آراء

عبد السلام فاروق: مئة عام من اللؤم!

ثعلب السياسة الأمريكي العتيق مات عن عمر يناهز مئة عام .. لم يعلم أحد هل مات بالشيخوخة أم من الحسرة والقهر بسبب ما حدث لإسرائيل!  إنه هنري كيسنجر اليهودي الأمريكي الفار من محارق الهولوكوست، والوصولي الذي اتخذ من جامعة هارفارد سبيلاً لتحقيق طموحه السياسي، وبشهادة زملائه ومعاصريه أنه كان متملقاً انتهازياً استطاع بطريقة أفعوانية الوصول إلى أعلي مراتب النفوذ السياسي، ليصبح أول يهودى يتولي وزارة الخارجية الأمريكية.

مات الآن ثعلب السياسة ربما ليؤكد فناء قرن من اللؤم والخديعة، وأننا على أعتاب قرن جديد قد يكون أفضل مما مرّ!

بروفيل الثعلب

لقبه البعض بأنه "سيد اللعبة" فبمن تلاعب؟ ولصالح من؟

ولد هاينز كيسنجر عام 1923 فى ألمانيا وفر مع عائلته لنيويورك عام 1938 هرباً من الاضطهاد النازي لليهود. ورغم أنه أصيب بالتوحد صغيراً، ونشأ نشأة الذئب المنفرد، إلا أنه لم يخطئ هدفه وطموحه الذي كان واضحاً لديه منذ البداية. فهو يريد الوصول لأعلي منصب سياسي ممكن، ولهذا اتخذ من التحاقه بجامعة هارفارد وسيلة لتحقيق هدفه هذا.

قد تكون الحياة القاسية التى عاشها فى صباه سبباً فى طباعه الجافة التي اكتسبها لاحقاً، وجعلته يتخذ الميكيافيللية سبيلاً لتحقيق مآربه الشخصية، ثم فى طريقته الماكرة خلال مفاوضاته كسياسي ووزير خارجية. لقد كان أول يهودى مهاجر ينجح فى تولى منصب وزير خارجية أكبر قوة عظمى، بل ويجمع بين الوزارة وبين منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي.. بما يعني أنه جمع بين السياسة والأمن. وبالفعل استطاع من خلال منصبه كوزير خارجية أن يصل لنتائج تفوق فى تداعياتها وآثارها ما يحققه جيش كامل العتاد!

كان هو مهندس اتفاق باريس لإنهاء حرب فيتنام، لكنه لم ينسَ أن ينصح الجيش الأمريكي بالقيام بأكبر هجوم بالقنابل على الفيتناميين قبيل الاتفاق، حتى يتسني لها التفاوض من موقف قوة. الهجوم الذى أسفر عن قتل مئات الآلاف خلال ساعات قليلة!

وإليه تُنسَب فكرة "الدبلوماسية المكوكية" التى استطاع من خلالها تحجيم انتصار أكتوبر73 من خلال مفاوضات كامب ديفيد، وليتيح لإسرائيل فرصة الانقضاض على هضبة الجولان واستعادتها.

وصل تأثيره السياسي والأمني أنه أقنع الاتحاد السوفيتي بالتوقيع على معاهدة الحد من التسليح، فأمات بهذا الصراع المستمر بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وهو الذي مهَّد الطريق الدبلوماسي بين أمريكا والصين، ولهذا تم إرساله مجدداً منذ شهور مضت لمحاولة تقليل التوتر بين أمريكا والصين فى الصراع الدائر حول تايوان.

الوجه الآخر من العملة

رغم حصوله على جائزة نوبل للسلام بسبب جهوده لإنهاء حرب أمريكا على فيتنام، إلا أن ما فعله بعد نيل الجائزة أكد أنه رسول حرب ودمار لا رسول سلام.

وكمستشار للأمن القومي الأمريكي دفع الجيش لمهاجمة كمبوديا عام 1969 من خلال غارات سريعة سرية، ثم للقيام بغزو بري لهذا البلد المحايد فى العام التالي. الأمر الذي أدي لتوسيع نطاق الصراع فى جنوب شرق آسيا . هكذا وضع حجر الأساس لما اصطلح على تسميته "الدبلوماسية السرية" تلك التى تجري فيها الاتفاقيات والتهديدات والوعود فى الأقبية بعيداً عن الأضواء.

استطاع النفاذ إلى شاه إيران وغذي جنون العظمة لديه وشجعه على رفع أسعار النفط وإغراق البلاد فى تضخم أدى إلى الثورة عليه وخلعه. ومن خلال تلك الخبرة التى اكتسبها فى صياغة وتدبير المؤامرات الكبري على الدول اشتهر بأنه مهندس الانقلابات وخبير إشعال الحروب الأهلية..

لقد صدرت عنه مؤلفات كثيرة أظهرت حقيقته التى كان يتخفى عنها بوجه دبلوماسي مخادع. ففى الوقت الذي يراوغ بكلماته الدبلوماسية المنتقاة أمام الرؤساء والوزراء، كان ينفذ بالتزامن خططه الماكرة لتحقيق أهداف أمريكا الأمنية.

فبطريقته السياسية الناعمة ساهم فى تحقيق الانقلاب على سلفادور الليندى فى تشيلي. كما ساعد باكستان فى حملتها الوحشية لسحق التمرد الانفصالي الذي تحول فيما بعد إلى دولة هى "بنجلاديش". واستمر سنوات طويلة يمارس لعبته التى أتقنها فى تدبير الانقلابات  تارة فى إفريقيا وتارة فى أمريكا اللاتينية، وفى التغطية الدبلوماسية على جرائم إبادة فى تيمور الشرقية وكمبوديا وبنجلاديش. للدرجة التي دعاه بسببها البعض بأنه "سيد اللعبة" وهى ليست إلا لعبة اللئام.

لقد أجري موقع إنترست الأمريكي دراسة تاريخية جمع من خلالها عدد الذين هلكوا نتيجة دبلوماسية كيسنجر المكوكية، فوجدوه مسئولاً عن قتل 3 ملايين إنسان!

عاش حياة الملوك

رغم أنه لم يتمتع بالوسامة ولا الجاذبية، إلا أنه تفوق على نجوم هوليود فى شهرته لا فى أمريكا وحدها بل فى العالم أجمع.

إن حنكته السياسية وأساليبه الماكرة فى تحقيق أهدافه دفعته لاستغلال الميديا فى التسويق لنفسه. إذ لم يكتفي بكونه سياسي ذو نفوذ. وإنما استغل نفوذه هذا ليحصل على صداقة مشاهير السينما والإعلام. وكان يواعد نجمات السينما، ليزداد الحديث عنه، وتتناول سيرته الصحف اليومية والجرائد، وليظل باستمرار حديث القاصي والداني، بما يسهم فى الترويج الشخصي له حتى على مستوي العلاقات الاجتماعية للنخب الفنية والثقافية. حتى أن استطلاعاً للرأي أجرته مؤسسة جالوب وكان لم يزل وزيراً للخارجية أنه الشخص الأكثر إثارة للإعجاب فى أمريكا!

ومن خلال شبكة العلاقات التي كونها على مدار سنوات وعقود فى عمله الدبلوماسي، استطاع جمع ثروة هائلة على حساب بحور من الدماء التى تسبب فى إهدارها دون أن يطرف له جفن!

مات بعد الأربعين!

لقد كًتب له أن تمتد حياته أياماً إضافية ليشاهد بأم عينيه جيش إسرائيل ينهزم وتنكسر شوكته خلال أربعين يوماً أو أكثر.. ليموت أثناء هدنة أظهرت الفارق بين السياسي الكاذب والمقاتل الشريف.

إن كيسنجر نفسه كان يصف السياسيين بأنهم كالعاهرات، أى أن السياسي فى نظره يبيع أي شئ مقابل تحقيق هدفه ومبتغاه، مهما كان هذا الهدف تافهاً لا يستحق!

وإسرائيل الآن تريد تسويق فكرة حرب الإبادة وما يصاحبها من تهجير قسري وجرائم فصل عرقي، تحت دعاوي "حق الدفاع عن النفس" . إنه نفس نهج كيسنجر فى تغليف الجرائم بغلاف ناعم من الدبلوماسية والسياسة!

موت كيسنجر هو رمز لموت سياساته البراجماتية. وهو نذير لأصحاب تلك السياسة أنه مهما طال الوقت بأصحاب العهر السياسي، ومهما نعموا بحياة رغدة هنيئة، فإن جرائمهم تنكشف إن عاجلاً أو آجلاً، ليتحول تاريخهم إلى لعنة تلحق بالمنتسبين لهم أبد الدهر.

ولو أننا نظرنا إلى الداخل الأمريكي والإسرائيلي اليوم بعد خمسين يوماً من حرب وقصف ودمار، تتبعه أكاذيب إعلامية تصور الذئب فى صورة الحمل الوديع. سوف نتأكد أن الشعب الأمريكي ومعه شعوب الغرب بدأوا يفهمون حقيقة ما خلف قناع الزيف. وأن المستوطنين فى إسرائيل لم تعد لديهم ثقة فى حكومتهم.

حتى أثناء الهدنة عندما قارن الناس بين أسري المقاومة الفلسطينية الذين غادروا وهم يحتضنون آسريهم. وبين معتقلي إسرائيل من الأطفال والنساء الذين خرجوا مشوهين وقد تكسرت أذرعهم وتقطعت أناملهم، أدرك الناس فى الغرب والشرق حقيقة النازيين الجدد الذين قتلوا وشوهوا وشردوا ما يزيد عن خمسين ألف فلسطيني فى أقل من شهر هو زمن حربهم البرية الهمجية على غزة.

مات كيسنجر عن عمر يناهز مائة عام. وماتت معه أساليبه السياسية. ولعلها بشري أن العالم مُقبل على حقبة جديدة، تنجلي فيها الحقائق، وتنكشف الأكاذيب.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم