصتنــــا أصبحـــتْ

لحــــونا ً بقيثـــارة ِ المُنْشـدِ

*

وتلك َ النجـومُ التي في السماءِ

تحـــدّثُ عنْ حبّنـــا الأوحدِ

*

هوانــا تُجَــنُّ لـــهُ الأمسيــاتُ

وحتّــى الطيــورُ بــهِ تقتدي

*

ألا تذكـــرين َ اللقــاءَ الأخيــرَ

ومـا قلْت ِ في ذلك َالمـوعدِ

*

أحبّـــك َ منــذُ زمــانٍ بعيدٍ

وأعــرفُ أنَــك َ لي سيّــدي

*

ومــا كنت ُ جــارية ً إنّــما

سطعْــــت َ بقلبــي َ كالفرقدِ

*

أريــد ُ البكاءَ على كتــف ٍ

هيَ الأمنُ والدفءُ في مرقدي

*

وحين َ نظرت ِ إليّ شعرت ُ

بلطــفٍ شبيــه َ النسيم النــدي

*

بكيتُ...بكيتُ تمنّــيـتُ لـــوْ

رجعــتُ هبـــاءً ولمْ أولــــــدِ

*

سميـرة َ روحي الا تبصـرين َ

بأن ّ النجـوم َ غفــتْ في يدي

*

وحولــــي َ زهْـــرٌ غريبُ الشذى

وأغنيــــةٌ بعْــدُ لـمْ تُنْشــــــد ِ

*

وفوقــي َ للعشْقِ وحْـــيٌ تجلّـى

ضيـاء ً من العالـمِ السرْمدي

*

لقـــدْ سجــد َ العاشقونَ جميعا ً

فآن َ الأوانُ بـأنْ تسجــــدي

***

جميل حسين الســـــاعدي

 

رواية قصيرة ببعض التوثيق

تقديم

منضدة

قلم حبر

ورقة

 غير هذه الأشياء، في هذه اللحظة لا تثير انتباه الدكتور غسان إسكندر مدير مصرف الدم:

ففي باله أحجيات قديمة تواصلت حتى الآن:

من قبل اندلعت حرب وكان البشر وقتها يفكرون هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟

حرب أخرى قامت وعلى الأرض من يفكر هل الملائكة ذكور أم أناث؟

وأنا

أنا الدكتور غسان المعروف بذي خبرة طويلة في حقل الطبّ تجمعت لديّ من سنين أفكّر والحرب تجري من حولي:

من أين جاء هذا الفايروس القاتل؟

أهو من أوروبا أم إفريقيا؟

من دم فاسد أم شذوذ؟

كان يودّ أن يكتب شيئا ما يحلّ اللغز الذي جاء خلال الحرب، فأخذ يمرر القلم على الورقة باتجاهات مختلفة.. الشمال.. اليمين.. الجنوب اليسار..

مارس الشخبطة مثل طفل يلهو. ثمّ ملأ فمه بالهواء وفجأة نفخه.. ونهض وهو يلقي بالورقة في صفيحة الأزبال.

1

الإرهاق

. تورم الغدد اللمفية.

الطفح الجلدي.

 ألم المفاصل أو العضلات

 أو التهاب الحلق.

كلّ مالاح يكون عابرا بعض الأحيان

وما قرأنا عنه في المجلّات الطبية تحقّق فعلا

في البدء لم يخطر ببال الدكتور غسان أنّ هناك شيئا ما يمكن أن يحدث ضجة أو يؤدّي إلى مأساة، لقد جرت الأمور قبل اليوم على وفق المعتاد. الجلوس الساعة السابعة، الفطور، الحديث مع الزوجة، مرافقة الابن بالسيارة إلى المدرسة، ومن حسن الحظ أنه أرسل ابنه الأكبر إسكندر إلى أمريكا يدرس الهندسة سينصحه بطرق كثيرة ألا يعود وإن انتهت الحرب..

الحادث الأخير الذي أثار قلقه، جعله في وضع حرج للغاية:

ماذا تكون ظاهرة اليوم، وهل شكّه في محله، قبل أسبوع زاره المريض، يشكو من زكام. سأله بخبرة الطبيب المحترف:

- لا تخف يبدو أنها حالة برد

قال عبارته ليبعث في المريض روح البهجة وإن كان في بعض ارتياب من نحول المريض والإرهاق وصفرة تركها الزكام الذي أعقب انفلونزا شديدة على وجه المريض:

- لكنّه يادكتور لازمني شهرا ولم أشف منه.

- زكام بعد انفلونزا لا تنس أنّ مناعتك ليست على ما يرام.

وصف لمريضه بعض المسكنات والمقويات، وبعد أسبوع عاد في أسوأ حال.. تضاعف الإرهاق.. فاضطر الدكتور إلى مراجعة ملفه من جديد.. ولم يكن في باله أيّ احتمال يمكن أن يثير القلق أو الشّكّ!

تحليل دم..

المريض (جواد علي محسن) من مدينة الثورة.. كان قد راجع مصرف الدم في المشفى الجمهوري، هل يعني ظهور الأعراض عليه أنّه مارس الجنس مع ذكر أم انتقل إليه المرض عن طريق زوجته؟

هذه قضيّة أخرى تمسّ العرض والشّرف، والطبيب لايجرؤ أن يضع نفسه أمام شبهة ما واتهام عرض زورا، ولا يمكن أن يسأل مريضه إن كان لاط بذكر ما أو ليط به، وفي البدء قبل أن تتّضح الأمور ظنّه حدثا عابرا

بعض الإرهاق

الجهد

ردّة فعل الجسد

قبل الشكوك كتب بعض المقوِّيَّات، والفايتامينات، ونصح المريض ألّا يباشر أيّ اتصال بزوجته مادام قد أجرى قبل أيّام عمليّة جراحيّة، أمّا شكوكه فقد ازدحمت حين عاد المريض بأسوأ حال. رجع بعد يومين شبحا، لايقاوم الزكام، ولا الجروح الصغيرة، فأمر أن يجرى للمريض فحص دم..

عندئذٍ

كانت المفاجأة

الصدمة

اللامعقول الذي حلّ بالبلد خلال الحرب، الجبهة تشتعل، طائرات، مدفعية:

قصف عنيف

بيانات في الإذاعة

الشارع يضطرب، يصحو

يضطرب ثانية

يهتاج مع كلّ بيان

وعلى وقع آخر يفاجئ العالمَ كلَّه فايروس يسري كما يقال من إفريقيا، يحتلّ أوروبا، ويقتحم الحصون حتّى تغزو آثاره عيادة المشفى الذي يعمل فيه.

كلاهما الحرب والفايروس مرت عليهما بضع سنين، ومازالا متوهجين، وقد ازداد قناعة أن يصفي عيادته، ويهاجر في أقرب فرصة تلوح له، وهو في السيارة قال لابنه (لمبيب) اكان يوصيه به كلّ يوم وكأنّه يحرص على إعادته لكيلا يغيب عن باله:

- حاول أن تحصل على معدل عال هذه السنة لكي تدخل كليّة الهندسة مثل أخيك فرصة رائعة خمس سنوات تبعدك عن شبح الجيش.

- وهل تظن الحرب تطول يا أبي؟

السؤال يشغله دائما.. متى؟ الله أعلم!.. في ذهنه شئ ما لم يبح به إلا إلى زوجته.. الهجرة.. وحدها هي التي تنقذه هو وابنيه.. ماذنبنا نحن.. كثيرا ماسأل نفسه: ما الذي يجري؟ حرب بين دولتين مسلمتين.. ماذنب القوميات الأخرى تُطْحَنُ فيها.. الصابئة يموتون.. والأزيديون. ونحن الآثوريين، وليت هناك بوادر للنهاية. في هذه الحالة كان الدكتور غسان يفضل أن تبتلعه ولاية ديترويت كما ابتلعت غالبية المسيحيين لكنه لا يرغب أن يتفث ما يفكّر به أمام ابنه؟

- العلم عند الله!

ترجل التلميذ عند باب المدرسة وواصل الطبيب إلى المشفى الحكومي، ليقضي ساعات العمل ثمّ يعود إلى البيت فيتناول غداءه بعدئذٍ يدخل في قيلولةٍ ثمّ يذهب إلى عيادته الخاصّة، وكان معظم المرضى الذين نقصهم فاكتور (8 و9) يقصدون مركز التبرع بالدم الذي يشرف عليه في المشفى الحكومي، كانوا يأتون إليه في عيادته الخاصة يعالجون عنده.. يثقون به، وبخبرته، ولشدّ ما صدمته حالة مريضه. سأل بتردّد وكان قد حسب ألف حساب قبل أن يسأل:

- قل لي سيد (جواد) هل أنت متزوّج؟

- كلا

- مع من تعيش؟

- أبي وأمي وثلاثة إخوة وأخت.

وبتردد أكثر:

- كن صريحا معي عدّني صديقا. زإنس أنّي طبيبك بل الذي أمامك صديق هل مارست الجنس؟

فأطرق خجلا:

- في بداية بلوغي مع بغي.

- منذ متى تقريبا؟

- لكن دكتور علام السؤال؟

تطلّع في عيني المريض بنظرة إشفاق:

- مجرّد سؤال خطر بذهني.

بعد بلوغي بثلاث سنوات في سنّ الثامنة عشرة

- ذلك وقت بعيد (بضحكة صفراء) أكل الدهر عليه وشرب!

فردد المريض خجلا كنت مراهقا وتعرف دكتور الكبت الجنسي وليس هناك من مجال سوى مدينة البغاء.. كنت في الثامنة عشرة وأنا الآن في الأربعين هي المرّة الأولى والأخيرة (كان الخوف يدفعه للثرثرة) دكتور هل وجدت عندي مرض السفلس أم الزهري؟

وتجرّأ ليواجه مريضه بسؤال غير متوقّع:

- قل لي هل أقمت علاقة مع رجل مثلك (بتردّد أشبه مايكون بتأتأة مصحوبة بخوف): يعني بسبب الكبت؟

فنطّ غاضبا وقد جحظت عيناه، وتهدّج صوته، فبعث ذلك الرعب في نفس الدكتور:

- ماذا؟ ماذا تقول دكتور؟ إلى هذا الحدّ، والله لولا أفضالك عليّ، هناك في مصرف الدم، وهنا في العيادة، لكان لي كلام معك. أنا شخص عاديّ وأنت طبيب لك مكانتك..

فوجدها الطبيب اللحظة المناسبة لكي يقاطعه، ويفاجأه:

- صدقني أنا حريص عليك وعلى سمعتك إنّي فقط أسألك لأنّ نتيجة التحليل أثبتت أنّك مصاب بالآيدز.. نقص المناعة!

فبهت، وتهاوى على الكرسيّ بعينين جاحظتين، جمد من رأسه حتى أخمص قدميه، وهمس مع نفسه: ماذا؟ ماذا؟ معقول؟ ليلوذ بعدها بالصمت، في حين واصل الدكتور غسان:

- الأمر ليس بالهين، مع ذلك سنفحص المصل الذي أخذته آخر مرّة

وتوقف لأنّ (جواد) انخرط فجأة في بكاء طويل، ونشيج عميق، وقال متضرّعا:

غير معقول. أنا بعيد عن العواهر واللواط، والعياذ بالله، سمعتي وحياتي، يمكن أن يكون الدم الذي اعتدت عليه من المصرف.

