آراء

آراء

في العالم ما يشبه الثورة الشعبية على إسرائيل والصهيونية وحتى على اليهود وسرديتهم حول الصراع في الشرق الأوسط التي كانت تسيطر على العقول وخصوصاً عند الجيل الجديد في الغرب، حيث تجوب المظاهرات الشوارع في عديد عواصم ومدن العالم منددة بالاحتلال وجرائمه ويرفرف علم فلسطين خفاقاً في كل مكان وتعج وسائط التواصل الاجتماعي بكتابات وفيديوهات تكشف جرائم الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين ولا تقصر الفضائيات وخصوصاً العربية في تصوير مظاهر التعاطف الشعبي ودموع الناس وحزنهم على حال الفلسطينيين ، ولكن، السياسات الدولية لا تُبنى على المواقف الشعبية وتوجهات الرأي العام والمجتمع المدني ولا على الالتزام بالقانون الدولي وما يسمى الشرعية الدولية وتقارير المنظمات الحقوقية الخ بل على المصالح القومية التي تعبر عنها الحكومات وعلى موازين القوى.

المقياس الحقيقي لتأثير وفعالية المواقف الشعبية والرأي العام هو قدرتها على التأثير على سياسة الحكومات وهو تأثير حتى الآن محدود، حيث يستمر الكيان اليهودي الصهيوني في عدوانه وجرائمه وحرب الابادة على مسمع ومرأى العالم بشعوبه وحكوماته ومنظماته الدولية، فلا المنظمات الدولية والمدنية المعنية بحقوق الانسان قادرة على محاكمة مجرمي الحرب أو التأثير على نظيراتها في دولة الكيان، ولا المنظمات الدولية وغير الحكومية المعنية بحقوق الطفل والمرأة قادرة على حماية أطفال ونساء فلسطين حيث 70% من مجموع الشهداء من النساء والأطفال، ولا المنظمات الدولية والمدنية غير الحكومية المعنية بالصحة قادرة على توفير أبسط المتطلبات الطبية والدوائية للقطاع حيث تنتشر الأوبئة والأمراض، ولا المنظمات والنقابات العمالية العالمية قادرة على حماية حقوق عمال غزة وتعويضهم عن فقدانهم لعملهم بسبب الحرب، ولا المنظمات والنقابات الصحفية والإعلامية الدولية والمدنية قادرة على حماية الصحفيين والإعلاميين من الاستهداف المباشر لهم من جيش الاحتلال، ولا المؤسسات الأكاديمية قادرة على حماية الأكاديميين الفلسطينيين الذين يستهدفهم جيش الاحتلال عن عمد، ولا المنظمات والمؤسسات العالمية الدولية والمدنية المعنية بحماية البيئة قادرة عن معاقبة إسرائيل على تلويثها للبيئة في الجو والأرض والبحر بسبب الدمار الذي ألحقه جيش الاحتلال بالبنية التحتية وبمصادر المياه وشبكات الصرف الصحي الخ.

كل هذا التأييد والتعاطف الدولي لم يستطع ادخال مساعدات إنسانية من غذاء ودواء لمنع المجاعة وتفشي الأمراض في القطاع، وأهلنا في القطاع لم يعودوا يعيرون اهتماماً بكل مواقف التعاطف وشعارات التأييد والدعم بل باتوا يثورون غضباً على من يدعوهم للصبر والصمود أو يدعو لهم بالنصر، فالنصر الوحيد بالنسبة لهم الآن هو ايجاد ما يسد جوع أطفالهم ويقيهم من البرد ويمنع عنهم الأمراض المتفشية ويوَقُف الحرب نهائياً ليعودوا لحياتهم الطبيعية.

قد يكون للتحولات الايجابية للرأي العام العالمي وموجة التعاطف الشعبي العالمي دور إيجابي في مسار القضية الوطنية في حالة وجود حاضنة وطنية رسمية فلسطينية لتوظيف هذه التحولات والبناء عليها في سياق استراتيجية وطنية، وهذا للأسف ما لم يتوفر حتى الآن.

***

د. ابراهيم ابراش

 

"بعد موتي، ستُرمى على قبري أكوام النفايات، لكن رياح التاريخ ستبدّدها"، هذا ما توقّعه جوزيف ستالين قبل بضعة أشهر من وفاته في 5 آذار / مارس 1953، ولعل موجة الحنين،  التي تجتاح بعض الشباب الروسي إلى "الديكتاتور الأحمر"، هي التي تذكّر بذلك، إذْ سيعتبر ستالين "الشخصية المجيدة في روسيا الخالدة"، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية (24 شباط / فبراير 2022)، ذلك ما توصّل إليه الكاتب والديبلوماسي، الذي عمل مع غورباتشوف، وكان المتحدّث باسم البريسترويكا، فلاديمير فيدروفسكي، في كتابه المثير "بوتين: أوكرانيا - الأوجه الخفيّة". وهو ما يؤكده مركز ليفادا الروسي المستقل والمختص بالأبحاث الاجتماعية وإجراء الاستطلاعات، الذي صنّف ستالين على رأس الشخصيات التاريخية الأكثر تميّزًا.

وهكذا يُبرَّء ستالين "الكاريزمي، الجذاب" من الأخطاء والخطايا، التي ارتبطت باسمه، فهو صاحب الإرادة الفولاذية والعناد الثوري والتواضع الإنساني، وتلك الصفات أخذت تقرّبه من لينين سلفه المباشر، ومن القيصر بطرس الأكبر، ومن "إيفان الرهيب" باعتبارهم رموزًا لقوّة روسيا.

وتترافق استعادة ستالين، الذي "تسلّم روسيا الفقيرة وحوّلها إلى قوّة عظمى"، مع توجّه فلاديمير بوتين، الذي تولّى دست المسؤولية الأولى في روسيا منذ العام 2000، وحاول "إعادة العافية إلى روسيا" بعد أن غرقت في الفساد والانحلال، إثر الإطاحة بالنظام الشيوعي.

وحين تُقدّم صورة ستالين - بوتين، فإنها تُظهر الاختلاف والتعارض مع صورتي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن، على المستويات السياسية والنفسية والأخلاقية، فالأول ضعيف وساذج، والثاني عاجز وسكّير، في حين أن ستالين يقدَّم باعتباره رجل الدولة المستقيم، ويبرر النيوستالينيون أعمال القمع، التي قام بها بأنها كانت من اختراع لينين، وأنها ماكينة حكم ثورة أكتوبر، المحاطة بالأعداء الداخليين والخارجيين، وهذه فرضت مثل هذا النوع من الحكم لمواجهتهم وحماية أمن البلاد.

وكانت المفكرة والاقتصادية الماركسية روزا لوكسمبورغ، المعروفة باسم "روزا الحمراء" والتي أطلق عليها لينين اسم "صقر الماركسية المحلّق"، أول من احتجّ على هذا النهج، وكتبت إلى لينين تقول "الثورة ليست حمام دم"، مثلما عارضها الروائي مكسيم غوركي، الذي مات مكسورًا بعد أن اضطرّ أن يتدثّر بالصمت، وانتقد كارل كاوتسكي، الديكتاتورية البلشفية، التي قامت عليها السلطة السوفيتية، علمًا بأنه يُعتبر أحد زعماء الأممية الثانية، والمنظّر الأبرز بعد وفاة صديقه إنجلز، وكان يُلقّب ﺑ "أبو الماركسية"، علمًا بأن لينين خالف الكثير من أطروحاته وردّ على أفكاره  بكتاب عنوانه "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي".

والحجج التي تقف إلى جانب ستالين كنت قد سمعتها من العديد من الشيوعيين بشكل مباشر، مثل القيادي البارز آرا خاجادور والمفكر حسقيل قوجمان، اللذان ظلّا، حتى آخر أيامهما، يتغنّيان بمجد ستالين ويرفضان الاتهامات الموجهة إليه، علمًا بأن بعض الكتابات تستبعد الأرقام المبالغة بشأن الضحايا، وتختصرهم إلى مجرد بضع مئات آلاف، في حين يقدّرهم البعض الآخر بالملايين، وهنا يمكن استعادة كلام ينسب إلى ستالين "موت رجل واحد مأساة، أما موت ملايين فتلك إحصائية".

كان ستالين بارعًا في الدراما السياسية، فهو شديد التواضع في ملبسه ومسكنه ومأكله، غرفته تتزيّن بسجادتين بسيطتين وستائر سميكة وطاولة خشب مصقول وسماور للشاي وعلبة تبع وغليونين أو ثلاثة، وهذا ما يذكره المؤرخون، وقد رفض بناء قصر خاص له وأصرّ على البقاء في موسكو خلال الاجتياح النازي.

كما استطاع ستالين اللعب على الخصوم، فتحالف مع زينوفييف وكامينيف ضدّ تروتسكي، ثمّ أطاح ﺑ بوخارين وتومسكي وريكوف، وتدريجيًا أعدم بعض هؤلاء الزعماء، بمن فيهم بوخارين، الذي كان يلقّب "بمحبوب الحزب" وأعدم ابنه معه بتهم الخيانة والتجسس في محاكماته الشهيرة، الـتي أودت بالكادر القيادي، وصعد هؤلاء منصة الإعدام وهم يهتفون بحياة ستالين، وتلك مفارقة أخرى.

وفي ذاكرتي الطفلية، استعدت صورة ستالين، التي رأيتها أول مرّة مخبأة في إحدى كتب عمي شوقي شعبان المدرسية، فسألت عن هذا الرجل، وإذا بي أسمع اسم "ستالين"، باعتباره رئيسًا للشيوعيين في العالم. وحصلت المفاجأة والدهشة حينما عدت من المدرسة بعد أسابيع، ورأيت عيني عمي شوقي الزرقاوين الجميلتين وقد اغرورقتا بالدموع، وبدا الحزن واضحًا على وجه عمي ضياء، الذي كان من أنصار السلام، ثم عرفت الخبر: لقد مات ستالين، وبسذاجة طفولية سألت، هل ستلبس بيبتي (جدتي) السواد حدادًا عليه؟

ولم يمض وقت طويل وإذا بالصورة "المشرقة" تبهت وتتغيّر، بل اهتزت بعد التقرير الذي قدّمه خروتشوف إلى المؤتمر العشرين للحزب العام 1956، وتدريجيًا أخذت تسبّب لي نفورًا بمرور الأيام، ارتباطًا مع تعمّق وعيي، وانخفاض منسوب الحمولة الآيديولوجية، خصوصًا بالانتقال من اليقينية الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية النقدية.

النظرة التقديسية إلى حد المعصومية أخذت تتبخّر، حتى وإن كانت ببطء شديد، بسبب ادعاء الأفضليات، وغضّ الطرف عن الأخطاء والنواقص، بل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، فضلًا عن منظومة الدعاية التوجيهية المضلّلة، التي كانت تُضخّ إلينا، ناهيك عن الجهل بالكثير من الحقائق والمعطيات الصادمة.

وكان صدور كتاب اسحق دويتشر الموسوم "ستالين - سيرة سياسية"،  قد أحدث هزّة جديدة وعنيفة في النفوس، لاسيّما بكشفه معلومات لم نكن نعرفها، وهو ما أشرت إليه في مراجعتي للتجربة في محاضرتي في الكوفة كاليري في لندن بتاريخ 2 شباط / فبراير 1994 والمنشورة في كراس بعنوان "بعيدًا عن أعين الرقيب".

***

د. عبد الحسين شعبان

 

انتفضت المستعمرات الأمريكية ضد بريطانيا العظمى في عام 1775 بهدف أن تصبح دولة مستقلة. في عام 1776، أرسلوا إلى الملك البريطاني إعلان الاستقلال، متخذين الخطوة الأولى نحو تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية. بعد ما يقرب من ثماني سنوات من القتال في الحرب الثورية الأمريكية، تراجع البريطانيون أخيرا، وأنشأ الأمريكيون حكومتهم الخاصة.

تشبه حكومة الولايات المتحدة اليوم إلى حد كبير تلك التي تم إنشاؤها في عام 1787. كان الآباء المؤسسون شخصيات رئيسية في استقلال أمريكا عن بريطانيا العظمى وتأسيس الحكومة الأمريكية المبكرة. كان لديهم العديد من الأسباب لكتابة دستور الولايات المتحدة بالطريقة التي فعلوها. لا تزال هذه الخيارات جزءا كبيرا من كيفية عمل الحكومة الأمريكية اليوم.

الاستعمار والثورة

أبحر الأوروبيون إلى الأمريكتين و كانت هذه القارات جديدة على الأوروبيين، على الرغم من استقرار الشعوب الأصلية فيهما منذ آلاف السنين، سعى الأوروبيون للاستكشاف والغزو. غزت إسبانيا أمريكا الجنوبية والوسطى في القرن السادس عشر بحثا عن الذهب. في القرن السابع عشر، أنشأ البريطانيون مستوطنات واكتسبوا موطئ قدم في أمريكا الشمالية.

سرعان ما أصبح للبريطانيين نفوذا قويا في أمريكا الشمالية، وبحلول عام 1732، سقطت جميع المستعمرات الثلاثة عشر تحت الحكم البريطاني. ولفترة من الوقت استمتع هؤلاء المستوطنون بكونهم جزءا من مملكة قوية. وهذا يعني أنهم سيكونون محميين من قبل حكومة قوية. في أواخر القرن السابع عشر تغير ذلك وأصبح المستوطنون منزعجين بشكل متزايد من مقدار القوة التي يمتلكها الملك.

بعد الانتصار في الحرب الثورية الامريكية وانسحاب الجيش البريطاني كان على القادة الأمريكيين أن يقرروا كيفية إدارة البلاد. كانت ذكرى الحياة تحت حكم بريطانيا العظمى تؤلمهم وخصوصا صلاحيات الملك المطلقة وأرادوا صيغة لتقاسم السلطة السياسية بين الشعب وأولئك الذين يحكمون. ومن أجل القيام بذلك كتب الآباء المؤسسون وثيقة مواد الاتحاد. كانت هذه الوثيقة تشرح واجبات حكومات الولايات، كما حددت حدود ما يمكن أن تفعله الحكومة المركزية. سيكون للحكومة المركزية القدرة على بدء الحرب، لكن لم يسمح لها بتجميع جيش. كما سيحظر على الحكومة المركزية تحصيل الضرائب ولم يكن هناك حتى رئيس. بدلا من ذلك، تم التعامل مع هذه الوظائف من قبل الولايات بشكل فردي، وسمح لكل ولاية أن تقرر كيفية إكمالها. في ذلك الوقت، شعر الآباء المؤسسون أن الحقوق ستكون أكثر أمانا إذا كانت الولايات تتمتع بأكبر قدر من القوة.

لسوء الحظ  تسبب هذا النظام في الكثير من المشاكل. في ماساتشوستس، بدأ المزارعون الذين انزعجوا مما اعتبروه ضرائب غير عادلة  تمرد شايز. استخدم المتمردون الأسلحة في محاولة للتغلب على حكومة الولاية. لقد كان صراعا خطيرا ولم تستطع الحكومة المركزية فعل أي شيء للمساعدة لأنه لم يكن لديها أي سلطة في الدولة. مشكلة أخرى هي التجارة والديون، والتي لم تكن موحدة في البلد بأكمله في وقت واحد. إن إبرام اتفاقيات منفصلة لولاية تلو الأخرى لم عملا منظما. استمر هذا النوع من المشاكل لسنوات.

أدرك العديد من الآباء المؤسسين أنه سيتعين عليهم إجراء تغييرات و في عام 1786، دعا ألكسندر هاملتون وكان من الأباء المؤسسين والسكرتير الأول للخزانة، دعا إلى عقد اجتماع لإصلاح مواد الاتحاد. التقى القادة في فيلادلفيا، بنسلفانيا للحديث عن كيفية حل هذه المشكلة.

مؤتمر التسويات

كان اجتماع الآباء المؤسسين في مايو 1787 والذي سمي المؤتمر الدستوري وقد استغرق الاجتماع طوال الصيف، لأن العديد من المندوبين اختلفوا حول ما يجب القيام به. أراد البعض تغيير المواد و أراد آخرون البدء من الصفر و في النهاية، كان على الجميع تقديم تنازلات.

واحدة من أكبر المنازعات كانت حول عدد الممثلين. كان من المهم تحديد عدد المندوبين لكل ولاية في الكونغرس، وهو الهيئة التشريعية للحكومة. أرادت الولايات الكبرى أن يكون عدد الممثلين على أساس عدد سكان كل ولاية بينما كانت الولايات الأصغر قلقة من هذا الأمر وأنه سيكون غير عادل بالنسبة لها وكانوا يريدون أن يكون لكل ولاية نفس العدد من المندوبين. وفي النهاية اتفقوا على التسوية الكبرى حيث سيتم تقسيم الكونغرس إلى قسمين. وسيكون عدد ممثليهم في مجلس النواب استنادا إلى عدد السكان وسيكون لمجلس الشيوخ عدد متساو من الممثلين من كل ولاية.

قبل وبعد التأسيس الرسمي للولايات المتحدة، كان يتم اختطاف الأشخاص من إفريقيا إلى الأمريكتين ضد إرادتهم ويجبرون على العبودية. اعتقدت الولايات التي بها عدد كبير من السكان المستعبدين أنهم يجب أن يعتبروا جزءا من إجمالي سكانها مما يعني ارتفاع إجمالي عدد السكان في هذه الولايات و يكون لها المزيد من المندوبين في مجلس النواب - وبالتالي المزيد من السلطة. كانت الولايات التي لديها عدد أقل من المستعبدين ضد هذا. في النهاية، توصلت الولايات إلى اتفاق حيث تم احتساب ثلاثة أخماس سكان كل ولاية من المستعبدين ضمن إجمالي سكان الولاية. وعلى الرغم من احتسابهم ضمن عدد سكان الولاية وبالتالي في عدد ممثلي الولاية، لم يتم اعتبار المستعبدين مواطنين وبالتالي لم يكن لهم حق التصويت في الولاية التي يعيشون فيها. ظلت هذه القاعدة جزءا من دستور الولايات المتحدة حتى بعد الحرب الأهلية الأمريكية.

مضامين الدستور

 انتهى الاجتماع في 17 سبتمبر 1787. وكانت النتيجة وثيقة تسمى دستور الولايات المتحدة الأمريكية. كان يحتوي على سبع مواد فقط وكان أقصر دستور في العالم لكنه غطى ما اعتقد الآباء المؤسسون أنه أهم أقسام الحكومة.

الفصل بين السلطات

تذكر الآباء المؤسسون المشاكل التي واجهوها تحت حكم بريطانيا العظمى. كانوا مصممين على الحفاظ على حقوقهم وفي الوقت نفسه علمتهم وثيقة مواد الاتحاد أن الحكومة المركزية بحاجة إلى بعض السلطة.

قرروا تقسيم الحكومة إلى ثلاثة سلطات، السلطة التشريعية أو الكونغرس، هي التي تضع القوانين. والسلطة التنفيذية، أو الرئيس، ومن واجبها أن تتأكد من تنفيذ القوانين وتنظيم العلاقات مع الدول الأخرى. وتقوم السلطة القضائية بتفسيرالقوانين وتتخذ القرارات بشأن القضايا القانونية. تتكون السلطة القضائية من المحكمة العليا وجميع المحاكم الاتحادية.

إن إعطاء كل سلطة مسؤوليات مختلفة يضمن عدم وجود فرع لديه الكثير من السلطة. وهذا يجعل من الصعب انتزاع حقوق الشعب.

الضوابط والتوازنات

بالإضافة إلى تنظيم الحكومة في فروع او سلطات منفصلة، فأنه يمكن لكل فرع منع فرع آخر من اتخاذ قرارات معينة أو اكتساب الكثير من السلطة. وهذا ما يسمى نظام الضوابط والتوازنات. على سبيل المثال، يكتب الكونغرس القوانين، لكن الأمر متروك للرئيس للموافقة عليها. يمكن للمحكمة العليا إلغاء القوانين الجديدة إذا اعتبروها غير دستورية.

الفيدرالية

أراد الآباء المؤسسون أيضا التأكد من احتفاظ الولايات ببعض السلطة. يسمى توازن القوى بين الحكومة المركزية وجميع حكومات الولايات بالفيدرالية.

أحد الأمثلة على هذا التوازن هو مجلس الشيوخ. لكل ولاية ممثلان، بغض النظر عن حجمها، مما يجعل الولايات متساوية القوة في مجلس الشيوخ. مثال آخر هو الانتخابات الرئاسية حيث كل ولاية تجري انتخاباتها الخاصة. يتم فرز النتائج في وقت لاحق كجزء من المجمع الانتخابي.

الخلافات الدستورية

تمت كتابة دستور الولايات المتحدة بعناية لتقاسم السلطة بين الولايات والحكومة المركزية. ومع ذلك، لم يعتقد كل واحد من الآباء المؤسسين أنه كان جيدا بما فيه الكفاية. تم تشكيل أول نظام حزبين، يتألف من الفيدراليين والمناهضين للفيدرالية. خشي المناهضون للفيدرالية من أن تتمتع الحكومة المركزية بالكثير من السلطة.

جيمس ماديسون وألكسندر هاملتون وجون جاي وهم جميعا من الآباء المؤسسين، كتب الجميع مقالات تدعم الدستور الجديد وقد سميت هذه بالأوراق الفيدرالية وكانت لصالح حكومة مركزية صغيرة ولكنها قوية. ونجحت الأوراق، وبحلول عام 1790، صدقت جميع المستعمرات ال 13 على دستور الولايات المتحدة.

وثيقة الحقوق

لم تنته مهمة الآباء المؤسسين بعد ذلك حيث طلبت العديد من الولايات من الكونجرس إضافة وثيقة حقوق إلى دستور الولايات المتحدة. نتج عن ذلك 10 تعديلات مهمة. الغرض من وثيقة الحقوق هو النص بوضوح على حقوق المواطنين وتأمينها. في ذلك الوقت، كان هناك عدد مختار فقط من السكان يعتبرون مواطنين في الولايات المتحدة، أي المستعمرين الأوروبيين وأحفادهم في الولايات المتحدة.

وثيقة الحقوق هي ما يحمي حرية التعبير والصحافة والدين والاحتجاج في الولايات المتحدة. وتتناول تعديلات أخرى قضايا قانونية، مثل ضمان حق الناس في محاكمة عادلة وسريعة. ينص التعديل 10 على أن أي شيء لا تسيطر عليه الحكومة المركزية متروك للولايات.

الدستور اليوم

 تستخدم الولايات المتحدة دستورها لوضع قوانين وسياسات جديدة. أجرى الكونجرس 17 تعديلا إضافيا على مدار تاريخ الأمة. لا يزال دستور الولايات المتحدة أقصر وثيقة حاكمة في العالم.

***

د. احمد مغير

 

Luiz Inacio Lula da Sivila

سيادة  رئيس جمهورية البرازيل الإتحادية المبجّل

تحيّة تليق بشخصك ومقامك

وتحية حب لشعب البرازيل

حين استمعت إلى آخر تصريح لك شعرت بالإطمئنان، وقلت في نفسي ما زال هنالك قادةَ، بإمكانهم أن ينقذوا العالم ويحققوا السلام العادل، وأن ينشروا رسالة العدل والسلم في كلّ مكان، وأنت من أهم قادة العالم، فمنذ أن كنت شابا يافعا كرّستَ جهودك لمحاربة الفقر.

شيء يشرّفك ويشرف شعب البرازيل أنّك أدنت حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وصورتها أدقّ تصوير بأنّها لا تختلف عن حرب الإبادة التي شنّها النازيون، وأنا أقول بل أكثر بشاعة وإيغالا في الإجرام من النازية القديمة.

أمّا ما قاله المجرم نتنياهو الذي أوغل في دماء الأبرياء من أهل غزة والذي قتل حتى الآن أكثر من عشرة آلاف طفل، منهم من لم يبلغ  عمره الشهرين بأنّ تصريحاتك كانت موجهة ضد السامية.. إنه أمرٌ يدعو الى السخرية، لأنّ ضحايا

النازي نتنياهو هم ساميون، العرب هم ساميون . لكنّ هذا المجرم لا ينتمي إلى أصول سامية ويكفيك اسمه، فهو وغيره ممن يمثلون كيانا عنصريا مقيتا يخدم المصالح الإستعمارية الغربية ليسوا ساميين، بل هم أدوات تتاجر بالسامية، وقد كشف الفيلسسوف الفرنسي روجيه غارودي هذا الأمر حين نشر الرسائل المتبادلة بين الحزب النازي في ألمانيا وقادة اسرائيل الصهاينة السابقين. لقد ساهم الصهاينة النازيون من اليهود في قتل اليهود في بلدان عديدة وذلك ضمن خطة تؤدي الى هجرة اليهود الى فلسطين.

سيادة رئيس جمهورية البرازيل المبجل

أنتِ صوت الضمير في عالم لا ضمير له، وهناك مثلك من نجلّ لهم الإحترام، مثل رئيس وزراء اسبانيا والأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة البرتغالي الأصل وكل من أدان الهمجية الصهيونية

لك مني كلّ الحب والإجلال

واسمح لي أن اختم رسالتي المختصرة هذه بما أسعفتني به لغتي البرتغالية البرازيلية، التي شرعت بتعلمها منذ سنوات

Todas as pessoas livres do mundo apreciam a sua nobre postura

Humanitária

دمتم ناصرا للحق والمظلومين

وليرتفع صوت أحرار العالم مدويّا

ضد قتلة الأطفال

***

الشاعر العراقي جميل حسين الساعدي

العدل الدولية تنصاع للضغوطات الغربية والصهيونية وتعطي إسرائيل ضوءا أخضر لبدء هجومها على الرفح برفضها الاستجابة لطلب جنوب أفريقيا اتخاذ إجراء يلزم دولة الاحتلال بوقف إطلاق النار وعدم شن هجومها على أكثر من مليون فلسطيني يتكدسون في رفح وتعلن: الوضع في رفح لا يتطلب إجراءات إضافية بحق إسرائيل!

فضيحة كبرى لا يمكن فهمها إلا في سياق انحياز محكمة "العدل" الدولية الفاضح للكيان الصهيوني والانصياع للضغوطات الغربية والصهيونية! كيف يمكن لنا أن نفهم أن المحكمة اعترفت بأن "التطورات الأخيرة في قطاع غزة، وفي رفح على وجه الخصوص، من شأنها أن تزيد بشكل كبير ما يعتبر بالفعل كابوسا إنسانيا له عواقب إقليمية لا توصف"، وأن "هذا الوضع الخطير يتطلب التنفيذ الفوري والفعال للتدابير المؤقتة التي أشارت إليها المحكمة في أمرها الصادر في 26 يناير 2024، والتي تنطبق على جميع أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك رفح، ولا يتطلب الإشارة إلى تدابير مؤقتة إضافية". وأكدت المحكمة أن "دولة إسرائيل تظل ملزمة بالامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية والأمر المذكور، بما في ذلك ضمان سلامة وأمن الفلسطينيين في قطاع غزة". فهل امتثلت إسرائيل امتثالا كاملا لالتزاماتها القانونية أم استمرت بقتل المدنيين وبمعدلات مئوية يوميا؟

هل أبدت أي نية أو أعطت أية إشارة إلى أنها ستوقف استهداف المدنيين أو تدمير البنية التحتية التي دمرت بالكامل؟

أليس القرار الذي أصدرته المحكمة متناقض ينفي قسمه الأول قسمه الثاني؟ لنقرأ النص: " وقالت المحكمة إن "الوضع الخطير في قطاع غزة ورفح بشكل خاص "يتطلب تنفيذا فوريا وفعالا للإجراءات المؤقتة" بموجب قرارها الصادر في 26 يناير كانون الثاني و”لا يتطلب الإشارة إلى تدابير مؤقتة إضافية". كيف يمكن التوفيق بين خطورة الوضع والمطالبة بتنفيذ الإجراءات المؤقتة التي لم تنفذ بعد شهر تقريبا من اتخاذها وبين القرار بعدم اتخاذ تدابير مؤقتة إضافية؟ أليس معنى ذلك إعطاء ضوء أخضر لجيش الكيان الذي قتل عشرات الآلاف من المدنيين وخصوصا من الأطفال والنساء ولم يستثنِ حتى الأطباء والصحافيين للبدء بهجومه الكارثي على رفح؟

ولكن ماذا ننتظر من محكمة كانت رئيستها الحالية جوان دونوهيو موظفة قانونية في وزارة الخارجية الأميركية ومستشارة للرئيس الأميركي أوباما؟ ماذا ننتظر من محكمة قررت ترقية القاضية الوحيدة (الأوغندية جوليا سيبوتيندي) التي اعترضت على كافة قرارتها لمصلحة الكيان الصهيوني ترقيتها إلى نائبة لرئيسة المحكمة؟

لقد كان هدف جنوب أفريقيا انتزاع قرار من المحكمة يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار وهذا لم يحدث بل ولم يحدث ما هو أقل منه وهو صدور قرار يلزم إسرائيل بوقف أو حتى تعليق هجومها الكارثي على رفح فإي عدل وأية عدالة في هذه الهيئة التي يسمونها دولية؟

لقد وضُحَ الآن مزيدا من الوضوح أن انتظار العدالة والحياد من جميع الهيئات الدولية التي أنشأتها الدول الاستعمارية العنصرية الغربية ومارست الهيمنة عليها طوال فترة ما بعد الحرب الأوروبية "العالمية" الثانية وحتى اليوم إنما هو وهم وغباء، ولم يعد مبررا الاستمرار في هذا الوهم القاتل، وأن على شعوب منطقتنا والعالم الثالث كله التفكير جدياً بإيجاد بديل حقيقي ومحايد لهذه الهيئات "الدولية" التي أسسها أولاد وأحفاد تجار العبيد والأسلحة ومبيدو الشعوب الأصلية في جميع القارات!

***

علاء اللامي

.........................

* يمكن العثور على تقرير مفصل عن هذا الخبر في موقع قناة "روسيا اليوم" بالبحث عن العبارة المفتاحية "محكمة العدل الدولية: الوضع في رفح " في محرك البحث غوغل".

* رابط لمختصر الخبر في رويترز:

https://www.swissinfo.ch/ara/%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%84-%D9%84%D8%A7-%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B7%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A6-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86/72655894

في خضمّ المراوحة التي تعيشها معظم بلداننا في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا، والمتمثل ببطئ تقدمِها إلى الأمام وفشلها الذريع في تطوير مؤسساتها وتنمية الإنسان فيها، تتبادر إلى الأذهان والألسن مقارنات بينها وبين مجموعة دول أخرى لا تختلف كثيراً عنها؛ مقارنات تنتج أسئلة تبحث عن إجابات رغم أن الأمر لا يتعلق بتلك الإجابات الإنشائية أو التبريرية في معظمها، بل هو البحث عن مكامن الخلل البنيوي الذي يتعلق بجملة من المرتكزات في البناء والأسس والتركيبات التربوية والاجتماعية وربما العقائدية، وما يلحق بها من عادات وسلوك متوارث، ناهيك عن التأويلات والتفسيرات لكثير من النصوص والعقائد والنظريات في مجتمع قَبَلي وأسري يرتبط عضوياً بالبداوة والزراعة، وما يتعلق بهما من قوانين وضوابط وارتباطات؛ ولذلك ذهبنا إلى محاولة لمقاربة مجتمعات هي الأقرب في ظروف تكويناتها وطبيعة تركيباتها الاجتماعية والاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، الثورة الصينية التي وقعت في 1949، وكانت بحق حدثاً مهماً في قارة آسيا، تبعها بعد سنتين حدث لا يقل أهمية في قارة أفريقيا ألا وهو الثورة المصرية عام 1952م، والثورتان حدثتا في مملكتين من أعرق ممالك التاريخ، مملكة مصر وارثة ممالك الفراعنة أعظم حضارات الدنيا، وممالك الصين وحضاراتها الغائرة في أعماق الزمن، والمثير أنّ الثورتين الصينية والمصرية تصنفان على يسار الحركة السياسية في العالم آنذاك، وهناك الكثير من التشابهات بين الدولتين والشعبين فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة التي تمتد في كليهما إلى عدّة آلاف من السنين، إضافةً إلى التشابه في نسبة الفقر والأمية العالية قياساً لكثافة السكان، مع انخفاض مريع لإنتاجية الفرد والمجتمع إبان قيام الثورتين،

وربما بعدهما بسنوات ليست طويلة ما حدث في كوريا ثم قيام الثورة العراقية في تموز 1958م والكثير من التشابهات بين هذه الدول وأنظمتها الاجتماعية المحافظة وما جرى فيها خلال عدة عقود من الزمن المزدحم بالإنجازات في بعضها والمتقهقر في بعضها الآخر. ورغم أن مجموعة دول الصين وملحقاتها في تايوان وهونغ كونغ، وكوريا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، خاضت حروباً وصراعات كثيرة، لكنها رغم ذلك وبعد ما يزيد على سبعين عاماً بقليل استطاعت أن تُحدث تغييراً نوعياً كبيراً في مسار تقدمها وشكل ومضمون حضارتها، وبالذات في الصين العظمى والصغرى في تايوان والأصغر في هونغ كونغ، وما حصل من تطور مذهل في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ومقارنة مع مجموعتنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عما حصل خلال ذات الحقبة الزمنية من تقهقر مريع وحصاد هزيل في بلداننا، ندرك البون الشاسع بين دولنا وأنظمتنا وبين تلك المجموعة التي كما قلنا لا تختلف ظروف تكوينها وموروثاتها وكيف غدت دول مثل العراق وسوريا ومن ماثلهما من أنظمة ودول بقياسات زمنية واجتماعية وسياسية متقاربة قياساً إلى ما حدث في الصين الصغيرة منها والعظمى، وما نتج في كوريا وكثير من بلدان جنوب شرق آسيا التي لا تختلف كثيراً عن دولنا وشعوبنا.

هذه المقارنة وما تنتجه من أسئلة تقودنا إلى البحث عن مراكز القوة في المجموعة الأولى التي أنتجت لنا تقدماً مذهلاً خلال هذه السنوات السبعين في كل من الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وفي الطرف الآخر، أي في مجموعتنا هنا في الشرق الأوسط عموماً، وحصرياً في دول الحضارات القديمة، أين تكمن نقاط الضعف والخلل التي تسببت في هذا الانهيار والتقهقر والانكفاء؟

وكما يقول الأطباء فإن التشخيص نصف العلاج، خاصة عند إجراء مقارنة بين الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية مجموعتنا في الشرق الأوسط والتي تتشابه كثيراً في طبيعة مجتمعاتها وأوضاعها، هذه المقارنات قد تقودنا في رسم خارطة طريق للأجيال القادمة لا تعتمد ذلك الكم الهائل من الموروث المربك والمعيق وما يلحقه من عادات وتقاليد ونظريات وتأويلات اجتماعية ودينية أثبتت فشلها على أرض الواقع، وكان الاعتماد عليها سبباً رئيساً لفشل كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وحان الوقت رغم كل ما جرى أن نعتمد مرتكزاً أساسياً للتقدم دونما شعارات رنانة ألا وهو التعليم الحديث والتأهيل البشري ضمن سياقات حضارية معاصرة لا تخضع لتلك الموروثات التي أثبتت فشلها في حياة شعوبنا وأنظمتنا.

***

كفاح محمود

قد يكون هذا عنوانا واستهلالا صادما ولكنها الحقيقة التي لا يمكن لكل أشكال التنديد والشجب العربية والدولية والدعوات والتمنيات من تغييرها. صحيح أن حرب الإبادة في غزة وممارسات المستوطنين في الضفة أثارت الرأي العام وحركت الشعوب والمنظمات الدولية ضد دولة الكيان وأحيت القضية مجددا اعلاميا، ولكن كل ذلك لا يؤثر على مجريات الحرب ولم ولن يردع نتنياهو وكيانه اليهودي الصهيوني الإرهابي عن استكمال المشروع الصهيوني التوراتي الذي بدأ عمليا عام 1948.

  ما وصلت اليه الأمور في قطاع غزة من جوع وفقر وانتشار للأمراض وغياب متطلبات الحياة الضرورية من دواء ومياه واستمرار آلة الموت الصهيونية في حصد مئات المواطنين يومياً ما بين شهيد وجريح والتهديد باجتياح رفح ... كل ذلك يتطلب درجة عالية من الصراحة والوضوح وإعمال العقل وتجاهل الخطابات والشعارات المضخمة عن المقاومة وقدراتها وعن الصمود الخارق للشعب الفلسطيني الخ التي يروج لها المتفرجون خارج الوطن الذين يرومون إخفاء عجزهم عن القيام بواجبهم القومي والإسلامي والإنساني بالزعم أن المقاومة في غزة بخير وأن أبطال حماس والفصائل يقومون بواجبهم في الدفاع عن غزة والقدس وكرامة الأمة العربية والإسلامية، ويعتقدون أن السماح لمحطاتهم الفضائية باستضافة كل من هب ودب من أشباه ومدعي الخبرة في السياسة والاستراتيجية العسكرية بنقل ما يجري في غزة والحديث عن بطولات وصمود أهلها، أو تصوير شاحنات المساعدات الغذائية التي يرسلونها لحدود القطاع  دون أن يجرؤوا على إدخالها للقطاع، معتقدين أن كل ذلك سيعفيهم من المسؤولية عن أكبر جريمة إبادة جماعية في حق شعب وقضية كانوا يزعمون أنها قضيتهم الأولى .

نعم نقولها بصراحة إن القضية الفلسطينية ليست بخير وأهل غزة ليسوا بخير ومكرهون على الصمود والصبر لأنه لا بدائل أمامهم، وأن المقاومة ليست بخير بالرغم من البطولات الفردية للمقاتلين، ومهما كان بأس المقاومة فلن تُوقف العدو عن تنفيذ مخططاته بما في ذلك اجتياح رفح، ونقولها بصراحة أيضا إن هدف حركة حماس الحفاظ على سلطتها في القطاع بأي ثمن حتى من خلال قمع المواطنين واسكات المحتجين والمعارضين بقوة السلاح والمساومة على دماء خوالي 50 الف شهيد ومفقود وأضعافهم من الجرحى والمعاقين والمعتقلين.

كل ما يجري من تطورات عسكرية وفشل كل المفاوضات حول الهدنة وصفقات تبادل أسرى والتي تفشلها إسرائيل عمداً لكسب الوقت، يؤكد أن العدو سينفذ مخططه المُعد مسبقاً في القطاع بما في ذلك التهجير الى سيناء أو خارجها ولن تردعه الحواجز والاسلاك الشائكة التي تضعها مصر على حدودها ولا التهديد بوقف العمل باتفاقية كامب ديفيد وقطع العلاقات، كما لن تلتفت إلى كل التحذيرات والتنديدات من دول العالم التي لا تتجاوز انتقاداتها المطالبة بتجنب وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين، فإسرائيل تعرف أن هذه الدول التي سكتت على جرائمها طوال أكثر من أربعة أشهر لن تفعل لها شيء في حالة قيامها بمجزرة جديدة في رفح وتهجير سكانها ، وهذا العالم العاجز والمتواطئ سيقول إنه عمل ما في وسعه ولكن نتنياهو لم يستمع كلامهمّ، وما بعد مجزرة رفح سيتم تحميل شخص نتنياهو مسؤولية الجريمة وحرب الابادة وتعود العلاقات الرسمية بين إسرائيل ودول العالم الى طبيعتها وسيتواصل التطبيع مع الدول العربية أقوى مما كان. وسيتواصل العجز الرسمي الفلسطيني بل ستكون منظمة التحرير والسلطة أكثر ضعفاً مما كانتا وستدفع الضفة والقدس ثمن الانتصارات المزعومة لحماس في غزة.

 في مقابل كل هذه المعاناة والدمار ستواصل حركة حماس في الترويج لخطاب النصر وسترفع رايتها على أنقاض بيوت ومدارس وجامعات ومستشفيات ومساجد ومتاحف غزة وعلى جثث وأشلاء وقبور أكثر من خمسين ألف شهيد، وستستمر في المكابرة والمعاندة وترويج وهم أن هزيمتها كحركة إسلامية هزيمة للإسلام وأن هزيمتها كحركة مقاومة هزيمة للمقاومة، متجاهلة انها مجرد حزب أو جماعة سياسية وسيستمر الإسلام والمقاومة في فلسطين بوجودها أو بدونه، وأن الحرب ليست على حركة حماس بل على كل الشعب والقضية وأن العدو مخادع في حديثه عن الحرب على غزة وحماس، فما يسعى له هو القضاء على القضية الوطنية برمتها..

الشيء الإيجابي الوحيد في كل ما يجري هو انكشاف حقيقة إسرائيل ككيان عنصري إرهابي ونازي عند جزء كبير من شعوب العالم الغربي حتى في الولايات المتحدة الامريكية، وأن هزيمة أو فشل فصائل المقاومة والنظام السياسي الرسمي في مواجهة المخطط الصهيوني لا يعني هزيمة الشعب ونهاية القضية الفلسطينية فسينهض الشعب مجددا كما نهض وثار بعد نكبة 1948 وبعد نكبة 1967 وبعد خروج الثورة من لبنان ودول الطوق 1982.فهل الطبقة السياسية الفلسطينية مؤهلة للبناء على ذلك في مرحلة ما بعد الحرب؟

***

ا. د. ابراهيم ابراش

 

بقلم: مورا رينولدز

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يصف أحد آخر الصحفيين الغربيين الذين أجروا مقابلة مع الزعيم الروسي الألعاب الذهنية التي يمارسها الكرملين، وكيفية التمييز بين الصحافة والدعاية.

وقال ليونيل باربر، رئيس التحرير السابق لصحيفة فايننشال تايمز: "هدف بوتين هو إضعاف أمريكا. لقد وصل بوتين إلى هنا وهو يشعر بأن روسيا قوة من الدرجة الثانية مقارنة بأمريكا". | ميخائيل كليمنتيف / وكالة الصحافة الفرنسية عبر غيتي إيماجز

مورا رينولدز هي نائبة رئيس تحرير مجلة بوليتيكو للأفكار.

لا يجري فلاديمير بوتين الكثير من المقابلات مع الغربيين. لذلك، عندما يبث تاكر كارلسون لقاءه  يوم الخميس، ستكون هذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي أجرى فيها الرئيس الروسي مقابلة شخصية مع صحفي غربي - على الرغم من وجود جدل حول ما إذا كان كارلسون يعتبر واحدا منهم.

كان أحد الصحفيين الذين تمكنوا من الوصول إلى هذا النوع من التواصل مع بوتين هو ليونيل باربر، رئيس تحرير صحيفة فايننشال تايمز حتى عام 2020. أمضى باربر، مع زميل له مقيم في موسكو، أكثر من ساعة ونصف في إجراء مقابلة مع بوتين في الكرملين في تموز 2019. ويتذكر تجربة لا بأس بها، حيث ظل ينتظر لساعات حتى منتصف الليل تقريبا بينما كان مساعدوه يلعبون ألعابا ذهنية لإثارة أعصابه.

لقد فتحت المقابلة التي أجراها باربر آفاقا جديدة ، حيث حصلت على إجابات من بوتين كشفت كيف تغيرت نظرته للعالم، وكيف كان عداءه للغرب يتزايد. ويبقى أن نرى ما إذا كان كارلسون يفعل شيئا مماثلا - يستخدم المقابلة بالطريقة التي يستخدمها الصحفي لاستخلاص معلومات جديدة - أو ما إذا كان هو وبوتين يسعيان إلى الترويج لأجندة سياسية مماثلة.

ويقول باربر إنه سوف يراقب كارلسون عن كثب كما يراقب بوتين، وهو شخصية يصفها بأنها "شخصية جليدية للغاية".

وقال باربر: "سأحكم عليه أولا من خلال جودة الأسئلة، وما إذا كانت أسئلته تكشف اللعبة، وتُظهر أنه يقف إلى جانب بوتين". "إذا كانت مجرد أسئلة سوفتبول أو نفخة كريمة، فهي مجرد قطعة من الدعاية وهو مجرد بمثابة الناطق بلسان بوتين ودميته".

مورا رينولدز: لا يجري القادة الروس مقابلات فردية مع الغربيين في كثير من الأحيان، وعندما يفعلون ذلك، فإنهم عادة ما يكون لديهم دافع خفي. ما هو برأيك دافع بوتين للتحدث مع كارلسون الآن؟ هل يريد بوتين التحدث أم أنه يريد التحدث مع كارلسون على وجه التحديد؟

يونيل باربر: أولا، يعرف أن لديه أذنًا متعاطفة. كارلسون صحفي من نوع ما، لكنه أيضا داعية. إنه متعاطف مع النسخة الروسية من سبب غزوهم لأوكرانيا. تاكر ليس صديقا على الإطلاق لـ [الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي]. وتحدث في كلمته الافتتاحية عن معاملة زيلينسكي على أنه "علامة تجارية استهلاكية" في وسائل الإعلام الأمريكية، وهو ما كان مهينا بصراحة. لذلك نحن نعرف من أين أتى كارلسون. لن يجري مقابلة معادية، رقم واحد.

ثانيا، إذا فكرت في التوقيت، فستجد أن حزمة المساعدات العسكرية في واشنطن متاحة للجميع؛ لقد تم احتجازها كرهينة من قبل عدد صغير من الجمهوريين، وجمهوريي ماجا، وأنصار ترامب. وهذه هي اللحظة التي حسبها بوتين أنه يمكنه استخدام هذه المقابلة لجذب هذا الجمهور. وأخيرا، لجذب الجمهور الغربي، الذي من المؤكد أن بعضه يجهل التاريخ والتعقيد المحيط بهذا الصراع.

مورا رينولدز: لذا، فأنت تعتقد أن أحد دوافع بوتين هو دق مسمار في نعش حزمة المساعدات لأوكرانيا التي يجري النظر فيها حاليا في الكونجرس الأمريكي، وكذلك احتمال الوصول إلى جمهور الأمريكيين الذين ليسوا متأكدين من حجم المبلغ الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تفعله. هل ندعم أوكرانيا في هذه المرحلة؟

يونيل باربر: لا أعرف ما إذا كان بإمكانه دق مسمار في النعش. ما يريد أن يفعله هو شيء أكثر غدرا قليلا، وهو إضعاف عزيمة الغرب، وإعطاء الانطباع بأنه شخص عاقل، ولماذا لا ننسى أن هذا صراع وحشي حيث هو المعتدي. أن هناك صفقة يجب عقدها وهو شخص عاقل. فهو يريد مناشدة هذا النوع من الأشخاص لتقويض عزيمة الغرب ووحدته. وهذا بالفعل ما يريد أن يفعله، وكنتيجة ثانوية لذلك، ربما إنهاء حزمة المساعدات هذه.

مورا رينولدز: أخبرني كيف جاءت مقابلتك مع بوتين؟ هل كانت صحيفة فاينانشيال تايمز تسعى لذلك؟ هل اقترب منك الكرملين؟

يونيل باربر: لقد طلبنا إجراء مقابلة في أوائل عام 2010. لقد كنت في الواقع أتناول العشاء مع بعض رجال الأعمال – اثنان من رجال النفط، واثنين من الأكاديميين، ورئيس تحرير مجلة الإيكونوميست – في عشاء مع بوتين في السفارة الروسية في لندن. كان هذا قبل [2014] غزو القرم وضمها. لذا فكرت في ذلك الوقت، حسنا، سيكون من الجيد محاولة إجراء مقابلة. كنت أتطلع إلى إجراء مقابلات منتظمة مع زعماء العالم وكان بوتين على القائمة. لكن بعد شبه جزيرة القرم، اعتقدت أنني لا أريد الذهاب إلى هناك. ونظرا لوجود عقوبات دولية، فإن ذلك يرسل رسالة خاطئة. لذلك انتظرنا ثم بذلنا جهدا آخر في عام 2017 أو 2018 تقريبا. واستغرق الأمر بضع سنوات. ثم جاء مراسل جديد لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إلى موسكو واعتقدنا أن هذا كان بمثابة فرصة، وكنا نناشد غروره نوعا ما: "هناك قمة مجموعة العشرين في اليابان في أوساكا. هذه هي اللحظة المناسبة لك للخروج على المسرح العالمي." لقد أوضحنا أنه ظل في السلطة لمدة 20 عاما وأنه سيكون القائد الأكثر خبرة هناك، لذا فهذه فرصة للتحدث إلى "فاينانشيال تايمز"، والتحدث إلى جمهور عالمي.

وهكذا قالوا أخيرا نعم.

مورا رينولدز: هل وضعوا أي شروط للمقابلة؟

يونيل باربر: لا، و أنا لا أضع الشروط.

مورا رينولدز: أين تم ذلك؟ هل كان هناك أشخاص آخرون في الغرفة؟

يونيل باربر: كنا نعلم أنها كانت مقابلة ليلية. كنا نعلم أن بوتين سيجعلنا ننتظر أربع ساعات على الأقل. اتضح أن الأمر قد انتهى للتو. واستمر الأمر حتى منتصف الليل. خلال النهار علينا فقط أن ننتظر. وبعد ذلك تم استدعاؤنا إلى الكرملين في حوالي الساعة السابعة والربع.

تم نقلنا بعد ذلك إلى غرفة الوزارة، الغرفة الشهيرة التي تحتوي على أطول طاولة في العالم الشرقي، لكنها لم تكن  في وقت كوفيد، لذا كان لدينا طاولة صغيرة مستديرة. طاولة صغيرة جدا. وبعد ذلك بقينا واقفين لساعات. كانت هناك كل أنواع الألعاب الذهنية الجارية لأنهم وضعوا الكراسي جانبا وفكرت، حسنا، هذا جيد لأنني كنت واقفا أتحدث إلى هؤلاء المرافقين لمدة ساعة. لكن عندما تحركت نحو الكراسي للجلوس، جلس حراس الأمن على الكراسي بدلا من ذلك. لذلك كان كل هذا يحدث. ثم ذهبنا لتناول بعض الشاي وظللت أفكر، قد يكون هذا شاي البولونيوم . كما تعلم، لم تكن تريد أن تشرب أي شيء لأن ما الذي سيحدث في المشروب؟ كانت هناك كل أنواع الألعاب الذهنية. وفي النهاية كنت أفكر، حسنا، لقد مرت أربع ساعات الآن، و20 دقيقة حتى منتصف الليل. ثم تم إرجاعنا إلى غرفة مجلس الوزراء، وتم إعداد جميع الكاميرات ودخل بوتين.

كما تعلم، فهو أقصر بكثير مما يبدو. ربما يبلغ طوله في الواقع 5 أقدام وخمسة أقدام أو نحو ذلك. وكان [ديمتري بيسكوف]، المتحدث باسم الكرملين منذ فترة طويلة، في الخلفية، ثم أنا وهنري. ثم قلت لهنري، كما تعلم، لقد انتظرنا أكثر من أربع ساعات. سأتحدث معه باللغة الألمانية لأذكره بأنني أعرف أنه كان عميلا للكي جي بي في دريسدن. وبالطبع، تحدث بعد ذلك باللغة الألمانية. قلت باللغة الألمانية، شكرا جزيلا لك على رؤيتنا، لقد مر بعض الوقت منذ آخر مرة رأيتك فيها. ثم قال شكرا لك وأين تعلمت لغتك الألمانية؟ وقلت أكسفورد، لكنني لم أتعلم اللغة الألمانية فحسب، بل تعلمت التاريخ الألماني الحديث. ثم قال بالألمانية ما هو التاريخ الحديث؟ كان الأمر كما لو تم ضربه بمطرقة ثقيلة. ماذا أقول؟ إنه سيد زعزعة الاستقرار، عليك أن تكون دائما على أهبة الاستعداد. لذلك تجمد ذهني، ثم قلت فجأة، باللغة الألمانية، حسنًا، سيدي الرئيس، التاريخ الحديث هو كل ما حدث بعد عام 1989 [عندما سقط جدار برلين]. وأعجبته هذه الإجابة، ثم قال: حسنا، اجلس.

لقد استعدت لهذا بجدية. لقد قررت أن المقابلة ستستمر أكثر من ساعة. وانتهى الأمر بمدة حوالي ساعة و40 دقيقة. وأتذكر أنه بعد حوالي 80 دقيقة، بدأ يتذمر ويقول إن هذا استغرق وقتا طويلا. وقلت، سيدي الرئيس، لقد انتظرت خمس سنوات من أجل ذلك، وعلينا أن نستمر قليلا.

أحد الأشخاص الذين تحدثت إليهم قبل المقابلة كان بيل بيرنز، الذي كان آنذاك سفير الولايات المتحدة في موسكو لفترة طويلة. التقى بوتين عدة مرات وهو الآن رئيس وكالة المخابرات المركزية. وسألته عن كيفية التعامل مع بوتين. وأيضا بوب زوليك، نائب وزير الخارجية الأسبق، كان يعرف بوتين جيداً، وكلاهما قالا: لا تعاديه في البداية. تعامل معه باحترام. وكانت تلك نصيحة جيدة. لا يتعلق الأمر باللين، ولكن إذا كنت ترغب في الحصول على فرصة لتعلم شيء ما، فلن تقوم بالتسديد الرخيص أو العدوان في البداية. لذلك كانت تلك نصيحة جيدة.

مورا رينولدز: ينظر منتقدو كارلسون إليه على أنه داعية أو ديماغوجي أكثر من كونه صحفيا. إذا، هل هذا يعني أن أسلوبه في هذه المقابلة سيكون مختلفا عن أسلوبك؟ وما الذي ستبحث عنه لمحاولة الحكم على أهداف كارلسون في هذه المقابلة؟

يونيل باربر: سأحكم عليه أولا من خلال نوعية الأسئلة وما إذا كانت أسئلته تكشف اللعبة، وتُظهر أنه يقف إلى جانب بوتين. إذا كانت مجرد أسئلة سوفتبول أو نفخة كريمة، فهي مجرد قطعة من الدعاية وهو مجرد بمثابة الناطق بلسان بوتين ودميته.

والنقطة الأخرى هي: هل سيطرح على الأقل بضعة أسئلة من شأنها أن تجعل بوتين غير مرتاح؟ وأود أن أقول أنه يجب عليه ذلك. إذا كان صحفيا، فإن الصحفي المناسب سيسأل عن اعتقال إيفان غيرشكوفيتش، مراسل موسكو المسجون بتهم ملفقة بالتجسس. إذا لم يذكر غيرشكوفيتش، فهذا أمر مروع. غيرشكوفيتش ليس معارضا سياسيا للنظام. إنه صحفي. إنه صحفي أمريكي.

مورا رينولدز: فإذا كان كارلسون موجودا بالفعل كصحفي، فسوف يسأل عن مصير صحفي آخر؟

يونيل باربر: هذا هو الاختبار الحقيقي لنزاهة هذه المقابلة. هل ذكر أن غيرشكوفيتش محتجز؟ أم أنه سيكون نوعا من المحاور المتملق؟ أعني أنه يمكنك أن تكون مهذبا ولكن ليس بشكل مفرط. هل سيتم فصله قليلا؟ فهل يستخرج أي معلومات من بوتين تثير الدهشة؟ أم أن الأمر مجرد ما نعرفه جميعا، ولا يختلف عما قاله بوتين من قبل؟ هذا هو الاختبار للمحاور، هل أنت في الواقع تستخرج المعلومات بدلا من الدعاية؟

مورا رينولدز: إلى أي مدى كانت النسخة الروسية الانتقامية من التاريخ عنصرا في مقابلتك مع بوتين وكيف تطورت في السنوات الأربع اللاحقة في رأيك؟

يونيل باربر: كان هناك على الأقل ثلاثة أشياء مهمة جدا ظهرت في مقابلتنا. الأول كان - ويجب أن أمنح بيل بيرنز الفضل في ذلك لأنني سألته، ما هو السؤال الوحيد الذي قد تطرحه على بوتين؟ وقال: اسأله: "بعد 20 عاما، هل ارتفعت شهيتك للمخاطرة أم انخفضت بناء على خبرتك؟" إنه سؤال رائع. في البداية حاول بوتين التملص من الأمر ثم دفعته. ثم قال: حسنا، لدينا قول مأثور في روسيا، "أولئك الذين لا يخاطرون، لا يمكنهم شرب الشمبانيا". حسنا، كان ذلك واضحا. وقد ارتفعت شهيته للمخاطرة.

السؤال الثاني كان عن الشعبوية. لقد رأينا شعبوية في أمريكا مع ترامب وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. متى ستأتي إلى روسيا؟ وهو حقا لم يعجبه هذا السؤال. وبعد ذلك توصل إلى ما تبين أنه القصة الكبيرة بالنسبة لنا، وهي أن الفكرة الليبرالية عفا عليها الزمن. أنتم يا رفاق منحلون وناعمون. أنت لا تعرف شيئا وأنت تعلم أنك تقوم بتدريس المرونة بين الجنسين في المدارس. أعني أنه كان لا يصدق. وكانت تلك هي القصة لأنها أخبرتك للتو أنه يعتقد أن الغرب كان منحطا ومتهالكا، وكان على الجانب الصحيح من التاريخ.

النقطة الثالثة كانت عندما سألته عن سقوط الاتحاد السوفييتي، فأعاد التأكيد على ما قاله عن كونها مأساة بسبب ملايين النازحين الروس، ويمكنك حينها أن تستشعر ثقافة وعقلية التظلم. وبعد أقل من ثلاث سنوات، ذهب وقام بغزو أوكرانيا.

من الواضح أن الأمور سارت على مسار آخر خلال كوفيد عندما كتب هذا المقال الطويل عن الإمبراطورية الروسية القديمة . أعتقد أنه حصل على أساس تاريخي فلسفي أكثر من خلال التحدث إلى [الإيديولوجي الروسي ] ألكسندر دوجين وآخرين للحديث عن روسيا الكبرى وإعادة بناء روسيا الكبرى.

مورا رينولدز: لذا، هل سيكون هذا أمرًا آخر يجب مراقبته في مقابلة كارلسون، سواء سمح لبوتين ببساطة بتقديم هذه النسخة الجديدة من التاريخ التي تعتبر فيها روسيا قوة عظمى والغرب منحطا، أو ما إذا كان يتحداه بالطريقة التي فعلتها وتشير إليها. هل يمكن أن نستنتج أن غزو أوكرانيا لم يكن مبررا؟

يونيل باربر: وسأراقبه لأرى ما إذا كان قادرا على حمل بوتن على القول بشكل مباشر: "أوكرانيا ليست دولة. ولا تتمتع بوضع الدولة المستقلة. إنها حقا جزء من روسيا." وبعد ذلك سأنتظر لأرى، هل سيتابع الأمر ويقول، هل يعني ذلك أن هناك أجزاء أخرى من أوروبا لا تنتمي حقًا إلى الدول المستقلة؟ سألته عن ذلك عام 2013، فرأيت وجهه قد تحول إلى ثلج. وبالمناسبة، فإن بوتين شخصية جليدية للغاية. حقا، يمكنه أن ينظر إليك وهو وجه ميدوسا إذا لم يعجبه شيء ما. إذا ذكرت دول البلطيق، فسوف يتجمد. لذلك أود أن أقول له، حسنًا، دول البلطيق كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي. ماذا عنهم؟ هل هم مستقلون حقا؟ إلى أي مدى ستصل هذه الإمبراطورية الروسية الجديدة؟ يحتاج إلى إثارة ذلك.

مورا رينولدز: كارلسون هو نوع من الانعزالي الجديد. هل تساعد انعزالية كارلسون أجندة بوتين؟

يونيل باربر: هدف بوتين هو إضعاف أمريكا. لقد وصل بوتين إلى هنا وهو يشعر بأن روسيا قوة من الدرجة الثانية مقارنة بأمريكا. لقد سئم من الطريقة التي اضطروا بها إلى المضي قدماً في الحرب على الإرهاب. ورأى ما حدث في ليبيا والربيع العربي. وهو يعتقد أن أمريكا تقف وراء كل هذا، وأن روسيا تُعامل معاملة سيئة. لذا فهو يدعم أي شيء يمكن أن يضعف أمريكا. ومن الواضح أنه نظرا لأن الغرب يدعم أوكرانيا المستقلة، فإن الغرب يدعم عضوية الاتحاد الأوروبي، ويريد بوتين كسر ذلك. فهو يريد أوكرانيا محايدة في فلك روسيا. وهو يريد مساحة أكبر للمناورة وأن يكون على رأس الطاولة. ويريد إضعاف الغرب. والقوة الرئيسية هي أمريكا.

مورا رينولدز: كيف يلعب كارلسون في ذلك؟

يونيل باربر: كارلسون من أنصار ومعجب بفيكتور أوربان في المجر. أوربان هو مستبد بحرف كبير. وهو مستبد غير ليبرالي. لم تعد المجر دولة ديمقراطية ليبرالية فاعلة بعد الآن. لذا فإن كارسون مناهض للاتحاد الأوروبي، ومناهض للديمقراطية الليبرالية، وبالتالي فهو يحمل ماء بوتين إلى هنا. لأن بوتين يريد أيضاً إضعاف الاتحاد الأوروبي، وإذا تفكك، فإن ذلك كله لصالحه لأن ذلك يجعل روسيا أقوى. لذا فإن العزلة الجديدة التي يتبناها كارسون، وتصوره بأن أميركا ليس لديها كلاب في القتال في أوكرانيا، تصب في مصلحة بوتن.

مورا رينولدز: في أمريكا، كان هناك انقسام متزايد بين المؤسسات الإخبارية التي تكون سياسية بشكل علني وتلك التي تكون أقل سياسية بشكل علني. كيف يمكن للأميركيين أن يتعلموا عن كيفية عمل الدعاية، في مقابل كيفية عمل الصحافة؟ كيف سنكون قادرين على معرفة ما إذا كان ما يفعله كارلسون هو صحافة أم دعاية؟

يونيل باربر: اسمحوا لي أن أكون واضحا، أنا من المعسكر الذي يقول إنه إذا أتيحت الفرصة لأي مؤسسة إخبارية لإجراء مقابلة مع فلاديمير بوتين، فيجب عليها الآن، مع اقتراب الذكرى السنوية، أن تفعل ذلك. المشكلة في مقابلة تاكر كارلسون هي أنه مروج للدعاية. إنه يطمس التمييز بين الصحفيين والدعاة. إنه أكثر من مجرد آراء. لدينا جميعا آراء. لكنه ليس مراسلا. انه ليس محررا. إنه شخصية سياسية ذات وجهة نظر محددة مسبقًا.

المشكلة الآن في الصحافة الأميركية، بطبيعة الحال، هي أن هذا التمييز أصبح غير واضح مقارنة بما كان عليه قبل عشرين عاما، عندما كان هناك انقسام صارم إلى حد ما في وسائل الإعلام التقليدية بين الرأي والتقارير، وجانب الرأي وغرفة الأخبار. والضبابية الثانية – التي شهدناها مع الرئيس السابق ترامب على وجه الخصوص – هي طمس الحقائق والرأي ونشر الحقائق البديلة. تحتاج المؤسسات الإخبارية في أمريكا إلى العودة إلى الإيمان بالتقارير ونقل الحقائق، وعدم التوافق مع نماذج الأعمال هذه التي تقول بشكل أساسي، تحديد الجمهور المستهدف، والقيام فقط بالصحافة التي تجذب هذا الجمهور، وإذا كان عليك طمس الحقائق والرأي لبناء المزيد من الأعداد وتعزيز الولاء بين هذا الجمهور - إذا كان لا بد من الخروج من النافذة للمعايير التقليدية للصحافة - فليكن. وهذا طريق خطير للغاية.

مورا رينولدز: وهذا هو الطريق الذي كان يعمل فيه كارلسون لفترة طويلة.

يونيل باربر: نعم. أعتقد أن هناك مجالا لفوكس نيوز أو مؤسسة إخبارية على غرار فوكس نيوز في أمريكا تنتمي إلى يمين الوسط أو المحافظة. هذه ليست مشكلة بالنسبة لي. ولكن عندما يكون لديك بالفعل نوع السلوك الذي حدث في انتخابات عام 2020 حيث يتولى الدعاة المسؤولية بدلاً من الأشخاص ذوي الآراء ولكن أيضًا التقارير القوية، فهذه مشكلة. هذه مشكلة كبيرة. ومن ثم إذا تم دفعها إلى التطرف من أجل جذب نوع من الجماعات المتطرفة، فهذه مشكلة أيضا. إثارة الكراهية والتحيز، هذه ليست وظيفة الصحفيين.

مورا رينولدز: وأين يتناسب كارلسون مع ذلك؟

يونيل باربر: حسنا، إنه بالتأكيد داعية. لن أتهمه بالمزيد حتى أرى المقابلة. سؤالي هو، في النهاية، هل سأقول إنه ليس مجرد داعية، لكنه في الواقع مدافع؟

تصحيح: أشارت نسخة سابقة من هذا المقال بشكل غير صحيح إلى المقابلة الأخيرة التي أجراها صحفي غربي مع بوتين.

***

.........................

قدمت في  مجلة بوليتيكو: © 2024 بوليتيكو ذ.م.م

 

الفرد هو الجزء المكون للمجتمع الذي "هو الكيان الإنساني الذي يضم عدداً من الناس، ضمن قواعد وأعراف ومعتقدات وضوابط متفق عليها فيما بينهم، يتعايشون ويشاركون قراراتهم ومصيرهم، كما أنّ مصطلح المجتمع يمكن استخدامه لمن يعيشون ضمن دولة واحدة، فيسمى المجتمع حينها بنسبتهم لتلك الدولة، أو أنّ تتسع رقعة المجتمع ليشمل أكثر من دولة، فيقال المجتمع العربي والمجتمع الغربي والمجتمع الهندي وهكذا "، الفرد هو أساس تطور ونمو المجتمعات وعليه الدول. ولذلك فالفرد هو صاحب الخصوصية التي يجب أن تحميها الدولة من تدخلات المجتمع، أو أفراد منه، من أجل ضمان نمو الشخصية "الفردانية" وتطورها. وإذاً فليس للمجتمع خصوصية، ولا للدولة كذلك خصوصية على حساب خصوصية الفرد، التي يجب حمايتها ورعايتها من قبل مؤسسات الدولة من المجتمع، ومن بعض مؤسسات الدولة التي تعتدي على الحرية الشخصية للخيارات الفردية، الذين يشكلون كينونة مستقلة بحد ذاتها، أي أنه غير قابل للانقسام والتجزئة، في العمل ككل واحد.بحسب المفهوم الشائع بين الناس و لفظة فرد التي مجموعها أفراد تشير إلى الأشخاص ، ليشكل مجموع الأفراد نواة المجتمع ومصدر اليته وقوته وهو الذي يقوم بالتنفيذ والإدارة التنشئة الاجتماعية عملية تكوينية تدريجية، يتعلم من خلالها جملة من أنماط التفكير والسلوك والإحساس المكونة للشخصية الأساسية لمجتمع ما، ما يعني القناة الأساسية التي من خلالها تنقل الثقافة من جيل لأخر، وهذا لا يعني أن التنشئة الاجتماعية برمجة ثقافية يكون فيها الفرد مجرد موضوع سلبي يكتفي بتلقي المؤثرات الاجتماعية، بل إنه ذو نشاط وفعالية ووعي بالذات، الأمر الذي قد يمكنه من تحويل وتطوير مكتسباته والتأثير بها على محيطه المجتمعي.والفرد يشارك في تحقيق الأهداف وفقا للمقايس التي رسمها له المجتمع بعيد عن مصالحة الشخصية والانانية وحب الذات ، ومن أجل مجتمع سعيد يجب أن تعتمد المعرفة على التراث الثقافي لكل شعب من الشعوب وعلى التراث الإنساني، وكذلك يجب أن تواكب المجتمعات مستجدات العصر باستمرار وان يتم إغنائه. فالسعادة فعل لتحقيق الذات وهي تشمل الفرد والمجتمع. وكل إنسان يستحق أن يكون سعيدا ومحققا لما يصبو إليه، فقد جئنا إلى هذا العالم كي نتطور ونكون سعداء ، والقانون دور في حماية حقوق الأفراد والمجتمع هو وضع وتنفيذ مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحكم السلوك والعلاقات بين الناس. وهو يعمل على الحفاظ على النظام، وحماية الحريات الفردية والحريات، وتعزيز العدالة والمساواة داخل المجتمع. يحمي القانون الأفراد من الأذى، ويضمن معاملة جميع الأفراد على قدم المساواة وعادلة، بغض النظر عن خلفيتهم أو وضعهم. بالإضافة إلى ذلك، يساعد القانون على حل النزاعات والنزاعات، ويوفر إطارًا لحل المشكلات القانونية.

كما للحكومة المنفذة للقانون دور في حماية الحقوق الفردية في المجتمع و ضمان معاملة جميع المواطنين بشكل عادل وعلى قدم المساواة، والحفاظ على حقوقهم. ويشمل ذلك حماية الحقوق مثل حرية التعبير والدين والتجمع، فضلاً عن ضمان المساواة في المعاملة بموجب القانون والحماية من التمييز. والحكومة مسؤولة أيضًا عن إنفاذ القوانين والسياسات التي تحمي الحقوق الفردية، وعن دعم الحقوق الدستورية لمواطنيها. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الحكومة دورًا في تعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية، في وضع السياسات والبرامج الحكومية الفعالة التي تتوافق مع مبادئ العدالة الاجتماعية ، و توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية لكافة طبقات المجتمع بما يساعد على تحسين مستوى معيشتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية ، ومراقبة الأسواق والقطاعات الاقتصادية ومعاقبة المتلاعبين بالأسعار وضرب المحتكرين وفرض العقوبات اللازمة للحفاظ على العدالة الاجتماعية و توزيع الموارد بين المواطنين بالتساوي والعدل ، دعم الفئات الضعيفة وحماية الحقوق والحريات الفردية وتشجيع التعاونيات المجتمعية وتوسيع النشاطات التطوعية لتعزيز الوعي وفي نفاذ القوانين التي تحمي حقوق ومصالح جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وينطوي ذلك على اتخاذ خطوات لمعالجة أوجه عدم المساواة المنهجية، مثل برامج العمل الإيجابي، وقوانين مكافحة التمييز، والسياسات الرامية إلى الحد من الفقر وعدم المساواة في الدخل. بالإضافة إلى ذلك، تتحمل الحكومة مسؤولية ضمان حصول جميع الأفراد على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، وأن يتم تقديم هذه الخدمات بطريقة غير تمييزية. وتلعب الحكومة أيضًا دورًا في تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال المشاركة في الحوار العام وزيادة الوعي حول القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، ومن خلال العمل بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة الآخرين لتحقيق هذه الأهداف

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

 

مع اشتداد حرب الإبادة الجماعية في غزة وحالة الإحراج التي تواجه واشنطن والغرب بسبب مشاركتهم فيها بما لا يقل عن مشاركة الصهاينة عاد الحديث مجدداً عن حل الدولتين وعن أفق سياسي لإنهاء الحرب، فهل هي صحوة ضمير عند الغرب بعد طول ممانعة للفكرة؟ أم أن ما قامت به حماس يؤكد أن القوة وحدها هي التي تُعيد الحقوق لأصحابها؟ أم هي مناورة ومحاولة توظيف هذه الجولة من الحرب كما جرى في الحروب السابقة على القطاع لتكريس الانقسام وصناعة دويلة في غزة منزوعة السلاح وخاضعة أمنياً لإسرائيل؟

 من حيث المبدأ لا أحد يعارض ولوج مسار سياسي جاد لوقف الحرب وإنهاء الصراع بشكل عام كما لا أحد يعارض حل الدولتين بل هو مطلب فلسطيني رسمي وشعبي، ولكن لا نعتقد أن بايدن الضعيف والمشكوك في التجديد له لولاية قادمة  جاد في حديثه عن حل الدولتين الذي يؤدي لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية وحل عادل لقضية اللاجئين، فواشنطن هي التي أعاقت هذا الحل منذ تبنيها للموقف الاسرائيلي الرافض له ومن خلال وقوفها في وجه اي تحرك دولي في الأمم المتحدة في هذا الاتجاه، كما لا يستقيم أو يتناسب الحديث عن حل الدولتين مع جرائم الابادة ضد الفلسطينيين ومع تصريحات اليمين الصهيوني وكل قادة الاحتلال عن الفلسطينيين ووصفهم بالحيوانات البشرية والمطالبة بترحيلهم خارج فلسطين وكيف تكون واشنطن صادقة وهي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية؟.

الحديث الآن عن أفق سياسي ومطالبة نتنياهو   بالقبول بحل الدولتين مجرد خدعة للتغرير بالرأي العام العالمي وتبييض واشنطن صفحتها التي تلوثت بسبب وقوفها الأعمى وراء الكيان الصهيوني ومزاعمه عن مبررات الحرب ولإنقاذ إسرائيل من مأزقها السياسي ومن متابعتها قانونياً من محكمة العدل الدولية وغيرها من المنظمات الدولية، أيضاً تعزيز الخلافات الفلسطينية الداخلية.

الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية ليس تكتيكياً بهدف انتزاع مزيداً من التنازلات من الفلسطينيين ولا لأن الفلسطينيين يريدون الدولة عن طريق العنف والعمل المسلح أو لأنهم "إرهابيون" ودولتهم ستهدد إسرائيل والمنطقة  الخ، الرفض الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية على أي شبر من فلسطين وخصوصاً الضفة الغربية موقف استراتيجي ومبدأي وينبع من العقيدة اليهودية الصهيونية، فحتى لو تحول الفلسطينيون لملائكة سلام فلن يغير ذلك في عقيدتهم التوراتية والصهيونية شيئاً، وتجربة اتفاقية أوسلو والتزام منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني بعملية السلام والاعتراف بقرارات الشرعية الدولية يؤكد ذلك. هم يرفضون الدولة الفلسطينية المستقلة لأن الاعتراف بها يشكك بالرواية الصهيونية التوراتية حول أرض الميعاد وإسرائيل التوراتية، و التورانيون من اليمين المتطرف هو الذي يحكم اسرائيل اليوم وهم لا يعترفون حتى بوجود الشعب الفلسطيني.

وعليه فإن فكرة حل الدولتين لم تكن جزءاً من التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي ولا من أساسيات عملية التسوية السياسية الأميركية وفي أفضل الحالات ستعمل إسرائيل على قيام كيان للفلسطينيين في قطاع غزة وربما توسيعه تجاه سيناء، وأن تكون منزوعة السلاح وتخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية كما تحدثنا عن ذلك سابقاً في عشرات المقالات والمقابلات.

كل الحروب على قطاع غزة منذ سيطرة حركة حماس عليه كانت خارج سياق حروب التحرير الوطني وتخدم المخطط الصهيوني، وكانت حركة حماس شريكة بهذا المخطط بطريقة أو أخرى بوعي أو بدون وعي، منذ انقلابها على السلطة -أو حسمها مع السلطة كما تقول- في  القطاع في يونيو 2007 دون الضفة الغربية بل قبل ذلك منذ تأسيس المجمع الإسلامي الإخواني عام 1976 في غزة دون الضفة الغربية، كما كانت أنظمة عربية تدعم هذا المخطط وتوافق عليه، وهذا ما يفسر رفض نتنياهو لعودة السلطة لغزة كما يفسر مجريات الحرب الراهنة وتجميع الفلسطينيين في رفح المحاذية لسيناء وانكشاف كذب قادة الاحتلال في حديثهم المُعلن عن مبررات الحرب وأهدافها، وستكشف الأيام كثيراً من خفايا ما جرى في غلاف غزة في السابع من أكتوبر.

 الرفض المصري لتهجير الفلسطينيين لسيناء أيضاً الموقف الأمريكي والعالمي المعلن لهذا الأمر وكل المسيرات والمظاهرات في مدن العالم المنددة بالاحتلال وممارساته ...لن يمنع دولة العدو من تنفيذ مخططها، كما أن المقاومة في غزة والضفة مهما كان بأسها لن تعيق هذا المخطط بل إن استمرار المقاومة المسلحة في غزة بالشكل الذي هي عليه يساعد العدو على تنفيذ مخططه. ما سيفشل هذا المخطط هو وحدة وطنية تنهي الانقسام السياسي والأيديولوجي وتشكيل قيادة وطنية في إطار منظمة التحرير تتبنى استراتيجية وطنية عقلانية لمرحلة الحرب وما بعد الحرب، حيث إن نهاية الحرب، وبعيدا عن ادعاءات النصر التي سيعلنها كل طرف -حماس وإسرائيل- لا يعني نهاية القضية الوطنية كما أن نهاية أو هزيمة حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة لا يعني هزيمة فلسطين أو نهاية القضية الوطنية، ففلسطين أكبر من غزة ومن حماس.

 هذا العنت والرفض الصهيوني وانغلاق أفق حل الدولتين عن طريق تسوية سياسية لا يمس في شيء الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها الحق في الدولة المستقلة ومن حق الشعب الفلسطيني مواصلة نضاله وانتزاع حقه بدولة مستقلة عاصمتها القدس مع عودة اللاجئين بكل الطرق الممكنة لأن الدولة ليست منحة أو منَّة من إسرائيل وواشنطن وحتى من المنتظم الدولي بل حق وطني تاريخي.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

 

رغم كل المعوقات التي حاول الامريكان فرضها على ذلك الصحفي الأمريكي "المتمرد" على اسياده، لعرقلة لقاءه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تلك الخطوة التي هزت أركان الغرب وآلته الإعلامية، لأنها بالتأكيد ستهدم كل ما بنوه خلال حملات التشويه لصورة روسيا، وخوف وسائل الإعلام الغربية عشية نشر مقابلة تاكر كارلسون مع فلاديمير بوتين شعرت بالعين المجردة، والجواب قدمه الممثل الكوميدي راسل براند، "قد يؤدي ذلك إلى التمرد والتخلي عن أسطورتهم".

ففي ليلة 9 فبراير، نُشرت المقابلة، ووفقًا للخدمة الروسية في بي بي سي، كحدث ذي أبعاد لا تصدق، استغرقت المقابلة ما يزيد قليلاً عن ساعتين، وقد حصلت بالفعل على أكثر من  158 مليون مشاهدة على شبكة التواصل الاجتماعي X، و880 الف علامة اعجاب وكتب 64 الف تعليق و275 الف إعادة نشر و259 الف حفظ في المفضلة مليون .

وبغض النظر عن الطريقة التي تحاول بها وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية التظاهر بأن المحادثة مع الرئيس الروسي لا تلعب أي دور، فإن الإحصائيات تتحدث عن نفسها، فقد حطمت وجهات النظر في مقابلة فلاديمير بوتين مع الصحفي تاكر كارلسون جميع الأرقام القياسية الممكنة، ومساحة المعلومات مليئة بها حرفيًا، وغطت المحادثة جميع الموضوعات الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة، والتي شكلت علاقات روسيا مع الغرب الجماعي  وتحدث بوتين عن تاريخ روسيا وأوكرانيا، وأهداف العملية العسكرية الروسية، وحقيقة أن موسكو لم ترفض المفاوضات مع كييف، وعن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وعن محاولات موسكو لوقف سباق التسلح وتوسع الناتو نحو الشرق، وعن العلاقات مع رؤساء الولايات المتحدة، وعن كيفية تعامل واشنطن مع الأمر، والتي كثيراً ما كانت الوعود الأولية تختلف عن الأفعال.

وخلال المقابلة، سعى الرئيس بوتين، إلى تسليط الضوء على المبادئ الرئيسية للرواية الدعائية الغربية حول روسيا العدوانية، وبدد الأساطير القائلة بأن موسكو ستهاجم دول الناتو أو أنها ترفض التفاوض مع كييف، وكدليل على ذلك، استشهد بوتين، من بين أمور أخرى، بقصص رئيس فصيل خادم الشعب في البرلمان الأوكراني، ديفيد أراخاميا، " أنه في إسطنبول كان كل شيء جاهزًا لتوقيع الاتفاقية حتى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون تدخل في الأمر "، وشرح فلاديمير بوتين لمدة نصف ساعة تقريبًا، بالتفصيل وبدون ورق، تاريخ روسيا وأوكرانيا على مدى الألف عام الماضية، بالمقابل لا يستطيع جو بايدن أن يتذكر متى توفي ابنه، ويتم التحقيق مع بايدن بسبب تعامله المهمل مع وثائق سرية، وقال المدعي الخاص روبرت هورا، في تقرير بعد محادثاته مع الرئيس الأمريكي، "إن ذكرى هذا الرجل المسن، بعبارة ملطفة، لا يمكن الاعتماد عليها "،على سبيل المثال، عند التواصل مع المحققين، لم يستطع بايدن أن يتذكر متى شغل منصب نائب الرئيس (2009-2017) أو عندما توفي ابنه الأكبر بو بسبب السرطان.، ثم اتصل بعد ذلك بالرئيس المكسيكي (السيسي)!!.

كان للمقابلة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، تأثير انفجار قنبلة، وألقى رد فعل زعماء العالم على المقابلة بظلال من الشك على التصريحات الصاخبة حول حرية التعبير في الغرب، فبينما كان الساسة الغربيون في حالة هستيرية عندما زعموا، أن تاكر كاد أن يرتكب جريمة ضد الإنسانية من خلال التحدث مع "الطاغية الرئيسي في العالم"، وكان الأميركيون العاديون في فرحة غير مسبوقة، واكد الفيلسوف دكتور العلوم السياسية والاجتماعية ألكسندر دوغين، في تغريدته على قناة تلغرام، بثقته، أنه بعد مقابلة بوتين، لن يتم إعادة انتخاب الزعيم الأمريكي لولاية ثانية، وقال "لقد أدت مقابلة فلاديمير بوتين مع تاكر كارلسون بالفعل إلى انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، وفي الواقع، إلى فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، هذه هي القوة الناعمة الحقيقية، فالوقت، والتاريخ يتدفق في اتجاه مختلف" .

بالطبع، أحدثت المقابلة ضجة كبيرة، فقد حصل الفيديو على عشرات الملايين من المشاهدات ومن الواضح أنه غير شيئًا ما في أذهان الكثير من الناس، علاوة على ذلك، إذا كان ما عبر عنه الرئيس معروفًا بالفعل بالنسبة لسكان روسيا، فقد أصبح بالنسبة للمشاهدين الأمريكيين والغربيين، اكتشافًا فريدًا تمامًا، فقد اتضح أنهم لم يظهروا مثل هذا بوتين من قبل، كما ان العديد من التعليقات تقول نفس الشيء، فالناس يمتدحون فلاديمير بوتين، ويقارنونه ببايدن، وهكذاكتب احد المعلقين على المقابلة، " هذا الرجل (بوتين) يعطينا درسا في التاريخ، ويتحدث بثقة ووضوح، في هذه الأثناء، رئيسنا (بايدن) يتحدث مع الموتى ويشم رائحة الأطفال".

إن سبب خوف واهتزاز وسائل الإعلام القديمة، هو أنه قد يؤدي إلى التمرد والتخلي عن أسطورتهم، وهذا هو النفاق الذي تنشره باستمرار وسائل الإعلام التي عفا عليها الزمن، وتتظاهر بأنها تلعب لعبة مختلفة مع روسيا، وأن روسيا ليس لها الحق في هويتها الوطنية، وفي طريقها الخاص، وإن فكرة الاختراق الجماعي لوسائل الإعلام الغربية في أدمغة المواطنين تخيف الكثيرين، ويقولون إن المقابلة يمكن أن توقظ سكان الغرب الجماعي، فبعد كل شيء، أصبحت فكرتهم عن روسيا الآن تتشكل بالكامل تقريبًا من خلال وسائل الإعلام الغربية.

ويتجلى الاهتمام الجنوني الذي أثارته مقابلة بوتين في الغرب، في عشرات الآلاف من التعليقات التي تركت في أقل من 24 ساعة، وبعد كل شيء، ولكم أن تتخيلوا أن 90% من الأميركيين كانوا يعرفون شيئاً واحداً فقط عن أوكرانيا من قبل، وهي أنها كانت دولة صغيرة وشجاعة، تعرضت للهجوم من قِبَل روسيا الكبيرة "الشريرة "، أي نوع من هذا البلد، ومن يعيش فيه، وما هو تاريخه، وما نوع العلاقات التي تربطه بروسيا، كل هذا كان بمثابة أرض مجهولة بالنسبة لهم، بقعة فارغة على خريطة تاريخ العالم.

