نصوص أدبية

نصوص أدبية

مُهْدَاةٌ إِلَى الشَّاعِرَة اللبنانية: سميرة غانم

أُشَاهِدُ أَكْوَانَ الْوَفَاءِ بِمُقْلَتَيْ

كَ عِزًّا بِفِكْرِ النَّاسِكِ الْمُتَشَدِّدِ

*

أَمَاناً وَأَحْلَاماً وَطَيْفُ مُوَاعِدٍ

وَآمَالُ قَلْبٍ فِي الْوَفَاءِ مُعَوَّدِ

*

تَشُدُّ حَيَائِي نَحْوَ حُبٍّ يَقُودُنِي

لِدُنْيَا مِنَ الْأَفْرَاحِ فِي دَارِ مُسْعَدِ

*

وَأَرْقُصُ رَقْصَ الْحُبِّ فِي نُورِ بَسْمَةٍ

تُلَاعِبُ أَعْضَائِي بِفِكْرٍ مُخَرَّدِ

*

أُنَادِيكَ يَا طَيْفا بِدُنْيَايَ هَائِماً

بِعَقْلِي وَرُوحِي وَابْتِسَامَاتِ مَعْبَدِي

*

فَمَا هَمَّنِي شَيْءٌ بِدُنْيَايَ شَدَّنِي

سِوَاكَ أَمِيرِي وَاشْتِيَاقِي وَسَيِّدِي

*

أَبُثُّ إِلَيْكَ الْحُبَّ مِنْ بَحْرِ صَبْوَتِي

وَأَلْثُمُ أَشْوَاقَ النَّسَائِمِ فِي يَدِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

أنا أُنثى ..

نعمْ أنا أنثى!

أتألقُ بِحيائي زاهيَة

أنا الجمالُ بأنْقى صورهِ

أنا البهاءُ،

والحنانُ بمضامينهِ الحانيَة

الوفاءُ، منْ سجايا خُلُقي

وصِدقاً أنا الوفيَّةُ الوافيَة

مشاكلُ الحياةِ أنا منْ يفكُّ عُقدِها

ويجدُ الحلولَ برويّة

وللمحبّةِ والوئامِ داعيَة

قويّةٌ شخصيّتي

وإرادتي تزيّنها عزيمةٌ،

على الصِعابِ القاسيَة

وإنْ شئتَ نسمةٌ أنا

بلونِ السَديمِ قلبي

أطيّبُ النفوسَ، وأجبرُ الخواطرَ

بالكلمةٍ الشّفافةِ الدافيَة

بلسمٌ لجِراحِ الحياةِ لوْ تدْري أنا

وسعيّ الى رغدِ العَيشِ

سعادةٌ بالهناءِ والعافيَة

أُنثى أنا يا سيدي . .

شريكةُ روحِكَ بالمودّةِ والرحمَةِ

ومشاعرُ دنياكَ الجّميلةُ

بالودِ والمحبّةِ ساميَة

بسْمتي سموٌ!

والبهاءُ بأناقتي

وبالكبرياءِ والتواضعِ

ترقى شخصيّتي . .

وتسمو همّتي العاليَة

وإنْ تبحثَ عنِ الهدوءِ يا شريكي

أنا هسيسُ السُّمارِ وصفاءُ بهْجتهِمْ

أنا لونُ السماءِ الصّافيَة

هُوَيناً مِشْيَتي بلا ضجيجٍ

وحُضوري مؤثرٌ . .

وتطلُّعاتي بالقناعةِ ماضيَة

أنا الحبُّ أصلاً

يا لاهِياً بِحَصى الغدرانِ(1)

وتنسى..

أميرةَ هواكَ الراقيَة

فإذا أردتَ معْرِفتي بصدقٍ

فأنا نصفُكَ البهيُّ

رومانسيّةٌ بِمَشاعِري الساميَة

واذا نويتَ إنصافي حقاً

فكُن عادِلاً!

وانصفْ عِشْرةَ السنينْ

وروحكَ العذِبةِ الدافيَة

وإن تمعنْتَ قليلاً

ستجِدني أجملَ منْ كلِّ قِصصِ الهَوى

فأنا الشعرُ المَوزونُ بالمعنى

والمختومُ بالحِبكةِ والقافيَة

وأنا كما تعرِفُ أُنثى

ونظرةُ عُيوني معروفةٌ بسِحرِها

مُميّزةٌ بغِنَجِ الأُنثى

الى اشاعَةِ الحبِّ هاديَة

***

د. ستار البياتي

بغداد / نادي الصيد 5/6/2023

..................

1. استعارة من ديوان (لو أنبأني العراف) للشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة، الصادر في 1985، من قبل المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ب (121) صفحة .

لا شيء يسعدني

مطر الصيف يغازل شرفتي

صوت الشجن يباغث مهجتي

عصافير الشفق تعاتب دمعتي

بعدما عزفت لحن الرحيل

قناديل الوحدة تنير ليل غربتي

لا شيء يسعدني

أفتح نوافذ ذاكرتي

وصال الأحبة

درب من خيال

ورسائل باردة

من هاتف جوال

أنتظرها بفارغ الصدر

لا شيء يسعدني

سنابل القمح الصفراء ذبلت

منابع الماء الزلال جفت

الغابات الخضراء احترقت

الأسعار في البلاد ارتفعت

وأخلاق العباد انحدرت

لا شيء يسعدني

زغاريد نسوة الحي

في مواسم الأعراس

حكايات العشاق

يغتالها الفراق

وعلاقات الأصحاب

يغالبها النفاق

لا شيء يسعدني

آلام   المرضى والمعذبين

بكاء المكلومين والمغتربين

لا شيء يسعدني

عقارب الساعة تتسابق

وايامنا كالبرق تتلاحق

لا شيء يسعدني

سوى بسمة طفل

يحلم بغد مشرق

***

لطيفة حمانو

كنت سأعبر هذا النهر، أقف على حافته، أنظر إلى زورقي المتهالك، أهم بالركوب، أسمع صوتا من بعيد كأنني أعرفه.

صوت دافئ، يشع بالحب والحنان، تمهل يا بني، انتظرني، ألتفت إلى الوراء، كأنه طيف امي، تطير عبر السحب، تلوح لي بيديها الناعمتين، أحدق في السماء، أنسى الزورق والعبور إلى الضفة الأخرى..أركب زوارق الذكرى، أمتطي صهوة الأحلام وأرحل بعيدا....

" لم ادر كيف رحلت في غفلة من العمر، عندما تأملت في المرآة شعرت بأنني قد كبرت، لم أعد ذلك الطفل الشقي، الذي عاش محروما من طفولته، من يد حانية تأخذ بيديه في دروب الحياة المثقلة بالآهات والأوجاع....

أتذكر عندما طلبت منا المعلمة أن نكتب عن رحلة قمت بها أنت وعائلتك إلى البحر، صف لنا أجواء الرحلة معبرا عن شعورك وفرحك بها ...

توقف القلم بين أصابعي، ارتعش من هول الصدمة، ماذا يكتب ؟و صاحبه، طفل غريب، لا يعرف إلا الطريق إلى المدرسة وباب المنزل، يعيش في عزلة قاتلة، أصدقاؤه الوحيدون الذين يخففون عنه مرارتها هم الكتب، يمتطي صهوة البياض ويطير بعيدا إلى عوالم لم يرها هناك يعيش بحرية ودون خوف ولا اغتراب ...

انتهى وقت الكتابة وسلم لها الورقة ناصعة البياض..و كأنه يقول لها:

البياض كتابة، كتابة تخفي وراءها حروف الألم والفقد، البياض لغة من لا لغة له، احتجاج على فقدان المعنى، ابتسمت المعلمة وربتت على رأسه بكل حنية، شعر بالراحة وانزاح عن قلبه الصغير جبل الثلج ..

المرآة صادقة معي، تريني حقيقتي، وخط الشيب شعري، رسم لوحة ناصعة البياض عليها بقع سوداء لا تكاد ترى، يا هذا ها أنت اليوم تودع الطفولة والشباب معا، لم تعد تلك اليد الحانية تربت على شعرك، لم تعد تسمع تلك الدعوات وانت تقبل رأسها متوجها إلى مدرستك بمحفظتك الجلدية البنية اللون، فتستقبل تلاميذك بكل فرح وسرور، لقد أخذت بركة اليوم من والدتك ..

لم أعبر النهر، لقد جف نهر الحياة برحيلها، حطمت زورقي ونمت على ضفته توسدت أشواك الذكريات واسلمت قلبي لعواصف الزمن العاتية .

***

شدري معمر علي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

في العمر بقيّة

أجدني أقف على شاطئ لا بداية له ولا نهاية. ثمّ أجدني على سلّم سفينة كبيرة يحيط بها غيم كثيف شفيف، لا تفتأ تقطّع السّكون بصفيرها المتواصل، فكأنّها تحثّني على الرّكوب... انتبهت فعرفت بعض ركّابها ولم أعرف أكثرهم... عرفت الثّعالبي وابن عاشور والدّوعاجي والشّابي والعقّاد ومحفوظ ومنيف وشكسبير وكافكا وثلّة أخرى من الكتّاب والأدباء...

فجأة أجدني مقذوفا بعيدا عن السّفينة وهاتف يلحقني:

"ليس الآن!"

**

الدُّرُّ والدّجاج

في حديقة بيتي الجديد قنٌّ فيه دجاج... وكم مرّة رأيت إحداها تحاول التمرّد على السّياج فيعلق عنقها حينا وتعلق ساقها حينا آخر لتظلّ أسيرة لسجنها المقيم...

وكان لا بدّ أن أطلق سراحها جميعا وأتركها تنعم بالشّمس والهواء وخيرات الحديقة... بيد أنّ الحلّة القشيبة بدأت تكلح مع الأيّام وصارت أرض الجنّة بورا بعد عطاء...

وهكذا أفقت من أحلامي وعرفت أنّ الدّرَّ ليس للدّجاج...

**

تجّار السّماء

اصطففت وراءه مع آلاف من المسلمين وغبت معه في ملكوت بعيد يحدوني إليه مزمار داوود الذي أوتيه... وكم كان يهزّني من الأعماق بكاؤه الخاشع عندما يتلو: "وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. "

ويُرفع عنّي الحجاب فأرى خيطا رفيعا أوّله عند البلطجيّ الأكبر وآخره عنده، مرورا بسموِّ الأمير... ثمّ أراه يرقص بعمامته ويفتي ببيع عروس العرب والمسلمين...

**

الخُشبان

جلست وراء الجمهور ورحت أتأمّل منصّةً طالما حلمت باعتلائها وأنا حيّ، قارئا اسمي مكتوبا بالخطّ العريض... وتكلّم المتدخّلون فأثنوا على كتبي ثناءً حسنا، خالعين عليّ ألقابا عظيمة لم أحلم بها وأنا بين ظُهرانيهم...

أطلقت قهقهة ساخرة، ثمّ سبحت إلى المنصّة حيث يجلس سدنتها... تَفِلتُ عليهم واحدًا واحدًا فلم يسمعوا لي ركِزا... قلت: "عَاشْ يِتْمَنَّى فِي عِنبَة. مَاتْ جَابُولُو عَنْقُودْ!"

***

لمْ تكنْ عيناكِ إلّا فتنةً

وأنا المفتونُ كم

كنتُ تقيا

فغواني طرفها في نظرةٍ

سَلبتْ عَقْلي

وما كان لديَّ

كيف لا أصبو إليها

والهوى

قد كوى الأضلاعَ

والأحشاءَ كيّا

هل يردٌّ الكوخُ

ريحاً صرصراً

أو يصدُّ الفردُ

غزواً بربريا

لم أكن يوسفَ يوماً

وأبي

ليسَ يعقوبَ

وما كنتُ نبيّا..!

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

لا أحد يُلازمك

ويُشبهُك أكثرَ من الجميع

مثلُ ظلّك

ظِلّك أنتَ

تسيرُ يسيرُ

تقفُ يقفُ

تمُدُّ يدَك يمُدُّ يدَه

يُطيعُك يُطاوعُك

رفيقُك أنيسُك

أنتَ هُو...هو أنتَ

إذا غابت الشّمس

يتخلّى عنك

تجدُ نفسَك وحيدًا

وحيدًا

يُداهمُك الزِّحامْ

فتمضِي وحدَك

بدونه

إلى الأمامْ...!

***

سُوف عبيد ـ تونس

لا أحد يدري كم من الايام مضت، وهي تبحث عن عمل يؤمن لها قوتها اليومي. ساورها القلق حين بدأت صحة والدتها تتدهور فما كان عليها سوى القبول باي عمل حتى لو كان تحت مسمى (خادمة).

وعن طريق احدى اقاربها من النساء وافقت على العمل في بيت رجل مسن يسكن في منطقة تقطنها العوائل الثرية والميسورة. كان المنزل يبدو كبيرا جدا من الخارج ربما بقدر منزلهم أربع مرات، توقفت ونظرت الى باب المنزل الكبير ثم طرقته، ففتح لها الباب رجل انيق يبدو انه في منتصف الستينات من العمر، نظر اليها وهو يقول: تفضلي، فقالت بحياء انا العاملة الجديدة رحب بها ثم دعاها الى الدخول.

أخبرها بنوع وطبيعة العمل في المنزل فلا يتعدى الامر سوى تنظيف بعض الاثاث واعداد الطعام لثلاث ايام في الاسبوع مقابل مئة ألف دينار اسبوعيا. شعرت بانه اجر مجزي لذا طلبت منه ان تبدأ بالعمل مباشرة، أشار اليها براسه موافقا. كان الأثاث في الصالة قديم وثقيل يحمل لمسات الزمن الماضي، ذكرها برائحة الأزقة القديمة، الانارة في غرفة الاستقبال خافتة، الا من ضوء ينبعث من شاشة التلفاز حيث يعرض على احدى القنوات فلما عربيا بالأسود والأبيض. لهذا الرجل مهابة واناقة ملفتة للنظر، مع أنه كان يتابعها بعض الاحيان بنظراته من حيث يجلس بمكانه المعتاد في الصالة او الاثير لديه وابدى اعجابه بنشاطها في العمل. في الاسبوع الثاني لها طلب منها ان تعد له فنجان قهوة، واحضار علبه السجائر واشار الى درج المكتب. كان قد تركها هناك منذ زمن، لان الطبيب قد منعه منها، قال لها: لا اعلم لماذا اصبحت لي رغبة في التدخين، نفث دخان سيجارته وتنهد قائلا كل شيء يزورنا كثيرا الا النسيان يأتي متأخرا. لقد توفت زوجتي منذ خمس سنوات، كانت سيدة فاضلة لم تفعل شيئا يعكر مزاجي طيلة سني زواجنا، انجبت لي ولدان هما الان متزوجان ونادرا ما يأتون لزيارتي لأنهما خارج البلاد. اعتدت العيش هنا لوحدي، قبلك عملت في هذا البيت امرأة مسنة تركت العمل لان اولادها لم يسمحوا لها بالعمل لأنها كبرت وتعاني من امراض عدة، كانت امينة وتعمل بإخلاص، رفع سبابته قائلا في المرة القادمة لا تضعي سكرا في القهوة، انا اعاني من مرض السكري، وأحيانا مزاجي يكون متعكرا، قالت: حسنا سأفعل ذلك.

انهت عملها وغادرت المنزل، كانت والدتها بانتظارها اخبرتها كعادتها عن تفاصيل عملها في ذلك المنزل مع الرجل المسن الانيق الذي ينحدر من طبقة ثرية في المجتمع. كان عليها ان تصحوا مبكرة كي تذهب وتعد الفطور لهذا الرجل قبل ان ينهض من النوم. وعليها ايضا ان تقوم بتنظيف غرفة المكتب التي كانت تحوي مكتبة كبيرة تضم المئات من الكتب وعشرات شهادات التكريم المؤطرة التي علقت على جدران الغرفة، قال لها بإمكانك المغادرة عندما تنهين عملك.

لفت نظره جسدها وجمال ضفيرتها السوداء الطويلة وهي تعاكس عجيزتها حين تروح وتجئ. سألها باهتمام: هل انت متزوجة؟ فأجابته نعم. فرد عليها على الفور وكيف يقبل زوجك بان تعملي في البيوت وانت بهذا الجمال. أطرقت بخجل، انا منفصلة، سألها هل لك اولاد، اجابت نعم بنت صغيرة فقط. طلب منها رقم هاتفها لربما يحتاجه لو حدث وجاء لزيارته أحد الضيوف، او حدث طارئ ما.

في اليوم التالي استيقظ مبكرا واخذ حماما ولبس ثيابا انيقة ووضع عطرا ونظر الى الساعة لم يبق على وقت قدومها سوى نصف ساعة، عندما مرت هذه الدقائق ولم تحضر انتابه القلق ولاحظ انه دخن عدة سكائر بينما تركز نظره باتجاه الباب واخيرا وصلت بعد طول انتظار سألها لم تأخرت؟ قالت له ابنتي مريضة وحرارتها مرتفعة ولم أنم ليلة الامس جيدا، اعتذر ولن يتكرر الامر. استغربت حين رأته بهذا المنظر وهو يضع هذا العطر وظنت ربما انه سيخرج لقضاء بعض شؤونه خارج المنزل، طلب منها ان تحضر له قدح ماء ليأخذ علاج للصداع قائلا لها اصابني الصداع بسبب تأخرك، لم تعلق على كلامه، قدمت له الماء ورات انه ينظر الى عينيها وبسرعة امسك يدها التي سحبتها بخجل واسرعت، تتوارى عن ناظريه في المطبخ، أدركت في داخلها بان نظراته لم تكن بريئة، بل انه يخفي في داخله شيئا ما يمكن للمرأة الشعور به فهو في كل الأحوال يبقى رجلا.

سمعت جرس الباب فأسرعت لكي تفتحه ووجدت رجلا في أواسط الخمسينات كما يبدو من هيئته سئل عن الرجل المسن فأخبرته بانه موجود، اتضح لاحقا أنه أحد اقاربه وهو يتردد عليه بين الحين والاخر لكي يطمئن عليه، جلسا معا وتبادلا الحديث وقدمت لهما القهوة، اختلس الضيف النظر اليها ورأى كما يبدو التغيير الذي طرا على المنزل وعلى الرجل المسن. وبعد ان جال بناظريه في ارجاء المنزل قال له: تبدو بخيركما اظن والمنزل ايضا دبت فيه الحياة. قال له نعم هذا بجهود مدبرة المنزل الجديدة انها تعمل وتطهو بشكل رائع، اطمئن لم أعد وحدي في المنزل.

اصبحت تلاحقها الشكوك والمخاوف من ذلك الرجل خصوصا بعد ان امسك بيدها وحدثت والدتها عن مخاوفها، التي قالت لها لا تدعي الغراب ينعق برأسك ولا تسيئي الظن بالأخرين، فربما حصل الامر بالمصادفة ولاشيء غير ذلك، فانت بعمر ابنته، نظرت الى الساعة لتجد انها اصبحت في الثانية بعد منتصف الليل.

عندما دخلت الى المنزل في الصباح كانت رائحة العطر تملا المكان و الرجل المسن في مكانه وبعد ان القت بتحية الصباح طلب منها ان تعد الافطار وتجلس معه على المائدة لكي يتحدث اليها بأمر مهم، فكرت بأمور شتى وذهب بأفكارها بعيدا والتزمت الصمت وعندما جلست كما طلب منها نظر الى وجهها وقال لها: لقد حلمت بالأمس حلما غريبا اود ان تسمعيه بدون تشنج، لقد رأيت أنك تنامين الى جواري تحت غطاء واحد، كانت صامته وتشعر بالذهول لجرأته فأكمل حديثه معها، لم لا يصبح هذا الحلم حقيقة؟ أنت تعرفين بان وجودك بدد وحدتي واعتدت على الحديث معك وتناول الطعام الذي تعديه، لا تفكري بفارق العمر بيننا انه لن يقف عائقا، سأهبك المبلغ الذي تطلبينه، شعرت بالصدمة وتذكرت احدى صديقاتها التي اصبحت ملعبا لعبث الرجال وضاعت الى الابد.

دفعها كلامه الذي لزم الامر مها بقسوته الرد عليه بغضب مبطن بالتهديد. اهل تظن ان حاجتي للعمل تجعلني استسلم لرغباتك المريضة، واموالك ستجعل مني سلعة رخيصة، لست عاهرة أنا امرأة أكسب لقمة عيشي بكدي ؟.

وعموما سأجعل الجميع يعرف حقيقتك ايها المسن. تفاجئ بردة فعلها ونهض من مكانه باتجاهها وقال اسمعيني جيدا يبدو أنك لم تفهميني بشكل جيد وامسكها من يدها بقوة وحاولت الافلات منه فأمسك بقميصها وبحركة سريعة وقوية مزق قميصها فظهر صدرها الذي يختفي خلف ملابسها الداخلية الخفيفة ودفعها في هذه الاثناء بقوة لكي تسقط على اريكة قريبة وسقط فوقها بثقل جسده ورفع تنورتها وهو ينظر الى بياض ساقيها ويلهث وقال لها سأعطيك كل ما تطلبين لا تفكري بالمال ستكونين السيدة في هذا المنزل، لا تخافي، لا تقاومي، قلت لك لا تقاومي، وصفعها بقوة افقدتها تركيزها واتزانها وشعرت بالضعف امام قسوة هذا المجتمع، قال انه سيقول عنها انها حاولت سرقته ويرميها في السجن، الوقت كان يسرقها ويضعف من مقاومتها له، خرجت من البيت منكسرة ومهزومة وباكية تلعن حظها السيء.

تركت العمل لديه وعندما سألتها امها قالت لها انه ذهب لكي يعيش مع احد أولاده، وبعد مرور ثلاثة ايام زارتها المرأة التي وجدت لها العمل وشعرت بالريبة من زيارتها وبعد ان تبادلت معها حديثا قصيرا قالت لها اظن بان العمل في بيت الرجل المسن كان جيدا وبسيطا ولكنه الحظ السيء الذي حرمك منه، شدها كلام المرأة التي واصلت حديثها بالقول رحمه الله كان رجلا نبيلا وشريفا ورحيما فليرحمنا الله، وكما يبدو فان الرجل قد اصيب بنوبة قلبية مفاجئة ولم يجد من يسعفه، ووجده اقاربه الرجل الخمسيني جالسا على مقعده الاثير كما قال حينما كسر الباب ودخل المنزل وقد سقطت يده اليمنى وبدا هادئا وكانه يستمع للموت اخيرا يتلو عليه نهايته.

***

نضال البدري / العراق

ابتدأت القصة ضحك بلعب. سألتني ابنتي رماح ونحن نقترب من عيادة الطبيب:

- هل أنت واثق من أنني سأطول؟

- بالطبع ستطولين، أنت ما زلت في الرابعة عشرة. أنا واثق من أنك سوف تطولين، قرأت عن هذا في كتاب طبي، الإنسان يطول طوال أيام حياته لكن بتباطؤ يقلّ تدريجيًا حتى يتوقّف أو يكاد في مرحلة مُتقدمة من العمر. ثم إنك لست قصيرة إلى حدّ مُقلق.

- أبي لا تَقُل هذا. أنت تهتم بالكتب. لست طبيبًا على أية حال. كم أحبّ أن أطول ولو بضع سنتمترات، يقولون إنني جميلة لولا أنني قصيرة قليلًا.

أرسل نظرة أبٍ مُحبٍّ طالما أرسلتُها إليها، أقول في سرّى: كم أنت جميلة يا رماح. أغمض عينيّ أراها وهي تقف قُبالة مرآة والدتها في غرفة النوم، كان هذا قبل أيام، كانت تمشّط شعرها، ما إن فتحت عيني حتى رأيتها تمشّط شعرها الأسود المسترسل، كم أنت جميلة يا ابنتي، الحمد لله أنك ولدت لنا، لتضحي قمرًا مُقيمًا في بيتنا. أتصوّرها ترشّح نفسها ملكةً للجمال فيدق قلبي بسرعة غير معتادة.

أسرح في أفكاري تلك، تجلس هي إلى جانبي على مقعد الانتظار، لا يُخرجني من تجوالي في عالمي الرحب الجميل سوى انفتاح باب الطبيب. رماح؟ رماح هنا؟ نرد، أنا وهي بصوت واحد: نعم رماح هنا.

يدعونا الطبيب للدخول، نعم يا رماح، تريدين أن تطولي؟ سيكون لك هذا. لا تقلقي. هناك أكثر من طريقة لتطولي. لا تقلقي. أرى على وجهك الجميل قلقًا. لا تقلقي لديك والد كاتب مشهور وتقلقين؟ لا تقلقي. الآن سأجري لك بعضًا من الفحوص اللازمة، سأصور يدك، كي نفحص ونقارن بعد فترة. هناك فحوص روتينية سنجريها كي نوفّر لك الإمكانية لأن تطولي كما تشائين.

يطلب الطبيب منها أن تسترخي على سرير الفحص الطبّي، تسترخي هناك. يشرع في إجراء الفحوص لها. بتوقّف. يواصل. ثم يعود للفحص، يهز رأسه.

يتوجّه إليّ وهو يحمل بيده سماعَته الطبية. هل سبق وقمتم بفحص لها؟ أبقى صامتًا لا أردّ.. أريد أن اعرف سبب السؤال، يوجد خشّة في قلبها. هل سبق وعلمت بها؟

خشّة؟ في قلبها؟ أتوه في عالمٍ من الصمت. لا أفوه بأية كلمة. أخشى أن يقول لي كلامًا مُرًّا لا أتحمّله فأسقط من فوري. أشعر بقلبي يغادر موقعَه. يخرج ..يبتعد بضع سنتمترات عن صدري. أحضن قلبي بيدي، حتى لا يسقط على أرضٍ لا ترحم. أغمض عينيّ. أغلق عالمي على ما حلّ به من خراب. لا أريد أن اسمع أكثر. لا أريد ..لا أريد. لن أسألك أيها الطبيب المُدواي المزيد. ما دام الأمر وصل إلى القلب لماذا أسألك المزيد. أرسل نظرة آسية إلى رماح أما كان بإمكانك أن تقبلي البقاء قصيرة وتسليم أمرك لطبيعتها، أما كان بإمكانك يا روحي أن تقومي بكلّ ما قمت به؟ آه لو لم أوافق وأصطحبك إلى الطبيب.. آه.

أحمل قلبي بين يديّ. أمشي وتمشي في الأرض، تمشي رماح إلى جانبي، كأنما لم يحدث شيء، وكأنما الطبيب لم يفجّر قنبلة ذرية في وجهى، أوصل رماح إلى البيت. وآخذ في الجري، أجري وأجري وأجري، أردّد بصوت يكاد يختنق، إجري إجري إجري، ودّيني قوام وصلني، دا حبيب الروح مستني. نعم يا عبد الوهاب دا حبيب الروح مستني.

أركض في الشوارع، لا أستوعب ما حصل. لا أريد أن أستوعبه. خشّة في قلبها يا دكتور؟ لم تأت الخشّة إلا في قلبها؟ خلص انتهت رماح؟ انتهى الحُلم الجميل؟ وصلنا إلى البدر في اكتماله ليفارقنا؟ خلص انتهت الرحلة بهذه السرعة؟ وغدًا لن ترسل رماح شعرها قُبالة مرآة والدتها ولن تكون بيننا؟ يمكن أن يحصل هذا؟ بهذه السرعة؟ بهذه السهولة يحصل الكدر؟ أما كان أفضل لي لو لم أرافقها إليك؟

أفتح عينيّ لا أرى سوى العتم. أركض في الشارع وقلبي بين يدي.. لا يريد أن يعود إلى موقعه، لا أرى سوى الصحراء والقحل حولي. ها أنذا أصل النهاية.

ماذا بإمكاني أن أفعل أنا المهجّر المُعذّب؟ ماذا بإمكاني أن أفعل سوى الركض، فلعلّي أصل إلى حلّ؟ تطلّ الحيرة من عيني. يراها الأحباء. يتساءلون ويمضون. وماذا يفيد لو أنني أعدت أمامكم ما قاله الطبيب، هل سيتغير شيء؟ ستشفقون علىّ؟ لا أريد الشفقة، إذا كان بإمكانكم أن تزيلوا الخشة من قلب رماح، سأتحدث أما إذا كنتم عاجزين مثلي، فلماذا أفتح دفتر قلبي وأبوح بسرّ حزني؟

أعود في ساعة متأخّرة من الليل، أرسل نظرة إلى وجهها وهي نائمة في غرفتها، آه يا ملاكي ماذا حلّ بك وبي، غدًا أو بعد غد قد أبحث عنك فلا أجدك لأنك غادرت إلى عالمك الآخر.. عالم الظلام، ماذا ترى بإمكاني أن افعل وهل أنا أشطر من شاعرنا المتنبي؟ المتنبي حين وقف عاجزًا أمام حالة مشابهة، فخاطب عزيزته الراحلة قائلًا: هبيني أخذت الثأر فيك من العدا فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟ قاتل الله الحمّى، وقاتل الله الخشّة حين تغزو قلب من نُحب وتهوى قلوبنا.

أصعد في الليل إلى تلّ الصرخات، لعلّ أحدًا يستمع إلى نداي، أصرخ يردّ الصدى. ويل لهم قالوا لي إقرع يُفتح لك هذا أنا أحمل قلبي وأقرع، إلى متى سيطول هذا العذاب؟ أما آن لي أن أرتاح؟ أما آن لي أن أفيق لأجد أن ما كان لم يكن سوى وهم، كابوس مزعج مضى ومرّ، كما يمرّ الظلام على البسيطة؟ أما آن؟

يمرّ الليل الأول وأنا اصرخ، أعرف أن هناك من سيستمع إلى صراخي، والله انني أعرف لكن إلى متى سأنتظر؟ وما هو المطلوب مني؟ ما هو المطلوب منّي لأخرج بأقل ما يمكنني من خسارة، كما فعلت دائمًا؟ أنا الرجل المهجّر، أعرف حين أشعر بالخسارة أنني يجب أن أدفع نصيبي فيها. قد يكون هذا النصيب من المعرفة موروثًا. أبي حينما أدرك أن الخسارة طرقت أبوابه، وأن اليهود جاؤوا بدبّاباتهم وطائراتهم ليستعيدوا ارض الميعاد من سكانها الأوباش العرب، سلّم أمره، ومضى يضرب في أرض الله الضيقة، هاربًا من اليهود. لم أكن حينها ولدت، لهذا لم أره، أما اليوم وقد أضحيت كاتبًا وذا خيال خصب كما يقول معظم المحبّين وهم ليسوا قلة، فإنه بإمكاني أن أتصوّر أبي وهو يمسك بيد أخي الأكبر ويستحثه قائلًا هيّا يا ولدي لننجو بجلدنا، البلدة ذهبت على الأقل نبقى نحن حتى لا يضيع الحلم ويتلاشى في عتمه. لا لن أخسر المعركة يا أبي. سأبذل مثلما بذلت سأحمل رماح بأسناني، سأطير بها إلى عوالم لا مرض فيها ولا احتمالات موت، لن أدع الموت يأخذها منّي كما أخذوا منك بلدتك، سأطير بها. لكن أين ستطير يا ولدي؟ السماء ضيّقة. سأطير يا أبي هذا الضيق في سمائنا سيكون كافيًا لأن أحلّق بها وأطير عاليًا. لا تطر يا ولدي، الأفضل لك أن تواصل صراخك على تلك.

أعود في الليل التالي. حاملًا قلبي وحزني، أعود إلى الصراخ، لا أحد يردّ، في الليل الثالث، أواصل الصراخ، يـُطلّ جنيّ من سُدف العتم، لقد أقلقتني. السمك نام في البحر وأنت لم تنم؟ ماذا تريد؟ الخشّة في قلب رماحك تصيب ثلاثة أرباع الأطفال، عندما تطول ابنتك وتكبر قليلًا ستذهب الخشّة وستولّي أثارها، نم الآن ودعني أنام، ثلاث ليالٍ وأنا لا أنام، دعني على تلّتي أهيم.

تنتابني سكتة مَن نفد بجلده، مَن أدرك أن الخسارة المحتّمة باتت وراءه وليس أمامه. يعود قلبي إلى موقعه بين أضلعي، أمشي بسرعة أسرع أكثر فأكثر تنبت لي أجنحة فأطير باتجاه البيت، أقف على شبّاك غرفة رماح، أرسل إليها نظرة استطلاع. أراها تبتسم، ما أجمل البيت بلا خوف أو مرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

القسم (4) من: ذكريات من رماد

4ـ رفقا بالقوارير.. (حادثة عارضة بعد ثلاثة اشهر من زوجهما)

دلف الى مكتبه بعد حديث قصير مع كاتبته وكأنه يوصيها بشيء، ثم حرك راسه لحارس المتجر كاشارة تعودها منه الحارس لجلب قهوته الصباحية..

كان ظهره لباب المكتب، موليا وجهه لخزانة حديدية، حين سمع بكرة الباب تدار، دون أن يلتفت قال:

حليمة دعيني ارتاح أولا، الم اقل لك اني مرهق؟

من خلفه رد صوت: طيب، وانا أنتظرك حتى ترتاح.. .

بسرعة التفت حين أدرك ان الداخل عليه لم تكن حليمة كاتبته.. ما أن رأى الزائرة حتى هل وجهه بضحكة واسعة، ترك ما في يده وهرول إليها يعانقها ـ

أهلا للاحماتي العزيزة.. هذا صباح مشرق سعيد ان تكوني اول من يدخل مكتبي.. الخير آت لامحالة..

سحب لها أريكة وأشار عليها بالجلوس، ثم استوى قبالتها على أخرى.. رفعت نظارتها الشمسية على رأسها.. ورمت البصر على المكتب كأنها تتفحص محتوياته..

ـ دقيق في كل شيء.. فاناقته تطول حياته كما تمتد لمكتبه.وهذا مما يعجبها فيه..

ظهور حماته حسسه بالانسلاخ من عيائه وأن ما به من تعب قد بدأ يتلاشى، فأنشراح حماته ووجها الضحوك قد رمى عليه رداء من راحة كان يفتقدها وهو يلج باب المتجر منذ قليل..

أنيقة كعادتها، ماكياج خفيف يزيد لوجهها تألقا، وقد ارتدت جلبابا شبحي اللون، وعلى جيدها لفت شالا بنفسجيا فاتحا، وانتعلت حذاء رماديا نصف عال..

حين فتحت فمها لتكلمه بادرها:

ـ لقد طلبت قهوة قبل دخولي، ماذا تشربين؟

قالت مازحة:

ـ لهلا يجعل حبابنا ينساونا الا بالخير: أنسيت ما أفضل؟

بسرعة رد: لا لا حاضر.. كيف أنسى وانا أحتفظ لحماتي بألذ وأجود ما وصل الى متجري من أنواع الشوكولاطة..

قام وطلب من الكاتبة حليبا بشوكولاطة ثم فتح دولابا على يمين الباب واخرج منه علبة ذهبية قدمها لها..

كم اسعدها أن تجد على العلبة حرفين من حروف اسمها مما يؤكد أن العلبة كانت مخصوصة لها..

وهو يجلس على الاريكة قال:

ـ خبريني أولا كيف صار حماي العزيز مع الضغط والسكري؟ سلمى بخير؟ هل ارتاحت نفسيا؟

ركزت فيه نظرة قرأ ما وراءها من عتاب.. تنهدت وقالت:

ـ الكل بخير وانت أحق منا بالسؤال عنك جميعا..

كنت أظن أن بعد سفر الحاجة لن تجد بيتا غير بيتنا، لكن ربما أحبابنا وجدوا غيرنا.. سوء تفاهم حدث بينك وبين سلمى ونحن ما ذنبنا؟

أدرك انها تجامله ومجاملتها مبطنة في عتاب، فهي تملك لسانا رطبا، وقدرة ديبلوماسية على بلوغ ما تريد. بارعة في توطئات تجعلها دوما منتصرة، وكما يقول عنها حماه: "سياسية في البيت لا تقهر"..

هو نفسه ليس جديد عهد بمعرفتها، هي أم المرحومة زوجته الأولى كما انها ام زوجته الثانية بعد المرحومة.. يعيها جيدا ويعرف مدى حبها له، ويقدر هذا الحب وكما يقول دوما:

ـ جميع الناس لهم أم واحدة، ولي اثنتان، لا استطيع أن أميز بين أم وأم..

ركزت النظر في عينيه كأم تحسس ابنها بثقتها وإعجابها قالت:

ـ سعد بلا مقدمات.. سلمى تريد العودة الى بيتها.. بربك ألم تشتق اليها كما هي اليك قد اشتاقت؟ بنتي فاض صبرها، أما ابني فعنيد استحلى برودة السرير.. أو الفى في أحلام الليل مايغنيه عن دفء العناق؟ !!..

يعرف أنها أنثى متفتحة وأنها لاتتورع في ضرب مثل اذا كان المثل طلقة تصيب به الهدف، وكلماتها أتت كأنها تيار بارد هز نفسه وعليه أن يدقق في كل كلمة قبل ان يتفوه بها حتى لا تمسكه من لسانه، تنهد ثم قال:

ـ وهل خرجت سلمى من بيتها حتى تعود اليه؟

أدركت انها أمام رجل لم يقطع حبل الود، رجل بقلب كبير، يتصرف بعقل وتقدير، وأن حبها له هو حب لقلب لا يعرف معنى الكراهية، سوء فهم ربما تسرعت سلمى في الحكم عليه..

"لا حاجة الى تعليق وانما حاجتي الى مشاعر تحسس ابني اني أكبر فيه هذا السلوك.. فنعم من ولد ونعم من ربى.. "

هي لم يرزقها الله الا ببنتين، وها هو ابن لها لم تلده جدير بالافتخار، هو عطية من الله الكريم أن يكون زوجا لابنتيها معا، فقدت الاولى اثر اول وضع لها، وحرصت على أن تكون الثانية عوضا باتفاق مع والدته حتى تسهر على تربية بنت أختها المتوفاة.. .

أحس كل منهما ان دمعات تسابق العيون فتعانقا..

قالت وقد هدأت قليلا: لن اعلق لكن سننتظرك على العشاء الليلة..

مسح الأرض بعينيه وقال:

ـ أنا ماتعودت من المرحومة ضحى أن تغضب أو تحكي عما يحدث بيننا من سوء تفاهم، ولا تعودت منها أن تهدد بمغادرة البيت، فحتى حين كنت أمزح معها بالقول:

ـ سيري علي لدار باك وهنيني كانت ترد:

"ابي لما سلمني اليك، اقسم بالطلاق الا اعود اليه ابدا، فلابيت لي الا هذا ".

لكن سلمى غير المرحومة، وكأن كل واحدة منهما قد تلقت تربية مخالفة عن الأخرى رغم الطبيعة المنقوشة.. وحين قالت سلمى "اني ساذهب الى بيتنا" كان ردي:

ـ لوذهبت فلن أتبعك.. عبارة قوية لن أنكر.. لكن وحق الله كنت اروم منها صد ما بعدها..

حماتي العزيزة، نحن لم يمر على زفافنا أكثر من ثلاثة اشهر، فبماذا سننتهي إذا بدأنا بالشك وجرجرة الكلام..

كانت الحماة على وشك الوقوف لتنصرف لكن رده جعلها تتحرك في مكانها قبل أن تستقيم، وقد ترنحت من كلماته ألتي أخافتها، نقرت بوسطاها على مكتبه علامة على قلق جاهدت أن تخفيه عنه ثم قالت:

ـ سعد حبيبي، أولا عبارتك قوية لا يمكن أن تصدر من رجل واع ومثقف أبوه يرحمه الله كان لا يكلم امه من عشق الا همسا، وأمه كانت عاشقة متيمة بابيه.. ضحى ياسعد لم تلاحظ عليك يوما ما يقلقها، فبمجرد ما استيقنت من حبك وخبرت تعلقك بها، أتت اليك خاطبة لتكسر تقاليد مجتمع بكل تركيباته وطقوسه، وأنا من شجعتها على ذلك، لاني كنت اعرف معدن وسمعة الأسرة التي سنصاهر، لكن سلمى أتت وفي حياتك أختها من قبلها، وغزت حياتك أخريات بعد موت أختها ؛ ضحى كانت محامية وشاعرة تقرؤك وهي تفتت بواطن الكلمات أما سلمى فعقل رياضي يتغلب فيه المنطق عما سواه ؛ مع ضحى لم تكن لك علاقات مع بنات منتديات عربية تستحوذ العاطفة عندهن على القلب قبل العقل، وتتحول الصداقة لديهن حبا يولده غرور الثقة، فيعشن خيالات الوهم.. سلمى لا تعرف شيئا عن عادات وسلوكات الشرق، وانت نفسك ما تعرفت على الشرق الا من خلال تخصصك الدراسي ثم عبر المنتديات العربية التي أدمنت عليها بعد موت ضحى التي لم تقرأ لك رسائل حب شرقية من بنات المنتديات..

أدرك ما تلمح اليه، وحيث انه يعرف صراحتها وصدقها، وان ما تقوله هو مجرد تذكير بما أثر في سلمى وفي صدرها قد حفر قال:

ـ لقد حاولت أن أشرح لها الواقع لكنها لم تحاول أن تقتنع، أوربما تسرعت في اتخاذ قرارها..

قالت: أي واقع؟ سلمى لا تتسرع ولم تحك عن أي شيء، ولو حكت لعرفت كيف اقنعها بوجهة نظرك لاني خبزتك كثيرا واعرف عجيني واصالة خبزي، سلمى احبتك بعيون مغمضة، وماعرفت غيرك في حياتها.. سلمى تنازلت عن وظيفة سامية من أجلك وفضلت ان تؤسس عملا حرا على ان تبتعد عنك، وانت تدرك هذا، ألست من شجعها وساعدها ماديا ومعنويا؟.. تربية سلمى وثقافتها علمتاها ان الابيض ابيض والاسود اسود ولا مكان بينهما لمنطقة رمادية.. كل بنت تشب وفي حياتها شاب أو أكثر، لكن سلمى شبت ولا رجل يتملكها غيرك..

ماقرأته سلمى على حاسبوك هو ماحرك غيرتها بل أجبرها على غيرة لم تكن تعرفها، خوفا على حب تتنفسه كهوائها، وعلى بيت تصونه كذرة من ذراتها، وقلقا من أنثى تراسلك باستمرار، وتناديك حبيبي، وتعد مراسلتها خيانة منك لوفائها..

بادرها محاولا ألا يضعف أمام كلماتها

ـ ابدا ليست خيانة ولن تكون..

اليه رفعت البصر في نظرة تلميح وقلق ثم قالت:

ـ وماذا تعدها أنت؟ صداقة بريئة من أنثى عربية؟ لو لم تتعود طبع فتيات المنتديات العربية لصدقت لكن.. صمتت قليلا ثم استرسلت وقد استاءت من رده:

ـ سعد !.. ألايلزمك قطع هذه العلاقة حفاظا على سعادة بيتك، وكرامة أنثى أحبتك منذ طفولتها؟.. سعد !.. أستغرب لاقوالك هذه.. ما بك؟واي شيطان يتلاعب بعقلك؟

تنهد ثم زفر وقبل ان يرد وقف ليتسلم ما طلب من كاتبته:

ـ ابدا لن استطيع قطعها فانا عن تلك الأنثى مسؤول؟

انفلتت منه العبارة وهو لا يدري كيف يبررها، هل معناه يضع نقطة نهاية لحياته الزوجية؟

بسرعة شرع يبحث في مخزونه الفكري عن تبرير يقنع حماته ولا يفضحه أمامها.. استغربت الحماة من رده، وقد تفاجأت بغرابة ما تفوه به رجل تعتز بعقله وحكمته:

ـ هل تدرك ما تقول سعد؟ معناه تضع حدا لأنثى يكاد حبها يكون لك عبادة؟ هل تدري ان سلمى قد تنتحر. لو سمعت هذه العبارة.حرام عليك.. كاني امام رجل لا اعرفه.. أنت ابني حقا، لكن سلمى بنتي كذلك..

ادرك أنه في وضع لم يحسن فيه التعبير، وقد صار امام حماته في حرج خصوصا ونظراتها تخترق دواخله بتحذير، تفسخ كل جزيئة فيه بتشريح ومن وراء نظراتها نظرات أخرى حية وميتة.. شرع يبحث عن كلمات تسعفه ليوضح الوضع، وقبل أن يفتح فاه للكلام قالت حماته:

ـ سعد انا امامك بين قولين.. من لحظة قلت: هل خرجت سلمى حتى تعود.. والآن اسمع انك لا تستطيع قطع علاقتك بالأخرى، فهل تريد الحريم في بيتك؟ لا اظن أن بيوتنا تبيح الحريم، ولا أظن ان في وطننا أنثى ترضى أن تشاركها أخرى زوجها..

ادرك ما تقصد، فهي متيقنة أنه لن يكون شرقي النزعة فبادرها بالقول:

الانثى التي تتكلمين عنها تعيش في وطن اشل زوجها بقذيفة، وجعل ابناءها الثلاثة عرضة للتشرد وربما الموت، وانا تعهدت بنفقات دراسة الابناء ويشهد الله اني لا اعرف غير عنوان خالتها وعليه أراسلها، ولست ممن يرضى لنفسه أن يكون طائرا يشارك غيره في نقر كرزة واحدة.. أنا فقط فاعل خير، ومن هذا السلوك بدات السيدة تناديني أخي حبيبي..

كأن يتحدث وفي صدرة ألف توسل لله أن يغفر له كذبه، هو حقا لم يلتق بمن يتحدث عنها، لكن يعرف كل شيء عنها من صورها، من حديثهما اليومي تقريبا..

كانت يده اليسرى على حافة مكتبه وهو يتكلم، مدت الحماة يدها ووضعتها على يده كأنها تؤمن على كلامه وقد أوعزت اضطراب يده الى انفعاله الزائد ثم قالت:

ـ اهدأ سعد.. صدقتك، لكن لماذا لم تخبر سلمى؟، لماذا لم تشاركها في قرارك كما تعودت؟

وضع يده اليمنى على يدها وقال: وحق حب الامومة الذي ينفثه صدرك في صدري والذي لا أميزه عن حب الحاجة لي اني أخبرتها وظننت ان الامر صار عاديا بالنسبة لها.. لكن يبدو ان التعبير كثيرا مايخونني حين يتعلق الامر بالحديث عن نفسي أو عن خير اقدمه لوجه الله.. وأفضل ان يظل مستورا..

ـ لا هي صراحتك وثقتك بنفسك.. أعرفك سعد ,اصدقك انت ابني واحمد الله اني لم ألدك والا لما وجدت شابا مثلك لابنتي..

كلماتها اعادت اليه بعضا من هدوء، ربما قبسا من اقناع.. لا يدري..

أوربما كانت تريد ان تنفخ الطمأنينة في صدره، ورغم البسمة التي تملأ محياها فقد كانت عيونها تقول أكثر مما يتلفظ به اللسان، عيونها حب وتحذير، سعادة وقلق، حيرة وخوف عليه من ان يكون مستغلا ممن تكاثروا على بوابات التواصل الاجتماعي بالادعاء والكذب والايقاع بالناس، فالناس صاروا طباعا واحوالا، فسلوكه مهما كان غريبا الى حد ما فهو يبدو مقبولا خصوصا وهي تعرف سوابق له وللمرحوم والده في مجال الخير ومد اليد، حتى أمه جعلت جزءا من دخلها الشهري وقفا على إحدى دور العجزة..

بقدر ماكانت حماته تحت وقع المتناقضات كان هو يدرك أنثاه المشرقية، يعرف حبها وتعلقها به، يعرف أن زواجها كان غصبا وتحكما قاهرا من والدها، يعرف كم بحثت عنه بين المنتديات كي تجد له اثرا فقط لتعتذر حتى لايظل حانقا عنها غاضبا.. .لايمكن أن يداخله شك في حبها..

تطلعت حماته الى ساعة يدها ثم قالت: تأخرت سيظل حماك بلا غذاء اليوم..

هم أن يمسك بيدها لكن خشي أن تحس اضطرابه مكتفيا بوضع يده على ذراعها اليمنى وقال:

ـ لا لن تهيئي غذاء، سنتغدى جميعا في ضيعتنا فموسم جني التفاح والبرقوق قد بدا.. انتظري..

اخرج هاتفه وكلم المشرف على الضيعة أن يذبح خروفا ويهيئ الغذاء، ثم التفت اليها وقال:

ـ سنلتقي على ارض محايدة ومريضنا ماعنده بأس.

كان يريد الا يتركها تنصرف الا وفي عقلها رسالة واضحة تبلغها لسلمى، وضع يديه على كتفيها وقال:

ـ لو أدركت سلمى أن هذا الصدر لا يهتز الا بها لما اقامت قيامة حركتها غيرة طائشة، ما كنت أظن أنها تنمو خفية في صدرها.. مهما بلغت أنثانا من وعي وثقافة فلن تمحي لها خصوصية..

ـ هي فطرتنا يا سعد ورغم ذلك فغيرة سلمى غيرة عقلانية من قلب صاف سليم..

عانقته وبوادر دمعة لمعت في عينيها: أنت عندي حب وتقدير ياسعد وعند حماك قدوة ؛وانا وهبتك جوهرتين واحدة بعد الأخرى لاني اعرف أصلك وفصلك فلا تعذب سلمى بعناد، فهي ما تبقى لي وعليها أأتمنك..

ضحك وقال:وأنا؟

ـ والله انت أثمن الجوهرتين وافضل مافيهما من لمعان، ولكن رفقا بالقوارير..

قال وقد بدأ يستعيد بعضا من هدوئه:

ـ صدقت.. وانت من القوارير أما وحماة، ومدافعة عن سعد وملينة مواقف..

ضحكت لعبارة استنجاده، عانقته وقالت: آه منك ومن لسانك يافلذة كبدي !!..

حين انصرفت هاتف والدته المسافرة في زيارة لعايدة ابنته في بوسطن وزف لها الخبر عساها ترتاح مما اصابها بعد سماع ذهاب سلمى الى بيت أهلها.. حتى أنها منعته من الاتصال بها الا بعد عودة سلمى الى البيت..

قالت:

ـ انت ماعدت سعد الذي ربيت، ومن غيَّرك أعرفه، وسأعرف كيف أعمل حدا لابالسة حياتك من حولوها الى خريف وخرافات قبل الأوان..

أدرك ما ترمي اليه والدته فهي لا تغيب عنها شاردة، قد لا تتدخل في حياته ولكنها صارمة فيما قد يغير وجهته نحو مالا ترضاه، وحين يبلغها أن سلمى البنت التي أحبتها وسهرت على ألا يكون غيرها بديلا لابنها قد غادرت البيت فمعناه أن ابنها قد غيرته ظروف خارجية استغلت غيابها ويلزمها ان تقف بالمرصاد لكل دخيل قد يشتت لحمة أسرة كانت متوائمة أبدا.

وصل سعد متأخرا الى الضيعة فقد حبسته بضاعة وصلت متـأخرة وكان يلزمه البقاء الى ان تدخل بأمان الى المخازن حتى أن حماه قلق عليه وهاتفه مرتين..

كانت حماته تدردش مع أحد الفلاحين، أما حموه فقد كان يقرأ جريدة مسائية تحت ظل شجرة تين وارفة..

كانت عيونه تبحث عن سلمى بشغف وقد لمحها تمرق من نافذة المطبخ، فما أن اشار على احد الفلاحين بافراغ ما في الصندوقة الخلفية للسيارة حتى اقبلت سلمى وفي يدها بريوة صغيرة ألقمته اياها وهي تضحك ثم ابتعدت..

هي بريوة بلوز وعسل ورمزيتها كبيرة جدا فهي تورية للذوق والتمييز والصمت كما انها رسالة حب تقول الكثير.. أدرك الدرس الخلفي الذي مارسته حماته..

كان يتمنى ان تعانقه، أن يضمها اليه، لكن فضلت الاشارة والرمز على الفعل، رآها تدخل احدى الغرف فلحق بها، ما أن ولج باب الغرفة حتى ارتمت عليه، وشرعت تبكي..

ـ ما ظننت ان حبك يفتر الى هذه الدرجة ياسعد.. ظننتك ستلحق بي من اللحظة التي غادرت فيها البيت، ماذا فعلت؟ خفت عليك من غيري. !!. سعد حبيبي أنا أحببتك بلا مكان ومنك تعلمت كيف أتحرر من الزمن، احببتك كما أعبد ربي ثقة وصدقا واخلاصا..

حين فتح فاه ليرد عليها وضعت يدها على فمه، ضحكت وقالت:

ـ البريوة في فمك فضمني وهبني من فمك قطعة، لم يقع أي شيء يستلزم حوارا وشروحا، ربما أخطأت وفي لحظة ضعف انهارت ثقتي..

ضمها اليه وغابا في قبلة كان نداء حماته صحوة منها.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

(بعيداً عن العصبِيّةِ، قريباً من الأمميّةِ)

استهلالٌ لا بدَّ منه:

1 - كتبْتُ القصيدةَ بتاريخ 14 شباط 2000 ردّاً على أحد المثقفين الكردستانيين البارزين، حين انتقد في مقابلة على فضائية كردستان في حينها الكُتّابَ الكرد الذين يكتبون بلغة أخرى غير لغتهم، الى حدّ الاتهام بالخيانة. كان يقصد الذين يكتبون بالعربية، أو بالتركية، أو بالفارسية. وبما أنّه ناشَني سهمٌ منْ سهامه؛ لأني أكتب بالعربية فحسب - أحسستُ بغصّة ألم عميقة. انزويتُ بعدها في صومعتي، وكانت الساعة تشير الى  منتصف الليل تماماً ؛ لأبدأ في الكتابة حتى الساعة الرابعة فجراً، حيث اكتملت القصيدةُ بمقطعها الأول.

2 - (المقطع الثاني) إضافةٌ، كتبْتُها الأربعاء 28 نوفمبر 2007 بعد قراءتي لمقالة د. فيصل القاسم "ليس دفاعاً عن العملاء الصغار ... ولكنْ" التي اتهم فيها الكرد - تعميماً بلا تحديد - بالخيانة ، على موقع صحيفة دروب الثقافية الألكترونية في 27 نوفمبر 2007 .

***

نصُّ القصيدة:

سجِّلْ أنا كردي

(1)

هذا أنا،

رحْتُ أديرُ الصوتَ في الآفاق:

إنّي ما رسمتُ صورتي بيدي

وما لوَّنتُها يوماً، وما أطَّرتُها ،

فهيَ المصوَّرةُ الملوَّنَةُ المؤطَّرة،

بلا رتوشِ في الأعالي.

هذا أنا،

أيقظني في لحظةٍ ذاك الصدى في حضنها،

وفرحةُ الأصواتِ في الأرجاءِ

في اللوحةِ، في الوجهِ،

فكانتْ صرخةً أولى،

وكانتْ لغةً أولى،

فمارسْتُ لسانَ الحبِّ، عاشرتُ لهيبَ الشمسِ،

داومتُ صهيلَ الوجدِ في الأزقةِ المعروقةِ الأوجهِ،

نازلتُ نزيفَ القُبلةِ الأولى، رحيقَ القِبلةِ الأولى،

دبيبَ القمةِ العاريةِ السفحينِ،

سجِّلْ،

لغةً أخرى ، كتاباً، أسطراً مشرقةَ الأحرفِ،

أقراناً ، زقاقاً ، شارعاً ،  مدرسةً ، مكتبةً،

مقهىً، وحاناتٍ،

وهذا الثمرَ الجنيَّ من مزرعةٍ مسحورةِ الظلالِ،

والجنانُ حبلى عسلاً، خمراً من الأنهارِ.

سجِّلْ:

قد رأيتُ الناسَ مشدودينَ، منزوعينَ

عن صاريةٍ بينَ شعابِ الجبلِ المرتدِّ

والمعتدِّ، والألغامُ  ، والأسلاكُ.

والنيرانُ في الأقدامِ، والأطفالُ

والأيدي تخوضُ الصخرَ والطينَ،

واشلاءٌ عرايا .

*

هل رأيتَ الشوكَ في صدر صبيةْ وشظايا

وعرفتَ الرعبَ في الأفئدةِ العذراءِ، أفواهَ المنايا ؟

*

فتحتُ بابَ الكتبِ الأولى ،

قرأتُ أنَّ الحبَّ في الجذورِ يروي أفرعَ الأغصانِ،

أنَّ النبعَ لا يجفُّ إلا في صحارى المدنِ المغلقةِ الأبوابِ،

إلّا في اقتلاعِ الخيمِ والديوانِ في أروقةِ الأطلالِ،

والقوافلِ المدججةْ.

والشاعرُ المنفيُّ والمهجورُ والحادي ينادي:

إنني صوتُ القبيلةْ

جذرُ الأصيلةْ

حتى وإنْ كنتُ على قائمةِ الشيوخِ مولىً

مارقاً ، مرتزقاً، مثصَعلكاً ،

فأستحقُ أبشعَ العقابْ!؟

*

سجِّلْ،

أنا كرديّْ،

لاقيتُ صلاحَ الدينِ في القدسِ

وفي تكريتَ، في دمشقَ،

في القاهرةِ الظافرةِ المنتصرةْ،

رأيتُ في عينيهِ جَمراً بارقَ النارينِ

فوقَ رأسِهِ خوذتهُ، في كفّهِ السيفُ،

وبينَ صدرهِ الكتابُ والنجمةُ والهلالْ،

وخلفه الخيولُ والرجالْ.

*

يا ايُّها الموصولُ في الأعراقِ،

في الأحداقِ،

في التاريخِ يروي بذرةَ المأمولِ، والمجهولِ،

والدائرِ ما بين جبالِ الثلجِ،

طارتْ ريشةٌ منْ جنحكَ الخافقِ

فوقَ الغيمِ في هوليرَ ، لم تهبطْ على العينينِ

لم تلمسْ هوى القلعةِ،

بل ظلّتْ تدورُ في سماءِ الظلِّ

في بطنِ سحابِ الكتبِ المحصورةِ الأبوابِ،

ما صارعتِ الرقصةَ في الأشباحِ

تهوي في جذورِ البئرِ فوقَ تربةٍ  تغفو على

جمراتِ كانونٍ لحدادٍ يقودُ الأخوةَ الأبرارَ

نحوَ القمةِ السوداءِ،

يرويها ضياءاً منْ لهيبِ النارِ،

والمطرقةُ الحمراءُ في الأيدي مَسلَّةْ.

*

يا ايُّها الموصولُ في الأعناقِ،

في مقهىً على ناصيةٍ بينَ ربى الوديانِ

بينَ الثلجِ والخريرِ تحكي قصةً

للبطلِ الذي ارتدى عباءةً، كوفيةً،

ولم يقلْ: سجِّلْ أنا كردي!

*

سجِّلْ،

أنا كرديُّ،

ما ارتديتُ يوماً صورةً بالزيتِ والألوانِ

أو ساريةً ترفعُ أعلامَ الحواريينَ في شوارعٍ

تصطفُّ في أبوابِ أهواء الشيوخِ والملوكِ،

والأئمةِ الساهينَ عن صلاتهمْ!

سجِّلْ،

فإني ما ارتديتُ عُلبةً زخرفتُها، زيَّنتُها؛

لتصبحَ الوجهَ القناعْ!

سجِّلْ،

فقدْ أعلنتُها بينَ الوجوهِ السُمرِ والشُقرِ

وقدْ أعلنتُها فوقَ رؤوسِ الأخوةِ الأشهادِ،

والأعداءِ:

إني ما ارتديتُ جبةً، عمامةً، عباءةً،

أو صولجانْ.

**

(2)

هذا أنا،

افتحْ عيوني!

أشرع الأبوابَ تحتَ الجلدِ، وانظرْ!

سترى الجبالَ والوديانَ والسهولَ والحقولَ تزهو

وبيوتَ الطينِ والقصبِ وأهوارَ الجنوبِ

والنخيلَ والأنهارَ تجري في شعابِ الروح ،

هذا دجلةُ الخيرِ، الفراتُ، الزابُ،*

هذا بردى ينسابُ من بين العواصف يلتقي الليطاني والأردنَ،

والنيلُ يضمُ شِعريَ المنثورَ كالأضواءِ وسْطَ الماءْ

يومَ اشتدَّ في سيناءَ ضربُ النارِ، فاهتزَ الفضاءْ،

فتهاوى الخطُ وانسابتْ على الرمل الدماءْ،

عندها حقَّ الغناءْ،

وهنا..

ذاك سفينُ النارِ يحكي قصةَ الأوراس،

وهناك ....

تلك صحراؤكمو الكبرى تناغي ضلعيَ المكسورَ

في القدسِ، وفي صبرا ، شاتيلا، وحلبجةْ.

*

هذا أنا ،

افتحْ ضلوعي تجدِ التاريخَ لوناً واحداً

منْ وَهَجِ الشمسِ ، ومنْ آدمَ يومَ انكشفتْ عورتهُ

حينَ استباحَ حرمةَ البستانِ والأمرِ،

فتاهَ في عراء هذا الكونِ،

قابيلُ وهابيلُ توالى نسلهُمْ في الأرضِ،

*

هذي الأرضُ خذْها بصراخ الصوتِ!

ماكانَ صراخُ الصوتِ إرثاً. قالها الروحُ:

فطوبى للوديع الطيبِ البريء فهو الوارثُ الأرضَ،

فلا السيفُ ولا العرشُ بباقٍ

فوق سطح الكرة الأرضيةِ الواسعةِ الأحداقِ والأشداقِ،

لا الكرهُ رغيفٌ في فم الجائعِ والحافي،

ولا زيتٌ يصبُّ النورَ في الظلمةِ،

والبهجةَ في الحرفِ، وفي الانسانِ!

طوبى لنزيل الجنةِ العظمى سليل الأنقياءْ!

طوبى لغسيلِ الروحِ منْ أدرانها!

طوبى لكلامِ الحبِّ والصدقِ كلام الربِّ في عليائهِ!

طوبى للذي أوقدَ في ظلمةِ هذا الليلِ شمعاتِ المسرة!

طوبى للذي يحفرُ في القلبِ موداتِ براءاتِ الطفولة!

طوبى لنبيِّ الرحمةِ الصادقِ والأمين والناشر في الأرجاءِ إشراقَ الجبينْ!

طوبى للذينْ

لا يوقدون النارَ والحريقَ في أرجاء هذا الكون!

طوبى لكلامِ الحبِّ والألفةِ والغار على جبهتنا المحترقةْ!

هذا لساني ملحماتُ الصوتِ،

والوجهُ بانوراما على الأرواحِ،

أقداحُ نبيذٍ من فمِ الأرضِ تروّي ظمأ النسلِ

إلى قارورةٍ من صدرها الملآن بالجَمْرِ وباللسعاتِ،

بالدفء، فنقطفها معاً،

إشبكْ مواعيدي مع الوعد القديمِ: لافرقَ بينَ...إلّا...!

وبينَ الوجهِ والوجهِ!

واسمعْ،

نبضَ الفؤادِ في خريرِ ماءِ الشرقِ

وهو يصبُّ خمرَ العشقِ في كأس الهواجسِ،

علَّ فؤادكَ المكلومَ يُلغي النارَ،

يحضنُ إلفَـهُ في القمّةِ الشمّاءِ،

حيثُ الريحُ تصفرُ في صخورِ الهَمِّ،

سيزيفُ يعيدُ أسطرَ التاريخِ، والقصةَ منْ أولها

حتى التحام الإلفِ بالإلفِ،

وحتى يستريحَ القلبُ من صخرتهِ المثقلةِ الآمالْ.

***

(عبد الستار نورعلي)

قالوا نسيتَ فسال  دمعُ

وشكى حريقَ  القلبِ ضلعُ

*

وتنهد القلب الحزي-

ن غضاضة واشتد جزعُ

*

حدِّقْ بمرآة الوجوه

فليس في المرآة صدعُ

*

لكن لفقدك ما انتشت

روحي و لا قد مال فرعُ

*

صدعٌ تصدعتِ السنينُ

بفقده  وتناءَ جمعُ

*

يا ويل قلبي كيف ينس-

ى جرحه والجرح نبعُ

*

تمضي السنون ونحن في

كمدٍ وليلي بعدُ نزعُ

*

***

(2)

*

قد تبصرون على محيا الوجه ضحكا ..

وترون  حول الوردِ شوكا

وترون انغاما على الاعواد تصدحْ

وترون اطيارا على الاغصان تمرحْ

فانا اداري الصمتَ بالصمتِ لعلي عائدٌ يوما لبيتي

ولعل يحضنني الضحى  ويعود لي من كان صوتي

ابداً سيبقى صوت قافيتي يغني

لا شيء يطربني اذا هرم المغني

فانا ابن هذا الحزن مذ ضيعت ظعني

واليوم لما صرت كهلا صار هذا الحزن إبني

فلمن أغني؟

ولمن اشد رواحلي*؟

قلبي شهيد الظنِ

ليتَ غدي سيُجلي باليقين ظلامَ ظني

***

د. جاسم الخالدي

قبل ليلة واحدة فقط إتفقنا أن نلتقي مصادفة، في سوق الغزل. حيث يبيعون القطط والكلاب والطيور وبعض أنواع القرود والثعابين. قال لي: (أطياف..عندما تريني واقفا قرب برج الحمام الكبير ذي اللون الأخضر في السوق، تظاهري بأنك متفاجئة، وأنا سأفتح فمي من الدهشة، وأقول لك يالها من مصادفةٍ مذهلة! ثم سيجري كل شيء على طبيعته).

وافقتُ على فكرته بلا تردد، وأمام المرآة تدربتُ على دوري قليلاً قبل أن أخرج من المنزل. كنتُ مصمّمةً على فهم كلّ شيء عندما ألتقيه. هذه المرة يجب أن يكون صريحاً ويكفُّ عن العبث.

‏قميص أزرق فاتح، وبنطلون جينز، وقبعة رمادية تغطي رأسه وجزء من جبينه، كان هو هناك، ملتفتاً ناحية طيور الحمام، يدقّ بأصابعه على القفص، ويهمس بكلمات ما.

‏- اوووه .. كمال! يا للمصادفة العجيبة!

‏- آه ..عزيزتي أطياف! كيف حالكِ؟ إنها بالفعل مصادفةً مذهلة! تعالي شاهدي ذكر الحمام هذا ..يبدو غاضباً، لكنه جميل.

‏- إنه جميل حقا..لكنه قد يكون أنثى!

‏بدا كأنه يفكر، هو دائما يشرد للبعيد، وتبدو عيناه ساهمتان. خطر لي أن أهزًه من كتفيه، وأقول له أنني هنا..قريبة منه وهو يحدقُ في طيور الحمام. لكنه سار فجاة ناحيةَ قفصٍ وُضِع بحرص في زاوية دكانٍ نصف معتم، ومنخفض قليلاً عن الأرض. ثمة أفعي، ربما بطول متر ملتفةً بهدوء داخل ذاك القفص.

‏إبتعدتُ مسافةً كافية لأشعر بالأمان، فيما أقترب هو كثيرا من القفص، مُدخلاً أصابعه من الفراغات إلى الداخل. ربما هو الآن يفكر بلسانها المشطور وهي تخرجه بسأم.

‏- إنها على وشك الموت.

‏- وكيف تعرف؟

‏- أظنهم نزعوا أنيابها تماما. مسكينة..

لوهلة ظننتُ إنه على وشك البكاء، لولا أنه نظر إليّ فجأة وابتسامة كبيرة على وجهه، مشيراً إلى جهةٍ ما:

‏- يا للعجب! إنه قردٌ سكران!

‏لحقتُ به إلى حيث تم وضع قردٍ صغير.

‏- إنه كسول فقط.

‏- لقد تم إعطاؤة جرعة خمر.

‏- لا يمكن أبدا.

‏- بل حدث. إنه يترنح، وهو منتشٍ تماما. هل حدث وأن شربتِ الخمر؟

‏- لا.

‏- الخمر يجعلنا أكثر لطفاً واستسلاما للعالم.

‏- كيف يبدو طعمه؟

‏- حلو ومر، لاذعٌ وبارد، لذيذ ومؤلم.

‏- هذا فقط؟

‏كنتُ أتحدثُ إليه ونحن خارجان من السوق، أخبرته أني لن أجربه أبداً.

‏لم يبدُ عليه أنه مهتم. كان واجماً.

‏- بماذا تفكر؟

‏- بكِ.

‏- لا يبدو أنك تفكر بي!

‏- وكيف تعرفين؟

‏- نحن ببساطة لا نفكر بأشخاص يسيرون إلى جانبنا..يفترض أن ننشغل بهم عن التفكير.

‏- حقا؟!

‏- نعم...هكذا تجري الأمور.

‏- لكنني كنت أفكر في أنك تكرهين الحيوانات..

‏- آه! هل لاحظت ذلك؟ نعم اكرهها حتى تلك الأليفة منها.

‏- رأيتُ القرف واضحا في نظرتك لها.

‏- هل كان واضحا إلى هذا الحد؟

‏- نعم عزيزتي نعم.

‏- يبدو أني لم أعرف كيف أخبأ مشاعري.

‏- ولماذا قد تفعلين؟

- ولماذا أنت أتيت بنا إلى هنا؟

- ‏أنا سألتُ أولاً!

- ‏حسنا لقد أخفيتُ كراهيتي للحيوانات من أجلك. لأني أردتُ أن أكون معك، وأردتُ فهمك أكثر!

- ‏هل فهمتِني الآن؟

- ‏في الحقيقة لا....تبدو مثل شخصٍ لا أعرفه!

- ‏هل هذا بسبب أنني أحب الحيوانات؟

- ‏بل لأنك لا تستطيع أن تحبّ أحداً

- ‏أطياف! أنت لا تفهمين!

- ‏أنا دائما لا أفهم! هذا الصمت المتكرر، والأفكار الغريبة، والأماكن التي نتسكع فيها، أسواق الحيوانات والبضائع المستعملة، والمكتبات المكتضة في الزوايا المنسية، ودور المسنين، والمشافي والسجون! ثم ماذا؟ لكن الا تكتفي؟

- ‏لكنكِ كنت تأتين، تأتين دائماً، بلا سؤال!

- ‏نعم ..لأني أحبك ..أحبك جدا..أريد أن أكون قريبةً فقط ..لكني أريد أن أفهم.

- ‏نحن نحبُّ الكثير من اللوحات والأشعار دون أن نملك فكرة كاملة عنها! الحب والفهم شيئان مختلفان.

- ‏هراء ... لايمكن لقلبي أن يهدأ للأبد مقتنعا بفكرة أنك تبدو منيعا وغريباً. لستُ مغفلةً أرجوك.

- ‏........

- ‏لماذا لا تتكلم؟

- ‏لكن ألم تفكري من قبل أني أبحث عن جدوى لكلّ ما صدقناه دون سؤال؟

- ‏تستطيع أن تسأل ببساطة وتصرخ وتضحك وتتحدث معي كثيرا، تستطيع فعل كلّ هذا وأنت تبحث، ليس الأمر صعبا!

- ‏لا يمكنني أن أكون سوى ما أنا عليه.

- ‏مهلاً ! انت تظن أني بلا هم؟! بلا أسئلةٍ تدور بذهني؟ بلا معاناة! تباً! كل ما هناك أني لست نرجسيةً مثلك.

- ‏هل تريني نرجسياً؟

- ‏وأناني أيضا. أنت بحجة الألم تؤلِم ..بذريعة الوحدة تقذف بي خارج عالمك !

- ‏أرجوك أطياف كفى!

ثمة باعة يلعلعون بأصواتهم على جانبي الشارع المزدحم، وهواء مثقل بالأتربة والدخان. كدتُ أختنق. للحظات شعرت أنني بلهاء ضائعة.

‏سيكون من العار أن أسأله عن طريق العودة إلى المنزل.

‏جذبني بقوة من يدي، شعرت بألم أصابعه على ذراعي، وأنا أشاهد كيف مرقت السيارة من جانبي.

‏- انتبهي أطياف! كدتِ تتأذين!

‏ياإلهي! كانت عيناه مرتاعتين! بدا بسيطا كما تمنيتُه دائما، بسيطاً وقريباً من القلب.

***

قصة قصيرة

تماضر كريم - العراق

أقلق في الفجر، ذلك أن النوم يضطرب في مثل سني. أفتح عيني. أسمع صوت طرف قدمي وهي تزيح الغطاء وترفعه، صوتا خافتا كأنه تنهد. أنهض. أتخبط في طريقي إلى الحمام وأسمع وقع خطواتي في فراغ البيت وسكونه. أنصت إلى خرير المياه من صنبور الماء بينما أغسل وجهي. أمضي إلى المطبخ. أقف أمام البوتجاز مصغيا إلى هسيس الماء في الإبريق على النار. أسير إلى صالة البيت حاملا قدح الشاي في يدي. أجلس وحدي إلى المنضدة. لا يكسر الصمت سوى رنين الملعقة بين جنبات القدح الزجاجي. أتطلع إلى الفراغ أتسمع صوت الذكريات. لم تعد لدي أحلام، وحدها الذكريات.

في الساعة الثامنة تقريبا تطفو من الشارع سحابة أصوات. زقزقة أطفال صغار لا أراهم، لكني أعلم أنهم يتجمعون الآن في حلقات أمام بوابة المدرسة قرب بيتي. تسبح الزقزقة المتكسرة عبر نافذة الصالة نحوي. تحوم حول رأسي بخفة، تقطر إلى قرارة شعوري. صغار في أوائل العمر، يزعقون، يقذفون بعضهم البعض بحقائبهم الصغيرة، يهرولون، يشد الأولاد البنات من شعورهن، فتطاردهن البنات بالحجارة صارخات، ضاحكات. فرحة بيضاء، سرور عارم في صميم اللحم والعظام بأنهم أحياء، وهم الآن يختبرون وجودهم الحي، يلمسونه بالوثب والصياح. أتخيلهم داخل الفصول، يتظاهرون بالانصات والاهتمام بما يقال، أتخيلهم في ما بعد أطباء ومهندسين ومحامين، فيغمرني تفاؤل برقة الورد يحتضن ما ذبل من الذكريات والسنوات، وأشواق مبعثرة مرتجفة الأطراف تقاوم لكي تبقى حية. يخطر لي أن  الحياة لا تشتعل ولا تفرح إلا بحضور المرأة، عندما تكون محبا ومحبوبا، لكنك لا تدري متي يكون ذلك، مثلما لا تدري متى يهطل المطر، اليوم أم غدا؟ في الفجر وأنت نائم أم بالنهار، فلا يبقى لك إلا شمس وحدة حارقة، وقمر بارد من وحشة رصينة. أعتصر حياتي في قبضتي مثل نواة صغيرة، فلا ينز مغزاها، ولا تسيل بالمعنى، تبقى نواة صلبة تحتاج إلى تفسير.

في العصر أقعد أمام التلفزيون، أتلفت من وقت لآخر إلى هاتفي، لا أحد يتصل. لا أحد يدق جرس الباب. وشيئا فشيئا تعتم الصالة من الغروب الهادي. أعد لقمة لنفسي وآكل كأنني أؤدي واجبا نحو الحياة. وما إن أفرغ من الطعام حتى يتناهى إلى عويل الكلاب التي تتجمع أسفل البيت، تقف، رؤوسها مرفوعة، ذيولها عالية، نظراتها إلى الأمام، تستمد الشعور بقوتها من وحدتها، ثم تعوي معا بتوسل يائس وغضب مر حانق، بعد أن جاعت المدينة فخلت أكياس القمامة من بقايا الطعام واللحوم، فلم أعد أسمع سوى نشيد الجوع يخترق أذني هابطا قرارة شعوري مستقرا بلون قاتم. أنهض من مقعدي، قلقا، حائرا، لا أجد لنفسي مكانا. أروح وأجيء في الصالة. لا أدري ماذا أفعل في ذلك النشيد الوحشي المهتاج. أرقد في نهاية يومي، محاصرا بين اليأس والأمل، وما بين زقزقة الصباح وعواء المساء ألملم عزلتي في وحدتي. أحاول أن أنعس، أن أسمع ولو في الحلم صوتا آخر، فأكلمه طويلا، أبوح له بكل ما في نفسي إلى أن تعرف روحي السكينة فأنام بعمق لا يقض مضجعي يأس من عتمة أو أمل في الفجر.