فقاطع:

- محتمل لكن يمكن أن يكون من عينات سابقة، وهذا أيضا احتمال، الطب لا يملك دليلا جازما لأن العينات.. الأمصال السابقة لاتبقى طويلا عندنا فكيف نثبت أنّ أحدها ملوّث، والقضية لن تكون بيدي في مثل حالتك إن لم يكن لدينا دليل، سيتدخل الأمن والشرطة.. يدّعون أن هناك مرسوما يقضي بإعدام من يمارس اللواط.. (وهزّ رأسه هزّة عنيفة) أمر فظيع.. الله يكون في عونك.

فقال (جواد) بصوت ضعيف متهالك:

- أقسم لك أن لاشئ وليست هذه أخلاقي.. (ثمّ بتوسّل وذلّة) هل يمكن إعادة فحص الدم دكتور.. أرجوك يمكن أن يكون هناك خطأ في التشخيص.

فنهض، وقال مواسيا:

- سأفعل ذلك.. أنت شجاع وآمل أن تتقبّل الأمر الواقع.

2

كان على الدكتور غسان أن يتحرّك في مكان آخر

هناك احتمالات عديدة تدفعه ألّا يسكت

ليس ما يدفعه، هذه المرَّةَ، قَسَمُ أبقراط

ولا قصة مريض يمكن أن يكون مارس اللواط أو زنا بإفريقيّة تعيش في العراق..

الأمن.. الشرطة.. مرسوم رئيس الدولة، مالم يعترف المريض أنّه مارس الجنس مع عابرة سبيل، إفريقية. صوماليّة.. سودانية، مصريّة، أو من الفلبين جاءت تعمل في العراق.. ولعلها غادرت فسيكون عرضة للشبهات..

ميت.. ميت في كلتا الحالتين.. بمرض نقص المناعة.. أم العقاب الرسميّ..

في مثل هذه الأجواء لا يمكن للدكتور غسان أن يسكت، فليفترض أنّه لم يكن دما ملوثا، وليفترض أن المريض كذب عليه، وهناك احتمال أن العدوى جاءت من أفريقية أو أفريقي ممن يعيشون في بلد يعيش حالة حرب، وأجواء مشحونة بالحماس، وهو أوّل من اكتشف قضية الفايروس، مع ذلك لا يستبعد الأفارقة فكلّ التحقيقات التي تصله من أوروبا والمقالات، والمحاضرات تدّعي أنّه مرض غزا العالم من إفريقيا، وهاهو يتسلل إلى العراق مثل شبح خفي.

لم يكن أمامه من حلّ سوى أن يقابل مدير المشفى، الدكتور (صدقي وافي) هناك احتمالان لابدّ منها: الجنس واللواط، أو الدم وتلك قضية تخص المشفى والعلاقات الدوليّة:

قال الدكتور بعد أن استفاق من المفاجأة الغريبة:

- مصل الدم نستورده من الخارج ويخضع لرقابة صارمة.

- لنفرض أنّ الدم ملوّث؟ كيف تتصرف؟

- سنتصل بوزارة الصحّة.. أقصى ما نستطيع فعله.

- ماذا لو قصدني مريض آخر أصيب بنفس المرض.

هزّ المدير رأسه واثقا من قضايا كثيرة تخصّ المشفى تحت إدارته:

- البلد ملئ بالأفارقة والآسيويين والممرضات الكوبيات هؤلاء الأجانب الجنس عندهم مفتوح وبلا حدود فلا أستبعد أن يكون المرض انتقل عن طريق الجنس أقول الجنس لأن البلد يخلو من متعاطي المخدّرات..

- مع ذلك لنضع علامة استفهام على الدم.

المدير متأففا:

- الدم الحالي نقي مئة بالمائة وأظنّك تتتفق معي، ليس لدينا معلومات تشكك بالأمصال السابقة التي ذهبت للمرضى، ومادام الدليل ضعيفا على الدم فالمريض نفسه يتحمّل المسؤوليّة.

- لكن ماذا عليّ أن أفعل؟ أُصْبِحُ رجل أمن، وماذا عليك أن تفعل لو زارك مريض أو مريضة في عيادتك واكتشفت أنّها مصابة بنقص المناعة وتعرف تماما أنّها ذات سلوك مرموق وبعيدة عمّا يبعث على الشكوك.

فقال الدكتور (صدقي) ببرود:

- عندئذ أبرئ ذمّتي، أتّصل بوزارة الصحّة.. لترى ماذا نفعل، فالبلد يعيش حالة حرب، والسكوت على فايروس قاتل يجعلني بصدد التستر على جريمة تخص بنظر الدولة الأمن القوميّ.

فردّ الدكتور غسّان يائسا:

- إذا شاع الخبر وانتشر فسيكون هناك تحقيق في الوقت نفسه سيتحرّك رجل الأمن، وقد نصبح نحن الأطباء مخبرين..

- هل لديك من حلّ آخر؟

فلاح يأس باهت على وجه الدكتور غسّان:

لا أبدا ولكلّ حادث حديث.

غادر مكتب المشفى المركزي، وهو يشعر بضيق في صدره، وبدت مسحة كآبة من أثر اللقاء المتناقض الملئ بالمفاجآت تلوح على جبينه. لم يواجه موقفا شبيها بما يجري مثلما عليه الحالة الآن. ربما، من قبل، غطّى بابتسامته العريضة _ولو من باب المجاملة- على ما يشعر به من قلق أو خوف، غير أن هاجس الخوف راوده بشكل هواجس تثير القلق يوما بعد يوم وعندما اندلعت الحرب، بعثت تلك الهواجس في نفسه الهاجس القديم - هاجس الهجرة- الحلم الذي تصوّره ملاذا ينتشله من كلّ ضيق وشعور بالحزن.

ليس هناك من حلّ يلوح في الأفق

وليس هناك من حلّ بديل..

حين وصل المنزل قابلته زوجته (روز) بروحها المرحة.. كانت تحتفظ بخفتها ورشاقتها وتتصرف معه بروح شابة في العشرين، لأعلّه اعتاد ألّا يحدّثها قط عمّا يجري له في العمل حرصا منه على أن تبقى أجواء البيت مرحة، والتزاما بقسم قديم يحثّه على ألّا يفشي سرّ المريض، وأخيرا أطلّ (لبيب) من غرفته، وراحت الأمّ تعدّ المائدة..

قال وقد حاول أن يتماسك شأنه كلّ يوم:

- كيف أنت والمدرسة؟

- ممتاز. لا شئ يقلقني.

- أهناك من صعوبة تواجهها في درس معين لأتفق مع مدرس يأتيك للبيت.

أبدا ليس هناك من درس صعب حتّى درس اللغة العربية الذي لا أستسيغه درجاتي فيه ممتازة.

وقالت الأم السيدة (روز)

عال باسم العذراء نلمس الخشب

آمل أن تدخل الطبية أو الهندسة مثل أخيك!

وفي ساعة استراحته بعد الغداء، بثّ لها ما يجول بنفسه، قال إنّه يعجب بعزلة (لبيب) وصمته، وقلّة اختلاطه بالتلاميذ، والحقّ إنّه كان يتحدّث على وفق ما يراه من ساعات قليلة يقضيها في البيت فدوامه يبدأ في المشفى في الساعة الثامنة، وفي الثالثة يصل المنزل، يتناول غداءه، يغفو ساعة ويغادر إلى العيادة الساعة الرابعة فلا يعود إلى المنزل إلّا التاسعة لكنه، مع أسوأ الاحتمالات، يبدو مطمئنا على نتيجة ابنه، الطبّ أو الهندسة، وإن كان يفضّل الهندسة، رغبته الحقيقية التي حال بينه وبينها المعدّل العالي الذي كان قد حاز عليه في نهاية الدراسة.

وصل إلى العيادة ومازال ذهنه مشتتا بين العاملين (9) والعامل (8)، في البيت خلال ساعتي الغداء والراحة تجاهل الكلام في الموضوع، وحالما وصل طلب من سكرتير العيادة أن يبدأ مع المرضى، فدخلت عليه مريضة الدم (نجاة قاسم) كان يعرف مرضاه الذين يأتون إلى عيادته، ويحفظ أسماءهم، رآها شاحبة كثيرة العطاس في يدها خدوش حديثة. كانت أمها ترافقها شأنها في كلّ زيارة إلى المشفى أو العيادة

بدأت الأم بالكلام:

- دكتور هذه المرة الأمر اختلف، قبل عشرة أيام جاءت (نجاة) إلى المشفى شأنها كلّ مرّة، وأخذت المصل وقبل يومين شعرت بالتعب، والإرهاق، سعال دائم، وإسهال، أنت طبيبنا دكتور ورئيس مصرف الدم أكثر واحد خبرة لعلّ المصل الأخير لم يناسبها.

فابتسم مجاملا:

- كيف لم يناسبها ليسمن دم لا يناسب.

قالت نجاة بصوت مرهق:

- أمّي تظنّ أن بعض المتبرعين لهم دم حار يُرهق المريض الذي يأخذه.

فتأملّ قليلا قبل أن يجيبها، سيدة ساذجة في سذاجتها بعض الواقع.. ليس المصل الأخير الذي فحصه بنفسه كان مصلا لدم حار، هو مصل سابق، اللص.. المرض الخبيث.. المخاتل الذي لا تظهر عوارضه بيوم أو يومين، زاده الوضع الجديد أنّه نقص المناعة..

الآيدز

HIV

أصبح يحارب الزمن على أكثر من واجهة.. الهجرة.. ذلك الحلم الذي بدأ يلحّ عليه في هذه الظروف.. الحرب على الحدود.. والحرب الخفية.. يشعر بأسى وأحيانا تأنيب الضمير. لو تحقّق الأمر لألقى بعض اللوم على نفسه فهو مدير القسم.. لحظات ينفي عن نفسه أيّة تهمة.. ألقى نظرة على مريضته التي قبعت منكسرة على الكرسي، وقال ملاطفا:

- تشعرين بضيق في النفس؟

- نعم

- ألم في المفاصل؟

- نعم.. ريقي ناشف.

هي هي.. أعراض المرض الداهية التي قرأ عنها في المقالات المنشورة في المجلات الطبيّة، هي الحالة الثانية، فلا الزنا ولا اللواط، أوروبا تقذف السبب إلى أدغال إفريقيا وتتهم القرود، والأفارقة لا يعلمون، وثمّة من مكان ما يأتي المرض إلى الجناح الذي يعمل فيه خلسة، فيبصر عن قرب أعراضه على مرضى عيادته. يطلب من مريضته أن تستلقي على السرير، يضع السماعة في أذنيه. عمل روتيني لا ينفع ولا يضرّ. لا يريد أن يرعبها خلال هذه الدقائق، قبل أن يتأكّد، رفع السماعة عن أذنيه، وتوجه نحو المغسلة.. خاطب الأمّ:

- لا بدّ من تحليل الدم

قالها بثقة وندم، فهو يدرك السرّ ولا يعرف اللغز، وقد تحقّق بعد التحليل احتماله، ولم يكن أمامه إلّا أن يقصد طبيب المشفى، فيخبره بالحالة الجديدة، فتاة، غير متزوّجة، عذراء، لايحتمل أن يواجهها بأسئلة وقحة..