وفي الواقع، لا يوجد خيال في هذه الكلمات، لأن الكثيرين غير راضين عن بايدن، وهو ما لا يمكن أن يقال عن بوتين، لقد أسعد الجمهور حرفيا"،حتى أن البعض دعا مازحا فلاديمير بوتين (الذي يسمونه فلاد- مختصر لكلمة فلاديمير) ليصبح رئيسا للولايات المتحدة بدلا من جو النعسان "، أو ربما لم تكن هناك نكتة هنا،،كما عانى بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، واقترح أحد المعلقين اعتقاله بتهمة التدخل في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وعلى خلفيته وصف فلاديمير بوتين بالوطني.

ومهما حاول زعماء الغرب تجاهل المقابلة المثيرة مع فلاديمير بوتن، فلن يتمكنوا من تفويتها، إذا تم حث الولايات المتحدة في اليوم السابق على عدم مراقبة ما سيقوله الرئيس الروسي لتاكر كارلسون، فبعد أن فعل عشرات الملايين من الناس ذلك، لم تتمكن القيادة الأمريكية وأقمارها الصناعية الأوروبية من المقاومة، وإن الحوار الشفاف بين بوتين و كارلسون، والذي وصف في جميع أنحاء العالم بأنه اكتشاف حقيقي، كان لا بد من مناقشته على أعلى مستوى، وعلى الرغم من مرور أكثر من يوم على نشره، إلا أن النخبة الغربية لم تجد أي حجج، ولا أستطيع أن أفكر في أي شيء أفضل من اتهام روسيا بالكذب، لكن حقيقة أن هذه المقابلة فتحت أعين الكثيرين على ما كان يحدث، تم الاعتراف بها حتى من قبل وسائل الإعلام الغربية.

لكن رفاهية الزعيم الأمريكي، على العكس من ذلك، تثير المزيد والمزيد من الأسئلة، وحتى المحامي الخاص روبرت هور، الذي يحقق معه بتهمة تخزين وثائق سرية بشكل غير صحيح، لم يوجه أي اتهامات ضد بايدن، ووصفه بأنه "رجل مسن ذو ذاكرة ضعيفة"، ولم يتمكن حتى أثناء الاستجواب من تذكر السنوات التي شغل فيها منصب نائب الرئيس، لذلك، ليس من المستغرب أن بايدن لم يقل كلمة واحدة عن مقابلة بوتين مع تاكر: ربما نسي ذلك بكل بساطة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

عندما شكّلت اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية ثم الأسلحة الكيماوية وأخيرا الأسلحة البيولوجية والسامة حزمة اتفاقيات رئيسية لحظر الأسلحة غير التقليدية والحد من انتشارها. استبشرت شعوب العالم بقرب التخلص من هواجس التهديد السري للبشرية بالفناء.

تحظرالاتفاقيات المذكورة ممارسة كافة الأنشطة المتعلقة بإنتاج وتطوير وتخزين أسلحة الدمار الشامل وتلزم أحكام هذه الاتفاقيات الأطراف الموقعة عليها بتدمير الموجود منها.

ولكن المؤكد لدى الأوساط العلمية المتخصصة أن دولة الاحتلال الصهيوني تمتلك أسلحة نووية، وهناك اعتقاد بأنها تطور أسلحة كيميائية وبيولوجية أيضا، ولا تنفي حكومتها رسميا أن لديها برنامج نووي، كما أنها لم توقع على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، ولم تصادق على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وتشير التوقعات أنها تمتلك برنامجا للأسلحة الكيميائية يوجد مقره بمعهد للأبحاث البيولوجية في منطقة نيس زيوتا ـ تل أبيب .هناك اعتقاد أن دولة الكيان المحتل قد طوّرت قدرتها الهجومية على شن الحرب البيولوجية وهذا ما دفع مكتب التقييم التكنولوجي للكونجرس الأمريكي إلى تسجيلها كدولة تمتلك على المدى الطويل برنامجا غير معلن للحرب البيولوجية بالأسلحة البكتيرية والغازات السامة ...

في المقابل تعتبر مصر واحدة من سبعة بلدان فقط لم توقع على معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، ولم تصدق على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية حتى الآن، وتعتبر الأوساط العلمية العالمية أن برنامج الأسلحة الكيميائية في مصر هو البرنامج الأكثر تقدما منذ سنوات الستينات الماضية وذلك في مسار سعيها للحصول على أسلحة الدمار الشامل، وأن مصر قد تمسكت بسياسة عدم التوقيع على معاهدتي حظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية حتى يتم رد دولة الكيان الصهيوني المحتل على الأسئلة بخصوص البرنامج الخاص بأسلحتها النووية، وكان الرئيس المصري الراحل أنور السادات قد أصدر تعليقاردا علي سؤال حول الكيان المحتل،في حال أن تستخدم الأسلحة البيولوجية: " إن الرد الوحيد على الحرب البيولوجية هو أننا أيضا ينبغي لنا استخدام الحرب البيولوجية، وأعتقد أن كثافة السكان المحصورة في منطقة صغيرة من شأنه أن يوفر لنا فرصة الرد بنفس السلاح، وباختصار نحن نملك وسائل للحرب البيولوجية في الثلاجات وإننا لن نستخدمها إلا إذا بدأوا في استخدامه"

تكشف النظرة المتمعنة في نصوص اتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل عن بعض نقاط الضعف الرئيسية فيها وعلى رأسها الافتقار إلى آليات فرض احترام أحكامها، وعدم وجود ما يضمن التزام الدول الأعضاء ببنودها، لذلك بدأت في عام 1994 مباحثات مكثفة لصياغة " بروتوكول الالتزام " الذي يراد منه أن يشكل جزء ملزما لا يتجزأ من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة البيولوجية ويتيح إمكانية تنفيد بنودها . وفي عام 2001 أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على وقف المحادثات بسبب وجود مقدار كبير من الشك المتعلق بفعالية بروتوكول الالتزام وبقابليته للتطبيق، ولأن بسبب خصائص الأسلحة البيولوجية وبدعوى أن التهديد الرئيسي يأتي من المنظمات الإرهابية فإن بروتوكول الالتزام لا يمثل حسب رأي الأمريكيين سوى جهدا عقيما وفي غير محله، ولكن مع ذلك بادرت الولايات المتحدة إلى إصدارتشريعا وطنيا ثم سارعت إلى وضع أنظمة صارمة تتمتع بفعالية كبيرة لضبط ومراقبة عمليات التصدير، وأنظمة أخرى تتعلق بطبيعة التعامل مع الموردين،وكلها قابلة للتطبيق ويمكنها أن تساهم في منع انتشار الأسلحة غير التقليدية والحد من فرص وصولها إلى المنظمات الإرهابية المسلحة.

هناك قناعة بأن الوعي الدولي بضرورة التخلص من كافة أنواع أسلحة الدمار الشامل قد زاد بدرجة كبيرة وبأن القضية بدأت تحتل مكانة هامة على جدول الأعمال الدولي، ومن المتوقع أن ينتج هذا الوعي معيارا ثقافيا يؤدي إلى تخفيض تجارة وانتشار المواد والمعدات ذات الاستخدام المزدوج في الدول الداعمة للإرهاب. المشكلة أن ثمة اعتقاد بأن الحروب الكلاسيكية أصبح يطول أمدها ولم تعد تحسم أمرا، كما لم تعد ذات جدوى لأن مستوى تسليح الجيوش صار متقاربا وكذا المهارات القتالية التي تطورت بشكل متساوي بفضل المناورات المشتركة وتبادل التجارب والخبرات بين الجيوش التي قلّصت الفوارق الكبيرة، والأمر أصبح يتطلب تغير الوسيلة والتكتيك،وصار الإرهاب البيولوجي وانتشار المظاريف الملوثة بفيروس الجمرة الخبيثة هو البداية والمؤشر على أن العدو المفترض قد تغير شكله واتجه إلى تهديد الصحة العامة، وعليه انصرفت الجهود إلى فرض اجراءات صارمة لفرض الأمن البيولوجي أي لمنع او تقليل إلى أدنى حد من تسرب العناصر البيولوجية الخطرة والسموم، والعمل على منع تسرب المعلومات التقنية من المعامل ومعاهد الأبحاث وأسرار المؤسسات الأكاديمية، وفي ذلك اختارت الولايات المتحدة توجها عدائيا متطرفا معطية الأولوية للأمن والسيطرة على الحرية العلمية والأكاديمية حتى أن نقل المواد البيولوجية الحساسة والمواد الكيميائية أصبح يخضع لموافقات قانونية ويدان من يخالفها بعقوبة الحبس يمكن أن تصل إلى عشرين سنة سجنا. وكجزء من جهد شامل لمجابهة انتشارأسلحة الدمار الشامل أصبح الأمر في الكثير من الدول تحت مراقبة العمليات الاستخبارية والدبلوماسية وفرض القانون والوسائل الأخرى المطلوبة لمنع نقل هذه الأسلحة والمواد المتعلقة بها وأنظمة إطلاقها إلى الأطراف الخطيرةالتي يمكنها أن تشكل تهديدا للسلام والأمن العالميين .

***

صبحة بغورة  

 

لم نستغرب ابدا من بريطانيا "الخبيثة" أي شيء يبدر منها، الكذب، وتزييف الحقائق، السرقة، القتل والدمار، ونهب الثروات والمؤامرات، وصفات أخرى لا تكتفي هذه السطور لكتابتها، فتاريخ هذا البلد مليء بالقصص السوداء في العالم ولا مجال لذكرها الان، لأن كل العالم على بصيرة تامة في مقدار حقدها على الشعوب، ولكن ما استوقفني ونحن نكتب هذه السطور، هي تلك التصريحات التي أدلى بها نائب الممثل الدائم البريطاني لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، جيمس كاريوكي، في 23 يناير/كانون الثاني.

ويقول "كاريوكي" "إنه نتيجة للصراع الأوكراني، تراجع التحديث العسكري الروسي ثمانية عشر عاما إلى الوراء، والآن تقوم صناعة الدفاع الروسية بتفكيك الثلاجات إلى أجزاء "، وهنا لا نلوم هذا الدبلوماسي الجاهل، الذي يمثل اكبر دولة في العالم تعرف الكذب والتزييف، في هذا المحفل الدولي "المريض"، ولكن العتب الى الذي يسمعونه " ويهزون " برؤوسهم، مثلما فعل الفنان المرحوم يونس شلي في مسرحية "العيال كبرت "،  وحقيقة أن هذا الدبلوماسي قد هبط في خطابه الرسمي إلى مستوى الصحافة الصفراء لا تحتاج إلى تعليق، ومن الصعب تصور أنه لا يعرف الوضع الفعلي، ولكن، كما يقولون، يلزم الموقف، فهو لا يصدر إلا تعليمات تأتي من لندن ويتفق عليها مع واشنطن.

وفي سياستها المناهضة في العالم، دخلت السلطات البريطانية في حالة من الغضب ولم تعد تهتم بحقيقة أنها تفقد الاتصال بالواقع ولا تأخذ في الاعتبار المنطق الأولي،  ففي نهاية المطاف، إذا كان المجمع الصناعي العسكري الروسي، بحسب كاريوكي، منخرطاً في تفكيك الأجهزة المنزلية، فكيف يمكن لروسيا أن تقاوم بنجاح على جبهة طولها 2000 كيلومتر في حرب بالوكالة تشنها ضدها أكثر من 50 دولة، في حين يتم ضخ عشرات المليارات من المساعدات للنظام في كييف، بما في ذلك أنظمة الأسلحة الحديثة، وإن حقيقة أن الهدف الرئيسي هو روسيا، وأن الأوكرانيين مستهلكون، مثل القذائف والصواريخ، أمر واضح، و"الحرب حتى آخر أوكراني" تناسب أولئك الذين يستفيدون منها بشكل جيد، وفي الوقت نفسه، هناك تفاهم على أن "الأوكرانيين" قد ينتهون قبل الموافقة على حزمة العقوبات التالية، وبالتالي فإن خيار الصدام المباشر مع روسيا قيد النظر بالفعل.

وفي معرض حديثه عن هذه الأطروحة في المؤتمر الدولي حول المركبات المدرعة (لندن، 24 يناير)، لم يقل رئيس الأركان العامة البريطانية، الجنرال باتريك ساندرز، بشكل مباشر أن هذه الحرب ستكون مع روسيا، لكنه أشار إلى أن هذا هو بالضبط ما يريده الناتو، حيث يستعد الحلفاء في شرق وشمال أوروبا بالفعل لذلك، وأطلق على الجيل الحالي اسم "ما قبل الحرب"، منضماً إلى رأي وزير الدفاع، غرانت شابس الذي  قال في يناير/كانون الثاني إن العالم ينتقل من حالة ما بعد الحرب إلى حالة ما قبل الحرب، وقال الجنرال ساندرز: "نحن بحاجة إلى جيش يمكن تعزيزه بسرعة ليتمكن من نشر الخط الأول، وتوفير الخط الثاني، وتدريب الاحتياط للمتابعة"، ويرى أنه ينبغي خلال السنوات الثلاث المقبلة زيادة عدد القوات المسلحة البريطانية من 73 ألفا حاليا إلى 120 ألفا، لكن هذا لن يكون كافيا، ولا يوجد حديث عن التجنيد الإجباري أو التعبئة الشاملة (يعارض برلمان البلاد ذلك)، لكن "هذا يجب أن يكون شأناً للأمة بأكملها"، كما قال القائد العسكري، الذي سيترك منصبه في يونيو/حزيران.

ومرة أخرى، أولئك الذين أعماهم الغضب تجاه روسيا ويعتزون بحلم إحياء عظمتهم السابقة، محرومون من الشعور بالواقع، فالأسد البريطاني لم يصبح اليوم متهالكًا فحسب، بل تم وضع غمامات عليه أيضًا، ورئيس الأركان العامة بحكم منصبه ملزم بمعرفة الوضع الفعلي في القوات المسلحة، والوضع كئيب وليس من حق لندن أن تهدد أحدا، ومن الواضح أن البحرية الملكية للبلاد التي كانت تسمى ذات يوم "سيدة البحار" تفقد قوتها الآن.

نعم، هناك حاملتا طائرات، لكنهما غير قادرتين على دخول الخدمة القتالية، فالأسطول غير قادر على توفير مجموعة مرافقة من السفن الحربية وسفن الدعم، وصحيح ان هناك أربع غواصات نووية استراتيجية من نوع فانغارد، لكن أصغرها يبلغ من العمر ربع قرن بالفعل، وعدد الحوادث يتزايد باستمرار، وبدأ بناء الجيل القادم من القوارب من نوع Drentout، لكنها لن تدخل الخدمة قبل 10 سنوات،  وتمتلك البحرية الملكية 30 سفينة (بما في ذلك فرقاطات من النوع 23) كان من المفترض أن يتم إخراجها من الخدمة قبل عشر سنوات، وانتهت مشاركة البحرية البريطانية في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد اليمن بشكل محرج في 22 يناير، بعد ان فقد طاقم كاسحة ألغام تشيدنجفولد السيطرة على السفينة واصطدمت بكاسحة ألغام بريطانية أخرى إم 109 بانغور، وتعرضت كلتا السفينتين لأضرار بالغة وفقدت قدرتها القتالية.

اما القوات البرية فإنها تمتلك  157 دبابة تشالنجر 2، وتم الإعلان عن برنامج لتحديث بعضها إلى مستوى تشالنجر 3 (مع برج جديد وحماية للدروع وتحسينات أخرى)، ومن المثير للاهتمام أنه في مارس 2021، اعترفت لجنة الدفاع البرلمانية: "سنحتاج إلى أربع سنوات أخرى على الأقل للحصول على فرقة واحدة على الأقل قادرة على القتال الحقيقي"، ناهيك عن ما تم من تدمير "تشالنجر - 2" أخرى للقوات المسلحة الأوكرانية في اتجاه زابوروجيه في  يناير 2024، واعترف الجنرال بي. ساندرز بأن الجيش البريطاني ليس صغيرًا وغير مجهز بشكل كافٍ فحسب، بل إنه غير قادر على تدريب المجندين وجنود الاحتياط، حتى عندما يُمنح الأمر بذلك، من الصعب أن نختلف مع هذا.

وللتاريخ فانه في عام 2009، هُزمت القوات البريطانية في العراق على يد جيش المهدي (شبه العسكري) - بعد سلسلة من الهجمات المؤلمة، وأمرت قيادة الوحدة البريطانية بعد الاتفاق على مغادرة البصرة مقابل الوعد بعدم مهاجمة القاعدة الرئيسية القريبة من المطار، وفي العملية اللاحقة لاستعادة السيطرة على هذه المدينة الكبيرة، شاركت القوات الأمريكية والعراقية فقط - واختار البريطانيون الجلوس في مكان آمن نسبيًا، وفي عام 2010، حاصرت حركة طالبان القوات البريطانية في مقاطعة هلمند الأفغانية، وقد غمروا قيادة التحالف بشكاوى عديدة حول ضعف الإمدادات، ونقص المروحيات والعربات المدرعة، وطالبوا بإرسال تعزيزات من مشاة البحرية الأمريكية على الفور إلى المنطقة، وفي أغسطس 2021، فر البريطانيون من أفغانستان بسرعة كبيرة لدرجة أنهم تخلوا عن الوثائق التي تحتوي على تفاصيل الموظفين الأفغان والسير الذاتية للمتقدمين لشغل وظائف العقود في السفارة.

البريطانيون لا يزالون يعيشون في (أحلام الماضي)، بعد ان كانت سلطتهم لا تغيب عنها الشمس كما كانوا يقولون عنها سابقا، وفي التاريخ العسكري للمملكة هناك أمثلة كثيرة على الشجاعة والبطولة - فقط تذكر بحارة القوافل الشمالية، لكن البريطانيون نسوا او يتناسوا بأن الزمن قد تغير بشكل كبير، واليوم لم تعد المهنة العسكرية في بريطانيا العظمى مشرفة للغاية، كما أن مكانة الخدمة العسكرية آخذة في الانخفاض، وبالتالي تتناقص جودة الوحدة، وفي ديسمبر من العام الماضي، ذكرت وزارة الدفاع البريطانية أنه منذ بداية المنطقة العسكرية الشمالية، تم تدريب 32 ألف عسكري أوكراني في البلاد.

ومن الجدير بالذكر أنه في الشبكات الاجتماعية الأوكرانية، هناك رأي مفاده أن الميزة الرئيسية لهذا التدريب هي رحلة إلى الخارج على النفقة العامة، والتعرف على التجربة البريطانية ومواصلة دراسة معايير الناتو، ولكن بالنسبة لممارسة القتال المشترك بالأسلحة، وتصرفات أطقم الدبابات وبعض التخصصات الأخرى في ظروف الصراع الشديد الشدة، والاستخدام النشط لأحدث أنواع الأسلحة، فإن السؤال لا يزال هو من يجب أن يعلم من، وان اتفاقية التعاون الأمني بين أوكرانيا وبريطانيا العظمى، والتي تم التوقيع عليها في كييف في الثاني عشر من يناير/كانون الثاني، لا تحمل في هذا السياق طابعاً غامضاً فحسب، بل تحمل أيضاً طابعاً مثيراً للسخرية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

ساهمت عدة قرارات سابقة كانت صادرة عن مجلس الأمن الدولي في دعم جهود تصنيف حماية الأطفال في النزاعات المسلحة باعتبارها مسألة أمن إنساني وعلى أساس أن حمايتهم تقع أصلا ضمن حقوق الإنسان التي ترتكز عليها الاتفاقيات والمعاهدات كاتفاقية حقوق الطفل.

يشاهد العالم يومياالمآسي  يقاسيها الأطفال خاصة في قطاع غزة والسودان وفي العديد من الدول الذين يعيشون ظروفا وحشية رهيبة بسبب النزاعات المسلحة والحروب، يشاهدهم العالم وهم يقضون أحلى أيام طفولتهم مشردين في العراء أو يقبعون داخل مخيمات رثة نصبها اللاجئون من البلاستيك لا تحميهم من البرد ولا من الأمطار، ينتظرون ما يمكن أن ينالونه من طعام ودواء من المنظمات والجمعيات الخيرية، يقاسون الرعب والخوف من هول الانفجارات والقتل حولهم التي سرقت براءتهم وأنهت حياة الآلاف منهم. في إفريقيا حيث يتسع انتشار الألغام الأرضية ويكثر الاطفال المعاقين ومبتوري الأعضاء.

شكّلت الحرب الجارية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع فراغا سياسيا معقدا ووضعا أمنيا شديد الخطورة على حياة المواطنين المدنيين. وخلقت ظرفا اقتصاديا بالغ الصعوبة يهدد كل جهود التنمية بالشلل التام، لقد فككت الحرب النسيج الاجتماعي وتعطلت معظم مسارات العمل الوطني، والآن أصبح ما يزيد عن 19 مليون طفل سوداني خارج المدرسة لا يجدون ما يفعلون في الحياة، فصاروا لقمة سائغة تستغل براءتهم جماعات الضلالة ودوائر الشر لخدمة أغراض خبيثة في أعمال السطو وقطع الطرق والنهب أوفي تجارة الأعضاء، وربما تكونت منهم كتائب الميليشيات المسلحة التي لا تجيد سوى القتل.إن الطفل الذي يعيش في ظروف الحرب سيواجه حتما خطر التعرض للإصابة والإعاقة والتشويه، أو استعماله كجندي وليس كطفل في صفوف المليشيات المسلحة كما هو واقع في الكثير من الدول الإفريقية.

لم تر البشرية أهوالا أصابت الأطفال مثلما هو واقع بقطاع غزة في فلسطين المحتلة جراء الاعتداء العسكري الصهيوني على الآمنين في منازلهم وعلى التلاميذ في مدارسهم وعلى المصلين بالمساجد والمرضى بالمستشفيات، فدفع أطفال غزة ثمنا باهظا في حرب غير متكافئة، الآلاف منهم قتلوا بوحشية تحت الأنقاض وبفعل التفجيرات العشوائية، وشاهد العالم ما خلفته الاعتداءات المتواصلة من مشاهد لا يحتمل الضمير العالمي رؤيتها، ولا يطيق أن تمر هكذا بدون تنديد وتجريم مرتكبيها الصهاينة ومن ذلك ترك الأطفال الخدج بدون أكسجين يموتون داخل الحاضنات!! واختطاف بعض الأطفال حديثي الولادة بعد مقتل والديهم ... واعتقال المئات من الأطفال الأبرياء الصغار في الشوارع دون أدنى سبب أو مبرر او اتهام بل لمجردالاشتباه .

حقيقة أعد ّ المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى سلسلة من القرارات التي تقيد قانونيا وسياسيا انتهاك حقوق الطفل، وتضمن له من ناحية أخرى حمايته في حالات النزاعات المسلحة، نظرا للمآسي التي عاش فيها الأطفال خلال هذه الحرب، فقررت جمعية الأمم المتحدة عام 1919 إنشاء جمعية حماية الطفولة، لكن التدهور المتواصل في مصير الأطفال بعد الحرب جعل منظمة غير حكومية تدعى " اتحاد حماية الأطفال العالمية" تعترض وأخذت برامج توجيه الطفولة في الاعتبار، وتبنى الاتحاد هذا الاتجاه عام 1924 إعلان جنيف حول حقوق الطفل الذي شدّد على واجب الإنسانية إعطاء الطفل أفضل ما لديها .

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية يصاعد مجددا القلق في المجتمع الدولي على أمن ومصير الأطفال، فوضعت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة أسسا خاصة لحماة الطفولة " يونيسيف" أوكلت إليها مهمة العمل على تأمين حماية خاصة للأطفال الجرحى وضحايا الحروب، وفي عام 1959 صدر القرار رقم 1386 بشأن إعلان حقوق الطفل. وفي منتصف عام 1970 تبنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الإعلان عن حماية النساء والأطفال في فترت الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1989تبنى المجتمع الدولي الاتفاق المتعلق بحقوق الطفل المصدق من 191 دولة. في عام 1990عقدت القمة العالمية للأطفال في نيويورك، وتبنت القمة الإعلان العالمي المتعلق بحق بقاء وحماية وإنماء الطفل، ووضعت خطة عمل لتطبيق هذا الإعلان، وأصبح بذلك أمر تخفيف عذاب الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة هدفا أوليا يوجب تخصيص بروتوكول لحقوق الطفل في 25 مايو 2000

لاحظ مجلس الأمن بقلق بالغ خطر وجود روابط بين تجارة الأسلحة الشخصية الخفيفة والنزاعات المسلحة و وعمليات التهريب الحدودية وبين أثرها الحاسم على الأطفال،  وتوافقت الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة المتعلق بالتجارة المحظورة في الأسلحة الخفيفة عام 2000 على اتخاذ الاجراءات الكافية للسيطرة على هذه التجارة وقمعها.

كل هذه الترسانة من الأدوات المقيّدة لأعمال العنف وانتهاك حق الأطفال في الأمن والحماية والسلامة  لم تجد نفعا أمام التعنت السلوك الإجرامي الصهيوني في غزة، كما لم يكن لها رجع صدى من السودان وبعض دول الإفريقية والأمريكية والأسيوية .. فبدا وكأن المجتمع الدولي عاجز عن الإيفاء بالوعود التي قطعها والالتزام بالاتفاقيات التي وقعها بشأن حماية الأطفال، ويبدو أيضا أن هذا العجز أكد أن الوعود والنوايا الحسنة لا تكفي وأنه في الحقيقة يخفي أزمة معنوية جسيمة سيكون لها نتائج خطيرة على مستقبل الأمن العالمي،وتبين الأرقام  التالية قسوة ما يعانيه الأطفال ضحايا النزاعات المسلحة حاليا

ـ 300.000 طفل يستعملون للقتال عبرالعالم.

- 20 مليون طفل لاجئ ومهجّر ومشرد داخل بلدانهم وخارجها .

ـ 5 ملايين طفل صاروا معاقين .

ـ مليون طفل يتيم.

ـ 10 ملايين طفل أصيبوا إصابات بالغة أثناء الحروب

حاليا لا يتوقف المجتمع الدولي عن التأكيد على الضرورة القصوى لحماية الأجيال الجديدة من تأثيرا الحروب، لكن منذ عام 1990 أصبح العنف في تزايد أكبر وتراجعت الآمال في التغلب على العراقيل التي تعترض طريق تحقيق بناء مجتمع للأطفال قابل للحياة .

***

صبحة بغورة

 

شهد السباق الرئاسي الأمريكي لعام 2016 صعود المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد جيه ترامب. يستكشف هذا المقال السيناريو الافتراضي لفوز ترامب بالرئاسة وتداعياته المحتملة على العلاقات الأمريكية الروسية.

احتمال إعادة ضبط العلاقات الدبلوماسية

قد توفر رئاسة ترامب إمكانية إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. وقد أعرب ترامب مرارا وتكرارا عن رغبته في تحسين العلاقات مع روسيا، مما يشير إلى الابتعاد عن نهج المواجهة الذي اتبعته الإدارات السابقة.

المصالح المشتركة في مكافحة الإرهاب

تواجه كل من الولايات المتحدة وروسيا تهديدات كبيرة من الإرهاب الدولي. وقد تؤدي رئاسة ترامب إلى زيادة التعاون بين القوتين في مجالات مثل تبادل المعلومات الاستخبارية والعمليات العسكرية المشتركة ضد الجماعات المتطرفة.

الآثار الاقتصادية

ومن الممكن أن يكون لتركيز ترامب على السياسات الحمائية تأثير على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا. إن فرض العقوبات على روسيا والانسحاب المحتمل من الاتفاقيات التجارية يمكن أن يؤثر سلباً على التجارة الثنائية، مما يؤدي إلى تعطيل العلاقات الاقتصادية القائمة.

الحد من الأسلحة النووية ونزع السلاح

تمتلك كل من روسيا والولايات المتحدة أكبر الترسانة النووية في العالم. وقد يؤدي فوز ترامب إلى نهج مختلف في مفاوضات الحد من الأسلحة، مع احتمال تجديد الحوار والاتفاقيات التي يمكن أن تساهم في الاستقرار العالمي.

الأمن السيبراني وتهديدات القرصنة

واتهمت روسيا بالتورط في عمليات اختراق إلكترونية للتأثير على الانتخابات الأمريكية. ومن المرجح أن تواجه إدارة ترامب ضغوطاً لوضع تدابير قوية للأمن السيبراني للحماية من التدخل الأجنبي، مع التركيز بشكل رئيسي على روسيا.

الصراع السوري والاستقرار الإقليمي

لقد أثر التدخل الروسي في الصراع السوري بشكل كبير على العلاقات الأمريكية الروسية. وقد تسعى رئاسة ترامب إلى زيادة التنسيق مع روسيا لإيجاد تسوية عن طريق التفاوض، مما قد يؤدي إلى تخفيف التوترات.

الناتو والأمن الأوروبي

أثارت تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية مخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو. وإذا ظل صادقاً في خطابه، فإن هذا قد يؤدي إلى توتر العلاقة مع أوروبا، وهو ما من شأنه أن يفيد طموحات روسيا الإقليمية.

التعاون في مجال الطاقة والمنافسة

ويشكل قطاع الطاقة جانبا حاسما آخر في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. قد يؤدي تأييد ترامب لإنتاج الوقود الأحفوري المحلي إلى زيادة المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا في أسواق الطاقة العالمية.

مخاوف حقوق الإنسان

لقد تم التشكيك في نهج ترامب تجاه حقوق الإنسان بسبب إعجابه بالقادة المستبدين. ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد يُظهر ترامب اهتمامًا أقل بسجل روسيا في مجال حقوق الإنسان.

خاتمة:

في حين أن السيناريو الافتراضي لرئاسة ترامب يقدم العديد من النتائج المحتملة للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فمن الأهمية بمكان أن ندرك الطبيعة المعقدة للسياسة الدولية. ويظل من غير المؤكد كيف ستتعامل إدارة ترامب مع مختلف التحديات، مما يجعل من الضروري مراقبة التطورات عن كثب إذا فاز بالرئاسة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

يتخطّى اسم أوراسيا الكلمة المركبة، التي تجمع أوروبا وأسيا، ليصل إلى جمع الجغرافيا بالسياسة (جيوبوليتيك)، في إطار استراتيجية دولية، تتصارع فيها وحولها قوى كبرى من داخلها ومن خارجها. وقديمًا قيل من يمتلك أوراسيا يهيمن على العالم.

تبلغ مساحة أوراسيا 55 مليون كم2، أي ما يعادل 37% من مساحة اليابسة على سطح كوكب الأرض، ويسكنها 70% من سكان العالم (نحو 5 مليارات وثلث المليار نسمة)، وكان بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981)، يُدرك أهمية البعد الجيوستراتيجي لهذه المنطقة، ولاسيّما نفوذ الولايات المتحدة فيها، خصوصًا صراعها الأيديولوجي مع الدب الروسي في فترة الحرب الباردة، وهو ما تناوله بعمق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى".

ويُعتبر المنظّر البريطاني هالفورد ماكيندر، المتخصص بالجيوبوليتيكا، من أبرز دعاة فكرة الأوراسيا، منذ مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة التي عاد وطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ العام 2000.

قدّم دوغين "الأوراسية" باعتبارها النظرية الرابعة بديلًا للنظريات التي سادت في القرن العشرين (الاشتراكية والفاشية والليبرالية) بدعوته تعزيز القوة الجيوبولوتيكية لروسيا، والتكامل مع المحاور البرية التابعة في "الحزام الأوراسي" و"الحزام الباسيفيكي"، و"الحزام الأورو أفريقي"، والشرق الأوسط (وبضمنه العالم العربي)، الذي أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة.

وحسب دوغين، فإن هدف روسيا هو تكوين قطب عالمي منافس للقطب الأمريكي. وقد أثارت أطروحاته اهتمامًا من لدن نخبة من الأكاديميين والمعنيين العرب، وكنت قد التقيته واستمعت إليه في محاضرة تفصيلية بهذا الخصوص.

أما بريجينسكي فتحليله يرتكز على ضرورة هيمنة الولايات المتحدة على البر الأوراسي، الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضًا الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي، ويمتد من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية)، ومن لابلاند (أقصى الجزء الشمالي من فنلندا) إلى ماليزيا، وهي التي تمثّل رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يسيطر عليها، سيتم الاعتراف له بالقوّة والتفوّق.

وبالعودة إلى ماكيندر، فإن "المنطقة المحورية" الأوراسية، هي تلك التي تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى، إضافة إلى الأرض المركزية، التي تشمل وسط أوروبا وشرقها بوصفها تشكّل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة، وبالتالي على العالم، في حين أن بريجينسكي حدّد 5 قوى جيواستراتيجية في أوراسيا هي: فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، مستبعدًا دولًا مثل بريطانيا واليابان وإندونيسيا على أهميتها، أما دولًا مثل أوكرانيا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فيمكن أن تؤدي دور المحاور الجيوبوليتكية الثابتة المهمة.

وانطلاقًا من هذا المفهوم، نلحظ أن التوجّه الأمريكي نحو دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، وأوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا، ازداد كثافةً وتأثيرًا، بما فيه الصراعات الدائرة اليوم مع إيران وفي وسوريا ولبنان واليمن، وهو جزء من المواجهة مع روسيا وحليفتها الصين، سواء كان الأمر على نحو مباشر أو غير مباشر، والأمر يبدو أكثر وضوحًا في أوكرانيا وسوريا.

وإذا كان هذا هو الفهم الأمريكي لأوراسيا، فإن الفهم الروسي الأوراسي يعاكسه بشدّة، بما فيه تبريره للحرب في أوكرانيا باعتبارها "دفاعًا عن النفس"، في حرب مفتوحة اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا، لاسيّما فيما يتعلّق باستيراد بعض دول أوروبا الغاز الروسي (ألمانيا وفرنسا).

وكان بريجينسكي يُدرك أنه "من دون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، والتعددية القطبية التي نظّر لها، منذ مطلع السبعينيات في كتابه "بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني"، هي التي أخذت تتبلور بعد صعود التنّين الصيني وبداية معافاة روسيا لتشكيل محور موازي للمحور الغربي.

وإذا كانت الحروب في أوراسيا قديمة ومعتّقة، فهي تتجدّد باستمرار تحت عناوين إثنية أو عرقية أو دينية، وهي حروب موروثة من الماضي السحيق، حتى وإن كانت تختفي وتظهر، فإن الجديد فيها هو الدور غير الأوراسي، بدخول الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا بمحاولة نصب صواريخ بالستية لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية -  الروسية، بهدف إضعاف روسيا المتحالفة مع الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الأول.

صحيح أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى العرق السلافي، ويدينون بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ويرتبطون تاريخيًا بعلاقات عميقة ومتشابكة، إلّا أن الحساسيات القومية القديمة، وخصوصًا في الحقبة السوفيتية، تركت ندوبًا عميقةً في الذاكرة الجمعية الأوكرانية. وقد يكون من باب ردّ الفعل ميلها إلى الغرب وتطلّعها لتكون جزء منه، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991.

في الصراعات الأوراسية الجديدة - القديمة (الصين - تايوان)، لا يمكن إغفال دور واشنطن، إضافة إلى تأجيج الصراع الياباني - الصيني، مثلما هو بين كوريا الجنوبية والفليبين، وذلك بإيقاظ روح الكراهية والحقد، بما يعيق الرغبة في وصول هذا الجزء الأوراسي إلى الاستقرار والتعاون. وعلى حافة أوراسيا، تتعرّض غزّة إلى حرب إبادة جماعية من أكثر الحروب بشاعةً وتوحشًا من جانب "إسرائيل"، وبدعم ومساندة مادية ومعنوية من واشنطن، ولعلّ تلك الحروب وغيرها هي امتداد لتلك الحروب المعتقة، بما فيها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تسعى واشنطن لعرقلتها بشتى السبل، لأنها تُدرك أن أحد مفاتيح حل لغز أوراسيا بيد الصين.

***

د. عبد الحسين شعبان

أمريكا على مفترق طرق خطير يمس هيبتها ومكانتها وتأثيرها في مجريات الأمور في العالم. فهناك تحديات تواجهها وأزمات تحتاج لحسمها في الداخل والخارج، لأنها تشكل خطراً على الأمن والاستقرار الدوليين. فهناك حرب أوكرانيا وتداعياتها الخطيرة الاقتصادية والعسكرية، وهناك حرب غزة ونتائجها المأساوية، وهناك تمادي إيران وسلوكها الإقليمي وما تقوم به من تحدي واستفزاز من خلال سلوكيات أذرعها المسلحة كحزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين ونشاط الحرس الثوري في سوريا المجاورة لإسرائيل وبالقرب من حدود هذه الأخيرة. إنها بمثابة حرب متعددة الجبهات يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية مواجهتها باستراتيجية جديدة وجريئة. فهل  إدارة بايدن الضعيفة قادرة على مواجهة خطورة وتعقيد هذا الأمر الخطير على حد تعبير توماس فريدمان في النيويورك تايمز؟ الأمر يتطلب مبدأ أمريكي جديد قد يسمى مبدأ بايدن، على غرار من سبقه من رؤوساء. فإذا لم نشهد مثل هذا المبدأ الواسع والجريء، فإن الأزمة في المنطقة سوف تنتشر على نحو يؤدي إلى تعزيز قوة إيران، وعزل إسرائيل، وجعل قدرة أميركا على التأثير على الأحداث نحو الأفضل في حالة يرثى لها.

حدد فريدمان هذا المبدأ الذي تمناه وطالب الرئيس بايدن أن يعلنه، بثلاث مسارات: يتمثل أحد المسارات في اتخاذ موقف قوي وحازم تجاه إيران، بما في ذلك الانتقام العسكري القوي ضد وكلاء إيران وعملائها في المنطقة، ردًا على مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وجرح العشرات بعضهم أصيب  بإصابات بليغة وخطيرة، بطائرة مسيرة بدون طيار على قاعدة أمريكية  بالأردن أطلقها على ما يبدو حزب موالي لإيران من إحدى تشكيلات الميليشيات في العراق.

أما المسار الثاني فيتمثل في مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة لتعزيز الدولة الفلسطينية – بأسرع وقت. وقد يتضمن ذلك شكلاً من أشكال الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لن تظهر إلى الوجود إلا بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية المحددة والموثوقة، لضمان أن هذه الدولة قابلة للحياة. ولا يمكن أبدا أن تهدد إسرائيل. وقد تشاور مسؤولو إدارة بايدن مع خبراء داخل وخارج الحكومة الأمريكية حول الأشكال المختلفة التي يمكن أن يتخذها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

أما المسار الثالث فيتمثل في إقامة تحالف أمني موسع بشكل كبير بين الولايات المتحدة ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تصالحت مع إيران مؤخراً، وهو ما قد يتضمن أيضاً تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل ــ إذا كانت الحكومة الإسرائيلية مستعدة لتبني عملية دبلوماسية تؤدي إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح بقيادة السلطة الفلسطينية الجديدة والبديلة  لسلطة محمود عباس في الضفة الغربية وحماس في غزة.

إذا تمكنت الإدارة من تحقيق هذا النجاح – وهو أمر ضخم للغاية وأشك في قدرتها على تحقيقه – فقد تصبح عقيدة بايدن أكبر عملية إعادة اصطفاف استراتيجي في المنطقة منذ معاهدة كامب ديفيد عام 1979. الحزب الجمهوري يضغط ويريد خطف الرئاسة من بايدن والديموقراطيين في الانتخابات القادمة وترامب يعد العدة للعودة إلى البيت الأبيض مع ما يصاحب ذلك من توترات خطيرة في الداخل الأمريكي، والحزب الديموقراطي في حالة حرج مما يواجه أمريكا من تحديات  وعلى رأسها تحالف البريكس المكون من روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا بالتعاون مع إيران. لذا يجب ربط المسارات الثلاثة معًا تمامًا حتى تنجح عقيدة بايدن. وأعتقد أن المسؤولين الأميركيين يفهمون ذلك، كما يقول توماس فريدمان.

فالسابع من أكتوبر الماضي شكّل نقطة مفصلية إثر هجوم تنظيم حماس على إسرائيل وقتل العديد من الإسرائيليين وأخذ مئات الرهائن منهم، مما أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة التفكير بشكل جذري في الشرق الأوسط، خاصة بعد الرد الانتقامي الإسرائيلي الهمجي الواسع النطاق والذي أدى إلى مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء في غزة؛ وزيادة الهجمات على الأفراد الإسرائيليين والأمريكيين في المنطقة؛ وفشل الحكومة اليمينية في إسرائيل في صياغة خطة لحكم غزة في أعقاب انتهاء الحرب مع شريك فلسطيني من خارج حماس. يناقش الاستراتيجيون الأمريكيون هذا الواقع المتفجر في العالم  ويدركون أن ليس بإمكانهم الاكتفاء بالفرجة عن بعد على مايجري و السماح لإيران بمحاولة طرد الأمريكيين من المنطقة، وتعريض إسرائيل إلى الانقراض، وترهيب حلفاء أمريكا العرب لحملهم على اتخاذ إجراءات. من خلال الوكلاء الإيرانيين- حماس، وحزب الله، والحوثيين، والميليشيات الشيعية في اليمن. العراق – بينما تجلس طهران بهدوء تفرك الأيدي فرحة ولا تدفع أي ثمن. كما أن الوضع يشير إلى إدراك أن الولايات المتحدة لن تحظى أبدا بالشرعية العالمية، وحلفاء الناتو، لا سيما الحلفاء العرب والمسلمين الذين تحتاجهم لمواجهة إيران بشكل أكثر عدوانية، قد بدأوا يفقدون الثقة في نوايا وقدرات الولايات المتحدة. فما لم تتوقف عن السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاستمرار في سياساته العدوانية  وجعل أمريكا رهينة لسياساته، سيتوجب على أمريكا أن تبدأ في بناء سلطة فلسطينية ذات مصداقية وشرعية قادرة في يوم من الأيام على حكم غزة والضفة الغربية بشكل فعال، وباعتبارهما جارة جيدة لإسرائيل على طول الحدود النهائية، وأن يتفاوضان معًا لإيجاد مخرج لهذه العقدة المزمنة، حتى لو رفضت حكومة نيتنياهو اليمينية المتشددة هذا السيناريو.