***

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

أنسل من الغرفة المعتمة في الطابق التاسع، أسير في رفق عبر الطرقة الطويلة على أطراف أصابعي، وعيني على باب غرفة حسنين، ألمح الباب مغلقًا،أحمد الله وأتنفس الصعداء (لحسنين أذن رهيفة السمع، يسمع بها دبة النملة) تهدأ خطواتي، وتتزن أقدامي فوق الأرض. تتجسد على الفور صورة بثينة واضحة أمامي، أضغط على زر المصعد، ثوان معدودة ويفتح، فإذا بي أجد حسنين أمامي، أرتبك، وأخشى أن يلمح ارتباكي، فأباغته بسؤالي:

-  نازل؟

يومىء برأسه، يختلط ارتباكي بشك وحيرة، نازل أم طالع ؟ وأكاد أسمع صوت بثينة "احذر  حسنين"، يسألني:

- إلى أين؟

أجيب على الفور:

- الجمعية الإستهلاكية، خضار.

يصمت وعلى شفتيه ابتسامة غامضة تشي بالاتهام وعدم الاقتناع.

نخرج سويًا من باب المصعد، يتزاحم كتفانا وكأننا نتسابق على الخروج، نسير متجاورين عدة خطوات، نفترق مع نهاية الممر، اتجه نحو شارع قابوس، أتركه دون كلمة وداع، خطوات قليلة وألتفت إلى الوراء، أراه يتجه نحو المبنى المقابل، حيث الفرن في الطابق الأول، وبثينة في الطابق الثالث، أتطلع إلى أعلى، أجدها تنظر من النافذة مبتسمة وكأنها تسخر منا، أهمُ بأن ألوح بيدي، فأتراجع على الفور، أواصل طريقي وأجد نفسي داخل مبني الجمعية الاستهلاكية، تكاد تخلو من الزبائن، أشعر ببرودة الجو في الداخل، بفعل جودة أجهزة التكييف وقلة الزبائن ،أملأ في شرود عدة أكياس من الفاكهة والخضار، أضعها في العربة، أجرها وأتجه إلى المحاسب، أدفع وأستلم الفاتورة وأخرج، أعود إلى الغرفة الخالية، اكتشف أنني نسيت بعضا من أكياس الخضار والفاكهة، أنزل مسرعًا، ولا يخطر في بالي أبدًا أن ألتقي حسنين من جديد، يا ألله ! حسنين فى الطرقة يسير نحو المصعد، أحاول أن أتجاهله، لكنه يباغتني بالسؤال:

- إلى أين هذه المرة ؟

- الجمعية.

- من ثان .

- نسيت الأكياس.

يبتسم في خبث ويقول متهكمًا ولكن فى شرود ظاهر :

- اللي واخد عقلك.

لا أبتسم وأقول، لا أعرف كيف خرجت الكلمة قوية وحادة:

- بثينة.

 

يقف مندهشًا، لا ينبس بكلمة، يفتح باب المصعد، أدخل، فلا أدعوه إلى الدخول، وأنزل بالمصعد دون أن آبه به.

(تمت)

***

قصة: د.محمد عبد الحليم غنيم

1- الحزن المسرور

من تراب القرى

من جذور الشجرْ

من طفولة، أجنحة البيت، لغز الجمالْ

ودنيا التمنّي

من الضوء يخفق في روح فانوسنا

المعلّق فوق الجدارْ

من نقاء عروس الغصون

من رنين الطيوف

وكلّ المواسم، جدائل حبّ....

وهْي ترسم في الافق ايماءة، من حنين

من الذكريات ْ

بملء المدى

بكلّ السنينْ

من القلب، لون شفاه تصلّي

ولا شيء عندي... بصدر الغيوم

غير هذا الصدى

تنادي به النفس

لا شيء غير البكاء ْ

فجأة

من الأمسِ..

عادت حمامات طيبٍ

تحاور صمت ربانا

وتحبو

على الأرض، فوق التراب

حكايات حب، ودنيا خيال

وشوق يطلّ

على بعد حلم ٍ...

كعطر دعاه ارتحال

مع الشمس

تسطع في الصبح ِ

بين البيوت، وبين النخيلْ

- ألم نكُ غير ضلوع السلال...؟

أيفنى الجمال....؟

أم الحبِّ يمشي..

ويمشي

الزمان الأليف **

كيف بي...!؟

سأشرب سرّ القمر

وأبقى وحيدا

ببحر من الدمع.. والحسراتْ

وقد طار فيءٌ من النفس

ما بين قلبي، ودربك حقّاً

بعيدا عن النبع

من كلّ هذا...

وهذا....

لا المدائنَ، فاردة، في الهواء الفروع

بين أزمنة ضائعة

إنّني اتأمّل....

خيط ظلال

على صورة، في جدار الضلوع

كي أشقّ الطريق

اليك أبي

واحة من ندى

تضيء لي الكون، فوق نجوم السماء

تستردّ ليَ الأمنياتْ

ويرحل عنّي المغيبْ **

برغم الفراق..

ورغم الرحيلْ

لقد كنتَ، وحدك، تسألُ عنّي

وتبحث عنّي

بكلّ مكان

فأنتَ الدليل..

الدليل الحبيبْ.........!

**

2- حلم

رأيتُ والدي

تهمسُ في عظامه نسمه

يخرجُ

من ترابهِ

ويوقظ النجمة

**

3- ملامح ينبوع

في صحراء الصمتْ

من عتماتٍ

تغرق فيها الرغباتْ

ما بين الأمس، وبين اليومْ

من شهقات

تمضي

في نبضات

تتهادى

تحت عناقيد الصحو..

وبرج النومْ

يتفجّر ذكر أبي

روحاً من

نورٍ.. وحنان يتوهّج

كالحلم الدافئ.

كالقمر اليقظان

ينظر في أفقٍ

ويمدّ على الكون جناحيه

ويرتاد مرافئ

تهمي بالفيروز

وبالطيبة والوجدان

يحكي للنجم

نداءات من ذاكرةٍ

خلف تجاويف السنوات

يحنو بالحبِّ...

وبالعبق الناضح

بالإيمان

يغلق باب الليل

ينوِّر

كلّ دروب أحبته

كي لا يغرق أحدٌ منهم

في ألحان أنين

أو بين رياح عاصفة

يتبعثرُ فيها

ألوان الصمتْ

من غربة ناقوس

أو وحشة تابوت

خلف ستار الموت ْ....!

***

حامد عبد الصمد البصري

بِحُبِّكِ ذَابَ قَلْبِي فِي صِبَاهُ

وَحُبُّكِ وَحْدَهُ قَلْبِي اشْتَرَاهُ

*

بِحُبِّكِ أَشْتَرِي قَلْبًا جَمِيلاً

يُنَوِّرُ نَبْضُهُ لِي فِي دُجَاهُ

*

بِحُبِّكِ صَارَتِ الدُّنْيَا رَبِيعًا

يَذُوبُ الْقَلْبُ فِي رَيَّا نَدَاهُ

*

بِحُبِّكِ خِلْتُنِي طِفْلاً صَغِيرًا

يَفِيضُ شَبَابُهُ بِسَنَا ضُحَاهُ

*

بِحُبِّكِ هَلَّ سَعْدِي يَا حَيَاتِي

وَأَفْرَاحِي تُؤَمِّلُ فِي لِقَاهُ

*

بِحُبِّكِ فِي الثُّرَيَّا ظَلَّ بَيْتِي

بِدُنْيَا الْوَصْلِ يَرْقُصُ فِي سَمَاهُ

*

بِحُبِّكِ أَنْتَشِي وَيَجُوبُ فَرْحِي

بِقَاعَ الْأَرْضِ وَالدُّنْيَا تَرَاهُ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

أنا مجرد غريب في المدينة

أنا مجرد غريب في الشارع

لذا من فضلك تجاهلني

حين تراني

فلا تقل لي مرحبا

ولا تحييني

فقط امشي على  الرصيف

تظاهر انك  من قبل لم تراني

وواصل المشي

ولا تنحرف عن مسيرك

فالمدارات كلها لك

*

انا الغريب

يمكنني السباحة مع التماسيح

بلا مجاذيف

ويمكنني ان اطير في الآفاق البعيدة

بلاجناحين

تعانقني الرياح العاصفة

وترصدني غيوم السراب

الهاربة من زخات المطر

حتى يغمرني البلل

*

ورغم ذلك كله

فأنا مجرد غريب على هذا الارض

يتيم بين تدفق الحشود البشرية

لا أملك شيئا

ولا أحظى ابدا بابتسامة الذاهب والآتي

لذا اريدك فقط

ان تمشي امامي

حتى لا تحدق في وجهي

تراني في حفلات التنكر

ارتدي قناع الاخفاء والتستر

او ارسم وجهي باللون الاسود

وربما اكتب قصيدة مرتبكة الايقاع

لأتودد اليك

ثم اقوم بأداء اغنية حزينة من اجلك

أو اجلس على مقعد

في حديقة مهجورة بدونك

*

يمكنني ان اكون مشهورا

بطريقتي الخاصة

أو وردة ذابلة

هجرتها الفراشات المدللة

أو كيان غير معروف

بين النجوم الآفلة

او كابوس احلام

يطاردك بلا هوادة

فلا تدع هذا يزعجك

لذلك أكرر

اذا رأيتني مرة اخرى

الرجاء تجاهلني

فانا مجرد غريب على ارضك

أحاول النجاة بنفسي

فقط اتركني مع عزلتي

وسأعود من حيث أتيت

لأتسابق مع الوقت الباقي

الذي فاته الاوان

***

بن يونس ماجن

كحبات الساعة الرملية نتسابق للهروب خوفا من ضياع وقت نهاياته غير معروفة، فهروبنا العكسي لا تنقضي صلاحيته.. كحبات الرمل نتساقط دون ايام نعدها، نلوذ بالغربة وطنا دائم الصلاحية، الرقي، التحرر والتحضر مثالي الى حد أن تكون مجبرا ان تتقيد بكل حذافير القانون فأنت يا صديقي مشردا قسرا.. لا اطيل انت تريد معرفة رأيي بالهجرة و ها انا اخبرك الحقيقة المُرّة التي اعيشها ونفسي و عائلتي، أقسم لك أني اموت فسي الثانية ألف مرة، فحياتي قد بدأ السل الرئوي يفتك برئة الحياة التي كنت اعيش كأن هناك من يهدم كل ما احب بمعول الغربة.. وطن هجرناه بإرادتنا، عنف كان يرافقنا ونظام سادي دكتاتوري، دُعينا اننا مناضلين مجاهدين فتلك عبارات يغلفها الكثير من النفاق و الرياء نحن شعب لا يستقيم إلا بالقلم والساطور.. على اية حال لا اريد ان اقص ريشات الامل التي تريد ان تحلق بأجنحته.. ساكون لك عونا إن قدمت.. سأبذل قصارى جهدي في تذليل الصعب مما يواجهك..

أشكرك عزيزي مؤيد.. لعلك تعلم جيدا ما عانيت من النظام السابق.. لا اربد ان اتذكر واعيد سرد معاناتي، لكني اقسم لك بكل لحظة كنت اقضيها وإياك على شاطيء دجلة او على الجسر المعلق في بغداد حين كنا نرسم أحلامنا طائرات ورقية دافعين بها الى النوارس البيضاء..  واقسم لك أني اعيش بتلك الذكريات عند تمثال ابو النؤاس حين كنت تزورني ولا زال طعم الشاي على اطراف لساني حين اشربه معك قرب تمثال الحبوبي.. ذكريات .. ذكريات لو احصيتها لكانت اكثر من الف ليلة وليلة.. ليس هينا ان اترك بقايا روحي والتحق بك اشعر بمعاناتك.. أدرك ان روحك فارقت جسدك حين بت تملك جنسية غير الجنسية العراقية لكن يا مؤيد الوضع اختلف الان، الحال اسؤا مما كنت احسبه او اتوقعه صرنا عبيد الفساد والولاءات الغير.. فكل بحمل جنسيته التي اغترفها ولاءا ولعقا لأحذية وطات البراز وجاء محمولا كمحرر فاتح للقيروان.. لست بعيدا عن الاحداث فمن2003 الى الان ونحن في مربعات ضيقة لا يخرج منا سوى من صار مسؤولا او برلمانيا او كما يطلقون على انفسهم المحررين .. لا ادري ماذا حرروا الشعب والناس باتوا عبيدا لراية هنا او هناك .. صرنا نبتاع التدين سمة مثل بطاقة الدخول الى الساحة الترفيهية او مثل البطاقة التموينية التي يسرقها موزع الكمية مدعيا شهر لك وشهر لي.. كما قلت لك مسبقا إننا في حالة هروب جماعي عكسي نهرب الى الخارج بحجة الهروب الى الجنة رغم ان الجنة لا تستقبل الحثالات التي خرجت من بين ظهرينا.. كل شيء يا مؤيد مباع حتى الهواء الذي نتنفسه مباع لدول الجوار.. الجوار الغير آمن، فمن يجرؤ على التقول بغير ما يرغبونك ان تقوله.. فهناك الموت المخبئ في عتمة ليل او صراحة في وضح النهار.. القانون خرج يبتاع الحماية لنفسه، سلطة يحكمها مزامير أتوا بها بأجندات لا يمكن ان تقرأ إلا في خلوة خوف ان يعرف غيرهم السياقات الدنيئة لمستقبل وطن مباع..

هون عليك أخي رحيم أظنك لا زلت كما أنت فمنذ عشرة سنين كنت تتحدث عن الامل في ان العراق سيتعافى.. لكني أتلمس من جرح حديثك انها بلغت الحلقوم منك، اراك تختنق بالهواء الملوث الذي تتنفسه رغم أنه هواء في سماء العراق.. اخ يا عراق وجعي اكبر وان يحتويك بداخلي.. تسلقت أسمك بعد ان طفت في كعبة عناوينك ووجدتني يتيما دون أم او اب، ترى ما الذي حدا حتى تكون ملا تتكالب عليك السكاكين اسلامية وغير اسلامية؟ ألبسوك وجها مستعارا ما لبث غضبك حتى أزاح المساحيق المبهرجة.. سعيت وسعوا نالوا منك حتى رضخت للواقع المزري.. ارجوك رحيم لا تثير زوبعة الحنين فبالامس خرجت من المشفى بعد ان اصابتني الجلطة وانا اشاهد الارض التي اقتصتها دول الجوار والحكومة تصارع الثروات العراقية الى من يذهب الرصيد الاكبر.. جميعهم مشاركين في دفع العراق الى الهاوية

اما انت يا رحيم فلا بد لك من الهروب الى الخارج، الهروب من واقعك الذي قتل كل من تحب.. ساكون في انتظارك.. استقبلك بكل عمري الذي قضيته في صباي وشبابي معك.. لا تنسى ان تجلب خبز من تنور والدتك فلا زال طعمه في فمي ورائحته تدفع بي الى الشهيق حد قطع النفس.. اخبرها ان تدهن واحدة منها بدهن الحر وان تضع السكر فوقه تلفه كما كانت تفعل عندما كنا نلعب (جعاب  باغطية قناني البيبسي الفارغة بعد ملئها بالطين..

رحيم هيا تعال ودع روحك في العراق كما فعلت انا.. تعال كي نعيش اجساد بلا ارواح و هروب عكسي نحو الفراغ الكبير الذي يسمى الغربة.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي 

كان علي أن أكمل اللعبة التي بدأتها. أستطيع أن أتوقف في أية لحظة تعجبني لكني أجد لذة في المضي بعيدا معها.

تشاجرت

ضربت أحدا

ضربني

في الحرب كنت أطلق النار. ربما قتلت. رصاصتي أحدا وربما طاشت، ولا أظنّ أن الجندي أو الضابط الذي قتلته يعرفني حتى يلتقيني في حياة أخرى

أجمل شئ في الحرب أنّ القاتل والمقتول لايعرف أحدهما الآخر

وقد لايفهم أحدهما لغة الآخر فلا انتقام في حياة تالية..

إذن فصل الحرب يُمكِنُ أن يطوى فلا أحد يعرف في أيّ حياة جديدة له من قتله ولا قتل من. وقد جاءت هذه المرّة من رحلتي الطويلة.

هناك شخص أمامي.. شاب مزعج.. وسيم الصورة بذئ اللسان. كنا في الصحراء.. خليط من مصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض المشارقة نشتغل في تعدين الحديد، والحرب العراقية الإيرانية في سنتها الثالثة. لا نجتمع إلا في الليل.. يضمنا دهليز طويل.. أسرّة وعند رأس كل سرير خزانة يضع فيها العامل ملابسه، نعمل..

نأكل ونشرب وننام..

في رأس كلّمنا حلم جميل.. أين نذهب بالنقود وهي الصحراء وحدها تمتدّ أمامنا.. كان الجميع يتحدث عن حلمه جهرا.. هناك من يحلم بشقة وزوجة جميلة، خمس سنوات تكفي لأن تصبح غنيّا في بلدك.. أما أنا فكانت أحلامي تختلف عن الآخرين ولم أكن أبوح مافي خيالي لأحد

رتبت الجغرافيا التي تمتد أبعد من الصحراء على وفق هواي

كندا

أمريكا

الدنمارك

ألمانيا..

ستكون رحلتي بهذا الشكل أي بلد من هذه البلدان يقتنصني... لا بأس

كان مدير القاووش الذي يجمعنا يستمع لأحاديثنا ويتعاطف معي. ولم يكن ينغص علي حياتي في القاووش إلا ذلك الشاب المشرقي الوسيم. كل منا يلجأ إلى المذياع الصغير الذي جنب سريره

ولاىشيء سوى حديث الحرب

كان يستفزني إلى أبعد الحدود.. العراقيون الذين غادروا البلد وهم في حالة حرب جبناء. الرئيس صدام بطل العروبة والإسلام.. والله سأجد طريقا يوما ما وأسافر إلى العراق لأحارب.. وفي إحدى الليالي ونحن نلعب الورق سمعته يكلم شابا من فلسطين يقول له بحدة والله لو كان الأمر بيدي لشنقت هؤلاء أخوات القحبة الهاربين من الحرب. حاول جاري الجزائري المعجب بأبو مدين ويدعي أن الجزائر بعد عقد تخرج من الدول النامية إلى المتقدمة، حاول أن يخفف عني، لكن الغضب اجتاح جسدي شعرت برأسي يلتهب يصبح كتلة من نار، فقفزت ناثرا الورق على من حولي واندفعت نحوه:

أنت أخو القحبة. ابن العاهر..

وهكذا جاءت اللكمة في وجهه فترنح وتمايل. رميت بثقلي عليه ورحت أصفعه من دون رحمة

ويبدو أن الحارس الذي عينوه علينا في القاووش كتب إلى الأمن المحلي بالواقعة... الشجار عادي، في ذلك البلد، كثيرا ما كنا نثور ونتشاجر ونشكل تكتلات وصداقات

الحرّ و

والبعوض

وبعض الأفاعي التي تدب في الليل نحو برودة القاووش

والعقارب ومن ثمة الضجر تبدو حوافز للضجر قبل الاغتراب والحنين

وهناك لما حدث الليلة الماضية من شجار طعم آخر، في الصباح جاءت سيارت استدعت إحداهما الطرف الآخر وتحركت في الصحراء بقيت عند مكتب الحارس سيارة أخرى. سائق ورجل أمن. طلب من الحارس الانتظار خارجا وبسط أوراقا أمامي. قال بلهجة ذلك البلد التي لاتُعْرَف أهي جِد أم احتقار؟

لِمَ ضربت ال...

ياسيد

لست سيدا خاطبني بكلمة أخ

يا أخ نحن عرب وأنتم عرب تعرفون ما للشرف من قدر هل تظنني أسامح شخصا يقول. ابن قحبة.. أخو..

لكنه كان يمجد بالطاغية في بلدكم ويعدّه زعيم الأمة ولن نسمح في بلدنا لأحد من العرب أن يمجد قائدا غير أخينا القائد..

أيقنت أن الحارس لم ينس أية كلمة مما سمعه مني أو من الآخر، وربما دوّن ماكان يسمعه من خصمي كل ليلة.. كان يتحدث ببلاهة عن الويسكي ويمكن أن يذهب في العطلة إلى العاصمة فيهربه إلينا من البواخر الأجنبية، أو يصادق إحدى بنات البلد الأكثر تحررا هناك.. ربما ابتسم الحارس وجارى الجميع، قد يدفعه الفضول للعب الورق معنا، ومجاراة الجميع، ولا أشك أنه كتب في مذكرته الجديدة كل مافاه به الخصم من قبل:

كان يتحدث عن الحرب وموقفكم واضح منها.

هذا شخص يأكل من خيرات بلدنا ويشتمنا، والله سوف لن أجعله يرى النور.

هل اكتفيت أخ؟

تفضل وقع.

كان هناك بعض الندم. لم أثر لكونه سب الجميع ومدح رئيس العراق، غضبي انحصر في كلامه البذئ عن الأمهات والأخوات، لقد خجلت حقا ، خجلت إذ وضعت نفسي موضع المخبر ولو لم يكن هناك حارس من أهل البلد لمرّ الأمر بسلام كأيّ شجار، والأدهى أن العيون جميعها بدت تنظر إلي نظرات عتاب كأنها تحملني مسؤولية اختفاء عامل معنا

أكل معنا وشرب

قاسمنا الحر والبعوض والعقارب والحيات

فهل أعود بما حدث في الصحراء ذات يوم إلى السيد مارتن.

4

مرّ على حديثنا في الهاتف بضعة أيام، ثم استقبلني السيد مارتن في بيته، قبل لقائنا أخبرني أنه أرسل تي إلى بيت أخته فسوف يغادر إلى لندن بضعة أيام. الحق لم أرتح للفوضى التي رأيت عليها الصالون بقايا لوز وفستفق على الطاولة المستطيلة وسط الصالون وثمة علبة كوكا كولا وقنينة بيرة فارغة.

فوضى

إهمال

عبث أجمل مافيه أنه ينجلّى في تمثال لبوذا من الفخار اللماع ينتصب على منضدة صغيرة جنب التلفاز بيديه المتشابكتين وعينيه اللتين تشملان العالم بلمحة شاملة بعيدة

كأني شممت رائحة الكلب، أو هو إحساسي الخفي، كان يعود من المطبخ بالقهوة وعلبة من حليب اللوز:

شكرا أشربها سادة

قل ماهو الجديد؟

تذكرت حادثة لي مع شخص. شجار ضربت فيه شابا بقسوة

رائع لعله البداية.

متى حدث ذلك؟

عام 1982 في إحدى الدول العربية.

تناولت رشفة من الفنجان على مضض أو مجاملة فقد زكمتني رائحة البيت والكلب:

إنها حرب الخليج الأولى.

بدا مهووسا بالتفاصيل:

ماهو سبب الشجار؟

كان ذلك الشاب يعد كل من هاجر من العراق خلال الحرب عاهرا ابن عاهر أخا عاهر وتلك إهانة لم أقبلها فوجهت له لكمة قوية بكل ثقلي على فكه. بقبضتي هذه.. ثم جاءت مخابرات البلد الذي نعمل فيه فلم يعجبهم سلوكه لأنه يمجد في شخصا غير زعيمهم

Fantastic

استغربت من انسجامه مع القصة:

حقيقي؟

طبعا.. لعلنا نعثر في قصتك على السبب

ولم هذه الحادثة بالذات؟

هي الأقرب للواقع، راح يضيّق حدقتي عينية، كما لو كان يستعرض الواقعة: وما عرفت عنه فيما بعد؟

يقال إنهم رحلوه أو طردوه.

نسيت أن أسألك عن اسمه هل تتذكره؟

رشاد أنور

فتمتم بعدي بلهجته الإنكليزية وهو يفتح شدقيه مع الحروف فيتقلص مع حركة فمه خده الأيسر:

Rashad Anwar

حسنا ياسيدي سأكتبه لك

لو سمحت

كانت هناك احتمالات تجعلني أظنّ اللعبة لا تطول فصاحبي مثل محقق قدير تتبع الحادثة بوجه واحد، وصاغها حسب رغبته، هاهو يتأمل كلامي ويردد بصوت مهموس رشاد أنور:

هذا كلّ مالدي فهل تجده يستحقّ التأمّل.

طبعا اسمع ياصديقي أنا يهمني كلبي. إنه بمثابة ابني. قد يرحل أبناؤك إلى بلد بعيد، وربما تنفصل عنك زوجتك. الكلبب عندي مثل الابن وفي مبدأ التناسخ أن الأرواح الشريرة تدخل بعد الموت في مخلوقات أقل منها، عقابا لها ، لكي تتطهر وأظن رشاد أنور دخل في جسد تي.