هل يسألها عن مضاجعتها لرجل، أم يتهمها يالشذوذ،

أمامه مأزق حقيقيّ

عادات

تقاليد

عشائر

شرف

سمعة العائلة؟

سيضع نفسه أمام عقاب صارم، لايقبله المجتمع، راح يواجه المدير بصراحته:

- ياسيدي أنا لا أشكّ في مرضاي، أنا أمام نهوة عشائريّة، وفصل، وديّة شرف إن سألت مريضة بالآيدز بتلك الصراحة ولا سبيل أمامي إلّا أن أوجّه التهمة إلى مصرف الدم وفاكتور 8 and 9

- صبرا لا تتعجّل وارتك لي الأمر..

- إلى متى؟

- ليست يومان بالكثير، فهناك حسابات أخرى.

وخرج من عند السّيد المدير مشوّش الفكر..

تائها

حائرا

كما لو يبحث عن إبرة في بحر..

لو لم يكن ابنه في الثانوية، لترك كلّ شئ على حاله وخرج.. يقدر هو وروز السفر إلى الأردن، ومنه ينسق للرحيل، كان يفكّر بالأشهر الدراسيّة الثقيلة القليلة الباقية.. هناك يمكن أن يدرس لبيب في إحدى الجامعات أو يتسلل إلى أمريكا بمساعدة بعض من أصدقائه، لايقدر أن يحارب على جبهتين.. إيران والحرب الخفيّة حرب الآيدز المسعورة الحف، ومهما ازدحمت الهموم والمشاكل فإنّه يمكن أن يتجرّد منها خلال صلاة اللليل قبل أن ينام. يتمتم ويصلّب، ثمّ يغفو مطمئتا ليجد تلك الهموم لاتغزوه في النوم بل تعود هب نفسها في الصباح أكثر ثقلا مما كانت عليه.

بعد ساعة، طلبه المدير، فهّرع إليه، حثّ خطاه إلى إدارة المشفى وشلّال من الهواجس ينتابه، وحين دخل لم يجد المدير وحده، كان معه الطبيب المشهور محمد جميل لافي، الذي رقي إلى درجة أستاذ في كلّيّة الطب، وتفرّغ لعيادته الخاصة، حيّاهما مصافحا ثمّ جلس يلتقط أنفاسه كأنّه قدم من مشوار طويل، وانتبه خلال ثوان إلى انزعاج ما يلوح على وجه المدير الذي قطع كلّ شكّ، وبادر بالكلام:

- هناك خبر آخر مزعج دكتور غسان أودّ أن تعرفه.. الآن لدينا حالة ثالثة لمرض الآيدز.

تساءل بعفويّة:

- لمريض في عيادتك؟

قال الدكتور (اللافي) بزيل اللبس:

أحد مرضاي، رجل في الأربعين أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، ينقصه فاكتور 9 ومن خلال مراجعاته لي أعرف أنّه زبون دائم لمصرفكم.

ابتسم الدكتور غسان بمرارة:

- ألم تشكّ في سلوكه وأخلاقه قبل أن تشكّ في المصرف.

- أعرفه رجلا متدينا لم يتزوّح بسبب المرض، فشككت أنّه يمكن أن يكون مارس الجنس مع عاهر أو مع ذكر لكنّه أقسم لي أنّه لم يقترف مثل هذه الخطايا عندئذ لم يبق إلاّ احتمال الدم الملوّث..

- عجيب (قال الدكتور غسان، والتفت إلى المدير) هل من إجراء ما؟

فهزّ رأسه وقال وهو ينفث الهواء بانزعاج:

- سأتصل بالسيد وزير الصحّة ثمّ أخبركما بما يجدّ من أمور.

3

لم يتوقّع الدكتور غسان، ولا الأستاذ اللافي أن تكون ردّة فعل الوزارة بشكل سلبي.. فقد وضعا مدير المشفى في موقف حرج، وأصبح الثلاثة أشبه بالمخبرين.. تنصلت الوزارة من أيّة مسؤوليّة وأكّد السيد الوزير أن كلّ الدماء القادمة من فرنسا نقيّة، وفرنسا كما يصفها الإعلام الرسمي دولة صديقة تساندنا في حربنا الشرعيّة، وتميل الظنون أنّها ترسل خبراء عسكريين يزورون الجبهة، اتهام مصرف الدم الحكومي، وقضيّة الأمصال الملوّثة، شائعة تهدف إلى تخريب العلاقة مع دولة صديقة قدّمت لنا خبرة عسكريّة وطبية، والشكّ يقع على المرضى أنفسهم.

الأخلاق

الفعل الدنئ..

اللواط الذي يحكم بالإعدام..

والوزارة غاضبة..

وهناك تعليمات جديدة تصل خلال ساعات..

وصل الدكتور غسّان إلى البيت مرهقا، حاول أن يخفي مزاجه العكر شأنه كلما ترك المشفى أو العيادة، ربّما في هذه اللحظة فلتت منه كلمة ذات نغمة عالية فانتبه، وعاد يمارس الهدوء المفتعل، بغشارة من يده أو برسم إشارة الصليب..

الهجرة وحدها.. الهجرة..

السفر بعيدا.

أين أنت ياديترويت..

هناك ملاذ الآثوريين الآمن..

لم يبق إلّا بضعة أشهر

غير أن الذي زاده حيرة كلام ابنه (لبيب) الذي لم يتوقّعه قد كان الثلاثة على المائدة، حين سأله:

- أصحيح يا أبي تفضّل أن أدرس الهندسة في الأردن لكن ماذا لو تفوقت في المعدل والطبية أولى.

فاندفعت الأم:

- والدك لن يجبرك إذا كنت ترغب في دراسة الطب شرط المعدّل.

الدكتور حاول أن يبدو بهيئة أكثر ارتياحا:

- أنا شخصيّا كنت أرغب في الهندسة لكن جدّك سخر مني قال لي وقتها هل أنت معتوه الطب أرقى مهنة مجموعك العام ستة وتسعون تريد أن تترك القمة وتنزل درجة أدنى!

- ذلك أفهمه لكن الذي يبعث في نفسي الدهشة ماذا عن تسفيري إلى أمريكا.

فاحتد قليلا ثمّ انتبه:

أريد أن أنقذك من هذه الأجواء ماذنبنا نحن المسيحيين بلدان مسلمان يتقاتلان والنار تحرق الآخرين نحن مثل الصابئة والأزيديين أخوك ضمنّا نجاته وبقيت أنت بعد أن نطمئن عليكما نلحق أنا وأمّك بكما.

فتدخّلت الأم بحماس:

- ألم تر أم (جورج) وهي تزف ابنها الأوسط إلى القبر شهيدا؟ و (نور) التي فقدت زوجها الرائد (حداد) وكانت تصرّ على أن يكون قيره من المرمر أهذا وضع يطاق والأكثر من هذا أنّ الجميع يكرهنا.

فانبرى الابن كأنّه يلقي خدبة حماسيّة:

- مع ذلك فنحن سكنا هذه الأرض قبل آلاف السنين، قبل العرب، هو وطن أجدادنا لو هاجرنا كلنا، هل يبقى مسيحي في العراق؟ ربّما الحكومة الحالية تصرّفت بحكمة حين جعلت طارق عزيز المسيحيّ وزيرا للخارجيّة.

فقاطعت الأم ساخرة:

- هذا عار والمسيح والعذراء.. عار.

خشي الأب أن يكون ابنه قد تعلّم الحماس المفرط من المدرسة وزملائه التلاميذ، فغلبت عاطفته على تفكيره عندئذ تدخّل:

- لو لم يكن طارق عزيز حزبيا لما جعلوه في منصب وزير الخارجية، ألم تره ذهب مع رئيس الجمهوريّة للعمرة، وظهر خلفه بملابس الإحرام !.

فأطلقت الأمّ ضحكة باردة:

- دجّال والمسيح دجّال

فاعترض الأب:

- لا أبدا هو صاحب مبدأ حزبي ومقتنع.. انضمّ إلى البعث منذ العهد الملكي ودخل معهم السجن

ولكي تقطع دابر الحديث، قالت:

- لكلّ حادث حديث، ربّما تنتهي الحرب، وقتها نقرر ماذا نفعل.

عندئذ نهض الدكتور غسان من على المائدة وهو يقول:

- والله سواء انتهت أم لم تنته ليكن فإنّ الرحيل هو الأفضل، والتفت إلى (لبيب) ليكن ذلك سرّا بيننا حتّى نرى كيف ينتهي بنا المطاف!

4

لاشئ يخفف عنه الثقل الجاثم على صدره..

الشعور بالخيانة وتأنيب الضمير

لاشئ سوى القس وكرسي الاعتراف

لن يستطيع راعي الكنيسة أن يفعل شيئا سوى الدعوى بالمغفرة، والدعاء بالسكينة، فهل تستطيع صلاة مقهورة أن تزيح عنه جبلا من الأسى، وفي أيّام الأحد، بسبب الوظيفة، لايقدر أن يذهب إلى الكنسية، ابنه، في المدرسة، (ديزي) وحدها تذهب بعض الأحاد وتعود كما لوخلقت من جديد، تنسى الحرب والموت وبُعد ابنها، وأي أحد تسنح لها فرصة للصلاة تتصل به من البيت تخبره قبل ذهابها، يتذكّر الاعتراف الأوّل في حياته حين نظر برغبة إلى (ديزي) لا ينفي أنّ رغبته لم تكن لتخلو من البراءة فوجد السيد المسيح يضع يده على كتفه، ويهمس بأذنه: فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ، عندئذ، انصرف للاعتراف حالما انتهت الصلاة، جلس على الكرسي، ورجا الإله الإنسان يسوع الابن:

ياسيدي، أيها الرب ليست نظرة شهوة بل رغبة في الزواج

وتحرك الكاهن فسقاه كأس المغفرة، فأصبحت ديزي زوجته..

ومابين الاعترافين والأخير الذي سيؤديه اليوم بون شاسع.

فجأة

ألحّ عليه الهاجس، فاستدعى معاونا له:

- سأذهب إلى أمر ما فلتكن مكاني وقد لا أرجع إلا يوم غد.

وخرج قبل أن يفلت الأحد من بين يديه، وقد وصل الكنيسة، والصلاة على وشك البدء، فترنّم مع جوقة المنشدين، وتلى صلاته ثمّ توجّه للكاهن، فجلس على كرسيّ الاعتراف.

راح يتحدّث بصوت قريب من البكاء..

يايسوع ابن الإله..

ليس هو خصاما

أو

إساءة

ولا تقصيرا

كما إنّي لم أسقط في معاشرة الرذيلة، والقسوة والعنف..

لا أظنّها نميمة، وليست هي بكذب

أو حسدٍ..

مشاعر لا ترضي الله

ولا خطايا الحواس

أنا بعيد عن القتل وعيني لا تجرؤ على إغوائي، ولست ممن يقربون الدنايا بالمس، ابتعد عن الدنايا، وأرسم إشارة الصليب كلما مررت ببيت بك، وأرسمها بعد أن أتلو صلاتي قبل النوم.

ياسيدي

أيّها الإله

أيها الرب يسوع

لا أخجل أن أبوح لك بالاسرار المستترة التي أراها ذنبا عظيما

خنت أبقراط غصبا عنّي، كم حين جريمتي عظيمة حين أخون سيدي في المهنة سيدي الذي عاش قبلي بعدة قرون، فهل خنت الزمن، خنت الليل والنهار من غير أن تعثرني عيني.