يصف نادر موسوي زاده، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الجيوسياسية Macro Advisory Partners والمستشار الأول للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان، عقيدة بايدن الجديدة هذه بأنها “استراتيجية العد المزدوج”. لقد حان الوقت للولايات المتحدة لكشف خدعة إيران ونتنياهو في نفس الوقت.

وقال موسوي زاده: “إنكم تخدعون إيران استراتيجياً، وفي الوقت نفسه، تشرعون في مبادرة غير مسبوقة لوضع الأساس لدولة فلسطينية منزوعة السلاح بطريقة لم تفعلها الولايات المتحدة من قبل”. "كل مسار يحتاج إلى الآخر لينجح. وكل مسار يعزز الآخر ويبرره. التصدي الجدي والحاسم لإيران ووكلائها  بشكل معزز ومستدام يعزز أمن إسرائيل وأمن حلفائنا العرب. إن إقران ذلك بالتزام أميركي حقيقي وجريء بالدولة الفلسطينية يمنحنا الشرعية لاتخاذ إجراءات ضد إيران وحلفائها، وهو ما نحتاج إليه لنكون أكثر فعالية. كما أنها تعزل إيران عسكريا وسياسيا.

نتنياهو هو السبب الذي جعلني أتوصل إلى هذه القاعدة الخاصة بتقارير الشرق الأوسط: “كل ما يقوله لك الناس باللغة الإنجليزية على انفراد لا يهم. كل ما يهم هو ما يقولونه علانية بلغتهم الخاصة.

وقد همس نتنياهو لبايدن سراً بأنه قد يكون في يوم من الأيام على استعداد – ربما فقط – للنظر في نوع من الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بينما قال بالعبرية علناً العكس تماماً.

تجربة بايدن الطويلة مع نتينياهو كفيلة بتوضيح الأمور في ذهنه و ليعرف أن نتنياهو كذاب ومخادع و يحاول ببساطة جره إلى الفخ. لقد حان الوقت لإنهاء لعبة نتنياهو وآيات الله في الوقت نفسه. إن مبدأ بايدن هو الطريقة الصحيحة للقيام بذلك.

يذكر  المحلل السياسي موسوي زاده على لسان بايدن: " لقد تسامحنا مع قيام إيران بتدمير كل مبادرة بناءة حاولنا تنفيذها في الشرق الأوسط – طالما ظلت طهران تحت عتبة الهجوم المباشر ضدنا. وفي الوقت نفسه، تسامحنا مع حكومة نتنياهو التي تسعى إلى منع أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية بشكل دائم، حتى إلى درجة دعم حماس ضد السلطة الفلسطينية لسنوات عديدة لضمان عدم وجود شريك فلسطيني موحد. وأعقب موسوي زاده قوله: "كشف 7 أكتوبر/تشرين الأول أن سياستنا تجاه إيران كانت مفلسة وأن سياستنا الإسرائيلية الفلسطينية كانت مفلسة. سمحت هذه السياسات لحماس بزعزعة إسرائيل. وسمحت للحوثيين بشل حركة الشحن العالمية، وسمحت للميليشيات الشيعية الموالية لإيران لمحاولة إخراج القوات الأمريكية من المنطقة – القوات المنتشرة هناك لمنع داعش من العودة والمساعدة في الحفاظ على استقرار المنطقة بشكل معقول. وأضاف أن كل هذا حدث دون أن يحمّل أحد النظام في طهران المسؤولية عن كيفية "نشر عناصره السامة والمدمرة من الدول الأخرى في جميع أنحاء المنطقة ضد الأهداف البناءة لحلفائنا" في المنطقة. إن إسرائيل تخسر الآن على ثلاث جبهات. لقد خسرت حرب الإعلام وخسرت كسب تأييد الرأي العام العالمي لها في هجومها البربري على غزة: فرغم أن حماس قتلت واغتصبت إسرائيليين، فإن إسرائيل هي التي مثلت أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بسبب الخسائر في صفوف المدنيين التي تسببت بها في غزة أثناء محاولتها استئصال مقاتلي حماس الذين تم دمجهم في صفوف المدنيين.. وهي تخسر على جبهة الاستقرار الإقليمي: فإسرائيل الآن هدف لهجوم إيراني رباعي المحاور - من حماس وحزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق - لكنها لا تستطيع إيجاد حلفاء عرب أو في حلف شمال الأطلسي الذي تحتاجه لكسب هذه الحرب.. لأنها ترفض القيام بأي شيء من أجل إنشاء شريك فلسطيني شرعي وذو مصداقية. وخلص موسوي زاده إلى أنه إذا ظهرت عقيدة بايدن، "فستكون جيوسياسية جيدة في الخارج وسياسة جيدة في الداخل".

وهذا من شأنه أن يردع إيران عسكرياً وسياسياً، ويسحب الورقة الفلسطينية من طهران. وهذا من شأنه أيضاً أن يعزز قيام دولة فلسطينية بشروط تتفق مع الأمن الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، يخلق الظروف اللازمة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بشروط يمكن للفلسطينيين قبولها.

وهي استراتيجية يمكن أن تنجح مع الأميركيين العرب في بحيرة ميشيغان ومع الحلفاء العرب في الخليج العربي. إنها استراتيجية يمكن أن تفرض المساءلة داخل السياسات الإيرانية والفلسطينية والإسرائيلية. من الواضح إن أمريكا لاترغب في خوض مواجهة كبيرة ومباشرة مع إيران  لكنها قد تضطر للسماح لإسرائيل بتوجيه ضربات جوية موجعة لإيران دون خوف من التعرض لإدانة دولية.

***

إعداد د. جواد بشارة

عاشت معظم بلداننا التي تأسست بعد اتفاقية سايكس بيكو تحت مظلة المؤسسين الذين حاولوا استنساخ انظمتهم السياسية وحتى الاجتماعية في بلدان ومجتمعات تختلف عنهم جذريا في السلوك والعادات والتقاليد ناهيك عن الموروثات في طبيعة الحكم وموقع الرمز سواء كان اباً ام شيخ عشيرة ام رئيس دولة او ملك، وقد واجهت تلك العملية تحديات كثيرة أدت الى حدوث انقلابات وانتفاضات وثورات، وبعيداً عن إرهاصات تلك النظم وانقلاباتها الداخلية منذ انتهاء الحكم العثماني وبداية تبلور دول جديدة بأنظمة ملكية وجمهورية استنسخت فيها تجارب غربية لا علاقة لها بطبيعة المجتمعات الشرقية، هذه الأنظمة التي تقهقرت امام تحديات داخلية وخارجية كان أبرزها فقدان الوعي والتخلف الحضاري والنزعة القبلية والدينية، حيث أنتجت مجموعة من النظم القومية والدينية أساسها الصراع المجتمعي والتأثيرات الإقليمية والتي أسست نظماً مغلقة ومكبلة بقيود حديدية تحكمها العسكريتارية والأجهزة الأمنية، حيث أفقدت أي معارضة كانت فرصة تغييرها إلا باستخدام الخيار الخارجي الذي اجتاح العديد من دول الشرق الأوسط واستهدف تحطيم الهياكل الفوقية لتلك الأنظمة الراديكالية بمختلف توجهاتها يميناً ويساراً، دينياً أو مدنياً، في محاولة لإرساء نظم حديثة بلبوس ديمقراطي على الطريقة الغربية، ورغم كل المحاولات والإنفاق الهائل فشلت بعد عقدين من الزمن في تجربتها العراقية من أن تنتج قاعدة مجتمعية لاستخدام أدوات تلك الديمقراطية، حيث عادت تدريجياً تلك الموروثات المتأصلة في البناء الاجتماعي وانعكاسها على تكوين الأنظمة الجديدة.

إن أكثر شرائح المجتمع التي أصيبت بالذهول والإحباط بل الحيرة والإحراج الذي وصل حد المهزلة، هي الشرائح الواعية والمثقفة التي وقفت مذهولة أمام أنظمة جديدة تم تأسيسها على حطام سابقتها دون إحداث أي تغيير أفقي في المجتمع الذي بدى أكثر تعقيداً وتناقضاً مما كان عليه في النظم المغلقة، حيث رفعت بعض القيود الشمولية الكبرى كي تظهر بدائلها الصغرى في التركيبات القبلية والدينية التي تتعلق بطبيعتها البدوية والزراعية والعشائرية المتعطشة للسلطة والمال.

ولم يكن حال تلك الشرائح أفضل من عامة الناس وهي بالتالي مقيدة بكثير من سلاسل التقاليد والنظم الدارجة، وبقيت رغم وعيها وإزاء ظروف قاهرة تتعلق بطبيعة النظام وضوابطه الصارمة اضطرت لتسخير ادواتها، قلماً كان أو حنجرة أو فرشاة رسم أو ريشة عزف أو خشبة مسرح أو منصة علم ومعرفة تكتب وترسم وتغني وتعزف على أوتار ذلك النظام كأي موظف تنفيذي ليس إلا، ورغم إدراكها بأن ما تقوم به لا يرتبط بشخص النظام بل لتكريس الفن والمعرفة في ظل نظام طاغٍ متوهمة بأنها ستزيل انكسارات النفوس العميقة وجروحها، وإزاء ذلك كانت هناك أيضا مجاميع أخرى من المثقفين تضمها سجون رهيبة وأخرى قتلت وتم تصفيتها أو هاجرت وتحملت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض ولا توافق أو تؤيد ذلك النرجسي الأوحد والقائد الهمام ونظامه الشمولي، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة أنهم استبدلوا مهنهم وإبداعاتهم بأشغال وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟

وخلال عقدين من الزمن ورغم كل المبررات الواهية التي تسوقها الحكومات، تارة بسبب الحرب مع الإرهاب أو بسبب الفساد الهائل الذي أنتجته، إلا أنها انحدرت تدريجياً إلى سلوكيات لا تختلف عن الأنظمة السابقة وتحولت في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن وحتى في لبنان من دكتاتورية شخص واحد الى دكتاتوريات ميليشياوية متعددة تتكاثر وتنشطر مع ارتفاع سعر البترول والدولار مستثمرة في حكمها تارة المذهب وأخرى القومية وثالثة الدين والقبيلة وأخيراً غزة وشماعة تحرير فلسطين وعاصمتها القدس بعنتريات وشعارات تجاوزت من سبقتها في تسويق الخطابات النارية لتخدير الناس وتسطيح وعيهم، وبدلاً من الالتفات الى الداخل الذي يعاني من بطالة مخيفة وارتفاع خطير في مستويات الفقر والأمية انتشر الفساد المالي والسياسي وغدت دول غنية مثل العراق وليبيا من أفشل دول العام وأكثرها بؤساً.

وفي خضم الأوضاع الحالية والصراعات الإقليمية وتأثيراتها على هذه البلدان خاصة ما يحدث الآن في غزة وتداعيات حربها على المنطقة، وما تفعله ايران في توسيع مجالها الحيوي الذي يشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومحاولاتها لاختراق جدران كوردستان والمملكة العربية السعودية والأردن والبحرين، في خضم هذه (العجقة) لا اعتقد ان أي عملية إصلاح بإمكانها تغيير الأوضاع الحالية خاصة بوجود وتغلغل هذه الشبكة المعقدة من الفساد المالي والسياسي والإداري والطائفي والقبلي في أدق مفاصل الدولة والمجتمع، يرافقه إحباط كبير لدى غالبية الشعب لا يختلف عن الإحباط الذي أصيب به في الأنظمة السابقة!

***

كفاح محمود

في الحق أن القوات المسلحة السودانية قد أدت واجبها، ونهضت بما ينبغي أن تنهض به، من الذب عن حياض هذه الديار، فكانت صارفة مانعة، لمآرب عربان الشتات ومخططاتهم، وسيرضخ عربان الشتات لقضائها، ويرضوا به، مهما طال العهد أو قصر، وسيلبوا تلك الدعوة التي وجهتها لهم، في مودة صادقة خالصة، فدعوة الموت التي كثر فيها الحوار، واشتد فيها الجدال، لن تستطيع جموع عربان الشتات، أن تجنح عنها، أو تخفق في تلبيتها، مهما بلغ بها الرفض أقصاه، فالجيش حريص أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يجتث شأفة الدعم السريع  في حدة وعنف، وزوال هذه المنظومة، حدث لا ينبغي الوقوف عليه، أو الالتفات إليه، ولكن ينبغي أن نلتفت إلى قضية تقتضي منا، أن نختلف اختلافا شديدا في تحصيلها، قضية تتطلب أن نستخرج فيها الحق من الشبه، وأن نطرح في مرارة وحزن، هذه الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، إلى تفكير طويل، وروية متصلة.

أمزجتنا التي نختلف حولها ونختصم، لماذا أخذها هذا التطرف والغلو من جميع نواحيها؟ وهذا التعصب الذي لا نتحرج من استقبال زائريه من خارج قطرنا، حتى يَعْظُم جاه بعض القبائل، وشأنها يرتفع، متى ننكره، ونضيق به، وننصرف عنه؟ وهذا الجمود الفكري  الذي دمغ حصاتنا على ما فيها من ذبول وفتور، متى نميطه ونتحرر عنه؟ وهذه الأنا الضعيفة، الهشة، الهزيلة، كيف تترك عنها هذا الاسراف في الوهن؟، وتتوخى هذا الإلهام الشاحب اللون، الذي يجب أن يتزايد وأن يقوى، حتى يخلصها من عللها المتوطنة، إن الأزمة الحقيقية التي يشكو منها السودان، كل السودان، ليست هي أزمة تنافس بين خصمين راما السلطة، وتشبثا بحبالها، وإنما هي أزمة أعمق من هذا كله، وأيسر إصلاحا من هذا كله، كما يقول عميد "الفكر" العربي  الدكتور طه حسين رحمه الله، أزمة التكالب على السلطة في السودان هينة يسيرة، فليس التنافس بين الفريق أول "البرهان"، وقائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان دقلو" هي الأزمة الحقيقية التي مست حياة الشعب السوداني مساً عظيما، وأصابته في مقتل، إن أزمتنا الفادحة أيها السادة، تتمثل في تلك الاضطرابات الشخصية التي طافت بنا، وفي نظامنا الاجتماعي الفاسد، الذي جعلنا لا نتعامل مع قضايانا الملحة في قصد واعتدال، فشخصيتنا المعطوبة، تأنف أن تعيش في نظام تتحق في ظله قيم الحرية والعدالة، فهي مأخوذه بمعالم الجنوح والتطرف، وتؤثر هذه الحياة التي تخلب بروعتها عقولنا الناضبة، التي تتيح لنا بأن نأخذ من الحرية قدراً غير مألوف، حتى لا نرعى لشيء حرمة، وحتى نقدم على كل شيء مثير للذة والامتاع، إلى أبعد حد مستطاع، دون أن يردنا عن مواتاتها فضل من خلق، أو بقية من دين، وحتى ندني هذه الاضطرابات من الوضوح، ونقربها إلى الفهم، نقول أنها اضطرابات مهلهلة فجة، تذودها الكثير من القبائل  في السودان بالفتور والاهمال، وتحتفي بها قبائل أخرى، وتسرف فيها، وأضرب لذلك مثالا واحداً، يجدر بنا أن نشير إليه، فالحق الذي لا شك فيه أن البيئة هي التي تغذي الحس، والعقل، والشعور، هناك بيئات تنزع نحو التطرف الاجتماعي، ولا تتعارض قيمها مع قبوله وهضمه، هذه القبائل يستحسن أن تقتصر عنايتنا بها، وأن نرفع أصواتنا رفعا عنيفاً، ونلقي في مسامعها تلك الكلمات التي تعزز من مشاعر الألفة، والمحبة، والتضامن الاجتماعي، ونجتهد أن نردها عن البغي والعدوان، وجملة القول، أن تتحمل هذه القبائل الميسور وغير الميسور، حتى تقتنع بفكرة يسيرة، هي أن العزة، والكرامة، مرتبطة بالسلام الذي يكفل لها، ولغيرها من القبائل أن تعيش في أمن ودعة، وأن الوقت قد حان لتقطع الصلة بينها، وبين ثقافتها الموروثة، تلك الثقافة التي لا تجد مضاً ولا غضاضة، في اظهار هذا المزاج العنيف، الذي يعلي من شأن الحرب، فحياة هذه القبائل بدوية كانت أو حضرية، ما زال يقوم على المعاظلة و الصراع والتناحر، ولعل العلة في ذلك هي الموارد، التي ما زال الناس يتنافسون حولها تنافساً مريعا، فالموارد رغم توفرها مدعاة حقاً، لأن تزيد من حنق القبائل وعداوتها ضد بعضها البعض، ولكن لأننا صادقين في تحديد أسباب هذا المزاج العكر، ووصفه، والتعمق فيه، نزعم أن شح الموارد أو وفرتها، ومعارك الرعاة والمزارعين على الكلأ والماء، التي تركت آثاراً خالدة، لا سبيل إلى أن تزول، ليست هي من الأسباب الجوهرية لاندلاع مثل هذه الحروب، السبب الرئيس الشائع، هو إظهار القوة والبأس، فإظهار القوة الفردية والاجتماعية، مقدما على ازدحام الناس حول الموارد، وعلى تنافسهم في جميع ألوان الحياة، إذن اظهار القوة تأخذ علينا الطرق، وتطوقنا من كل ناحية، وتضطرنا لأن نخضع لهذه الحياة البائسة التعسة، التي لا تدفعنا إلى الرقي ولا إلى الحضارة، بل إلى القتل والإغضاء، والاذعان، لفلسفة الحرب، ولن نتحرر من أغلال هذه الفلسفة، إلا إذا خلت حياتنا من هذه العواطف الحادة، واستطعنا أن نلقي ستاراً كثيفا، على صدى الذكريات الذي لو لم نخمده،  لمضينا في سفك الدماء، ولأخفقنا في أن ننتظم في توادد جميل، وستظل الضغائن تملأ نفوسنا، وتملك عليها أمرها،  وسيلازمنا هذا الشقاء المتصل طوال حياتنا.

 ونظامنا الاجتماعي، الذي قد تطرقت إليه من قبل في مقال عريض، ولا أود أن أعود إليه، أو استأنف الحديث عنه، ولكني أحمله في سفور، اخضاع نظمنا السياسية، و الثقافية، والاجتماعية لسطوته، لقد قوض هذا النظام البسيط الساذج، كل مظاهر البهجة في حياتنا، وأزرى بكل لذة فنية أو عقلية، كانت من الممكن أن تخفف علينا وطأة هذه الحياة،  نظامنا الاجتماعي، حال بيننا وبين التفكر والتروي، في مسائلنا ومشاكلنا المعقدة، وجردنا من الوطنية المحضة وتبعاتها،  قناديل الوطنية التي تفرض علينا النهوض بواجباتنا تجاه السودان، حتى يظفر بالاستقلال السياسي التام، ويتعافى من هذا الاعياء الذي تفرضه عليه تبعات تدخل الغير في شؤونه، نظامنا الاجتماعي هو الذي فرض علينا أن نحرص على هذا التقليد، وأن نمعن في هذه الحياة التي تشبه الحياة الجاهلية في الكثير من صورها وأشكالها، تلك الحياة العجفاء المتخلفة، التي نظهر لها كل هذه الطاعة، وهذا الاذعان، مع أن النشاط العقلي، الذي تموج به الأقطار من حولنا، يُحْتِم علينا أن نعدل هذا النظام القديم، بنظام طارف جديد، يتبين الأشياء في وضوح وجلاء، ويتناول موضوع وحدتنا القومية الضعيفة الواهية، بالدرس والبحث والاستقصاء، نحن نحس فعلا الحاجة إلى اصلاح نظامنا الاجتماعي، أو تغييره، فالنظام الذي ننشده و نبتغيه، واهماً من ظن، أنه هو ذلك النظام الذي يكفل لنا أن نعيش في خفض ونعيم، بل هو أيها الأماجد، ذلك النظام الذي نلتمس فيه تلك الرغبة الصادقة، بأن تعيش جميع أطيافه في وحدة عضوية متضامنة، تخضع للتطور، وتكره الانحطاط والتردي والجمود، نظام اجتماعي جديد، يسعى لاضعاف سلطان القبلية، ويعمل على تضاؤله، نظام يدرس كل شيء، ويحلله، ويرده إلى الأصول المشتركة بين الناس، نظام لا تستأثر فيه طائفة بالحكم والسلطان، ولا تتحقق فيه المنفعة العاجلة، لجماعة أو ايدلوجية، حتى ترتقي رقياً مضطرداً على حساب غيرها من الجماعات والأيدلوجيات، فالطموح الذي يجب أن يأخذ نصيبه، لأي فئة كانت، هو ألا تتقوقع  أي جهة حول السلطة، أو تسعى لاحكام السيطرة عليها، بل أن تظهر المرونة، والسلاسة في تداولها، وأن تمضي بالسودان نحو التطور في غير أناة.

***

د. الطيب النقر

 

كنا تابعنا الزيارات المليونية منذ عام 2006 وكتبنا عنها تحليلا سيكولوجيا نشر في الصحف العراقية ووسائل التواصل الأجتماعي. ولمناسبة زيارة الأمام موسى الكاظم هذا العام (2024) نعيد ما كنا نشرناه بهدف الأجابة على تساؤل واحد:

ان الغالبية المطلقة من الزائرين.. يعرضون على الأمام الكاظم (ع) مظالم وطلبات.. فهل انتهت مظالمهم وتحققت طلباتهم عبر اكثر من عشر سنوات؟.

لنعد الى العام (2007) وتحديدا يوم 9 آب منه، فقد أفادت القنوات الفضائية التي واكبت المسيرة بأن عدد الزائرين كان بين مليونين إلى ثلاثة ملايين معظمهم جاء سيرا" على الأقدام برغم شدة الحر في آب اللهاب.

وتساءلنا في وقتها عن الأسباب وراء هذا العدد المذهل من الزائرين في ظروف الحر الشديد وعلمهم المسبق بأنهم قد يتعرضون إلى الموت بعبوات أو أحزمة ناسفة أو تفجير سيارات مفخخة أو قذائف من مدافع هاون وغيرها من وسائل الموت التي تعددت في حينه بما فيها تسميم مياه الشرب:

* هل فعلا" أن السبب كان دينيا" وأداء شعائر واجبة، أم أن ورائها أسبابا سياسية وإعلانا" تحذيريا" على لسان طائفة تريد أن تقول للخصوم والأعداء والمحايدين " مهما صار بنا فنحن ها هنا موجودون "؟.

وإن كان وراء هذا الحشد البشري الضخم " سياسة ".. اعني تعبئة سياسية من أحزاب دينية ـ سياسية فأنني اترك الأمر للمحللين السياسيين، فما يعنيني هنا هو الأسباب السيكولوجية ليس إلا.

لقد تابعت أيامهاعددا من المقابلات التي أجرتها قنوات فضائية مع زائرين وزائرات، فوجدت أن لديهم حاجات يأملون تحقيقها من هذه الزيارة حددوها في إجاباتهم على ألسنتهم بالأتي:

* نريد الأمان (أولادنا تكتلوا " قتلوا " واحنه عايشين بخوف والى متى نظل اليطلع من بيته ما يدري بروحه يرجع لو يموت.

* ونريد الكهرباء.. الله أكبر طكت أرواحنا.

* ونريد السياسيين يتصالحون ويديرون بالهم على الشعب مو يظلون يتعاركون على الكراسي والشعب حال الضيم حاله.. يزي عاد تره شبعنا تعب.

هذا يعني أن زيارة هذه الملايين لضريح الإمام موسى الكاظم كانت: عرض مظالم وتقديم طلبات لتحقيق حاجات عامة تتصدرها حاجتهم إلى الأمان.

ونسأل:

إن الذي أرعب الناس، في سنتها، وافقدهم الأمان هم: القاعدة وقوات الاحتلال والمليشيات وعصابات الجريمة، فما الذي يفعله الإمام بقتلة مجرمين نسفوا حتى أضرحة أحفاده من الأئمة الأطهار وقتلوا الآلاف من الناس المسالمين والنساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالسياسة وبالطائفية؟ !.

ربما سيكون جوابهم: إن للإمام جاها عظيما عند رب العالمين.. وجوابنا: وهل أن الله سبحانه غافل عما يفعلون؟!

وكانت حاجتهم الثانية: " نريد الكهرباء ".

ونسأل مرة أخرى: ما شأن الإمام " ع " بتوفير الكهرباء للناس؟. هل أن وزير الكهرباء " ظام " هذه النعمة عن الناس وان الإمام سيؤنبه ويأمره بتوفيرها إلى عباد الله. وإذا أجاب الوزير بأن قلبه " محترق " على الناس ولكن " ما بيدي حيله " فهل يأمر الإمام الحكومة بشراء المولدات العملاقة، وأنها ستستجيب لأمره فورا" فتنير العراق من زاخو إلى أم قصر؟ !

وكان الطلب الثالث للمسيرة المليونية هو " إصلاح حال السياسيين ".

لقد مضى على دعواتهم تلك، في يومها، أربع سنوات فحصل أن تغير حال السياسيين ولكن الى الأسوأ، فهل عجز الأمام عن اصلاح حالهم ام أنه تغاضى عن طلبهم لأنهم لا يستحقون؟!

الجواب لا علاقة له بالامام ولا بالدين ولا بالسياسة بل بالسيكولوجيا، خلاصته:

ان الانسان المحبط والمحدود الوعي الذي يتعذر عليه حلّ مشكلاته او يجد الواقع لا يقدم له الحلّ الذي يعالج أمور حياته ولا يخفف من حدّة ضغوطه ومعاناته فأنه يلجأ الى وسيلة روحية او خرافية تمنّيه بالفرج وتخفف عنه نفسيا.

ومن هذه الوسائل زيارة الأئمة والأولياء.. ولا نعني بها الزيارات التي يقوم بها الناس في اوقات استقرارهم النفسي، فهذه تكون للتبرّك والتقرّب من الامام وخالصة لشخصه الكريم، انما نعني بها زياراتهم للأئمة والأولياء بحشود في اوقات الأزمات القصد منها فك ازمة مأزوم.

ومع تنوع أزمات هذه الجماهير المليونية فانها تعمل في آليتين نفسيتين هما:

الأولى: شعور الانسان العاجز المحبط بقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة،

والثانية: اسقاطه على الأمام او الولي القدرة على فك ازمته لتميزه بكرامة او جاه او رجاء اذا رفعه الى ربّ العالمين فانه لا يخيب رجاءه.

وينشط عمل هاتين الآليتين في اجواء الطقوس الروحية، لأن رؤية الفرد الواحد للجماهير المهمومة تخفف من همومه حين يرى ان الكارثة عامة وأن مصيبته قد تكون اهون من مصائب الآف. غير ان اقواها:تراجع العقل عن التفكير بحلول واقعية امام طوفان الانفعال الجمعي للجماهير المليونية، والتنفيس عن هموم محنة عامة والشكوى من سوء الحال بأدعية تشيع في نفوس الجموع نوعا من الاطمئنان والرجاء والأمل واقناع الذات بأن ثمة فرج آت.. بعد وقت اضافي من الصبر!.

ساتابع زيارة الأمام الكاظم يوم الثلاثاء (6 / 2 /24) لأرى ما اذا كانت مليونية ايضا، وما اذا كان الزائرون يكررون طلباتهم التي عرضوها على الأمام قبل 17 سنة، لاسيما طلبهم بتوفير الكهرباء (الله واكبر كتلنا البرد، بعد ان كانت كتلنا الحر)، ودعوتهم الى ان يتصالح السياسيون، ويعيد التيار الصدري للعملية السياسية..

وبعدها سيكون لنا تحليل سيكولوجي جديد.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

وهل لديها المقومات التاريخية الاقتصادية السياسية في ذلك؟

قد يتساءل البعض عن سر النزعة الإنفصالية لحكام ولاية تكساس التي يحكمها الجمهوريون عن الولايات المتحدة ومآلاتها بعد احتدام الصراع مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن والمتمثلة بالرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي، جو بايدن.

لقد تولد لدى حكام هذه الولاية -الأقوى اقتصادياً- شعورٌ بالغبن والخضوع للاستغلال الجائر، من قبل القيادة الفيدرالية، حتى جاءت الذريعة القوية لخوض معركة انفصال جديدة، حينما قررت المحكمة الأمريكية العليا إزالة الأسلاك الشائكة بين الولاية والحدود مع المكسيك، الأمر الذي سمح بتدفق المهاجرين المكسيكيّين إلى الولاية دون رادع، وبالتالي إعاقة التعامل مع الظاهرة وفق معايير أمنية ضابطة.

لذلك عدّ حاكم الولاية، القاضي السابق غريغ أبوت، هذه الظاهرة المتنامية احتلالاً مكسيكياً يسير ببطء شديد، ومكمن خطورتها أنها تعتمد على تأثير التقلبات الديمغرافية في نتائج أي استفتاءات يكون من شأنها التحكم بمصير الولاية عند الأزمات الوجودية.

هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تكساس تقوم ديمغرافياً على المكونيْن المكسيكي والسكان الأصليين قبل أن يتدفق إليها المكوّن الأوروبي الذي تناما بكثافة بعد قرار الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمر الذي عزز من مخاوف حكام الولاية الجمهوريين .

وهذا ممكن لو تمحصنا في إسقاطات التاريخ على المكوِّن الديمغرافي المكسيكي، الأمر الذي استلزم من "أبوت" التصدي لقرار المحكمة الفيدرالية العليا الذي أعطى الولاية مهلة حتى 26 يناير 2024 لنزع السياج الأمني الذي أقيم على حدود تكساس مع المكسيك.

ولكن بعد انتهاء المهلة المقررة قام حاكم الولاية بمخالفة قرار المحكمة العليا ممعناً في تحدي الحكومة الفيدرالية، وذلك من خلال الزيادة في تحصين الحدود، وعدم تمكين حرس الحدود التابع للحكومة الفيدرالية من القيام بمهامه المنوطة به بتنفيذ قرار المحكمة العليا، من خلال التصدي له من قِبَلِ الحرس الوطني التابع للولاية، مدعوماً بقوات الحرس الوطني لعشرة ولايات جمهورية من بين 25 ولاية أبدت تأييدها لموقف "أبوت" من الهجرة غير الشرعية.

وفي خطوة وصفت بأنها أنانية تم إلقاء أزمة المهاجرين إلى الولايات المجاورة بتحويل أكثر من 100 مهاجر إليها بهدف تأزيم المواقف في وجه الحكومة المركزية، وهذا تصعيد خطير.

ولعل تأثير هذه النزعة على مستوى جماهيري تجلى أكثر من خلال جذب جيش الرب (AOG)‏ الذي زحف من ولاية فرجينيا نحو تكساس؛ للمساهمة في التصدي للهجرة غير الشرعية من المكسيك.

وقد تبنى الحزب الجمهوري هذا التوجه الذي رفع من معنويات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية المحتمل، دوناند ترامب كونه الأشد تأييداً لموقف حاكم الولاية الاستثنائي غريغ أبوت.

من جهته برر "أبوت" إجراءاته المخالفة للقانون قائلاً في مؤتمر صحفي: "الدستور يعطي الحق للولايات للدفاع عن نفسها.. وهذا بالضبط ما نفعله"

لذلك أمر "أبوت" بنشر قوات الأمن الوطني التابعة له، في أرجاء الولاية وعزز من تواجدها على الحدود مع المكسيك في تحدٍّ سافر لجو بايدن.

وهذا يمثل تصعيداً خطيراً من شأنه أن يضع الولايات المتحدة أمام خيارات مفصلية كارثية، وخاصة أن هذه الإجراءات وضعت قوات الأمن الوطني لتكساس في صدام مع قوات حرس الحدود الفيلدرالية.

فيما يرى مراقبون بأن النتائج ستظل محصورة في حدود التداعيات التي ترافق عادة الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ لكن المستحيل في وقتنا الراهن تحطمت حواجزه في أكثر من تجربة في العالم ولعل طوفان الأقصى خير مثال على ذلك.

والجدير بالذكر أن للنزعة الانفصالية في تكساس جذوراً تاريخية ومحفزات نفسية تقوم على رهاب الديمغرافيا، التي تميل إلى الثقافة المكسيكية والولاء المعنوي للجنوب، والشعور بالغبن والاستغلال من قبل حكومة المركز لثروات الولاية الهائلة.

فقبل نحو 118 عاما كانت تكساس جمهورية مستقلة، اعترفت بها الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، قبل أن تصوت على الانضمام إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الـ28 وقتها وذلك بدافع الخوف من المكسيك التي انتُزِعَتْ منها.

وكان الجنرال الأمريكي سام هيوستن قد انتصر على الجنرال المكسيكي سانتا أنا، فاستقلت تكساس عن الولايات المكسيكية الفليدرالية وحملت عاصمتها اسم محررها "هيوستن".

ولكن خشية تكساس من الطموحات المكسيكية نحو استعادتها، دفعتها للانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية-كما أشرنا آنفاً- في 29 ديسمبر 1845 من خلال استفتاء عام.

ويبدو أن طموح الولاية الانفصالي كان متعارضاً بشدة مع مصلحتها في الانضمام إلى الولايات المتحدة حيث وجدَ فيه التكساسيون ملاذاً آمناً ورادعاً للخطر المكسيكي المحدق بهم من الجنوب.. مع أن هذا الخطر قد يكون مبالغاً فيه، بحيث لا يعدو عن كونه وهماً درج قادة الانتخابات الأمريكية في صنعه للتأثير على النتائج.

وكانت لولاية تكساس إبّان الحرب الأهلية الأمريكية تجربة إنفصالية سابقة لأول مرة في أوائل عام 1861 إلى جانب إحدى عشرة ولاية تحت مسمى الولايات الكونفدرالية الأمريكية، حصل ذلك كون عنصر الأمان بات حينها مفقوداً بسبب انتصار الشماليين على الجنوبيين في الحرب الأهلية، لكنها عادت وانضمت رسميا من جديد إلى الولايات الكونفدرالية الأمريكية في 2 مارس من نفس العام. وخضعت لسيادة الحكومة الاتحادية بعد الحرب الأهلية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2021، تقدم أحد أعضاء مجلس نواب ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري بمشروع قانون لإجراء استفتاء غير ملزم على انفصال الولاية عن الاتحاد، ولكن لم يتم التصويت عليه أو تُحدَد له جلسة استماع من قبل المجلس.

في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ "الانفصالية" في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت "لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد".

يرى الكاتب أنه في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي شارك فيها أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، واقتحامهم للكونغرس، فإن ميليشيات اليمين المتطرف، مدفوعة بمزاعم ترامب التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات "سُرقت"، أصبحت تطالب بشكل متزايد بالانفصال، ليس فقط في تكساس، ولكن في ولايات أخرى كذلك. وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين من عدة جامعات أمريكية أن الفكرة يؤيدها ثلث الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية، وأكثر من نصف الجمهوريين في الولايات الكونفدرالية السابقة.

فولاية قوية ومكتفية ذاتياً مثل تكساس تستطيع اتخاذ قرار الانفصال عن طريق الاستفتاء إذا ما حظيت هذه الخطوة بتأييد الكونغرس.

ولا شك أن العامل الاقتصادي والقدرة على الاستقلال سيهيء لإجراء استفتاء حقيقي يقوم على نتائجه مستقبل تكساس.

إذْ تتمتع ولاية تكساس باقتصاد قوي يحتل المرتبة التاسعة بين الأكبر في العالم، متفوقا على العديد من البلدان مثل روسيا وإسبانيا وأستراليا. فهو يسهم بشكل كبير في قوة أميركا وازدهارها بشكل عام، كما تعد الولاية الحدودية مع المكسيك، مركز الطاقة في أميركا، حيث تنتج وتكرر معظم النفط والغاز في البلاد. كما أنها رائدة في مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.. وفيها مقر وكالة ناسا للفضاء.

وحتى من الناحية السياسية، فإن تكساس هي لاعب رئيسي في السياسة، حيث تمتلك ثاني أكبر عدد من الأصوات الانتخابية ومقاعد في الكونغرس في الولايات المتحدة. كما أن لها تأثيراً قويا ًعلى قضايا الحدود مع المكسيك، وسياسات الهجرة، والأمن القومي.

وخاتمة القول أن الرهانات على انفصال تكساس ليس سهلاً لكنه سيكون مؤشراً لاحتمالٍ ممكن الحدوث في عالم يتغيرُ بسرعة وأصبح فيه المستحيلُ مستحيلا.

***

بقلم بكر السباتين

6 فبراير 2024

 

العلاقات السودانية الايرانية، سوف تطوي ثوبها البالي، وتخطر في ثوب قشيب، بعد أن كلفتها خطوب الحياة،  وعنت الدول المستبدة، التي كانت تضيق بهذه الوشائج، التي توثقت في عهد الرئيس السابق المشير عمر حسن أحمد البشير، أشد الضيق، ولعل الباعث الذي دفع نظام البشير، لتوطيد صلاته مع ايران، التي أظهرت حباً له، وعطفاً عليه، العزلة التي فرضها عليه المجتمع الدولي، بعد أن حاد نظام الحركة الإسلامية، عن النظم المرسومة، والقواعد الموضوعة، وأراد أن يمضي في الحياة كما يريد هو، لا كما يريد الغرب، لقد رفض نظام البشير قيود الامبريالية، وذهب في عناده معها مذاهب مختلفة، فالجأته إلى ذلك البؤس الهادي المطرد، حتى قضت عليه، البؤس العاتي الغليظ، الذي جعل شرائح شعبه ومكوناته تتصايح، وتدعو بعضها بعضاً للخروج عليه، حتى ظفرت بالحرية قبل عدة أعوام، ثم فرطت في هذه الحرية، وأمعنت في هذا التفريط، حتى قادنا ذلك التفريط إلى هذه الحالة المنكرة، وإلى هذه المليشيا المارقة التي أودت بالناس في غرب الدولة، وشمالها، وفي وسطها، وأكبر الظن أن الساسة الذين جاءت بهم تلك الثورة التي لم تكمل غايتها، لم يكونوا على كل حال، هم القادة الذين سيبلغ بهم الشعب مأمله في العدل والحرية، وينهي بهم هذه السلسلة الطويلة من حلقات الخمول والجمود، فهم لم يقودوه إلى الأمل المنشود، ولم يقدروا جهده الدائب، وعمره القصير الذي أفناه، من أجل نيل التحرر والانعتاق، فتلك الناجمة لم تسعى إلا لأن تروي حقدها، وترضي حاجتها من التشفي والانتقام، وتمحو بأظافرها الحادة الملوثة، كل ما دونه التاريخ  للانقاذ من محاسن، ولا تبقي إلا على غثاء، لا يحتاج منا أن نضبطه، أو نعلق عليه.

وفي الحق، أن معارك النظام الإسلامي المحتدمة مع المجتمع الدولي، منحته بلا شك بصيرة نافذة، وذكاء متقد، وقدرة فائقة على المناورة والالتفاف، فاستطاع أن يكون لنفسه رأياً صارماً حازماً، خاض به العور والنوائب، على مدار عمره الطويل، حتى اشتد عليه المرض، واستيقن الموت، بعد أن صبر وأجمل الصبر، وسلك كل الطرق التي تبقيه حقبة من الدهر، قبل أن يلفظ آخر أنفاسه، وإيران كانت محطة من محطات  تشبثه، محطة استطاع أن يعيد بها بناؤه العسكري والسياسي، ونحن إذا أردنا أن نرصد هذه العلاقة، فسنجد أن نظام البشير  قد سار مع إيران سيراً رقيقاً عذبا، في بدايته، فوفق منها إلى ما أراد، ومنحها بعض ما تريد، ثم تنكر لها، وجحد فضلها، ليرتمي بعدها في أحضان دول الخليج التي كانت لا تتعصب له، ولا تثني عليه،  بل تبغضه وتزدريه، وتوغل في مجه وازدرائه، فبغض دول الخليج للانظمة التي تلتحف برداء الدين، لا يحتاج منا، أن نضيع وقتنا، وقت القارئ، في التماس الأدلة والبراهين على حقيقته وصحته، وقد لجأ نظام البشير إلى الخليج العربي، بعد أن فقد الأمل، واستيئس من النجاة، وقد منح الخليج العربي "البشير" الأمان، وأخذه بالحزم، ورده إلى الاعتدال، وأجبره على قطع صلاته بايران، التي كانت أحدب عليه من أبيه، واستأنف "البشير" حياته الجديدة، مع حليفه الجديد، وكان يحرص على رضاه، أكثر مما يحرص على أي شيء آخر، والخليج الذي كانت النار تضطرم بين جوانحه، وتحرق قلبه غيظاً على" البشير وطغمته"، استخدمته أداة للدفاع عن نفسها، وأقحمته في تدخل عسكري عنيف في اليمن، وجعلت قواته تنتقل من ثغر إلى ثغر، ومن غور إلى غور، تغالب الطبيعة، وتواجه العواصف والأنواء، وتجابه المنايا، في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، أمسى البشير يحارب  جماعة تعيش في وطنها، وبين أهلها، جماعة لم يجد السودانيون ما يدفعهم، إلى الجد، ويثير فيهم النشاط، لهضم مسوغات قتالهم، لقد اتخذ نظام البشير  هذه الخطوة في كثير من التردد والاستحياء، ولم يكن ينظر، أو لا يكاد ينظر كما يقول -العميد- إلى عمق العلاقة التي لم تشبها شائبة مع الشعب اليمني الشقيق، واستطاع البشير كعادته أن يحصر الثائرين، والمستهجنين، تلك الطائفة التي لم  تريد قتلاً ولا قتالا، ولا تبتغي شراً أو خصومة مع اليمن وأهل اليمن، استقبلت  هذا التداعي واجمة أول الأمر، ثم سائلة مستفسرة، عن الدواعي والأسباب التي تحملنا على حرب اليمن ومعاداة شعبها، فأجبرهم  الدكتاتور الحائر على الصمت، ومضى البشير في عزمه، وأرسل قواته إلى معمعة لا تحمل إليهم رضى ولا غبطة.