قد أسخر من نهاية اللعبة، وربما تعجبني، هناك واقعتان في حياتي واحدة مع كلب كاد يقتلني والأخرى في أوروبا مع كلب يبدو هادئا مع الجميع ويرحب بكل من يلتقيه ويتنرفز حين يراني، والأدهى نظراته ذات المعنى الغامض لي:

لا أعرف ماذا يجول برأسك فهو مجرد افتراض

إسمع ياصديقي حين أعود من لندن يرجع إلي تي سأخاطبه باسم رشاد أنور وأرى أي انطباع يطرأ عليه؟

أنت تجعلني أشك في أني أنا أو أنت بمستوى كلب أو

فقاطع بضيق: أو حشرة لِمَ لا الطبيعة حسب مبدأ التناسخ تعاملنا من دون فوارق قد ننسى جميع حياتنا الماضية ونحن نعيش حياة جديدة هناك بعض الاستثناءات نتذكر فيها بعض الماضي مثل حالة رشاد أنور.

أضحك في سري في الوقت نفسه أعترف الآن أني انفعلت وكان الأجدر بي ألا ألجأ إلى العنف

لكمتُ رشاد انور وسببت نفيه

أصبح كلبا وبعد سنوات التقاني فعضني

وبعد سنوات أموت فتحل روحي في كائن آخر: من سوء حظّي إني أقرف

أقرف الآن على الأقل من أن أصبح قطا يأكل فأرا

نمرا يفترس خنزيرا

أو أسدا أفترس فرخ الذئب الذي هاجمني عندما كنت طقلا

حيرة فاقعة باهتة

أصبح الحديث معه مملا.. النهاية بهذا الشكل لم تعد تعجبني فنهضت مستأذنا وبسطت إليه يدي

الآن علي أن أغادر

وأنا سأرى إذا ثبت حسب قراءتي أنه رشاد أنور فسأبعثه إلى منظمة الرفق بالحيوان لأنني لا أرغب أن أعيش مع حيوان يتذكر حياته السابقة !

شدّ على يدي فغادرت وقد اكتشفت أني كنت على خطأ فاللعبة التي ظننتها جميلة مليئة بالفنطازيا أصبحت مملة في نهاياتها لاطعم لها.

***

قصي الشيخ عسكر

29\5\2023 الإثنين

انتهيت من الكتابة الساعة 11 ليلا

قررت أن لا أغير شيئاً من ذاتي.. لوقت طويل وأنت تحاول أن تخبرني بأنك تشرع في الرحيل..

هل كنت تختبر ثباتي، وإهتزاز الأرض من تحتي؟.

هل كنت تحاول أن تطلق ذاك الشعور الذي يعتريني كلما تمددت المسافات وتقلص الحديث ذاك الخوف الذي لطالما أخبرتك عنه؟

إنني أشعر بتلك الطريقة التي تحاول أن تستدل بها إلى أن تخبرني بنفاذ فرحك، وكأنني حجر تعثرت بها يوماً ويساورك شعور بأن تزيحه جانباً في كل مرة..

لم أكن مغمضة العينين وأنا أراك تخرج من عباءة صمتك وإنك تحاول أن تنزع منك قميص إحباطك الذي لطالما كنت متشبثا به وتتباهى به عند كل حرف..

إن هذا التحول الذي سلكته من الإشتعال المبهر إلى الإنطفاء المخيف لم يكن ليخيفني لأنني كنت أتوقع حدوثه بعد أن كنت تختبر ردات فعلي وتدس حديثك  المبتور بين السطور بنكهة الضحكات الملونه...

هذا الهدوء الذي تحدثت به وكأنك ظل ناسك يجلس في محرابه بوقار شيخ كبير وكأن رحيلك هذا قد غير ملامحك وصوتك وحضورك...

إنني أخذ غيابك هذا على محمل الحرف وأبقيه في داخلي متجذراً، ويحدث هذا بكثير مما أكتبه وأكثر بكثير مما أشعر به..

إن لدي حساسية من الكلمات التي تخرج بوميض ضوء كاشف مصوب نحو ثقوب الفراغات... لهذا لا أشعل عادة قنديل حرف عندما أنسج نصاً على ناصية ثوب أبيض..

إنني أتعجب من تحايلي عليك عندما كنت تسألني ما أخبار قلبك وكنت أجيبك كقلبك...

كنت شخصاً أنفذ من حديثك وانسل من قبضة حرفك.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عُمان...

القسم الثاني، الفصل (4) من رواية:

غابات الإسمنت

***

كانت شقّتي مثالا للأناقة...

في الظاهر لم تساعدني حبيبتي ابتسام في شراء الأثاث، كي لانثير الشبهات من حولنا، بل ذهبت معي إلى بعض محلات الموبيليا، واستحسنت بعض الأثاث الذي اشتريته تقديرا لذوقها، حتى تشعر أنها ساهمت معي بتأثيث منزلي الذي يجاور بيتها، قالت إنّ بيتي هو بيتها وبيتها هو بيتي، وأخبرتني أنني إن كنت أرغب في تغيير أي قطعة أثاث في شقّتها، فيمكن أن أشير عليها لتغيره من دون نقاش.

معي تشعر أنّها في بيتها هي الرجل وأنا ربّة البيت، وفي شقتي هي ربة البيت، ولو كنا في مجتمع آخر، لعشنا معا من دون أن نكبت ما في نفسينا.

كنا شخصا واحدا يسكن بيتين!!

بعد أن سكنتُ الشقّة جاءت إليّ وهي تكاد تطير من الفرح، لتخبرني أنها ستشتري البناية ذات الطوابق الأربعة، وأنها ستبقي على محل الحلاقة، ولنفكّر فيما بعد بترتيب طابق للمساج يخص الرجال وآخر للنساء، أما مكتبي فسيكون في الطابق الأوّل حيث مساج النساء في نهاية الممرّ، وقد زودته النقيب ابتسام بشاشة صغيرة وكاميرات خفية، كل ذلك تحت إشراف دائرة الأمن الوطني، وسيبقى الطابق العلوي الرابع فارغا؛ إذ لا حاجة لنا فيه في الوقت الراهن.

كانت البناية باسمها ملكا صرفا لها، وتعمّدت أن تجعل المحلّ باسمي.

كان كلّ شيء مدروسا ومخططا له، أنا أدفع الإيجار، ويكون وارد المحلّ لي، وهكذا ستكون الأمور... تقول إن هذا جزء من ضريبة الحب، أنا لها كل شيء فما فائدة النقود؟

تركنا عامليّن في الطابق الأسفل لمساج الرجال، وكانت هناك عاملات من شرق آسيا للنساء... كلهن متدربات وذوات خبرة، واحدة شغلت عملها من زمن المالكة السابقة، لا أخفي أني فكرت أن أنقل بعض العاملات لقسم الرجال لكنني ترددت، فالزبائن الذكور الذين يزوروننا ليسوا من الشخصيات السياسية مالكة القرار، إنهم من الدرجة الثانية والثالثة أو من شخصيات الظل التي لا تملك قرارا.

أبديت لها رأيي فاستحسنته، لأننا لسنا من المخبرات والمخبرين العاديين، أو ممن يسميهم الشارع موظفا، أو يشير إليهم بكلمة: يشتغل بالأمن!

فأنا منذ كنت في السجن، تم تهيئتي لأستدرج شخصيات كبيرة ذات مقام وثقل.

مع ذلك، فعلتها ذات يوم وأرسلت عاملة للطابق الأسفل، قامت بعمل مساج لشخصية قيل عنها إنها مهمة، كدت أختنق من الضحك، شخص في منتصف العقد الستيني حدث له ........ بعد أن داعبت أنامل الميساجست (خبيرة التدليك) جسده، رأيت ............، النقيب ابتسام ضحكت حين قصصت عليها ذلك، وأكدّت مرة أخرى على ما اتفقنا عليه من قبل، وإن كانت هناك طلبات فسيتصل بها أحد الشخصيات المهمة فترسل له إحدى العاملات.

الدور نفسه الذي قمت به مع السيد رئيس غرفة التجارة وأنا في السجن ...

وهي مرحلة عابرة كان لا بدّ من أن أمرّ بها!

أما رهاننا هذه المرّة، فكان ينصبّ على بنات المسؤولين الوزراء والوكلاء وبنات قادة الجيش، وزوجاتهم.

هذا أفضل؛ تقول السيدة النقيب، نحن نتحرك وفق خطّة مدروسة، وبإشراف دائرة الأمن الوطني التي لها نفوذ واسع، وتملك أكثر القرارات تأثيرا على السلطة السياسية في البلد.

هكذا بدأنا نتحرك، وكنت أراقب الحركة من مكتبي، وعيناي تلتصقان أسفل درج المكتب إلى شاشة صغيرة، مرة أنتقل إلى قسم النساء، وقليلًا ما أضغط على الزر المخصّص للرجال.

كانت الآنسة " نرجس " بنت السيد الوزير من زبائني.

أبوها وزير لوزارة غير سيادية، أما معارفها من البنات، فينتمين لعوائل تتحكم باقتصاد البلد وسيادته وجيشه، وكانت دائرة الأمن الوطني تراقب شؤون البلد على وفق سلوك العوائل الكبيرة، وعلاقاتها في الداخل والخارج.

وفي كثير من الأحيان عن طريق سلوك بنات المسؤولين وزوجاتهم.

الآنسة "نرجس" استرخت على السرير الجلدي الأبيض، وراحت الميساجست الآسيوية تباشر معها عملها، الغرف الآخرى شغلتها زبونات جديدات، سيدات جرى الأمر معهن كالمعتاد، منتصف الوقت أي بعد ربع ساعة بدأت ملامح الآنسة نرجس تتغير، تأوهت تأوها خفيفا ثمّ انقلبت على ظهرها بسرعة خاطفة، مسحت يدها على أنف الميساجست الآسيوية "ميري" كأنها تريد أن تقول شيئا، لا أقصد أنها تحاول أن تبدي شيئا يخص الجنس، بل معنى آخر، وهدفا آخر، أدركت ذاك من خلال اصطدام يدها بأرنبة أنف الميساجست، ولو كانت تقصد غير ذلك لاستقرت يدها على مكان آخر من جسد العاملة!

ـ معذرة أنا آسفة لم أقصد.

ـ عفوا، لا تهتمي للأمر.

قالتها العاملة بلهجة عربية ذات لكنة غريبة.

تابعت باهتمام وقالت وهي تبتسم:

ـ مارأيكِ أن تعملي بعض الأحيان عملًا آخر؟

ـ لكني مرتبطة هنا مع سيدتي.

ـ حسنًا سأتحدث معها، ثم قالت لها: إنه عمل إضافي لا علاقة له بالمساج، لكي يتحسن دخلك ولن نبخل عليكِ.

رحت أفكر بنوع العمل الذي دعت إليه ابنة السيد الوزير الميساجست، رأيتها ترتدي ملابسها وتقصد غرفتي، قالت بابتسامة ذات أريحية:

ـ لدّي طلب عندك عزيزتي.

ـ وهل أستطيع أن أردّ لابنة السيد الوزير طلبا؟

ـ قد نحتاج إلى عاملتكِ في عمل غير المساج، فهل توافقين على أن تأتي إلينا؟

ـ على العين والرأس أنا لا أحتكرها، بل على العكس، ستستفيد من العمل خارج وقت الدوام، وأنا لا أقف في طريق رزقها.

ـ لكن أسألكِ هل هي أمينة وتحفظ السرّ؟

ـ لو شككت فيها لطردتها.

ـ حسنًا إذن.

ـ وهل لي أن أعرف طبيعة العمل؟

ـ نحن مجموعة فتيات من بنات الذوات، عوائل محترمة، نقيم حفلات غناء ومرح.. حفلات دورية، ونحتاج إلى عاملة آسيوية تساعدنا في الطعام، وبعض أعمال المطبخ، والرقص الآسيوي.

ـ ومتى تنوين أن تُقام الحفلة؟

ـ سنباشر كل ليلة خميس، حالما نجد شقة فارغة، وفي مكان لايزعج الجيران.

عندئذ خطرت بذهني فكرة حاذقة، فكرة غير عادية لا أسمّيها شيطانيّة:

ـ نحن عندنا الدور الرابع كله فارغ، ثلاثة غرف، والعمارة كلّها لنا، أما الدور الذي تحت المكتب فهو دائما مغلق؛ لكن عليّ أن أفكر بالأمر وآخذ رأي شريكتي.

ـ إذا كان الأمر كذلك، فيمكن أن نقيم حفلة رأس كلّ شهر.

ـ سأرى؛ لكن أعدكِ أني يمكن أن أفعل شيئا.

ـ لا تفكري بالنقود.

ـ ولو... دعيني فقط أستشير شريكتي.

حينما تحدثت مع حبيبتي ابتسام بالأمر، دُهِشتْ، وعدّتهُ صيدًا ثمينًا لا يمكن التفريط به، واتفقنا على أن بنت السيد الوزير لم تقصد بحركتها المفتعلة تلك مع العاملة، أي معنى يشير إلى الجنس، كان هناك هدف آخر خلف حركتها، وإلا لما تحدثت عن حفل جماعي، أعادت ابتسام اللقطة مرات، وتأكدت أن هناك أمرًا ما، والشيء المهمّ في الخطوة التالية أن الطابق الرابع العلوي يخلو من أية كاميرا خفية، ولا بدّ من أن ندسّها في مكان لا يلفت النظر، ونحن مطمئنتان تمامًا إلى أن المكان نفسه أمين، لا يشكّ فيه أحد قطّ، ليأتي الجديد الذي سيذهلنا ويكشف لنا عالمًا نسائيًا آخر لم يحسب حسابه أحد من قبل.

***

ذكرى لعيبي

كتلك التي لم تر حبرها منكتبا..

تتداعى جنباتها،

وترعوي ..

مبصرة، شاردة،

راجفة أصابعها الندية ..

تكاد تجفل في إبرائها، ..

دنية الآهات ؟

كلما استيقظت الحواس، رأت كسوف موت قادم

ثم استعارت بالورد نظارتها ، ..

واستحمت بالأغنيات ..

فهل تمضي ليلتي دون هوادة،

دون احتدام صوت، أو قصيدة غامضة،

تأخر فقدها ؟

أميل إلى قيمة الأشياء،

عندما ترتد آثارها على جسدي،

أفيض صوفية،

وأقسو ..

هكذا في سرنمة الستار،

وحمأة الوتر الذي يرتعب في جائلة القلق ..

قصيدة منفلتة،

وأخرى مبتورة تكسو عطفتي

بمداد من الوجع ..

آه ..

وآه مني ..

***

شعر: لالة مالكة العلوي

وكنت تحت كسر بيتي

أداري على نور شمعتي الضئيل

أسابق الطير في بكورها وأحث الخطى

أسترق السمع لشدو طيور الأمل

فأنسى تعب الأيام و ليلي الطويل

كنت  أحترف السهر

أحيك من عباءة الظلام  بردة لصغاري

كي تقيهم برد الليالي

تحميهم من سقم عليل

كنت أحضنهم في قلبي

أضمهم إلي صدري وأسد منافذ الريح

كي ينمو زغب أفراخي

تتصلب قوادمهم ويطيرون عاليا كالنسور

يملأون الفضاء بوجودهم

فأنتشي بصوتهم الجميل

كان حلما يراودني كلما اغمضت جفوني

كلما اشتد العذاب أو ضاق السبيل

علمت صغاري كيف يبتسمون

كيف يزرعون الألفة ويحبون

كيف يحسنون الظن  يألفون ويُألفون

ونسيت أن أخبرهم عن غدر اللئام

كيف يقنصون السعادة من (كوخ) الأحلام

كيف ينصبون الفخاخ في الزوايا

كيف يمشون في جنازة القتيل

نسيت أن أخبرهم قصة ذات الرداء الأسود الطويل

نسيت أن أخبرهم عن (ستّوت)( مخلية سبع بيوت)*

وعن شمشون ودليلة

وعن كيد النساء والمكر والحيلة

فقد كنت ساذجة وغبية

وكالغريق كنت أعتقد النجاة بقشة

وأصدق المستحيل

ذات حزن أفقت  على صوت غراب

ومعه بومة سوداء

يحومان  حول الديار

وفي الأرض عقارب سوداء وأفاعي

وفي الأفق صراخ وعويل

و في غفلة لذغت العقرب السوداء فؤادي

انتشر في سويدائه سمها الزؤام

ذاب الفؤاد وانقضى

انطفأ الفتيل

ياليت (عقلي) كيف استوعب حقيقة

أغرب من خيال

وكيف لازال يخط البؤس  في سأم

يحكي عن  سم العقارب والأفاعي للأيام

يتلو تعاويذه ويشكو

لقلبي الأعشى وبصري الكليل

***

فاطمة الزهراء بولعراس

بقيت كلّ من الفتاتين وفيما بعد المرأتين تبحث كلّ منهما عن الأخرى حتى عثرت عليها. اللقاء بينهما كان فيلمًا حقيقيًا بإمكان مَن لم يتسنّ له أن يحضره ويتابع صوره المذهلة أن يتابعها هنا بكلّ ما تضمّنته من تفاصيل مفاجئة.. تمكّنت من إدهاش كلّ مَن استمع إليها أو اقترب من ضفافها العميقة.

ابتدأت الفتاة الاولى ولنسمّها مؤقتًا سمراء، في البحث عن قرينتها أو مثيلتها مُبكّرًا كان ذلك عندما أفاق حلمٌ وثّابٌ في صدرها، فما إن نهدَ صدرها حتى شرعت بالتمرّد على أمها. أمها لم تكن امرأة عادية، وكان أن رفضت تمردّ ابنتها الشابّة، فقامت بمحاصرتها وضربت حولها طوقًا مِن الوشاة الذين كانوا يأتون بأخبارها أولًا بأول، غير أن سمراء كانت

أكثر حنكة مِن أمها، فقد كانت ترواغ ملاحقيها مِن الوشاة وتدخل من باب لتخرج من شباك إلى أن تضعهم في متاهة وتغيب عن أعينهم، أما اولئك الاولاد والبنات فقد كانوا يلاحقونها حتى تغيب عن أعينهم، حالمين بما تجود به عليهم أم سمراء مِن قِطع حلوى يتحلّب لها الريق ويتحفّز اللسان. لهذا ما إن كانت سمراء تغيب عن أعينهم حتى كانوا يذهبون إلى دَوحٍ كبيرة يجلسون تحتها مُلاحقين العصافير التائهة حتى تغيب الشمس وينصرم النهار، فيتوجّهون إلى بيت أم سمراء ليأخذ كلّ منهم ما اشتاق إليه مِن قطع حلوى. في هذه الاثناء قالت سمراء أنا مُتّهمة ومُتّهمة تساوي متهمة، فلأجرب ما خافت منه أمي. وكان أن رأت شابًا وسيمًا وهي تقفز من أحد الشبابيك، فافتعلت السقوط، فما كان مِن الشابّ إلا أن هَرع إليها راكضًا ليقيلها من سقطتها. شكرته سمراء وقبل أن يمضي سألته ما اسمك، فأخبرها باسمه، وسألها عن سبب قفزها من الشباك، فما كان منها إلا أن روت له حكايتها من ألفها إلى يائها. نظر الشاب الوسيم إلى وجهها فرأي فيه علامات البراءة والشقاوة تجتمع إحداهما إلى جانب الاخرى. فأضمر أمرًا. وابتدأ برواية قصته فهو أيضًا مُحاصر، وأهله لا يدعون له الفرصة لأن يجلس وحده ومع نفسه لحظة واحدة. بل إنه بالغ في تضخيم معاناته حتى قال لها إنه وجد في ذلك المكان.. قرب الشباك، لأنه يزوغ من وشاة عينتهم أمه لملاحقته ومنعه من ممارسة حياته كما يريد ويرغب. أرسلت سمراء نظرة خَفِرة إلى وجه الشاب قُبالتها وسألته حقًا ما تقول؟ فردّ عليها بهزّة من رأسه حافلة بالرغبة والاسى. انفعلت سمراء لإشارة الشابّ قُبالتها وقالت له كمّ نحن متشابهان.. أنا أيضًا أعاني من مثل ما تعاني ومدّت يدها إلى صدرها وهي تقول أمي تُريد أن تحرمني من ممارسة حياتي وما أرغبه. بسرعة وجد كلّ مِن سمراء والشابّ شبيهًا لنفسه في حضن الآخر.. لكن ما إن انتهى اللقاء بين الاثنين حتى تجدّد في اليوم التالي والثالث والرابع إلى أن جاء يوم ودعا الشاب سمراءه إلى جلسة مع أصدقاء متشابهين. استجابت سمراء للدعوة ورافقته إلى شلّته.. لعلّها تعثر على شبيهتها. إلا أنها لم تعثر عليها وإنما وجدت نفسها تتنقل من يد إلى أخرى. وبقيت على هذه الحال إلى أن باتت تحلم بشبيهتها اناء الليل وأطراف النهار الغريب أن اليأس ابتعد عن بابها ليقترب الامل.

أما الفتاة الثانية ولنسمها سوداء، فقد عافت بيتها وهربت منه مبتعدة عن أمها وتلّويمها الدائم لها، وذلك بالتحاقها بعمل في مصنع. عملها في المصنع كان صعبًا إلا أنه أتاح لها أن تُقيم وحيدة ولم تكتف بإقامتها هذه. بل قامت بجرّ أختها الشقيقة إلى تلك الشقة. عاشت سوداء وأختها في تلك الشقة فترة أكدت لهما أنهما خُلقتا حرتين. وكان أن قست الحياة عليهما، خاصة على سوداء، فلجأت إلى الحلم تعيشه في الليالي الباردة الطويلة وتجعل منه دفيئة واقية لها مِن الانهيار. حَلَمت سوداء ذات يوم أنها تعمل في البيت الابيض وأنها ترافق الرئيس بيل كلنتون، فما كان منها إلا أن حَمَلت نفسها وتوجّهت إلى الولايات المتحدة الامريكية. وحطّت رحالها قُبالة البيت الابيض. تنتظر اللحظة المناسبة لدخوله والعمل فيه إلى جانب الرئيس. لاحظ العُسس المحيطون بالبيت الابيض الوجود المكثّف لسوداء فبعثوا إليها امرأة تسألها عمّا بها، وبما أن سوداء كانت قد حدّدت هدفها، فقد شعرت بحاستها المتوثّبة، أن الفُرصة قد سنحت لدخول البيت الابيض، فروت للمرأة قُبالتها عن أحلامها التي أتت بها من بلادها البعيدة. الغريب أن تلك المرأة أنست لسوداء وبدل أن تواصل تحقيقها معها روت لها حكايتها الشخصية. إنها قصة لا تختلف كثيرًا عن قصتك أنا أيضًا لست من هذه البلاد وحَلَمت بأن ادخل البيت الابيض وكان أن طرقت أبوابه فانفتحت لي بسرعة خيالية، وغمزت لها بعينها.. الرئيس يحب النساء ومن الصعب عليه أن يغلق أبواب البيت الابيض في وجه أي منهن. انطلقت المرأتان باتجاه البيت الابيض ودخلتاه بكلّ يُسر وبساطة. هكذا بسرعة البرق وجدت سوداء نفسها بالقرب مِن الرئيس. زاد مِن قُربها أنها كانت سمينة وعليها أكثر مِن ملقط لحم.. الصنف الذي يُحبّه الرئيس ويشتهيه ويحلَم به طوال الليالي وأطراف النهارات.. بلا طول سيرة غمز الرئيس ذات يوم لسوداء بعينه داعيًا إياها إلى غرفة جانبية هناك فما كان منها إلا أن استجابت له وهي تكاد تطير من شدة فرحها.. ها هي تُحقّق حلمها بلقائها الموعود بالرئيس.. ما تبقى معروف للكثيرين فقد طلب الرئيس من سوداء أن تتعرّى من كلّ ثيابها وما إن شرعت بالاستجابة له حتى بادر هو أيضًا بالتعرّي نازعًا عن جسمه البدلة الرسمية، وتناول من لهفته غليونه الفاخر وراح يُداعب مواضع حساسة من جسدها.. وتكرّر اللقاء بين الاثنين وكانا كلّما تقاربا شعرا بالرغبة في المزيد من التقارب إلى أن حلّ يوم. وانكشف أمر الرئيس مع سوداء، فما كان من ديوان الرئاسة إلا أن يبعد سوداء عن البيت الابيض، ويعيدها إلى بلادها على جناح السرعة. هكذا وجدت سوداء نفسها مكانك سِرّ. عندها استيقظ حلم في رأسها تمثّل في أن تعثر على شبيهة لها.. وهنا ابتدأت رحلة البحث عن تلك الشبيهة.