أنا بائس لأنني أفشيت أسرار الآخرين بعبارة أخرى أراني أسبق الأحداث فأفشي غدا أو بعده أسماء أناس وعناوينهم، ظنوني مثلك أيّها الرب ابن الإله أمرر يدي على أجسادهم فيشفون فخنتهم ومن قبل اتهمتهم وشككت فيهم من أجل أن أرضي الآخرين

وسلمت أسماء هؤلاء الضحايا لمن لا أراه يرحمهم لابدّ من أن أفعل ذلك، ومازلت أمارس هذه اللعبة التي لا أستطيع منها فكاكا، والأمر بيدك، فكل ماتربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكلّ ماتحلّه في الأرض يكون محلولا في السموات.

وإذ انهى اعترافه، جثا خاشعا، وهو يقول: ياالله أيها الروح القدس حلّلني من خطاياي التي اعترفت بها ومن المستترة، فرفع كاهن الكنيسة الصليب ووضعه على رأسه، فشعر بخفة في جسده، الشعور نفسه الذي راوده في اعترافه الأوّل، دنيا جديدة ووهج جديد، حتّى أنّه تمنى أن يبقى في الكنيسة إلى الأبد..

ينسى نفسه

ينسى الناس

يطالع فقط تمثال العذراء والمسيح المصلوب أمامه!

6

مرّ يومان على الحادث، خلالهما زادت هواجس الدكتور وشكوكه من جديد.. الاعتراف مثل النوم ينسيك..

يريحك..

يلهمك الأمان

وخفّة الروح

كأنّك مولود من جديد

مع ذلك

 حالما تمارس حياتك تجد الخوف الذي تلاشى أصبح أكبر..

أوسع ممّا لايطاق.

ربَّما توقّع أن يأتيه أكثر من مريض يحمل فيروس نقص المناعة من مرضى مصرف الدم، لم يكن هناك أيّ علاج بعد، وليس من أمل سوى الأدوية المساعدة، وفي الوقت الذي كان يجلس خلف مكتبه رنّ جرس الهاتف، فكان مدير المشفى على الخط.

امتعظ للخبر الجديد؟

حالة أخرى ظهرت!

هناك إجراءات ما تطلّبت حضوره فترك غرفته، وقصد مكتب المدير، هناك وجده متجهما في غاية الإحباط:

- هل هناك من حالة جديدة؟

- بالتأكيد. هي لمريض من المرضى الذين يداومون عندنا في مصرف الدم من المرضى القدامى لكن ليس لهذا استدعيتك!.

كان الدكتور (غسان) يعرف جيدا أن المدير لا يقدر أن يتحدّث بالتفاصيل عبر الهاتف تحفّظا من فضول عامل التقسيم، وسواه من موظفين وعمّال يمكن أن براقبوا مايجري لجهة ما:

=ماذا تقصد؟

نفث المدير نفسا طويلا شبيها بالحسرة:

- الأمن.. إنّه الأمن ياعزيزي.

فقال شبه محتج:

- ماعلاقة الأمن بالموضوع؟

- يسمونه الجانب الأمني.. الوزارة لا تقتنع بالدم الملوث، فأحالت الملف إلى الداخليّة، سيأتي من يسألني بعد قليل وهناك ضابط يأتي ليتحدث معك، الوزارة ترتأي أن نكون صريحين مع رجال الأمن !

غسّان بتأفف:

- يظنوننا من مروّجي الإشاعات؟

- نحن لسنا متهمين السيد الوزير نفسه كلّمني..

فضحك (غسان) بمرارة، ولاح في ذهنه خيط باهت من اعترافه الأخير:

سيجعلوننا موظفين عندهم.. أو قل مخبرين.. هل قولي على باطل ؟

مازالت علامات اليأس على وجه المدير:

- ما باليد حيلة الوزارة مستاءة.. نحن في حالة حرب والدولة لا تريد أن تعد ظهور الآيدز قضيّة ذات شأن ولا ترغب أن تشهّر بالصديقة فرنسا وصداقة فاليري جيسكار وميتران..

بعد لحظات صمت:

- قل هل فَكَّرتَ ماذا تفعل مع من أصيب بالأيدز؟

- ماذا تقترح عليّ إذن؟

فقال من دون تردد:

- بناية المسلولين القديمة في التويثة.. الكرنتينا هي خالية منذ اكتُشِف علاج للسلّ يمكن أن نعزل حالات الآيدز فيها.

- ممتاز.. ليس هناك من حل آخر، مع ذلك لا أستطيع أن أفعل شيئا قبل زيارة الأمن لمكتبي.

وخلال أقل من ساعة أطلّ في مكتب الدكتور غسان، رجل أنيق، ذو بدلة رماديّة، طويل القامة، ناعم الملامح يكاد من يراه لا يظنّه من رجال الأمن. قال بكلِّ أدب:

- النقيب من دائرة لأمن كمال ناجي.

- أهلا وسهلا.

- آسف دكتور على إزعاجك كنت أود أن أقابلك في ظروف أخرى.

- لا بأس هل تشرب شيئا؟

- أبدا لا.. الأفضل أن نباشر الموضوع (ونظر إلى الباب نظرات ذات دلالة، وواصل) أظنّ وقتك جدّ ثمين دكتور ووقتي كذلك.

ضغط على الجرس، وأوصى الفراش ألّاَ يسمح لأيِّ أحد بالدخول، ثُمَّ التفت إلى ضيفه الثقيل:

- تفضلّ تحت أمرك!

- هل من الممكن أن أطّلع على أسماء المرضى الذين يأتون إلى المركز!

- جميع الأسماء؟

- بالتأكيد.

فصفن الدكتور غسان قليلا:

- هناك مرضى لم يصابوا.

فلاح على وجه النقيب الضيق:

- تعرف دكتور نحن في حالة حرب ويهمنا ألّا تهتز الجبهة الداخلية ولا يُساء إلى الدول الصديقة التي تمدّ إلينا يد الصداقة والخبرة..

أيقن الدكتور أنّه أصبح في موقف حرج.. مخبر.. تحوّل إلى مخبر وآن له أن يضرب قسم أبقراط عرض الحائط:

هل اتصلت بالسيد المدير.

نعم وأبدى موافقته.

- سأطبع لك نسخة بأسماء المرضى عندما لكن الذي يخصّني أنا.. هناك إصايتان ظهرت في مرضاي وإصابة ثالثة سمعت بها، وسوف نقوم بعزل الحالات في الكرنتينا.

- لكن ليس بعد أن نحقق معهم.

- أنا نفسي سألت المريضين، واحد رجل والأخرى امرأة، والحق ليس هناك من أمر يثير الشبهة حول أخلاق الإثنين.

فعلق ضابط الأمن بجدّ:

- دكتور هناك مِنَ الأعداء مَنْ يحاول أن يخرّب علاقتنا بالدول الصديقة كَفِرَنسا التي بنى معها سيادة الرئيس علاقة وديّة حميميّة منذ كان نائبا.

فقال الطبيب بهاجس شجاع:

- اتهام الناس ياسيادة النقيب يجرّ علينا مشاكل عشائريّة وقضائيّة، بخاصة النساء.

- هذا جارٍ معكم ومع الناس أما معنا نحن فنعرف كيف نصل إلى الحقيقة، ولعلنا نجد في أثناء التحقيق امرأة تُعرف بالعفاف لكنها ذات علاقة مشبوهة خفيّة، ورجل يُضرب به المثل في الصلاح والتقوى وهو في الحقيقة لوطيّ محترف.

وسلّم ضيفه الثقيل، ملفّ الأسماء، وهو يشعر ببعض الحزن، أسماء وحالات، وملاحظات باللغة الإنكليزية وإشارات باللاتينيّة، وتساءل مع نفسه وهو يصافح ضيفه الثقيل:

هل أصبح مخبرا حقّا بعد اعترافه الأخير.

5

هل أنت لوطي

من فعل بك أو فعلت به

من أين جاءك الآيدز..

أنتم الطلائع.. طلائع الشذوذ الذي يدنّس البلد.. هل هناك غير هذا العبارات يطلقها محقق الأمن في وجوه مرضى نقص المناعة ليدفع التهمة عن الصديقة فرنسا ورئيسها الصديق العزيز متران؟

هذا ما انطبع في ذاكرتك دكتور غسان المخبر، لكن ما أراحه بصفته طبيبا أن الآنسه (نجاة قاسم) توارت عن الأنظار، وللمرّة الأولى يجد نفسه مرتاحا وبشغف كبير لهرب مريض من العزل والرقابة. ويبدو أنّ العائلة كما تصوّرت أحلام الدكتور غسان رحلت هربا من العار، حتى لو اقتنع الجيران، والأقربون والحارة كلّها، فهناك علامة تقزّز سترتسم على المنزل. ضابط الأمن زار مصرف الدم ثانية، وأخبر المشفى أنّهم مازالوا يبحثون عن الهاربة، العائلة كلّها تركت بغداد في ليلة صامتة. لقد أصبحت علاقة المشفى ومركز الدم مباشرة، قالوا إنّهم حقّقوا وتبيّن أنّهم غير طبيعيين، مع ذلك مادامت هناك إصابات، والخبر انتشر، فيمكن أن يتحدّث الدكتور غسان للصحافة.. جاءه إلى المكتب محرر جريدة الثورة الحكوميّة، ومعه جهاز تسجيل وضعه على الطاولة وضغط على الزرّ:

- دكتور ماهو مرض الإيدز الذي فاجأ العالم؟

نعم.. مرض الإيدز هو نقص المناعة والمرض حسبما أطّلعت على مواصفاته من البحوث والمجلات المختصّة ليس خطرا لكن الخطورة تكمن في أنّه لا يظهر سريعا بل بعد عدّة أشهر أو سنوات.

- ماهي مسباباته؟

أحد الأسباب الجنس ولا ننس الدم.

هذا فقط؟

- أو التعرّض لعضة حيوان مصاب وهو ماتعتمده البحوث ي أوروبا فتنسبه إلى إفريقيا..

يسأل الصحفي بخبث ظاهر:

هل يُعقل دكتور أنّ كل السلبيات تلقى على أفريقيا ؟

فاستوقفته العبارة:

مجرد احتمال لا أكثر!

هل وجدتم إصابات في البلد؟

يلتفت الدكتور إلى آلة التسجيل:

- إصابات قليلة.

- كم بالضبط؟

- اكتشفنا اثنتين لحد الآن!

- لرجال ونساء؟

- نعم !

- بماذا تنصح الآخرين؟

- إذا كانت هناك أماكن مشبوهة، ولا أظنّ في بلدنا مثل هذه الأماكن، أنصح الذين يرتادونها أن يستعملوا الواقي.. أو المانع.

- هل تراه حلّا مناسبا؟

- فأجاب وقد ازدرد ريقه:

هذا أفضل الحلول لحد الآن مع أنّي أرى القضيّة بمنظار آخر. المانع، في حالة الإيدز كما لو أنّك ترتدي بدلة تقيك من انفجار قوي بنسبة ثلاثين بالمائة، فلا نعوّل على شئ يمكن ألّا يحمينا مائة بالمائة.

ختم الصحفي مقايلته:

 - بل الأفضل الأخلاق الحميدة والاستقامة..

- نعم نعم..

- شكرا دكتور.