والقوات السودانية التي كانت تقاتل هناك بأبخس الأثمان، كانت تستشعر الحرج، وهي تتبع الحريق هنا وهناك، وتعلم أنها مهمة أثقل من تستطيع أن تنهض بها، لأجل ذلك كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، فهي غير مقتنعة بأنها قد حضرت هنا إلى هذه البلاد، حماية للكعبة، وبسطاً للعدل، وإنقاذاً للناس من ظلم الحوثيين، فالشيء المحقق أنها جاءت إلى هنا من أجل الطمع والطموح، الطمع في المال، والطموح إلى الترقية والتدرج في الرتب.

ونحن إذا اردنا الانصاف، نقول أن" المشير البشير" الذي كان ينتظر من الخليج، أن يحميه من عاديات الأيام، كان مكرهاً أن يساير حلفائه الجدد، وأن يظهر لهم هذا الخضوع والإذعان، فهو واهي أقعد به الداء، ونظامه ضعيف ثقلت عليه العلة، و حركته أزرى بها الخلاف، نظامه الذي بات يكره نفسه على البقاء، مخافة السجون والملاحقات الدولية، أفاض على وجهه هواناً، جعله يستخذى نصرة من أطنب في معاداتهم، وكان يعد أصواتهم أكثر خفوتاً، وصورهم أشد بعداً، وانقطع البشير في هذه العلاقة مع الخليج الذي لم يظهر مطلقا أن نفسه راضية، وقلبه سعيد، بهذا التأخي، وحتى نترك عنا هذا التحقيق الدقيق لكنه المشاعر، نقول أن "المشير البشير" لم يفرغ للهوه ومتاعه، والتنقل بين الأقطار، فقد عالجته ثورة هادرة قضت على بحكمه، ثم أخذت الجموع تكثر من التردد على القصر الجمهوري غداة كل يوم،  وهي ترسل صوتها الصريح بالانكار، حتى ظهر لنا شبح "الخبير الاقتصادي" المزعوم الدكتور عبد الله حمدوك، والذي اتضح انه أتى ليحارب عواطف الشعب ومثله العليا، لقد كنا على علم بأسباب هذه الثورة، ودوافعها الوطنية، ولكننا لا ندرك الكثير، أو نجد تفسير شاف لتصدر ممن هم على شاكلة "حمدوك" و طاقم حكمه الضعيف الهزيل، الذي لم يأتي إلا ليوقظ روح اليسار، ويجعل للخنا والفجور قيمة عظيمة، وخطراً جليلا، وقد رفق بنا الدكتور حمدوك حينما صاغ خطابه الشهير للأمم المتحدة، حتى لا نجتهد، ونضني أنفسنا بالاجتهاد، لكي ندلل على عمالته، خطابه الذي أتى "بفولكر"  الثعلب الألماني العجوز، الذي قوى من شخصية" قحت" ودفعها إلى الثقة بنفسها،  "قحت"مجموعة الأحزاب الهشة المنخوبة الفكر،  المغلولة اليد، المحصورة بين ردهات مكاتب المخابرات الأمريكية، لا ندري كيف تصدرت المشهد، وكيف رضينا منها أن تبت في يسير الأمر أو خطيره، لأجل ذلك لاح على السواد الأعظم من الشعب الضجر، وأظهر التبرم والملل، من سماجة، وضعف مردود الدكتور حمدوك ومن "قحت" الحاضنة السياسية له، ولحميدتي قائد قوات الدعم السريع من بعده.

ونحن نزعم في حدة وعنف، أن حكومة الدكتور حمدوك إنما وضعت لفئة محددة ولم توضع لعامة الناس، الفئة التي تجد ذاتها وسط الغرب، وحضارته الموغلة في العهر والانفصام، الفئة التي تنتهي آمالها إلى غاية تقتضي تغيير منهج الدين، وطرق التفكير المرتبطة  بأصول شريعته، ولعل حدود المقال وأطره، تمعنا من أن نقدم عرضاً مفصلاً للأحداث والمآلات التي صاحبت تلك الفترة، ولكن تلك الفترة انجلت باستقالة الدكتور حمدوك، وتدافع غلاة الفكر الحر، ورواد المجون والزندقة، نحو المطارات والمعابر، وتركوا قائد الدعم السريع الفريق أول محمد دقلو، الرجل الذي لا يدري كيف يصانع من حوله، شريكا للبرهان في حركته التصحيحية التي انتزعت أرباب العمالة من الحكم.

ولم تلبث "قحت" التي يملؤها الحقد والشر والكيد أن تبث العداوة والبغضاء في حنايا الفريق أول حميدتي تجاه شريكه وقائده في المجلس السيادي الفريق أول البرهان، فاندلعت هذه الحرب التي كان "فولكر وأحزاب الخزي والعار" أشد حدباً والحاحاً على تهييجها واضرامها، لأنها تحقق لهم كرامة أهدرها البرهان، وتتيح لهم أن يخاطبوا المنابر باسم الأفراد والجماعات.

سنرفد هذا المقال بمقال آخر باذن الله.

***

د. الطيب النقر

تمهيد: لم تكن عملية "طوفان الأقصى" حدثًا عابرًا في المواجهة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال "الإسرائيلي"، بل تعتبر حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، فما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 سوف لا يشبه ما قبله.

واجهت غزّة التي تبلغ مساحتها 365 كم2، لا تعادل سوى 2% من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم2، حربًا عالمية بكلّ معنى الكلمة، وتعرّضت إلى إبادة شاملة في ظلّ دعم غربي لا محدود، تبريرًا وتسويقًا للعدوان في الأمم المتحدة وخارجها، تحت حجّة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". فكيف يمكن فهم ما حصل؟

زمام المبادرة

بدأت عملية طوفان الأقصى بمباغتة فائقة البراعة، ليلة عيد الفرقان "الإسرائيلي"، حين اقتحمت قوات المقاومة "حماس"، المواقع "الإسرائيلية" في غلاف غزّة، بسرعة مذهلة ودقيقة في الساعة الثالثة صباحًا، في 22 موقعًا عسكريًا، وخلال ثلاث ساعات تمكّنت من اغتيال بضع مئات من الضباط والجنود "الإسرائيليين"، واقتادت ما يزيد عن 100 "إسرائيلي"، بمن فيهم اثنين من العسكريين من جهاز "الشين بيت - شاباك" (المختصّ بالأمن الداخلي، والذي يتبع لرئيس الوزراء مباشرةً)، وعدد من الأجانب، لاحتجازهم كأسرى، أطلقت سراح بعضهم (من المدنيين وحملة جنسيات أخرى)، في عملية تبادل للأسرى، واحتفظت ببعضهم الآخر، ولاسيّما العسكريين، ضمن خطة للضغط على "إسرائيل" لتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون "الإسرائيلية".

وتكمن أهمية عملية طوفان الأقصى في امتلاك زمام المبادرة أولًا، وثانيًا، ما حققته من اختراق نظرية الأمن "الإسرائيلي"، التي ظلّت مهيمنة لعقود من الزمن، وكيف أُخذ "الإسرائيليون" على حين غرّة؟ ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى دقة التخطيط والتنفيذ والمعلومات الاستخبارية، حيث تم تحديد المعركة والمبادءة في اختيار لحظة الهجوم، وتكاد تكون هذه العملية الجريئة الكبرى والأولى، التي تدار فلسطينيًا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 التحررية، التي حاولت فيها القوات المصرية والسورية مواجهة نظرية الأمن "الإسرائيلي"، حين اختارت هي تحديد لحظة المواجهة، وبدء المعركة، في حين كانت "إسرائيل" في المعارك الأخرى، هي التي تفرض المعركة بشنّها العدوان.

أركان نظرية الأمن "الإسرائيلي"

ساهمت عملية طوفان الأقصى في خلخلة الأركان التي تقوم عليها نظرية الأمن "الإسرائيلي"؛ وأهمها:

أولها – حرب المعلومات: التفوق الاستخباري، ففي جميع حروب "إسرائيل" ابتداءً من حرب العام 1948 أو في العدوان الثلاثي العام 1956 (الإنكلو - فرنسي "الإسرائيلي") أو في عدوان 5 حزيران / يونيو المعروف ﺑ "الأيام الستة" العام 1967 أو في الحروب على لبنان وغزّة وغيرها، كانت الاستخبارات "الإسرائيلية" الموساد، (جهاز الاستخبارات الخارجي، الذي يرتبط برئيس الوزراء مباشرة)، تمتلك معلومات أكثر مما يمتلكه الجانب العربي والجانب الفلسطيني بكثير، بل إن المعلومات الاستخبارية العربية والفلسطينية، كانت شحيحة جدًا، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت هشاشة التفوق الاستخباري والأمني "الإسرائيلي"، حين هاجمت قوات فلسطينية فدائية، لا تزيد عن بضعة مئات، أكثر من عشرين ألف عسكري "إسرائيلي"، وعرضتها للانكشاف، والفضل يعود، في جزء كبير منه إلى الدقة الاستخبارية الفلسطينية والحصافة الأمنية، وخطط التمويه والإيهام، التي قامت بها بسرية كاملة، ناهيك عن الشجاعة في اتخاذ القرار والتنفيذ، على الرغم من امتلاك الاستخبارات "الإسرائيلية" آخر اختراعات العلم وابتكارات التكنولوجيا.

لقد تمكّنت استخبارات المقاومة، على بساطتها وقلّة إمكاناتها، من الحفاظ على سريّة عملها وتحديد ساعة المواجهة، وإنزال ضربة مفاجئة وغير محسوبة بالمنظومة الاستخباراتية والأمنية "الإسرائيلية"، التي لم تكتشف خطة المقاومة، سواء في اتخاذ القرار، أو في التنفيذ والإداء بإعداد محكم ورصين لهذه العملية، التي استغرقت نحو عام من التحضير المضني.

وثانيها – حرب العلوم: التفوّق العلمي والتكنولوجي، وهذه هي الأخرى تمّ التغلّب عليها، حين اختارت المقاومة لحظة الهجوم، وهكذا كانت الإرادة والحق في مواجهة التكنولوجيا والباطل، فلم ينفع ادّعاء "إسرائيل" بامتلاكها أسرار الذكاء الاصطناعي، وتفوقها على الفلسطينيين والعرب، وتصنيف نفسها كدولة متقدمة، فقد تمكنت المقاومة بأدوات وأسلحة بسيطة، وخطة محكمة، أن تحقق نتائج  مذهلة، وأنزلت ضربة غير متوقعة بالقوات "الإسرائيلية"، علمًا بأنها تمتلك أسلحة متطوّرة ومعدّات واستعدادات وتهيئة، ومنظومات دفاع مدعومة غربيًا، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، كما حافظت المقاومة، طيلة الفترة المنصرمة، على سريّة بناء الأنفاق، وجهزتها بأسباب الحياة دون أن تعرف "إسرائيل" وعملائها، فضلًا عن أنها، حتى بعد اجتياح غزة، لم تتمكن من الوصول إليها.

لقد أظهرت، عملية طوفان الأقصى، "إسرائيل" عارية على الملأ، لدرجة أخذت تستنجد بحلفائها لدعمها، وقامت بعد ذلك بعملية انتقامية في حرب إبادة مفتوحة مثّلت فضيحة للضمير العالمي، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن زيف إدّعاءات بعض دعاة حقوق الإنسان وقيم العدالة والحريّة على المستوى العالمي.

وتمكّنت المقاومة خلال هجومها من الحصول على أسرار ومعلومات خطيرة، لا تتعلّق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل على بعض أسرار المنظومة الدفاعية "الإسرائيلية"، وذلك بوضع يدها على كومبيوترات ومعلومات مخزونة وأرشيف كبير، سواء عنها أو عن بعض "المتعاونين" مع "إسرائيل" أو عن المنظومة "الأمنية الإسرائيلية".

وثالثها – حرب الإرادة، وهذه مرتبطة بالسياسة من جهة وبالعقيدة العسكرية من جهة أخرى، فقد كانت "إسرائيل" تدرك أن النجاح في الحرب يعتمد على قرار سياسي أولًا وخطة عسكرية ثانيًا، وسيكون تحديد نتائجها للأقوى، ولذلك كانت دائمًا ما تبدأ بتحديد مكان وزمان المعركة ، وتضع الخطط المسبقة لذلك، ولكن المقاومة، هذه المرّة، كانت هي المبادرة، وهي التي حددت مكان المعركة وزمانها، فألهبت حماسة فلسطين بكاملها، بما فيها داخل الأراضي المحتلة وعرب اﻟ 48، كما يقال، ناهيك عن الضفّة والقدس، وعموم مناصري العدالة والحق على المستوى الكوني.

وسعت المؤسسة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية"، طيلة ثلاثة أرباع القرن، الإبقاء على تفوّقها من جهة، والعمل على تفكيك وإفشال أية محاولة لإعادة بناء القدرات الفلسطينية، عن طريق استراتيجية ما يسمى "قصّ الثيّل" أو "جزّ العشب"، وخلال العقدين المنصرمين عمدت "إسرائيل" إلى شنّ 4 حروب كبرى على غزّة بعد حصارها منذ العام 2007، وقبل عملية طوفان الأقصى، وهذه الحروب العدوانية هي:

الأولى في 27 كانون الأول / ديسمبر 2008 أسمتها "إسرائيل" "الرصاص المصبوب"، أما حماس فأطلقت عليها اسم "حرب الفرقان"، واستمرّت إلى يوم 18 كانون الثاني / يناير 2009.

والثانية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2012 ، وأسمتها "إسرائيل" "عامود السحاب"، ودعتها حماس "حجارة السجّيل" واستمرّت 8 أيام.

أما الثالثة في 7 تموز / يوليو 2014 وأطلقت عليها "اسرائيل" اسم "الجرف الصامد" أما حماس فأطلقت عليها "العصف المأكول" واستمرتّ 51 يوماً، حيث توقّفت في 26 آب / أغسطس 2014 .

والرابعة، في أعقاب "أحداث حي الجرّاح" في القدس والتي شهدت  مواجهات بين سكانها والسلطات "الإسرائيلية"، فانتفضت غزّة وكل فلسطين ما بعد الخط الأخضر تضامناً مع سكان حي الجرّاح في القدس، وشنّت "إسرائيل" عملية عدوانية كبرى أسمتها "عملية حارس الأسوار"، في حين أطلقت عليها حماس "معركة سيف القدس 2021"، حيث بدأ العدوان في 6 أيار / مايو 2021، وتوقّف إطلاق النار بوساطة دولية قادتها مصر في 21 أيار / مايو 2021.

وهكذا كانت "إسرائيل" في حالة "استرخاء" لاعتقادها أن المقاومة لا يمكنها شنّ حرب عليها بسبب الحصار والتجويع ومحاولات التفكيك المستمرة. ولعلّ ما يعزّز مثل هذا الاعتقاد هو بناء الجدار العازل اللّاشرعي واللّاقانوني واللّاإنساني. وبسببه كانت "إسرائيل" تشعر أنها أكثر "أمنًا"، خصوصًا وأن أية محاولة لاجتيازه تستهلك طاقة الفلسطينيين، حيث يبلغ طوله 770 كلم، وتم بناء 406 كلم منه، أي 52.7%، ويتراوح عرضه من 60– 150 مترًا في بعض المواقع، وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار لمنع مرور المركبات والمشاة، علمًا بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارًا استشاريًا في 9 تموز / يوليو 2004 بعدم شرعية  الجدار.

ورابعها – وحدة القرار والتنفيذ (الإرادة والعمل): المقصود بذلك التفوق بوحدة القرار السياسي والعسكري والإعلامي، وهو ما عرفته جميع الحروب "الإسرائيلية"، باستثناء ما بعد عملية طوفان الأقصى، فكان الانشقاق واضحًا، فبنيامين نتانياهو يلوم المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب عدم معرفتها بخطة طوفان الأقصى، سواء في مرحلة التخطيط أو الإعداد أو حين التنفيذ، وهذا يعني فشل المنظومتين الأمنية والعسكرية، في حين أنهما يلقيان اللوم على نتانياهو لتوريطهما في حرب مفتوحة  والخسائر التي منيت بها "إسرائيل"، وكلاهما يترصّد للآخر، فنتانياهو يريد زجّ الجيش بمعارك لا حدود لها، حتى لو سقط المئات من الجنود والضباط في هذه المعركة، بما في ذلك لو تم التضحية بالأسرى "الإسرائيليين"، طالما تؤدي إلى استمرار الحرب، لأنه يريد أن يظهر بمظهر "البطل"، كي يحمي نفسه بعد انتهاء المعارك من المثول أمام العدالة بتهم الفساد والتزوير، وبالمقابل، تترصّد له المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تريد إنهاء المعارك حقنًا لدماء الجنود واستعجالًا بمحاكمته.

ولعلّ ما أوقع "إسرائيل" في هذا الصراع، هو ازدياد حالات التذمر الشعبي، خصوصًا ضغوط عوائل الأسرى، والخسائر التي تعرّضت لها خلال عملية اجتياح غزّة، وذلك بعد تجريف الأجزاء الشمالية منها ودفع سكانها للهجرة إلى رفح باتجاه الحدود المصرية، فبعد أن كانت جميع الحروب "الإسرائيلية" تحظى باتفاق عام من الجيش والمستوطنين وسكان "إسرائيل"، فإن هذه الحرب أظهرت الانقسام الحاد بين حكم معزول ورئيس وزراء متّهم وجيش متذمّر، ومؤسسة أمنية مرتبكة، والأكثر من ذلك فإن الانقسام الشعبي والاصطفافات ضدّ حكومة نتانياهو التي سبقت الحرب ازدادت عمقًا، وآخرها امتناع وزراء من حضور اجتماعات مجلس الوزراء، وإعلان قادة عسكريين سابقين عن موقف مناقض لمواقف نتنياهو، وقرار جديد من المحكمة العليا بالتحقيق فيما حصل بطوفان الأقصى، حتى قبل انتهاء المعارك، وتلك مسألة تحدث لأول مرّة.

الحرب النفسية

لم تخلخل عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن "الإسرائيلي" فحسب، بل عملت على تبهيت صورة الجيش "الإسرائيلي" ، الذي لا يقهر وأسطورته، والذي يُقال عنه أقوى رابع جيش في العالم من حيث القدرات القتالية، والجيش الثامن عشر دوليًا، وهكذا انهارت صورة الردع "الإسرائيلي"، فالمحاصَرون والمجوَّعون انتصروا في لحظة تاريخية فارقة أذهلت العالم، الأمر الذي أدّى إلى استنفار حلفاء "إسرائيل"، الذين تسابقوا إلى تقديم النجدة العاجلة لها، والحج إلى تل أبيب حيث وصلها الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجية الولايات المتحدة بلنكن  ووزير دفاعها أوستن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك والرئيس الألماني فرانك شتاينماير ورئيس إيطاليا سيرجيو ماتاريلا، وهو ما وفّر لها غطاءً معنويًا لشن الحرب المفتوحة على المدنيين، ورفض أي مطالبة بوقف العدوان، ترافقًا مع الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، بحجّة:

1- استعادة الرهائن.

2- القضاء على قادة حماس وتفكيك بنيتها التحتية وإخماد أي صوت للمقاومة.

3- فرض سلطة أمنية جديدة على غزّة، صديقة "لإسرائيل".

4- تشطير غزّة ببناء حاجز يفصل بين شمالها وجنوبها.

5- تغيير نمط تفكير من يتبقى في فلسطين بتسفيه فكرة المقاومة، وإظهار عدم جدواها لقبول الأمر الواقع.

ودارت دورة الحرب النفسية الناعمة أيضًا في محاولة استبدال الوعي بالنصر لتحويله إلى موت ودموع ومأسي، وذلك بعد فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، فضلًا عن فشلها في تسويق روايتها بخصوص قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكأن همّ المقاومة ذلك، ناهيك عن أن العملية كلّها استغرقت 3 ساعات، فكيف يمكن أن يحدث ما هدفت "إسرائيل "إلى تسويقه؟ وللأسف فإن رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، ردّد ذلك، وعاد واعتذر عند قصف "مستشفى المعمداني"، باتهام جهات موالية لإيران، ثم ثبت أن الصاروخ أمريكي وهو مستخدم لدى جيش الدفاع "الإسرائيلي".

ومثل هذا الأمر ينبغي وضعه ضمن خطط المقاومة، لاسيّما استخدام كلّ ما يتعلّق بوسائل الحرب الناعمة، ووفقًا للذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة.

المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني

إن هدف رسالة الردع "الإسرائيلية" هو الإرهاب، ولذلك انفلتت عمليات التهديد لدرجة أن الأمر وصل إلى بيروت، التي هُدّدت بمصير غزّة، وبدأت مع ذلك المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني، فقد كانت المحطة الأولى هي إقامة "إسرائيل" العام 1948 بعد قرار التقسيم من الأمم المتحدة (1947).

ثم المحطة الثانية وهي احتلال كامل فلسطين، بما فيها القدس العام 1967، وضمها بقرار من الكنيست إلى "إسرائيل" (1980)، واعتبارها "عاصمة أبدية موحدة لها".

أما المحطة الثالثة، فهي التي بدأت مع طوفان الأقصى في العام 2023، بشن حرب إبادة ومجازر مروعة، باعتبار أن الفلسطينيين "حيوانات" يمكن تسويتهم بالأرض بهدف التهجير (ترانسفير)، والسيطرة على الأرض مجددًا (إعادة الاحتلال)، وتلك صفحة جديدة من صفقة القرن، التي يمكن شمولها لدول عربية أخرى، مثل الأردن (حسب ليبرمان) وسوريا ولبنان ومصر والسعودية والعراق واليمن، وإن كانت على مراحل.

وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد مرّتا، وحققت "إسرائيل" جزءًا من أحلامها التوسعية، فإنه بعد عملية طوفان الأقصى، بدى الأمر مختلفًا، على الصعيد الفلسطيني اولًا، وهو ما سيترك تأثيره عربيًا لاحقًا، وسيكون الأمر مؤثرًا كذلك على المستوى العالمي، فبعد أن خفت الحديث عن حلّ الدولتين، وطويت المبادرة العربية (بيروت 2002)، "الأرض مقابل السلام"، التي تعاملت معها "إسرائيل" باستخفاف كبير، ومعها حليفتها واشنطن، والتي كانت تريد من العرب "التسليم بالأمر الواقع" وركوب قطار التطبيع بلا عودة، وإذا بحديث الدولتين يعود بقوّة على المستوى العالمي، ويتصاعد الكلام في الأمم المتحدة وخارجها عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، طبقًا للقرارات الدولية.

سيناريوهان

شكل الارهاب جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، منذ ولادتها في نهاية القرن التاسع عشر، ونظر لها عرابوها من هيرتزل إلى جابوتينسكي، وتقوم الفلسفة الصهيونية على الإرهاب كنظرية عمل ونظرية حياة انطلاقًا من اعتبار "اليهود شعب الله المختار"، والشرط الجوهري لبلوغ ذلك، ليس سوى الإرهاب والعنف لمواجهة الوحوش الضارية، حسب هيرتزل، ووفقًا لجابوتينسكي تحطيم كل من يقاوم الصهيونية.

لا أحد يستطيع أن يقدّر متى ستنتهي الحرب وكيف ستنتهي؟

سيناريوهان يتصدّران المشهد، في الممكن وغير الممكن على المدى المنظور، أحدهما "إسرائيلي"، والآخر "فلسطيني"، الأول عاد بقوّة بعد عدم إمكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، إلى ممارسة الاغتيالات، والتي هي جزء من الفلسفة الصهيونية، فقد لجأت "إسرائيل"، خلال حرب الإبادة، إلى اغتيالات خارج دائرة العمليات الحربية فأقدمت على اغتيال رضا موسوي في دمشق وصالح العاروري (القيادي في حماس) في بيروت وقيادي من حزب الله في الجنوب اللبناني، وتزامنًا مع ذلك، اغتالت القوات الأمريكية مشتاق طالب السعيدي في بغداد من (الحشد الشعبي)، في إطار عمليات الانتقام من طوفان الأقصى.

السيناريو "الإسرائيلي" يريد استثمار التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي كي ما يؤدي إلى تغيير جيوسياسي، وذلك في الوعي والثقافة في الحاضر والمستقبل لإسدال الستار على القضية الفلسطينية لتصبح "ذكرى" أو "تاريخ"، والتمهيد لذلك يتم عبر تقطيع أوصال غزه، وتهجير سكانها وإيجاد من يقبل التعامل مع "إسرائيل"، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أشهر على شروع "إسرائيل" بحرب إبادة، فقد اضطرّت إلى سحب 5 فرق جديدة خارج غزّة، بعد فشلها من تحقيق أهدافها، كما سحبت لواء نخبة النخبة من الجولان، في محاولة لإعادة الانتشار، خصوصًا في ظلّ الضغوط التي تعرّض لها رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، والصراع بين القرار السياسي والقرار العسكري، بالرغم من الحرب المفتوحة، التي شنّتها "إسرائيل" على شعب أعزل،

أمّا السيناريو الثاني (الفلسطيني)، فإنه يقوم على إرغام "إسرائيل" على الحدّ من الاعتداءات على المسجد الأقصى، التي تكرّرت خلال السنوات الأخيرة، منذ محاولة حرقه في العام 1969 على يد مايكل دينيس روهان، وهو متطرّف من أصل أسترالي، إلى اليوم، علمًا أن المسجد الأقصى ليس رمزًا إسلاميًا فحسب، بل هو رمز تاريخي كوني، وهو ما أظهرته اليونيسكو يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 خلال اجتماع في العاصمة الفرنسية باريس بقرارها رقم 200، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بـالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثًا إسلاميًا خالصًا، بالضدّ من ادّعاءات "إسرائيل" وحفرياتها لإثبات عكس ذلك بزعم "وجود الهيكل".

ومن نتائج طوفان الأقصى، وقف قطار التطبيع، التي سارعت إلى ركوبه بعض الدول العربية، ظنًا منها أنه يمكن أن يساهم في عملية السلام في المنطقة، فضلًا عن الوقوف ضدّ مخطط تصفية القضية الفلسطينية، الذي كان يُراد له، في إطار صفقة القرن أن يدخل مرحلة التنفيذ لإنهاء فكرة قيام دولة، والقبول بالأمر الواقع ليصبح واقعًا، ومن النتائج الأخرى المحتملة، ضمن السيناريو الفلسطيني، إنهاء الحصار المفروض على غزة والذي يستمر منذ نحو 17 عامًا، فلم يعد ذلك مقبولًا ، ولا بدّ من التفكير في مسارات أخرى، خصوصًا بعد أن ساهمت عملية طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع "الإسرائيلي"، فضلًا عن التحوّل الكبير في الرأي العام العالمي لصالحها، حتى أن جنوب أفريقيا قدّمت طلبًا إلى محكمة العدل الدولية بشأن فتوى استشارية بخصوص ارتكابات "إسرائيل" في غزّة.

فأي السيناريوهين سيكون قريبًا من الواقع؟

لعل دروس تاريخ المقاومات تعلّم أن القوّة العسكرية والجيوش النظامية مهما أوتيت من جبروت وقوّة وامكانات علمية وتكنولوجية واستخباراتية، فإنه ليس بامكاننا تحقيق النصر على الشعوب الحرّة المكافحة من أجل استقلالها وحريتها وحقها في تقرير مصيرها، ومثالنا الحرب الأمريكية على فيتنام (1962- 1975)، حيث اضطرت في نهايه المطاف إلى تجرّع طعم الهزيمة على الرغم مما ألحقته من خسائر بالفيتناميين.

صحيح ان الحرب غير متكافئة، حيث لا يمكن قياس التفوق العسكري "الإسرائيلي" بإمكانات المقاومة الفلسطينية عسكريًا، لكنها فشلت في القضاء على حماس، بل أن الأخيرة أعادت طرح القضية الفلسطينية كمحور للصراع في المنطقة، بل قضية عربية مركزية، ويعكس الاهتمام الإقليمي والدولي بها شعوبًا وحكومات، ناهيك عن الرأي العام العالمي، بأنه لا بدّ من حلّ عادل ومقبول، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال إن آجلًا أم عاجلًا.

ويعود الفضل في كشف الوجه العنصري "لإسرائيل"، بكل سفور ودون براقع أو تزيين، إلى المقاومة، لدرجة أن نفورًا حصل في الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة، والذي كان باستمرار مؤيدًا "لإسرائيل"، وإذا بأعداد كبيرة من الشباب، أخذت تطالب بوقف الحرب، وتحمّل إستمرارها "لإسرائيل"، وتلك من الظواهر الجديدة التي أفرزها العدوان على غزّة، والبشاعة التي استخدمت فيها.

إن عملية طوفان الأقصى، وردّ الفعل "الإسرائيلي"، إنما هي صفحة جديدة ومهمة في صراع الإرادات والعقول، حيث تكون المطاولة فيها متنوّعة ثقافيًا وقانونيًا وديبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، حيث لا تنتهي المعركة بجولة واحدة، لأنها طويلة الأمد، ولكن النتيجة لن تكون إلّا لصالح الشعوب مهما طال أمد الصراع.

***

د. عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكر عربي من العراق

 

ظلت روايات الجاسوسية منذ بداياتها فنا ينتمي إلى أدب المغامرات في الدراما العربية والسينما العالمية حتى بدأت الصراعات الدموية والنزاعات المسلحة تفرض أحداثها المأسوية وجودها على خيالات رجال الفن السابع من خلال سيناريوهات جرى إعدادها من واقع الأحداث التي وثقتها تقارير الاستخبارات.

يجمع العديد من النقاد وأصحاب الأقلام الفنية على أن صورة اليهودي في الدراما التلفزيونية والسينمائية في مصر كانت إيجابية قبل بدأ الصراع العربي الصهيوني، حيث ظلت معظم الأفلام تصف اليهودي بالمرابي والبخيل بشكل كوميدي فقط وليس بنظرة عدوانية، والمفارقة ان معظمها كان من إخراج توجو مزراحي المخرج اليهودي الشهير، ويدلنا تاريخ السينما المصرية إلى تحولات مهمة لحقت بشخصية اليهودي فيها وفقا لطبيعة تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، ففي المرحلة الأولى أي تلك التي لم تكن مسألة العداء للصهيونية قد ظهرت فيها بوضوح، ظهر اليهودي إنسانا عاديا دون توصيفه بصفات سلبية وعرضت السينما أفلام أبطالها من اليهود مثل " شالوم الرياضي" وهو شخصية طيبة تساعد فريق رياضي كروي على كسب فرق أخرى أجنبية، وكذلك فيلم " شالوم الترجمان" وسلسلة أخرى بطلها شالوم ظهرت فيها شخصية اليهودي دون سلبيات، كما عكست بعض الأفلام الحديثة نسبيا مثل" فاطمة وماريكا وراشيل" و " حسن ومرقص وكوهين " حالة التعايش السلمي التي كان يحياها اليهود داخل المجتمع المصري باعتبارهم جزء من نسيجه.

ولكن بدأت الصورة السلبية بالظهور في أعقاب حرب 1948 وقيام الدولة الصهيونية، وسرعان ما تنامت بعد ذلك بعد حرب أكتوبر 1973 ويمكن اعتبار فيلم " الصعود إلى الهاوية عام 1978أحد الأفلام المهمة في صراع الدراما الاستخباراتية وهو يتحدث عن جاسوسة خطيرة عملت لصالح الكيان المحتل في الخارج وتم الإيقاع بها من خلال ضابط مخابرات مصري، ثم توالت المسلسلات التي ترسم ملامح أخرى لشخصية العدو وطرق محاربة سلوكه العدائي مثل " دموع في عيون وقحة" ثم " رأفت الهجان" و"السقوط في بئر سبع" و" الثعلب" و"الحفار" و"حرب الجواسيس " بالإضافة إلى أفلام الجاسوسية مثل" مهمة في تل أبيب" و" إعدام ميت" وكلها من وقائع مأخوذة من ملفات المخابرات العامة المصرية يعتبر الكاتب ماهر عبد الحميد صاحب أول عمل روائي يستند إلى وقائع من ملفات المخابرات في عمله الأدبي الموسوم " قصتي مع الجاسوس" المنشور في عام 1968 وكان آخر السلسلة من كتّاب قصص المخابرات هو الكاتب الدكتور نبيل فاروق صاحب سلسلة الكتب البوليسية الشهيرة " رجل المستحيل " وظلت المخابرات العامة هي التي تنشر الأعمال الأدبية إلى أن تبينت فيما بعد خطورة هذا العمل بعد اكتشاف أن هناك من قام بتحليلها لاستنباط أشياء معينة من بين السطور، وظهر بعد ذلك كتّاب آخرون استندوا إلى قصص حقيقية، ثم كان ظهور الكاتب صالح مرسي أشهر من كتب قصص المخابرات وأجاد حبكتها ليمثل انقلابا حقيقيا في هذا النوع من الروايات، ويجمع النقاد على أنه نجح في جعل الجاسوس في رواياته شخص له مشاعر وأحاسيس .

كان آخر حلقة من حلقات سلسلة الصراع الدرامي المخابراتي هو مسلسل " فارس بلا جواد " بطولة الفنان القدير محمد صبحي المأخوذ عن مذكرات الصحفي والمؤلف الراحل حافظ نجيب الذي تمتع بحس المغامرة واشتهر بقدرته العالية في التنكر والاحتيال وانتحال الشخصيات، ترك هذا المسلسل أثرا مزعجا في أوساط المنظمات الصهيونية حيث نقلت الصحافة الأجنبية تقارير عديدة عن هذه المنظمات عكست فزعها الشديد من تعرض المسلسل لكشف أو فضح بروتوكولات حكماء صهيون وبلغ الفزع حد المطالبة بتدخل وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت كولن باول وحثه على ممارسة الضغط على الحكومة المصرية لوقف عرضه إذ اعتبرت عرض المسلسل مظهرا من مظاهر التحريض على معاداة السامية، وتمكنت فعلا المنظمات الصهيونية من الحصول على قرار بالإجماع من الكونجرس الأمريكي بإدانة المسلسل .

لقد كسبت دراما المخابرات معارك الوعي، وساهمت في مهمة تنمية الشعور الوطني في مواجهة ضلال المعتقدات وزيف المبادئ التي تتعلق بالأرض والهوية والانتماء، واستطاعت دراما المخابرات المصرية تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفي لخدمة تعميق الوعي الوطني، وكذلك في بعث رسائل ضمنية ذات مغزى ومعنى موجهة للجهات الخارجية .

تميزت المعالجة الدرامية لأحداث أمنية خفية وقعت بالفعل بقدر كبير من الجاذبية الخاصة التي حققت التفرد باهتمام الجمهور لما تمتعت به من أهمية وحرفية عالية، ونجحت في فضح خيانات ترتكب باسم حقوق الانسان عبر منظمات تلتحف بستار المجتمع المدني، وفي إزاحة الستار عن زيف الإعلام المضاد وكشف حملات الترويج للمخططات الهدّامة والمؤامرات. أصبحت دراما المخابرات بمثابة سيرة ذاتية لأبطال حقيقيين كان لهم تأثير قوي في جهود ضمان الأمن والسلامة لأوطانهم وحملت أعمالهم الكثير من الإسقاطات على الحاضر، وهكذا يعمل الانتاج الدرامي في مصر على إعادة كتابة التاريخ وتصحيح من علق به من مغالطات وتشوهات .

***

صبحة بغورة

أخشى – ما أخشاه - أن يستيقظ العالم بعد فوات الأوان فيجد أهل غزّة، إمّا في القبور أو في الشتات أو في العراء أو جرحى في انتظار الموت السريع أو البطيء. وما جدوى البكاء والتنديد والاستنكار وصراخ الجماهير في الشوارع بعد إتمام فصول المذبحة في غزّة؟ إنّ البكاء على غزة بدعة العاجزين. فإنّ دماء الغزّاويين ودموعهم ستجرف عروش الخائنين والصامتين والمدبرين والمطبّعين والمستسلمين وأشباههم كلّهم.

ماذا جنى أطفال غزّة وصبيانها ونساءها وشيوخها حتى تسلّط عليهم الصهيونيّة والغرب معا كلّ هذه الألوان من العذاب المادي والمعنوي؟ لماذا عجز الضمير الإنسانيّ عن وقف الآلة الحربيّة الصهيونيّة عن ارتكاب هذا الكمّ الفظيع من الجرائم في غزّة؟ ماذا ينتظر العالم (الحرّ، المتحضّر) كي يوقف الجنون الصهيوني الأرعن، لم يشهد العالم مثيلا له في هذا العصر الحريص على حقوق الإنسان والحيوان؟ هل فقد العالم (الافلاطوني، الديمقراطي) البصر والبصيرة والسمع والفؤاد والحياء أمام مشاهد الدمار والإبادة؟ أم أنّ أهل غزّة والضفة كائنات خارج المنظومة البشريّة؟

إذا لم تُصنّف جرائم الصهاينة في غزّة في خانة الإبادة الجماعيّة والسلوك الهولوكوستي الشنيع، ففي أيّ خانة تُصنّف؟ الإبادة الممنهجة متواصلة على قدم وساق. والضحايا من كلّ مكوّنات المجتمع الفلسطيني يرتقون في كلّ دقيقة إلى ربّهم، والعالم مازال يمارس طقوس اللامبالاة والتجاهل والتماطل ولسياسة العمياء والتغاضي. إنّهم يمنحون مزيدا من الوقت للكيان الصهيوني من أجل رفع فاتورة الانتقام، ومزيدا من القبور لأطفال غزّة ونسائها وساكنتها عامة. لقد فهم الأحرار، لماذا فقدت أمريكا وأعوانها وأذنابها العقل والضمير الإنساني؟ إنّهم، جميعا، يريدون أن يحوّلوا غزة إلى مقبرة جماعيّة، تكون شاهدا على قوّة الغرب حين يغضب، ودرسا قاسيّا للشرق حين يتجرّأ على معاداة الغرب. وللأسف مازال القتلة للفلسطينيين في غزّة والضفة والقدس وفي المنافي وفي مخيّمات اللجوء، يسخرون من العالم، ويخاطبون العالم بلغة عاريّة من الحقيقة، متخمة بالكذب والادّعاء. يصفون جيشهم البربري بأنّه جيش دفاع وهو يهاجم الأبرياء، وأنّه جيش أخلاقيّ، ويعدم الأبرياء معصوبي الأعين، وقيّدي الأيدي وراء ظهورهم، يهدم آلاف الأطنان من الأسمنت على رؤوس الأطفال والنساء زاعما أنّه يحارب الإرهاب. وهل أصيب الساسة الغربيّون الداعمون بالعمى والصمم والبكم أمام تلك المشاهد المروّعة التي فاقت فظاعتها الخيال وتعدّت الجنون؟

إنّه لأمر يُحيّر الألباب، ويُشيِّب الولدان، أن يرتكب الصهاينة هذا الكمّ الفظيع من جرائم الإبادة الجماعيّة في غزّة، والأمم التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان لا تحرّك ساكنا، وكأنّ الذين يُقتلون بالأسلحة الغربيّة في غزّة ليسوا من سلالة البشر. هل اقتنع الساسة الغربيّون أن الكيان الصهيوني لا يقاتل في غزّة بشرا، بل حيوانات ووحوشا كما قال وزير دفاع العدو الصهيوني. إنّهم يمارسون الحرب من أجل الحرب، او كما قال توماس دو كوانسي: " الحرب صارت من الفنون الجميلة ". والصواب، أنّها صارت من الفنون القذرة. إنّ جيش الاحتلال الصهيوني الذي اقتحم غزّة بعد السابع أكتوبر، لم تكن مهمّته تحرير الرهائن لدى الفصائل الفلسطينيّة، بل كانت مهمّته القتل والتخريب،" ما أشبهه بذلك الضابط الذي يتحدّث عنه روبير ميرل في روايته " مهنتي هي القتل "، وهي شبيهة بفكرة شانغارينيي، لأنها تكشف عن الرغبة المسيطرة على نفوس العسكريين، وهي نيل المجد، وإخضاع البلاد. إنّها الحرب، أو التغنّي الرومنسي بالتقتيل " (1)

و قد كتب القبطان كلير: " إنّ الحرب التي نقوم بها اليوم في الجزائر حرب استثنائية.. فلا تُتّبع فيها القواعد المقررة في الحروب الكبرى والصغرى، والانضباط بين الجنود قليل، والتكوين العسكري يكاد يكون مفقودا، وكل ضابط يتصرّف كما يريد.. " (2)

لقد اقتحم مشاة الموت والطوابير الجهنّميّة لصهيونيّة غزّة من أجل ممارسة حرفة القتل والإبادة الجماعيّة المعتادة، منذ النكبة الأولى.