وكان أن فكّرت سوداء في الانتقال إلى شقة جديدة لتقيم فيها بعيدة عن عيون أمها ووشاتها، فراحت تسأل محيطين بها عن شقة مناسبة لإقامتها هذه. موحية إلى مَن توجّهت إليهم بالسؤال انها ترغب في الاقامة بشقة مشتركة ومع امرأة تُشبهها. في هذه الاثناء التقت بالشاب الوسيم الذي التقت به سمراء في أول عهدها بالحياة، فجذبها بوسامته، ولم تمض سوى أيام حتى أضحت عشيقة له. قام الشاب بالمقارنة بين سمراء الماضي وسوداء الحاضر فخطرت له فكرة جهنمية هي أن يجمع بين الاثنتين في شقة واحدة. وليكن بعد ذلك ما يكون. وهكذا ما إن التقت الاثنتان، سمراء وسوداء، في شقة واحدة حتى انفرجت أسارير كلّ منهما في ابتسامة واحدة. سمراء قالت لقد عثرت عمّن بحثت عنها طوال أيام العمر الماضية. كذلك قالت سوداء. وكان أن تحدّثت كلّ منهما للأخرى بصراحة ودون إخفاء أي معلومة، حتى وصلتا إلى ذلك الشابّ الوسيم.. العشيق المشترك بينهما، وسرعان ما أدركت كلّ منهما أنها خُدعت به، وكان أول ما فعلتاه هو أن قامتا بطرده من الشقة شرّ طردة، لتقيما نصفًا وجد نصفَه الآخر، بل إنهما تجاوزتا كلمة النصف هذه لتتّحدا في جسد واحد.. وتعزّزت العلاقة بينهما حتى أنهما اختارتا بعد لقائهما بقليل، اسمين متشابهين هما طونيكا ومونيكا، لتبدءا مرحلة جديدة.. ولتمضيا في مناكب حياتهما.

***

قصة: ناجي ظاهر

القسم (3) من: ذكريات من رماد

3 /5ــ صغيرة مقتولة بعشق

***

وجدها تنتظره في مكتبه؟!! القلق الذي يكسو وجهها بعبوس لم يُغيِّب جمالا لمحيا، ولا كتم عاطفة نداء من روحها، تحركت عيناها الى الباب عند دخوله، وقفت تحييه بعناق تعمدت أن تجعله باردا يخالف ما ألفه منها، على خدها طبع قبلة، ولاثارتها تعمد هبرعضة خفيفة آلمتها لكن أكتفت بتحريك حاجبيها عتابا.. دعاها للجلوس على أريكة، ثم جلس على أخرى أمامها..

أحس أن على لسانها أقوالا، وفي عيونها تينع بسمة متوترة تفضح الظل الذي يكسو وجهها.. تغابى.. فسألها:

أين ساقتك قدماك هذا المساء ايتها السائحة في وطنها ؟

اشاحت بوجهها الى جهة باب المكتب، ضغطت على فكيها ثم قالت:

الى صدري.. الى خيبتي.. !!!

قطب حاجبيه، واثرُ بسمة في عيونه، وكأنه قد استغرب كلماتها المتقطعة بفرنسية كانت تعاند أن تكون موحية ؛ قالت:

ـ سعد ممكن تسمعني بتأمل ؟.. هل لك وقت ؟

بسرعة رد:

ـ طبعا اسمعك، ألست حبوبتي الصغيرة، خطيبتي ؟.. فلمن يكون وقتي اذا لم يكن لك ؟

قالها وهو يضحك وعلى كتفها يضع يمناه تاركا ابهامه يتحرش بجيدها..

أمالت برأسها قليلا ثم قالت:

ــ لا.. لحد الساعة.. لا.. ولا أظن أن كل اوقاتك لي.. لا تبالغ سعد.. فما كنت أعرفك ممن يكذب او يبالغ في قول !!..

حرك حاجبيه الى أعلى كنوع من الضيق تلبسه من قلقها وطريقة تعبيرها قبل

ان يحرك شعيرات الى الخلف نزلت على وجهها ثم يقول:

مابك سلمى ؟ صارحيني..

قالت وهي تحاول ألا تغالبها دمعة:

ـ سعد.. هل تؤمن بحبي لك ؟

حرك رأسه تأكيدا لقولها فتابعت:

ـ أحبك فوق ماتتصورسعد، وحبك لم ينزل علي كضربة حظ او هبة من احد.. حبك نما معي، احتضنته في صدري مذ كنت طفلة لاتعرف غير حب ابويها واختها.. عشت طفولتي وانت قدوتي ومثالي، وفي مراهقتي بعد ان توفيت أختي حصرت فيك كل أحلامي.. كأني ما كنت أحيا الا لك، أو كأن ضحى ما كانت غير عبور ريثما ابلغ رشدي مع اعتذاري للتعبير.. كنتَ أرق ليلي وخيالات ِعقلي، وتمنيات صدري..

كنت لا اعرف من الحياة الا شيئين: حبك في صمت وانت لا تدري، أوربما كنت تدري وتتجاهل، متمسكة بإلهام من حلم بشرى من ربي، وبدراستي لانها قطار أملي.. لاني التقطت من ضحى يوما أنك لا تتصور بيتا أنثاه غير متعلمة أولا تمارس في بيتها اختصاصاتها بوعي وحرية..

توقفتْ قليلا، أخذتْ نفسا عميقا.. كان يتابعها وكأنه يسمعها لأول مرة، فالتي أمامه ماعادت سلمى الصغيرة، ولا هي الطفلة التي ترعرعت أمامه، صمتها أطول من كلماتها، لا تهتم الا بدراستها، حتى وهي تساعد أختها في أمر منزلي لا تهتم الا باسترجاع ما حفظت من دروس أو دندنة لبعض الأغاني القديمة لمغنية فرنسية (ماري جوزي نيفيل)..

أبواي أحبهم

مدينة لنزهتي

فقراء اساعدهم

أيادي أعمل بهم

طيور لحلمي

حبيب لقلبي

وقيتارة للغناء

هذا ما تلقيته من ربي الكريم

لما ولدت

لاحظت ان كلماتها قد وجدت صدى في عمقه وأنه يتابعها بأمعان..

قالت:

ـ بعد موت ضحى صرتَ لي هوسا غايتي أن أحظى بك، لا كاستئثارأواستحواذ، أو لطمع بغيض، ابدا فهذا بعيد عن تنشئتي وفكري، وإنما كشريك واع يؤمن بالمرأة كتميز وشركة فكر ووجدان...

حركته عبارتها، فتذكر أنها زارته ثلاث مرات وهو في رحلة علاج بفرنسا اثر نكبة عمره في فقدان زوجته أختها، ثم كانت لاتفارق غرفة نومه بعد عودته.. كان الكل يأتي ويروح الا هي.. أحس بضيق في صدره وهي تحاول اثارة ذكريات يجاهد النفس الا يذكرها أو يسمح لها أن تلوح له باثر..

تملك هدوء ه وركز فيها النظر وهي تتابع كلامها..

ـ لا أقول لك اني صددت الكثير، فانا لم اكلف نفسي ذلك لان سلوكاتي كانت تحذر كل من يحاول تجاوزحدود الصداقة وتبادل المعرفة حتى قالوا عني" أنثى لا تعرف الحب" بل من القوالين من أتهمني بما لم يثرني ابدا بحس ولا انتباه..

حين كلمتني ماما الحاجة ـ والدتك ـ عن مشروعها الذي يتعلق بفكرة زواجنا، لم اتركها تشرح الدوافع والأسباب فقد وجدتني فاكهة ناضجة، عانقتها وقلت:

ـ سعد عشقي ولن أكون له الا إلفا واستمرار حياة بوفاء، ولعايدة أما كما هي تتمنى وتريد، الا اذا رفضني سعد لسبب ما.. أني مازلت بين عيونه طفلة، او لارتباطات أخرى..

أضفت وانا أهوي على يديها تقبيلا:انا من يتوسلك ان تساعديني على أن أعيد الفرحة لبيت عشت فيه، تشربت عاداته واقدر أهله..

بكت الحاجة وقالت:

ـ وهل يجد سعد أحسن منك جمالا ونسبا واصلا ؟

أنا فقط كنت أريد رايك.. أما موافقة الأهل فأنا كفيلة بها..

مرة أخرى يسرقه ماضيه منها بذكرى.. كيف لم يفكر فيها من قبل.. كيف كان يرى صورة ضحى في بعض بنات المنتديات فيميل اليهن ولا يرى سلمى وهي اقرب اليه منهن؟.. ربما ظلت صغيرة في عيونه.. ربما صمتها الدائم في صغرها ثم غيابها خارج الوطن للدراسة أبعده عن التفكير فيها.. صور كثيرة داهمته..

تذكر بنت عمه وهي تقايضه عن ابنته قبل كتب الكتاب.. ضغط على فكيه اشمئزازا وهو يتذكر عبارتها:

ـ "سعد.تعرف أني أحبك واني سأكون لعايدة أما، فبمَ يجود كرمك فوق مهري" ؟ كانت تريد شقة باسمها.. في عمارة كان قد بناها والده قبل موته؛بدا يقارن بين قولين وسلمى تردد:

خمس سنوات وجميعنا: الحاجة، وعايدة، والداي، ينتظرون تخرجي لنعلن خطبتنا او زواجنا مباشرة..

ركبته بسمة تغافل: "وحدي من كان آخر من يعلم"

حرك راسه سخرية من نفسه ثم تابع حديثها:

ـ عدت الى المغرب وقد كلل الله سهري ومثابرتي بشهادة قليلات من بلغنها من بنات وطني.. كنت أتمنى وجودك في انتظاري.. لكن كنت حينها مسافرا في مهمة تجارية.. لم انتظر قدومك الى بيتنا لتبارك لي فانا من هرولت اليك بعد عودتك من السفر، و أنا من توسلت الحاجة لتنظيم سهرة تجمعنا جميعا ؛ كانت الحاجة حريصة ان أبيت عندكم لتفسح لنا وقتا مريحا للحديث والحوار..، هي طبيعتها كما أعرفها من صباي..

مطارق الذكرى تدق أم رأسه.. هي ذي سلمى الصغيرة تتكلم برزانة الكبار، وتكابد لتفتح لمستقبلها طريقا مضمونة.. هي ذي سلمى أنثى عاشقة، واعية، حريصة أن تعيد لنهره الجريان بثقة وثبات وعزم..

وتذكر أخرى من خارج وطنه ادعت حبه واليها شد الرحال فوجدها ضرة ثالثة لكبير قوم تحلبه بالليل وتخونه بالنهار، وأخرى غيرها كانت لها وحمة كقطعة كبد سوداء تشوه صفحة خدها ما أن عالجها على حسابه وتبدى وجهها بصفاء وضاء حتى فضلت ابن عمها عليه.. شتان بين تربية وتربية، بين تنشئة تهدم كهوف الشك في النفس وأخرى تترقب المدح لترضى على نفسها حتى اذا لم تجد غير الضغط والرقابة والشك والتبخيس انقلبت الى افعى لا تبحث الا عمن تلذغه..

تململت سلمى في جلستها فاعادته اليها.. قائلة:

في تلك الليلة ما حبست عنك نفسي، فقد كنت مستعدة ان اهبك كل ماتريد.. وقد خامرني شك وانت تحاول ان تصدني مكتفيا بقبلات ولمسات كم ألهبتني !!..

كأنثى ماعرفت من الجنس الا ماقرأته في الكتب والمجلات.. لكن ما أحسسته كان كطوفان.. كم عذبني قبل ان أتركك وأتعذب توسلا لاغماضة نوم، ففرحتي لا يختصرها فظ بكارة قبل الأوان، فقد كنت أعي أنك لست ممن يقيس عفاف المرأة بغلالة ورد أومن يسعى لإثبات رجولته بقطرة دم.. كانت فرحتي ان أحقق حلمي واسعد ك، ان أعيد لك فرحات كنت الاحظها من صغري في عيونك وفي سلوكك وطريقة تعاملك مع المرحومة أختي، هي نفس الفرحة التي كانت ترين على البيت بين أمك وابيك، فبيت يسكنه الحب وبه يسير لا يتغافل عنه الا غبي بليد.. كم كنت أغبط أختي وأنا أجدك صباحا تعد الفطور أو تهيء بعد الزوال أكلات كانت تحبها ضحى وتفضلها من يديك..

الأنثى اللبيبة هي من تلتقط الصورة من زاوية دقيقة بإحساس غيرخادع ولا مريب.. هوذا ذكاؤها الذي تتحدى به الرجل ولم يفهمه بعد.

هي ذي سلمى الصريحة غصن من نفس الدوحة، لا حدود لصراحتها ولو سمت الأشياء بمسمياتها، لاتلف ولا تدور بل تتقصد ماتريد كما كانت ضحى اختها، تقول:

"الصراحة ليست صوتا داخليا، انها وحي من خالق على لسان خلقه"..

شهقت كأنها تستعيد أنفاسا في صدرها قد توقفت، وخنقتها دموع جاهدت النفس ألا تشي بها، وبغليان جوفها.. استكانت قليلا ثم قالت:

سعد.. اليوم انطعنت وانا أرى أخرى مجنونة بك او هكذا كتبت على السكايبي انت من تركته مفتوحا، فظهرت رسالتها على واجهة حاسوب البيت، تقول:

"كما تريد حبيبي ".. فلن يخونني حدسي فيك ؟ !!..

ـ صارحني سعد.. هل لك أخرى في حياتك انت معها في ارتباط وثيق ؟

بينهما ران صمت عسير، وفي راسه دارت الف صور ة وصورة..

صب نظره مكسورا قلب عيونها الحالمة وقال:

ـ سلمى.. هي أنثى موجودة.. ولكنها بعيدة.. تفصلني عنها آلاف الاميال.. لم نلتق قط.. ولا اعرف لها وجها، قهرها الزمان في زوجها وقد شلته رصاصة حرب ظالمة وصار أبناؤها الثلاثة عرضة للتشرد..

فاجاته: اسمها تغريد أليس كذلك ؟

اندهل.. وقد اهتز منه الصدر: كيف عرفت اسمها ؟هل نبشت في تسجيلات حاسوبه ؟ هي اقدر على ذلك بحكم تخصصها، ولكنه يستبعد تجسسها عليه..

فليس هذا من أخلاقها..

قالت بعد تنهيدة عميقة:يوم ضممتني الى صدرك وانا قربك على سريرك قلت لك:

ـ استعجل يوما ياسعد أجد فيه حبك نارا تلهبني !!.. ألا ترى أني أهبك كل ما تريد بلا تفكير ولاخوف من غد ؟ سعد !.. لوما كنت أعرف عن معايشة وخبرة عميقة مبادئ وعمق من أهديته حبي، أصله وفصله، ثقافته وايمانه بقيمة المراة صدقها وصراحتها يعشقها حتى النخاع ما رميت عليك نفسي،.. فهل حقا تحبني سعد؟..

فكان ردك وكأنك لم تكن تصغي لما أقول أوعليك أختلطت الأصوات والأحداث:

وكيف لا أحبك تغريد وانت في صدري. خفقان لظروفك.

لم ارد ان اعلق لاني كنت لا اريد أن افسد لحظة عناق بل كنت أطمع في أكثر وثقتي بك لا حد لها، فتركت الامر للزمن فانا معك قادرة على أن احميك ممن عداي، لكن اليوم بعد أن قرات عبارتها اليك كان لزاما ان اصارحك حتى نحدد لنا طريقا..

امامه صارت تترى الصو ر، الحاجة والدته، عايدة ابنته، تضحية سلمى وصبرها، ثقة اسرتها، الماضي الذي عاشه، تجاربه السابقة، مستقبل ابنته،. تغريد وحاجتها الى تعليم أبنائها بوعد قطعه على نفسه..

بسرعة فكر:يلزمه ان يكون ذكيا.. وأن يراعي الأولويات في حياته، مسك يدها وقال:

تعالي !!..

قامت وتحولت اليه.. أجلسها على ركبتيه.. قبل خدها وقال:

يا صغيرتي التي صارت أنثى يقتلها العشق.. أين انت اللحظة ؟

قالت:مع سعد.. أجلس على ركبتيه..

اعجبه تعبيرها.. ذكية، تتقصد غايتها بلا لف ولا دوران.. قال:

ـ ومن الأقرب؟ أنثى قهرها الزمان تعيش بين طلقات المدافع وانهيارالمنازل، وتشريد الأهل، تترقب من سعد عطية شهرية لتعليم أبنائها، ام من تجلس على ركبتي سعد.. تتشممه.. تقبله.. ثم تعاتبه وهي لا تدري حقيقة ما وراء المسافات؟..

كان يدرك ان الحقيقة وحدها تخفف عليها من وطء الصدمة التي تغلي في صدرها صعودا ونزولا.. أحس أنها اندهشت لما سمعت فذكاؤها طار بها الى حيث ماعادت جدوى للكلمات، ورأى ان دموعها قد غالبتها وفاضت على وجنتيها.. دفنت راسها في عنقه وصارت كطفلة صغيرة تشهق من غبن، سلمى بكل صبرها وقوتها تغالبها دموعها !!..

مسك يدها.. قبلها.. ووضعهاعلى خده..

رفعت راسها الى وجهه وقالت:

سعد أحبك حبيبي.. سامحني.. ما تصورت الامر كما أنت شرحته..

ناولها ورقا نشافا.. مسحت وجهها.. قامت من على ركبتيه واستدارت نحو مرآة في مكتبه تصلح من زينتها..

ولعبت الذكريات بخياله..

كان لا يحتاج كبير عناء مع أختها ضحى لتوضيح ما يريد.. بل لم يحدث ان شرح كل مايريد.. فقد كانت تملك من الذكاء وسرعة النباهة والفهم ما تكفيه إشارة أو بضع كلمات لتوضيح كل مايريد..

كذلك بدت سلمى اليوم أمامه، تقرأ الكلمات بصورها ومعانيها، وتستنتج الحلول بلا حاجة للسياقات تترى، او تكلف محدثها ان يطنب في توضيح..

لم تغضب ولم تحتج وتجادل، بل ولم تركبها الغيرة لتقول كاي أنثى عربية:

"أنا أوهي" ففكر حبيببها بعيد على أن تثيره شرقية

تنهد بعمق وقال: لك الحمد يا ربنا والثناء، فقد كافأت صبري كرما ورضى..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

- هل حقا انها رحلت؟

انزل قبعته العسكرية وأنهار جالسا على الارض الباردة غارقا في دموعه التي يسفحها باسراف على محراب الحدث الجلل الذي وطأه للتو، وبعد موجة نحيب بدت نها كالهر صاح الرجل الذي استوطن غرفة الانعاش لعدة ايام بجانب زوجته  المريضة نائحاً:

- كيف جعلتيها ترحل؟.

لم اعرف بماذا اجيبه بالضبط، لاني ليس من جعلها ترحل بدقة، ولم افهم سبب النظرات التي اختلطت الكراهية بها مع الدموع والتي كان يصوبها نحوي، ولماذا أنا، ليس الامر وكأنني مالك الشقة الأرضية في نهاية الشارع، صفع ايدي حين اقتربت منه ببطئ محاولة تهدئته، أدركت حينها ان كل ما اقوله الان سيستفز فاجعته. هل اواسيه؟ ام اخبره ان هناك رجل غيره يصغره في السن ويناقضه بالوسامة كان يأتي بها للمستشفى؟ وهل سيكون مفيدا لو قلت له بأني صادفتهم يدلفون الى الشقة في نهاية الشارع عدة مرات عندما كانت طرقنا تتقاطع، هل من العدل أن ابوح له بأني تفاجأت بأنه هو.. الرجل الممدد على ارضية الممر القذرة ناشجاً رحيلها.. والذي ينوح بصوت عال كطفل اضاعته أمه في سوق مزدحم.. هو زوجها الذي تحدثت لي يوما عن غيابه الطويل عن المنزل بسبب طبيعة عمله، وليس ذلك الشاب الذي كانت تبادله النظرات الولهى والابتسامات المسرفة في جمالها وعفويتها..

لم اعرف ما ينتظر سماعه مني في تلك اللحظة، وما الذي علي أن أقول.. لطالما ما ظننت ان الكراهية اسرع ترياق للسم الزعاف، هل أخباره بالحقيقة سيكون مخففا لحزنه أم أنه سيكون خلطة قاتلة من الحزن والذل والشعور الممرض بالخيانة، هل من المعقول أن يخفف عنه شعوره بالاستغفال كل تلك المدة بعض ما يمزق صدره في هذه اللحظات الرهيبة.. لحظة الموت الرهيب عندما يحط بكل جلاله كاتما على انفاسنا.

ترى هل يجب أن نسامح عند الموت؟ وهل أبراء ذمة من رحلوا فرض علينا أم خيار..مع اليقين باستمرار من  سنغفر لهم في ازدراد لحمنا لو بقوا على قيد الحياة.. هل تعوضنا الحياة بدل تلك القضمات التي نكابدها من أحبتنا لحما طازجا جديدا عند الموت؟ هل تتقيأ الجثث ما لاكته من أحلامنا؟ ولم نستمر بالبحث عن الجزء اليانع في التفاحة العفنة في حين أن هناك العديد من أشجار التفاح لا تبعد عنا سوى دقات قلب.

لا داعي لكل هذا.. فلست متعاطفة تماما مع هذا الرجل الذي دخل الى المشهد متأخرا، ولا اخفى كذلك إني اعتدت على الجثث، فلا يمحي عندي موتهم أي من السوء الذي يفترض أنهم توحلوا فيه في حياتهم، ولهذا السبب لم أحس بالأسى  تجاه هذا الجسد المترهل الرمادي المسجى أمامي على طاولة الموتى، لا اعلم لماذا تبدو الان تلك السيدة متعددة الشركاء  اكثر زرقة وتهرئاً مما يفترض أن تكون، هل بسبب مشاعر غير مفهومة تتأرجح بين الغضب والخيبة والشفقة على هذا الرجل الذي يسفح الكثير من الدموع على حب لم يكن له من الأساس، أم للأسئلة الكثيرة التي كانت تمر على خاطري عندما كنت أرى ذلك الثنائي المتنافر بين أمرأة في أواخر العمر وفتى في مقتبله.. والتي وجدت الآن اجابة لا يمكن عدها هادلة تحت أخف الظروف.

أتسائل.. ماذا سيحدث لحبيبها اليافع الان، أو أين هو الآن على الأصح.. ترى هل كان يواعدها من اجل المال؟ ليس كانها تملكه، لم نجردها من اي مال أو مجوهرات او أي مما يدل على الرخاء عندما لفظت أنفاسها الاخيرة،  وبالتاكيد ليس للجمال دور بالموضوع، مع الفارق الواضح بالسن الذي لم تفلح المساحيق باخفاءه، او ربما كانت لذلك الشاب عقد  دفينة بالتعلق بالأم كتلك التي قرأتها مرة في مجلة ما أثناء استراحة عابرة لي في غرفة الانتظار.. لا اعلم.. وقد لا أعلم أبدا.. فستكون تلك المرأة وعشيقها وزوجها المنهار على الأرض مجرد ذكرى باهتة بعد سويعات قليلة.. وسيكون هناك بالتأكيد ما سيشغلني أكثر من التفكير بمصائر حيوات تلاقت في نقطة قد لا تكون المثالية في سفر الزمن الخالد.. لكن ما أنا متيقنة منه تماما.. ان هذا الرجل الحزين لا يريد سماع رأيي بزوجته الفاضلة الراحلة بالتأكيد، وفي هذه اللحظة بالذات، ولا يريد ان يعلم انه محظوظ جدا أن الأمر أنتهى على هذه الشاكلة، فلو كنت في مكانه لرميت زوجتي في مكب النفايات بدلا من انفاق دخلي لعدة سنوات من اجل  مراسيم العزاء والتأبين..

***

ود جمال الهنداوي - العراق

لاتَـقلْ للنـاسِ إنِّي صـرْتُ شاعرْ

فـي بـحـورِ الشعـرِ سباحٌ وماهـرْ

*

يـنسجُ الـحـرفَ كــفرسانِ الـهوا

يخطفُ الأضواءَ مثلَ النجمِ باهرْ

*

بــهـلــوانٌ لايـُـجـارى مــطـلـقـاً

سـاحـرٌ قـد يـَقْلـبُ المنديلَ طـائرْ

*

إنَّــمـا الـشـعرُ شـعــورٌ صــادقٌ

يبعث الاحساس في عمق الضمائرْ

*

يـجعل الـحـرف سـلاحــا فـاتـكا

نـاصراً لـلحق مـثل الـسيف باتـرْ

*

لـم يـكنْ مـحضُ خـيالٍ يــرتجى

أو شـعورٍ فـي ثـنايا الـفكرِ خائـرْ

*

بـل نـزيفٌ مـن شـرايين الجـوى

و جُـمـوحٌ عـارمٌ كـالسيلِ هــادرْ

*

أو كـماالأعصارُ يـجـتـاحُ المدى

نـاشطاً مـثلَ هـبوبِ الـريحِ ثـائـرْ

*

يـستمدُّ الحـبرَ مـن جـرحِ الأسى

لـيصوغَ الآهَ لـحناً فـي الـحناجرْ

*

هـلْ لنـا نكـتبُ شعـراً في الهـوى

وأمــانـينـا تـلاشتْ فـي الـمـقابـرْ

*

فـالعيـونُ الخضرُ ماتـتْ خِـلسةً

والـرزايا شـيّبتْ سـودَ الـضفائرْ

*

لــم تــعدْ أعـشاشُـنا فــي مـأمـنٍ

فـغـدونا مثـلَ عـصفورٍ مـهاجرْ

*

وئـِــدتْ أحـلامَـنا فــي مَـهـدِها

والأســى يـجـثمُ  فـيـنا  لا يـغـادرْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

حرارة

ما أدركَ ذاك الفارس

إن خيول الشوق

إنطلقتْ صوب إخضراره

وتلك الغابات الصامتة

أيقظها صهيل يُشبه اللهفة ..