وفي اليوم التالي، ظهرت صورة الدكتور غسان في الصحيفة، وهو يدلي بعموميات لا تثير الرعب في الناس. المقابلة نفسها ظهرت أشبه بمقالة.. لقاء باهت.. تعبير إنشائي كتبه الصحفي بحماس.. قابلنا الدكتور غسان.. قال كذا.. يرى أن الفضيلة راسخة الجذور في مجتمعنا.. بلدنا نظيف من أيّة أمراض وفيروسات.. ولم يحتجّ أو يعتذر، ذنبه الوحيد أنّه وجد نفسه من دون أن يدري في أتون حدث أكبر من قدراته، وهناك سبب بيد الدولة يجعله يلتزم الصمت فيسكت عن الكثير ويغضُّ النظر عن أحداث عظيمة، مادمنا في حرب،، فليكن الصمت.. نحن في حرب.. الرئيس ميتران يدعمنا، ومازلنا نستورد المصل من فرنسا..

هل نشكّ بخبرة دولة

أنتنكر للصداقة بسبب وهم

فرنسا تبني لنا مفاعلا يغنينا في الكهرباء وصنع الأدوية والزراعة..

هل هو مخطط أم ماذا؟

كلّ الاحتمالات واردة، وكلّها أيضا خاطئة، وهناك احتمال وحيد لا تشكّ في صحّته هو الهجرة

هي ديترويت

فصلِّ صلاتك قبل النوم وارسم إشارة الصبيب.

ليحل على قلبك السلام، فقد اعترفت يذنبك قبل أن تقترفه

ويرحم الله هؤلاء ويشفيهم مثلما شفى الابن الإله مرضاه.

6

صباح اليوم التالي دخلت المشفى في دوامة اللقاءات العاجلة، مدير المشفى ورؤساء الأقسام وأطباء من الخارج اكتشفوا نقص المناعة عند مرضاهم الذين اعتمدوا على المصل، إذ نجحت الشرطة وتحرّيات الأمن في حصر المصابين و لم تعثر على المريضة (نجاة قاسم) بعد.

تساءل الدكتور المتقاعد الذي أكتشف ثالث إصابة:

- هل يعقل أنّ المرض أتى من لاشئ.

وعقب طبيب لعيادة خاصة:

- و هلنتصور أنّ كلّ هؤلاء مارسوا الحرام؟

المدير بتحفّظ:

- لم يتهمهم أحد!

وهزّ الدكتور غسان رأسه:

- حاشا لله. نحن لا نتورّط مع العشائر نحن وأظنّكم متفقين معي وجدنا المرض وهي بدلية قد تساعدنا على حصره!

طافت عيناه بكلّ الوجوه، للمرّة الأولى يجد الأطباء أنفسهم محاصرين، لا يقدرون أن يتحدّثوا عن مرض تسببه حالتان: الدم أو جنس. لواط.. جنس.. عضّة حيوان.. لايرغبون أن يواجهوا الدولة المشغولة بالحرب مع حليفتها وصديقتها فرنسا ولا أن يضحّوا بصداقة الرئيس للرئيس متران.. وينسوا المفاعل النووي.. لينسوا المصل ولينسوا أيضا اتهام مرضاهم.. لم يجدوا بدّا من أن يلوذوا بالصمت، ويتركوا السيد المدير يتصرّف وحده.. وقد خرج عن صمته وكشف عن اقتراحه الأخير:

- هناك الكرنتيا مكان عزل المسلولين، المكان فارغ منذ اكتشفوا علاجا للسلّ سنرسل المصابين إليه، وآمل من أيّ طبيبأن يتصل بنا إذا زارته في عيادته الخاصة المصابة (نجاة قاسم)

قال الدكتور غسان:

- إنّها مريضتي دكتور.

فالتفت المدير إليه:

- بالمناسبة استقرّ رأيي أنا ومستشاري وزارة الصحة على تعيينك مديرا للكرنتينا كونك ذاخبرة وتستطيع مباشرة العمل منذ يوم غد !

الكرنتينا.. التويثة.. وقيادة السيارة كلّ يوم ثلاثين كيلومترا.. لايظنه عقابا.. سيرى وجوها جديدة لمرضى مختلفين تماما عن كلّ المرضى.. وليست الكرنتينا بغريبة عنه إذ زارها عدّة مرات ورآى الإحباط والحيرة على وجوه لسلّ من قبل.

شعور بالذلة والمهانة

يأس قاتم

كآبة

أشباح تتحرك

سعال مفرط

دم على زوايا الشفاه

بعضهم يجلس على سريره القرفصاء ويبحر في عينيه إلى مالانهاية يبحث عن الموت

لكن

من هؤلاء المرضى القادمون الجدد إلى المكان نفسه..

لقد وجد الدكتور غسان نفسه وجها لوجه أمام حرب جديدة تمّ إعدادها لتستوعب عنصر المفاجأة، أن يبقى الخبر سرّا، وأن يجمع المصابون في العزل، يعترف أنّه كان في غفلة فمرض نقص المناعة ظهر 1981واتهمت به أوروبا الأفارقة وشاء الحظّ أو المصادفة أن يكتشف المرض بعد أربع سنوات، وهناك حقائق تثبت أنّ مصل العامِلَيْن 8 و9 كان يأتي قبل عام 1983 من دول غير فرنسا، فكيف يتحقق من أن اللقاح الفرنسي نفسه وليس لقاحا آخر هو الذي فتك يالمرضى.

هل هي فوضى غير متوقّعة خلقها اكتشافه الذي جاء مصادفة في وقت غريب؟

أمّا الوجه الثاني للحرب التي وجد نفسه يخوضها مرغما، فهو تعيينه رئيسا للكرنتينا، واستبدال السلّ ّبنقص المناعة حيث انتقل ملف المرض من يد الأطباء إلى يد دائرة الأمن التي جمعت المصابين،. وتوجهت بهم إلى الكرنتينا

مرضى من أماكن قريبة وبعيدة..

أطفلب مع أمّهاتهم

 غير أنّ المريضة (نجاة قاسم) كازالت غائبة أو هاربة. ز ولم يغفل ضابط الأمن أن يسأل الدكتور غسان عنها بين حين وآخر.

كاد الوضع يجري على وفق هذه الصورة من الكتمان.. دائرة الأمن نجحت في جمع خمسين مصابا، وزودت الكرنتيينا بممرضين ذوي مواصفات خاصة اختارتهم من دون سواهم.. كان الشرود يلوح على وجه الدكتور غسان، والأسى والصفرة على وجوه مرضاه، بات يأكل طعامه على عجل، فيذهب إلى عيادته الخاصة لعل مريضته تأتي ليرتاح حين يرسلها إلى الحجر مع أنّ عمله فيما إذا تحقق يؤكد أنه ارتضى أن يتحوّل من طبيب إلى مخبر لكنّه لا يجد طريقة في علاجها غير الحجر، بمّرور الوقت أصبح يكره الذهاب إلى العيادة

يخشاها

يودّ لو يقابل نجاة

ويرهب في الوقت نفسه عيادته

ويتحسّس من سكرتيره فيظنّ أنّ دائرة الأمن لم تغفل عنه ولا بدّ أن تكون استدعته..

 في الليل فيصلي صلاته وينام من غير أن يلتفت لزوجته التي لم يخبرها بالكارثة والحرب يخوضها على الرغم منه.

كان كلّ المرضى خانعين متعبين مقهورين، ماعدا (جواد علي) اكتشافه الأوّل.. علامة الفوضى الأولى..

يزعق

يصرخ

يقاوم الأدوية المساعدة

وفي أحد الأيام بدا هادئا رقيقا يبتسم ويضحك. وفي بعض الأحيان يصمت أو يغني

هكذا

كأنّ فرحه يشي بشعوره بالحياة وتفاؤله..

وحين طلبه الممرض (مسعود) ليحقنة بدواء مساعد، أذهلته المفاجأة، فطلب من مساعديه اللذين أوكل لهما الأمساك به لحقنه أن يقفا جانبا، ولا يتدخّلا إلّا عند الضرورة، في هذه الأثناء، توقّف (جوادعلي) عن الغناء واستسلم تماما

مدّ بهدوء يده مثل قطّ أليف..

وكشف ذراعه

كان ينظر بعيتي الممرض (مسعود) نظرات ذات معني، فحرف الأخير نظراته عنه وانشغل لحظات بتحضير الإبرة:

- هكذا أريدك أن تكون.. لا حاجة لأن يقبض عليك اثنان نحن نريد لك الخير

بقي صامتا يثبت نظراته على الممرض، ولم يلتفت عن الإبرة وهي تنغرز في ذراعه حتى فرغ السائل، وانسلت من يده..

رآها تسقط في حاوية الأزبال

عندئذٍ

بلمح البصر

مدّ يده إلى الجاوية

وانقض

علىى (مسعود) الممرض ففاجأه بطعنة في يده! فتراجع الممرض مأخوذا بالمفاجأة في حين وقف (جواد) قابضا على الإبرة براحة يده ملوخا إلى الحارسين وهو يصرخ:

- ستموتون أيها الكلاب. نحن لسنا لوط.. بقي مسعود في شبه إغماء يحدّق بالسقف كأنّه تفاجأ بالموت، وهرع الحارسان إلى غرفة الطبيب، وانتفض الممرضون الأربع والمنظف من الغرف، فصاح بهم أحد الحارسين:

- الزموا غرفكم وأغلقوها لئلا يطعنكم بالإبرة الملوثة.

وحين وصل الحارسان إلى غرفة الطبيب، وأغلقاها من الداخل وهما غير مصدقين من نجاتهما، وخلال لحظات بعد اتصال الطبيب بحرس المشفى عبر الهاتف جاء حارس وبيده من عصا من التي يستخدمها رجال الشرطة في قمع المتظاهرين، كان الحارس جريئا، ومهنيا، لم يتردد او يخشى من أن يتعرض لطعنة من الإبرة الملوثة، وكان المريض (يغني) وهو يرقص:

- دنك يا حلو ليصيبك القناص..

وبتوقف يضحك بهستيرية عميقة، ويصرخ:

- نحن لسنا شاذين.. إسالوا القادسيّة، لم ينكح أدا منّا سعدي الحلّيّ

ومازال مسعود مشلولا لا يبرح مكانه مستندا بظهره إلى الحائط بوجهٍ شاحب

- ألو ميتران أخا القحبة!

لم يستمرّ المشهد طويلا..

فخلال لحظة اندفع الحرس بعصاه

ضربة على الرأس

فسقط (جواد) على الأرض يرتعش من هول الصعقة كطير مذبوح وسقطت الإبرة على بعد منهثمّ راح في غيبوبة طويلة..

وران السكون والذهول بعدها لمكان!

7

وجاء مريض

وآخر

ودخلت أم أخرى إلى جناح النساء ترافق ابنها المصاب..

الممرض (مسعود) شمله الحجز وحلّ مكانه ممرض آخر والغريب أنّه لم يتشاجر مع (جواد) كانا إذا التقيا ينظر أحدهما للآخر نظرات صامتة ثمّ يشيح كلّ منهما بوجهه عن صاحبه..

وخلال الأيام الأولى انتبه الجميع إلى ظاهرة جديدة..

غير أنّ الأيام القادمة كانت حبلى بحوادث جديدة..

وزارات الصحة في بعض:

تونس

الجزائر

تعلن ظهور إصابات للمرض

Factor- VIII

FACTORVII

إذاعات البلدان الثلاث تذيع عن المرض والإصابات، والصحافة تتدخّل بشكل شرس، وظهور مرضى في تلفزيوني الجزائر وتونس من ضحايا العاملين 8 و9 يتحدّثون عن الدم الملوّث وشركة ماريو، أمّا في ليبيا، فكان العقيد القذافي يتحدّث عن الجريمة حديثا منفعلا بتفصيل ممل، ويحرّض الناس على الخروج في تظاهرات عارمة.