الزائر أو العائد اليوم إلى غزّة من معبر رفح، أو أيّ زاوية أخرى، سيكتشف عالما آخر من الخراب والدمار. لم تنج من آليات العدو الجارفة، ودبّاباته البيوت والمحلاّت والطرقات والأشجار. منظر يفوق منظر المدن الساحلية التي ضربها التسونامي ذات يوم. مشهد دراميّ يفوق ما آلت إليه هيروشيما ونكازاكي إثر إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما في الحرب العالمية الثانية. يتساءل الشاهد والألم يعصر قلبه: هل، حقّا، مرّ من هنا بشر؟ هل يمكن يصدّق المرء العاقل مقولة، من هنا مرّ جيش الدفاع الصهيوني، بل عصابات جيش الهجوم الصهيوني؟ لا، يمكن أن نصدّق أنّ بشرا مرّوا عبر شوارع مدن وقرى غزّة. بشرا لهم عيون وقلوب ومشاعر وعقول. إنّ الشاهد، ليتعجّب، كيف يصدر هذا السلوك الهمجي التتاري من آدميّ يدّعي الانتماء إلى العرق السامي زورا وبهتانا؟

لقد وصف المؤرخ روسي العمل الإجرامي الذي أقدم عليه الكولونيل بيليسيي سنة 1845 م في منطقة الظهرة بغرب الجزائر حين أحرق عرش أولاد رياح في إحدى المغارات التي فرّوا إليها ولجأوا فيها قائلا: " كان الحريق قد وصل إلى أمتعة اللاجئين. وفي الليل خُيّل للجنود أنّهم يسمعون ضجة لا تكاد تبين، وصيحات خافتة، ثم ساد صمت عميق. وفي وقت مبكر من الصباح استطاع بعض الرجال أن يخرجوا من المغارات فسقطوا مخنوقي الأنفاس أمام الحرس، وكان الدخان الذي انتشر في المغارات كثيفا مؤذيا إلى حدّ أنّ الجنود لم يتمكنوا في بداية الأمر من الدخول. على أنّنا كنّا بين الحين والآخر نرى مخلوقات بشريّة مشوّهة تخرج من المغارات زحفا على البطون، فيحاول آخرون ممن بقي متمسّكا بمبادئه إلى آخر رمق أن يمنعوهم من الخروج. وحينما تمكنّا في آخر الأمر من زيارة ذلك الجحيم بعد أن خمدت فيه النيران، عددنا أكثر من خمسمائة من الضحايا، ما بين رجال ونساء وأطفال. وقد أصيب جميع الحاضرين بوجوم شديد لهول الفاجعة " والحقيقة أنّ قوله " أكثر من خمسمائة من الضحايا " يعني ما يزيد على الألف. (3)

أمّا المسلمون؛ بعربهم وعجمهم، بجامعتهم الأعرابيّة ومنظمتهم الإسلامويّة، فينطبق عليهم المثل العربي السائر: أحشفا وسوء كيلة. فقد اجتمت فيهم خصلتين؛ الصمت والعجز. لقد خذلوا أهل فلسطين في غزّة ولم ينصروهم، واعتقدوا أنّ القضية قضيّة خبز وطحين وكفن لدفن الشهداء. ونسوا أنّ غزّة والأقصى وفلسطين كلّها ثارت من أجل الحريّة والعزّة والكرامة. لقد خدع المسلمون فلسطين منذ النكبة الأولى 1948 م، وادّعوا أنهم منتصرون لها ومدافعون عنها ومجنّدون للشهادة أو النصر من أجلها. اجتمعت ألسنتهم وتفرّقت قلوبهم، بينا الكيان الصهيوني يتباكى بكاء التماسيح إلى أن استعطف الغرب واستماله وانتفع من مساعداته.

و انخدع الفلسطينيّون، وظنّوا أنّ أبناء العمومة وإخوان العقيدة، سيعيدون لهم أرضهم المغتصبة. ونسيّ الفلسطينيّون أنّ الحريّة لا تؤخذ بالوكالة، وأنّ الثورات التحرّرية قادتها ومجاهدوها وشهداؤها أبناء الوطن. وليتهم استلهموا ذلك من ثورة نوفمبر الجزائريّة، وكفاح جنوب إفريقيا والثورات التحرريّة في إفريقا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة. لقد صدّق الفلسطينيّون أبناء العمومة وإخوان الملّة، بينا الكيان الصهيوني يكبر يوما بعد يوم، ويُعدّ العدّة والعدد في السرّ والعلن. إلى أن أمسى غولا يهابه أبناء العمومة، ويسعون للتطبيع معه سياسيا وثقافيّا واقتصاديّا وعسكريّا. إنّها الطامة الكبرى أيّها السادة.

لقد مارست ألمانيا الإبادة الجماعية في ناميبيا من عام 1904 إلى عام 1908، ومارست فرنسا الاستعمارية الإبادة الجماعيّة من 1830 إلى 1962 م، ومارس المهاجرون الأروبيّون الإبادة الجماعيّة في العالم الجديد) القارة الأمريكيّة، جنوبها وشمالها) وفي أستراليا، ومارس قبلهم النصارى القشتالبيّن بقيادة إيزابيلا وفرديناند الإبادة الجماعية بُعيد سقوط الأندلس ومارست إيطاليا الإبادة الجماعيّة في ليبيا،ى ومارست الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي تعتقل تمثال الحريّة الإبادة الجماعيّة في هيروشيما ونكازاكي وفي الفيتنام والعراق وأفغانستان ومارس الصرب العنصريّون الإبادة الجماعيّة في سيبرينيتشا البوسنيّة. إذن، الإبادة الجماعيّة فلسفة غربيّة استعماريّة ممنهجة ومقصودة، هدفها القضاء على الآخر قضاء مبرما. والصهاينة هم تلاميذ الغرب، وهم خريجو المدرسة الغربيّة الاستعماريّة الإرهابيّة. إنّ ظاهرة الإرهاب، التي أرّقت العالم، وبثّت الرعب في الشعوب، وشغلت المنابر السياسيّة، هي صناعة غربيّة مخابراتيّة خالصة، سواء بأيد غربيّة خالصة، أو بأيدي مرتزقة وعملاء من الشرق والغرب. هدفها السيطرة على مقدّرات الشعوب المستضعفة. ظاهرة الإرهاب نابعة من فلسفة غربيّة استعماريّة، آلياتها قائمة على إلغاء الآخر والسيطرة عليه. أصولها لاهوتيّة ثيوقراطيّة ÷دفها الأساسي محاربة الإسلام وكل ما هو مظهره دينيّ. لا عجب، ونحن نشاهد يوميّا إبادة جماعيّة ممنهجة في قطاع غزة والضفة وكامل فلسطين تقودها عصابات إرهابيّة صهيونيّة لا تمتّ لليهوديّة والإبراهميّة بصلة، بل هي خطر داهم على اليهود الذين لم ينخرطوا في التيار الصهيوني، ويبدون للعلم، علنا، معارضتهم للإيديولوجيّة الصهيونيّة القائمة على القتل الفردي والجماعي، بقيادة رهط من الصهاينة في فلسطين والغرب عموما. لنكن، واضحين وعادلين، وموضوعيين ونسال الغرب المتصهين – ونحن نتوقع نوع الإجابة سلفا: من هو الإرهابي الحقيقي؟ هل الذي يدافع عن أرضه وعرضه وماله ومقدّساته وحريّته إرهابيّ، أم المغتصب الظالم، القادم من الشتات، المقتحم لبيوت الامنين؟ إنّ الإجابة واضحة، لا لبس فيها. والعجيب في هذا العالم المكشوف العورة، أن نسمع زعماء الإرهاب الصهاينة في فلسطين المحتلة وفي الغرب، يزعمون بأنّ حربهم على أطفال غزّة ورضّعها وخدّجها ونسائها ومرضاها، هي حرب على الإرهاب. هكذا انقلبت موازين القيّم الإنسانيّة في الغرب المتصهين، وهو انقلاب قديم. فقد قامت الثورة الفرنسيّة بإسقاط الملكيّة والاستبداد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ورفعت شعارها المزيّف (الحريّة، الأخوة، المساواة) و، وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر، كانت سفنها الحربيّة تنزل الغزاة على شاطيء سيدي فرج غرب الجزائر العاصمة. وأعدمت، بل وأبادت فرنسا الاستعماريّة أكثر من خمسة ملايين جزائري. لقد خاضت فرنسا الاستعماريّة حربا صليبيّة في ربوع الجزائر من أجل القضاء على الإسلام واللغة العربيّة والسيطرة على الثروات ونهبها. وهذا بشهادة عساكرها وضباطها المجرمين. كتب الكولونيل فوري في سنة 1843 م عن غزو الجزائر: " انطلقت من مليانة وشرشال سبعة طوابير بهدف التخريب واختطاف أكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص اختطاف النساء والأطفال، لأنّ الوالي العام (وهو بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا، أن يلقي الفزع في قلوب السكان " (4) وأضاف: " اختطفنا في هذه الحملة ثلاثة آلاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في ما يزيد على عشرة من القرى الكبرى، وقطعنا أو أحرقنا أكثر من عشرة آلاف من أشجار الزيتون والتين وغيرها " (5). أمّا أبناء الجزائر، المقاومون، الشجعان، الأحرار، فقد استشهدوا وسالت دماءهم الطاهرة فداء للحريّة والكرامة. استعملت فرنسا وسائل الإرهاب كلّها من أجل إخضاع الأمّة الجزائريّة لإرادتها، استعملت أساليب الإبادة الجماعيّة (تدمير القرى والمداشر والدواوير) وتفقير الشعب وتجويعه، والتعذيب والنفي والإعدام بالمقصلة وبالرصاص والحصار بالاسلاك الشائكة المكهربة (خطا شال وموريس) واستعملت أفرادا جزائريين في تجاربها النوويّة بالصحراء (منطقة عين إن إيكر ووادي الناموس) وأقامت المحتشدات. كان الإرهاب الفرنسي فظيعا لا يقل فظاعة عمّا يقوم به الصهاينة في غزّة اليوم. وارتكبت الفاشية الموسولينيّة الإيطاليّة أفظع جرائم الإبادة الجماعيّة في ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين.

إنّه لمن المؤسف – حقّا – أن تتصدّر الولايات المتحدة الأمريكيّة الدول الكبرى الداعمة للإبادة الجماعيّة في غزّة – وهي جريمة إرهابيّة شنيعة -. أليست هي الدولة التي ينتصب على أرضها تمثال الحريّة وتضم مكاتب الهيئات الدوليّة المعتمدة؛ مجلس الأمن والجمعية العموميّة للأمم المتحدة وغيرها؟ أليس من التناقض العجيب أن تستغّل الولايات المتحدة الأمريكيّة حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار وتعطيل السلام في الشرق الأوسط؟

***

بقلم: علي فضيل العربي – ناقد وروائي جزائري

...............................

هامش: 1، 2، 3، 4، 5 – مصطفى الأشرف – الجزائر الأمّة والمجتمع – ترجمة د. حنفي بن عيسى – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – 1983.

 

في أعقاب نتائج قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في الأول من فبراير في بروكسل، تم اعتماد برنامج مدته أربع سنوات لمساعدة أوكرانيا في الميزانية بقيمة 50 مليار يورو، وقرر زعماء 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، أنه بحلول عام 2027 ستحصل كييف على قروض بقيمة 33 مليار يورو، وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل إنه سيتم إرسال 17 مليار يورو أخرى إلى أوكرانيا مجانا، وقال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كروس، إن الأموال مخصصة لتسليح القوات المسلحة الأوكرانية، وكذلك دفع رواتب موظفي الدولة الأوكرانية، وكانت المؤامرة الرئيسية تدور حول مصادر التمويل.

وشكك الكثيرون في إصرار المفوضية الأوروبية على تنفيذ قرار تخصيص 50 مليار يورو لكييف، ومع ذلك، كانت هناك شكوك حول الاتفاق على المبلغ وحول مصادر التمويل لهذا البند، الذي كان بمثابة نفقات كبيرة حتى بمعايير أوروبا الغربية بالنسبة لدولة ليست حتى عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكانت مكيدة أخرى مرتبطة بسلوك المجر، التي نجحت في السابق في منع هدر الأموال من وعاء الاتحاد الأوروبي المشترك للمغامرة الأوكرانية، وطالب بمراجعة الإنفاق ليس فقط على الأموال المخصصة لكييف، ولكن أيضًا على الإمدادات العسكرية.

ورأى عدد من البيروقراطيين الأوروبيين أن "يد الكرملين" تقف وراء هذا الموقف الرسمي لبودابست، إلا أن الساسة المجريين ألمحوا في البداية بكل شفافية، ثم بدأوا يتحدثون بشكل مباشر عن الوضع غير الطبيعي حين تنتقم المفوضية الأوروبية من دولة ذات سيادة في الاتحاد الأوروبي لاحترامها المصالح الوطنية، وتم اختيار التمويل كسلاح للانتقام - حيث تم منع Frau von der Leyen من تخصيص الأموال المستحقة للمجر تحت ذريعة بعيدة المنال، في الوقت نفسه، كان العمل جاريًا على ضخ أموال الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، حيث تم رسملتها على الفور من قبل ممثلي نظام زيلينسكي الفاسد تمامًا.

كما حاولت المفوضية الأوروبية حرمان الدول الأعضاء من حق النقض، فقامت السيدة أورسولا بعمل كبير في هذا الاتجاه، لكنها لم تكمل المهمة، لذلك، تم اتخاذ إجراءات دبلوماسية صارمة، والتي كانت كافية في صباح الأول من فبراير لكي يقوم أوربان بكل شيء بشكل صحيح من وجهة نظر المفوضية الأوروبي، ففي عشية القمة، في 29 يناير/كانون الثاني، صرح منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: "الحرب مستمرة، والقتال يتصاعد، ونحن لا نرى الضوء في نهاية النفق الأوكراني”، ومن خلال فهمه جيدًا للفرق بين الحرب والعملية العسكرية الخاصة، يستخدم رئيس الدبلوماسية الأوروبية هذا المصطلح عمدًا، مدركًا أنه لم يعلن أحد الحرب على أحد.

وللتذكير ففي بداية المنطقة العسكرية الشمالية، دعا المتشدد الكاتالوني إلى هزيمة روسيا "في ساحة المعركة"، وقبل ذلك أقنع الجميع بأنه لا يوجد بديل للتسوية الدبلوماسية للصراع، والآن يدعو بوريل نفسه، الذي يشير إلى عدم جدوى "النفق الأوكراني"، إلى ضخ عشرات المليارات الجديدة في ظلام الفساد هذا، ومن الطبيعي أن يطرح السؤال حول مشاركة واشنطن المالية في تمويل «النفق الأوكراني»، ومع ذلك، اختار مقيمو بروكسل عدم تذكر الجاني الرئيسي في أحداث كييف عام 2014، والتي أصبحت مقدمة للحرب الأهلية في أوكرانيا والمنطقة العسكرية الشمالية، وفي المقابل، لم يسعى ممثلو المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومة إلى طرح أسئلة غير مريحة.

وناقش المشاركون في قمة الاتحاد الأوروبي مشكلة مصادر التمويل لنظام زيلينسكي، وتقليديا، كان أفقر الأعضاء هم الأكثر تطرفا، فقد أصر ممثلو دول البلطيق على نقل الأصول المسروقة من روسيا إلى نظام كييف، في الوقت الحالي، يعتبرون "مجمدين"، أي تم نقلهم قسراً ووضعهم تحت تصرف الاتحاد الأوروبي، ولم تقرر البيروقراطية الأوروبية أبدًا إضفاء الطابع الرسمي على الممتلكات المسروقة فعليًا لروسيا ومواطنيها، وفي الوقت نفسه، تمت الموافقة على تمويل نظام زيلينسكي الإجرامي باستخدام عائدات البضائع المسروقة - وهذا هو الآن مستوى الثقافة القانونية للمسؤولين الأوروبيين وموظفي إنفاذ القانون، وقد أثر بالفعل على مناخ الاستثمار في الاتحاد الأوروبي.

لقد خيم النفاق والأكاذيب على القمة حتى قبل أن تبدأ، وليس من المستغرب أن يشير ممثلو 27 دولة عضو في البيان الختامي إلى كييف بالمساعدات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وذلك بالتزامن مع الالتزام بالمبادئ الديمقراطية سيئة السمعة، ويدرك الاتحاد الأوروبي تمام الإدراك الحظر المفروض على الأحزاب السياسية التي لا يروق لها النازيون الجدد في أوكرانيا، و"تطهير" وسائل الإعلام، والاعتقالات الجماعية للمنشقين الأوكرانيين، وإن المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي و"المؤسسات" الأخرى على علم تام بالاتجار بالبشر من خلال ما يسمى بـ "التبادلات"، حيث تتم الاعتقالات ويتم تجديد صندوق التبادل بالرهائن – مختلف Sidentami والمشبوهة بكل بساطة، ولا يتم حتى التحقيق في عمليات الاختطاف والقتل ذات الدوافع السياسية في أوكرانيا، ولا حديث فقط عن "أوديسا خاتين".

ودعا المشاركون في اجتماع بروكسل مرة أخرى إلى توفير مليون قذيفة للمدافعين عن نظام زيلينسكي الإجرامي، وفي العام الماضي لم يتصلوا، لكنهم وعدوا بتوفير نفس الكمية بالضبط، ولم يرد أحد على الفشل الذريع، وأشار زيلينسكي إلى ذلك في رسالة فيديو خاصة إلى المقيمين في بروكسل، واتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي قرارًا اعتبر بمثابة صفعة على وجه المزارعين وناقلي البضائع وممثلي المهن الأخرى الذين انضموا إليهم في أوروبا الغربية، حيث تشهد بلجيكا أيضًا احتجاجات، وعُقدت في عاصمتها قمة ذات أجندة سريالية.

ولا عجب - في هذا البلد الصغير العام الماضي، وفقًا للبيانات الرسمية، واجه أكثر من 7300 موظف من 83 شركة خطر تسريح العمال وتخفيضات العمال (أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2022)، ووقعت الضربة الرئيسية على فلاندرز وخاصة في مقاطعة أنتويرب، حيث تم تسريح 1537 عاملاً، وتتعرض أكثر من 1572 وظيفة للخطر في صناعة البتروكيماويات، يليها التوزيع والمنسوجات وتصنيع الأغذية وغيرها من الصناعات، وليس من قبيل الصدفة أن تنشر صحيفة بروكسل تايمز منشورًا عن القمة في مجموعة عامة حول الاحتجاجات الجماهيرية للمزارعين على الجرارات...

وقد أوضح المضربون في معظم الدول الأوروبية شكاواهم ضد التمييز. إن التسليم التفضيلي للحبوب الأوكرانية وغيرها من المنتجات الزراعية من هذا البلد، فضلاً عن الفوائد التي تعود على ناقلات البضائع الأوكرانية التي تطرحها في سوق الاتحاد الأوروبي، ليست سوى جزء من أسباب السخط، ومع ذلك، فإن هذا جزء مهم للغاية، والذي يشير بشكل لا لبس فيه إلى مذنب السخافة السياسية التي نظمتها "لجنة منطقة" بروكسل لإرضاء "اللجنة الإقليمية" في واشنطن، وتستعد المعارضة في الاتحاد الأوروبي، من اليمين واليسار، لتناوب النخب، وان أحد أسباب انتقاد الحكومات الوطنية وبروكسل هو "القضية الأوكرانية"، فعلى سبيل المثال، أثار زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، لارس كلينغبيل، بشكل مباشر مسألة الحاجة إلى مراجعة سياسة الهجرة، مع التركيز على المهاجرين من أوكرانيا.

ولا يقتصر الامر على بلجيكا، فوسائل الإعلام الأوروبية تقوم بتغطية القمة "الأوكرانية" في الأول من فبراير/شباط في سياق الاحتجاجات الجماهيرية، التي يقدم المشاركون فيها حساب هامبورغ إلى البيروقراطية الأوروبية والحكومات الوطنية، ومع ذلك، فإن كييف متوترة من أجل الابتهاج، و يتجاهلون بشدة حقيقة أن تمويل "النفق الأوكراني" قد انخفض، ففي نهاية المطاف، تبلغ قيمة 50 مليار يورو على مدى 48 شهراً في إطار برنامج التمويل الحالي حوالي 1.02 مليار يورو شهرياً، وللمقارنة، ففي عام 2023، بلغ إنفاق الاتحاد الأوروبي على "المساعدة لأوكرانيا" 18 مليار يورو، أي 1.5 مليار يورو شهريًا، بالإضافة إلى ذلك، ليس كل شيء يسير بسلاسة فيما يتعلق بمصادر التمويل، ومن المؤكد أن بعض الأموال المعتمدة ستبقى في الاتحاد الأوروبي، وسوف ينمو الدين الوطني الأوكراني، لكن زيلينسكي لن يسدده، وبالتأكيد لن يسدده بوريل.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مع استمرار الوضع السياسي المتهرئ في البلاد على حاله، والصراع وجها لوجه بين الخصوم، شيعي سني، مقابل الكرد، البارتي والوطني، لا زال شديدا، على الرغم من مرور ثلاثة أسابيع على انتخابات المجالس المحلية للمحافظات. لا زالت "عساكر الانقسام" السياسي الطائفي، في ظرف خطير للغاية، لم تفكر، ليس من باب المصلحة الوطنية العامة، إنما مصلحتها الخاصة على أقل تقدير، عدم ملء الخنادق أكثر من ذلك. والواضح أنها لم تدرك للحظة خطورة تجديف نتائج الانتخابات لنفسها فيما يتعلق بانتخاب رئاسة المجلس التشريعي بطريقة تتنافى مع الدستور والقانون. ولم تستوعب أن حقيقة النتائج تلك، ليست سوى أغلبية ضئيلة ولا شيء أكثر من ذلك. إذ إن حجم أصوات الناخبين التي حصل عليها أي حزب من الأحزاب المشاركة في الانتخابات، بمفرده، لن يتخطى عقبة 0:01 %. النتيجة، هل هذه نهاية الصراع على السلطة؟ بالتأكيد لا. إذ إنهم سيحاولون إبقاء النزاعات منبطحة تحت الغطاء حتى انتخابات 2025 الاتحادية، يسوقون نتائج المحلية على أنها عاصفة رعدية للتطهير السياسي وتأكيد الحضور.

وعلى الرغم من مرور عقدين على تغيير النظام، فالعراق لا زال يعاني العديد من المشاكل المذهبية والعقائدية والقانونية، التي تهدد طبيعة تنوع المجتمع العراقي والحريات العامة. أيضا من سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية وانتهاك القيم الإنسانية وحرمة القانون وحرية الرأي والتعبير. وفي الآونة الأخيرة ازدادت وتيرة ملاحقة الفائزين بالانتخابات وتهديدهم بالوعيد وسياسة الترغيب وغسل الأدمغة، لوأد طموح الناخبين في أكثر من ثماني محافظات في وسط وجنوب العراق، ثم امتدت رقعتها لتشمل المحافظات الغربية.

ولا زالت أحزاب السلطة الطائفية والاثنية "الشيعية والسنية والكردية"، التي وصلت إلى دفة الحكم في غفلة سياسية واجتماعية وفكرية، وبدعم من المحتل الأمريكي، تستنزف موارد العراق وتلعب بمقدراته دون رقيب أو حسيب، مما أدى إلى إنتاج طبقة سياسية فاشلة، تستأثر بالامتيازات السلطوية وحماية الفاسدين. وعانت الطبقة الوسطى المهمة في بناء الدولة العراقية منذ نشوئها من التآكل بشكل مقلق، فبعد أن كانت لحد عام 2007، تمثل 61 في المائة، انخفضت باستمرار إلى 30 في المائة من السكان. في الوقت نفسه، تضاعفت نسبة الطبقة السفلى "الفقراء" ثلاث مرات تقريبا من 23 بالمائة إلى 60 بالمائة. كما حلت بين عامي 2007 و 2020 طبقة جديدة من "الأثرياء الفاسدين" محل الطبقة العليا القديمة "الأغنياء" المشهود لها بالوطنية وإعمار العراق، وتقلصت من 16 في المائة من السكان إلى 10 في المائة. وتحت ذريعة الديمقراطية، تماهت الأحزاب التقليدية الليبرالية واليسارية في مغازلة أحزاب الإسلام السياسي والتيارات القومية الشوفينية داخل ما يسمى بالعملية السياسية، مما أحدث بشكل خطير للغاية خللا في موازين القوى.

ومنذ تشكيل "مجلس الحكم" سيء الصيت ولغاية اليوم، لم يتغير النسق الإجمالي في سلوكيات الطبقة السياسية. فالوزارات المتعاقبة تشكلها أحزاب وتكتلات عرقية وطائفية، تتناوب بالتوافق على إدارة شؤون العراق. يرافق ذلك خرابا ونهبا وتسويفا وكذب، وتحويل الوعي الاجتماعي إلى "عقيدة القوة" لبناء "الدولة العميقة" داخل الدولة ومؤسساتها بدل سلطة العدل والقانون وإسناد المهام لإدارة المحاكم أو القضاء. وفيما يؤكد الدستور على المبادئ الصارمة للسلطة القضائية والمحاكم لمتابعة الإجراءات القانونية، ومنها فرض العقوبات وملاحقة الفاسدين، مثلا، فإن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي أتى من رحم الأحزاب الطائفية، على أنقاض وزارة مصطفى الكاظمي، بدل أن يفي بوعوده الرنانة للإصلاح وملاحقة الفاسدين والقتلة وحصر السلاح بيد الدولة، يذهب بعيدا لمجاملة أحزاب السلطة وقياداتها المتنفذة وكف اللسان عن فضح تجاوزاتها على الدولة ومؤسساتها، لتأمين كرسيه الذي بات غير آمن بأي حال من الأحوال.

وفي نهاية عام 2022، فاجأ مجلس النواب المجتمع العراقي بـ "قانون جرائم المعلوماتية". الذي ينص على عقوبات رادعة تصل إلى السجن مدى الحياة وغرامات تتراوح ما بين 16 ألفا إلى 32 ألف دولار، دون الإشارة للجرائم الأخلاقية وأساليب الاحتيال التي يتعرض لها أبناء المجتمع بشكل سافر. فضلا عن كونه قانونا غير متوازن يؤدي إلى تكميم الأفواه والحد من حرية التعبير والرأي والتضييق على حرية الصحافة كما يعرض الصحفيون للدخول في إشكالات قانونية. ومما يزيد الطين بلة أن التعريفات جاءت فضفاضة، لا تراعي تنوع المجتمع العراقي، فالقانون بشكله الحالي يضع مسمارا في نعش الصحافة وحرية إيصال المعلومة التي كفلها الدستور للرأي العام.

إن الأحداث الأخيرة، منذ اندلاع الحرب الهمجية في غزة، مرورا بالانتخابات المحلية ونتائجها التي أفرزت العديد من التناقضات السياسية واتساع الصراعات الخارجية لتصفية الحسابات على الساحة العراقية إلى جانب المناكفات الطائفية الداخلية، قوضت بالدرجة الأولى مصالح المجتمع العراقي وسيطرة الأحزاب الطائفية الماسكة بالسلطة أكثر. كما أدت مع الظواهر الملازمة للعمل السياسي للأحزاب: تغليب الاستحواذ على الغنائم على مصالح المجتمع والدولة معا. ذلك ما كان يتحقق ما لم تتمكن طبقة النخبة من السياسيين العراقيين في الأحزاب الشعبوية العقائدية من تسويق فكرة، شعور بالضعف والمظلومية، اللذان يخلقان ياسا وإحباطا دائمين بين الخصوم. والشعور بالضعف، يعطي الخصم الطائفي أو القومي صفات غير محدودة، تجعل ضحاياه قطع شطرنج، يحركها، دون أن يكون لديها قوة ولا تأثير على ما يجري حولها. ولا يمكن فهم هذه الأسباب، فهي غير منطقية، ولكنها، تبدو كأنها نتائج من روح الإيمان والعقيدة. مما يجعل القوى المتحكم فيها داخل المحيط المجتمعي، عادة خاسرة في هذه المعادلة، وجماعات الفكر الغيبي تنتصر دائما. فيصبح تبرير الشعور بالمظلومية المرتبط بنظرية الضعف، أمرا لا فائدة من مقاومته، والحديث عن الحدث "التغيير" السياسي، كأنه جزء من أسطورة.

***

عصام الياسري

تعد جوديث بتلر واحدة من أهم فلاسفة  اليهود في القرن الحادي والعشرين، الذين رفضوا العنف والاحتلال الصهيوني بمنتهي الجرأة، لذلك  أتًهمت بمعاداة السامية  نتيجة  لدعمها لحقوق الشعب الفلسطيني في عيش حياة كريمة مستقلة، ذلك لأنه يصعب تحقيق السلام في فلسطين بينما الفلسطينيون محرمون من الحقوق الإنسانية والسياسية.

لذلك لُقبت بالمثقفة اليهودية الأخيرة، التي ما زالت تدافع عن القضية الفلسطينية من  أجل تحقيق السلام ورغم رؤية بتلر أنه يُصعب تحقيق السلام في هذا العالم لكن  تسعي لتحقق المساواة وايقاف العنف ليحصل الشعب الفلسطيني على حرية تقرير مصيره...

دافعت بتلر دائما عن حقوق الأقليات حول العالم  وخاصة الشعب الفلسطيني، ورغم كونها يهودية وقد فقدت جزءا من عائلتها فى محرقة الهولوكوست إلا أنها ترفض السياسية الصهيونية التي لا تمت للأخلاق اليهودية بصلة. أنما يسعى الاحتلال إلى طمس الهوية الفلسطينية  لذلك يسعي لقتل وتهجير الفلسطينيين على حدود البلدان دون امتلاك أبسط الحقوق الإنسانية  وهى الحياة، وكأن الفلسطينيين فائض بشري يسمح باستهلاكه وتدميره.

يوجد العديد من النقاط التى تناولتها بتلر بخصوص القضية الفلسطينية حيث لا يكفي هذا المقال لتناولها جميعاً، لكن مؤخراً نتيجة الحرب على عزة بسبب طوفان الأقصى أدانت تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خاصة مصطلح "إبادة جماعية " "حيوانات بشرية " لذلك قالت الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر إنه يجب أن نأخذ تعبير "إبادة جماعية" على محمل الجد لأن الهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضا السكّان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير وأشد انواع العنف...

كما أن الحيوات الفلسطينية ليست "حيوانات بشرية"، قائلةً "إذا كان الفلسطينيون حيوانات، كما يصر وزير الدفاع الإسرائيلي، فإن الإسرائيليون يمثلون الآن الشعب اليهودي كما يصرّ، فإنهم الأشخاص الوحيدين الذين يُظلمون في المشهد، لأن مشهد الحرب يتم إظهاره الآن كأنه بين الشعب اليهودي وبين الحيوانات التي تسعى إلى قتلهم"(1).

والحقيقة ان الصهيونية الآن  تقوم بدور النازيين قديماً اثناء مذبحة الهولوكوست لكن الضحايا الآن هم الشعب الفلسطيني بالإضافة الى  الصورة المضللة الذي ينشرها الأعلام الغربي عن الشعب الفلسطيني دون أن يذكر الكبت والقهر القتل الذي تعرض له الفلسطينيين طيلة 75 عام...

 لذلك شاركت “بتلر” مؤخرًا مع عشرات الكتاب والفنانين اليهود الأمريكيين في توقيع رسالة مفتوحة إلى الرئيس بايدن للدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. لأنها عضواُ في المجلس الاستشاري  لمنظمة الصوت اليهودي من اجل السلام. وذكرت بتلر عدد من الأسباب الذي دفاعها لتوقيع رسالة تدعو لوقف اطلاق النار في عزة ومن أهم هذه الأسباب:

العنف المنهج ضد فلسطين

علينا أن نفهم تاريخ العنف الذي تتعرض له فلسطين، بما في ذلك غزة، وجزء من هذا العنف  يتمثل في  حرمان الناس من مياه الشرب، والرعاية الصحية، والأغذية الأساسية والكهرباء، لكن الحقيقة هي أن العنف الذي نشهده ينتمي إلى عنف طويل الأمد، عنف عمره 75 عامًا، اتسم بالتفكك المنهجي، والقتل، والسجن، والاحتجاز، وسرقة الأراضي، والإضرار بالأرواح.

إبادة جماعية

وقعت  بتلر على عدة التماسات،  لوضع حد للإبادة الجماعية الفلسطينية إحداها تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار. وتابعت بتلر  : أعتقد أنني لا أستطيع التحدث نيابة عن جميع الأشخاص الذين وقعوا على تلك الرسالة. ولكننا كيهود نقول: "ليس باسمنا". هذا ما تفعله الدولة الإسرائيلية، وما تفعله القوات العسكرية الإسرائيلية لا يمثلنا. ولا يمثل قيمنا.

كذبة وحشية

أشارت “بتلر” إلى أنه عندما يدعي المتحدث باسم الأمن القومي الأمريكي أنه من السيئ للغاية أن يفقد المدنيون حياتهم في غزة، وأنه يتمنى ألا يكون الأمر كذلك، فهو في الواقع يكذب حيث يتم استهداف المدنيين(2).

فمنذ وقت طويل  تدعى الدولة الإسرائيلية ن جميع هذه الأهداف المدنية التي تضربها هي دروع للمنشآت العسكرية. يبدوا أن هذا تفسير مريح للغاية، لكنه لا يفسر قصف المنازل، والمستشفيات، واستهداف وقصف الأشخاص أثناء فرارهم من الشمال إلى الجنوب. لذا، أعتقد أن هذا اعتقاد خاطئ، وكذبة وحشية، إذا أردنا أن نكون صادقين. يجب ان ندرك اننا لا نتحدث عن قوة عسكرية متساوية، فأن القوة العسكرية في هذه المعركة غير متكافئة لكن الضحية هم الأطفال، النساء، المدنيين. لذلك يجب  إيقاف الابادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني، فهذه المعركة ليس للقضاء على مقاتلي حماس بل لإبادة الشعب الفلسطيني.

***

آية محي الدين عمر

.................

(1) آراء أربعة فلاسفة معاصرين بشأن الحرب في غزة : جوى سليم.  تم الأطلاع علية 2/11/2023

https://www.bbc.com/arabic/articles/c72r8vrvl85o

(2) رسالة جماعية لـ"بايدن".. الفيلسوفة اليهودية جوديث بتلر: "يجب وقف إبادة الفلسطينيين"، ترجمة حنان عقيل، تم الاطلاع علية 5/11/2023

https://www.dostor.org/4542883

منذ اندلاع الحرب الهمجية في غزة المحاصرة، تشتد بين الولايات المتحدة والعراق الانفعالات. بسبب الغارات العسكرية الأمريكية التي استهدفت قادة في الفصائل العراقية المسلحة، بعد توجيه هذه الفصائل صواريخها للقواعد الأمريكية... العراق يريد خروجا سريعا ومنظما للقوات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة من أراضيه، ولكن لم يتم تحديد موعد نهائي، كما يقول رئيس الوزراء. واصفا وجود تلك القوات بأنه مزعزع للاستقرار وسط تداعيات إقليمية.

مواقف السوداني الزعيم العراقي غير ثابتة، تعبر عن ردود فعل مثيرة للتساؤل داخل الأوساط العراقية. منها على سبيل المثال لا الحصر، القول: بأن تصرفات الجيش الأمريكي في العراق تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وإن التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية لم يعد ضروريا. لكنه، وفق ما نشر مؤخرا في وسائل الإعلام من معلومات سرية، يؤكد بأن بقاء قوات التحالف في العراق ضرورة!. وفي جنبه أخرى يشير إلى أن هجمات الفصائل العراقية على القوات الأمريكية تثير الانتقام الأمريكي، وإن العراق لا يرى الولايات المتحدة كعدو.

اكتسبت الدعوات التي أطلقتها منذ فترة طويلة فصائل أغلبها شيعية، قريبة من إيران، لرحيل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، زخما بعد سلسلة من الضربات الأمريكية على جماعات متشددة تشكل جزءا من قوات الأمن العراقية الرسمية. وأثارت تلك الضربات، التي جاءت ردا على عشرات الهجمات بطائرات دون طيار والصواريخ على القوات الأمريكية منذ أن شنت إسرائيل حربها على غزة، مخاوف من أن يصبح العراق مسرحا للصراع الإقليمي. وفي مقابلة صحفية في بغداد يوم الثلاثاء 9 يناير، قال السوداني "هناك حاجة لإعادة تنظيم هذه العلاقة حتى لا تكون مبررا لأي طرف سواء كان داخليا أو خارجيا للعبث بالاستقرار في العراق والمنطقة."

ومن المرجح أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى القلق في واشنطن بشأن زيادة نفوذ إيران على النخبة الحاكمة في العراق. حيث إن الجماعات الشيعية المدعومة من إيران اكتسبت قوة في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وربما سنشهد مزيدا من التوسع في ساحة الصراع في منطقة حساسة بالنسبة للعالم والتي تحتوي على جزء كبير من إمداداته من الطاقة ". الامر الذي دفع بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) يوم الاثنين 8 يناير، بالقول من أنها لا تخطط لسحب القوات الأمريكية الموجودة في العراق بناء على دعوة من حكومتها.

العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك، من بين أشد المنتقدين للحملة الإسرائيلية على غزة، ويعتبر القتل الجماعي وتهجير المدنيين الفلسطينيين حالة من الإبادة الجماعية. الا ان الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة على القوات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية في العراق غير قانونية وتتعارض مع مصالح البلاد. وإن الجماعات المسلحة، تستخدم مكانتها كأعضاء في قوات الحشد الشعبي، وهي قوة أمن حكومية بدأت كمجموعة من الميليشيات في عام 2014، كغطاء. لكن عندما يضربون القوات الأمريكية، فإنهم يعملون خارج التسلسل القيادي تحت راية المقاومة الإسلامية في العراق؛ وعندما تنتقم الولايات المتحدة، فإنهم يندبون خسائرهم كأعضاء في قوات الحشد الشعبي ويحصدون ثمار تصاعد المشاعر المناهضة للولايات المتحدة.

الدعوات لانسحاب التحالف كانت موجودة منذ سنوات، وحتى الآن لم يتغير الكثير. ففي عام 2020 صوت البرلمان العراقي لصالح رحيله. وفي العام التالي، أعلنت الولايات المتحدة نهاية مهمتها القتالية في العراق والتحول إلى تقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن العراقية، وهي خطوة لم تغير سوى القليل على أرض الواقع. الا ان حرب غزة أعادت القضية إلى الواجهة من جديد، حيث دعت العديد من الجماعات العراقية التي أوصلت حكومة السوداني إلى السلطة والمقربة من طهران إلى الخروج النهائي لجميع القوات الأجنبية" باستثناء الايرانية "، وهي خطوة سعت إليها إيران وحلفاؤها الإقليميون... لكن الا للشعب العراقي كلمة الفصل في امر خطير يتعلق بمصالحه الوطنية وامنه القومي؟.

***

عصام الياسري

في كثير من الأحيان يجد المرء نفسه محتارا وهو يحاول أن يجد مكانا يضع فيه فئة من فئات "المثقفين" و"الاختصاصين" و"الاستراتيجيين" العرب (وكأن الدول العربية لديها استراتيجيات) الذين يعملون محللين لمختلف الشؤون، وكثير منهم يحمل شهادات عليا ويعيشون في الدول الغربية (لذلك سميتهم بالمستغربين) حيث مولد العقلانية كم يدعى (نفيا لوجود أي عقلانية غير أوربية  سادت في أي مكان وفي أي زمن سبق). يبرز ذلك بشكل حاد عندما يتعرضون بالتحليل أو النقد لظاهرة ما في عالمنا العربي خاصة تلك المتعلقة بالصراع المحتد الذي يدور في المنطقة والذي دشن صفحة جديدة نوعيا منه القتال الدائر في بين فصائل تابعة للحركات الإسلامية (حماس والجهاد على وجه الخصوص) في غزة ومجموع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وبلدان المنفى ومعها ما يسمى ب "محور المقاومة" من جهة والجيش الإسرائيلي الغازي ومن يدعمه من الدول الغربية من جهة ثانية.

وضمن هذا السياق أخذ الهجوم الذي شنه أحد أطراف المحور على قاعدة عسكرية أمريكية ذكر أنها توجد على الحدود بين سوريا والأردن والعراق اهتماما خاصا دون الهجمات الأخرى التي شنتها فصائل  عراقية على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا بسبب أن الولايات المتحدة أعلنت عن عدد من القتلي (ثلاثة) وعدد من الجرحى يعتبر كبير نسبيا (خمسة وعشرون) وعبرت عن غضبها الشديد وأطلقت تهديدات أكثر من السابق. كما وأن الجديد في الأمر أيضا أن هذه القاعدة الأمريكية لم يكن يسمع بها أو يعرف عنها كثيرون وهذا ربما  كان هذا أحد العوامل التي أثارت الأمريكي لأن الأمر يتعلق بتواجده غير المعلن في بعض المناطق العربية.

وكالعادة ابتدأ الإعلام الأمريكي والغربي، وبالطبع الإسرائيلي،بالحديث عن إيران "وأذرع" إيران وراح هؤلاء "المحللون" العرب الذين ذكرت يرددون الرواية الأمريكية - التي كثيرا ما تصاغ في دوائر الاستخبارات والدوائر المؤيدة لإسرائيل في المؤسسة الأمريكية- ليس بالضرورة حبا بأمريكا (رغم أن هذا الحب موجود بكثرة لدى البعض) بل كراهية بإيران. وبالنسبة لهؤلاء لا يهم النفي الإيراني و لا تأكيد الطرف الذي قام بالهجوم  أن القرار نابع من إرادته الخاصة بل المهم لديهم هو ما تقوله أمريكا وإعلامها. إن هذا الميل إلى الربط التلقائي والذي يحيطه هؤلاء "المحللون" بزوبعة من الغبار الكلامي إنما يهدف إلى إعماء العين عن الواقع الحي وكذلك التاريخ القريب والبعيد لحقيقة الصراع الدائر في المنطقة  منذ أن وطأت قدم الاستعمار الغربي المنطقة ثم قيام دول إسرائيل في 1948 على أشلاء الشعب الفلسطيني الذي ناضل منذ ذلك الزمن على لملمة أشلاءه وإعادة الحياة إلى جسده المنهك جراء ذلك الظلم التاريخي الذي حل به ليظهر، من خلال ما يقوم به في غزة وفي الضفة الغربية وفي المنفى، أنه يصر على تثبيت وجوده على أرضه التاريخية وعلى لوحة تاريخ العالم.