2

ذوبان

في يدهِ أمنية

مُتشبثٌ في تحقيقها

حد الثمالة ..

يتسيّد الملح ولائم عشقه

حتى ذابتْ في أسرار كفهِ هوية أنثى ..

3

هبوب

ساكنٌ

في تفاصيل صغيرة

يمسحُ من قصته

ملامح حبٍ قديم

حتى صار البياض

ثوب عرس

فبحث عن قلمه الصغير ..

4

إعصار

روتينيُّ الهوى

يعشق تعاقب الليل والنهار

أعادَ للذاكرة

ثوب القبل ..

وأنجرف وحدهُ مع سيل الأشواق ..

5

صقيع

نسائم شوق ربيعية

باغتتْ شروده

فأستفاق بذاكرة جديدة ..

ومن مسرح اللذة

أنهمرتْ أنثاه ..

حتى أظلَّ المشهد ..

6

إنهمار

كنازلٍ من السماء

حاملاً غيوم

ما إعتصرها عاشق

لتظلَّ  دون هطول

سر من أسرار الكون ..

***

إنهاء الياس سيفو

ازاهير الوقت

الناضج

في طريقها الى

النضوج

والقطا

والعصافير

واطيار اليمام

المعذبة

بالانتظار

وقرب ينبوع

الامل الاخضر

تغزل الهداهد

الحزينة من

جمال ريشها

نايات وقياثرا

تعزف على اوتارها

لحن الازاهير

الناضجة

ولحن قوس

قزح الفرح

واحصنة الشفق

الازرق في

مدارات الامل

الاخضر والحكمة

الخضراء

تصهل تصهل

صهيلها المضيء

عاكسة على

زجاجات مراياها

حزن ا لهداهد

القطا والعصافير

وحزن الشجر .

***

سالم الياس مدالو

القصيدة تأخذ بيدنا

إلى الحلم

ولا تشرح لنا كيف يعمل.

*

في البدء

ليت حلم الطفل.. طفلٌ.

في البدء

ماذا أُسمّي التيهَ الذي لا يُسمّى؟

الضياع أمٌّ لمن لا أمَّ له.

في البدء

كيف أقنع ظبي الينابيع

أننا إخوة في الماء، والدم ما بيننا مشترك

(وليس دمك ودمي سوى عصارة أعدت منذ الأزل غذاء لشجرة السماء).

*

أيتها الأحلام التي لن تجيء إليّ

ولن أذهب إليها أبدًا

يا أحلام العالم التي أُنجزَت

ولم أتجرّأ حتى على تخيّلها

مرةً، مرةً وحيدة

على كتفي ذراعُكِ تمتدُ.

*

أيها الكَرب الذي لا يُطاق

أأنا ورمٌ في دماغ هذا الكوكب؟

*

آهٍ يا أنا...

يا أقدم موقدٍ أُضرمت به النار

هذه الغابة ليست فردوسًا

يمكن أن تنالها بنعم نعم، لا لا

الحق الحق أقول لك

ارحل.. إن وددت الرحيل

لن يكترث لأمرك رَبٌّ

سواء ذهبت مع الرّيح

أم بقيت مع كومة اللاشيء.

وإن كنت ستذرف الدّموع

لإجلِ وداعٍ كهذا

لا تمسح دموعك بهذا المنديل

ففي المنديل عيونٌ أخرى

تبكي...

***

ضرغام عباس

القسم الثاني، الفصل (3) من رواية:

غابات الإسمنت

***

قضيت أسبوعا في منزل مديحة.. حياة رائعة؛ لكنها كانت تتذمر بعض الأحيان.. غير راضية عن نفسها، تعدّ ما تقوم به من عمل طعنة في ظهر زوجها المغدور.. وليس أمامي من حلّ سوى أن أصبّرها، فلا حلّ آخر ينتظرني أو ينتظرها، على أقلّ تقدير في المرحلة الراهنة، إلى أن تقتنع أن لا حلّ أمامها سوى قبولها بما هي عليه، ولو كان بيد النقيب ابتسام حلّ آخر يخرجها من السجن لما اختارت لها هذا الطريق.

علينا أن نقبل الحياة الجديدة، هذا هو قدرنا المكتوب ولا فرار منه.. إنها تثق بي كما تثق بنفسها، بدوري أروح أصبّرها وأخفّف عنها..

صحبتني ذات يوم إلى أطراف المدينة، بداية الصحراء، لم نتوغل في الرمال كثيرا، خشية أن نتعرض لحادث ما .. أوقفت السيارة وراحت تتأمّل.

تأملتْ طويلًا ولم أقاطعها.

ثم التفتت إلي وراحت تنشج.

سألتها:

ـ هل كان يأتي معك إلى هنا؟

ـ إنّه مكاننا المفضل حيث الفضاء الواسع، كان يريد أن يقول لي إنّه يحبني مثل الفضاء بلا حدود؛ لكنه لا يقولها بل يجلبني إلى هنا ليدعني أكتشف بنفسي.

يا صديقتي عندما تعشق المرأة رجلًا محددًا، رجلا تجعله سندها وحبيبها وخيمتها وبوصلتها، بصوتهِ وحده يهدأ أوار روحها، وفجأة تفقده لتعيش مخذولة خائبة.. فإنها

تشعر بشيء ما يتكسّر داخلها، ثم تتكسر أمامها مرايا الحياة، مرايا الحبّ، مرايا الثقة بالآخر، ومرايا الفرح.

لهذا لا بدّ من اختيار الرجل الصحيح، الرجل الذي يتفرّغ ليسأل، وليس الذي يسأل عندما يتفرّغ.

الرجل الذي يهتمّ قبل أن يحب، وليس الذي يحب ولا يعير أهمية لتفاصيل وجودكِ.

الرجل الذي يشعر بحاجتكِ إليه، حزنكِ وفرحكِ دون أن تُلمّحي بذلك، وليس الرجل الذي تستجدين منه المشاعر.

الرجل الذي يضع وجودكِ في رأس القائمة، وليس في طرفها.

الرجل الذي يجعلكِ تضحكين، وليس الذي يبكيك بقصد أو من دون قصد.

الرجل الذي يفتخر بكِ، وليس الذي يخبئكِ وكأنكِ "عار" أو "نهيبة".

الرجل الذي يشعركِ بقيمتكِ، وأنكِ نعمة في حياته.

الرجل الشجاع، وهذه تحتها ألف خطّ!

الرجل الذي يلجأ إليك ويعدّكِ أمّه وأخته وحبيبته وزوجته وعالمه.

الرجل الذي يطمئنكِ بأنكِ لستِ وحيدة، وأنه معكِ، متمسّك بكِ مهما حصل.

الرجل الذي يعصر روحه، ليغسل تعبكِ عندما تلمّحين له بتعبكِ.

الرجل الذي لن يخونكِ.

اختيار شريككِ بالحياة مهمّة صعبة.

أردتُ أن أطالعها بأفكاري، فخشيت أن أجرح صمتها أو أثير دموعها.

أدركت أنها امرأة تتظاهر بالنسيان، وأن الزمن مهما طال لن ينسيها الجرح الكبير الذي أصابها، مع ذلك حمدت الله على أننا.. أنا وهي أصبحنا تحت رعاية السيدة النقيب التي أصبحت لي كلّ شيء.

نهاية الأسبوع اتصلت بي ابتسام.

قالت لي مديحة: لعلها وجدتْ لكِ عملًا؟

ـ أتوقّع ذلك ياصديقتي.

ـ أرجو لك التوفيق من كل قلبي.

لقد راودتني في الطريق إلى حبيبتي ابتسام هواجس عدّة؛

لكنها احتمالات جميلة.. فها هو أسبوع مرّ ولم تتصل بي.. لعلها اشتاقت إلي، وما دمت ضيفة عند مديحة، فإنها تتحفّظ أن تدعوني لأبيت عندها ليلا، أما خلال النهار فيمكن أن تفكّر مديحة أنها دعتني لأنظّف لها الشِّقّة، أو أنها استدعتني لعمل ..

مهما تكن علاقتي بصديقتي مديحة قويّة، فإن علاقتي العاطفية بحبيبتي ابتسام لا بدّ أن تكون قيد السرّ، علاقة يجب ألا يجرحها سمع الآخرين وهمساتهم، مثل دم الإنسان حالما يخرج إلى النور والهواء يفسد، قوي ورقيق لا يحتمل أي إطلالة، أعرف أن صديقتي رفيقة السجن تعمل مثلي لمصلحة الشرطة؛ لكن أن تعرف عني أبعد من ذلك، فهو شأن آخر يُحسب له ألف حساب.

وصلت إلى بيت ابتسام، وقد وجدتها تنتظرني على أحرّ من الجمر..

لهفة واسعة وتنهيدة طويلة؛ ضمتني إلى صدرها بقوة، وعضّتْ مرات أرنبة أنفي عضّات خفيفة:

ـ أكثر من أسبوع أليس كذلك؟

ـ وهل تعتقدين أنه سهل عليّ؟

فأدّيت التحية:

ـ نعم سيدتي النقيب ابتسام.

فداعبت شفتيّ بإصبعيها:

ـ سُكّر، كلمة ابتسام من فمكِ.. قولي ابتسام فقط!

كنّا في الفراش نغيب عن الوعي، تتعانق روحانا ويرتعش جسدانا، تمسح خدّها بدمعي؛ لكنها لا تستطيع أن تكبح من الفرح والنشوة دموعها.

كلّ مرّة نصبح عالمًا قائمًا بذاته.. كونًا ملتهب المشاعر، أنا بين يديها وهي تركع تحت قدمي تقبّلني وتهمس أحبكِ.

لا أعرف عالما سواها، أشعر أني النور الذي يشّع من مشكاة قلبها، والعطر المترشح من زهرة ليلها، وأني حكاية شهرزاد التي لم تبح بها حتى اللحظة.. ليس لأن الفجر حلّ والديك صاح كما يقال؛ لكن لأن الخوف في عينيها لاح، أشعر أنني الحب بمعناه الذي أريده، حب خارج إطار العتمة والقضبان.

وفي لحظة صفاء ونحن نحدّق بسقف الغرفة قالت:

ـ ليست بشرى واحدة بل هما اثنتان.

ـ خيرا يا وجه السعد؟

ـ اسمعي؛ الشقة التي بجانب شقتي فرغت، وقد أخبرت المالك ألا يؤجرها لأحد لأنني أريدها لقريبتي التي هي أنتِ.

أخذتُ يدها ورحت أمسحها بشفتي وأغيب في شهيق ناعم طويل.

ـ يعني جارتك؟!

ـ يعني أننا لن نفترق أبدًا.

ـ والبشرى الثانية؟

ـ تخص عملك، ما زلت أسعى بها وسوف أحقق الأمر.. والتفتتْ نحو خدي تقبلّه: الحلاّقة بدأت تصفّي عملها في المحل، سأشتريه وتكونين أنت شريكتي ومديرته، هل توافقين؟

ـ هل يعقل أن أقول لا؟ وأردفت: لقد لاحظت بعض التغيير في المحل، هل لاحظتِ التسريحة؟

ـ رائعة وبإمكانك أن تعملي أحسن منها.

ـ آمل ذلك.

ـ سنضيف إليه، ونرّتبه.. وربما اشتري البناية بأكملها.

رجعت ذلك المساء إلى بيت مديحة، فلم أرد أن أثير شبهاتها بمبيتي في بيت السيدة النقيب.. الوضع الآن مختلف، وعلاقة الحب بيننا يجب أن تظلّ سرّية، حيث رحت أنتظر الانتقال إلى الشقة الجديدة والعمل الجديد بفارغ الصبر.

جلستُ على حافّة السرير في غرفتي المؤقتة عند صديقتي مديحة، وبين الرغبة في استقبال الغد بكل ما فيه، والرهبة من أناي التي تركتها تتلاشى مع بضع رصاصات، وعينين جاحظتين، وبركة دم، انتابتني صحوة متأخرة جدًا؛

ثمة من يبني وسط أكوام الحزن، ويطلق من الرماد عنقاء أيامه.. وثمة من يرمي نفسه وسط كومة جمر ليصير رمادًا.. أيهما أنا؟

هل بنيتُ ذاتي بتقويم صحيح من جديد؟

أشكُّ في ذلك..

لكن في ذات الوقت، أشعرُ أني سموتُ بنفسي نحو الصفاء التام، الصفاء من شوائب ورواسب ثقيلة، وزائدة لا نفع فيها سوى التأخر عن مواكبة الحياة وعيشها.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

1- طيبة

كلما جلس على حافة النهر

ومدّ كفه المباركة المخشوشنة

في مجرى الماء المترقرق

في فصل الصيف الساخن

تحوّل النهر

إلى سماء نديّة ...

تتناثر أضواؤها

قطرات ياسمين

ومطراً مملوءً بالخير

والحبّ

و الأشواق

للناس.. للطائر المسافر...

وتطرق بابه الطفولة

خلف جدران وحدته

وهي تمضي

بالصبر

لمستقبل

الازدهار

تمضي ..

بشوق يطير

برؤية...

طليقة

ليزدهر الحظّ

أندى من حكايات المطر

ويكون دائما

على قيد الحياة

أريجاً

في محطات الأحبّة والفقراء ..!

**

2 - طقس

يومه ملئ بالحيويّة

صلاته ..

صلاة الجمعة،

التي لم يعزب عنها

أبداً.. أبدا...

على الرغم من المسافات البعيدة

فكأنّه في جرم سماويّ اخر

بين نخيل .. ورمان واشجار البمبر

"الجامع رائحة نبويّة "

هكذا كان يردد ..

وهو يستعد للخروج من البيت

حيث كان يقصد بسرور، وبهجة

جامع السيّد عباس جمال الدين

في البصرة الفيحاء

في منطقة (السيمر) التي رآها ...

وسمعها

وعرف كل أزقتها

حتى صارت بعض أنفاسه

لأن بيتاً من بيوت الله (هنا)

نعم كان هنا يصلي

صلاته،

تفتح للقلوب الكبيرة بابا ..

بابا ...بابا

هي تراتيل،

من اشتدتْ محبته لله،

وأنس بقربه

وقطع من الدنيا حاجته

**

3- بصيرة

يغيم الطريق

وأنا أنحني على الورقة

أ تـ...راجـ...ــــع

قليــلا.. قليـلا

أراك يا أبي

تضع الحبوب، في وسط كفك

اضطرب

- لا تخف، يا ولدي -

أتأمل وجهك،بودٍّ عميق

فأراه ...في جهاده الحيّ

يغرس في أفئدتنا أشجار الأيمان

ومحبّة نبيّنا الكريم (ص)

وآله الميامين ..

الأطهار عليهم السلام.. قبساً.. قبساً

(جرس ساعة الحائط، يدقّ... يدقّ)

وتمرُّ أمامي الأشياء

أراك واضحاً..

كالقمر اليقظان

وأراك، أراك

كما رأيتَ الطريق

بعيدا ..

بعيدا من الاغترار

بزخارف الأيام

فقد كنت – حقّاً –

تمتلك إقامة الشكر

على كلّ حال

..وحال

وأنت تشقّ

تشقّ

أغوار السنين

الطويلة المضنية

في الخريف الأصفر

المحدودب المتجعّد

تنحت من الصخور

جبهتك العالية

لكي لا يهجر الحفيف الغصون

كنتَ تمشي في الطريق الصاعدة

تقتلع الأشواك منها

بالأصابع البريئة

وترشّ الزهر في الأزقة القاحلة

فتحييها ...

بقلب يخفق.. وعرق ينبض

فأينعت في الرمال

دموع ذرفتها

ترانيم الشقيقات

وصداح العذارى

وأغنيات الأمهّات

وأناشيد الزوجات

فكان حقّاً لك العطاء

أنتَ الوفاء

تحدّثنا :

وفي صوتك تهدّج

ونرنو اليك

وفي العينين بريق ألم

وفي القلب جرح طاهر

وفي الخاطر عهد إلى الإنماء

وأن "تعمل لدنياك

كأنّك تعيش أبداً

وتعمل لآخرتك

كآنّك تموت غدا "

ليس هذا القول

بعيدا عنك

يا سيّدي يا أبي

يا أحبّ الناس

(يجب أن أكرر

آلاف المرات

- يا أحبّ الناس - )

حان الوقت يا أبي

لأقول مرة أخرى

ليس هذا القول بعيداً عنك

فقد كنت َ تردده كثيراً

وتقول:

هذا القول جميل حقاً

يتألق فيه الزمن

في جوار المعرفة الطليقة

وتكبر عافية الانسان

بحنين إلى دنيا صافية الأديم

براّقة الأنجم

عاطرة النسيم

لا جدال في ذلك

لأنّ هذا الكلام من القرآن الناطق عليّ

سيّد البلغاء

والفصاحة

وسلطة الحق، واليقين

عليه السلام، الذهب المصفّى

**

4- انتظار

رياح المحبة

تسقط..

كلّ المسافات...

..وتهدِّم كل الجدران

آه، وعلى الرغم

من التشنج في رقبتي

رحلتْ روحي متلفتة

إلى الوراء

لتحقق الرؤية.. الصالحة

فرأيتك يا أبي

وأنا أتعثّر بالضوء ,

في منعطفات الزمان...

نعم يا سيّدي الجليل

رأيتك

متجها هناك

إلى منزل الذكريات

أنا مثلك، يا والدي

أحبّ مسقط الرأس

أحبّ بيتنا

في قرية الحمزة

وأنتَ الذي علّمتنا المحبة

والمروءة ..

وحقيقة المصابيح التي تشعّ

في حياتنا الشاسعة

"كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأوّل منزلِ "

كنتَ دائما تردد هذا البيت الجميل

كم كنت تحفظ شعراً، ايها الحكيم ....!

سلاماّ عليك ...

على النخل ...

وعلى منزل الذ كريا ت

***

حامد عبد الصمد البصري

ربّما تستطيعون أن تبنوا ناطحات سحاب

ربّما تستطيعون أن تنزلوا إلى أعماق البحار

ربّما تستطيعون أن تحيلوا الصحراء حديقةً زاهرة

ربّما تستطيعون أن تصعدوا إلى المريخ

لكنكم لا تستطيعون أن تتسلقوا دمعةَ يتيم

ولا هضيمة ثكلى

ولا حزن أرملة

لهذا..

دعونا نحن

نصنع شيئاً للأجيال

لم تقدروا أنتم عليه

و ابقوا مترنحين

في حانات الخمر والبارات

نحن وحدنا

الذين نبني مستقبل الوعي

وأنتم تدخنون النركيلات

و تزفرون الخيبات

المبتلة بخيالاتكم المضلّلة

والمنتشية بالإنتظارات الزائفة

سيمر عليكم قرن من الزمان

لكنكم لم تحققوا السعادة

ولم تجعلوا الحرية

حقب و حقب تمرُّ

وأنتم قابعون على دكّة الخمّارين

تجدّدون قناني الويسكي

والشمبانية

وعلب البير

ما بين دخان حشيشتكم

تتوزّع الخيبات

ويذبل الأمل

وتزداد الكوارث و العلل

فابدأوا البيريسترويكا

مرة أخرى

كي ترتاح العقول

وتصحو!

***

رعد الدخيلي

ما إن إقترب منهما حتى أقدم رياض وعن عمدٍ على رفع وتيرة صوته، في حركة متعمدة، هدفَ من خلالها على ما يبدو جذب إنتباه أحد المارة والتحدث معه في أمر ما فكان له ما أراد. فبشكل مفاجئ ورغم عدم معرفته الجيدة به وعلى النحو الذي يسمح له بالتوسع والتمادي في الكلامء، طلب من الشخص الذي صادف مروره، ومن دون مقدمات، مساعدته من أجل أن يجد له بنت الحلال وبأسرع وقت ممكن،شريطة أن تكون أرملة ولم تبلغ بعد الخمسين من العمر، ويفضل أن يكون لها من اﻷبناء ذكورا فقط، غير انه لم يتلقَ الإستجابة الكافية والمرضية.

رياض لم يكتفِ بهذا القدر من الإجابة لتجده منتقلا الى موضوع آخر لا يقل طرافة ومباغتة ومن دون مقدمات، ليسأل ذات الشخص عن كمال عاكف، مُقدم برنامج ركن الهواة المعروف، والذي كان يُبث من على شاشة التفزيون العراقي في فترة الستينات المنصرمة، وإذا ما كان حقا قد وافاه اﻷجل ليلة البارحة أم هي مجرد مزحة. كاد الرجل أن تفلت منه ضحكة مجلجلة الاّ انه كتم عليها بقوة وليواصل طريقه.

أمّا رياض فقد عاد ثانية الى جو التفاوض الذي كان يجريه قبل قليل مع أحد اﻷشخاص، لكي يبيع له حزمة من أشرطة مطاطية، تستعمل خصيصا لصيد الطيور، وكأن شيئا لم يكن، إذ لم تبدو عليه أية ردات فعل أزاء الرجل المستطرق. ومن الجدير بالذكر، فإن في حديث الطرفين(البائع والمشتري) ما ينطوي على الكثير من اللقطات والحوارات التي لا تفرض على مَنْ يترصدها من الإشارة اليها فحسب بل والتوقف عندها والإستمتاع بسماعها وذلك لغرابتها، وﻷنها أيضا تكشف عن طبيعة شخصيتيهما ومدى عفويتهما. فعلى سبيل المثال فإن رياض أوشك وبشكل مفاجئ على الإنسحاب من إتمام (الصفقة) وذلك قبيل وضع اللمسات اﻷخيرة، أو لنقل على وجه ألدقة تظاهره بذلك، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على المشتري على ما يبدو.

الأدهى من ذلك وأثناء سيرورة التعامل بينهما، والأخذ والرد وكيفية الوصول الى السعر المناسب الذي سيرضي ويستقر عنده الطرفان، بل ليرضى عنه رياض أولاً وأخيراً، فإنه ولكي يمرر (صفقته)، فقد راح يُقسم وبكل ما يؤمن به من مقدسات، وبأرواح الأحياء قبل الأموات، بأنه قد تساهل كثيراً في السعر الذي اقترحه، مبديا إستعداده التام لبيع أشرطته وبأي سعر كان، حتى لو تطلب الأمر وجاء على حساب نسبة الربح التي كان قد وضعها لنفسه. بل راح أبعد من ذلك حين أعلن عن رغبته في تحمّل جزء من الخسارة، وذلك نزولاً عند رغبة الشخص المقابل، الذي يستحق كما يقول رياض كل الخير، لحسن أخلاقه وتصرفه معه.

ما يمكن أن نخلص اليه وكما بدا واضحاً من طريقته وأسلوبه في الكلام، ومن خلال بعض المؤشرات الأخرى ذات الصلة، أكدت وباﻷدلة القاطعة بأنَّ رياض مفاوض ذكي ومن الطراز الأول، ويتمتع بخبرة واسعة في هذا المجال. وأثبت كذلك قدرة عالية على المناورة وفي كيفية التعامل مع الآخر والوصول به الى ما يبتغيه، وبالسعر الذي يناسبه والذي كان قد حدده سلفاً ووضعه في باله وناور عليه، حتى وإن اعتقد الطرف الآخر أو سيظن بأنه توفق ونجح في عملية الشراء هذه، وان رياض سيخرج منها خاسرا، أو على الأقل لم يستطع الحصول على ما كان قد خطط ووضع له من سعرٍ.

العجيب في الأمر، إن رياض وطيلة عقود عمره الأربعة أو ما يزيد عليها ببضع سنين، لم يُشاهد ولا لمرة واحدة وفي كل حياته وهو مرتديا بنطالاً الاّ في ذلك اليوم، مما سبب له الكثير من الإزعاج والإرباك، في وقفته وفي حركته. لذلك راح يداري حرجه بمختلف الطرق، فمرة يشد من قوة ضغط الحزام الذي يحيط بخصره لتثبيت بنطاله الذي بدا واسعاً عليه وبما لا يدع مجالاً للشك، ومرة يرخيه من دون سبب مقنع أو مبرر، وفي اخرى تجده ممسكاً به بيديه الإثنتين ومن الجانبين خشية انسداله أو هكذا يبدو لمن يراقبه.

وبعد مرور قرابة الساعة من المفاوضات الماراثونية والمفصلة، وصلا أخيراً الى اللحظات الأخيرة والحاسمة من اتمام الصفقة والى المشهد اﻷخير منه، فقد أخرج الطرف الثاني من جيبه مبلغاً معيناً من المال، كانا وعلى ما يبدو قد اتفقا واستقرا عليه وبالتراضي، مع حرصهما الشديد وفي تلك اللحظة بالذات أن لا يراهما أحدا، أو بالأحرى أن لا يُرى مقدار المبلغ الذي سَيُدفَعْ، دون أن نعرف سبباً لذلك أو نجد له تفسيراً، لعله شأن خاص وأظنه كذلك فليس هناك وعلى أكثر تقدير من احتمال آخر.

بالمقابل فقد أعطى رياض الأشرطة المتفق عليها الى صاحب العلاقة ولكن بعد أن أفرغها من الكيس ليحتفظ به لنفسه وللصفقات القادمة. عند هذه اللحظة اُثيرَ إشكال جديد لم يكن بالحسبان ولم يأتِ على بال أحد، إذ راح المشتري متسائلا، أن كيف له إقتناء أشرطة الصيد المطاطية بدون القاعدة التي ستركب عليها وتثبتها لتصبح كاملة، جاهزة للإستعمال؟.