ولم تنس إذاعة طهران خبر الدم الملوّث إذ أذاعته عدّة مرّات في نشرات الأخبار وعلّق على الخبر سياسيون، وسرت إشاعة إلى أن عدد المصابين في الكرنتينا بلغ الثلاثمائة، وأنّ الحكومة تتستر على الخبر، عرفانا بفضل فرنسا ومعونتها العسكريّة واشتراكها المباشر في قصف جزيرة خرج.

الكثيرون مذهولون

والغالبيّة لا تجرؤ على الحديث

ووسائل الإعلام الحكوميّة تصمت تارة وتنفي تارة أو تتحدّث عن إشاعات يبثها المرجفون من خارج الحدود.

كان الدكتور غسان يتابع الأخبار قبل أن يؤدي صلاته، يسمع وهو مسترخ على السرير أخبار إذاعتي طهران والكويت والرياض، وقد تحقق الآن من أنه المصل، وأدار ذهنه دورات سريعة وقلّب حساباته فأدرك أنَ المصل استوردته وزارة الصحة ووزّعته قبل عام تقريبا، وما عليه إلا أن براجع سجلات المصرف، فيعرف رقمه وتاريخ البدء به..

- مالك ألم تنم بعد؟

سألته زوجته، واستدارت نحوه واضعة يدها على رقبته:

- لم أصلٍ بعد.

- أراك قلقا هل من شئ.

فيهمّ أن يفضي لها بما حدث لكنه لم يرد أن يفزعها وربّما لا يرغب في أن يدفعها إلى أن تتقزّز

تخاف

تنهار

.. يعرفها جيدا. تتقبّل أيّ طارئ برضا وصبر، ويوم تولّى إدارة الكرنتينا، وعايش المسلولين، قبلت بكل رضا ولم تعترض، وبعد سنوات قليلة وُجِدَ العلاج واختفى الداء تماما..

تلاشى

انقرض

 أصبح التدرن اقلّ خطرا من الزكام، أمّا هذه المرّة فالوضع تماما يختلف، كانت زوجته شابّة، تدفعه، وتشجعه، تراه المسيح الذي يقهر المرض بلمسة من يده.. فهل لا تتقزّز منه وتبتعد.. مادامت الحكومة تنفي وتنكر.. فليس من سبب سوى اللواط.. والشذوذ والزنا.. هل تعزل فراشه، وأدواته، وطعامه؟

رفع رأسه، وتطلع في عينيها:

- أصبحت أفكّر بالهجرة هاجس الهجرة يلج عليّ في كلّ دقيقة حتّى إنّي أصبحت أتوجّس من العيادة!

- أنا معك والأولى أن ينهي (لبيب) دراسته لنجد طريقة لتسفيره خارج البلد.

- هذا هو السبب الذي يمنعني من النوم.

- لا تقلق، هو شاطر جدا، والسفر مسموح إلى الأردن، يمكن أن يتقدّم إلى أيّة جامعة.

- حتى لو لم يكن في الأردن هنا يستطيع أن يتقدّم إلى الطب فيحمي نفسه ست سنوات أو الهندسة، ليبقى فيها خمس سنوات.

- هل تظنّ الحرب تطول إلى الأبد.

- لا يعنيني الأمر.. الذي يعنيني هو الرحيل (وتمتم مع نفسه كيلا تحسّ بانكساره) أنا والشرطيّ واحد.

- لكلّ حادث حديث.

- أجل لكلّ حادث حديث

ثمّ رسم علامة الصليب وتمتم صلاته..

لقد

حاول جاهدا

أن

يغفو!

8

بقدر ماكانت الأيّام السابقة مثيرة للقلق والخوف

فإنّ الأيام القادمة بأصبحت تثير الشكوك ومن الصعب جدا توقّع مايكون.

أوّل من اكتشف حالة الدم الملوث، يرى نفسه، من دون مبالغة في حالة حرب مع ثلاثة دول، إيران العدو، وصديقيه العراق وفرنسا، يمكن أن يعدّهما صديقين إذا لزم الصمت وساير ماتريده الدولة عندئذ ليذهب أبقراط وشرف المهنة إلى الجحيم.

بعد حادثة طعن الممرض (مسعود) بإبرة ملوّثة، وحضور بضعة من رجال الأمن إلى الكرنتيا دون أن يجرؤوا على الدخول إلى غرفة العزل، طلبوا من الدكتور غسان بلطف مقابلة (جواد علي) في غرفة الممرضين، كان الجميع يخشون على أنفسهم: دائرة الأمن، المحققون، ذو الرتب العليا والدنيا، دخل ممرض وشرطيان، وعادا ب (جواد) مكبّل اليدين من الخلف، غير أن المريض المشاكس بقي يلتزم الصمت منذ أن غنّى أ أغنيته المبتذلة عن الحرب.، وربّما خيل إلى الدكتور غسان أن سبب الاستنطاق ليس طعن الممرض الذي جاء ردّة فعل حادّة، وهي حالة، يمكن أن تجتاح أيّ مريض في حالة يأس.. كانوا يرغبون أن يعرفوا ماضيه هل مارس السياسة وارتبط بخلايا سرّية.. استمرت الجلسة نصف ساعة لم يُسمَع خلالها صراخ أو أنين.. وخرج مريض نقص المناعة يأم لا تشوهه أيّة علامة.. كانوا، حسب ظنّ الدكتور يخشون مسّه، وقد تركوه لمصيره المحتوم..

بعد خروج رجال الأمن بدقائق، رن جرس الهتاتف، وكان المتحدث مدير المشفى، وحالما وصل الطبيب البديل غادر الدكتور غسان الكرنتينا.، وأعرض عن أن يشغل باله لأيّ أمر ااستدعي كان يتوقّع أسوأ الاحتمالات..

مرضى جدد

تحقيق أمني

أيّ شئ

لايهمّ

قال المدير الذي استقبله باهتمام:

- لا تعجب فقد أرسلت وكيلك في مصرف الدم ليحلّ بدلك هناك فتعود أنت إلينا كون الوزارة اتصلت بي تعلمني أن صحفيا من إيطاليا سيأتي إلى المصرف وأنت أكثر خبرة، وأنت الذي تشرف مباشرة على الملفّات..

متى يصل.. ؟

- هو في الطريق بّما تجده ينتظرك الآن.

- على فكرة حضر بعض رجال الأمن إلى الكرنتينا اليوم وحقّقوا مع (جواد علي) .

- ياسيدي إنّه ميت ميت فهل ينفع عقاب الميت.

- ألم يخبرك أحد منهم؟

ردّ بتثاقل:

- كلّا

- لاتنس وصايا وزارة الصحّة ليس هناك من نقص المناعة.. بعض الجذام وأمراض أخرى تتطلّب العزل.

- ماذا لو ذهبوا إلى الكرنتينا وقابلوا المرضى؟

- سيتصرّف حرّاس الأمن معهم.

وغادر إلى المصرف، فوجد شابا في الخامسة والعشرين من عمره يتحدّث إنكليزيّة واضحة يسيرة قدّم نفسه باسم فريدرك مراسلا لإحدى الصحف الإيطاليّة فقابله بابتسامة باهتة:

=أيّة خدمة يمكن أن أؤديها لك؟

- قضية مرض نقص المناعة.

فهزّ الدكتور رأسه، وكرّر سؤاله الذي وجهه للصحافة من قبل:

- هل يمكن أن تخبرني من أين يأتي المرض.

- كلّ ما عرفته أن ينتقل عبر الدم الملوّث والجنس والمثليّة وعضّة حيوان مصاب.

فضحك الطبيب ضحكة خافتة:

- الحمد لله مجتمعنا محافظ يلتزم بالحلال والحرام وينبذ المثليّة.

- هل تسمح لي بالتسجيل الصوتي؟

- كما تشاء!

ضغط على آلة صغيرة وضعها على المنضدة:

- ياسيدي جئت بخصوص تحقيق عن موضوع المصل الملوّث الذي استوردتموه من فرنسا. (وتابع بابتسامة) الصحف تبحث عن الحقيقة.

فهزّ الدكتور غسّان رأسه مستغربا:

- تقول المصل فرنسي وأنت إيطاليّ فما علاقتكم بالموضوع؟

قال الصحفي بثقة:

- من بين الدول التي أصيب مواطنوها بمرض نقص المناعة دولة من مستعمرات إيطاليا السابقة هي ليبيا التي اعترفت، ولكون صحيفتنا يساريّة وحكومتكم ثورية، فقد عرفنا من وسائل الإعلام أنّ هناك إصابات عندكم!

فشعر الدكتور ببعض الإحراج، وشئ من الأسف، ولم يجرؤ على الخروج عن توجيهات إدارة المشفى، فكلّ شئ يراه باهتا الآن ولا يشغل باله إلا اعترافه الأخير الذي واجه به الكاهن قبل وقوع الذنب، فحاول أن يحرف الجواب باتجاه آخر:

- إذا كان الأمر كما تدّعي فلِمَ لَمْ ْيأتِ إلينا صحفي من فرنسا ولِمَ لَمْ تعلن وسائل الإعلام الفرنسيّة عن المصل الملوث؟

- أووه دكتور هناك تعتيم، في الوقت نفسه هناك أخبار صحيحة وخروج مظاهرات في البرتغال وليبيا والجزائر وتونس.. الناس يطالبون بالتعويض.

فعاد الدكتور إلى مراوغته التي كرهها ولم يستطع أن يغطي على قرفه:

- هل يُعْقَل كلّ هذا يجري وفرنسا لا تعلم؟

- هناك مقال ظهر في فرنسا مواطن فرنسي أصيب بنقص المناعة اعترف أنّه مثلي ولم يذكر المصل الملوّث مع ذلك عتّمت السلطة الفرنسيّة على الخبر فرحل إلى سويسرا ونشر مقالة عن خوف المجتمع منه ومعاناته!

فقال برما:

- بعد دقائق أضطرّ إلى مواصلة عملي، لقد آثرتك خلال استراحتي أترك لي عنوانك ورقم هاتفك فإذا ماجدّ جديد اتصلت بك.

قبل أن ينهي التسجيل قال برجاء:

- لو سمحت تخبرني باسماء بعض المرضى وتدلّني على عناوينهم فلعلّ ذلك يساعدني في إنجاز مهمّتي فأنفي حين أقابلهم عن وجود إصابات في بلدكم أو نحثّ مجتمعاتنا على طلب تعويض للضحايا من الشركة الفرنسية. ؟

فقال وهو ينهض:

- تعرف ذلك محال! انتهى اللقاء.

وقد تغيّرت أمور كثيرة بعد اللقاء، لم تحل إجراءات الأمن دون حصول الصحفي الإيطاليّ وصحفيّين أجانب على عناوين أهالي بعض الضحايا الذين وجّهوا اتهاماتهم إلى الشّركة الفرنسية، وشاع أنّ بعض الممرضين في مصرف الدم سرّبوا الأسماء و العناوين إمّا بحسن نيّة أو مقابل أجور، فتحرّكت دائرة الأمن من جديد، وحذرت العوائل، وأنذرتهم..

ولا غرابة في أن تقوم السلطة بنقل المصابين إلى مكان مجهول ليلاقوا مصيرهم وحدهم..

كلّ ذلك جرى والدكتور غسّان في البيت

لم يحسّ أو يشعر بما كان أو يكون

إذ

حالما خرج الصحفيّ الإيطالي من مكتبه شعر بثقل في عينيه، وداهمته عتمة من ظلال.. أشبه بعمى يغزو عينيه، وشعر بصداع ثقيل يجتاز رأسه..

لم يكن ليعاني قبل من أيّ مرض

يأكل بانتظام

ولايفرط في الشرب

الحالة المفاجأة لم يحسب لها أيّ حساب

مطرقة الصداع ترن في رأسه

كانت بداه ترتجفان وجسده يخفق من حرارة وبرودة تجتاحان جسده

النار والثلج

تأكّد بخبرته الطويلة أمرا غير طبيعي يجول برأسه فبلغت الكآبة منتهاها لتجثم على صدره فتسارعت نبضاته

. ليفعلها الآن؟

 هل يجرؤ؟

كلّ يوم يشعر أنّه صغير.

يتصاغر..

مثلما فعلها في الكنيسة حين اعترف بذنوب قبل أن يقترفها يستطيع أن يطلب إحالته على المعاش..

يتقاعد قبل الأوان..

استلّ القلم، وشرع في الكتابة. كان يفكّر بالتفرغ للعيادة ومن ثمّ السفر

السيد مدير المشفى المركزي

إنّي الدكتور..

راحت يده تضطرب وموجة صداع عنيفة لا تطاق تُلغي رأسه تماما، ولم يعد يشعر إلّا بالالم، نهض متثاقلا نحو أحد الأدراج. لاذ بأكثر من حبّة صداع ازدردها مع جرعة ماء، بعدها هزّ رأسه.

وجده ثقيل الحركة..

عجز أن يقود السيارة إلى البيت، فطلب من الساعي بصوت متهدج أن يستدعي سيارة أجرة، وقد ترك طلب الاستقالة على المنضدة ناقصا بسطرين..

قد يكذب نفسه

غير أنّه صدقها حين عرف أنّه وصل إلى المنزل بأعجوبة فجسده كلّه أصبح ثقيلا..

ثقيلا بحجم الجبال

استقبلته بدهشة قائلة:

- جئت مبكرا اليوم

- عجز عن أن يجيب

- مابك هل أنت بخير؟

فتثاقل في مشيته وسحل أقدامه إلى السرير، فسقط عليه فاقد الوعي.. مع جلطة في الدماغ.. وشلل نصفي تتبختر في ذهنه أحلام الهجرة إلى ديترويت.. وكانت هناك تغييرات كثيرة تجري لمرضى مصل الدم وهو لا يعرف بها!

خاتمة المطاف

في سيرة مرضى نقص المناعة تقول وسائل الإعلام، إنّ المرضى في مكان عزلهم الجديد أصبحوا 250 مريضا، وإنهم في عام 1993 بعد هزيمة الجيش كسروا أبواب مصحتهم وهربوا،

تناثروا في جميع مدن العراق،

في جميع الاتجاهات تشتَّتوا

 لكنّ المتشددين السلفيين قتلوا بضعةً من هؤلاء بحجة أنّهم شياطيين، أو من قوم لوط، وقد التقطت الحكومة ماتبقى منهم وأرجعتهم إلى المصحّة حالما استعادت وعيها من ضربات التحالف، أمّا ما بعد 2003 عام السقوط فقد أثارت القضية الحكومات الجديدة، حاولت أن تقتدي بسيرة الجزائر وتونس وبقية الدول التي تعرّضت للدم الملوّث فحصلت تلك الدول وقتها على تعويضات من الشركة الفرنسيّة التي أفلست تماما..

كانت بغداد تلهث وراء السراب

فليست هناك من شركة

وفرنسا الصديق القديم تصرّ على أنّ بغداد أخطأت خطأ فادحا حين صمتت وقتها ولم تطالب بحقّها

على وفق هذه الطريقة

 انجلى ما خفي من غموض

الغريب

 أنْ لا أحد يعرف متى مات الدكتور غسان أم هل بقي مشلولا طريح الفراش إلى مابعد السقوط

والأكثر غرابة:

أنّ دائرة الأمن عجزت عن تعثر على عنوان الآنسة (نجاة قاسم) التي حالما أصابها مرض نقص المناعة

اختفت مع عائلتها، وتوارت عن الأنظار.

***

د. قصي الشيخ عسكر

...........................

* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في ليلة 5- 12- 2024

ثلاث قصائد:

***

رحلة كاملة

عُشبٌ يابسٌ يلسعُ الصباح

دروبٌ من الشِعرِ وأبوابٌ

ثم خرائط للروح

وضوء ومواعيد وموانىء

هي مبضع الحكايات

ترسمُ الليل حين يلامس أضلاعنا

أنتَ لا تملك النبتة السريّة

التي تجعل الساعة تقترب من موعدها

إن الذي يجلس عند نافذة الوقت

يحظى بالرحلة كاملة

يدخل الغيم

مكتظا بشقائق النعمان

**

انشطار

أقول لنفسي: لا أحيانا

دعْ أوهامكَ ترقصُ خارج الموقد

ثم أغلقْ باب الوقت

كي لا تنبت أجنحة لهذا الهراء

رقعة الكلام تضيقُ

أينما تضع الحبر فيه سال في النسيان

كأن ثمراته تتركني حيران

وكأني أطوف في هوّة تطوقني سراديبها

الشفق الخافق على الرمل

يصطف، لا بيت ولا جار

يأخذُ عيوني ويرمي بها في الموج

أهدأ فأقطرُ

أنين صدى

الحجر صبور

فيما هذي الأطراف

هذا الجسد الذاوي

يسافرُ

تطويه الغربة والمقل

ضيفا يتابع الانشطار

**

حكمة مُضنية

لا بدَّ أن تطيرَ الأفكار

إذ لا يبقى في النهر سوى شتاء بارد

وليل لا يهتم به النعاس

وأن الشعلة في عينيك

طالما تنسكبُ في الأخاديد

تنبتُ حكمة مُضنية

تمشي... وفي يديها غصنٌ

يبلّله الله

آه ... ما أوجع الحواس

وما أندَرَ العارفين

حين تشيرُ الجارة إلى مفتاح البئر

إلى جبين السطور

تقول: أوَ ستسقي كلماتك الخاوية عَقَبة الحبِّ!

ماذا لو غطتكَ السنابل

ووقفتْ على رأسك الطير!

في آخر منعطف يدور في كفي.

***

زياد كامل السامرائي

 

لَقَدْ عِشْتُ حَتّى أَمْسَتِ الْعُرْبُ تَجْتَرُّ

أَسَاطِيرَهَا الأُولَى الَّتِي مَلَّها الشِّعْرُ

*

عَرَفْنَا لِهَذا الشِّعْرِ صَوْتاً يَهُزُّنَا

فَمَا نَفْعُهَا الأَشْعَارُ يَكْتُمُهَا الصَّدْرُ؟

*

تَحَكَّمَ فِينَا الأَمْسُ - والْأَمْسُ مَيِّتٌ -

وَعَاشَ كَمَا لَوْ زِيدَ فِي عُمْرِهِ عُمْرُ!

*

وَكُلُّ بُحُورِ القَوْلِ جَفَّتْ مِن َ الدُّنَا

سِوَى عُرْبِنَا مَا جَفَّ في حَلْقِهِمْ بَحْرُ!

*

فَفِي كَبِدِ الْمَيْدَانِ طَالَ لِسَانُهُمْ

وَتَحْسِبُهُمْ جَيْشاً وَعِدَّتُهُمْ صِفْرُ!

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

إهداء

إلى الأحياء الأموات

***

أيها المارون على درب موتي، تذكروا أني ما مت إلا وأنا نادم؛

على أني منكم.

تائه في الدرب، أبحث عن اسم من أسمائي،

تلاشى مع أول خيط ضوء أشعلتموه في قاع الدرب،

سيجارة حشيش،

دخان عود في معابد الأعراب،

بخار حلم، تبدد على الرصيف،

يتقصى أثري.

وأنا أمشي في الطرقات غريب المكان،

هو مني براء،

وأنا منه بين الألم والرجاء،

روحي بين أضلعه وهو مني عباء،

يستوطنه الجفاء،

وروحي فناء،

في البقاء،

***

أيها المارون على درب موتي، تذكروا عيوني، مرايا أعراب تعكس صمت أسرار حكاياتي؛

كلماتهم أوهام، ترقص على أطراف جسدي،

المسجى بين الحياة والموت،

يعيش يوما؛ كي يموت ألف يوم،

ويموت ألف مرة؛ ليعيش مرة،

بالقناع،

الاختفاء،

وعديد الوجه،

فلا تقل لي؛ أني حي! فأنا في عالم الأعراب معلق الوجود،

بين الحياة والموت،

أزرع أحلام الأوهام في تربة الملح،

أسقيها بدمع المقل، ودم العروق،

أرصد ظلها في جفاف الروح،

وسراب الصحراء،

***

أيها المارون على درب موتي، لا تركضوا خلف أحلام الوهم، فهي سوى اسم من أسمائي،

أنا الأعرابي المولود من لب أفكاري،

أبني قلاع الأجداد من الأوراق، وجريد النخيل،

أنام في عسل العذاب،

أنظر سمائي منفى حياتي، موتي بالحياة،

وأسأل الوجود من أنا؟

وما معنى وجودي؟

هل أنا؟

الأعرابي!

حي لأني أتنفس الهواء؟

أم أن حياتي؛ موت حياتي، تقدس في الحياة؟!

وموتي في الحياة لا تنفى إلا بالموت؟

أفنى نصف حياة، وأموت في النصف الثاني بحياتي،

فأنا من الأحياء الأموات في سفر التكوين،

فلا الفناء أفناني،

ولا الحياة تبقني من الأحياء.

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 06/12/2024

حبرُ القلوبِ لَأبقى اِنَّهُ الألقُ

شعَّتْ بِهيبتِهِ الأنفاقُ والطرقُ

*

النبضُ فيهِ حروفٌ جَلَّ مبدعُها

فكهرباءٌ وشمسٌ حينَ تنطلقُ

*

غنّى الجباهَ أبيّاتٍ يموجُ بِها

نورُ الكرامةِ، فارجِعْ ايُّها النزِقُ

*

وقلْ لعالَمِكَ الموهومِ يتبعُهُ

رَهْطُ المساقينَ في الأصفادِ: اِنْ أفِقوا

*

هذي الأشاوسُ ما اهتزتْ مروءتُها

كأنَّها أملٌ للكونِ ينفلقُ

*

عَنْ أجملِ الفجرِ حيث الأرزُ مؤتلِقٌ

يرنو اليهِ نخيلٌ مشفقٌ قلِقُ

*

أنْ لا يدنسَهُ الأوغادُ ان مُكرَتْ

دسائسٌ، حيثُ غابَ الخَلْقُ والخُلُقُ

*

الّا الذينَ سروا والأرضُ تعرفُهمْ

بأنَّهمْ في دروبِ الكونِ مفترقُ

***

شعر: كريم الأسدي

هلْ كنتُ حقا أعلمُ،

أنَّ ما بِيدي مِنْ خُطوطٍ مُتقاطعةٍ لا..

تقودُ إلى نِهاياتٍ مُرتقبة لبُلوغ

حَدسِ فهْمِ كُل تفاصيلِ الأشياء..

منْ حوْلي.

*

كمْ أنا مُنزعِجٌ

مُنزعجٌ كثيرا

حِينما أتلو عَلى نفسِي وصَايا

مُشبعة بلغةٍ بلا معْنى.

ومَا المَعنى الذي يُساوِرُ ذاتي..؟

سِوى أنْ أعْلم فقط،

أنَّ صُورتي المُعلقَة في مَرايا الوَقت

ظِلٌّ لظلٍّ بعيدٍ عني..

تجاوزَ حُدود أزمِنة عِشتها

كفِكرةٍ سابقةٍ لِخُطواتي..

خُطواتي تِلك المُتعثرة، رُبما،

فِي رصْد مسَافاتِ حقيقةِ الأشياء..

الأشياءَ.. تلكَ التي طالمَا دسَسْتُها في

قلبي بِصمتٍ عارٍ منْ،

كلِّ لونٍ مُنفتِح على

احْتمالاتِ الفهْم

والإدراك.

*

لمْ أعُد أفكرُكما ينْبغي..

سِوى تدويرِ مَا تبقى فِي عيْني

منْ مُتلاشياتِ خيالٍ قديم

لأستعيدَ بعضاً مِن هَباءِ ماضٍ

أتعبَ خُطواتي بالركضِ إلى ما لا نِهاية

أُعَوِّدُني على نِسيانِ تضاريسَ خُطوطِ يَدي..

المَائِلة

المُنكسِرة..

الخُطوط تِلك..

الضَّالة التي،

لا تقودُ لحقيقة ما..

تقودُني فقط لِمتاهةِ أسئِلةٍ لا

مُتناهِيةٍ عنْ ما حوْلي منْ تفاصيل

أشياء تمْلأُ جِدار

غُرفةِ ذاكرتي الضَّيقة

بِشقوقٍ مَنسيةٍ

للنسْيان.

*

ورُبما عليَّ أن أبتلعَ مسَافاتٍ لِلتفكير

وأفاوِضُني بِبالغ الرِّقة

لكيِلا أنْقادَ

لِوساوِسَ تُجرِّعُني خَساراتٍ مُحتمَلة،

لِفُقدانِ

كلِّ خُطوطِ حَواسِّي.. أوْ

أتسَلل بِدون جَسدٍ

إلى وَهْم ذاكِرة

داكِنة..

الفرَاغ.

***

حسن حصاري - المغرب

 

أنتِ التي

خبَّأْتِ كلَّ الحزنِ في هذه الدنيا

خلفَ أسيجةِ النسيانِ

ورسمتِ القمرَ لهذه الليلةِ

ورسمتِ فراشاتِ الربيعِ الغضَّةِ طيفًا

يجوبُ أفقَ مقلتيكِ

يضيءُ ويغري القصائدَ

فتجري نحوكِ

مثلَ مياهِ العينِ الصافيةِ

مثلَ حمامةٍ بيضاءَ

تائهةً ومقيدةً

تبحثُ عن مكنونٍ سريٍّ

تغري الزغبَ منها

أن يصبحَ نتفًا ثلجيةً

كلونِ الأمنياتِ التي تضعينها تطوقُ جيدَكِ

كلونِ الأغاني التي تسمعين

كلونِ القبلِ الخجلى

المحبوسةِ بين شفتيكِ بلا حريةٍ

أرددُ في أذنيكِ نغماتٍ سريةٍ

فتستحيلُ خطايا الشوقِ الصامتِ ألغازًا

ترقصُ في مخيلتي

أحلامًا تركضُ كالجيادِ

تفرُّ إليكِ

سيدتي القديرةَ الأنيقةَ

اكتبي لي

اشرحي لي كثيرًا

سِرًّا

يجمعنا

كونين مختلفين ومقلةً واحدةٍ

كأسٍ من ثلجٍ وثغرٍ من نارٍ

وشمٍ يحملُ عطري

وسحركِ المرتدِّ إلى طرفي كلِّ مرةٍ

هل ستمانعينِ

لو كتبتِ أنتِ لي

تلكَ القصائدَ

التي تضجُّ من مرآكِ

هل ستقلبين وجعي

هل ستزرعين من أناملكِ شفاءً أبديًّا

هل ستحيلين جراحي نوارسَ ترحالٍ وحبٍّ

هل ستمسكين بأناملي في حلمٍ نزقٍ

سيدتي

لكِ المسافةُ الشاردةُ عني

وجبَلٌ من خطوطِ النارِ المشتعلةِ بيننا

ولي

صقيعٌ يكوي يومي

وكلَّ الليالي الوحيدةِ

سيدتي أقدسُ طهركِ

أقدسُ ذكركِ

وأتوبُ منكِ إليكِ

وأحرقُ كلَّ قصائدي

بنارِ البعدِ ونارِ الصدِّ

ونارِ الشوقِ

وأسمي كلَّ أفراحكِ الجديدةِ

ولادةً لي

فأنا

مرآتكِ التي تسرين لها الاحديث اليومية والسرية

ومشطُ شعركِ الذهبيِّ

وأنا من تلكَ الـ(آه)

أطلقتُها كاتمةً تلكَ الأسبابِ

وأنتِ

امرأةٌ بنكهةٍ سماءٍ وماءٍ وهواءٍ

تبعثينني هذيانًا محمودًا

وخطيئةً

لن نرتكبها يومًا ما...

***

أيمن الناصح

أُسائل نفسي

كإن الجمال يثير الوجع..

هو باهر

في سجل المعاني

هو قاتل

في كل منحى

يثير الجدال

يثير الصدع..

**

تغفو الطفولة

في عيون المها

وتبدو ترانيم هذا المساء

مجنونة،

ترنو اليها قلوب الصبا

تثير الشجون

وتعصف همساً وحبا وصبا..

**

ينساب شعرك مائجاً

بين السهول الساحرات،

ومن خلفها تلك الروابي

الثائرات على الشذى..

**

في أي مسرى

ينحني القلب باذخاً

يستجير الهوى،

بين مقلتين

يرتعش الجفن خائفاً

وتمسي الشفاه كحبة كرز

يعتليها العبوس..

ولفتة شعر مثير

كوهج الشموس..

يا لهذا الرخام المثير..

هياماً وشوقاً وعصفا..

**

في كل همسة شوق

يرقص القلب

تبدينها كالحرب

لا في الخيال..

**

انها الحرب ماثلة في الجمال

طافحة بالخيال

بمعنى المحال..

**

في وجهك العسلي

أمضي دهوراً

أراه جمالاً يثير الوجع..

**

جمالك يوجع القلب

هل أدخل الحرب

أم أقرع باب الجمال

وما خلفه من جدال..؟

**

اسائل نفسي،

لماذا لا تكف

عن الاوهام في المعنى

ولا تقرع طبول الحرب

بل اكرع كؤوس المدام

حتى يحل السلام..؟

***

د. جودت صالح

2/12/2024

انسلت خيوط الفجر مني

سوط الرغبة

يتحدث بما لا يليق عنك

دائرة سياط عتيقة

يتمرغ عريك في محرابها

أجيبي مرة مياهي الناهضة لانتشالك من الوخز المستمر

لصداع الخراب

ومرايا التحولات

و انهمالات الجسد

وردة الشعر

تتحدث

في المسالخ

بما لا يليق عني

هرم صوت أمام كثبان النار

هشاشة ضوء

تحت غيوم الندم

ألق شاحب

يرقد في وادي النسيان

مسالخ الليل والنهار

تتحدث بما لا يليق

عن عتمة الشعر على لغة الحياة

دماء انسلاخاتنا

تجفف

مروحة الكلام

خلف ترسانة الألم

العارف

سرير راعف

تحت هرم الحكايات الغريبة

***

باقر صاحب

شَاعِرَةٌ كَانَتْ نَائِمَةً

تَحْلُمُ أحْلاماً غَامِضَةً

تَتَخَيَّلُ حَيْرَى ذاهِلَةً

أنَّ الأشْعَارْ

تَتَبَدَّدُ أحْرُفُهَا تَحْتَ الأمْطارْ

*

ذاتَ صَبَاحٍ

حِينَ صَحَتْ

هَمَسَتْ

فَلْأَكْتُبْ شِعْرًا

وَلْأَشْدُو

بَدَأَتْ ...

بَعْدَ قَلِيلٍ هَتَفَتْ

مَا أَسْعَدَنِي

رُوحِي ابْتَهَجَتْ

لَكِنْ كَمْ يُحْزِنُنِي

أَنْ لَا يَسْمَعُنِي

وَهُوَ يُفَارِقُنِي

*

طَالَ اَلْهَجْرُ بِهِ

اِزْدَادَ اَلشَّوْقُ بِهَا

صَارَتْ تَتَفَاقَمُ وَحْدَتُهَا

وَهِيَ تَرَدُّدُ:

مَاذَا أَفْعَلُ؟

مَا جَدْوَى أنْ أكتبَ

شِعْرًا لا يَقْرَأُهُ؟

مَا جَدْوَى أنْ أحْيَا

بِعَذَابٍ يَجْهَلُهُ؟

مَا جَدْوَى أنْ..؟

مَا جَدْوَى أن..؟

-   2 –

شَاعِرَة كَانَتْ صَاحِيَةً

تَحْمِلُ مِرْآةً صَافِيَةً

تَتَأَمَّلُ فِيهَا،

وَتُفَكِّرُ بِكِتَابَةِ أَشْعَارِ أَجْمَلْ

تَسْتَوْحِي

اَلْحَاضِرَ، وَالْمَاضِيَ، وَالْمُسْتَقْبَلْ

لَكِنَّ رِيَاحًا عَاتِيَةً

جاءتْ تَسْبَقُهَا

تُسْقُطُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا اَلْمِرْآةْ

تَتَنَاثَرُ أَشْلَاءً

كَيْفَ تُلَمْلِمُهَا؟

تَتَوَسَّل أَنْ تُنْجِدَهَا

شَاعِرَةُ مَا، أَوْ مِرْآةِ مَا

لَكِنْ...

ظَلَّتْ أَيَّاماً

تَنْتَظِرُ

ظَلَّتْ... مَا زَالَتْ تَنْتَظِرُ

***

شعر: خالد الحلّي

الوريقة الأولى:

حتى الوريقاتِ التي خبأتُها

نبشتْ عليها الدوود

في زمنِ الطغاة

لكنه الجهلُ الذي حاربتهُ

دومًا

أعادَ لها الحياة

وأنا الذي أرختُها

وختمتُها

وكتبتُ فيها ما أتى

ونشرتُ فيها الذكريات

ودعتُها حينَ استدرت

بحسرة ٍ

إن الوداع َلمن تحبُ

هو الممات

***

الوريقة الثانية

ورقٌ أحاطَ بهِ ترابٌ مالح ٌ

ونما الى

جنبيهِ بعضٌ من نبات

ما حاله ُ؟

والليلُ يغشي سطحَهُ

والتربُ تدعوه

لكي يبقى رفاة

لكنَّ معولَ عاملٍ

قد هدَ ظلمتَها

وصاحَ بجمعِهم

ها قد وجدتُ الكنزَ

فاسعوا يا حفاة!!

***

الوريقة الثالثة

حتى إذا ما اشتدَ بأسُ الأرض ِ

سكنت معاولُهم

فمالوا للسبات

وحكى كبيرُهم عن الأملِ المضاع

فتصدعوا

بعضُ التصدعِ قد يقود

إلى النجاة

وبدت وريقاتٌ شممتُ أريجَها

حتى

انتشيت

وفهمتُ ما معنى الثبات

***

عبد الهادي الشاوي

في نصوص اليوم