هذا الشعب الذي ينبض قلبه بمعزوفة الأرض التي فقدها ويقاتل بما ملكت أيديه من أجل استردادها من مغتصبها الغربي منذ 75 عاما ودفع ويدفع من أجل ذلك سيلا من الدماء وأصبح شبانه وأطفاله ونساءه زائرين دائمين للمعتقلات الإسرائيلية حيث يسامون أسوأ أنواع التعذيب والإهانة، هذا الشعب بنظر هؤلاء "“المحللين”" لم يكن موجودا طوال هذا التاريخ بل وجد بعد أن وجدت إيران الإسلامية في سنة  1978. وربما يعتقد بل يؤمن هؤلاء “المحللين” أنه ما أن تهاجم الولايات المتحدة إيران أو تكف يدها (وهي بالطبع تعمل جاهدة على ذلك) فسيذهب الفلسطيني صاغرا إلى المغتصب الإسرائيلي متباكيا طالبا الصفح عما كان يفعله طول كل تلك السنين قائلا له: "هذه أرضكم إفعلوا بها ما تشاءون واعتبرونا ضيوفا مؤقتين عندكم تنتهي ضيافتنا متى ما شئتم. أما إيران فقد خدعتنا وضحكت علينا وإننا لكم تائبون"..وهكذا، بنظر اصحابنا من المتعمقين بالتحليل، يحل الرخاء والوئام على أرض فلسطين (عفوا يصبح اسمها  "أرض اللبن والعسل- ملك إسرائيلي صرف").  ولكن مهلا. هل فكر هؤلاء “المحللين” أن هذه النهاية التي يتمنون سوف تعني أنهم سوف يحالون إلى التقاعد لأنهم لن يجدوا بعد ذلك ما يتحدثون عنه وإن وجوهم المجملة بالماكياج سوف لن تظهر ثانية على شاشات التلفزيون؟؟

وإذ  بدأنا بفلسطين فلنكمل الكلام بشأن "محور المقاومة" ولنأخذ العراق ليس من باب التفضيل على غيره. دعونا نبدأ بتاريخ قريب لأن هذا التاريخ يرتبط بشكل وثيق بالتواجد الأمريكي المكثف في المنطقة. ألا وهو سنة 1991 عشية الحملة العسكرية الأمريكية  على العراق بعد احتلاله للكويت، هذا الاحتلال الذي كان سببا مباشرا لهذا الوجود المكثف كما ذكرت. لقد قام العسكر الأمريكي باستخدام سلاح الطيران بقتل 100 ألف جندي عراقي كان في طريقه إلى الأراضي العراقية منسحبا من الكويت بعد أن أعلن العراق قبول قرار مجلس الأمن واستجابتة للوساطات العربية وغير العربية. هذا الرقم المخيف  لعدد الجنود البسطاء الذين كانت تحكمهم سلطة تحتل عندها عقوبة الإعدام أولوية في سلم العقوبات، ذهبت دماءهم هدرا ولم يسأل عنهم أحد ولم يحمل أي طرف المسؤولية عما حل بهم. وإلى اليوم لم أسمع "محللا" او "ناقدا" سياسيا يحمل الأمريكيين مسؤولية هذه الإبادة الجماعية. هذه المجزرة التي ارتكبها الأمريكي بحق جنود عراقيين وهم بحالة شبيهة بالاستسلام يمكن أن تذكرنا دون عناء بقصف هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية بعد أن أعلنت اليابان استسلامها وبتدمير مدينة درزدن الألمانية عن بكرة أبيها بعد استسلام النظام النازي). وفي نفس الوقت الذي كان سلاح الجو الأمريكي يبيد هؤلاء الجنود  كان يواصل تدمير كامل البنية التحتية العراقية التي كانت تعتبر أفضل بنية تحيتة في الشرق الأوسط. هذا يجب أن ينسى بنظر هؤلاء "“المحللين”" وأول من يجب أن ينساه هو الشعب العراقي.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرضت الولايات المتحدة حصارا شاملا على العراق وصفه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك الجزائري الأخضر الإبراهيمي أنه أقسى حصار عرفه التاريخ (نرى صوره منه في غزة) وفقد جراءه ملايين الأطفال حياتهم بسبب سوء التغذية  وانعدام الرعاية الصحية وكانت العمليات تجرى في المستشفيات العراقية بدون مخدر لأن الحصار الأمريكي شمل هذه المادة حجتهم بذلك " احتمال وجود استخدام ثانوي لها من قبل النظام" أي حتى المخدر بنظرهم يمكن استخدامه في صنع أسلحة دمار شامل لم يملكها العراق يوما. ذات يوم وأنا أقرا النشرة الإعلامية الصادرة عن مركز الإعلام الأمريكي في دولة عربية قرأت أن من بين الخروقات التي سجلها المفتشون الدوليون الذين كانوا يفتشون عن "أسلحة الدمار الشامل" العراقية بحق السلطات العراقية أن أحدهم (لم يذكروا من) قد رمى مصباحا كهربائيا انكسر على الأرض أثناء مرور فريق التفتيش. يومذاك علقت ساخرا على «it must have been a chemical bulbالخبر بحضرة أستاذة جامعة بريطانية باللغة الإنكليزية: "

الأمر الذي أثاربالطبع ضحك السيدة البريطانية المعروفة بتسخيفها لكثير من الروايات الأمريكية عن تاريخ الولايات المتحدة لكونها تدرس تاريخ أمريكا فكان نصيبها أن منعت من دخول الولايات المتحدة حتى وهي تحمل فيزا من السفارة الأمريكية في ذلك البلد العربي فخسرت كل ما صرفته من مال من أجل السفر..

وفي سنة 1994 في عهد الرئيس كلنتون قام سلاح الجو الأمريكي مجددا بتدمير ما تم إعادة بناءه من البنية التحتية العراقية. ويتكرر الأمر في 2003 على يد أمريكا ثم بعدها في 2014 تقوم المنظما الإرهابية من القاعدة  إلى داعش- والتي بات الجميع يتفق أنها صناعة أمريكية-بريطانية-  باستكمال ما لم يستكمله الأمريكي من مسلسل التدمير. بل وحتى في  الحرب مع داعش عندما طلبت الحكومة العراقية معونة سلاح الجو الأمريكي مارس هذا السلاح قصفا عشوائيا خاصة في الموصل والأنبار وترك وراءه دمارا كاملا بحجة قصف مواقع الإرهابيين. (وقد فعلوا ذاك في مدينة الرقة السورية فتركوها خرابا ويعمل الإسرائيليون ما يشبهه في غزة).

هذا التاريخ المشين من التدمير الأمريكي للعراق وشعبه لا يتذكره هؤلاء "“المحللين”" وهم بالأصل غيرمعنيين به وكأنه لم يكن لأن الشعب العراقي بنظرهم عليه أن يعبر عن امتنانه للأمريكان على ذلك. وعندما يطلب البرلمان العراقي من الأمريكان وما يسمى بقوات التحالف بالانسحاب لأنه لم يعد بحاجة لهم لا يستجيب الأمريكيون وعندما تقوم جهات مسلحة كردة فعل وتضامنا مع غزة بشن هجمات على الوجود الأمريكي تثور ثائرة هؤلاء “المحللين” فيصيحون بأعلى أصواتهم: "إنظروا إنها إيران مرة أخرى"..

وكما في فلسطين عندما يتعين على الفلسطيني أن يعتذر من مغتصب أرضه على "سماعه كلام إيران" يعتبر هؤلاء "“المحللين”" أنه ما أن تكف إيران يدها عن العراق حتى ترى العراقيين وهم يعانقون الجنود الأمريكان في الساحات والشوارع ويدعوهم إلى بيوتهم قائلين لهم: "أعتبروا أرض العراق أرضكم وثرواتها شراكة بيننا. أنتم مرحبا بكم في حلكم وترحالكم. . لقد أدركنا إن ما قمتهم به من تدمير للعراق وقتل كان لمصلحتنا أما بالنسبة لإيران فقد خدعونا والآن نطلب منكم الصفح وعفا  الله عما سلف"..

أما في لبنان فتاريخ إسرائيل بالاعتداء المتكرر على هذا البلد وسرقته مياهه والاستيلاء على أراض هي تاريخيا جزء من الأرض اللبنانية وتدميرها الشامل لبيروت ومدن الجنوب اللبناني في الحرب التي شنتها على منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1982 واحتلال جنوب البلد قرابة عقد من  الزمن وغيرها من أعمال التخريب التي لم تتوقف يوما ضد هذا  البلد فلا شأن لمحللينا بكل ذلك. وعندما تنهض على خلفية ذلك الاحتلال مقاومة تطرد الإسرائيلي من الأرض اللبنانية وتعمل على استرجاع الأرض اللبنانية التي تستحوذ عليها لإسرائيل ثم تقدم الإسناد لغزة وللشعب الفلسطيني تصبح المسألة تستحق اهتمام محللينا. وجريا على عادتهم: "إنها إيران". لا ينكر الإيرانيون و لا المقاومة اللبنانية أنها تتلقى الدعم من إيران. ولكن السؤال يبقى كما هو في فلسطين والعراق: هل لولا إيران لما كان اللبنانيون يبالون بما تفعله إسرائيل بهم؟ هكذا يظن أصحابنا "المحللون".

لقد كانت سنة 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان هي بداية ظهور المقاومة اللبنانية والتي ضمت وقتها العديد من الأطراف كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي. في ذلك التاريخ كانت إيران منشغلة في حربها مع العراق وكان الحصار الأمريكي يطبق عليها منذ قيامها واستمرت الحرب العراقية الإيرانية حتى سنة 1988 بعدها انشغلت إيرات في تضميد جرح الحرب وإعادة بناء نفسها اي أنها منذ 1978 حتى نهاية الثمانيات لم تكن قادرة على لعب أي دور إقليمي لذلك لم يكن لها أي دور في تأسيس أو دعم المقاومة اللبنانية بل كانت هذه الأخيرة تعتمد على قواها الذاتية وموضوعها الإحتلال الإسرائيلي والأرض اللبنانية. بمعنى آخر كانت هناك عوامل موضوعية بل قانون بشري استلزم قيامها كما قامت أي مقاومة في العالم ضد محتل. فمن أين جاء محللونا بإطروحتهم البائسة "أنها ذراع لإيران؟"..و دون أن نطيل  نكتفي بالقول بأنه حسب منطق محللينا ما أن تختفي إيران حتى يتخلى اللبنانيون عن مطالبهم بأرضهم ويدخلوا بسلام ووئام مع إسرائيل تاركين لها حرية كاملة في أن تفعل ببلدهم وأرضهم ما تشاء وتصبح فلسطين بالنسبة لهم شيئا من الماضي لا شأن لهم به..

وكذلك في سوريا. ففي نظر محللينا ما إن توقف إيران تعاملها مع النظام السوري وتتوب للأمريكيين توبة نصوحا حتى يشكل الرئيس السوري بشار الأسد حكومة ائتلافية جديدة تضم في صفوفها ممثلين عن "جبهة النصرة" "وجبهة الخلاص" وعشرات غيرهم من المنظمات الإرهابية فتستتب الأمور في هذا البلد ويسود الوئام والانسجام مع أمريكا وإسرائيل. وبالطبع سوف يقدم النظام السوري الجديد اعتذارا لإسرائيل بسبب ما سسبه لها من ضيق وإزعاج في الماضي بسبب فلسطين..

وفي اليمن ما أن تختفي إيران من الصورة حتى ينسى اليمنيون حوثيون أم غيرهم التدمير الذي مارسه خلال السنوات السبع ما سمى زورا  ب "التحالف العربي" والذي دعمته الولايات  المتحدة وما فعلته بهم جارتهم السعودية طوال عقود مضت قبل ذلك من شراء وإفساد للذمم وتقسيم اليمنيين "شعوبا وقبائل" تفاضل بينهم حسب الولاء والطاعة لها...

وهكذا ينتهي "محللونا" برسم صورة للشرق الأوسط تناسب المزاج الأمريكي والإسرائيلي الذي يحرصون على استرضاءه. وعندما تستكمل الصورة كما في مخيلتهم سيلتفتون لنا قائلين: "إنظروا أترون ما أجملها  صورة بدون إيران. أليست أفضل وأجمل من صورة أن تقاوموا وترفضوا ما تطلبه منكم أمركيا وإسرائيل وتتحملون ما تتحملون من جراء ذلك؟..."

***

ثامر حميد

ذكرت الأنباء أن مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان "الحشاشين" قيد الإنجاز وربما سيعرض خلال شهر رمضان القادم والمسلسل من إخراج بيتر ميمي وقصة وسيناريو عبد الرحيم كمال وبطولة عدد من نجوم التلفزيون المصري من بينهم كريم عبد العزيز بدور البطولة. هذه وقفة استباقية في هيئة لمحة تأريخية مكثفة عند موضوع هذا المسلسل ألا وهو الحركة الإسماعيلية النزارية التي دأب خصومها وأعداؤها على تسميتها "حركة الحشاشين".

"الحشاشون" اسم تشنيعي أطلقه خصوم الفرقة الإسماعيلية النزارية وأعداؤها عليها وعلى مقاتليها وجمهورها كما قلنا. والإسماعيلية النزارية فرقة مسلحة ومعارضة للحكومات في العالم الإسلامي وللغزاة الفرنجة "الصليبيين" معا، نشأت في غضون القرن الحادي عشر الميلادي، ولم تتحول إلى طائفة دينية لاحقا حيث قُضيَ عليها وتمت تصفيتها بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي وتدمير بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعد أن صمدت الفرقة النزارية في القتال طويلاً أمام جميع خصومها من الإمارات والدول السنية العباسية والأموية، والشيعية "الفاطمية/ بمصر"، وحتى الإمارات الإفرنجية "الصليبية" الأربع؛ كونتية الرُّها (1098-1150)، وإمارة أنطاكية (1098-1287)، وكونتية طرابلس (1102-1289)، ومملكة بيت المقدس (1099–1291)، التي كانت قائمة في بلاد الشام. فهل سيتحول هذا المسلسل - كما تحولت مسلسلات تأريخية تجارية عديدة - إلى "مجزرة فنية" للحقائق التأريخية ووقائع الماضي التي طالما كتبها المنتصرون والمشتغلون في خدمة المنتصرين، أم أن نوعية الكاتب المرموق - عبد الرحيم كمال - الذي تصدى لكتابة القصة والسيناريو وصفاته الإيجابية العديدة ستنحو بالمسلسل منحىً موضوعياً آخر؟

 سأكون صريحاً مع القارئ فأقول؛ بصراحة، لا أدري إلى أي درجة سيظل مؤلف المسلسل الكاتب عبد الرحيم كمال، وهو كاتب متميز بين زملائه كتاب السيناريو المصريين والعرب عموما، وقد كتب عددا من الأعمال التلفزيونية النوعية والجيدة كـ "الخواجة عبد القادر" و"ونوس" و"شيخ العرب همام" ومسلسل "دهشة" المستوحى من مسرحية "الملك لير" لشكسبير. وقد تولى بطولة هذه المسلسلات كلها الممثل القدير يحيى الفخراني، أقول؛ لا أدري إلى أي درجة سيظل المؤلف وفياً للحيثيات والوقائع التأريخية الحقيقية، وينظر إليها بعينين نقديتين ومحايدتين مضمونياً ليكون هدفه الأول مقاربة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولن تدفعه مغريات الشاشة ومتطلبات الرقابة الحكومية في الدول العربية المشترية للمسلسل إلى الإخلال بتلك الحيثيات والوقائع والميل إلى النوادر والطرائف الملفقة من قبل خصوم هذه الفرقة ضدها!

ولهذا، سننتظر إذن حتى يعرض المسلسل ونرى، على الرغم من أن اختيار اسم "الحشاشين" للمسلسل وفي حالة النصب والجر وليس بالرفع "الحشاشون"، وهو الصحيح، لا يبشر بالخير! ومع ذلك سأقدم للقارئ هذه البسطة أو اللمحة التاريخية حول هذه الفرقة من باب العلم بها قبل مشاهدة هذا المسلسل وقد تكون لنا وقفة أخرى بعد عرض المسلسل إذا كان ذلك ضروريا:

- انشقت الفرقة النزارية عن الفاطميين ودولتهم في مصر. وجاء اسمها نسبة إلى زعيمها وإمامها نزار المصطفي لدين الله أحد أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/ 1094م). والأمر الذي يجهله عامة الناس في عصرنا، وحتى ممن يسمون أنفسهم مثقفين هو أن الإسماعيليين النزاريين لم يكونوا يسمون أنفسهم باسم "الحشاشيين"، بل أن هذه التسمية أشاعها ضدهم خصومهم "الفاطميون المستعلية" وأعداؤهم من المذاهب والدويلات والفرق الأخرى، أما هم فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "الدعاة الجدد" أو أصحاب "الدعوة الجديدة".

ولدت هذه الفرقة بعد الانشقاق الذي حدث داخل الحركة الفاطمية الإسماعيلية وشقَّها إلى شقين أو فريقين الأول هم "المستعلية" نسبة إلى المستعلي بالله والثانية النزارية نسبة إلى نزار وهما ابنا الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. حيث رأى المستعلية أن الإمامة لا يستحقها إلا المستعلي بن المستنصر، أما الفريق الثاني فقد رأى أن نزار، الابن الأكبر، هو الأحق بالإمامة السياسية والعَقَدية، وهو الأجدر بخلافة أبيه لأنه الأكبر سناً. وقد انحاز الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي وعن سابق قصد إلى المستعلي لضعفه ليسهل عليه استغلاله والتلاعب به، فقبض على نزار وقتله؛ فاضطر الهادي بن نزار إلى الهرب ففر إلى بلاد العجم "إيران"، والتحق بالخلايا والمجموعات الاسماعيلية لهذه الدعوة هناك، وكان على رأس هذه المجموعات آنذاك داعٍ داهية وشجاع هو الحسن بن الصباح الذي سيغدو زعيم الفرقة الإسماعيلية النزارية ومركزها قلعة "ألموت" في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/ 1090م.

كان ظهور النزارية عاملاً مهما من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين، كما خاضت الفرقة صراعات دموية الطوائف والإمارات الأخرى كالزنكيين والأيوبيين والخوارزميين.

بحثياً، يُعتقد أنَّ أول وثيقة ورد فيها استعمال اسم الحشاشين كوصف تشنيعي لهم كان في رسالة كتبها الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله سنة 517هـ/1123م وأرسلها إلى الإسماعيليين في بلاد الشام بعنوان "رسالة الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية: ويتلوها إيقاع صواعق الارغام في إدحاض حجج أولئك اللئام". وكان الهدف من هذه الرسالة التبرؤ من النزاريين ونقض مزاعم إمامهم وأخيه نزار المصطفي لدين الله بالإمامة والتأكيد على شرعية الخط الفاطمي الرسمي الذي يمثله هو، وقد استُخدم فيها مصطلح "الحشيشية" وهي كما أرجح ليست فصحى بل من عامية مصر والشام وكانت تعني الحشاشين ربما بقصد استصغارهم والإساءة إليهم ونفي انتسابهم إلى الإسماعيلية. ومن الجدير بالذكر أن الفاطميين أنفسهم كانوا ضحية لهذا الفعل التشنيعي ونفي النَّسَب الفاطمي من قبل خصومهم المذهبيين والفُرقيين الذين أطلقوا عليهم اسم "العُبيديين - نسبة إلى شخص قالوا إنه يهودي واسمه عبد الله بن ميمون القدّاح (طبيب العيون)، ونفوا أن تكون لهم أية صلة بفاطمة الزهراء كريمة النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله؛ فيما أكد مؤرخون آخرون من الشيعة وبعض المحايدين صحة نسبهم الفاطمي.

وقد نسبوا إلى مؤسس هذه السُلالة الإمام عُبيد الله المهدي بالله قوله "إنَّ الفاطميين يرجعون بنسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وعليه فهُم عَلَويّون، ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء". وبحسب أبحاث المؤرِّخ الروسي فلاديمير ألكسيفيتش إيفانوف في تُراث الإسماعيليَّة والفاطميين، فإنَّ اسم الفاطميين هو الذي أُطلق على الإسماعيليَّة في بداية الأمر. ويبدو أن خصومهم وأعداءهم أطلقوا عليهم اسما آخر للتشنيع عليهم حين اشتد ساعد حركتهم وأسسوا لهم دولة في بلاد أفريقية التي كانت تعني "تونس" حصرا.

ويذكُرُ المؤرخ المعروف محمد بن جرير الطبريُّ - وهو من السُّنة - أنَّ "بدو بني الأصبغ في بادية الشَّام، اتخذوا هذا الاسم "الفاطميين" تحت زعامة القُرمطي الإسماعيلي يحيى بن زكرويه". ومما أشاع الغموض في موضوع أسماء أئمة الإسماعيليين الفاطميين ودولهم عموماً أنهم كانوا يخشون التصريح بالأسماء الحقيقية لأئمتهم مخافة أن تبطش به السلطات العباسية وتقتلهم.

وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مفردة "الحشيشية" مرتين في رسالته سالفة الذكر من دون تقديم سبب واضح لهذا الاستخدام من قبله. وأعتقد أنه جاء تكرارا لاسم أطلقه عليهم العامة ممن شهدوا عملياتهم الفدائية الجريئة إلى درجة مذهلة حتى شكَّ الناس في أنهم لا يخافون الموت لأنهم يتناولون عقار الحشيشة فقد كانوا يقدمون على الموت الأكيد إقدام المستميت. وهذه طريقة يلجأ إليها العامة لتفسير ما يعتبرونه من خوارق المألوف من قبيل أن يقترب المقاتل النزاري المتنكر من ملك أو أمير حتى "المسافة صفر" وهو بين خواصه وحرسه المدربين ويعاجله بطعنة قاتلة من خنجره دون أن يتمكن أحد من منعه أو تفاديه. 

ثم شاع استعمال الاسم من قبل الكتاب الغربيين المرافقين للغزاة الفرنجة والذين يسمون أنفسهم "الصليبيين" وهم الذين أشاعوا هذا الاسم عليهم في الغرب. وكان النزاريون إذا فشلوا في الهرب بعد تنفيذ عملياتهم الفدائية يقتلون من قبل أعدائهم قتلاً شنيعاً ولكنهم لم يتوقفوا عن قتالهم وكفاحهم حتى الاجتياح المغولي. وقد اغتال النزاريون عددا كبيرا من الزعماء وقادة الجيوش من العباسيين والسلاجقة والصليبيين ومنهم الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفتين العباسيين المسترشد والراشد وملك بيت المقدس الإفرنجي كونراد. ورغم أن قائمة أعدائهم طويلة وتشمل جميع معاصريهم ولكنهم لم يسلموا من الاتهام بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك!

 وقد قضى المغول بقيادة هولاكو على هذه الفرقة في بلاد فارس سنة 1256م. حيث قام هذا القائد المغولي بمهاجمة الحشاشين واستطاع - بعد معارك ضارية ودموية خاضها النزاريون المستميتون -أن يستولي على عاصمتهم في قلعة ألموت وعلى أكثر من 100 قلعة أخرى من قلاعهم وإحراق للقلاع والمكاتب الإسماعيلية قبل أن يتجه - هولاكو - لمهاجمة العباسيين وعاصمتهم بغداد وتدميرها. أما في الشام فسرعان ما تهاوت الفرقة النزارية على يد الظاهر بيبرس سنة 1273م. وبهذا كفت عن الوجود التأريخي وتحولت الى أرشيف التراث الضخم للحركات المعارضة المسلحة في القرون الأخيرة من العصر الإسلامي قبل أن تبدأ شعوب أوروبا بالخروج من القارة العجوز وتجتاح العالم كله بأساطيلها وأسلحتها الحديثة.

هؤلاء هم الإسماعيليون النزاريون الذين يسميهم خصومهم وأعداؤهم "الحشاشين" أو "الحشيشية"، فهل سيكون المسلسل الذي سيتصدى لقصتهم منصفا وموضوعيا ومحايدا في مقاربة الحقيقة؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024.

أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والديبلوماسية.

وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطلاع على حيثياته، التي تلزم "إسرائيل" باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب "إسرائيل" بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب "الإسرائيليين" واعتبارهم رهائن.

لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007 ، وهو ما أعطى انطباعًا سلبيًا لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول:

أولًا -  إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أولي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علمًا بأن المحكمة رفضت طلب "إسرائيل" ردّ الدعوى.

ثانيًا - إن المحكمة أصدرت قرارًا أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة "إسرائيل" بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.

ثالثًا - يمثل القرار تقويضًا لشرعية "إسرائيل"، خصوصًا حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الديبلوماسية والقانونية، استكمالًا لجوانب المعركة الأخرى.

رابعًا - إن طلب المحكمة توفير الخدمات الاساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار "الإسرائيلي" المفروض عليها بقرار قضائي.

خامسًا - صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى "إسرائيل" في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي "الإسرائيلي" صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.

كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابيًا، وعلى نحو كبير جدًا، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات "الإسرائيلية" بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004، فلم تكن ملزمة، وإن كانت ذات قيمة معنوية مهمة، ويمكن البناء عليها. والقرار يطالب "إسرائيل" بتوفير وسائل الحماية المدنية لسكان غزة، بما يعني رفض القتل والتهجير وتدمير المرافق العامة.

يُعتبر القرار سندًا شرعيًا وقانونيًا لدعم الحق الفلسطيني في المعركة الديبلوماسية والدولية، كما أن تنفيذ هذا القرار التاريخي يتطلّب، أولًا وقبل كل شيء، وقف إطلاق النار حتى وإن لم ينص عليه، إذْ كيف يمكن وقف الإبادة الجماعية دون أن تكون الخطوة الأولى في ذلك وقف إطلاق النار.

وهو وإن كان قرارًا احترازيًا مؤقتًا، إلّا أنه سيكون مدخلًا لإصدار قرار بات واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت "إسرائيل" من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم "حق الفيتو" من جانب حلفاء "إسرائيل"، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون "متّحدون من أجل السلام" الصادر بخصوص كوريا العام 1950، وتلك مسألة يمكن مناقشتها في حينها.

***

عبد الحسين شعبان

سورية الجريحة، التي ما زالت تخضع لنظام سياسي واحد، لم يتغير أو يتبدل، هو نظام العائلة، الذي نستطيع أن نشخصه تشخيصاً صحيحاً، إذ زعمنا في جموح وإسراف، أنه قد أزرى "بسورية"، ووأد طموحها العاتي في التحرر، والرقي، وتداول السلطة،  فمثل هذه الأنظمة كما نعلم، لا تستطيع أن تحكم على كنه الأشياء، أو تقدرها، وتفكر فيها، إلا على النحو الذي يعظم أمرها، ويعلي من صيتها، ويستأنف وتيرتها في الحكم،  هذه العائلة-عائلة الأسد-  تستحوذ على الحكم، منذ سبيعنيات القرن المنصرم كما نعلم، ببهرجة زائفة، وزيف مبين، آخرها كان في شهر مايو عام 2021م، إذ حصد حينها الدكتور "بشار الأسد" أكثر من 95% من أصوات الناخبين، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن سادتنا في هذه المنطقة العربية، التي ما فتئت تستمسك بركاكة الماضي، ونحن هنا لا نلتمس عيبا، أو نبحث عن زلة، لا سمح الله، ولكننا نقول أنها ظاهرة لا يكاد يكون لها حد، وهي من مخلفات إرثنا السياسي، فنحن رغم هذا التطور البديع الذي يشهده العالم من حولنا، ما زلنا نرسف في أغلال وقيود "التوريث"، الذي لا تجد أحزابنا ونخبنا السياسية، مشقة ولا عسرا، في الهتاف له، والتماهي معه، فأحزابنا، ونخبنا، وحياتنا العقلية، تجتهد في أن تخلص لأصحاب السمو والرفعة، و تتملق بدورها كذلك كل من يزين بزته العسكرية بأوسمة، وأنواط، ونياشين، لا ندري كيف نالها، ومن هو الذي ثبتها على صدره المكتنز، وهو في الواقع لم يدحر عدواً قط، أو ينتصر في معركة ضارية كانت أو فاترة، لم ينتصر هؤلاء البهاليل السادة، والحماة الذادة، والملوك القادة، حتى في تلك الألعاب الالكترونية، التي استشرت في أوساط  هذا الجيل، والأجيال التي سبقته، فقد ألقوا أنفسهم عليها، وأظهروا لها هذا الود، وهذا الهيام،  لأنها تسليهم، وتنسيهم فهم الحقائق وتفسيرها، لهذا مالوا إليها كل الميل، ولا زال أثرها في الحق قوياً باقياً، حتى في نظمهم السياسية، وفي رؤاهم، وخططهم التي ينشدون تحقيقها، تلك الرؤى التي تبتغي تنشيط العقول، وحملها على التفكير، وتنشيط العقول لا يتأتى إلا برسم صورة رشيقة خلابة، هذه الصورة تخضع للترفيه، وتكلف الزينة، وجلب "المشخصاتية" وتكريمهم، والاحتفاء بهم، وكأنهم اجتهدوا في أن يخلصونا من أصار الذل، وأغلال الفقر، ورسف العبودية، لأنظمة فاسدة طائشة، هذه الفئات المترفة، التي تدمن التكلف والتصنع، وتجيد التنصل عن قيم مجتمعنا الشرقي، لم تنتهي بنا إلى حيث يقف الغرب -الذي تعشقة وتقتفي أثره- إلى حيث هو الآن من حرية وانعتاق، وعوداً على بدء، نزعم أيها السادة أن معظم حٌكامِنا الأماجد، الذين استمدوا حياتهم  الصالحة الخصبة من أبائهم وذويهم، قد أكملوا  هذه "العملية الانتخابية" التي تسبغ عليهم النعمة، وتنزههم عن صغائر تعافها الديمقراطية، فهم لم يبتهجوا بهذه النتيجة المشرفة، إلا لأنها ظاهرة يضيقون بها، ويتأففون منها،  ظاهرة  تستحدثها عائلاتهم لاسئناف راكد الحركة والحياة، ولاقناع دول الصلف والغرور، أن بلادهم تتكلف هذه الألوان التي فيها حرية، وفيها اجتهاد، لاختيار القوي الذي يطمح الشعب إلى تقليده وتنصيبه، "الأمين" الذي ينهض بوطنه ويبعده عن معرة التخلف والابتذال ها هو يستأثر بالحكم من جديد، والغرب الذي يعلم  أن الفوز حظاً مقصوراً على هذه الناجمة، يظهر الفرح والرضى، لأن دولنا العربية حافظت على قديمه وإرثه السياسي، الذي يغضبه أن تسعى دولنا لمحو آثاره،   يظهر الغرب الغبطة لأن المرشح الفائز، قد ناضل في سبيل تحقيق فوزه المستحق، وحتى لا أطيل وأسرف في الإطالة، أقول أن هذه النتيجة، لا تعني إلا أن السلطة قد جاءت قانعة راضية لصاحبها الذي لم يكن يتخلى عنها وإن أزهق أرواح نصف شعبه، بينما الشعب الذي لم يحسب لمثل هذا الاقتراع حساباً، أو يقدر له وجوداً، لأنه يعرف النتيجة مسبقا، يعي هذا الشعب أن حاكمه الذي يبغضه أحيانا، ويضيق به أحيانا أخرى، سيعود لا محالة، وأن هذه الانتخابات الممعنة في الكذب والتضليل،  لن يظفر منها إلا بهذا الكم الهائل من الاستياء، والكدر، لأجل ذلك نرى دائما هذا الوجوم الذي يلوح على محيا الشعوب العربية، بعد كل عملية مزيفة تجرى في محيطه، فالشعوب التي تزداد حياتها تعقيداً بعد إعلان مثل هذه النتائج، قد دأبت تختار غير هذا الحاكم، الذي  تفرضه عليهم النظم والأعراف، وحكامهم الذين قلّ أن تجد فيهم أثر للشعور والقلوب، يتناوبون عليهم مرات ومرات، وفي كل مرة يخيب حدس الشعوب، وتخيب ظنونها، لتستقبل خبر انتصارهم، بهذه اللوعة والحسرة، لتدفعها هذه الحسرة بعد حين، لأن تسلك سلوكا يلائم الكرامة،  بعد أن لاذت بالصمت عقودا  طوالا،  فهي أيقنت أن صمتها هذا لن يضيف إليها شيئا، فما هو الشيء الذي في مقدورها أن تفعله حيال هذا النوع من الحُكام؟  ذلك الصنف من أرباب الحكم والتشريع، الذي يجد في نفسه غضبا وحنقا، إذا التمس شعبه الخلاص من ويلات حكمه، هذه الطائفة ما أن تسمع بنبأ خروج الناس عليها، وتتحسس وقع خطواتهم، وهم مسرعين نحو قصورها المترعة بالجيوش والعتاد، حتى تتبدل عواطفها وأهواؤها، وتسقط قناع الديمقراطية الزائف عن وجهها، وتنتهج هذه الطرق التي تدفع نيران الثورات إلى الخمود، والرئيس بشار الأسد، كان واحداً من أفراد هذه الطائفة، فهو يقضي نصف ليله، وأكثر نهاره، يخامره احساس كأن شيئا ينقصه، هذه المشاعر الغامضة تتحدث إليه، وتدعوه أن يلجأ إلى الخشونة والعنف، في أبشع مظاهرها، وأن يظهر مخايل بربريته، ووحشيته، واضحة جلية، وأن يشقي شعبه بهذه العزلة التي تركها نصف من عاش من  شعبه، وفضل أن ينصرف عنها هائما في المحيطات والقارات، تركت هذه الجموع من شعبه وطنهم الذي تركض فيه المصائب وتتسابق إليه النكبات، "سورية" التي يحملونها معهم بين طيات قلوبهم، ليستقبلوا حياة لم يكن يعرفونها، حياة عظيمة الحظ من العناء، حياة كلها استعطاف وتضرع، وكل شيء فيها منكر و قبيح.

والدكتور بشار الأسد، مؤلم جدا هذا الشعور الذي نجده بين حنايانا، حينما ندرك أنه طبيب، والطبيب هو الذي يعالج هذه اللفائف البالية التي تعوقنا عن عن الاحساس بالعافية، ويبث فيها الحياة باذن المولى عزّ وجلّ، لتعود للعمل كسابق عهدها وسيرتها، الرئيس بشار الأسد طبيبا إذن، والطبيب كما نعلم هو الذي يطلق الإنسانية من قيودها، ويرسلها على سجيتها، حتى تتصل بمعان البرء، والسلامة، والتعاف، اتصالاً  قوياً، ولكن في الحق أن هذا الرئيس الطبيب، قد انحرف عن هذه المعاني انحرافا حادا، ولسنا نقول هذا الكلام من باب التزيد والافتراء، على سيرة الرجل، أو نطلقه هكذا جزافا من غير دليل، ولكن هذه النتيجة، هي خلاصة تتبع ذلك النشاط الحركي الذي انطلق في "سورية" عام 2011م، والذي اندفعت فيه جموع الشعب السوري اندفاعا عنيفا، حتى ترد الحرية والعدل إلى أقطارها وأمصارها، ولكن الطبيب استطاع أن يأخد شعبه والناس جميعا، بعادة  موروثة في أسرته، تلك الأسرة التي تقتصد في العدل، وتسرف في الظلم، لقد أفاض "بشار الأسد" على شعبه، من معين هذه العادة، التي حافظ عليها حفاظا شديدا، "فبشار" مثل والده تماما، يكره أن ينحيه أحدا عن منصبه، أو تناله آفات هذا التنحي، لأجل ذلك عمد إلى القسوة التي لم تكن موقوفة عليه، فالقسوة شيء تحبه أسرته، التي لا حياة لها، إلا بفضل هذه الوصمة، التي تسرف فيها ولا تقتصد، إذاً ليس من المصادفة في شيء أن هذا "الطبيب" الموغل في الوحشية أن يجعل حمم طائرته تلهو وتعبث بشعبه، فقائدها ما زال جذعاً فتياً، فيه بقية من شباب، والشباب يقتضي الميل للهو والمرح، والرئيس بشار كما عهدناه شديد النشاط، متصل الحركة، مع شعبه الأعزل،  الذي لم يتردد أو يتمهل من بقى منهم على قيد الحياة في الهجرة وترك "سورية" لسراة الناس، وأصحاب التملق العريض، والفئات المتعبة المكدودة، التي ألجئتها الفاقة، وصروف الحياة، لأن تبقى في معقل هذا الجحيم، الذي يجرعه إياها كل يوم "الطبيب الإنسان"، أدرك "بشار" أنه يحتاج إلى كثير من الوقت حتى يصل إلى الغاية التي تروقه، فالأجندات الدولية، وأصحاب العواطف الثائرة، الذين يقاتلون جنده في عزم وثاب، يتطلب منه ألا تحيا "سورية" حياة هادئة وادعة، وتكتفي فقط ببراميله المتفجرة، التي يقذفها على شعبه بوجدان شاحب، وقلب متقد، عليه أن يخرج كل العفاريت من مستقرها التي كانت عليه في مهاد الأرض، حتى يطمئن إلى حكمه، ويثق في مستقبله، فلا يشفق ولا يخاف، لأجل ذلك أضحت "سورية"، نهبا لكل طامع، وانتهى بها الحال، أن العدو الصهيوني البغيض يمطرها بصواريخه الموجهة في كل يوم، وشهر، وسنة، فيتغاضى "طبيبها الإنسان" عن حق الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع، فاسرائيل التي تزلزلها بطولات غزة الآن، ترى أن من حقها أن تؤذي "سورية" طالما أن حباً آثماً قد جمعها بايران، هي تزعم أنها تدافع عن نفسها، لأجل ذلك تضرب مذعورة أهدافاً لها في دمشق وغيرها، وواجب الدفاع عن النفس، سيظل مهيضا في "سورية" فما أكثر الأنظمة والدول التي تنتاش "سورية" الآن، فالكل ينتهز حالة الضعف والهزال التي تعصف بهذا البلد العظيم، ويسعى ولا عذر له في ذلك، أن يمتد ويستطيل، وبعد كل هذه السنوات من الإذعان والذل، بات واضحا أن "الطبيب الإنسان" لا يستطيع أن يخضع "سورية" لإرادته، فقد باتت مرتهنة للدب القطبي، ونظام الملالي، ووقاحة العم السام، وتدخل تركيا السافر، "سورية" تخضع لاملاءات متعددة الأقطاب، ولانتهازية الدول العظمى، "سورية"حقا في محنة منكرة، وهي عرضة لأن تمسي ضئيلة رغم ضخامتها، وغير صالحة للبقاء، في ظل هذه الحروب التي تعيشها في شتى بقاعها، فهذه الدول المتناحرة في سهول سورية وأراضيها، شديدة الطمع، شديدة الازدراء لشعبها، وهي تبذل كل ما تملك من جهد، حتى تظفر بمتغاها، ولا يعني روسيا أو الولايات المتحدة، أو إيران، أو حتى تركيا "الحانية" أن تلتصق"سورية" التصاقاً مريرا بالمعاناة، يعنيهم أن يلقوا أممهم مبتسمين، ويعلنوا لهم أنهم أذاقوا خصومهم صنوفا من الذل في الأراضي السورية، هذا ما يفعلوه غداة كل يوم، ولكن من ذا الذي يسرع إلى "سورية" ويأخذها بين ذراعيه ويسعى لتضميد جراحها؟ ويطلب إليها أن تنصرف عن هذا الخلاف، ولا ترضى بهذه الحياة، التي سخطت عليها وثارت،  ما زلنا نأمل في ظهور جهة تدرك أن "سورية" مظلومة مهضومة، وتسعى لانتشالها من هذه الحالة التي فيها الآن، وتجنبها نذر الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، فكلتا الدولتين تخضع لاضطراب ، عقلي، ناتج عن الآثرة والغرور والتكلف.

***

د. الطيب النقر

من 425 الى 1701

يتحدث البعض في لبنان والمنطقة عن الشرعية الدولية والتي تستمد شرعيتها من الامم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها الذي لا "يجلس" الأمن الا بما يتناسب مع من يملكون حق النقض الفيتو.

بين الحين والآخر يطل علينا رجال دين ودنيا في لبنان بدعوات لتطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان وتحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة وكان لبنان هو المعتدي وليس المُعتدى عليه.

اصحاب الدعوات تلك لهم أسبابهم السياسية، لكن يبدو ان بعد النظر احادي الجانب، ويجانب الواقع لان لبنان لم يجتاح اراض الكيان عشرات المرات، لا بل على العكس فإن إسرائيل هي من يعتدي دائما وكان من اكثر اجتياحاتها عمقا داخل الاراضي اللبنانية عام 1982، حيث وصلت قوات الاحتلال الى بيروت. بعد ذلك الاجتياح خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان والتي لم تكن لتتواجد في لبنان أصلاً لولا تهجير الاحتلال الفلسطينين من ديارهم ورفض عودتهم اليها.

وكان قد سبق ذلك اجتياحان الاول عام 1972 والثاني عام 1978 وقد صدر بعد هذا الاجتياح عن مجلس الامن القرار الاممي رقم 425 والذي نص صراحة الى سحب الاحتلال قواته من الجنوب دون قيد او شرط.

لم ينفذ الاحتلال القرار 425  رغم ارسال قوات تابعة للأمم المتحدة للأشراف على تنفيذه، ولم يتوقف العدوان على لبنان فكان عدوان 1993 الذي استمر لمدة 7 أيام، وفي العام 1996 شن الاحتلال عدوان آخر لمدة ستّة عشر يوم بحجة وقف صواريخ المقاومة التي كانت تسعى لتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب او ما عرف ب"الشريط الحدودي" والذي كانت تديره وبأشراف مباشر من قوات الاحتلال القوات المتعاملة مع أسرائيل جيش لحد "جيش لبنان الجنوبي".

بسبب عدم تنفيذ القرار425 استمرت عمليات المقاومة من أجل تحرير المناطق المحتلة حتى تم إخراج المحتل الاسرائيلي من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة في25 ايار عام 2000 دون قيد او شرط.

في العام 2006 شنت أسرائيل عدواناً كبيراً على لبنان بهدف القضاء على المقاومة وعامودها الفقري حزب الله انتهت الحرب التي استمرت33  يوماً بهزيمة الاحتلال الذي لم يتمكن من تنفيذ أي اهدافه المعلنة وغير المعلنة من تلك الحرب.

بعد ذلك العدوان صدر القرار الأممي 1701 الذي دعى الى وقف الاعمال القتالية دون وقف شامل لاطلاق النار، وتم تعزيز وزيادة عديد قوات الطوارئ الدولية بالاضافة الى دخول قوات أضافية من الجيش اللبناني للعمل على تنفيذ القرار.

 يدعو القرار إلى وقف كامل للأعمال الحربية يرتكز خصوصاً على وقف فوري من قبل حزب الله لكل هجماته ووقف فوري من جانب إسرائيل لكل هجماتها العسكرية.

يؤكد القرار انه من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كل الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل.

إسرائيل كعادتها لم تفي بالتزاماتها أمام القانون الدولي، ووقف خروقاتها للقرار1701 والتي تجاوزت 34 ألف خرق حسب إحصاءات السلطات اللبنانية قوات الطوارئ الدولية.

رغم أن إسرائيل تأسست بقرار من الأمم المتحدة، ما تقدم يظهر كبف تتعامل أسرائيل مع القرارت الدولية والامر ينطبق كذلك على كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لم تنفذ أي منها، لا بل تمادت في التوسع واحتلال المزيد من الاراضي الفلسطينية والعربية ضاربة بعرض الحائط كل القرارت الدولية والتي بلغت أكثر من 900 قرار خلال الـ 75 عاماً الماضية لصالح الشعب الفلسطيني، واولها واهمها قرار تقسيم فلسطين رقم 181 للعام 1947والقرار رقم 242 الذي تلا حرب 1967والذي ينص على رفض احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية وطالب إسرائيل بسحب قواتها.

هذا التجاهل الاسرائلي للقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لم يقابله أي ضغط من المؤسسات الدولية او يما يسمى بالمجتمع الدولي، الذي يتعامى لا بل يدعم أسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

أن الاطماع الاسرائلية في ثروات لبنان المائية والنفطية ليست خافية وما الاجتياحات التي نفذتها داخل الاراضي اللبنانية الا خير دليل على ذلك.

إذن، لماذا المراهنة على المجتمع الدولي والدعوة الى الحياد في الوقت الذي أثبتت فيه المقاومة الوطنية والأسلامية ان أسرائيل اندحرت من لبنان ليس بسبب القرارات الدولية او الدبلوماسية انما بسبب المقاومة التي ما زالت تشكل عامل ردع قوي لاٍسرائيل لعدم التفكير في غزو لبنان مجدداً؟

نعم، من مصلحة لبنان تنفيذ القرار 1071 لكن ليس من طرف واحد، لكن بقى السؤال ما هي الضمانات ان تلتزم اسرائيل يتنفيذه في الوقت الذي تقف فيه قوات الطوارئ كشاهد زور على عدم تنفيذه، كما فعلت مع القرار 425 لمدة 22 عاماً؟

***

عباس علي مراد

 

دخل العِراقيون، منذ 1979، في لُجةِ الحَيرة، ومازالوا في اللُّجةِ، فالنّظام السّابق لم يترك منطقةً وسطى، بعد إفراغ البلاد من العقل السّياسيّ. فهل تجدون دولةً تستغني عن عقلٍ قانوني وسياسيّ مثل رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز(ت: 1973) مثلاً، يُسجن ويُهان، داخل المعتقل الرّهيب «قصر النّهايّة».

كان مِن الصَّعب، على المغلوبين، مِن معتقلين وذوي معدومين ومهجرين، اتخاذ موقفٍ بين النّارين، نار النّظام وطغيانه ونار الحروب مع الخارج. بالمقابل، هل يُلام مَن يحن على النِّظام الكاسر نفسه، بعد الخديعة الكبرى، وما أثمرت إطاحته بالغزو، وتشكيل فصائل الموت، تتحكم بالعراق؟! فما حصل، بعد (2003)، يعطي كلّ الحقّ لمن ينسى موجعات السَّابقين، لأنَّ بأُفول الأمل يسود اليأس، لا يُلام ذوو المخطوفين والمغتالين والمشردين، إذا رأوا السّابقين أرحم وأخف، ففي الظّلام تتساوى الأشياء. أقول: مَن يتجاهل الحَيرة، وحده المستفيد من النِّظامين، فهناك طبقة تسبغها النّعمة، قبل وبعد 2003. غير أنَّ النّوادر، مَن استشعر الخديعة، واعتزل ما سيقطفه مِن ثمار معارضته.

كان المحامي والدّبلوماسيّ العِراقيّ رياض اليَّاور(1940-2024)، مِن النّوادر، ما إنْ شم المحاصصة الطّائفيّة، حتى ترك المعارضة والسّلطة اللاحقة جميعاً. فإذا كان أحمد الجلبيّ (ت: 2015) رأساً للشيعة في المعارضة، ولعب الدّور، مشيداً «البيت الشّيعيّ»، ولم يشعر بخطئه الفظيع إلا بعد «خراب البَصْرة»، وتجاهله مِن قِبل مَن أتى بهم، فكان الآخرون يرون برياض اليّاور رأس السُّنة في المعارضة، لكنَّ الأخير لم يحسب هذا الحساب، ولم يُشيد بيتاً سُنيَّاً.

كان يتوقع إزالة نظام، لم يعد يصلح محلياً ودوليّاً، وبزواله ستشرق شمس العمران، لكنه استشعر خديعة وراثة هذا النّظام مبكراً، ورثته حكومات لا حكومة واحدة، وجيوش لا جيش واحد، وإلا كان رياض اليّاور رئيساً بلا منافس، لو تغاضى عن الخديعة.

عندما طُلب مني العمل في «المؤتمر» (جريدة المعارضة)، محرراً لملفها الثّقافيّ (نهاية التِّسعينيات)، أشعرني الصّديق مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء فيما بعد، لمقابلة قطبيّ الشّيعة والسّنة، الجلبي واليَّاور، ففوجئت باستفساراتهما عن مقالات المعتزلة، ومسألة «خلق القرآن»؟ دون الإشارة إلى الجريدة، فسرني ذلك، وأنا أمام سياسيين مثقفين لإدارة العراق الجديد، وكان الياور يلح بالاستفسار، وتمنى استمرار الجدل في الأفكار، ولما قلتُ: سأعمل في الثّقافة لا السّياسة، كان جوابه: «هذا ما نريده».

لكنها فترة وجيزة، ويغيب اليّاور، بعد إعلان مظلوميات الطَّوائف، فالمحاصصة بدأت حتى داخل الجريدة نفسها، ما لا يتفق مع ثقافته العابرة للطوائف والقوميات. فلم يبق ذلك القوميّ حريصاً على شعارات ساهمت بتدمير العراق، إنما تحول كليةً إلى الوطنيّة الخالصة.

كان اليَّاور يعلم أن معارضته وغيره لا تُسقط الخصم، وإذا كانت المصلحة الدّوليّة، مِن وجهة نظره، تتفق لتحقيق الهدف، ليكن استثمارها عراقيَّاً، بهذا يدرك أكذوبة: إنَّ الشّهداء، والمحاربين للجيش العراقي، خلال حرب السنوات الثماني، هم من أزاحوا النّظام، بينما دخلوا خلف الدّبابات، رافعين صوراً ورايات مستوردة، مطالبين العراق بدفع خسائر الحرب.

كان إسقاط النّظام أميركيّاً خالصاً، لا فلان وفلان، هذه حقيقة، والقول لصاحب قصيدة: «أتيتُ بمنطق العربِ الأصيلِ»، أبي الطَّيب (قُتل: 354ه): «وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ/ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ»(العَرف الطّيب).

عندما قُضي على ثورة الزَّنج بالبَصْرة (255-270هجريّة)، وكادت تعصف بالخلافة العباسيّة، ادعى الكلّ، هو صاحب الانتصار، فقيل: «كيف ما شئتم قولوا/ إنما الفتحُ للولو» (المسعودي، مروج الذَّهب)، ولؤلؤ كان غُلامَ والي مصر، وقائد الجيش القادم مِن هناك، لمواجهة صاحب الزّنج مع الجيش العباسيّ. أقول: لا كتائب ولا دُعاة ولا آيات ولا عصائب «إنما الفتح للولو»! لا تكذبوا، فإن للتاريخ بصراً وسمعاً. ليت اليّاور ترك شهادةً، ولم يكتف باستشعار الخديعة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يتدهور مفهوم الوطن أو يغيب مادام الوجود والمرجعية تظلان للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، إنها حالة حصار للمواطن داخل البلدان العربية، تفرض علية هذه الوضعية أحد الأسباب الكبرى التي تحول دون تحوّل الدول الى أوطان بمعنى الكيان والمرجعية اللذين يتجاوزان الانتماءات الضيقة،ويظل الوطن الذي لم يتكوّن رهينة تصارع العصبيات على غرار تصارع القبائل في البادية على الكلأ والماء.

على أن الاستبداد حين يصل حد الطغيان، وحين تحيط الآجهزة الأمنية والسيادية بالمواطن العربي من كل مكان وتُحصى عليه أنفاسه، وحين يُعتبر السلطان أي سلطان بأنه مالك للأرض وما عليها، وبالتالي مَن عليها، وأن كل مصيبة وهم وبلاء يصيب المواطن ما هو إلا إحسان ومكرمة أو منّة منه، وأن له حق التصرّف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر وحتي قرار الموت، وهو بذلك يُهدر حق انتماء الإنسان ويُصادر حقه البديهي بالمواطنة، وقد اشار الي ذلك المفكر وعالم النفس اللبناني مصطفي حجازي / في دراسة تحليلية نفسية "

من كتاب بعنوان "الانسان المهدور" يقول: يصبح الإنسان غريبًا في وطنه فاقدًا للسيطرة على مجاله الحيوي وبالتالي محرومًا من الانطلاق الواثق في هذا المجال الى مجالات أرحب، ومحرومًا من الإنغراس الذي يوفر الثقة القاعدية بالكيان والاحساس بالمنعة . تتحوّل المواطنة من حق أساس إلى منّة أو هبة يمكن أن تُسحب في أي وقت. وبالتالي يُسحب من الانسان الحق في أن يكون ويصير من خلال ممارسة الإرادة والخيار وحق تقرير المصير وهذا ماحدث في عهد الرئيس المصري/حسني مبارك /في إجراء إستفتاء علي بعض مواد الدستور بشأن المواطنة.

وكانت لعبة سياسية أمام الغرب فقط،، كذلك إستبعاد طوائف وفيئات من المجتمع في منعهم من دخول كليات عسكرية وشرطية وفي القضاء بحجة أنهم فقراء أو أهاليهم من الطبقة الفقيرة اوالمتوسطة، إنها كارثة وجودية أخرى تجعل من أي مشاريع تنمية أو إنماء وعمران وكفاءات حديث خرافة، ذلك أن الإنسان المُستلب في وطنه ومجاله الحيوي لا يمكن أن يُعطي، وبالتالي أن يبني، ويقنع في أحسن الأحوال بالتفرُّج السلبي في حالة من الغربة، كما ينحدر الوجود إلى مستوى الرضى بمكسب مادي يغطي الاحتياجات الاساسية . وقد يستجيب الإنسان لهدر مواطنيته وانتمائه في أن يتصعلك مُتنكرًا لشرعية السلطان لمذهبة الديني وعرقة، وصولاً إلى التنكر للوطن ذاته في نوع من الهدر المُضاد،وهذا النموذج موجود في بلدان العرب من وجود عرقيات ومذاهب واقليات، إلا أن أشد درجات الهدر المضاد قد تتخذ طابع هدم الهيكل عليه وعلى أعدائه فيما بدأ يشيع من سلوكات تطرف جذري داخل المجتمعات العربية من حروب اهلية في{العراق وسوريا واليمن ولبنان،والسودان}والباقي تحت براكين خامدة من الإنفجار.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري ومتخصص في علم الجغرافيا السياسية

 

يعتبرقرار محكمة العدل الدولية منعطف تاريخي؛ وذلك عندما أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة، وصوتت أغلبية أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من سبعة عشر قاضيا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا باستثناء توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة، هذا القرار هو الافتراض الصحيح أمام انتهاكات إسرائيل ورسالة مختلفة بأن العالم يجب أن يستند إلى مبادئ أخلاقية يتم تطبيقها على الجميع، لأن العالم عاش مع انتهاكات إسرائيل المتواترة لما يقارب من ثمانية عقود.

إسرائيل وخلال ما يقارب من ثمانية عقود مضت لم تكن مستعدة للخير؛ بل على العكس من ذلك، لذلك حظي التاريخ بالكثير من القضايا التي وصلت إلى محكمة العدل الدولية خلال العقود الماضية ضدها ولكنها لم تصل إلى تحقيق العدالة التي يجب أن تكون موجودة في كل دول العالم دون استثناء، إسرائيل ارتكبت خطأ كبيرا عندما ذهبت في صراعها مع غزة إلى أبعد مما يجب وجعل العالم يفسر تصرفاتها رغبة نحو الإبادة الجماعية لسكان غزة التي يسكنها أكثر من مليوني إنسان، وليس من المنطق أن يكونوا جميعا هدفا في الحرب الدائرة.

إذا كانت إسرائيل بإعلانها الحرب على غزة ترى أنها مخولة في ذلك وفق معايير الدفاع عن النفس، فإن الواجب عليها أن تثبت للعالم أن وراء ذهابها لتلك الحرب قضية عادلة وليس هجوما على الإنسانية في مجتمع غزة دون تفريق في المعايير، إسرائيل التي باشرت الحرب على غزة عملت على استغلال الموقف لتحقيق أهداف متفرقة رفضتها محكمة العدل الدولية التي أثبتت بالأدلة والبراهين أن ما حدث في غزة تجاوز فكرة الحرب الطبيعية، فالتدمير والتهجير اللذان حدثا والقتل الشامل مشهد يصعب تصوره في الواقع الإنساني

اليوم نشهد بداية اصطدام إسرائيلي مع مواقف دولية جديد ومفاجئة لإسرائيل التي لم تعتد عليها، فما حدث في غزة هو ضد كل المعايير الإنسانية، وتدمير غزة وسكانها بهذه الطريقة لم تستطع إسرائيل تبريره إلا وفق معادلة هشة وغير مقبولة، لأن عدد من قتل من الفلسطينيين كان مسارا محتملا نحو الإبادة الجماعية بلا أدنى شك، وهذا ما أدركته محكمة العدل الدولية ونطقت به في حكمها، فرص إسرائيل الفعلية هي التخلي عن أحلام بعيدة والعودة إلى الواقع وقبول مشروعات السلام التي تمنح الفلسطينيين حقهم، وإلا فالنتيجة المنتظرة انقلاب دولي تدريجي تجاه أفعال إسرائيل وسيفرض عليها مستقبلا ما يريده العالم وليس ما يريده نتنياهو.

محكمة العدل الدولية معنية، منذ تأسيسها عام 2002، بمحاكمة ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو تطهير عرقي، فقد امتنعت واشنطن عن التوقيع على اتفاقية الانضمام إليها، وعندما وصل الأمر لاتهام الجيش الأمريكي بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد معتقلين في أفغانستان عام 2018 هددت واشنطن القضاة العاملين في المحكمة بالمنع من دخول الولايات المتحدة وبتجميد أرصدتهم البنكية وبمحاكمتهم، وذلك لأن محاكمة جنود أمريكيين، كما قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها، «تعد خرقا لسيادة بلاده,, ورغم ذلك من الناحية القانونية، فإن خيبة الأمل الانسانية لا يجب ان تحجب الأنظار عن الانجاز الهام لقرار المحكمة ولأسباب عدة. فالمحكمة، وبأغلبية كبيرة، قررت ان ما تقوم به اسرائيل يشكل سببا معقولا للظن بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ولذا فالمحكمة أقرت بصلاحيتها النظر في القضية المرفوعة من قِبَلِ جنوب أفريقيا. يجب هنا ان نُفرق بين الإدانة الشعبية التي لا تحتاج إلى مرافعات ومداولات، وبين الإدانة القانونية التي تتطلب دراسة كل الحجج والبيّنات قانونيا ومن مختلف الأطراف، الأمر الذي يأخذ حكما، وقتا طويلا. إذن، فان مجرد قبول الدعوى وضع إسرائيل قانونيا في موضع الاتهام من أعلى سلطة قضائية دولية.

***

نهاد الحديثي

يبدأ حلف شمال الأطلسي قريبا، أكبر مناورة عسكريه له منذ الحرب الباردة باسم مناورات "المدافع الصامد 2024"، وهو اسم الدورة التدريبية القتالية للجيوش الغربية، وتستمر حتى مايو 2024، ومن المقرر أن يشارك في التدريبات نحو 90 ألف فرد وأكثر من 50 سفينة ونحو 80 مقاتلة ومروحية وطائرة بدون طيار وما لا يقل عن 1.1 ألف مركبة قتالية، منها 133 دبابة و533 مركبة قتال مشاة.

وكانت آخر مرة أجرى فيها حلف شمال الأطلسي مناورات بهذا الحجم في عام 1988، حيث شارك فيها 125 ألف جندي، وفي القرن الحادي والعشرين، جرت آخر مناورات واسعة النطاق يمكن مقارنتها بالتدريبات الحالية في عام 2018، وشارك فيها حوالي 50 ألف جندي، وقد يتساءل البعض، لماذا يقوم حلف شمال الأطلسي بمناورات "المدافع الصامد 2024" الضخمة والمكلفة للغاية؟ في ظل وجود أزمة اقتصادية في أوروبا، واحتجاجات المزارعين، ومشاكل مالية في أوكرانيا، علاوة على ذلك، فإن روسيا لن تهاجم أي دولة من دول الناتو.

ولا يختلف اثنان اليوم في الرأي، من إن البرنامج الأقصى لقيادة الناتو هو تخويف القيادة الروسية وإجبارها على الاستسلام، ومع ذلك، هذا أكثر من إشكالية، ولكن سيتم ضمان اكتمال الحد الأدنى من البرنامج، لأقناع المواطن الأوروبي في الشارع بأن حلف شمال الأطلسي "من التايغا الفنلندية إلى البحار البريطانية" ، هو "الأقوى على الإطلاق"، وسيحصل الأفراد العسكريون في القوات المسلحة الأوكرانية، وسكان أوكرانيا على ضمانة "النصر".

ليس سراً أن القوات المسلحة الروسية، هي أدنى بكثير من الناتو في الأسلحة التقليدية في البر والبحر والجو، ومع ذلك، يعيش العالم في العصر النووي منذ أكثر من 70 عامًا، ولولا الأسلحة النووية، لكانت مسألة وجود حلف شمال الأطلسي قد تم حلها في الخمسينيات من القرن الماضي ، في ظروف التفوق الكامل للجيش السوفيتي على القوات المسلحة لجيوش أوروبا والولايات المتحدة، وإن الطريقة الوحيدة الممكنة لوقف تأثير مناورات الناتو ، هي إجراء تدريبات في موقع اختبار"نوفايا زيمليا" (أرخبيل نوفايا زيمليا، المدرج في حدود منطقة أرخانغيلسك- تم إنشاؤه في عام 1954 لدراسة الآثار الضارة للانفجارات النووية على المنشآت البحرية)، بتفجيرات نووية حقيقية، علاوة على ذلك، يمكن دمج هذه التدريبات مع تجارب الأسلحة النووية.

بالإضافة الى ذلك انفجرت وسائل الإعلام الغربية الرائدة بوابل من التعليقات على تقرير جديد صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) ومقره لندن، بعنوان "الفكر والعقيدة العسكرية الروسية فيما يتعلق بالأسلحة النووية غير الاستراتيجية: التغيير والاستمرارية، والمعهد ، هو مركز تحليلي عسكري غربي رائد متخصص في تقييم الإمكانات العسكرية للدول حول العالم، ويحدد التقرير الجديد بشكل أساسي العقيدة النووية الجديدة للاتحاد الروسي، والتي تم وضعها بموجب مرسوم أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتاريخ 2 يونيو 2020، وجاء فيها بالأبيض والأسود: “إن الاتحاد الروسي يحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية رداً على استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضده و(أو) حلفائه، وكذلك في حالة حدوث ذلك”. العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة في حد ذاته مهددًا ...

ويرى المراقبون الروس ان مؤلف التقرير هو المحلل العسكري البريطاني الشهير ويليام ألبيرك، شغل سابقًا منصب مدير مركز الناتو للحد من الأسلحة ونزع السلاح وعدم الانتشار (ACDC)، والذي عمل لمدة 25 عاماً في مجال الحد من التسلح ونزع السلاح وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، ويحلل إمكانية استخدام روسيا "الأسلحة النووية غير الاستراتيجية" (Nonstrategic Nuclear الأسلحة) وهذا ما تشير إليه اللغة العامية العسكرية الغربية بالأسلحة النووية التكتيكية والعملياتية، المجهزة بشكل خاص بصواريخ كروز، انه من الواضح أن ألبيرك يشوه "الحقائق والحقائق" عندما يزعم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "ينظر إلى NSNW باعتبارها سلسلة من الأدوات المرنة التي يمكنه استخدامها... لمنع القوى الخارجية من التدخل في أي صراعات تعتبرها روسيا حاسمة لمصالحها، وإجبار المعارضين على الموافقة على إنهاء الحرب بشروط تمليها روسيا، ومنع تصعيد أي صراع محلي في المسرح المحلي (على سبيل المثال، أوروبا) من خلال تدخل الناتو، ومنع تصعيد أي صراع محلي إلى المستوى الاستراتيجي للحرب (أي التصعيد إلى هجمات مباشرة على الأراضي الأمريكية والروسية).

ولم يسبق لفلاديمير بوتين، ولا أي شخص آخر من القيادة العسكرية السياسية لروسيا، أن شارك في مثل هذا الابتزاز، وما يمنع الجهات الفاعلة الخارجية من بين القوى العسكرية الرائدة، هو وجود ترسانة روسية قوية من الأسلحة التكتيكية والتشغيلية التكتيكية، وإمكانية استخدامها منصوص عليها بوضوح في الطبعة الجديدة للعقيدة النووية للاتحاد الروسي، وفي تقريره، يدرس ويليام ألبيرك بشكل رئيسي، التدابير الممكنة للسيطرة على القوات النووية الروسية، و"إن إحدى الأدوات لفهم سيناريوهات NSNW الروسية هي تتبع تحركات قوات الدفاع الإشعاعية والنووية، وخاصة مراقبة كيفية تفاعل قوات الدفاع الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CBRN-D) مع القوات النظامية وعالية الاستعداد التي يمكن أن تعمل في بيئة إشعاعية، ويقترح المحلل البريطاني أيضًا ، مراقبة أي تغييرات في منشآت التخزين النووية الروسية - عددها وحجمها ومستوى نشاطها الداخلي وأي تحركات مرتبطة بها داخل وخارج البلاد، بالإضافة إلى التغييرات في موقع أنظمة التسليم ذات الأغراض الخاصة أو ذات الاستخدام المزدوج"، تدريبات نووية أو تدريبات تقليدية بمرحلة نووية وأي عمليات نشر يمكن اكتشافها [للأسلحة النووية]”.

ودعونا نتذكر أنه لم يتم إجراء تجارب نووية كاملة في الجو والفضاء وتحت الماء لمدة 62 عامًا (!) - منذ عام 1962، ولم يتم إجراء اختبارات مصطنعة في المناجم تحت الأرض منذ عام 1996، أي 28 عامًا، ولكن أي سلاح يخضع للتفتيش المنتظم، وقد تم الآن إنشاء العشرات من الأنواع الجديدة من الأسلحة، ولا أحد يعرف كيف ستعمل في حرب نووية، وأن الجنرال النمساوي ويرثر، كان يشارك في النمذجة الرياضية للعمليات القتالية عشية معركة أوسترليتز، وبالتالي فإن استئناف التجارب النووية يشكل ضرورة ملحة، سواء من دون تدريبات حلف شمال الأطلسي أو من دون نشوب صراع في أوكرانيا.

وقدتم تنفيذ أول انفجار نووي في موقع اختبار نوفايا زيمليا (الاسم المستعار للموقع هو   "Spetsstroy-700" ) في 21 سبتمبر 1955، وفي 30 أكتوبر 1961، تم إسقاط قنبلة القيصر، المعروفة أيضًا باسم أم كوزكا، بسعة 50 ميغا طن، من طائرة من طراز Tu-95-202 في ساحة التدريب، بالإضافة إلى ذلك، في عام 1961، أسقطت طائرات Tu-16 وTu-95 22 قنبلة أخرى على " نوفايا زيمليا" ، وفي عام 1962، بدأت وحدات الطيران القتالية بعيدة المدى التدريب في نوفايا زيمليا، وأسقطت قاذفات القنابل Tu-95 وTu-16 و(3M إجمالي 20 طاقمًا) 35 قنبلة تتراوح قوتها الإنتاجية من 6 كيلو طن إلى 21 ميغا طن، وفي 8 فبراير 2023، صرح المدير العلمي للمركز النووي الفيدرالي الروسي - معهد أبحاث عموم روسيا للفيزياء التجريبية، فياتشيسلاف سولوفيوف، ان هناك برنامج خاص معمول به للحفاظ على جاهزية موقع الاختبار وأن موقع الاختبار جاهز لبدء الاختبار.

وبات معلوما، ان المملكة المتحدة أصبحت مؤخرًا أول دولة من دول مجموعة السبع التي وقعت اتفاقية بشأن الضمانات الأمنية مع أوكرانيا، ومدة صلاحيتها عشر سنوات، وكما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن أكبر حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 3.2 مليار دولار، وتتكون الوثيقة من تسعة أجزاء إن لندن ملتزمة بتزويد أوكرانيا بالمساعدة الشاملة لاستعادة ما تسميه لندن سلامتها الإقليمية داخل الحدود المعترف بها دوليا، فضلا عن استعادة الاقتصاد وحماية المواطنين الأوكرانيين، في غضون ذلك قال رئيس مكتب رئيس أوكرانيا، أندريه إرماك، إن الضمانات الأمنية ستساعد في تهيئة الظروف "للتنفيذ الكامل لحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس" وستساعد أيضًا كييف على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، حسبما ذكرت صحيفة الغارديان.

فهل سيحدث التلوث الإشعاعي في القطب الشمالي بعد التجارب النووية؟ بالتأكيد سيحدث، ولكن ليس كثيرا، فقد أظهرت العديد من الدراسات الخاصة لمستوى التلوث في مياه بحر بارنتس وساحل "نوفايا زيمليا"، أنه بعد توقف التجارب النووية في الغلاف الجوي، بدأ النشاط الإشعاعي في الانخفاض بسرعة، ثم زاد مرة أخرى، لماذا؟ بسبب إلقاء نفايات المحطات النووية في إنجلترا في المحيط الأطلسي، فإن طبيعة واتجاه التيارات في هذه المنطقة تجعل الجزء الشرقي من بحر بارنتس والساحل الغربي لنوفايا زيمليا يتحولان إلى مكب نووي .

ألم يحن الوقت لكي نشرح للعالم أجمع أن "الخضر" الأوروبيين في حكومات دول الاتحاد الأوروبي، قد نسوا كل ديماغوجيتهم ويقومون بتدمير البيئة علانية من خلال تشغيل مشاريع تعمل بالفحم، وإنهم يرسلون المزيد والمزيد من أنواع الأسلحة المدمرة لتحويل الأراضي الأوكرانية إلى صحراء، والأهم من ذلك أن الوزراء "الخضر" يدفعون العالم نحو حرب نووية حرارية، وفي ضوء التصريحات العديدة للمسؤولين الغربيين حول احتمال النشر المحدود للقوات في أوكرانيا تحت رعاية دول فردية، وليس تحت رعاية الناتو بأكمله، يبدو تصريح الجنرال الأوكراني على خلفية النقص المتزايد في الموارد البشرية والعسكرية، بتصريحات من هذا النوع (مطالبات إقليمية ومراجعة للوضع النووي لروسيا)، مثيرًا للقلق للغاية .

وقد يتساءل المرء، لماذا كل هذه الضجة حول التهديد النووي الروسي الوهمي تماما؟، وتم توضيح الوضع من خلال مقابلة أجراها نائب وزير الدفاع الأوكراني إيفان غافريليوك مع صحيفة دير شبيغل الألمانية، حيث قال: “كل الحروب تنتهي على طاولة المفاوضات بتوقيع وثائق معينة، وأعتقد أن الشيء نفسه سيحدث في "حالتنا"، وسيتم التوقيع على الاتفاقيات من قبل تحالف الدول التي تدعم أوكرانيا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، ويجب أن تتضمن هذه الوثيقة بندا بشأن تخلي روسيا الاتحادية عن الأسلحة النووية، لأن هذه الدولة تشكل تهديدا للعالم، كما ويؤيد الغرب إن الأسلحة النووية الروسية تطارد الغرب الجماعي، وهو ما يعني أن على روسيا أن تحافظ على مسحوقها النووي جافاً، ولكن أيضاً ألا تستسلم للاستفزازات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

التطبيع مع الاحتلال المستمر هو احتلال آخر تمت مناقشته على نطاق واسع في سياق احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. يشير مفهوم التطبيع إلى فكرة أنه من خلال تطبيع العلاقات مع قوة الاحتلال، يكون السكان المضطهدون متواطئين في قمعهم. يهدف هذا المقال إلى التعمق في الحجج المحيطة بهذا الموضوع، وتسليط الضوء على تأثير التطبيع على النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.

إحدى الحجج الرئيسية ضد التطبيع هي أنه يضفي الشرعية على الاحتلال ويديم اختلال توازن القوى. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يقبلون الوضع الراهن ويتغاضون بشكل فعال عن الاحتلال. ويمكن أن يظهر هذا التطبيع بأشكال مختلفة، بما في ذلك التبادل الأكاديمي والثقافي والتعاون في المشاريع الاقتصادية، وحتى المشاريع الحكومية المشتركة. ويرى النقاد أن هذه التفاعلات تساعد في الحفاظ على الاحتلال، حيث تستفيد قوة الاحتلال من تطبيع العلاقات بينما تستمر معاناة السكان المضطهدين.

ويشكل التطبيع أيضا خطر تحويل الانتباه بعيدا عن القضية الأساسية المتمثلة في إنهاء الاحتلال وتحقيق تقرير المصير الفلسطيني. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتحول التركيز من المظالم التي تحدث في ظل الاحتلال إلى بناء الجسور مع قوة الاحتلال. يتيح هذا التحويل لدولة الاحتلال أن تبدو أكثر خيرا واستعدادا للبحث عن حلول سلمية، بينما يبقى واقع الاحتلال دون تغيير. ويكمن الخطر في تطبيع العلاقات في احتمال أن يصبح النضال الفلسطيني غير مسيس، مما يؤدي إلى تآكل الدعم لقضيتهم وإعاقة الجهود الرامية إلى إحداث تغيير حقيقي.

 يمكن أن يؤدي التطبيع إلى تهميش وإسكات الأشخاص الأكثر تضررا من الاحتلال. وفي سعيهم إلى الحياة الطبيعية، غالبا ما يتم تصنيف الفلسطينيين الذين يتحدثون ضد الاحتلال على أنهم متطرفين أو إرهابيين. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتم تجاهل مظالمهم ويتم قمع أصواتهم. ويخلق هذا التهميش بيئة تصبح فيها الآراء والروايات المعارضة غير مرئية، مما يساهم في إدامة الاحتلال.

و يرى المؤيدون أن التطبيع يمكن أن يكون أداة فعالة للمقاومة والتغيير. ومن خلال التعامل مع الإسرائيليين على منصات مختلفة، يستطيع الفلسطينيون تحدي التحيزات والقوالب النمطية، وتعزيز التفاهم، وتعزيز السلام. يرى البعض أنه من خلال التفاعلات الطبيعية، يمكن للفلسطينيين إضفاء الطابع الإنساني على أنفسهم وتقديم واقع تجاربهم الحياتية، وكشف ظلم الاحتلال. في ضوء ذلك، يمكن النظر إلى التطبيع على أنه شكل من أشكال المقاومة، مما يوفر فرصا لتغيير العقليات وتعزيز الوعي.

ومع ذلك، يؤكد المنتقدون أن التطبيع دون إطار سياسي واضح هو أمر معيب بطبيعته. وفي غياب حل شامل وعادل للصراع، يصبح التطبيع لفتة فارغة لا يستفيد منها سوى المحتل. وبدون معالجة الأسباب الجذرية للاحتلال وتحقيق العدالة السياسية والإقليمية، فإن أي محاولات للتطبيع قد تصبح متواطئة في إدامة الاحتلال.

إن التطبيع قضية معقدة وليس لها إجابات سهلة، ولكن من الأهمية بمكان دراسة الأبعاد المختلفة لهذه المناقشة. عند مناقشة التطبيع مع الاحتلال المستمر، من الضروري إجراء تحليل نقدي لديناميكيات القوة المؤثرة والنظر في الآثار المترتبة على مثل هذه التفاعلات. وينبغي أن يكون الهدف النهائي التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يحترم حقوق وكرامة جميع الأطراف المعنية.

التطبيع مع الاحتلال

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يديم ويضفي الشرعية على وجود قوة احتلال بينما يقوض حقوق وكرامة السكان الخاضعين للاحتلال. ويشير مصطلح التطبيع إلى العملية التي يتم من خلالها قبول الوضع القائم كمعيار أو قاعدة، مما يعني في كثير من الأحيان أن الاحتلال هو واقع دائم ولا مفر منه. ومع ذلك، فإن هذه الأيديولوجية تتجاهل المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة وتقرير المصير التي ينبغي أن توجه الصراعات التي تنطوي على احتلال أجنبي.

أولا، يؤدي التطبيع مع الاحتلال المستمر إلى تطبيع الاحتلال بشكل خطير باعتباره وضعا راهنا مقبولا، مما يضعف الحاجة الملحة إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراع. ومن خلال قبول الاحتلال كحالة طبيعية، تكتسب قوة الاحتلال الشرعية وتعزز سيطرتها على الأراضي المحتلة. وهذا يقوض جهود الشعب المحتل والمجتمع الدولي لتحدي الاحتلال والبحث عن حل عادل.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يؤدي إلى تطبيع المظالم اليومية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها سلطة الاحتلال ضد السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق شعورا بالرضا عن النفس، مما يسمح لقوة الاحتلال بمواصلة ممارساتها القمعية دون عواقب وخيمة أو ضغوط للتغيير. وهذا يؤدي إلى إدامة دورة من الانتهاكات المنهجية والتمييز وتجريد السكان الخاضعين للاحتلال من إنسانيتهم.

 يشكل التطبيع مع الاحتلال المستمر تهديدا لحياة ومعيشة السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تفرض سلطة الاحتلال قيودا على الحركة، والوصول إلى الخدمات الأساسية، والفرص الاقتصادية، مما يعيق تنمية وازدهار الأراضي المحتلة. وهذا لا ينتهك حقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال فحسب، بل يعيق أيضا قدرته على بناء اقتصاد ومجتمع مستدامين ذاتيًا.

كما أن التطبيع يقوض مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال واحترام حقوق الشعب المحتل. إنه يبعث برسالة مفادها أن الدول القوية يمكنها تجاهل القانون الدولي مع الإفلات من العقاب، وتجاهل حقوق وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال. وهذا يشكل سابقة خطيرة يمكن استغلالها من قبل قوى الاحتلال الأخرى في جميع أنحاء العالم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التطبيع مع الاحتلال المستمر يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات بين السكان الخاضعين للاحتلال، حيث قد يقبل البعض الاحتلال بينما يستمر الآخرون في المقاومة. إنه يخلق انقسامًا يضعف قوة النضال الجماعي من أجل العدالة والتحرر. وهذا الانقسام يخنق إمكانية الوحدة والتضامن الضروريين لحركة تحرير ناجحة.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يضعف دعم المجتمع الدولي لقضية السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق ارتباكا وغموضا بين الجهات الفاعلة العالمية، مما يخفف الضغط على قوة الاحتلال لإنهاء الاحتلال والامتثال للقانون الدولي. إن هذا الافتقار إلى الضغط الدولي يسمح لقوة الاحتلال بالتصرف دون عقاب وتعزيز سيطرتها على الأراضي المحتلة.

 يؤدي التطبيع إلى إدامة مناخ من الخوف وانعدام الأمن بين السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تستخدم قوة الاحتلال جهازا أمنيا متشددا لقمع أي مقاومة أو معارضة، مما يؤدي إلى انتشار ثقافة المراقبة والاعتقالات والعنف. ويخنق مناخ الخوف هذا أي تطلعات إلى الحرية والعدالة وتقرير المصير بين السكان الخاضعين للاحتلال.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يعيق إمكانية إجراء حوار ومفاوضات هادفة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ومن خلال قبول الاحتلال كأمر طبيعي، فإن قوة الاحتلال ليس لديها أي حافز للانخراط في عملية حقيقية لبناء السلام وحل الصراعات. وهذا يديم دائرة العنف والقمع، ويمنع أي مناقشات بناءة تهدف إلى إيجاد حل عادل ودائم.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يتجاهل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لقوة الاحتلال في معالجة المظالم التي لحقت بالسكان الخاضعين للاحتلال. وبدون الاعتراف بأخطاء الماضي والحاضر ومعالجتها، تصبح المصالحة مستحيلة، ومن المرجح أن تستمر دائرة العنف والصراع.

التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يضفي الشرعية على الاحتلال الظالم والظالم ويديمه. يقوض هذا التطبيع القانون الدولي وحقوق الإنسان والنضال المستمر للسكان المحتلين من أجل الحرية وتقرير المصير. ومن الضروري تحدي ومقاومة التطبيع، والمطالبة بإنهاء الاحتلال، والعمل على إيجاد حل عادل ودائم يحترم حقوق وكرامة جميع الأشخاص المتضررين من الاحتلال.

التطبيع مع العدو

التطبيع مع العدو يختلف عن التطبيع مع الاحتلال المستمر. يشير التطبيع مع العدو إلى عملية إقامة علاقات طبيعية مع عدو سابق بعد فترة من الصراع أو الاحتلال. ويمكن فهم ذلك على أنه تحول في الموقف تجاه المصالحة والتفاهم المتبادل بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ومن الأهمية بمكان أن نعترف بأن التطبيع بعد الاحتلال يختلف عن أشكال الاحتلال الأخرى، لأنه يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى العملية. سنتناول في هذا المقال مفهوم التطبيع مع العدو من زوايا مختلفة، ونناقش دلالاته وتحدياته وفوائده المحتملة.

أولا وقبل كل شيء، من المهم أن نفهم أن التطبيع مع العدو لا يعني التغاضي عن صراعات الماضي أو نسيانها. وبدلا من ذلك، يشهدف إلى بناء الجسور وخلق بيئة مواتية للسلام والاستقرار. أحد الجوانب الرئيسية للتطبيع هو إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف المعنية. ويشمل ذلك تبادل السفراء، والمفاوضات بشأن اتفاقيات ثنائية، وفتح قنوات للحوار. تسمح مثل هذه التفاعلات بالحل السلمي للنزاعات وخلق فرص للتعاون بشأن التحديات المشتركة، مثل التنمية الاقتصادية أو القضايا البيئية.

التطبيع مع العدو يمكن أن يحقق فوائد هائلة لكلا الطرفين المعنيين. ومن خلال الانخراط في العمليات الدبلوماسية والحوار البناء، يصبح من الممكن معالجة مظالم الماضي وإيجاد أرضية مشتركة للمصالحة. على سبيل المثال، في حالة الولايات المتحدة وكوبا، أدت عملية التطبيع إلى رفع الحظر التجاري وقيود السفر، مما أدى لاحقا إلى تحسين الظروف الاقتصادية لكلا البلدين. علاوة على ذلك، يمكن للتطبيع أن يعزز الروابط بين الناس، والتبادلات الثقافية، والتعاون التعليمي، وكلها تساهم في فهم وتقدير أكبر لتاريخ وقيم كل طرف.

لكن التطبيع مع العدو ليس دائما مسعى سهلا. ويتمثل أحد التحديات الرئيسية في العداء العميق وانعدام الثقة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ويتطلب التطبيع التغلب على هذه الحواجز وبناء أساس من الثقة، وهو ما قد يستغرق سنوات، إن لم يكن عقودا، لتحقيقه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يواجه التطبيع معارضة من داخل البلدين. على سبيل المثال، قد تقاوم الفصائل المتشددة أو مجموعات المصالح بشدة أي شكل من أشكال التعاون أو التطبيع، خوفا من أن يشكل تهديدًا لمصالحها السياسية أو الاقتصادية.

نوع آخر من الاحتلال يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى عملية التطبيع مع العدو. وفي مثل هذه الحالات، تكون الأراضي المحتلة تحت سيطرة قوة أجنبية، منفصلة عن الدولة المعادية. وتطرح هذه الديناميكية المعقدة عقبات إضافية أمام عملية التطبيع، لأنها تتطلب التنسيق وإشراك جهات فاعلة متعددة. إن إيجاد توازن بين مصالح وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال، وقوة الاحتلال، والدولة المعادية يمكن أن يكون مهمة حساسة، ولكنها ضرورية.

أحد الأمثلة التاريخية لنوع آخر من الاحتلال هو الوضع في فلسطين، حيث تحتل إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. يواجه التطبيع مع إسرائيل تحديات عديدة بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد، والتفسيرات المتباينة للتاريخ، والعقبات السياسية. ومما يزيد من تعقيد الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات الانقسامات الداخلية داخل المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني وتأثير الجهات الخارجية المشاركة في الصراع. لكن رغم هذه التحديات، تظل إمكانية التطبيع ضرورية لتحقيق التعايش السلمي وحل الصراع في المنطقة.

وفي الختام، فإن التطبيع مع العدو، خاصة بعد فترة من الاحتلال، هو عملية معقدة ومتعددة الأوجه. إنها تنطوي على إقامة علاقات دبلوماسية وتعزيز الحوار وبناء الثقة بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ورغم أن هذه مهمة صعبة، إلا أن التطبيع يمكن أن يحقق فوائد هائلة من خلال تعزيز المصالحة والتعاون والتفاهم. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن ندرك التحديات الكامنة في هذه العملية، بما في ذلك العداوات العميقة الجذور، والمعارضة من الفصائل المتشددة، والتعقيدات التي يفرضها نوع آخر من الاحتلال. ومع ذلك، يظل السعي إلى التطبيع مع العدو ضروريًا لتحقيق السلام الدائم والاستقرار والازدهار.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني،  لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري  في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي  في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا  لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات  الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى،  حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة،  والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.

وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.

ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم،  ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة  تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا  نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.

نصيحتي لأي  شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه،  عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.

***

د. الطيب النقر

في المثقف اليوم