وبسبب من هذا الإعتراض الغير متوقع، فقد اُعيدت المفاوضات بينهما الى المربع الأول، وراحا يكرران من جديد ما كانا قد فرغا منه قبل قليل. بين شد وجذب اقتنع رياض كما يبدو بإعتراض صاحبه ومن غير ان يفصح عن ذلك، كي لا يظهر بمظهر الضعيف وتُسجَّل ضده احدى النقاط، فراح وعلى طريقته وبالإعتماد على خبرته، يُعيد التفاوض مرة اخرى ومن غير ملل أو كلل، مع بعض الإشارات التي كانت تصدر منه بين حين وآخر، والتي ستعطي للطرف الثاني إيحاءاً بتسامحه وتساهله في السعر، وذلك ليزيد من طمأنته ونيل رضاه، واضعاً في حسابه ونصب عينيه القادم من (الصفقات).

وتعزيزا للثقة فقد أودعَ أشرطة الصيد عند المشتري المفترض ومن غير أن يحاسبه عليها حتى إتمام عملية البيع مئة في المئة. لذا ولكي ينهي الموضوع ويحسمه بسرعة، إستأذن من صاحبه ليغيب عنه بضعة دقائق، ريثما يذهب الى كَراج أبيه، الواقع بالقرب من مكان وقوفهما، والذي كان رياض قد اتخذ من أحد زواياه المهملة، وبعد أن أجرى عليها بعض التحويرات والتغييرات، لتكون بمثابة مخزناً احتياطياً،سيحفظ فيه مقتنياته ومتعلقاته الشخصية كعُدة عمله و(تجارته)، وليستفيد منه ويستعين به عند الحالات الطارئة كالتي تجري معه اﻵن.

لم تستغرق فترة غيابه أكثر من عشرة دقائق حتى عاد رياض بحلة جديدة، مسترخياً هذه المرة، واثقاً من مشيته، يدوس الأرض بل يدكّها دكّا وبقدمين مستقرين ثابتين، بعدما أبدل بنطاله الذي لا أظنه سيعود اليه مرة أخرى، مرتدياً هذه المرة دشداشته العتيدة، والتي يتماهى لونها والى حد كبير ولون المكان حيث يقفان عنده مع اختلاف بسيط، ومن دون أن يشد وسطه بذلك الحزام الذي أزعج خصره بل كل جسده حتى دقائق خلت، والذي استمر معه قرابة الساعة. وَمَن يعرف رياض عن قرب فسيخرج بإنطباع مفاده بأن دشداشته هي الأخرى تأبى مفارقته تحت مختلف الظروف، بل حتى أصبحت ملازمة له وتشكل جزء من هويته، رغم تبدل الأزمنة وتغيرات العصر، وانقلاب أنظمة وتبدل أشكال حكم، وما رافق كل ذلك من تحولات في الذوق العام.

وعلى ذكر الدشداشة أو الجلابية كما يُصر على تسميها أخوتنا المصريين،  فله منها وعلى حد قوله وبفخر سبعة، يوزعها على مدار الأسبوع، سيرتديها تباعاً وبواقع واحدة كل يوم. أمّا موعد إستحمامه فقد اختار يوم اﻷثنين، ليأتي متزامنا مع عطلة الحلاقين، وفي ذلك حكمة لم يفصح عنها، حيث يتوجه الى حمامه الخاص والذي يقع بجانب غرفته العتيدة، والتي تشكل جزءاً كما سبق القول من كَراج أبيه، بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات الضرورية ليكون استعماله حكراً عليه. يلي ذلك ارتداءه لإحدى دشداشاته النظيفة، والتي سيكون قد هيئها وعلَّقهاسلفاً على مسمار، قوي وثابت وبحجم ملفت للنظر هو اﻵخر، ليلبسها ليوم واحد فقط وهكذا دواليك.

مدَّ رياض يده اليمنى الى جيب دشداشته الطويل جداً والذي ربما سيصل أو سيجتاز ركبته، ليُخرج منه آلة صيد الطيور، البدائية الصنع، الشائعة آنذاك وأظنها لا زالت حتى يومنا هذا، حيث سيمنحها مجاناٍ، كهِبة الى المشتري وسط فرحة عارمة لا يمكن وصفها. وللعلم فهو أشهر من عُرف بصناعتها بين أبناء المدينة، وإن سألتم عنها فهي عبارة عن خشبتين رفيعتين، بطولين وسمكين متساويين تقريباً، قد يعادل قطر الواحدة منها سبابة اليد، جرى إعدادهاسلفا لتكون جاهزة للإستعمال، بعد إدخال بعض التحسينات والتعديلات عليها، كبردِها وتشذيبها من الزوائد ليصبح ملمسها ناعماً قدر المستطاع.

بالمناسبة فإن رياض نفسه، لم يسبق له أن جَرَّبَ هواية الصيد في حياته ولا لمرة واحدة رغم بيعه لتلك الآلة وتخصصه بها وتفننه في صناعتها: ألم يكن من الأجمل أن تتركوا الطيور تُحلّق عالياً بدل أن تصطادوها وتسقط كما الذبيحة  على الأرض؟.صحيح ان الجملة الأخيرة كان ينبغي أن نسمعها من صائدي الطيور انفسهم، غير انها صدرت منه ولا تستكثروا على الرجل ما قاله، فقلبه أرقُّ من ورق الورد، وأكثر رحمة وشفقة وزهد من جمهرة كبيرة ممن يدعي النُسكَ والتعبٌدْ.

وقبيل مغادرة المشتري وهو حامل معه آلة الصيد تلك بأشرطتها بعد إتمام الصفقة بنجاح، فاجئه رياض بأن دعاه وبشكل لم يكن يتوقعه الى وجبة غذاء مجاناً بل وعلى حسابه الخاص. أمّا لماذا وما هي المناسبة فالعلم عند صاحب الدعوة، ولكن يُمكننا وعلى ضوء تجارب سابقة تفسير الأمر على النحو التالي: إذا ما شعر  رياض بالرضا عن الطرف الثاني الذي كان يفاوضه أثناء عملية البيع والشراء، ولامسته ولو نسمة خفيفية خاطفة من الراحة، فسيفتح له قلبه قبل باب جوده وكرمه.

لذا وأزاء هذا العرض السخي والغير متوقع والمقدم من رياض ومن دون أي مقابل يُذكر، سيجد المشتري أن لا خيار أمامه سوى الإستجابة الفورية وبحماس لتلك الدعوة الكريمة، حتى من غير أن يسأل أو يسائل نفسه عن أسبابها ومبرراتها وخلفياتها، خاصة وإن الجوع قد ضربه وإستنزف جُل طاقته، فضلا عن أنَّ جيبه قد اُفرغَ تماماً ولم يبق معه ولا حتى فلساً واحداً، بعدما دفع كل ما بحوزته لقاء تلك اﻷشرطة وآلة الصيد المرفقة معها، والتي ستظمن له وكما يأمل ويفترض صيداً ثميناً.

أمّا إذا وصله إحساس مغاير، يشير الى أنَّ المشتري من الصنف الثقيل والمزعج (هذا طبعا بحسب رؤوية وتقدير رياض)، فَسَيُلزم نفسه ويعاهدها على التحمل والصبر والمطاولة، إستعدادا لخوض شكل آخر من أشكال التفاوض والتي سيشدد فيها من شروطه، وصولا الى تحقيق هدفه والمتمثل بإجبار الطرف الثاني على الخضوع والقبول بأي مبلغ يضعه ومن دون مساومة تُذكر، ومن دون دعوته أيضا حتى على قدح ماء فارغ.

وبعد مضي قرابة النصف ساعة من الوقت، قضاها بصحبة المشتري في مطعم الشباب لصاحبه طيب الذكر والثرى، جوري، فها هو أمامك من جديد رياض أبو القماچي، بشحمه ولحمه وإمتلاء جسده. ولولا إنحناءة ظهره بسبب ضخامته لكان من المؤكد أن يوصف بصاحب الطول الفارع، ولراح يباهي ويجاري بل ينافس خيرة شباب المدينة في هذا الجانب،

وما دمنا نتحدث عن رياض فلا بأس من المضي الى نقطة أبعد قليلاً لنقول: إذا حدث التباس ما وأشْكِلَ عليك الأمر في تحديد هوية من يكون ذلك الشخص أو صَعُب وصفه لِمَنْ يسأل عنه، أو أردت التعريف به وتمييزه عن الآخرين، فما عليك الاّ أن التنبيه الى سبابة وإبهام الرجل الذي تعنيه، فهما وفي أكثر اﻷحيان ممدودتان الى قاع فمه، لتجده منهمكا وعلى عادته في البحث بين

أسنانه عن بقايا لحم أو أي صنف آخر من الطعام، يعتقد بأنه قد تسلل واستقر في مكان ما بين قواطعه أو غيرها من أضراسه، فقل عند ذاك وبكامل الثقة واليقين انه رياض أبو القماچي وليس من أحد سواه. فالرجل سوف لن يهدأ له بال إن لم يُخرج من فمه كل ماهو عالق فيه، وستجده على مدار الساعة في رحلة من البحث المضني والشاق، والتي ستنتهي بكل تأكيد بالفشل الذريع، حيث سيتعذر عليه العثور على أي شيء يُذكر بين أسنانه، رغم ما بذله من جُهدٍ ووقت.

وللمزيد من التعريف به، فشخصيته بسيطة سهلة، يشبه الماء العذب في جريانه. فطري، عفوي في سلوكه وتصرفاته وفي أحاديثه. مكشوف للآخرين وليس فيه من سرٍ  يخفيه. وجهه ضحوك، ذو وجنتين مليئتين بالخير والبركة والطيبة. سمح، لا يعرف المداهنة ولا ألاعيب الكبار رغم تجاوزه مرحلة الشباب بما لا يقل عن العقدين من السنين.

واسع الرحمة على روحك الطاهرة يا رياض، ونم قرير العين في أبديتك، أيها الطفل الوديع، الكبير في أصلك.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

................

* مُقتطع من نص روائي، سيُنشَرْ قريباً.

ــــــــ السّلحفاة ــــــــــ

ألا يَا سابقَ الرّيــح

رُويدًا...أين مَنْ فاتُوا

*

هُنا مَرُّوا بلا ذِكرى

وتَسبُقُ السُّــلحْــفَاةُ

ـــــــــ محكمة ـــــــــ

بحُكمكِ في الحُبِّ راضِ

بِصكٍّ على بَيـــاضِ

*

أَجِيري !ومنكِ إليــــــكِ

كعدلٍ وظلمٍ لقاضِ

ــــــ وثَغرٍ ــــــــ

وثـَغـرٍ تَبسّم زَهـرًا

شَقائقَ حُمْرٍ وفُــلَّــهْ

*

فَأغْرَى بِشَهْدِ اللّآلِي

ونَادَى لِرشْفٍ بِقُبلَهْ

ـــــــ شتاء ــــــ

كَانَ يَوْمًا زَمْهَرِيرًا فِيهِ ثَلْجُ

اِلْتَقَيْنا فَاِصْطَلَيْنَا ذَاكَ وَهْـــجُ

*

شَوقُنا جَمْرٌ فَكنّا نَـتَـلَظَّى

فِي بِحَارٍ عَذْبَةٍ وَاَلْعِشْقُ مَوْجُ

***

سُوف عبيد

في صُبْحٍ،

يبحثُ عَنْ حُلْمٍ سرقتهُ الرّيحْ

هبَّ من النومِ،

بلا قدمينِ،

كسيرَ الرّوحِ، جريحْ

بأنينٍ مختنقٍ كانَ يصيحْ

أينَ مضتْ بالحُلْمِ الرّيحْ؟

**

ما كانَ يرى شُبّاكاً

في غرفتِهِ، أو بابْ

لا يدري كيفَ،

اِبتعدَتْ عنهُ نوافِذُهُ

واِبتعدَتْ عنهُ الأبوابْ

ما عادَ يرى فوقَ الجدرانْ

إلا أشباحاً غامضةً

تبكي، أو تضْحَكُ

تصرخُ أو تركضُ

وتغيبُ تماماً في بعضِ الأحيانْ

فاجأهُ

صوتٌ، مُرْتَعِشٌ،

لا يعرفُهُ:

لا تيأسْ، سيعودُ لهذي الغرفةِ بابْ

ويعودُ لها شبّاكْ

لكِنْ إسألْ نَفْسَكَ

كَيْفَ يكونُ بوسعِكَ

أنْ تنجو من زَحْفِكَ

فوق الأشواكْ ؟

كَيْفَ ترى قدّامكَ

حقلَ ورودٍ، لا حقلَ شِراكْ؟

**

غابَ الصّوتُ سريعاً

غابَ،

وما خلّفَ أصداءْ

ما خلّفَ إلاّ

حُزْناً متّقِداً، ودُموعَ شَقاءْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

مُهْدَاةٌ إِلَى الشاعرة اللبنانية ديانا أبو حمزة الشامي

***

اَلْخَيْزَرَانُ يَبُوحُ مِنْ شَهْدِ الْفَمِ

وَيَزُفُّ لَأْلَاءً لِقِمَّةِ أَنْجُمِ

*

مَا اللِّينُ فِي طَبْعِ الْخَرِيدَةِ ضَعْفُهَا

لَكِنَّهُ نُورٌ بِأَحْلَى مِعْصَمِ

*

لَيْسَ انْكِسَاراً بَلْ مَطِيَّةُ أَحْرُفٍ

تَغْزُو قُلُوبَ الْمُعْدَمِينَ كَبَلْسَمِ

*

اَللِّينُ ذَاكَ الصَّبْرُ يَفْرِشُ رِيشَهُ

لِصِغَارِهِ بِحَنَانِهِ لِلْأَقْزَمِ

*

فِي قَلْبِهَا الْأَلْمَاسُ حُجَّةُ شَاعِر

هَامَ الْغَدَاةِ بِعْطْرِهَا كَالْكَلْسَمِ

*

فَإِذَا بِهَا غَضَّتْ لِطَرْفٍ أَشْقَرٍ

مُتَغَنِّجٍ بِدَلَالِ رَائِقَةِ الدَّمِ

*

وَتَمَايَلَتْ أَمْوَاجُهَا فِي بَسْمَةٍ

تُحْيِي الْمَوَاتَ بِلَحْنِهَا الْمُتَرَنِّمِ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

الإهداء: إلى كل معلم ومتعلم وللطلبة المقبلين

على امتحان شهادة البكالوريا.

***

طريق العلم يهدي للرشاد

ونور العلم ماح للسواد

**

فهيّا للعلا نرقى بعلم

ونحو المجد سيروا باجتهاد

**

فما نيل المعالي بالتمني

فسدد رمية نحو المراد

**

وكن بالعلم سباقا شغوفا

وكن تبرا يشع من المداد

**

فخير الناس من كان عليما

وشرّالخلق ذاجهل معاد

**

فيا نشء الجزائر كن رجاء

وكن بالعلم مشكاة البلاد

**

وحقق مبتغى رجل عظيم

أماط الجهل عن روح العباد(1)

**

وكن بالعلم مصباحا منيرا

وكن برّا بذا الشعب الجواد

**

عزائي في جهول قد تمادى

بنشر الجهل أو نشر الفساد

**

فهل قالوا عن الأعمى بصير

بصير القوم ذا علم وهادي

**

فكن يا نشْء ذا علم بصير

تقيَّ النفس من صفو الوداد

***

شعر: تواتيت نصرالدين / الجزائر

................... 

(1) اشارة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله

2 /5ـ أنثى تعيد للنهر الجريان

حين دخلت عليه مكتبه كان يرد على بعض تدخلات الأعضاء في أحد المنتديات.. تبادلا التحية بعناق وقبل؛ طلب منها دقيقتين يتمم فيهما ردوده.. بعد هنيهة كان يحسها تدقق في وجهه بنظر.. قالت وبسمة تضيء وجهها:

ـ تغيرت ياسعد !!..

قفل حاسوبه واعتذر ثم قال لها:

ـ الزمن يمرحلنا فيتغير فينا كل شيء..

لم تغادر البسمة وجهها.. بسمة تذكره بأختها ضحى.. بنفس الغمازة على الخد ونفس العيون الكحلية توهمك عند تبسمها انها غافية من سكر.

قالت:

ـ من يتصور أن سعدا يصير كاتبا بلغة الضاد؟

ضحك ثم قال:

ولماذا يظل سعد مستلبا في وطنه يتحدث ويكتب بلغة أجنبية؟.. حبذا لو كانت حروف تيفيناغ بالعربية او الاعجمية لتعلمتها وبها تكلمت وكتبت، هي جذورنا في أعماقنا راسخة تظل تستغيث بنداء.. رغم دعوات التعصب ومحاولات إلغاء الآخر.. أليس التعصب هو ما قتل لغات وحكم على أخرى بالموات؟..

أمالت براسها الى اليسار ثم قالت:

ـ العادة ولغة الدراسة..

ـ وعلينا ان نتخلص منهما الى إرادة حتى لانموت في غربة داخل الوطن..

مدت يدها، وضعتها فوق يده وقالت: ألا تحس بوجودي؟

ضحك استغرابا وقال:

كيف لا أحسك؟.. فانت سلمي.. أخت المرحومة زوجتي، تفجرت لها أنوثة طاغية، وماعادت صبية تتقافز كفراشة في براءة الطفولة.. أتتني عاشقة وفاجأتني بحضور..

ضحكت و في عفوية تحرك منها الصدر كأنها تريد ابراز صدقها مع نفسها:

ـ ألا تغريك أنوثة سلمى بقبلة غير ماكانت تناله منك في طفولتها؟ فاليك قد أتيت طوعا أحمل حبا هدية...

زفر من ذكرى غزت مخه.. حركت شريط الماضي في خياله..

قال: سلمى دوما في خيالي طفلة صغيرة.. وهي وسم من ماض لازال يحفر في ذاتي بأثر بليغ.. ما لمستك مرة الا انبعثت ضحى أمامي بنظرة عتاب..

ارتمت عليه وطوقته بذراعيها.. ثم قالت:

ـ جرب، فسلمى هي التي بين يديك وليس غيرها، خبرة من كتب ومجلات لكنها امرأة بكامل أنوثتها، بها قد تستعيد ماضيك، تجدده في حاضر ربما يكون أحسن، أمتع وألذ .. أشتهيك ياسعد!!. لن تجد غيري تحبك كما أحببتك.. ولن تجد غيري أما لعايدة كما عايدة تتمنى وانت لها تريد.. هل تقلقك صراحتي؟ لا أظن فأنا اعرفك..

يدرك أنها صارت أنثى شهية، لكن صورتها الطفولية هي ما يهيمن عليه، قبل خدها ثم همس في أذنها:

ياطفلتي!!.. احذري قد تدخل علينا الكاتبة...

ادركت انه أراد التخلص من عناقها.. توارت، ردت شعرها الطويل الى الخلف ثم قالت بعد تنهيدة صبر وهي تدرك أن هيامه بأختها من الصعب أن تمسحه السنوات بسرعة، فالرجل الذي افقده موت زوجته النطق واشل حركته لولا عناية مركزة وعلاجات قوية لن يبترد له أوار الا بعشق اقوى يغير له مجرى ويعيد الى نفسه الأمن والأمان..

ـ أصرت الحاجة أن أتعشى عندكم وربما قد أقضي الليل كذلك، فاحذر ان تتهرب مني كما تهربت أول أمس.. لنا كلام كثير يلزم ان نطرحه للنقاش..

قبل يدها حتى يبعد عنها فكرة التهرب، وبخفة دون ان تراه ضغط الجرس على كاتبته.. حين دخلت الكاتبة قدم لها ملفات اليوم وقد غمز سلمى باشارة، انه كان على حق حين خاف دخول الكاتبة عليهما..

ركزت النظر في كاتبته تتفحصها، تابعها يقرأ هواجسها:

مليحة، مهتمة بهندامها، لكن نظراتها صارمة.. لا.. لن أخاف عليه منها..

غيورة.. ذاك ما أوحته له نظرتها، من أعماقه نبع صوت ضحى أختها وقد قالت له ذات صباح وهي تطوقه بعناق:

لن اشك فيك ياسعد ابدا.. لاني أعرف من أنا عندك، ولن تجد أنثى تقدم لك ما اقدمه لك برضى وبكل التوق الذي يتمناه رجل.. أحبك ياسعد.. وادرك أنك على خلق..

قصدت سلمى كنبة أمام مكتبه وارتخت عليها..

كان يحس قلقها.. تتابع كل حركة يقوم بها، وكأنها تقشر سلوكاته لتعرف حقيقته نحوها، تمنت لو يترك كل شيء و يستفسرها عن ماض من حياتها ثم يخصها بزقات ولمسات.. وكلمات مما تعشق أي أنثى..

كانت تتمنى لو يعتصرها بقبل تنسيها لثمات الطفولة منه على خدها فيحرك كل شهقة مكبوثة تخبره حبها له وظمأ الشوق اليه ..

وهو يجمع اشياءه من فوق مكتبه قالت:

سعد هل تذكر حلما كنت قد رايته وأنا صغيرة؟

حاول أن يستعيد ذكرى ما قالت.. لم يفلح.. او ربما تظاهر بذلك.. باشارة من راسه أبلغها نسيانه.قالت:

ـ ألا تذكر يوما ونحن على مائدة الإفطار قالت لك ضحى يرحمها الله:

كيف تفسر حلم امرأة ترى نفسها تسلم مفتاح بيتها الى أختها هدية؟

يومها أنت قلت لضحى ضاحكا ووجهك من وجهها اقرب:

ـ المفتاح دليل علم ومال.. الشهادة عندك، والمال من مهنتك.. فماذا تريدين أكثر؟

قالت:

لست انا من رأى الحلم.. سلمى يا سعد..

قالتها بغصة أحسستها في حلقها وهي تتكلم..

قلتَ لها وقد استدرت نحوي: ستكون عالمة ودخلها كبير، ستكبر ويخطفها زوج فتنسانا ويصير كل شيء له..

ضحكنا وقد قطبت في وجهك وأنا أردد:

ـ الله يسترني من لص يسرقني.. يومها لم تكن غير زوج أختي، أخي الكبير الذي أقدره وأعزه وافتخر وانا انزل من سيارته بباب مدرستي..

وتذكر الحلم.. تذكره بكل تفاصيله.. يومها قالت له ضحى حين عادت من عملها مساء وبعض التعب يبدو عليها من وطء الحمل:

أخاف أن أموت قبل الوضع...يا سعد.. !

ضمها الى صدره بشدة وقال: اعوذ بالله مالذي أوحى لك بذلك؟

قالت: إحساس انتابني حين حكت لي سلمى ما راته في حلمها..

ـ قبل يدها وقال: لا اخال حلما رأته طفلة قد يحرك سواكنك بخوف !!..

في غرفة نومهما كانا تلك الليلة كعروسين ليلة الدخلة.. فر النوم من عيونهما وحضرت المتعة واستغرقهما شوق رهيب كأنهما في لقائهما الأول..

وهما في الحمام قبل الفجر ضمته ضحى بقوة ماعهدها ابدا، سالها:

ــ مابك حبيبتي؟

اغرورقت عيناها بالدموع وقالت وهي تزداد به التصاقا:

أحبك ياسعد وحبك طاغ على نفسي، أقوى من قلبي، متى ينتهي الوضع فاعود لحبيبي ريشة تداعبه بلا ثقل؟

لعق بلسانه دمعة علقت بخدها ثم قال:

ـ قريبا.. شهران وتخف حبيبتي...

وهما يجففان جسمهما قالت:

ـ سلمى تراك مثلها الأعلى ياسعد..

رد وقد ساعدها على تجفيف ظهرها ثم شرع يلثمه:

ـ وأنا أرى فيها طفولتك كيف كنت تتحركين وتبدين رايك بشجاعة وجرأة، وتصرين على ألا يبزك تلميذ أو تلميذة في المدرسة، هي شبهك في كل شيء..

تذكر يوما كانت واسرتها مدعوين في بيتهم، وقفت ضحى على مائدة العشاء وخاطبت والده بجرأة نادرة:

ـ ساستسمحكم عن صراحتي وصدقي مع نفسي..

عمي امد لك يدي طالبة يد سعد منك..

رد والده ضاحكا: اللهم أطعمنا حلالا، كم سيكون مهر سعد؟

رقرقت دموع في عينيها وقالت:

عمري وحبي ووفاء اعاهد ربي عليه..

في سريرهما كان تلك الليلة يتسمع أنفاسها متقطعة وبين فترة وأخرى تصدر منها تنهيدة اقلقته عليها.. كان يرفع يدها التي تنام دوما قلب يده ويقبلها..

فجأة أعادته سلمى اليها: سبحان الله اين سرحت؟

تنهد بعمق وقال:

في أيام ما ظننتها تفنى بسرعة، وتندرس في رمشة عين..

اقتربت منه وضعت قبلة على خده وقالت:

ـ اقدر مشاعرك، ومن أجل هذا الإحساس أحببتك، وأيقنت أني نصفك الضائع وحدي قادرة على تعويضه.. نلتقي ليلا ونتحدث..

ثم خرجت من مكتبه تخلف عطرها يحيي ذكرياته بوجيب في الصدر قوي ويبقي اثرها حضورا في مكتبه.. أنثى أقبلت في إصرار لتعيد للنهر الجريان..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم