آراء

آراء

لا يختلف «الاستشراق» عن أي وسط ثقافي وعلميّ آخر، يتباين تقييمه بالصّالح أو الطَّالح، حسب اختلاف الآراء بل والعقائد. لكنَّ الأهم فيه فضله في دراسات تُراث الإسلام، فقد اُنتفع به، هذا المجال، إيما انتفاعاً. أقولها بلا مراء، لولا المستشرقون ما عرفنا طريق التّحقيق العلمي لهذا الخزين العلميّ والأدبي والدّينيّ، ولولاهم ما عرفت مؤلفاتنا «التَّرقيم»، ولا عرفت الأرقام في الصَّفحات، ولا جمع وأرشفة مخطوطات هذا التّراث الهائل، بعد بعثرة مكتبات العباسيين والأمويين بالأندلس.

أقول: مّن يطلع على «تاريخ الأدب العربيّ» لكارل بروكلمان (ت: 1956)، مثالاً لا حصراً، لنزل مِن غروره في التّنظير، وتجنب آفة التَّعميم والتَّسطير. فمَن اعتبر الاستشراق مؤامرة، لا أجده منصفاً البتة، وقد نال التّعليم مِن أفواههم ودفاترهم. أمَّا بينهم مَن خدم مشاريع بلاده، وأخطأ بالتَّفسير والتَّقييم والعداوة، نعم حصل هذا، لكنه ليس القاعدة.

تلك مقدمة لما صدر عن مجلة «المجتمع» الكويتيّة، صوت «الإخوان» الثقافيّ، نشرت موضوعاً بحلقتين: «المستشرقون وتأثيرهم على انبعاث الدِّيانة الزَّرادشتية في التاريخ المعاصر»(العددين: 5-19/ 2020). ركز المكتوب على إقليم كردستان العراق، على أنّ وجود «الزّرادشتيّة» اليوم يحصل بسبب المستشرقين، بمحاولة تأهيلها مِن جديد.

حسب المجلة، أنَّ الحزبين الحاكمين بإقليم كردستان «الاتحاد» و«الدِّيمقراطيّ»، يفسحان الحرية للزرادشتية، ويحاربان الإسلاميين. هل يعلم أصحاب المجلة أنَّ الإسلاميين الأكراد مشاركون في السُّلطة والبرلمان، ومقراتهم مفتوحة بكردستان العراق، ولهم صولة وجولة صحوية، إلا أنَّ المجلة تقصد «القاعدة» و«داعش»، وليتها نعت ضحاياهما مِن العراقيين، خصوصاً بعد كارثة الموصل(2014).

أولاً: إنَّ الزرادشتية، كانت ديانة الأكراد قبل الفرس، بوجود آثارها، وظلت تُمارس قبل حُكم الحزبين للإقليم بكثير. ورد في الدَّليل العراقيّ الرّسميّ الملكي(1936): «في العراق مسلمون، ومسيحيون، ويهود، ويزيديون، وصابئة، وعدد قليل مِن البهائية، والمجوس (يقصد زرادشتيين)، والحرية الدِّينية مكفولة بالدّستور العراقيّ».

كما جاء في الدَّليل العراقي الرَّسميّ الجمهوريّ(1960): «في العراق مسلمون، وهم ذوو الأكثرية الغالبة، الذين تدين حكومة الجمهورية رسمياً بدينهم، ونصارى (مسيحيون/ التوضيح في الأصل)، ويهود، ويزيديون، وصابئون، وأعداد قليلة مِن البابيين (البهائية/ التوضيح في الأصل) ومجوس زرادشتيون، وشبكيون، وصارليون، وكاكائيون، ونصيريون، والحرية الدِّينية مضمونة بدستور الجمهورية». فالتعامل مع الزّرادشتيين الأكراد ليس مستغرباً، وهم موجودون طوال تاريخ الإسلام، بدلالة تبيين معاملتهم، وفق الحديث: «إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»(الإمام مالك، المُوطأ).

ثانياً: هل إنَّ المستشرقين قصدوا إعادة الزَّرادشتية، أم أنهم علماء تاريخ؟ عندهم العلم هو القصد، وإلا فعلى ما أوردته «المجتمع»، يصبح هشام الكلبيّ(ت: 204هجرية)، في كتابه «الأصنام»، قصد إعادة عبادتها، وكانت نوايا المؤرخين المسلمين، في تأرخة قبل الإسلام، إعادة تأهيل ديانات سابقة، ودراسة الآثار القديمة، بما فيها من معابد وكنائس، القصد منه تأهيلها مِن جديد! فمِن هذا المنطلق لتغلق المتاحف، وتدمر الآثارّ، لأنها تأهيل لديانات سابقة! وفق ما نشرته «المجتمع»!

ثالثاً: أغفلت «المجتمع» عاملاً قاطعاً، إذا كان ما عُبر عنه إساءةً للإسلام، فسببه ممارسات الأحزاب الدّينية نفسها، وفي مقدمتهم «الإخوان»، فأي جماعة بطشت بالناس باسم الدين، لم تُثمرها شجرتهم؟

تذكرنا مجلة «الإخوان» برفيقهم المصري الذي أتهم «زرياب» بسقوط الأندلس، وربط أسباب الانهيار كافة به، لا بشيء آخر. فلولا الفنون التي أدخلها مِن الشّرق إلى الأندلس، ماسقطت الأخيرة! بهذه العقول يُساس الأتباع ويُحشدون. كنت نشرت مقالاً على صفحات «الاتحاد» في تهمة الجماعات الإسلامية لزرياب، عنوانه: «زِرْياب.. عَمَرَ الأندلس ولم يُسقطها» (12/6/2019).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

لم يكتفي تلامذة الترابي ومحبيه بنشر تالده وإذاعته، بل أولوا اهتماماً بمشروعه الأخير الذي كان يذخره وينميه، وقد أحالت يد المنون بينه وبين إكمال هذه المنظومة التي كانت ستكون مصدراً خصباً للنفع والفائدة، ففيها تتصل كل الجزئيات الوثيقة التي لم يلتفت إليها الساسة الذين أعماهم التنافس الشديد، والخصومة والتماس المنافع الخاصة الحقيرة عن نهضة الوطن وإعلاء شأنه، والساسة الذين تختلط بهم ما يختلط بالناس من أثرة وضعف وتهالك على المغنم، لم يلتفتوا لهذه الأحاديث التي جهر بها أحياناً الدكتور الترابي، وأخفاها في أحايين أخرى، فقد حملت "منظومة النظام الخالف" تلك الورقة التي اقترحها الترابي "مُراجعات وتقييماً كاملاً لتجربة الإسلاميين في حُكم السودان، فضلاً عن تجربة المؤتمرين الشعبي الذي يقوده هو والوطني الحاكم- فيما مضى- بقيادة الرئيس عمر البشير، لا سيمَّا أن الورقة حدَّدت أهدافها بخلق تحالف عريض في شكل حزب واسع في إطار شراكة سياسية جديدة تضم الإسلاميين بطوائفهم المُختلفة، بمن فيهم ذوو الخلفيات الإسلامية كالسلفيين والتيارات الصوفية والأحزاب الطائفية، وشدَّدت الورقة على أهمية الاستفادة من تجربة الإسلاميين، فيما يتصل بقضايا الحُريات والتنوع عبر التركيز على الإيجابيات وتطويرها، وتلافي السلبيات بما يتناسب والتطور الطبيعي للحياة".

ولعل المشروع الذي لم يكن يلم بكافة تفاصيله سوى الدكتور الترابي والذي اختتم به حياته يشابه نوعاً ما مشروعه الذي ابتدر به حياته السياسية، وهو مشروع الدستور الإسلامي الذي أقرته كل ألوان الطيف الإسلامي، وشرعت في التبشير به، والتعصب له، والرضي عما فيه، وبعد عدة عقود نرى أن المؤتمر الوطني قد خان والده بصورة بشعة، وأن دكتاتورية الترابي وتسلطه التي أدعوها لا تعفيهم من إثم تلك الخيانة، فقد كانت هناك طرقاً كثيرة يستطيعون بها أن يرتجوا نفع الدكتور الترابي ويتقون بها شره، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فهم بعد أن ساموا الشيخ العذاب، وضاموه بأليم العقاب، تعلقت آمالهم به، وعولوا عليه، في استدامة حكمهم، لأجل ذلك رأينا البشير طاغية المؤتمر الوطني الذي خضع واستكان، يلتقي بالدكتور الترابي كثيراً إن أتيح لهما اللقاء، وإن حيل بينهما عمد إلى الاتصال بمنقذه وهاديه، كان الرئيس المخلوع أوشك أن ينال من الدكتور الترابي ما يريد، فقد بلغ الاحتقان السياسي حظاً عظيماً في ذلك العهد، وكانت الحياة في السودان أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة السود وعزتهم المؤثلة في حناياهم، وكان الجهاز القمعي للبشير يستذلهم ويعنف بهم أكثر ما تعنف الهوام، والبشير الذي يخشى من عواقب هذه الحياة المنكرة التي يعيشها السود ظل يتردى في ضروب من هوان النفس، ودناءة السيرة، وهو يجاهد أن يرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ويجاهد في سبيل ذلك الرفع بالتعاون المخزي مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الكبرى التي اعتادت على سحق الدول الفقيرة والاستخفاف بأمنها وسلامتها، كان البشير ونظامه تتقاذفهم الخطوب وتلح عليهم، وكان الدكتور الترابي ملماً بكل هذه المدلهمات، ويدرك أن البشير يكبر الساسة ويخشى بأسهم، ودائرة "الحوار الوطني" التي احتمل الساسة في سبيلها البؤس والجهد والكدر، كانت ضيقة ضئيلة ذليلة، لولا الدكتور الترابي الذي تولى أمر توسعتها وتشعيبها، ويقر المؤتمر الوطني في ضراعة بعجزه هذه المرة عن النهوض وحده بهذا الثقل الفادح، وها نحن نشهد بعدها في تلك الأيام الزيارات التي باتت تتري بغير حساب، بين جموع الإسلاميين على غير إيذان بها، وانتظار لها، وعادت الأشواق والأصوات التي تنادي بلم الشمل ووحدة الصف، كانت الوحدة بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي الأمنية التي تحمل الكثير من الهم، والكثير من العناء، تبتهج لها النفوس، وتطمئن إليها الأفئدة في تلك الفترة، وهو الموضوع الذي يستفيض فيه أهل الحركة الإسلامية بغير حساب، ويطيلون فيه من غير رفق، ولكنهم شقوا به، ولم يرفق بهم صناديد الحركة الإسلامية، أو يرقوا لهم، أو يعطفوا عليهم، وبان لهم بعد برهة أن كل هذه التطلعات والآمال هباء لا جدوى منه و قتام لا غناء فيه.

كان المؤتمر الوطني يخلع على الحركة الإسلامية بشقيها هذه الآمال من جهة، ثم يقف عقبة كؤود دون تحقيقها من جهة أخرى، ولم يسعى أقطاب المؤتمر الشعبي أيضاً أن يعطوا لهذه الوحدة معنى، أو يرسموا لها أطراً وأبعاد، ولكن هؤلاء الأقطاب نسوا أن الشيخ الترابي كان دائم الحديث عن رغبته في أن يرى السودان قد اتصل بالحياة الهانئة المطمئنة، وقد ذهبت عنه هذه الكوارث الخطيرة، كان الشيخ رحمه الله في آخر أيامه لا يسأم تكرار هذه الأماني واجترارها، ولعل مراده النبيل هذا هو الذي دفعه لحبك المنظومة الخالفة ونسج دقائقها وتذويب كل التيارات الإسلامية ذات الصبغة الإسلامية بين أفوافها.

ولعل الجهات التي عناها الدكتور الترابي بهذه المنظومة خلاف المؤتمر الوطني الحاكم في تلك الفترة والمؤتمر الشعبي، والتيارات الإسلامية من حزب أمة واتحادي ديمقراطي وحركات صوفية، كل الأحزاب التي تنتصر للديمقراطية وتتعصب لها، وترفض حكم الفرد وتسلطه، الأحزاب التي لا تسعى لتأييد الأنظمة الفاشية، والتي تتوخى نصرة الحق، وتنشد العدل، ولا تجحد الأديان فضلها، وحتماً كان الترابي يرمي أن يضع الحلول الناجعة في منظومته تلك لكل المآسي التي يعاني منها السودان، فهو يشفق أن يغادر تلك الفانية دون أن يضع الحلول المستدامة لمشاكل يشعر هو بأنه قد لعب دوراً كبيراً في تصعيدهاحينما أخفق في اختيار الكوكبة التي لا يغريها بهرج الحكم، أو يفسدها نزق السلطة وعنفوانها، سعى الترابي في هذه المنظومة لتغيير ما شاب الأنظمة السابقة من خطل وعبث، "فضلا عن النظام القائم وتداول السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، كما تسعى هذه المنظومة لتحقيق التوافق عبر الكثير من المعالجات والتي منها الفيدرالية الحقيقية، والدستور التوافقي، والتمثيل النسبي، والديمقراطية التوافقية، والمشاركة في أجهزة الدولة (التنفيذية والتشريعية) والخدمة المدنية، والقوات النظامية، فليس الهدف توحيد الحركة الإسلامية بشقيها (المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي)، بل يشمل التوحيد المرتجى أطيافا أخرى من التنظيمات والكيانات السياسية، فلا تفريق بين من انتمى إلى الإسلام أو حتى إلى غيره من الأديان، فيجتمع كل هؤلاء ويؤسسون تنظيماً يقوم بإنزال الأفكار التي اتفقوا عليها، في الحياة العامة."

وبعد أن أفلت شمس الترابي وظعنت عنا، يجاهد أعضاء حزبه ويحسنوا الجهاد، لإبراز قيمة "المنظومة الخالفة" التي لم يرد منها الترابي غير نهضة السودان ومجده، كان الترابي يريد هذا كله، وحرص على تحقيقه كل الحرص، ولعل الكل يعلم أنه أفنى عمره من أجل تحقيق هذه الغايات، وأنه قد ذاق من أجلها ذل الأسر، وهوان السجون، حتى يعيش السودان كريماً مستقلاً، "وفي هذا الصدد يقول القيادي البارز بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبد الرازق المحامي ل"عاين"، إن النظام الخالف هو امتداد لرؤى فكرية ظلت تعتمدها الحركة الإسلامية في تاريخها الطويل، وعدَّها عبد الرازق رؤية تنبؤية استباقية لوحدة السودانيين، وتعمل على لملمة التمزق إلى أحزاب محدودة تمثل عقداً اجتماعياً جديداً، أو حزب جديد يتمحور حوله السودانيين لوحدة الوطن".

بينما يرى القيادي في المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام أن النظام الخالف يرمي لتوسعة المشاركة السياسية التي لا ينبغي أن تكون حكراً لأحزاب بعينها، وأشار لأنها تهدف لإصلاح العلل التي صاحبت مسيرة الحكم في السودان. وأوضح المحبوب أن المنظومة لا تستطيع أن تفضي لحل كل مشاكل السودان، لكنها في مجملها مجهودات ألمت بجميع العوائق والمعضلات إلماماً سريعاً، تلك العراقيل والمصاعب التي نحتاج أن نفطن إليها، ونطيل التفكير فيها، حتى نجد لها الحلول التي ينتفع بها الوطن أشد الانتفاع، موضحاً أن هناك تتفاوتاً بين أجيال الإسلاميين تفكر بطرق مغايرة جديدة وتستعمل وسائل جديدة، تختلف عن الوسائل التي كانت سائدة أيام الجبهة الإسلامية القومية أو جبهة الميثاق، ويقول القيادي الإسلامي المحبوب: الآن "هناك دعوة لمراجعات جذرية وحتى للفكر الإسلامي من أجيال واسعة جدا، وإذا جاءت حريات كافية سنكتشف حجم التحول الذي حدث في هذه الأجيال، ومقترح المنظومة الخالفة تواجه تحديات كثيرة لأن الحركة الإسلامية لم يعد لها وجود مثل ما كان في السابق، وهناك من يرى أنها على وشك أن تتلاشى، ويقول عبد السلام "هي لم تتلاشَ لأنها قوة اجتماعية يعني لا تتلاشى ولا تخلق من العدم مثل المادة، بمعنى أنه حتى لا يمكن إقصاؤها أو عزلها، وأضاف عبد السلام أن على قادة الحركة تصحيح العديد من المفاهيم السلبية التي صاحبت فترة الحكم مخلفة ورائها إحباطات عديدة".

***

د. الطيب النقر

بقلم: أندرو آي بورت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يؤكد دعم ألمانيا غير المشروط لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023- بالنسبة للكثيرين- أن ثقافة الذاكرة لديها "قد انحرفت". لكن بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتحفظات الألمانية بشأن استخدام المصطلحات المرتبطة بالمحرقة، فإن انتقادات ما بعد الاستعمار غالبًا ما تكون أحادية الجانب بشكل ملحوظ.

منذ الربيع الماضي، قمت بجولة موسعة للترويج لكتابي الجديد، "لن يحدث مرة أخرى أبدًا: الألمان والإبادة الجماعية بعد الهولوكوست"، والذي ينظر في ردود الفعل الألمانية على "جريمة الجرائم" في بلدان أخرى منذ عام 1945. وبشكل ثابت، واحد على الأقل سألني أحد الحضور عن ردود الفعل الألمانية على الإبادة الجماعية المزعومة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وكان هذا صحيحاً قبل الرد العسكري الإسرائيلي على الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولكن السؤال يطرح الآن بشكل أكثر تكراراً، وبقدر أعظم من الإلحاح والانفعال ـ أقرب إلى الاتهام منه إلى السؤال. وعلى الرغم من كل حديثهم عن "لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدًا"، فإن محاوري يرغبون في معرفة السبب وراء عدم خروج الألمان بقوة أكبر بشأن هذه القضية من خلال إدانة العمل الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية باعتباره إبادة جماعية.

ويتوافق هذا مع الانتقادات المتزايدة لسياسة (التصالح مع الماضى) / Vergangenheitsbewältigung المتبجحة في ألمانيا. إذا كان هناك شيء واحد يمكن للمؤرخين وغيرهم من مراقبي ألمانيا ما بعد الحرب أن يتفقوا عليه - حتى وقت قريب - فهو أن الجهود التي بذلتها البلاد "للتصالح مع الماضي" كانت قصة نجاح تستحق المحاكاة. قبل خمس سنوات فقط، أبلغتنا سوزان نيمان، مديرة منتدى أينشتاين في بوتسدام، المولودة في الولايات المتحدة، في كتاب حظي بشهرة كبيرة بعنوان "التعلم من الألمان"، أن مواطنيها (والنساء) يمكنهم، بل وينبغي عليهم، أن يأخذوا صفحة من التجربة الألمانية عندما يتعلق الأمر بـ "عمل الذاكرة"، خاصة عند مواجهة إرث بلادهم المشحون بالعنصرية والعبودية وجيم كرو. لقد تراجعت منذ ذلك الحين، وادعت مؤخرًا على صفحات مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس أن حركة (التصالح مع الماضى)  الألمانية قد "فقدت صوابها". ماذا حدث؟

باختصار، إن التقارير التي صدرت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عن "حملة القمع" الألمانية على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الداخل هي "ما حدث". لكن هذا ليس دقيقًا تمامًا. كانت نيمان، مثل عدد من الأكاديميين والمثقفين الآخرين، قد نأت بنفسها عن حججها السابقة قبل الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، إلى حد كبير في أعقاب الجدل الذي بدأه أ. ديرك موزس في عام 2021. في مقال جدلي، افترض المؤرخ الأسترالي المولد، والذي يدرس الآن في جامعة مدينة نيويورك، جانبًا مظلمًا لثقافة الذاكرة الألمانية: "قراءة" متميزة للمحرقة لا تحجب "النخب" الألمانية عن معاناة المجموعات الأخرى (اقرأ: الفلسطينيون) فحسب، بل حتى مما يجعلهم عدائيين تجاه تلك المجموعات.

هناك سابقة لكل هذا، وهي سابقة كانت تختمر طوال العقد الماضي تقريبًا: التشكيك في السرد القديم لأعمال الذاكرة الألمانية الناجحة التي - ومن المفارقات - ظهرت على الساحة العامة في نفس الوقت تقريبًا الذي ظهر فيه كتاب نيمان "التعلم من الألمان" في عام 2019. في مقالته الشهيرة الآن، والتي تحمل عنوان "التعليم المسيحي الألماني"، حدد موسى ثلاثة محفزات رئيسية لهذا الاحتفاء: "النقاش الألماني المحتدم حول معاداة السامية المزعومة لأشيل مبيمبي، وكتاب مايكل روثبيرج، الذاكرة متعددة الاتجاهات، وكتاب يورجن زيمرر Von Windhuk nach Auschwitz" "، الذي يفترض خطوط الاستمرارية بين الممارسات الاستعمارية الألمانية والمحرقة.

ما الذي يجب أن نفهمه من الادعاءات الأخيرة بأننا تسرعنا في مدح الألمان بسبب "ثقافة التذكر" الخاصة بهم؟ تتألف قضية الرافضين - والتي يمكن للمرء أن يطلق عليها اسم "التعليم المسيحي ما بعد الاستعماري" (مع الاحترام الواجب للرؤى المهمة التي يقدمها مجال دراسات ما بعد الاستعمار ككل) - من ست حجج رئيسية:

لقد فرضت السلطات الألمانية من فوق "سياسة الدولة الرسمية" التي تملي الطرق "المناسبة" لتذكر ماضي ألمانيا، مما أدى إلى افتراض الجهود التي بذلتها البلاد في يوم من الأيام في (التصالح مع الماضى)  صفة "ثابتة" تقتصر فقط على الإبادة الجماعية لليهود، مع تجاهل التجارب السابقة. والفظائع الاستعمارية الألمانية الحالية في جميع أنحاء العالم.

وفي الوقت نفسه، أنتج إحساس ألمانيا بالمسؤولية عن الماضي النازي نزعة محبة للسامية تجد أوضح تعبير لها في "التضامن غير المشروط" مع إسرائيل. وقد أدى ذلك إلى انتهاكات خطيرة للحريات المدنية وحرية التعبير: إلغاء الثقافة وتويلها إلى فوضى عارمة ، واختبارات حقيقية لتمويل الدولة والمواطنة، وحظر الرموز والشعارات التي تعتبر معادية للسامية، كل ذلك في محاولة لإسكات منتقدي إسرائيل، بما في ذلك اليهود.

ومن خلال منع الألمان من التفكير بوضوح في الوضع السياسي الحالي، يتم أيضاً استخدام ذكريات "عار الماضي" كأداة "لقمع المناقشة" حول التطورات المزعجة في الخارج، وخاصة في الشرق الأوسط. ولكن هذا ليس كل شيء: من خلال استبعاد المعقول والمبرر بشكل تلقائي. وبانتقاداتها للسياسات الإسرائيلية باعتبارها معادية للسامية، تعمل هيئات الرقابة الألمانية على تأجيج مشاعر كراهية الأجانب واستخدامها كسلاح ضد المهاجرين "غير المرغوب فيهم" الذين، كما يزعمون، لديهم مثل هذه الآراء البغيضة.

ونتيجة لذلك، فإن الجهود التي تتبجح بها ألمانيا للتعامل مع ماضيها الدنيء أتت بنتائج عكسية، وخرجت عن مسارها، وأنتجت شكلاً من أشكال «الهستيريا»، مما أدى إلى اضطهاد وشيطنة الأقليات الأخرى المضطهدة تقليديًا.

ولا يمكن، ولا ينبغي، رفض هذه الحجج والانتقادات. ولكنها أيضاً مشوهة، ومبالغ فيها، ومثيرة للجدل على نحو غير مبرر ــ وتتجاهل السياق المهم! وفيما يتعلق بالنقطة الأخيرة، فإن أولئك الذين افترضوا تحولًا مؤخرًا نحو الأسوأ في "ثقافة التذكر" في ألمانيا لم يبذلوا أي محاولة حقيقية لتفسير جذور هذا التحول المفاجئ، باستثناء التلميحات الغامضة إلى المخاوف المتزايدة بشأن الهجرة واللجوء. طلبات من "النوع الخاطئ" من الأجانب من أماكن مثل سوريا، عدو إسرائيل القديم.

ما تركوه هو الفيل في الغرفة، أي الزيادة التي يمكن التحقق منها إحصائيًا في الحوادث المعادية للسامية في ألمانيا في السنوات الأخيرة، بدءًا من هجوم يوم الغفران العنيف على كنيس يهودي في هاله في عام 2019 إلى ادعاءات المؤامرة بأن كوفيد-19 كان مؤامرة يهودية ("الأنفلونزا اليهودية" ، "المحرقة").صحيح أن الغالبية العظمى من مثل هذه الحوادث يرتكبها ألمان بيض ينتمون إلى أقصى يمين الطيف السياسي ــ ولكن من الواضح أن مجموعات معينة من الألمان "غير العرقيين" ممثلة بشكل غير متناسب. هذا سياق مهم لفهم "الهستيريا" الأخيرة - لفهم، على سبيل المثال، القرار المثير للجدل الذي اعتمده البوندستاغ في عام 2019، والذي أدان (في رأيي، خطأً) حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ضد إسرائيل باعتبارها معادية للسامية. ودعا إلى قطع التمويل عن أي منظمات "تدعم بنشاط" حركة المقاطعة.

لكن "التعليم المسيحي ما بعد الاستعماري" يضلل بطريقة مختلفة أيضًا. إن ردود الفعل الألمانية على الإبادة الجماعية في أراض أخرى، وهو موضوع كتابي الأخير، تقدم مثالاً واضحاً لكيفية استخدام الألمان لذكريات الفترة النازية لدعم مجموعات أخرى مضطهدة تقليدياً، بما في ذلك المسلمين، وليس لحرمانهم من المساعدة أو التعاطف. مثال واضح على "الذاكرة متعددة الاتجاهات" لروثبرج في الممارسة العملية. ربما لم تكن الجهود الألمانية في (التصالح مع الماضى)  مثالية دائمًا، ولكن دعونا لا نلقي الطفل مع ماء الاستحمام. ويظل هذا المجال حيث يمكن للجمهورية الفيدرالية أن تدعي بحق أنها قصة نجاح، خاصة وأنها بدأت تتصارع بجدية مع ماضيها الاستعماري، على النقيض من أغلب حلفائها في بقية أوروبا ــ وعبر المحيط الأطلسي.

والمغزى من ذلك هو عدم إنكار أن بعض الألمان وجهوا اتهامات بمعاداة السامية بطريقة فعالة: لتأجيج كراهية الأجانب وتعزيز أجندة مناهضة للمهاجرين. كما أنني لا أحاول التبرير أو الاعتذار عن  التجاوزات الرسمية رداً على التحريض المعادي للسامية والدعوات إلى العنف. ولكن بسبب ماضيهم، يجد الألمان أنفسهم مرة أخرى في موقف صعب حيث يصبحون "ملعونين إذا فعلوا، وملعونين إذا لم يفعلوا". ولا يملك المرء إلا أن يتخيل ردة الفعل من الخارج (وفي الداخل). إذا نظرت السلطات الألمانية بسلبية إلى منتقدي إسرائيل وهم يوزعون المخبوزات الاحتفالية في وسط برلين ردًا على الهيجان القاتل الذي وقع في 7 أكتوبر، أو يدعون (ضمنًا أو صراحة) إلى تدمير إسرائيل. وفي النهاية، لاحظ غونتر جيكيلي أن "اتهام معاداة السامية يصبح هو المشكلة، وليس التصريحات التي عجلت بها".

الآن، لا ينبغي للمرء أن يساوي تلقائياً بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، ولكن لا ينبغي للمرء أيضاً أن ينكر وجود رابط في كثير من الأحيان ــ وهو التوتر الذي انعكس في البيانات المتنافسة حول هذا الموضوع من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة والموقعين على إعلان القدس. لتوضيح ما هو واضح (غالبًا ما يتم التغاضي عنه): الحكم على كل حادثة على أساس كل حالة على حدة، وعدم إطلاق تعميمات واسعة ومضللة، على سبيل المثال، تقديم السلطات الألمانية دعمًا غير مشروط لإسرائيل أو قمع الحريات المدنية من خلال "إلغاء" جميع منتقدي إسرائيل. إسرائيل وقمع كافة أشكال الاحتجاج المؤيدة للفلسطينيين.

وماذا عن الردود الألمانية على الادعاء بأن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تشكل إبادة جماعية؟ ومن المفهوم أن يشعر العديد من الألمان بالقلق من استخدام هذا المصطلح المشحون عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط بسبب تاريخهم ــ وهو نفس السبب الذي دفع المسؤولين الألمان إلى فرض رقابة مشددة على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الداخل، حتى تلك التي تضم منتقدين يهود لإسرائيل. وقد تساءل الأخيرون على وجه الخصوص بسخط عن حق الألمان في إلقاء المحاضرات على اليهود حول مدى ملاءمة مثل هذه الادعاءات والتعليقات.

علاوة على ذلك، أليس من واجب الألمان أن يطلقوا على البطة اسم "بطة"، إذا جاز التعبير - بل وأكثر من ذلك بسبب ماضيهم؟ ووفقاً لأولئك الذين جادلوا لصالح مشاركة ألمانيا في الجهود العسكرية ضد الصرب خلال المذبحة في البوسنة في أوائل التسعينيات، كان على بلادهم - على حد تعبير وزير الخارجية آنذاك كلاوس كينكل - "واجب سياسي وأخلاقي لتقديم المساعدة على وجه التحديد". في ضوء تاريخنا". ومثل هذه الاعتبارات تضع الألمان في موقف صعب.

يمكن للمرء، من الناحية النظرية - ومع مراعاة القانون الدولي وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 - إجراء مناقشة مفتوحة ورصينة وعقلانية حول ما إذا كانت الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تشكل إبادة جماعية، وهو ما يعتبره المجتمع الدولي بمثابة إبادة جماعية. تُعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها سلسلة من "الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه". ولكن هناك اختلاف بين التعريفات القانونية، من ناحية. والفهم الشعبي والعاطفي للمصطلح من جهة أخرى. كان هناك ميل منذ فترة طويلة ــ وليس فقط في ألمانيا ــ إلى مساواة الإبادة الجماعية بمعسكر أوشفيتز. ونتيجة لذلك، فإن أولئك الذين يستخدمون هذا المصطلح لوصف الجرائم التي تقع تحت عتبة القتل الجماعي الصناعي غالبًا ما يُشتبه في قيامهم بـ "تبييض" الجرائم الألمانية الماضية من خلال "إضفاء طابع نسبي" على الهولوكوست.

وما يوحي به هذا هو أن قسماً كبيراً من المناقشة يتعلق بنصوص فرعية، ودوافع (سياسية) منسوبة، ومخاوف غير معلنة ولكنها مفهومة بشأن العواقب التي قد تترتب على الاستخدام الأوسع نطاقاً والأقل عشوائية على ما يبدو لمصطلح الإبادة الجماعية ــ بغض النظر عن إمكانية تطبيقه قانونياً. ولأسباب مماثلة، يتفاعل العديد من الألمان بشكل عدائي مع مصطلحات مشحونة أخرى مثل الفصل العنصري والغيتو عندما يتعلق الأمر بتوصيف السياسات الإسرائيلية ــ أو كلمات مثل المقاطعة في الدعوة إلى فرض عقوبات دولية ضد إسرائيل.

مرة أخرى، يمكن للمرء إجراء مناقشة عقلانية حول مزايا وعدالة هذه المصطلحات. ولكن بوسع المرء أن يفهم أيضاً لماذا، في سياق قرون من الاضطهاد المعادي للسامية والذي بلغ ذروته في المحرقة، ينظر أنصار إسرائيل والصهيونية إلى مصطلحات مشحونة مثل هذه باعتبارها "اعتداءات صغيرة". في الوقت نفسه، يتساءلون لماذا يبدو أن أولئك الذين يدينون هذا الاستخدام لمرتكبي الاعتداءات الصغيرة ضد المجموعات الأخرى المضطهدة تقليديًا لديهم هواجس أقل تجاههم عندما يتعلق الأمر باليهود، أو فهم أقل لليهود الذين ينظرون إليهم ويدينونهم على هذا النحو.

ومع ذلك، فإن الفهم الشعبي الضيق لما يشكل إبادة جماعية - القتل الجماعي الصناعي - هو أحد الأسباب التي تجعل الأمر الزجري "لن يحدث مرة أخرى أبدًا" يظل طموحًا لم يتحقق. ويعني هذا الفهم المحدود أنه يتم التغاضي عن أعمال الاضطهاد الجماعي الأخرى. على سبيل المثال، من الواضح أن الترحيل المزعوم و"ترويس" الأطفال الأوكرانيين يعد شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وفقًا لشروط اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948. فهل ينطبق الأمر نفسه على الإخلاء القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، وهو ما يدينه منتقدو إسرائيل باعتباره "تطهيراً عرقياً"، أو أزمة إنسانية وصفها البعض بأنها "مجاعة متعمدة"؟

وهذه مسألة تستحق مناقشة جدية، وسيتم تسليط الضوء عليها في نهاية المطاف من خلال   حكم المحكمة الجنائية الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا مؤخرا ضد إسرائيل. وحتى ذلك الحين، يتعين على منتقدي السياسات الإسرائيلية والمدافعين عنها أن يتجنبوا اللغة التحريضية ــ أو على الأقل أن يكونوا أكثر حذراً بشأن استخدام مصطلحات مشحونة استفزازية بلا داع،وبالتالي تؤدي إلى عرقلة أكثر من مجرد التحريض على المناقشة والتصرفات التي قد تساعد الأبرياء في غزة وأماكن أخرى.

***

...........................

المؤلف: أندرو آي بورت/ Andrew I. Port أستاذ التاريخ في جامعة واين ستيت. تركز أبحاثه على ألمانيا الحديثة، والشيوعية واشتراكية الدولة، والاحتجاج الاجتماعي، والمقاومة الشعبية في ظل الأنظمة الاستبدادية، والإبادة الجماعية المقارنة. وآخر كتاب له "لن يحدث مرة أخرى أبدًا: الألمان والإبادة الجماعية بعد الهولوكوست" (جامعة هارفارد، 2023). يلقي كتاب "لن يحدث مرة أخرى" نظرة على ردود الفعل الألمانية تجاه الإبادة الجماعية في أجزاء أخرى من العالم بعد عام 1945، مع التركيز على كمبوديا والبوسنة ورواندا.

 

عدد غير قليل من الناس يجهل تفصيلات الدساتير ولا يعرف ما هي قيمتها؟ نعم بعض الناس يجهل هذه الدساتير جهلاً تاماً، أو جهلاً يوشك أن يكون تاماً، فالدساتير مقيدة تماماً بالمحافظة على القيم الدينية والسياسية والاجتماعية، وأن مهمتها أن تفصل في هذه المسائل الكثيرة التي نشأت بسبب فئات تبيح لنفسها من اللذات ما أباح لها الدين وما لم يبح، كما أن الدساتير تكبح جماح النخب السياسية التي تريد أن تبسط سلطانها على البلدان، وأن تمارس سياستها القاسية الخشنة التي تخالف أسس العدل والحرية كل المخالفة، وقد أقرت الدساتير سواء التي تمت صياغتها في الشرق المسلم أو في الغرب المسيحي حق الشعب في مقاومة هذه الشرذمة التي أثرت في حياتهم تأثيراً ظاهراً، والتي قطعت الصلة بينهم وبين الحرية والأمن أو كادت تنقطع، والتي أفقرت الدول على كثرة غناها وثرواتها، و” أقرّ الإسلام حق الشعب في مقاومة الحاكم المستبد والثورة عليه، فالخليفة كان مقيداً باتباع أحكام القرآن والسنة وإجماع الصحابة، فإذا خرج عنها وجبت معصيته”. ولم يكن من الممكن أن ينصرف الحاكم للهو، ويعكف على اللذة ويسرف فيها، وينكل بشعبه، ويبالغ في تعذيبه، ويجابه كل من اعترض على ضيمه وجنفه بضروب من القسوة، أن نطالب شعبه بالصبر والجلد، وأن يظل هادئاً صامتاً، ينتحل الطاعة ويتمسك بها، ونحن لا نغير من أصول الدين وقواعده إذا زعمنا أن الشعب بصمته سيتورط في طوام ونكبات لا حصر لها، وهو غافل مسرف في الغفلة إذا ظنّ أن الإسلام قد نهى عن الخروج عن الحاكم إذا بغى وتجبر، هذا أمر يدعو إلى الإشفاق، فالإسلام يريد أن تكون أمته حية نامية، فكيف يتحقق لها هذا، وجلادها يميتها بعسفه وظلمه، ويمنعها من أن يجتمع حولها الناس فتتيح لهم طريقاً يوصلهم إلى الله.

ومن الأحاديث النبوية المتفق عليها التي تقصر الطاعة على الحاكم العادل قوله عليه الصلاة والسلام:” السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”.، وقوله كذلك:” أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر”. وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”. وأنه عليه -أفضل الصلاة وأزكى التسليم- قال أيضاً:” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد”

ولا شك عند الباحث أن موقف من لا يؤذيهم بطش الحكام، ولا يمضهم تجبر اللئام، غير مستقيم، هو خليق بأن يتغير، وأنه بدأ يتغير بدون شك، والدليل على ذلك ثورات الربيع العربي فهي نتيجة من نتائج التمرد على فرية عبثت بطائفة من الناس، زمرة أسرفت في الإساءة إلى نفسها حينما أذعنت لحاكم تجاوز كل حدود الدين والقيم والأعراف، حاكم يظلم شعبه ويسرف في الظلم، ويقضي بين رعيته فيشتط في القضاء، ولا يعرف عنه الناس سوى الغض منهم والإعراض عنهم، يتصرف في شؤونهم كما يشاء، ويتدبرها كما يحب، وهو في كل هذا لا يصور الحاكم المعتدل، ولا يقدم للناس أنموذجاً صالحاً يمكن احتذاؤه والتمثل به، “ولم يكن الخليفة حاكماً مطلقاً يجمع بين يديه سلطان التشريع والإرادة والقضاء، فالتشريع كان مصدره القرآن والسنة والإجماع، أما القضاء فكان بمنأى عن تدخل الخليفة، رغم أنه هو الذي كان يعين القضاة، وكان يمكنه مساءلة الخليفة أمام القضاء، شأنه في ذلك شأن الأفراد العاديين تماماً، ولم يسجل التاريخ حالة واحدة تدخل فيها أحد الخلفاء أو عماله في أعمال القضاء”. ويطول القول إذا أردنا أن نذكر أن الحاكم ليس من الميسور له، أو من السهل عليه، أن يمهد للسطوة أسبابها ووسائلها، وأن يقر نظماً اجتماعية وسياسية تجعل يده طاغية كل الطغيان، فالنظم التي تتنافى مع الإسلام الذي كفل حرية الفرد، وكفل حرية الجماعة، يخضع لها من لا يشقى الحاكم بشقائهم، ولا يسعد بسعادتهم، فهو يعيش معتزلاً في برجه العاجي، وقصره المنيف كما نعلم، ويمسي ويصبح في حياة مترفة رغدة ولا ينتظر أو يرجأ من أحد شيئاً، حفياً بنفر يدفعه إلى شيء آخر غير ظلم الرعية وهو تقريب طغمة فاسدة تعينه على الباطل، رهط يتودد إلى السلطان ويتقرب له، عساه أن يظفر منه بشيء يجعله يعيش في لين إن وجد إلى ذلك سبيلا،، فنراه بعد أن حظي من الباغي بمنزلة، يجحف كما يجحف السلطان، ويستبد كما يستبد السلطان، ويسرق ويرتشي، ويقتل وينتشي، ويأتي كل الموبقات التي يأتيها السلطان، ويستأثر دون الحفاة العراة بالمال، ويعين الغاشم على إعجابه بنفسه واختياله، ويقنعه بأنه من أهل التفرد الذي لا يحتمل شكاً، والنبوغ الذي لا يحوم حوله خلاف.

ولا شك أن الحاكم البائس المغتر بنفسه في حاجة إلى طائفة من الأخلاق لم يكن للنفر المحيط به فيها حظ، وليته تقّصْىَ مكانته عند الرعية، فإنها تنم من غير شك بما تضمره دواخلهم من حب له أو بغض، ولا شك أيضا أن طائفة غير قليلة ستعرض عن موكبه إذا لم تقهرها جلاوزته وزبانيته على الحضور والمشاركة، لأجل ذلك ابتدعت النظم الحديثة ثلة تحمل هذه الأعباء، وتنهض بتلك الأثقال، حشد يتضامون في وحدة متماسكة تحمل بعضها ثقل بعض، قوم يحرصون أشد الحرص على إرضاء هذه الجموع التي ابتليت بمثل هذا الصنف من الحُكام، وإخماد هذه الزفرات، وتسكين تلك العبرات التي تنطلق من دواخلهم المتعبة.

 ومن حق تلك الجموع أن تراعي تلك الطائفة عهدها، ولا تميل به إلى الإخلال، والتقصير القبيح، وأكبر الظن أن هذه الجموع كانت مخدوعة عن نفسها حينما توهمت أن الأحزاب التي تملأ الساحة السياسية سوف تقتحم كل مشقة، وتتكلف كل عناء من أجل أن تقبل على رئيسها إذا عدل، وتعرض عنه إذا طغى وظلم، وغاب عنها أن الأحزاب معظم الأحزاب لا تأبه لإعراضها ولا ازورارها، وأن هاجسها الذي يحرك لسانها، ويطلق صوتها، أن تدنو من الحاكم ويستريح هو إليها، وجهلت تلك الأحزاب التي تؤثر إرضاء الحاكم عن إرضاء قاعدتها” إن تكوين تلك الأحزاب منطلق من أمر رباني مباشر” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” آل عمران: 104. وأن أمة من هذا القبيل لا يمكن أن يعلق مصيرها بشخص الحاكم، بل هي التي ينبغي أن تكون صاحبة السلطان عليه”. لقد أصغت الشعوب كل الشعوب للأحزاب فكلفتها بعض تلك الأحزاب من الأعاجيب مثنى وفرادى، فهي لا تحفل برضاء شعوبها ولا تقف عنده، ومن المآسي التي تواجهها تلك الشعوب إذا أصبحت، وتواجهها إذا أمست، أن يكون ليس هناك توقيت يمكن أن تنجاب عنها هذه المحنة، فقد ألفها أجدادهم وتعايشوا معها، وقنع بها أباءهم ورضخوا لها، وها هم الآن يعيشون بسببها شراً متصلاً وألما أليماً، والمحنة باقية لم تنقضي، والأحزاب السياسية التي كل همها القهر والسلطان لابد من وجودها، ولا مناص من مضاء سيرتها بين الناس، رغم أنها لا تمثل عواطف الناس تمثيلاً صحيحاً، ولكنها “تلعب دوراً فعالاً في خلق الرأي العام، وفي تنشيطه وتنظيمه، فتقوم بتنظيم الاتجاهات السياسية وتوضح مصالح المواطنين بما يتصل بالشؤون العامة وتمدهم بالمعرفة والمعلومات، وتقوم بتجميع مصالحهم، وتحديدها في برامج محددة صالحة للاختيار فيما بينها وتعرفهم على المشكلات العامة التي تواجههم وتزودهم بالحلول المناسبة لها وتعرفهم بحقوقهم وحرياتهم التي يجب عدم تجاوزها”.

كما أن الأحزاب السياسية التي حظها من الأمانة ينقص، وقسطها من الالتواء يزيد “تعمل على تكوين ثقافة سياسية وتوجيه الرأي العام، فتمكنهم من فهم المسائل العامة، والمشاركة في مناقشتها والحكم عليها حكماً صحيحاً؛ فالأحزاب هي أشبه ما تكون بــــــ” مدارس الشعوب”.

والقول بالمشاركة السياسية تكثر فيه المبالغة، ويظهر فيه التكلف، ولا نجد مصطلح المشاركة السياسية عند شعوبنا في المنطقة العربية قد نضج في نفسها وثبتت عليه اعتقادها، ومن الحق علينا أن نتفهم ارتياب الشعوب حيال هذا المصطلح الذي يكثر الجدال واللجاج حوله، فليس هناك في الواقع ما يدل عليه، اللهم إلا في بعض الدول العربية التي نجحت في تحقيق الصلة بينها وبين الفلسفة الغربية، والتي أوجدت لنفسها مساحة من الحرية، لم يسلبها منها بطش حاكم، أو جحود عادة، وهي رغم جهادها وحرصها على توفير تلك المساحة لم تحتفظ إلاّ بأيسر ما نالته من تلك المشاركة، رغم ما لها من حس، وما لها كيد، وما لها تفكير، وما لها من إرادة.

“والمشاركة السياسية كما تعرفها” دائرة العلوم الاجتماعية” هي:” تلك الأنشطة الإدارية التي يشارك بمقتضاها أفراد مجمع في اختيار حكامه وفي صياغة السياسة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أنها تعني اشتراك الفرد في مختلف مستويات العمل والنظام السياسي”. والشيء الواضح والجلي أن شعوبنا في الشرق الأوسط وعالمنا العربي والأفريقي لا تبلغ مشاركتهم السياسية إلا النذر القليل، وهي على قلتها لا تظهر في الأفق إلا إذا أعانها الحاكم ويسرها لأمته، ولعل من بلادة الحس، وفتور الشعور، أن ندعي أن حُكام هذه البقع من العالم يكبرها الناس في أفئدتهم ويؤثرونها بالمودة، لأنها كفلت لهم حرية المشاركة السياسية وأتاحتها لهم، فهم ذهبوا مذهب غيرهم من الطغاة الذين يبسطون القمع لشعوبهم ويجزلون العطاء، هذه الطائفة من البغاة عاجزة أن تلائم بين سيرتها وبين ما تقتضيه فقرات الدساتير في بلادهم، وتمثل المشاركة السياسية المعدومة أو النادرة في دول الشرق الأوسط والقارة الأفريقية “أحد أهم الأدوار الأساسية التي يقوم بها الحزب السياسي حيث يقدم للمواطنين فرصة لتنظيم وهيكلة أنفسهم مع من يشاركونه بالرأي والفكر والعقيدة السياسية من أجل ممارسة التأثير على السلطة الحاكمة، سواء على المستوى المحلي أو المستوى القومي ويصبح الحزب إحدى قنوات الاتصال بين الحاكم والمحكوم وأداة تمكن المواطنين من المشاركة والمساهمة في الحياة العامة وأشهر أنواع المشاركة السياسية هي الانتخابات”. والرؤساء في عالمنا لا يدركون المغزى من حرص الشعوب على هذه الانتخابات التي لا تفضي إلا لما يبتغونه هم وينشدوه، والتي يظهر كل فرد منهم نفسه فيها بمظهر العادل الذي لا يجور، والمتواضع الذي لا يتكبر، والرحيم الذي لا يتجبر، ولعل الأمر الذي يعجز العقل عن فهم فلسفته، كيف لا يتجشم عقل الطاغية أسباب حزن الرعية الذي انتهى بها شغفها إلى التغيير إلى هذه النتيجة المؤلمة، ولا يستقبل ما استقبلته من خيبات عسيرة الاحتمال، والباحث يريد أن يتجاوز طغيان الساسة وعسفهم وتملقهم للحكام والسلاطين، وزهد الرؤساء في تطبيق الدستور الذي أقسموا على العمل وفق حيثياته،  لكن هناك أمرين يعترضانه ويمنعاه من أن يقف عند هذا الحد، فالحاكم الذي يسعى أن يخدع أتباعه بإظهار صلاح لا يثبته نهجه، ولا تثبته أفعاله، لماذا يدأب دوماً في الاستهزاء بالدين؟، ويكره أن يحث عليه؟ ولماذا لا تأخذ جماهيرهم صلاتهم ونوافلهم من منطلق أنها خضوع تام لرب العزة الذي ملّكهم على رقاب الغير؟ ولماذا نشعر في كثير من الأحيان أن الأحزاب الإسلامية التي ينبغي أن نستبين في تفصيلاتها السياسية قيم الإسلام ورسوخه، نجدها تمانع أشد الممانعة، وتأبى أشد الإباء بتصرفاتها الفجة أن نقبل عليها، ونثق فيها، ونسمع لها؟

***

د. الطيب النقر

 

الظواهر السلبية التي ظهرت في المجتمع العراقي منذ بداية الاحتلال عام ٢٠٠٣ والى الآن والتي تعتبر جديدة على المجتمع العراقي وتثير المخاوف والتساؤلات، تختلف الآراء في تفسير اسبابها .

الا ان الملاحظ هو طغيان نظرية المؤامرة واتهام جهات مختلفة بأنها تريد تدمير العراق وتمنعه من التقدم..

ونادراً ما يصدر رأي علمي هاديء يقدم تفسيراً منطقيا ً وعلمياً لما يجري بعيداً عن المؤامرات.

اليس ممكناً ان يكون ذلك الانفلات ناجماً عن عقود من الكبت والتضييق والحياة الصعبة ومخاطر الحروب وعذاب الحصار؟.

متى عاش العراقيون بارتياح وهدوء وتنعّموا بالحياة؟

قالها الرئيس السابق ذات مرة ومن على شاشة التلفزيون، باننا نستطيع جعل العراقيين يتمتعون برفاه دول الخليج، ولكننا نريدهم ان يعتادوا الحياة الصعبة لكي يستطيعوا انجاز المهام القومية التي تنتظرهم !!

اذن فلقد كان التضييق سياسة مخططة ادت الى هذا الكم من العذاب الاجتماعي والحرمان من منتجات التكنولوجيا الحديثة بحجة الدواعي الامنية .

والآن وبعد الانفلات الذي اعقب الاحتلال، هل يمكن مطالبة الاجيال الجديدة بنوع من الانضباط؟

وماهي مقاييس الانضباط ومن الذي يحددها؟

هل كان لدينا بناء منهجي متدرج لمنظومة قيم متفق عليها؟

هل لدينا احزاب تمتلك تراث ثقافي وفكري يغطي كل جوانب الحياة ويدخل في المناهج التعليمية وفي المنتجات الثقافية التي تشكل الوعي المجتمعي؟

هل كانت لدينا مؤسسات ثقافية مستقلة بعيداً عن تدخلات السياسيين وميولهم الايديولوجية ؟

هل كانت لدينا ثقافة مستقلة او دور نشر مستقلة او مسرح او سينما مستقلة؟ هل كانت لدينا منظمات مجتمع مدني ونقابات وجمعيات مستقلة؟.

في فترة ما من تاريخ العراق اضطر حتى المطربون والشعراء والملحنون الى الهرب من العراق لانهم كانوا يُجبرون على الأداء ضمن سياق ايديولوجي تحدده الدولة والحزب القائد.

وعندما انهار النظام وانهار البلد وانهارت مؤسسته الامنية وغيرها من المؤسسات. لم يجد الجيل الجديد امامه سوى ما سمح به الاحتلال من تدفق فوضوي للأشياء المختلفة، المادية والمعنوية والقيمية!

حاجات الناس مختلفة وامزجتهم مختلفة وتطلعات الشباب ايضاً متنوعة ولايمكن أخضاعها الى قوالب حكومية قسرية لان ذلك سوف يخلق شخصيات مزدوجة تتظاهر بالانصياع لرغبات النظام لكنها تخفي اموراً أخرى.

يبدو ان البعض يرى ان اليتم والترمل والاستغلال والفقر والجوع والحرمان ومشاهد العنف والانفجارات والاغتيالات، ليس لها تأثير على توجهات الناس لاسيما الشباب منهم ..

كما يبدو ان البعض يعتقد ان انغلاق الأفق وانعدام فرص العمل.

لاتؤثر في بناء الشخصية!

ارجو ان لايساء فهمي في هذا المنشور، فليس القصد استبعاد الأثر الخارجي في مايحصل في العراق سواء من قبل الدول الاخرى او اجهزة الاستخبارات او العصابات او الشركات الخ..

ولكني اردت القول ان العامل الخارجي ليس هو المسؤول وحده عما حصل بل ان العوامل الداخلية الموروثة والحالية تلعب دوراً فاعلاً في ذلك اضافة الى العوامل الخارجية والمؤامرات، بالطبع.

***

د. صلاح حزام

في المفهوم: التّطبيع، مصطلح في سياقه سياسيّ يشير إلى جعل العلاقات طبيعيّة بين دولة وأخرى، أو بين دولة وعدة دول كان بينهم عداوة أو خلافات وتوتر لأسباب ما، وهم يسعون بالتطبيع لتجاوزها والعودة إلى خلق علاقات طبيعيّة بينهم .

وهذا يعني أنّ تّطبيع بعض الدول العربيّة مع الكيان الصهيونيّ يهدف إلى جعل علاقات الدول العربيّة معه طبيعيّة، ويأتي في مقدمتها الاعتراف بوجوده، بعد كل المجازر والاعتداءات التي قام بها هذا الكيان ضدّ شعوب دول الجوار العربيّة بشكل عام، و الشعب الفلسطينيّ منها بشكل خاص.

السيرة التاريخيّة للتطبيع

لمؤازة إقرار "وعد بلفور" من أجل إقامة الدولة اليهوديّة على أرض فلسطين، كانت اتفاقيّة سايكس بيكو الرامية إلى تفتيت سورية الكبرى، والتي جزأتها فعلاً إلى سورية ولبنان والأردن وفلسطين. وأمام حالة التذرير هذه لسورية الكبرى، جاء انعقاد مؤتمر "سان ريمو" عام 1920 ليفرض حالة التذرير هذه باسم الانتداب ورسالة الرجل الأبيض. ومع تطبيق سياسة الانتداب، أصبحت مسألة تنفيذ المشروع الصهيونيّ وإقامة الدولة الصهيونيّة أمراً حتمياً تحت مظلة السيطرة الاستعماريّة واستحكام قيضتها على مقاليد أمور البلاد. يساعدها في ذلك الحكومات العربيّة المُشكلة في تلك الفترة برغبة استعماريّة، حيث كانت مؤهلة من خلال طبيعتها ومصالحها وارتباطاتها لتنفيذ هذا المشروع الصهيونيّ الامبريالي.

إن التطبيع مع الدولة الصهيونيّة ليس حديثاً كما يبدو لبعضهم، فالكثير من الأنظمة العربيّة منذ حرب 1948 كانت وراء قيام هذه الدولة والتعاون معها في السر، فوراء تدخل الملك عبد الله في حرب 1948، كانت تكمن رغبته في تحقيق مصالحه على حساب القضيّة الفلسطينيّة من خلال سعيه لضم القسم الذي أقرته الأمم المتحدة في قرار التقسيم "181" للفلسطينيين تحت نفوذه، أي تحت نفوذ الأردن. أما تدخل الملك عبد العزيز بن سعود في هذه الحرب، فكانت رغبته في منع الملك عبد الله من تحقيق ضم هذا القسم الذي ترك للفلسطينيين في قرار التقسيم للأردن، حتى لا يقوى نفوذه، وبالتالي امتلاكه القدرة على استرداد ملك أبيه الذي يرى أن آل سعود أخذوه منه في السعوديّة. أما الملك فاروق فكان يطمح بالخلافة الإسلاميّة بعد أن تخلى عنها "كمال أتاتورك"، لذلك تدخل لمنع "عبدالله" من الحصول على القسم الفلسطيني ذاته وضمه إلى الأردن وبرغبة سعوديّة كما سيمر معنا بعد قليل.

تذكر المصادر قبيل قيام حرب 1948، أن الملك عبد العزيز أرسل رسالة إلى الملك فاروق يقول له فيها: ( إن صاحبنا - يقصد الملك عبد الله - في الشرق، " تأبط شراً" يبغي يفاجئنا بالمحظور، فملكه لا يصير توسيعه على حساب القضية، وهو يلعب مع الإنكليز، والانكليز يلعبون به، فوقفه عند حده لازم، وثوقنا بعد الله في حكمتكم. وإلا المصائب تقع علينا وليس عليهم...). (1) . ومثل هذه الرسالة وجهت من قبله إلى قبائل الأردن وحكومة دمشق وقد أعلن عن دعمه لتقديم الدعم الماديّ للمعركة إذا خرج منها عبد الله. (2).

هذا وقد جاء في مذكرات "بن غوريون" عندما سأل المندوب البريطاني عبد الله عن موقف العرب من الحرب إذا قامت، قال له عبد الله: (الجامعة ليست جامعة، والقرارات ليست قرارات، لقد طرحوا في الجامعة مشروع قطع العلاقات مع الغرب، كلام فارغ، هل ابن سعود يستطيع قطع العلاقات مع أمريكا؟. كل واحد في العالم العربي يزايد على الآخر... البيان الذي صدر بعد انتهاء اجتماعات الجامعة، كان موجها لتغطية الفشل العربيّ... شرق الأردن لم يوافق على أي قرار...مصر أعلنت صراحة لن تقدم سوى المال والدعاية والعمل السياسيّ، ولكن لا سلاح ولا جيش وربما يُسمح لمتطوعين... لبنان قال أنه لا يستطيع تقديم أكثر من /500/ بندقية. سورية لها حسابات أخرى.. السعوديّة تعطي الدولارات.. اطمئنوا فالفيلق الخامس بقيادة كلوب باشا.). (3)

نتيجة الخيبات العربيّة المحققة عن طريق تأمر الحكام العرب على القضيّة الفلسطينيّة، والحصار الذي فرض على منظمة التحرير الفلسطينيّة، والمواقف الضاغطة من الغرب وأمريكا، ونتائج مشروع روجرز الذي يرمي إلى سيطرة أمريكا على المنطقة وعزل القضيّة الفلسطينيّة عن محيطها العربيّ التضامني، وتثبيت الوجود الاسرائيلي في المنطقة، وبالتالي تحويل مشكلة الصراع بعد حرب السبعة وستين المدمرة بين مصر وسورية مع الدول الصهيونيّة من مشكلة وجود إلى مشكلة حدود... نقول: أمام كل معطيات هذه الخيبات، بدأت تظهر بعض الأصوات من القادة الفلسطينيين بضرورة حل الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، حلاً يقوم على مد الجسور لإقامة مفاوضات سلميّة. ومن هذه الأصوات كان صوت "نايف حواتمة" و"أبو مازن" و"محمد عباس".

فهذا "أبو مازن" يشير في مذكراته في عام 1970 قائلاً: (لقد توصلت إلى ضرورة العمل على الاتصال بالقوى الإسرائيليّة  لإجراء حوار معها من أجل الوصول إلى سلام.).

وهذ "نايف حواتمة" قبيل حرب تشرين بعدة أشهر في آب 1973، يتقدم بفكرة أوليّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، تهدف إلى ضرورة إقامة دولة ديمقراطيّة موحدة في فلسطين . أما أول جزء من خطة هذا التوجه فهو إقامة سلطة فلسطينيّة على أي جزء من الأراضي المحتلة في فلسطين، بعد تحريرها أولاً بالسلاح أو بالطريقة السلميّة. (4).

بعد حرب تشرين وتحول مصر عن النهج القومي، راح السادات يمارس ضغطه لحل القضية الفلسطينيّة حلا سلميّا وفق قرار مجلس الأمن "338، 22ت1 1973"،  الذي دعا الأطراف المتنازعة جميعاً إلى وقف إطلاق النار وتطبيق القرار242.

وفي مؤتمر القمة العربية السادس /26-28) تشرين الثاني 1973، أعلن الحكام العرب المتواجدون في مؤتمر قمة الجزائر. (التزامهم باستعادة الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ وفق ما تقرره منظمة التحرير). بعد أن أعطوا المنظمة حق التمثيل الشرعيّ لمصالح الفلسطينيين، في مسألة الصراع العربيّ الصهيونيّ. وهنا تخلى العرب بقرار رسمي عن القضية الفلسطينيّة، وتركوا الفلسطينيين يناضلون دون أرض أو تغطية سياسيّة أو عسكريّة.

بعد هذا التنازل العربيّ عن دعم القضية الفلسطينيّة، تنازلت الدول الإسلاميّة أيضاً في مؤتمر "منظمة المؤتمر الإسلاميّ 1974" المنعقد في "لاهور" عن الفلسطينيين، باتخاذهم قراراً يؤيد استقلاليّة القرار الفلسطينيّ. (5).

في الدورة 39 لهيئة الأمم المتحدة 1974 اتخذت الهيئة العامة للأمم المتحدة قراراً جاء فيه دعوة منظمة التحرير للمشاركة في مناقشات القضيّة الفلسطينيّة من حيث كونها ممثلاً للشعب الفلسطينيّ.  (6).

وبعد حوادث لبنان في /12/ آذار/ 1977، بدأ ما يسمى بالتيار الفلسطينيّ المعتدل يفرض قناعاته تجاه تسوية المسألة الفلسطينيّة، حيث أصدر "المجلس الوطنيّ الفلسطيني" بياناً دعا فيه إلى ضرورة إجراء اتصالات مع القوى الصهيونيّة بما يتلاءم ومصلحة الشعب الفلسطيني. (7). بيد أن الرافضين لهذا الاتجاه قاموا بتصفية العديد من المنادين به أمثال: ( رؤوف القبيسي- علي الياسين- سعيد جمامي- عز الدين قلق- ابراهيم عبد العزيز – نعيم خضر- ما جد أبو شرارة). هذا في الوقت الذي كان فيه ملك المغرب "الحسن الخامس" يشجع ويدفع الفلسطينيين (منظمة التحرير) إلى ضرورة التنسيق مع مصر لتحقيق التسوية السلميّة. الأمر الذي جعل السادات يوافق على وساطة الملك الحسن بعودة المنظمة إلى القاهرة. (8).  ترافق ذلك مع إصدار أمريكا توجهات لسفاراتها بعدم استقبال أي من القوى الفلسطينيّة حتى يعترفوا بإسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242 و338. وبذلك سُدّتْ كلُ منافذ الحركة والنضال أمام الفلسطينيين وقادتهم.  (9)0.

مع قيام الثورة الإسلاميّة في ايران 1979اتجهت منظمة التحرير نحو ايران كحليف وداعم للحق الفلسطيني. غير أن خطأ الحسابات السياسيّة في حرب الخليج الأولى وعودة منظمة التحرير لحضن العراق أفسد العلاقات بين الفلسطينيين وايران.

وعندما قام التغيير في روسيا بفعل البيروستريكا ذهب وفد فلسطينيّ رفيع المستوى إلى موسكوا يعرض حال الفلسطينيين وتخلي الكل عنهم، طالبين الدعم الروسي لهم كون روسيا أحد الأطراف الأربعة المكلفة بحل قضية الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ. إلا أن غورباتشوف قال لهم عودوا إلى أمريكا فالحل كله عندها.

سارت مصر بمشروع السلام وعقدت اتفاقية كامب ديفيد عام ( 1979). أما الفلسطينيون فقد اتجهوا إلى انتفاضة الحجارة، فكانت النتيجة اتفاقية "أوسلو" (1993) التي أهم نتائجها أمام الحصار الذي فرض على الفلسطينيين من كل الجهات، هو تحقيق أرض يتواجدون عليها ويفاوضون... وبضعة بنادق لشرطتهم... وعلم يرفرف على مقر سلطتهم أمام كل التحديات، وليقولوا للعالم كله نحن باقون وأجيالنا ستعرف أن فلسطين لهم وستعود يوما لا محال. ثم تلتها الأردن باتفاقيّة وادي عربة (1994).

الامارات والبحرين وصفقة القرن

كُتب الكثير في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات العربيّة، وظهر الكثير من التحليلات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة على القنوات التلفزيونية التي تناولت هذا المسار التطبيعي الذي سمي بصفقة القرن. لذلك سأحاول في هذه العجالة أن أبين أهم الأهداف الرامية إلى هذا المسار التطبيعي بالنسبة لكل الأطراف المعنيّة بهذا التطبيع بشكل مباشر أو غير مباشر.

على العموم لم تكن صفقة القرن الساعية إلى تطبيع العلاقات بين ما تبقى من الدول العربيّة والدولة الصهيونيّة وليدة المصادفة، أو الظروف التاريخيّة الراهنة، وإنما عمليّة التطبيع بين الدول المطبعة أخيراً وخاصة (الإمارات والبحرين)، كانت قائمة منذ سنين طويلة في الظل، حيث كانت كلتا الدولتين بالكاد تخفيان العلاقات مع إسرائيل. والآن تتطلعان إلى التواصل بشكل منفتح، فجاءت صفقة القرن كي تظهرها على السطح، أي كانت تنتظر فقط الرافعة التي تسمح لها بالظهور على السطح. ولتسمح لكل من المغرب والسودان أن يسيران في هذا الاتجاه أيضاً.

لقد اختار الحاكم الفعلي للإمارات أن يعلن الزواج السياسي بين (أبو ظبي وتل أبيب) بعد خطوبة استمرت عدة سنوات، وقد نال هذا الزواج السياسيّ مباركة هيئة الإفتاء الإماراتيّة ببيان صادر عن رئيسها العالم الموريتاني "عبد الله بن بيه" الذي رأى أن مثل هذه العلاقات هي شأن سياديّ للحاكم.

لقد تمّ الإعلان عن اتّفاقيّة التّطبيع بين اسرائيل والإمارات العربيّة المتّحدة يوم الخميس 13/أغسطس/2020م، ونصّت هذه الاتّفاقيّة على التّطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين تحت ذريعة تعزيز السّلام في منطقة الشّرق الأوسط، كما أنّها نصّت على توقيع الاتّفاقات الثّنائيّة في مختلف المجالات، ومنها: الأمن والاتّصالات والتّكنولوجيا بالإضافة إلى السّياحة والثّقافة. هذا وقد تمّ الإعلان عن قيام "مملكة البحرين" أيضاً بإبرام اتّفاقيّة التطبيع مع دولة إسرائيل يوم الجمعة 11/سبتمبر/2020م، وأعلنت وكالة الأنباء الرّسميّة البحرانيّة: بأنّ توقيع هذه الاتّفاقيّة يعدُّ أحد الجهود الدّوليّة للبحرين في نشر ثقافة السّلام والتّعايش في مختلف أنحاء العالم، كما قالت وكالة الأنباء الرّسميّة بأنّ إعلان السّلام البحرينيّ الإسرائيليّ يخلق للشعب الفلسطينيّ فرصاً أفضل في إقامة دولة مستقلّة ومستقرّة ومزدهرة أيضًا.

الأسباب الداعية للتطبيع الأخير وفق صفقة القرن:

أولاً: تحقيق فرص تجاريّة وعسكريّة لدول الخليج

تنظر الدول المطبعة إلى أن هذه الاتفاقيّة ستساعدهم على  كسب التكنولوجيا الاسرائيليّة وخاصة بالنسبة للإماراتيين الطموحين، الذين جعلوا من أنفسهم قوة عسكريّة ومركزاً تجاريّاً ومقصداً للسياحة. و ذلك على اعتبار أن إسرائيل تمتلك أحد أهم قطاعات التكنولوجيا في العالم.

ويبدو أن الأمريكيين مهدوا لإبرام الصفقة عبر تقديم وعود بأسلحة متطورة كانت الإمارات العربيّة المتحدة بالكاد قادرة على التفرج عليها في الماضي. وهي تشمل مقاتلة اف 35 وطائرة الحرب الإلكترونيّة "إي ايه-18جي غرولر".

وكان أيضاً تشارك المخاوف نفسها من إيران، لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة والإمارات والبحرين. فحتى عام 1969، كانت إيران تدعي أن البحرين جزءاً من أراضيها. ويعتبر حكام البحرين السنة أيضاً أنّ بعض الشيعة في المملكة بمثابة طابور خامس محتمل لإيران. أما قضية الجزر بين إيران والإمارات فهي غير خافية على أحد. هذا ويعد تعزيز التحالف ضد إيران ميزة كبيرة أخرى. حيث يرى نتنياهو ودولتا الامارات والبحرين أنّ إيران هي العدو الأول لكل منهم.

ثانيا: تخفيف عزلة إسرائيل

يعتبر تطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين اليوم إنجازاً حقيقيّاً للإسرائيليين. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤمن بالاستراتيجيّة التي وُصفت لأول مرة في عشرينيات القرن الماضي بـ"الجدار الحديديّ". وتركز الفكرة على أن القوة الإسرائيليّة ستجعل العرب في النهاية يدركون أن خيارهم الوحيد هو الاعتراف بوجودها. لا سيما وأن الإسرائيليين لا يحبون العزلة في الشرق الأوسط، ولم يكن السلام مع مصر والأردن دافئاً أبداً بالنسبة لهم، وربما لديهم تفاؤل أكبر بشأن العلاقات المستقبليّة مع دول الخليج.

ثالثاً: إن نتنياهو كان محاصراً أيضاً، ويواجه محاكمة بتهمة الفساد التي قد تؤدي به إلى السجن آنذلك. إضافة لسوء تعامله مع جائحة كورونا التي دفعت المعارضين إلى تنظيم مسيرات أسبوعية خارج مقر إقامته في القدس. ولذا، لا يمكن أن يأتي وقت لتوقيع حفل الاتفاق في البيت الأبيض أفضل من هذا التوقيت.

رابعاً ً: انقلاب في السياسة الخارجيّة لأمريكا

هذه الصفقة، تفيد رئيس الولايات المتحدة على مستويات عدة: فهي تقدم دفعة كبيرة لاستراتيجيته الرامية إلى ممارسة "أقصى ضغط" على إيران. وهي أيضاً ذخيرة مفيدة، خاصة في الأيام الأخيرة من الانتخابات، لدعم تفاخره بأنه أفضل صانع صفقات سلام لإسرائيل في العالم. وهذا ما جعل "ترامب" يعلن عن الاتفاق من البيت الأبيض. إضافة لذلك، فأي شيء يفعله لصالح إسرائيل، أو بالأحرى لحكومة بنيامين نتنياهو، يتماشى جيداً مع الناخبين الإنجيليين المسيحيين الأمريكيين، وهم جزء مهم من قاعدته الانتخابيّة. وبالتالي يجب على تحالف "أصدقاء أمريكا" ضد إيران أن يعمل بشكل أكثر سلاسة عندما يكون عرب الخليج منفتحين بشأن علاقاتهم مع إسرائيل.

لقد كان هناك الكثير من الجدل لدى الإعلان عن "صفقة القرن" التي أطلقها "ترامب" لصنع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. لكنّ الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي البحراني يمثل تحولاً مهماً في ميزان القوى في الشرق الأوسط، ويتم تقديمه من قبل ترامب على أنه انقلاب كبير في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة.

خامساً: الموقف الفلسطينيّ من الاتفاق

لقد أدان الفلسطينيون ما يعرف بـاتفاق "ابراهام" باعتباره خيانة. لذلك جاء الاتفاق بين الإمارات والبحرين وإسرائيل ليكسر شبه الإجماع العربيّ الطويل على أن ثمن العلاقات الطبيعيّة مع إسرائيل هو استقلال الفلسطينيين. وبالرغم من أن إسرائيل  تعمل الآن على ترسيخ علاقات عامة جديدة مع الدول العربيّة، وقد قال ولي عهد أبوظبي "محمد بن زايد آل نهيان" : إنّ ثمن الصفقة هو موافقة إسرائيل على وقف ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربيّة.  إلا أن  الفلسطينين لا زالوا تحت الاحتلال في القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة، وفي ما يرقى إلى مستوى سجن مفتوح في غزة. ولكن يبدو أن رئيس الوزراء نتنياهو قد تراجع عن فكرة ضم أجزاء من الضفة الغربيّة إلى كيان الدولة الصهيونيّة في الوقت الحالي على الأقل، بسبب الضغط الدوليّ الساحق. وليقدم له الإماراتيون والبحرانيون في تطبيعهم مخرجاً من الحرج.

إن توقيع الاتفاق هذا، لم يكن ليحدث من دون موافقة السعوديّة التي طرحت خطة السلام العربيّة المتضمنة إقامة الدولة الفلسطينيّة. إنّ مكانة الملك سلمان بصفته خادم الحرمين الشريفين تمنحه سلطة هائلة، ومن غير المحتمل أن يعترف بإسرائيل فجأة، لكن قد يكون ابنه ووريثه، "محمد بن سلمان"، أقل تردداً، الأمر الذي جعل البيت الأبيض الأمريكي يرحب به كداعم للسلام مع الدولة الصهيونيّة إضافة لحاكميّ الإمارات والبحرين.

سادساً: الموقف الإيرانيّ من اتفاق التطبيع الإماراتي البحريني  مع إسرائيل:

لقد نددت القيادة الإيرانية بالاتفاق بشدة، حيث وضعهم اتفاق ابراهام تحت ضغط جديد. لذلك خرجت تظاهرات في إيران منددة بالتطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل. خاصة وأن عقوبات ترامب تسببت في ألم اقتصاديّ حقيقي لإيران. وأصبح لدى إيران الآن صداع استراتيجي إضافي.

لا شك أن القواعد الجويّة الإسرائيليّة بعيدة عن إيران. أما تلك الخاصة بالإمارات، فهي عبر مياه الخليج.  وبذلك سيشكل وجود قواعد جويّة أو بحريّة في دولتي الامارات والبحرين تحت تصرف اسرائيل خطورة كبيرة للغاية على إيران، في حال كانت هناك عودة للحديث عن ضربات جويّة ضد المواقع النوويّة الإيرانيّة.

نعم لقد بات لدى إسرائيل والولايات المتحدة والبحرين والإمارات مجموعة من الخيارات الاستراتيجيّة الجديدة. يقابلها تقلص كبير في مساحة خيارات المواجهة العسكريّة الإيرانيّة .

ملاك القول:

لقد خرجت العلاقة بين أبو ظبي والبحرين وتل أبيب إلى العلن، رغم أنها كانت حديث العالم كله وكانت خيوطها المخفيّة ظاهرة للعيان في مستويات متعددة، بدت غالبا ضد القضيّة الفلسطينيّة وأصحابها، وانحيازا للمحتل في محطات ولحظات حاسمة. وما تجلى في حرب غزة الأخيرة (طوفان الأقصى)، يبين لنا إلى أي حد وصلت مساحة التطبيع وعمقه بالنسبة للإمارات والبحرين ومصر والسعوديّة والأردن ومصر مع الكيان الصهيوني.

نعم هذه هي السيرة العربيّة للتطبيع منذ حرب 1948 حتى اليوم مع الكيان الصهيونيّ الذي تتحمل مسؤوليتها الحكومات العربيّة وليس شعوبها. واسرائيل تدرك تماماً أن قضية التطبيع ليست بين شعوب عربيّة والشعب اليهوديّ، وإنما هي علاقات تطبيع ذات توجهات سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة تعقدها الحكومات. وهذا ما جعل أحد المحاورين الصهاينة على إحدى القنوات الخليجية يقول رداً على تعليق لأحد الرافضين للتطبيع: بأن الشعوب العربيّة ليست مع التطبيع... نحن لا يهمنا الشعوب العربيّة، نحن تهمنا الحكومات العربيّة صاحبة القرار.. ما يهمنا العلاقات الأمنيّة والاقتصاديّة فقط.

كاتب وباحث من سورية.

***

د. عدنان عويّد

.......................

1- معوقات حركة التحرر العربية – عدنان عويّد – دارالمدى- دمشق 2002- ص269 وما بعد.

2- المرجع نفسه. ص270.

3- المرجع نفسه. 270 وما بعد.

4- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة  وسبل التسوية – مجموعة من الباحثين السوفييت – اصدار مركز الاستشراق السوفياتي. موسكو 1983 ص 196.

5- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق ص165

6- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق  ص314.

7- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق   ص318.

8- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق   ص319.

9- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق. ص330

ملاحظه: للاستزادة في معرفة السيرة التاريخية بشكل أكثر تفصيلا عن القضية الفلسطينية منذ بداية قيام دولة الكيان الصهيوني حتى أوسلو، راجع كتابنا: (معوقات حركة التحرر العربية في القرن العشرين – عدنان عويّد – دارالمدى- دمشق 2002).

أصبح مفهوم تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" هدفا محوريا للعديد من الدول والمنظمات حول العالم في مكافحة تغير المناخ. يهدف هذا الهدف الطموح إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة إلى مستوى يتم فيه موازنة كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي مع الكمية المزالة. ومع اقترابنا من عام 2050، من المهم فهم السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين الذين شكلوا الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050".

السياق التاريخي

ويمكن إرجاع الدفع نحو "صافي الصفر في عام 2050" إلى الجهود المبكرة لمعالجة تغير المناخ والاعتراف المتزايد بالحاجة إلى الحد من انبعاثات الكربون. تأسست اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) في عام 1992 للتصدي للتهديد العالمي لتغير المناخ وتمهيد الطريق للتعاون الدولي في العمل المناخي. كان بروتوكول كيوتو في عام 1997 بمثابة علامة بارزة في الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، على الرغم من أن فعاليته كانت محدودة بسبب عدم وجود التزامات ملزمة من الدول الرئيسية المسببة للانبعاثات مثل الولايات المتحدة.

وفي العقود التالية، أصبحت آثار تغير المناخ أكثر وضوحا، حيث أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع مستويات سطح البحر، وفقدان التنوع البيولوجي واضحة بشكل متزايد. كان اتفاق باريس في عام 2015 بمثابة نقطة تحول في العمل المناخي العالمي، حيث التزمت البلدان بالحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بما يقل كثيرا عن درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة. اكتسب هدف تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" زخماً مع قيام البلدان بمراجعة أهدافها المناخية وتبني أهداف أكثر طموحاً لخفض الانبعاثات.

الشخصيات الرئيسية

لعبت العديد من الشخصيات الرئيسية دورا حاسما في الدعوة إلى "صافي الصفر في عام 2050" وتشكيل الخطاب حول العمل المناخي. ومن أبرز الشخصيات هي غريتا ثونبرج، الناشطة البيئية السويدية التي نالت اعترافا دوليا بإضراباتها المناخية وخطاباتها التي دعت إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن تغير المناخ. ساعدت مناصرة ثونبرج الحماسية في تعبئة حركة شبابية عالمية للضغط من أجل سياسات والتزامات مناخية أكثر طموحًا من الحكومات والشركات.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في الدفع نحو "صافي الصفر في عام 2050" هي كريستيانا فيغيريس، الأمينة التنفيذية السابقة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والتي لعبت دورا رئيسيا في المفاوضات التي سبقت اتفاق باريس. لقد كان فيغيريس مدافعا قويا عن العمل المناخي الطموح واستمر في الدعوة إلى "صافي الصفر في عام 2050" كهدف ضروري لمكافحة تغير المناخ بشكل فعال.

تأثير "صافي الصفر في عام 2050"

إن تأثير تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" مهم في مكافحة تغير المناخ. ومن خلال خفض انبعاثات الغازات الدفيئة إلى مستويات صافي الصفر، يمكن للبلدان التخفيف من أسوأ آثار تغير المناخ، مثل الظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع مستوى سطح البحر، وفقدان التنوع البيولوجي. ويتيح تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" أيضا فرصًا للابتكار والنمو الاقتصادي في تقنيات الطاقة النظيفة والممارسات المستدامة.

إحدى الفوائد الرئيسية لـ "صافي الصفر في عام 2050" هي القدرة على الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وتجنب الآثار الأكثر كارثية لتغير المناخ. ومن خلال خفض الانبعاثات إلى مستويات الصفر الصافي، تستطيع البلدان التخفيف من مخاطر التغيرات التي لا رجعة فيها في النظام المناخي، مثل فقدان القمم الجليدية القطبية أو انهيار الشعاب المرجانية. سيساعد ذلك على حماية المجتمعات والنظم البيئية الضعيفة الأكثر عرضة للخطر من تغير المناخ.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" يمكن أن يدفع الابتكار والاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة والممارسات المستدامة. ومن خلال تحديد أهداف مناخية طموحة، يمكن للبلدان إنشاء حوافز للشركات للانتقال نحو مصادر الطاقة المنخفضة الكربون وتبني ممارسات أكثر استدامة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى خلق فرص عمل جديدة في قطاعات الطاقة المتجددة وتحفيز النمو الاقتصادي في الصناعات التي تساهم في تقليل الانبعاثات.

ومع ذلك، هناك أيضا تحديات وآثار سلبية محتملة مرتبطة بتحقيق "صافي الصفر في عام 2050". سيتطلب الانتقال إلى اقتصاد صافي الانبعاثات الصفرية تغييرات كبيرة في أنظمة الطاقة والنقل واستخدام الأراضي، وهو ما يمكن أن يكون مدمرا لبعض الصناعات والمجتمعات. على سبيل المثال، يمكن أن يكون للتحول من الوقود الأحفوري نحو مصادر الطاقة المتجددة آثار سلبية على العاملين في صناعات الفحم والنفط، مما قد يؤدي إلى فقدان الوظائف والاضطراب الاقتصادي.

علاوة على ذلك، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" سيتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية وتقنيات الطاقة النظيفة، وهو ما قد يكون مكلفا ويتطلب دعما ماليا من الحكومات والمنظمات الدولية. وسيتطلب الانتقال إلى اقتصاد خال من الانبعاثات أيضا إجراء تغييرات في سلوك المستهلك واختيارات نمط الحياة، وهو ما قد يقابل بالمقاومة أو التشكيك من جانب الجمهور.

وبشكل عام، فإن تأثير تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" معقد ومتعدد الأوجه، وله آثار إيجابية وسلبية على المجتمع والاقتصاد والبيئة. وسيكون من الضروري أن يعمل صناع السياسات والشركات والمجتمع المدني معا لمعالجة هذه التحديات والفرص وضمان الانتقال العادل إلى مستقبل مستدام وقادر على الصمود.

الشخصيات المؤثرة في "الصافي الصفري في 2050":

قدم العديد من الأفراد المؤثرين مساهمات كبيرة في الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050" من خلال أبحاثهم ومناصرتهم وقيادتهم. أحد هؤلاء الأفراد هو الدكتور فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، الذي كان صوتا رائدا في تعزيز تقنيات وسياسات الطاقة النظيفة لمعالجة تغير المناخ. لقد كان لأبحاث وتحليلات الدكتور بيرول دور فعال في تشكيل سياسات الطاقة العالمية وإعلام صناع القرار بالحاجة إلى التحول السريع إلى صافي الانبعاثات الصفرية.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في مجال "صافي الصفر في عام 2050" هي الدكتورة كريستينا هود، عالمة المناخ والمؤلفة التي أجرت بحثا رائدا حول تأثيرات تغير المناخ وسبل تحقيق صافي انبعاثات صفرية. لقد كان لعمل الدكتور هود دور فعال في رفع مستوى الوعي حول مدى إلحاح العمل المناخي وتوفير الأدلة العلمية لدعم الأهداف الطموحة لخفض الانبعاثات.

بالإضافة إلى ذلك، كان إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة Tesla وSpaceX، شخصية بارزة في الترويج لتقنيات الطاقة النظيفة وتسريع الانتقال إلى مستقبل الطاقة المستدامة. ساعدت رؤية ماسك لثورة الطاقة المتجددة واستثماراته في السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية في دفع الابتكار والاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة حول العالم.

لقد لعب هؤلاء الأفراد المؤثرون وغيرهم الكثير دورًا حاسمًا في دفع الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050" وتشكيل الخطاب حول العمل المناخي. وقد ساعدت قيادتهم ومناصرتهم وأبحاثهم في حشد الدعم للأهداف الطموحة لخفض الانبعاثات ودفع التقدم نحو مستقبل أكثر استدامة ومرونة.

التطورات المستقبلية

وبينما نتطلع إلى المستقبل، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" سيتطلب بذل جهد متواصل وتعاون عبر القطاعات والمناطق. ستحتاج البلدان إلى تكثيف أهدافها المناخية واتخاذ إجراءات حاسمة لتقليل الانبعاثات والانتقال نحو اقتصاد صافي الانبعاثات صفر. وسيتطلب ذلك استثمارات في البنية التحتية للطاقة النظيفة، والبحث والتطوير في مجال التقنيات الخضراء، وسياسات لدعم التحول العادل للعمال والمجتمعات المتضررة من التحول نحو الطاقة النظيفة.

وفي الوقت نفسه، سيكون من الضروري معالجة الأبعاد الاجتماعية وأبعاد العدالة لتحقيق "صافي الصفر في عام 2050" لضمان تقاسم فوائد العمل المناخي بشكل عادل وعدم تحميل المجتمعات الضعيفة أعباء بشكل غير متناسب من الانتقال إلى مجتمع منخفض الكربون. اقتصاد الكربون. وسيتطلب هذا قيادة قوية من صناع السياسات والشركات والمجتمع المدني لسن سياسات تعزز العدالة الاجتماعية والشمولية والاستدامة.

في الختام، يعد تحقيق صافي الصفر في عام 2050 هدفا حاسما في مكافحة تغير المناخ، بما له من آثار إيجابية وسلبية على المجتمع والاقتصاد والبيئة. من خلال فهم السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين في مجال "صافي الانبعاثات الصفرية في عام 2050"، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل التحديات والفرص التي ينطوي عليها التحول نحو اقتصاد صافي الانبعاثات صفر. سيتطلب الطريق إلى "صافي الصفر في عام 2050" التعاون والابتكار والعمل الجريء لتأمين مستقبل مستدام ومرن للأجيال القادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

حين وصلتني دعوة كريمة من مجلس كنائس الشرق الأوسط للمشاركة في طاولة مستديرة للحوار بعنوان "المساحات الدينية المشتركة في الشرق الأوسط"، بمناسبة عيد البشارة، الذي اعتمد عيدًا رسميًا في لبنان منذ العام 2010 (للمسيحيين والمسلمين)، وبمشاركة نوعية من عدد من البطاركة والمطارنة والأساقفة وعلماء الدين المسلمين والدروز والصوفيين، إضافة إلى شخصيات فكرية وثقافية وباحثين مدنيين بارزين، تساءلت مع نفسي، أثمة نموذج شرق أوسطي راهن للحياة المشتركة على صعيد مجتمعي؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو في الماضي وإن كان من حقنا أن نتطلع إلى نموذج مستقبلي؟ الماضي مضى ولا يمكن إعادته، ولكن يمكن استعادته، بمعنى التفكّر والتبصّر وأخذ العبر والدروس منه، لأن الأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.

والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، في إطار المشترك الإنساني، أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في في مفهوم المواطنة المتساوية والمتكافئة  في الدولة العصرية.

وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها، لأن عدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا على المستويين المحلي والدولي، بفعل نزعات التسيّد والهيمنة، ودائمًا ما تحاول  القوى المتنفذة بسط سيطرتها على الآخر بحجج ومسوّغات مختلفة، فتارة بزعم "الأغلبية"، وأخرى بحجّة "امتلاك الحقيقة"، وثالثة "ادعاء الأفضليات"، والهدف فرض الاستتباع والخضوع على الآخر.

وفي منطقتنا نشأت ثلاث ديانات أساسية، ونمت وترعرعت وانتشرت منها، وبالتالي فإنها أديان مشرقية بالأساس، وأقصد بذلك اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتسامح والتفاعل، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا من حروب الطوائف، يكفي أن نذكر الصراع اللوثري – الكاثوليكي، الذي استمر 5 قرون، حتى تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016.

وكان المطران منيب يونان، قد حدّثني قائلًا: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات التي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها، فقلت في خلوتي، ألا يستقيم مثل هذا الحل السحري البسيط جدًا لوضع حد للخلافات بين السنة والشيعة؟ وهو خلاف لا معنى له، مستمر منذ 14 قرنًا، ثم ألا يمكن وضع حد للتمييز بحق المسيحيين على أساس المواطنة الكاملة والتامة، بكلّ أركانها، ولاسيّما الحريّة، وخصوصًا حريّة التعبير والاعتقاد والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة؟ وتحت قاعدة "شركاء في الوطن ومشاركون باتخاذ القرار"، لاسيّما في الدول المتعددة الثقافات.

ولعلّ وثيقة الأخوّة الإنسانية،التي وقّعها في أبو ظبي شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب وقداسة البابا فرنسيس في 4 شباط / فبراير 2019، والتي اعتُبرت نداءً لكل ضمير حي بنبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وهي "دعوة للمصالحة والتآخي" بين أتباع جميع الأديان وبين عموم البشر، يمكن أن تكون خلفية فكرية لذلك.

منذ فترة ليست بالقصيرة دعوت إلى ويستفاليا عربية ومشرقية، ومعاهدة ويستفاليا هي التي وضعت حدًا لحرب الثلاثين عامًا والتي دامت من 1618 لغاية 1648، حيث تم توقيع صلح أو معاهدة ويستفاليا التي نصّت على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (المقاطعات المتفرقة حينها) وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي، والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.

هل يمكن التفكير كنخب ثقافية مدنية ودينية في حوار يشمل أتباع الديانات؟ ولاسيّما المسلمين والمسيحيين، وقبل ذلك أتباع الطوائف المختلفة في إطار الأمم الأربعة التي تعيش في هذه المنطقة وهم الترك والفرس والكرد والعرب، دون أن ننسى الأمم الأخرى، وكمدخل للحوار يمكن البدء بمثقفين من تلك الأمم، وكان هذا أحد مساعي سمو الأمير الحسن بن طلال بتنظيم حوار العام 2018، أطلق عليه "حوار أعمدة الأمة الأربعة"، ضم نخبًا من هذه القوميات، امتدادًا لحوارات أسبق.

لقد كان ثمن تفريغ المنطقة من مجاميع ثقافية دينية وإثنية فادحًا، وهو ما حصل لليهود في المشرق والمغرب، إضافة إلى تهجير المسيحيين واستهدافهم طيلة العقود الأربعة ونيّف المنصرمة، وكذلك استهداف الإيزيديين، وخصوصًا من جانب تنظيم داعش الإرهابي، وكذلك استهداف الصابئة المندائيين، وذلك كي يقال أن العرب والمسلمين ليس بإمكانهم التعايش مع الآخر، وهو ما عزفت عليه "إسرائيل"، منذ تأسيسها، التي زعمت أن صراعها مع العرب هو صراع ديني إقصائي وإلغائي حول قيم السماء وليس حول اغتصاب الحقوق واحتلال الأرض، وإجلاء سكان البلاد الأصليين، وذلك ما دأبت عليه الرواية الصهيونية، التي لا بدّ من مواجهتها ودحضها بالأفعال وليس بالأقوال.

هل يصبح طريق ويستفاليا العربية والمشرقية سالكًا؟ إذًا لا بدّ من فك الاشتباكات وإنهاء بؤر التوتر في المنطقة عبر الحوار، لبناء سلام دائم وتفاهم مستمر، وفقًا للمشترك الإنساني في كلّ بلد وعلى المستوى الإقليمي، وذلك في إطار المصالح المتبادلة واحترام الخصوصيات وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية، والبحث عن سُبل توسيع الحياة المشتركة، وتلك على ما أعتقد رسالة مجلس كنائس الشرق الأوسط.

***

عبد الحسين شعبان

شهادة طازجة في السياق

إن اعتبار بلاد الرافدين هي الحاضن الجغراحضاري للعراق والشام ليست مقولة قديمة انقرضت بل هي حية في لغة البحث العلمي المعاصرة؛ ففي مقالة أركيولوجية باللغة الإنكليزية للباحث فرانز ليدز نُشرت في نيويورك تايمز- عدد 13 شباط 2024، كتبَ فيها مُعرِّفاً بلاد الرافدين وباللفظ اليوناني "ميزوبوتاميا"، بأنها "العراق وسوريا المعاصرتين" والجملة باللغة الإنكليزية هي؛

 ((Mesopotamia modern-day Iraq and Syria، وهذا يعني في اللغة البحثية المعاصرة أن بلاد الرافدين هي التي تحتوي العراق وسوريا تأريخياً وجغرافياً وليس ما يسميها وجدي المصري "سوريا الكبرى" أو "الهلال السوري الخصيب"، ويعني أيضاً أن هذه المعلومة، والتي ذكرناها بصيغة أخرى في الجزء السابق من ردنا شائعة ومتداولة لدى الباحثين الأجانب المعاصرين ومنهم فرانز ليدز على سبيل المثال لا الحصر.

يضيف المعقب: "يقول الكاتب - علاء اللامي-  بعد ذلك بأنّه "عُثر على دليل آثاري يؤكّد عروبة الحضر دون أن يذكر شيئاً عن هذا الدليل". يبدو أن المعقب قرأ المقالة بسرعة فقفز سهوا على الفقرة التالية للفقرة التي اقتبسها، والتي ذكرتُ فيها دليلين وليس دليلاً واحداً على عروبة مملكة الحضر الرافدانية حيث كتبتُ: "عوداً إلى الدليل الآثاري، وهو نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق، ونصّه بالآرامية" ثم ذكرت نصه، وأضفت: "وثمّة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان (الجيري) يؤكد ما تقدّم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية. وذكرت النص. كما ذكرت في فقرة أخرى دليلاً أركيولوجياً ثالثاً يؤكد عروبة مملكة الحضر وكتبت: "يمكن القول إنّ دليلاً آثارياً آخر تم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال. وهذا الدليل هو لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم «الحضر» كمركز لمنطقة «عربايا» (مملكة عربايا). والنقش معروض في المتحف العراقي"، ومن محاسن الصدف أنَّ الزميل المحرر في "الأخبار" نشر صورة هذا اللوح مع المقالة، ولكن المعقب لم ير أياً من هذه الأدلة الثلاثة!

ليسوا آشوريين ولا كلدان بل سريان آراميون

بضيف المعقب: "يضرب الكاتب -علاء اللامي- على وتر حسّاس جداً وهو أنّ أبناء الأقليّات القوميّة متشدّدون قومياً، كالآشوريين والكلدانيين". والحقيقة فالمعقب لم يكن دقيقاً في الاقتباس فالعبارة الكاملة كما كتبتها هي "إنّ القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية، كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة، يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلاً للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية «السامية» عرباً لا يجوز التشكيك في عروبتهم...".

ففي هذه العبارة ساويتُ في التقييم السلبي بين القوميين المتشددين من أبناء الأقليات والقوميين المتشددين من أبناء القومية الأكبر "العرب". هذا أولا، وثانياً، فالعبارة واضحة في تشكيكها بانتساب هذه الجماعات إلى الآشوريين والكلدانيين الرافدانيين القدماء. إذْ أنَّ هذا الانتساب لا يقرهم عليه مؤرخون وآثاريون وباحثون مرموقون. فالمؤرخ والآثاري د. بهنام أبو صوف والباحث موفق نيسكو، وهما، في المناسبة، عراقيان محسوبان على هذه الجماعات قومياً ودينياً، بقيا وفيين لمنهج البحث العلمي، وتحملا الكثير من الاتهامات والحملات الإعلامية الظالمة ضدهما، لأنهما رفضا هذا الانتساب المزعوم وقالا ذلك بصريح العبارة وفي أبحاث ولقاءات منشورة.

سأكتفي هنا بفقرة مما قاله أبو الصوف: "أن الآشوريين والكلدان القدماء شعوب رافدانية انقرضت وزالت من الوجود هي ولغاتها واندمجت بقاياها في جماعات أخرى. والجماعات التي تنسب اليوم نفسها إلى هذين الشعبين هم من الآراميين النساطرة، فهم لا يتكلمون اللغة الآشورية أو الكلدية البابلية إطلاقاً، ولغتهم الحالية هي السريانية. أما تسمية الكلدان فقد أطلقت في القرن 15 حين قامت الكنيسة الكاثوليكية - في روما - بجهد كبير لغرض تحويل أتباع الطائفة النسطورية الشرقية الى المذهب الكاثوليكي. وقد نجحت جزئياً بذلك وحينما أرادوا إطلاق تسمية على معتنقي الكاثوليكية في العراق أسموهم بـ (الكلدان) باعتبارهم من أرض بابل (الكلدية)، وليس لأنهم من سلالة الكلديين المنقرضين. إذن، هي لا تعدو كونها مجرد تسمية للتعريف الجغرافي بهم". وبخصوص الآشوريين يقول أبو الصوف: "أما عن جذور اسم آثور من أشور فأنه في أواخر القرن 19 ومطلع العشرين ظهر مطران مسيحي (كاثوليكي) واسمه أدي شير ومؤلفه القيم الموسوم (كلدو - أثور)، ومذّاك ابتدأت هذه الأقوام تتداول مصطلح (آثور) كنوع من التأسيس لهوية تحفظ لهم كينونتهم، حيث اشتد الضغط على الاقليات العرقية والدينية واضطهاد الترك والكرد للأقليات وحصول مذابح الأرمن بعد 1915". ولا يستثني أبو الصوف ما يسميه "الخبث البريطاني" من المساهمة في تكريس وإلصاق التسمية "الآشورية" بجماعات معاصرة، فيكتب: "وقد أجاد المحتل البريطاني المشهود له بدهائه وخبثه أن يوظف الموروثات والتسميات ويرقع منها ما يناسب كسب الاقليات بالعزف على أوتار التفرقة بنغمة تروق لكل منها، فأخذ يدفع باتجاه استخدام مطلح آشوري بدلا من آثوري، وراح يروِّج القول إنَّ جنود فوج الليفي - وهم مليشيا شكلها الاحتلال البريطاني من السريان العراقيين، للمساهمة في قمع العراقيين وحماية مؤسسات الاحتلال آنذاك. ع.ل-  إنما هم ورثة وأحفاد الآشوريين المقاتلين الأشداء، وتمت عملية التجيير الرسمي لمصطلح "الآثوريين" الى الاشوريين وتمسك الإخوة النساطرة بهذه التسمية الى الآن".

من هم المتأشورون؟

أما أبو الإركيولوجيا العراقية، العلامة طه باقر، فقد كتب الآتي: "إن كلمة آشوريين على ما هو معروف كانت تطلق في تأريخ العراق القديم على القوم المعروفين بهذا الاسم، الذين كونوا دولة كبرى في شمالي العراق وهم من الأقوام السامية ومن أقرباء البابليين، وجاء اسم الآشوريين في المصادر الآرامية والعربية أيضاً على هيئة "آثور" و"أفور". أما التسمية الحديثة التي يطلقها على أنفسهم الآثوريون الآن فإنها استعيرت من الكلمة القديمة مفترضين أنهم من أحفاد الآشوريين القدماء؛ على أنَّ نقطة الضعف فيه هي أنَّ اللغة التي يتكلم بها الآثوريون الآن ليست لغة آشورية ولا هي منحدرة من الآشورية القديمة، وإنما هي إحدى اللهجات الآرامية من الفرع الشرقي في العراق، أي السريانية الشرقية. رسالة جوابية من طه باقر - هامش 1 في ص 9 - كتاب أطروحة ماجستير "الآثوريون في العراق" تأليف رياض رشيد الحيدري".

أما الباحث موفق نيسكو فهو يسمي السريان زاعمي الهوية الآشورية "المتأشورون"، وله كتاب معروف يُقرأ من عنوانه؛ "اسمهم سريان لا آشوريين ولا كلدان"، صدر سنة 2020، وفيه المزيد من الأدلة والشواهد التي تؤكد أن لا صلة لهذه الجماعات والشخصيات السريانية الآرامية بالآشوريين والكلدانيين القدماء. 

السامية ومقولات توراتية أخرى

ويضيف وجدي المصري: "إنّ الكاتب -علاء اللامي - كمعظم الدارسين ما زالوا يؤمنون ببدعة السامية دون التدقيق في مفهومها الأساس ومفهومها المتداول حالياً. يعتقد البعض أنّ الشعوب السامية هي الّتي تحدّرت من سام بن نوح بعد نجاته مع أولاده من الطوفان استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم". وهكذا، بجرة قلم، يحشرني المعقب في جملة من يتبنون الخطاب التوراتي ومصطلحاته دون أن يلفت انتباهه إصراري على استعمال صفة (الجزيرية) ووضع (السامية) بعدها بين مزدوجتين! وإذا كان المعقب الذي يجهل هذه المعلومة عن موقفي من المصطلحات التوراتية ليس ملزما بقراءة كل ما كتبته بهذا الصدد نقداً وتفكيكاً للخطاب التوراتي ومصطلحاته منذ عدة سنوات، فأنا أيضاً لستُ ملزماً بتكرار موقفي البحثي المتحفظ على مصطلح "السامية" في كل مقالة أكتبها مكتفياً بذكر بديلها الذي أتبناه وكان عليه على الأقل أن لا يتسرع في توجيه الاتهامات.

وفي المناسبة، فالمعقب يكرر الخطأ الشائع في نسبة مصطلح "السامية" إلى النمساوي شولتزر. ولفائدة المعقب والقراء الذين لم يطلعوا على رأيي بهذا الخصوص أقتبس ما يلي من كتابي "موجز تاريخ فلسطين/ المقدمة، ص23" الصادر عن دار الرعاة الفلسطينية قبل 5 سنوات، وكررته في كتابي "نقد الجغرافيا التوراتية" الصادر عن دار الانتشار العربي اللبنانية قبل سنتين، وقد نشرتُ بعض فصوله كمقالات على صفحات "الأخبار" ومجلة "الآداب"، كتبتُ:

"سأستعمل، ولكنْ بتحفظ شديد مع ذكر البديل، المصطلحَ ذائع الصيت "السامية". وسأستعمله رغم التحفظات العلمية المهمة والكثيرة عليه. فهو مصطلح توراتي، ابتكر واستخدم لأول مرة سنة 1770 من قبل أعضاء مدرسة "غوتنغن" الألمانية. أما نسبة ابتكاره إلى شلوتسر، فغير دقيق.  إن المصطلح الذي ابتكره شلوتسر هو "معاداة السامية" بعد عقد من السنوات تقريباً.

وثمة مصادر سريانية قديمة تقول "إن هذه التسمية "السامية" قديمة جداً، يرتقي تاريخها الى ما قبل القرن السابع الميلادي، وأول عالم سرياني أطلق هذه التسمية على مجموعة اللغات الشرقية هذه هو يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 708م. وقد جرى العلماء السريان على أثر الرهاوي فاستعملوا هذا الاصطلاح قبل شلوتسر بقرون كثيرة - عن/ السامية والساميون واللغة السامية الأم - المطران بولس بهنام".

إن "السامية" ليست المصطلح التوراتي الوحيد الذي تحفظتُ عليه في كتاباتي واقترحتُ له بديلاً، بل هناك مصطلحات أخرى يكررها المعقب وسواه، ومنها "الفرعون"؛ وهي كلمة لا وجود لها في السردية المصرية القديمة كلقب ملكي أو معادل لكلمة ملك، ولكن التوراة واللغة الإغريقية أخذتها محوَّرةً عن عبارة "بر عا" العامية وتعني "القصر الكبير" والتي وجدت كصفة شعبية لا كلقب ملكي في عصر الأسرة 18 والملك تحتمس الثالث 1425ق.م. أما كلمة "هيروغيلفية" فهي ترجمة إغريقية لمصطلح باللغة المصرية القديمة هو "ميدونتروا" ويعني (النقش المقدس)، وكلمة "ميزوبوتاميا" وهي ترجمة يونانية لكلمة بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين نقلاً عن الترجمة السبعينية للتوراة وكلمة "نمرود" التي لا وجود لها كاسم مدينة أو ملك في السردية الرافدانية مطلقا. يتبع في الجزء الثالث والأخير.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

منذ القدم جاءت الاديان دعماً للمعنويات البشرية، فالدين هو الطاعة دعما للقيم الأنسانية، لزوال الخوف من الظواهرالطبيعية والدنيوية لتأمين الحياة الأمنة لهم من كل ما يصادفهم من معوقات الحياة الغابية، وبمرور الزمن تحولت هذه العادات والتقاليد الى عبادات بشرية مستدامة، حتى تحولت بفعل التطور الزمني الى اديان مقدسة تعبد دون خشية.

وحين احترم الانسان حالة الاديان الجديدة بدأت المفاهيم المخترعة عنده تشكل حالة جديدة تتماشى مع المفاهيم القيمية.. الزهد والعبادة المطلقة التي تحولت بالتدريج الى العدالة والعلاقات الانسانية، حتى تحولت الاديان المخترعة عندهم الى عبادة اساسية كعبادة النار التي حمتهم من الحيوانات المفترسة وقت ذاك، والتي لا زالت تشكل حماية لهم في الغابات والادغال الموحشة الى اليوم.

 وبمرور الزمن ظهرت نظرية جديدة تدعو الشعوب الى التحررمن القيود بنفسها دون الاعتماد على الظواهر الطبيعية التي كان انسان النيانتدرال قبل أكثر من ستة آلاف سنة يمارسها بقناعة.. حتى جاءت الاديان السماوية المقدسة فتحول الاعتقاد الى عقيدة لا يجوز اختراقها يرافقها أنبياء ورسل أدعوا انهم جاؤا برسالات سماوية مقدسة حتى قدر عددهم ب24 نبياً ورسولاً.. لكن الدين ظل اسماً بلامسمى حتى في الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية لكون اصحابها لم يلتزموا بحقوق الانسان المتكاملة (الحرية والأخاء والمساواة).. بل بالقدسية الفرضية ولا غير.

وهكذا اختلطت الخًرافة بالعقل.. لذا ليس أمامنا سوى العقل.. فالمحافظة عليه محاربة للجهل والتخلف والخرافة.. لذا اعتبر العقل هو اول مخترعات الانسان، وبه بدأ الأنسان له القدرةعلى عقل الاشياء والسيطرة عليها. لكن الصراع بينه وبين الغريزة استمر ولا زال كون ان الغريزة اقوى منه لانها مركبة في الطبع، في حين ان العقل مكتسب. ويقول المؤرخ أرنولد تويمبي.. ان وحي الانسان لنفسه باكتشاف العقل يعتبر تاريخ بداية حضارة الانسان وحين أطمئن بدأ ت تتربى فيه خصال جماعية منها احترام الاخر والشعور بالعدالة واحترام العادة والتقليد الذي تحول الى قوانين ملزمة.. وكلها جاءت من تطور الزمن المستمر.. ولا علاقة للدين به.

من هنا نشات القوانين كقوانين آور نمو السومري وحمورابي البابلي وقوانين الفراعنة والزرادشتية والبوذية في الموت والحياة.. لكل منها رأي في حرية الانسان.. افضلها برأيي البوذية.. رافقها الاستبداد السياسي للحاكم وغياب الحرية وبروز فقهاء الدين في خدمة السلطة، ومطاردة الرأي الحر، وغياب النقد فسادت روح الانتهازية في المجتمعات الانسانية.. واستمرت فترة طويلة يُحكم البشر حكما قسريا بحجة قوانين الدين.

 حان الوقت اليوم للتخلي عن التعصب الديني والمذهبي.. واخراج العرب والمسلمين من العقيدة الجبرية التي أوقفت حركة التقدم المجتمعي عندهم بقوانين "الحلال والحرام، والجنة والنار والاخرة وحور العين " دون ضوابط معينة اخترعتها الحركة الفقهية المذهبية المخترعة من السلطة لدوام سيطرتها على العقل قبل الأنسان. وأخضاعه لها.. هنا كان موت الدين والاسلام معاً.. وستبقى ان لم تتغير عقلية المسلم في الاعتقاد والتثبيت.

يجب علينا اليوم الاعتراف بأن الحقيقة الدينية تتغير وتتطور حسب استمرارية الفهم الزمني لمفردات الحياة الانسانية ، وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر.. لذا نرى السلطة تساند الحركة الفقهية المخترعة منها لتبذل المستحيل وبالثروة المفرطة لتطويع الانسان لمفرداتها الدينية التي تدعي القدسية وهي لحد اليوم عاجزة عن شراء الانسان، وقد أثبتت سلطة الدين معاداتها لحرية الانسان والحقوق..

لم يبقِ لنا الفقهاء من شيء في أصول الاسلام واهدافه اليوم الا حرفوها عن معناها الصحيح خدمة للسلطة لا الدين مستندين الى تزوير الاحاديث النبوية. وخاصة فقهاء عهد البويهيين والسلجوقيين بين 334-447 للهجرة كما عند الكليني في كتابه الكافي، وابن تيمية في كتابه قوة الأكراه جوهر الحكم، حتى تحول الاسلام من فقه الدين الى فقه السلطة خدمة للخلفاء العباسيين من جهة.. وللسيطرة على عقول الناس باسم سياسة الدين من جهة اخرى.. وهنا تم تبديل الاسلام من فقه الدين الحقيقي الى فقه السلطة المزيفة وحولت عقيدة النص المقدس الى نص الحديث الموضوع منهم، والتي بموجبه أنهت الدين واركانه بالمطلق وحولته الى تخريف. خاصة بعد المحاولات الجادة الى استبدال الحديث النبوي المنتحل بدلا من النص القرآني المقدس.

نعم بين اركان الايمان واركان الاسلام جدلية.. وكأنهم ما ادركوا ان أركان الايمان هي شهادة ان لا اله الا الله ومحمد رسول الله والصوم والصلاة والحج والزكاة، وهي شعائر اسلامية جاءت ضمن مفهوم العقيدة الفطرية العبادية.. أما أركان الاسلام لتحقيق الحقوق والواجبات للانسان تجاه الله والناس هي: الاستقامة وعدم الاعوجاج في القول والعمل، والعدل المطلق (أعدلوا ولو كان ذا قربى) والاخلاق العالية في التصرف تجاه النفس والاخر، والصدق في القول والعمل تنفيذا للقسم واليمين، وقد جاءت في سور قرآنية حدية لا يجوز بالمطلق تجاوزها.. أنظر سورة الانعام (151-153). وكلهاضربت عرض الحائط ولم تطبق سوى ظاهريا الى اليوم.

مع الاسف نقولها أن هذا التحول الباطل في الفقه الاسلامي حوَل المسلم الى أستمراء النفاق والخيانة والفساد والانتحال، حتى تحول الى ما يشبه الدمية التي يحركها اطفال الملاعب، وها هي داعش والقاعدة وطالبان نسخة من اسلامهم اليوم.. والا لو كان الحاكم يؤمن باركان الاسلام الحقيقية الاستقامة والعدل والقسم واليمين لما خان الامانة والقسم واليمين وباع الوطن للأعداء الذين يعدهم من الكافرين، ولما قتل العلماء والمفكرين وأستمرأ الحرام في أموال الدولة.. لان الوطن في الاسلام قيم وامانة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الاحوال.. (أنظر قضية الامام علي وسرقة السيف) ليتبين لك صدق الأعتقاد.. وها تراهم كيف تجاوزوا على كل القيم من اجل السلطة والمال منذ عهد الأمويين والعباسيين بأستثناء عهد عمر بن عبد العزيز(99-101 للهجرة، والى اليوم. فأسلامنا اليوم هو اسلام الفقهاء لا اسلام محمد الأمين.

كفاية تبجحا بالدين بعد ان اصبح الدين وسيلة من وسائل ضعف الامة وتحويلها الى تدمير حين اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.. حتى اصبح الحاكم الظالم أفضل من أنعدامه.. فنشات الكتلة الساكتة عن الحق بعد تفسيرهم الخاطىء للأية الكريمة "وما تشاؤون الا ان يشاء الله" فنشأت نظرية فكر الطاعة المتمثلة في الماوردي (450 للهجرة) والغزالي صاحب نظرية الضرورات تبيح المحظورات، وابن تيمية في نظريته فصل الدين عن الدولة سيعني الفوضى.

و فقهاء الشيعة، من امثال الكليني وابن بابويه والشيخ المفيد والامام الطوسي والمجلسي منتحل الاحاديث في كتابه بحار الانوار وغيرهم كثير.

ومالم يتحول الدين الى قوانين ملزمة التطبيق كما عند الأوربين والبوذيين وغيرهم سنبقى الى الابد خارج التاريخ.. ولا يتم ذلك بالمطلق الا بعد فصل الدين عن الدولة وتكوين دولة العلمانيين.. وبمرور الزمن في التطبيق ستتحول الطبيعة البشرية الى احترام القانون والدين معا.. بعد أنحسار نفوذ مؤسسة الدين ورجالها المفترين على الدولة وانسانية الانسان في التطبيق.

من هنا سيكون الجزاء على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة والاخلاص في العمل، وان يكون للانسان حق حرية التصرف في اتعابه المبذولة في العمل والامانة الوطنية، وان يكون للفرد في الدولة الحق ان يكون آمناً على نفسه وماله وثمرة اعماله، وان يكون هذا الحق مكفولا بنص القانون والعرف الاخلاقي للجماعة.. وفي النهاية سيكسب الرهان.. لا ان يقوم على اساس الحسب والنسب والانتماء الحزبي والديني الموروث كما هو اليوم عندنا. من هنا سيكون التقدم عظيما. يساندهم المنهج الدراسي الصحيح لتكون لهم فلسفة خاصة بالتقدم، وعلى اساس هذه الفلسفة تقوم نظرية سليمة تصلح ان تكون أساساً جديداً الى التاريخ واحوال البشر.

من هذا التوجه السياسي السليم للسلطة واجهت جماعة التقدم الفكري مقاومة عنيفة من السلطة.. او قل مع ركام تاريخية عسيرة الاختراق بها تمت السيادة العقلية على الناس والتحكم في مصيرها كما هو اليوم. هنا دخل التاريخ ودخل التقدم الحضاري بمعركة شرسة بين المستفيد والمحروم ترتب عليه الغاء حركة التاريخ الدائرية بنكرانهم للحركة الحضارية وان التاريخ لايعيد نفسه، بل الاحداث تاتي متشابهة في زمن مختلف.. وظل السجال بين الاول والثاني حتى استقرت نظرية التقدم بوعي خلقي انشأ قانون جديد للعمل والانتاج في الدول الاوربية بعد ان تخطت افكار مؤسسة الدين بتكوين الدولة المدنية.. حتى اصبح االتفكير الحديث في التحسن والتقدم عقيدة.. بينما ظل اصحاب الاديان واقفين في اماكنهم دون حراك.. لا بل قل الى الوراء در.

موضوع شائك ويحتاج لبحث طويل ومركز مدعوم بالحجة والدليل.

***

د. عبد الجبار العبيدي

لم أجدْ أفضل مِن بيت معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) مُستهلاً، قال: «لُقنتُ في عصر الشّباب حَقَائِقاً/ في الدّين تقصر دونها الأفهامُ/ ثم انقضى عصر الشّبابِ وطيشه/فإذا الحَقَائِقُ كلُّها أوهامُ»(الدّيوان 1959، الحقائق الملعنَّة). نقطع الطّريق على أحفاد الذين اختلف معهم الشّاعر، بما جاء في وصيته: «أنا ولله الحمد مسلمٌ، مؤمن بالله، وبرسوله محمَّد بن عبد الله، إيماناً صادقاً، لا آرائي فيه، ولا أداجي»(عليّ، الرُّصافيّ صلتي به وصيته مؤلفاته).

ما جاء به الرُّصافيّ، ليس ببعيد عن مقولة وزير الدِّعاية النّازيّ جوبلز(1897-1945): «جوهر الدّعاية دائماً التَّبسيط والتُّكرار»(مذكرات جوبلز). فلم يقل ما سارت الرُّكبان به: «اكذب اكذب حتّى تصدق نفسك فيصدقك الآخرون»، فلا نظن يقدم وزير دعاية إتهاماً لنفسه.

عندما يركن الوهم، بحدود العقيدة، لا نذكره ونناقشه، لكنَّه أخذ ينالُ مِن الدّولة، ورجالها يتبنون تسويقه، فأي حاضر ومستقبل يُنتظر، إذا تشكل الأساس على تقادم الكذب وتكراره؟ شعوبٌ ودولٌ حلّ عليها وباء الصّحوات، وسرعان ما برأت وتعافت، بضمائر وعقول قادتها، وهذه البلاد صارت الصّحوة المشوهة لها فراشاً ودثاراً!

صار فيها عدد الأضرحة والمقامات مخيفاً، لاحظ كتاب «المراقد المزيفة»، التي تنسج حولها الحكايات المغيبة للعقل، تدخل المدارس، فمعلمون ومعلمات يتولون تعليمها على أنها حَقَائِقُ.منتظ

آخر تكرار للأوهام ظهور مسؤول كبير، على الفضائيات، ليقول: «إدارة زيارة الأربعين(20 صفر)، اختصاص الإمام المهدي»، وهم كمسؤولين غير قادرين على تسيير المواكب، التي تُعطل لها دوائر من أسابيع، قال: «بلغ عدد المشاركين خمسة وعشرين مليوناً». هذا، وتكرار دعاية العدد سنوياً تعضيد للوهم، فالمعجزة أنَّ بقعة صغيرة (مقدسة) تحمل سكان دول مجتمعة. جمع هذا الادعاء بين ما نُسب لجوبلز زوراً «اكذب اكذب...»، وما قاله حقيقةً: «الدِّعاية تبسيط وتكرار»! أعلمت إلى أين وصل تغييب العقل بفضل سلطة العقيدة؟

لم يسأل المسؤولون ضمائرهم: «ماذا نعمل نحن كحكومة، إذا كانت الأمور تُدار بكرامة المنتظر»؟! أليس هذا تخلياً عن المسؤوليّة، وأي جهد عليه يأخذون رواتبَ؟ لا ندري، إذا كان هذا المسؤول يجاري جمهوراً غائباً عن الوعي بفضله، أو كان مُعتقداً، فكلا الحالتين تكرار للوهم، حتّى يثبت حقيقةً.

دعونا نسأل المبشر بالمعجزة: أمّا فكرت بتفجير القبة العسكريَّة بسامراء(2006)، الحاوي رفات جد المهدي وأبيه، فلماذا لم يحضر ساعتها، مع أنَّ أصبع الإتهام يشير إلى جهة تعلن نفسها ممهدة لظهوره، صبحةً وعشية، تراكماً للوهم. أين المهديّ عندما فُجّر المحراب العلوي بالنَّجف، الجد الأعلى، وقُتل مئة مِن المصلين، بفاجعة سببتها متفجرات تزن أطناناً، فأقيم لضحايا العمل الكارثي ضريحٌ هائلٌ، بلا جثامين، فلم تبق مِن الأجساد باقية، ليلتحق الضريح بأوهام سابقة، والفاعل مهدويٌ أيضاً. كم وكم من الحوادث، لم يحضرها المهديّ، مع أنَّ زيارة الأربعين نفسها لم تكن دِيناً، إنما مناسبة مختلقة، الكلام لآية الله مرتضى مطهري(اغتيل: 1979) في «الملحمة الحُسينيّة»، وآية الله كمال الحيدريّ، في محاضرة مصورة.

ماذا بقي مِن الدّولة، إذا كان المنتظر يُديرها، يرسم خططها الأمنيَّة وينفذها بنفسه؟ كان حديث المسؤول صادماً لذي العقل، ومعجرةً وكرامةً للمغيب عقله، الذي لا يميز بين ما يؤديه في المواكب ويسمعه مِن المنابر، وبين ما يتعلمه في المدارس والجامعات، فالتعليم صار واحداً. فإذا قال أصحاب العقيدة سيأتي المهدي ويملؤها عدلاً وقسطاً، فمسؤولو اليوم يقولون: «هو صاحب الدَّولة»!

كان الاستهلال بالرُّصافي، ونختم به: «كم بات ذو الحَمقِ خلواً في مضاجعهِ/وبات ذو العقلِ فيها كاسفُ البالِ»(الدِّيوان). إنه عين ما أبدعه المتنبيّ (اغتيل: 354هـ)، وعذر الرُّصافيّ ما قيل في توارد الأشعار: «تلك عقول رجالٍ توافقت على ألسنتها»(الشُّريشيّ، شرح مقامات الحريريّ).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تنويه: في (20 / 3 / 2024) بثت فضائيات وضجت وسائل التواصل الأجتماعي بمنشورات تصدرها عنوان: (ثلاث فضائح تضرب المؤسسات الأمنية والعسكرية والتعليمية في العراق خلال 24).. بدأت بفضيحة عميد كلية الحاسوب بجامعة البصرة، تلتها مباشرة فضيحة شبكة ابتزاز يقودها مسئولون امنيون وعسكريون برتب كبيرة. وقد عزا محللون سياسيون سبب ذلك الى فشل العملية السياسية في العراق ، فيما نعزوه نحن الى سبب آخر أهم يحلل حيثياته هذا المقال.

التحليل

في (26 /7 / 2007) كتبنا مقالا بعنوان (المجتمع العراقي.. والكارثة الخفية) حذرنا فيه ان المجتمع العراقي ستحل به كارثة اخلاقية ما لم تتخذ اجراءات كنا حددناها وتجاهلها قادة العملية السياسية كعادتهم لأنهم لا يهتمون بما يكتبه علماء النفس والاجتماع الذين يصدقونهم النصيحة، ولأنهم دوغماتيون مصابون بحول عقلي ، ولأن سيكولوجيا السلطة في العراق علمت الحاكم ان يحيط نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه.

نبدأ التحليل بأننا نحن المعنيين بالعلوم الاجتماعية والنفسية ، نرى أنه توجد في داخل كل إنسان " منظومة قيم " هي التي تحرّك سلوك الفرد وتوجهه نحو أهداف محددة بطريقة تشبه ما يفعله " الداينمو " بالسيارة. فكما أنك ترى السيارة تتحرك (وحركتها سلوك) ولا ترى الذي حرّكها " الداينمو " كذلك فأنت لا ترى " المنظومة القيمية " التي تحّرك سلوك الفرد، ما يعني أن اختلاف الناس: (رجل الدين عن رجل السياسة عن رجل الاقتصاد عن الفنان عن المنحرف عن الإرهابي...) يعود إلى أن المنظومة القيمية تكون مختلفة لديهم نوعيا وكميا وتراتبيا وتفاعليا. ومع أن تخلخل المنظومات القيمية لدى الناس وتهرؤ النسيج الأخلاقي للمجتمع قضية أخطر حتى من دمار وطن فإننا، الحكومة والبرلمان ونحن، لا نوليها من الاهتمام قدر اهتمامنا بالقضايا السياسية، وان حكومات ما بعد 2003 اهملوها لأن احزاب السلطة انشغلت بمصالحها وتأمين بقائها في السلطة.

وقبل (17) سنة حذرنا وكتبنا بالنص بأنه تتوافر الآن(2007) عوامل الكارثة الأخلاقية الخفية في المجتمع العراقي، حددنا أهمها بالآتي:

إن غالبية المجتمع العراقي.. شباب يمتلكون منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية لجيل الكبار. وأن توالي الحروب والفقر والشعور بضياع العمر واليأس من المستقبل والخوف من المجهول، شكّلت لديهم شبكة منظومات تتصدرها قيم الصراع من أجل البقاء والأنانية وتحليل ما يعد ّحراما أو غير مقبول في المعيار الأخلاقي للمجتمع العراقي.

أحدث النظام السابق تخلخلا كبيرا في تركيبة المجتمع العراقي بأن أعاد توزيع الثروة وخلق تباينا حادا بين طبقتين: أقلية غنية مستحدثة وفقيرة كبيرة ابتلعت الطبقة الوسطى بكل مثقفيها وموظفيها بمن فيهم ألأستاذالجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في قمة الهرم الاقتصادي للمجتمع العراقي (مع الطبيب والتاجر والمهندس) وتراجع إلى المرتبة الرابعة والعشرين بعد مصلّح الراديو والتلفزيون!

ونبهنا الى انه يحدث ألان (2007) ما يباعد أكثر في التباين الاقتصادي بظهور فئة قليلة مستحدثة تتجه نحو الثراء بشهية مفتوحة ممثلة بالحكومة وأعضاء البرلمان الذين وعدوا الفقراء بالرفاهية فزادوهم فقرا".

وقبل 17 سنة شخّصنا.. ان الذين بيدهم أمور الناس يمتلكون منظومات قيمية فيها من عوامل التضاد والتناشز أكثر مما فيها من عوامل التماثل والانسجام ، وأن لهذا تأثيران سلبيان خطيران، الأول: تفكيك المجتمع في استقطابات من القيم المتصلبة، والثاني: اضطرار الفرد إلى أن يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة يجبره على التخلي عن قيمه الإنسانية والعمل بما يأمره به مصدره السياسي. واوضحنا رؤيتنا بأن الوضع العام بالعراق طارد للذين يمتلكون منظومات قيمية صحية، بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينيّن المتنورين والمثقفين والفنانين، وهذا يعني أن صراع القيم بالمجتمع العراقي سيكون بين المنظومات القيمية التي تؤكد على حاجات البقاء والاحتماء والمصالح البراجماتية والقيم الأنانية على حساب القيم الأخلاقية والإنسانية الرفيعة.

الأسباب باقية.. والنتائج ستتوالى!

تتحدد اهم اسباب انهيار المنظومة القيمية في المجتمع العراقي بعد 2003 بالآتي:

الأول: الفساد

يعترف الجميع بشيوع الفساد في العراق، بمن فيهم المرجعية التي وصفت كبار الحكام بأنهم (حيتان الفساد)، فيما اعترف السيد نوري المالكي بان (لديه ملفات للفساد لو كشفها لنقلب عاليها سافلها).. وما كشفها ليحمي فاسدين كبارا في حزبه، ليصبح العراق ثاني افسد دولة في العالم واولها في حجم الأموال المسروقة باعتراف خبراء عالميين.

ومن متابعتنا للعملية السياسية في العراق توصلنا الى نظرية نفسية كانت بالنص:

(اذا تساهل القانون في محاسبة فعل كان يعدّ خزيا،

وغض الآخرون الطرف عنه او وجدوا له تبريرا..

شاع في المجتمع ولم يعدّ خزيا كما كان).

ما يعني أن الفساد في العراق يشكل السبب الرئيس في كل ما يحصل من فضائح اخلاقية.

الثاني: غياب القائد القدوة

قل عن عبد الكريم قاسم ما شئت، لكن الجميع يعترف بأنه كان نزيها. فالرجل كان ينام بغرفة في وزارة الدفاع، ولم يتقاضى امتيازات، فاقتدى به وزراء حكومته والموظفون في دوائر الدولة، فيما الذين تولوا الحكم بعد 2003 استفردوا بالسلطة والثروة وسكنوا القصور، مع أنهم رجال دين وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وكان عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم)، وبالأمام علي الذي قال يوم تولى الخلافة (جئتكم بجلبابي وثوبي هذا فان خرجت بغيرهما فأنا خائن).

وكان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك: ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر (ارشاد) هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية)…نزيهة الدليمي (بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تأسست في زمنه.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم: (عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)، فيما قادة الحكم الجدد اعتمدوا مبدأ المحاصصة والقرابة للتعيين في دوائر الدولة التي تقاسموها (عائليا) وكثير منهم لا يملك شهادة ولا مؤهل ما اثار الشعور بالحيف لدى موظفين مستقلين شكل عاملا لتخدير الضمير الأخلاقي والديني حتى بين الذين كانوا يوصفون بالنخبة.

الثالث: الفقر

يعدّ العراق البلد الأغنى في المنطقة.. وأحد اغنى عشرة بلدان في العالم، ومع ذلك بلغ عدد من هم دون خط الفقر فيه اكثر من 13 مليون في سابقة ما حدثت بتاريخ العراق السياسي ليذكرنا الحال بمقولة ابي ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرا سيفه).. وقد فعلوها بدءا من شباط 2011 الى كانون اول 2023، يوم خرجوا في جميعها شاهرين علم الوطن ، وما استجابوا لصرختهم.. لتشكل مبررا للفساد الاخلاقي ايضا عند من اماتوا فيهم الضمير الأخلاقي والديني.

الفضائح.. تثبت صحة نظريتنا

تعدّ فضيحة عميد كلية الحاسوب، وفضيحة شبكة الأبتزاز التي يقودها مسئولون امنيون وعسكريون برتب كبيرة (نقيب، مقدم، عقيد، ولواء) يحتلون مراكز مرموقة (مستشار امني لوزير، ورئيس جامعة في الدفاع..) هي (نتيجة) لسبب رئيس هو أن تهرؤ القيم الأخلاقية الذي شاع بين العامة، وصل الى من يفترض فيهم ان يكونوا القدوة التي تحترم الرتبة العسكرية والموقع المرموق في الدولة، والاستاذ الجامعي بالجامعات الحكومية ، دع عنك جامعات اهلية تابعة لمسؤولين سياسيين فيها فضائح كثر لكن المال يسترها.

وما حصل ، يثبت صحة نظريتنا.. ان الشعب الذي ينفرد فيه قادة العملية السياسية بالسلطة والثروة، يشيع فيه الفساد بين الناس ويتحول من فعل كان يعد خزيا في قيمهم الأصيلة الى شطارة وانتهتاز فرصة.. وينجم عنه، بحتمية اجتماعية، كارثة خفية هي انهيار المنظومة القيمية وتهرؤ الأخلاق تصيب العامة صعودا الى من يوصفون بالنخبة.

ولأن الفاسدين الذين فقدوا الضمير الأخلاقي والديني ومن وصفتهم المرجعية بـ(الحيتان) وبح صوتها من نصحها لهم وما انتصحوا، ما زالوا يحتلون المراكز العليا في الدولة، فان الفضائح الأخلاقية ستكون ظاهرة عادية في كل مؤسسات الدولة ما دامت وصلت الى من كانت ارقى مؤسسات القيم في الدولة العراقية (الجامعات والمؤسسات العسكرية والأمنية) ، وما دام الفاسدون الفاقدون للقيم والأخلاق هم المستفردون بالسلطة والثروة، لقانون اجتماعي هو: يتوالى بقاء نتائج الظاهرة الأجتماعية ما دام السبب باق!

والحل؟!

واضح ان الحكومة الحالية ليس بأمكانها حلها، وان السيد محمد شياع السوداني لو فكر في ذلك، فان عليه ان يتذكر سلفه السيد حيدر العبادي يوم كان رئيس وزراء ووعد بأنه سيضرب (الفساد بيد من حديد)، وأكد قائلا (يقتلوني.. خل يقتلوني) وفي أقل من شهر تخلى عن وعده واعترف علنا.. ان الفاسدين يمتلكون المال والسلاح والفضائيات.. انهم مافيا.. وتلك هي الحقيقة.. انهم مافيا و.. دولة عميقة.. بيدها الأمور، الآن و.. لغد بعيد!.. ما لم يتوحد ملايين الجياع وأصحاب القيم العراقية الأصيلة في ثورة سلمية.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لقد عاد بوتين إلى السلطة في انتخابات 2024، وترامب سيعود في الانتخابات الأميركية المقبلة ، فما تأثير ذلك على المسرح الدولي؟

في السنوات الأخيرة، شهد العالم العودة السياسية الملحوظة لاثنين من القادة البارزين - فلاديمير بوتين في الانتخابات الروسية عام 2024، والعودة المحتملة لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة. وقد أثارت هذه التطورات جدال ومناقشات مكثفة حول آثارها على كل من الوضع المحلي والعلاقات الدولية. يتعمق هذا المقال في الاستراتيجيات التي استخدمها بوتين وترامب في تأمين مسعاهما لإعادة انتخابهما، ويفحص ردود الفعل العالمية على عودتهما إلى السلطة، ويقارن نهجهما السياسي، ويحلل التأثير المحتمل على المشهد الجيوسياسي. ومن خلال استكشاف هذه المواضيع الرئيسية، نهدف إلى كشف أهمية عودة هؤلاء القادة إلى الساحة العالمية.

في عالم السياسة العالمية، كانت استراتيجية حملة فلاديمير بوتين وفوزه في الانتخابات موضوعاً للتدقيق والنقاش المكثف. نستكشف في هذا المقال السياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، وتأثير استراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات، بالإضافة إلى ردود الفعل المحلية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، سيحدد هذا المقال ويحلل الأفراد المؤثرين الذين ساهموا في مجال استراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات، ويناقش وجهات نظر مختلفة، ويقدم تحليلاً مدروسًا للجوانب الإيجابية والسلبية لهذه الأحداث. وأخيراً، سيتم النظر في التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة باستراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات.

السياق التاريخي:

كان فلاديمير بوتين شخصية مهيمنة في السياسة الروسية على مدى العقدين الماضيين. شغل في البداية منصب رئيس روسيا من عام 2000 إلى عام 2008، ثم كرئيس للوزراء من عام 2008 إلى عام 2012، ومرة أخرى كرئيس منذ عام 2012. وقد تميز صعود بوتين إلى السلطة بصورته كرجل قوي، وخطابه القومي، ووعوده باستعادة عظمة روسيا. على المسرح العالمي. وكثيراً ما اعتمدت استراتيجية حملته الانتخابية على مزيج من السياسة الخارجية الحازمة، وإحكام السيطرة على المؤسسات المحلية، ورعاية صورة الرجل القوي لجذب الناخبين الروس.

الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في فوز الرئيس بوتين:

أحد الشخصيات الرئيسية في استراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات هو أليكسي نافالني ، وهو شخصية معارضة بارزة قاد احتجاجات حاشدة ضد حكم بوتين. تم سجن نافالني عدة مرات بسبب نشاطه وأصبح رمزا لمقاومة حكم بوتين. ومن الشخصيات الرئيسية الأخرى ديمتري ميدفيديف، خليفة بوتين المختار بعناية والذي شغل منصب الرئيس من عام 2008 إلى عام 2012  قبل عودة بوتين إلى الرئاسة. وقد لعب ميدفيديف دورا حاسما في مناورات بوتين السياسية، حيث كان غالباً ما يعمل كحليف مخلص وينفذ أجندة بوتين.

تأثير استراتيجية حملة بوتين والانتخابات:

كان لاستراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات تأثير كبير على الصعيدين المحلي والدولي. وعلى الصعيد الداخلي، كان انتصار بوتن سبباً في ترسيخ قبضته على السلطة وضمان استمرار هيمنته على السياسة الروسية. وقد لقيت استراتيجية حملته الانتخابية، التي تعتمد غالبا على النداءات القومية والوعود بالاستقرار، صدى لدى العديد من الناخبين الروس الذين ينظرون إلى بوتين كزعيم قوي قادر على حماية مصالح روسيا. ومع ذلك، أثار الفوز في الانتخابات أيضا مخاوف بشأن حالة الديمقراطية في روسيا، حيث اتهم العديد من النقاد بوتين بقمع المعارضة والتلاعب بالعملية الانتخابية للحفاظ على قبضته على السلطة.

على المستوى الدولي، أثارت استراتيجية حملة بوتين الانتخابية وفوزه في الانتخابات ردود فعل مختلفة من المجتمع العالمي. وفي حين هنأت بعض الدول بوتين على فوزه، أعربت دول أخرى عن قلقها بشأن العواقب التي قد يخلفها استمرار حكمه على الاستقرار الإقليمي وحقوق الإنسان. وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، عقوبات على روسيا ردا على تصرفاتها في أوكرانيا والتدخل المزعوم في الانتخابات الأجنبية. وقد أدى فوز بوتين في الانتخابات إلى زيادة توتر العلاقات بين روسيا والغرب، الأمر الذي أدى إلى عصر جديد من التوترات والخصومات على الساحة العالمية.

الأفراد المؤثرون:

لعب العديد من الأفراد المؤثرين دورا في تشكيل استراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات. ومن بين الشخصيات البارزة سيرغي لافروف ، وزير خارجية روسيا الذي خدم لفترة طويلة، والذي لعب دورا فعالا في تنفيذ أجندة بوتين الحازمة في السياسة الخارجية. ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى إيجور سيتشين ، الرئيس التنفيذي لشركة روسنفت والحليف الوثيق لبوتين الذي ساعد في تعزيز سيطرة الكرملين على قطاع الطاقة في روسيا. وقد ساعد هؤلاء الأفراد، إلى جانب شبكة من الأوليغارشية والمسؤولين الموالين لبوتين، في ضمان استمرار هيمنته على السياسة الروسية.

وجهات النظر والتحليل السياسي:

كانت ردود الفعل على استراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات متنوعة، مما يعكس الطبيعة المعقدة للمشهد السياسي الروسي. ويزعم أنصار بوتن أن قيادته القوية ضرورية لحماية مصالح روسيا والحفاظ على الاستقرار في عالم مضطرب. ويشيرون إلى جهوده لتحديث الاقتصاد الروسي، وتعزيز المؤسسة العسكرية، وتأكيد نفوذ روسيا على المسرح العالمي كدليل على فعاليته كزعيم.

من ناحية أخرى، يثير منتقدو بوتين المخاوف بشأن ميوله الاستبدادية، وقمع المعارضة، وانتهاكات حقوق الإنسان. وهم يزعمون أن فوز بوتن في الانتخابات كان نتيجة لنظام انتخابي مزور يخنق المنافسة السياسية الحقيقية ويقوض الديمقراطية. ويشيرون إلى الحملة ضد وسائل الإعلام المستقلة، وشخصيات المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني كدليل على الجهود التي يبذلها بوتين لتعزيز سلطته على حساب الحريات الفردية والمعايير الديمقراطية.

التطورات المستقبلية:

وبالنظر إلى المستقبل، يظل مستقبل روسيا تحت قيادة بوتين غير مؤكد. ورغم أن استراتيجية حملة بوتن الانتخابية وفوزه في الانتخابات نجحت في تأمين موقفه في الوقت الحاضر، فهناك دلائل تشير إلى تزايد السخط بين الشعب الروسي، وخاصة بين الأجيال الشابة التي أصيبت بخيبة الأمل إزاء الافتقار إلى الحريات السياسية والفرص الاقتصادية. كما أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية جعل من الصعب على الكرملين التحكم في تدفق المعلومات وتشكيل الرأي العام.

ومن الممكن أن تشمل التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة باستراتيجية حملة بوتين وفوزه في الانتخابات المزيد من حملات القمع ضد المعارضة، ومحاولات تعزيز نفوذ روسيا في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وزيادة التوترات مع الغرب. ومن المرجح أن تستمر الجهود التي يبذلها بوتن للحفاظ على قبضته على السلطة والتأكيد على مصالح روسيا على الساحة العالمية، ولكن استدامة حكمه في الأمد البعيد تظل غير مؤكدة. وسيقوم الغرب عن كثب بمراقبة التطورات في روسيا وبالتأكيد سيرد على أي انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان أو أعمال عدوانية من جانب الكرملين.

كان لاستراتيجية حملة بوتين الانتخابية وفوزه في الانتخابات عواقب بعيدة المدى على روسيا والعالم. تمت مناقشة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية وتأثير هذه الأحداث والأفراد المؤثرين ووجهات النظر المختلفة والتطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بحكم بوتين. ومن الواضح أن هيمنة بوتين المستمرة على السياسة الروسية سوف تستمر في تشكيل الأحداث العالمية وتحدي المجتمع الدولي للرد على قيادته الحازمة والسلطوية.

عودة ترامب المحتملة في الانتخابات الأمريكية المقبلة

السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية:

كانت العودة المحتملة لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة موضوعا للكثير من التكهنات والنقاش منذ هزيمته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. ألمح ترامب، الشخصية الاستقطابية التي هيمنت على المشهد السياسي خلال فترة رئاسته، إلى إمكانية الترشح لمنصب الرئاسة مرة أخرى في عام2024. ومن أجل فهم المسارات المحتملة لعودة ترامب إلى منصبه، من الضروري دراسة السياق التاريخي التي سيتم فيها ترشحه.

اتسمت رئاسة ترامب بالجدل والانقسام، حيث أثار نهجه غير التقليدي في الحكم وأسلوب الاتصال انتقادات شديدة ودعما لا يتزعزع. طوال فترة ولايته، نجح ترامب في تكوين قاعدة قوية من المؤيدين الذين انجذبوا إلى خطابه الشعبوي ووعوده بإحداث تغيير جذري في المؤسسة السياسية. لعبت الشخصيات الرئيسية داخل الدائرة الداخلية لترامب، مثل أفراد عائلته ومستشاريه المقربين، دورًا مهمًا في تشكيل رئاسته والتأثير على قراراته السياسية.

ومن أكثر الشخصيات المؤثرة في فلك ترامب ابنته إيفانكا ترامب التي عملت كمستشارة كبيرة في إدارته. كان يُنظر إلى إيفانكا على أنها قوة معتدلة داخل البيت الأبيض، وتدافع عن قضايا مثل الإجازة العائلية مدفوعة الأجر وتمكين المرأة . ومع ذلك، أثار وجودها أيضا مخاوف بشأن المحسوبية وتضارب المصالح. ومن الشخصيات الرئيسية الأخرى في الدائرة الداخلية لترامب هو صهره جاريد كوشنر، الذي عمل كمستشار كبير ولعب دورا حاسما في تشكيل سياسات الإدارة بشأن الشرق الأوسط والهجرة وإصلاح العدالة الجنائية.

وبالإضافة إلى أفراد عائلته، فإن علاقة ترامب بشخصيات جمهورية رئيسية، مثل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل وزعيم الأقلية في مجلس النواب كيفن مكارثي، ستكون مفيدة أيضا في تحديد عودته المحتملة في الانتخابات الأمريكية المقبلة. انتقد كل من ماكونيل ومكارثي تصرفات ترامب في الماضي، لكنهما سعيا أيضا إلى الحفاظ على علاقة إيجابية معه من أجل تعزيز أجندة الحزب الجمهوري. وقد يكون لدعمهم أو عدمهم تأثير كبير على قدرة ترامب على تأمين ترشيح الحزب في عام 2024.

الرأي العام ودعم ترشيح ترامب:

سيكون الرأي العام ودعم عودة ترامب المحتملة في الانتخابات الأمريكية المقبلة عاملا حاسما في تحديد فرص نجاحه. على الرغم من هزيمته في انتخابات عام2020، يواصل ترامب الحفاظ على قاعدة قوية من المؤيدين الذين يظلون موالين له ويعتبرونه بطلا لقيمهم ومعتقداتهم. وستكون قدرة ترامب على تعبئة قاعدته وتنشيط الناخبين المحافظين عاملا أساسيا في نجاحه في تأمين ترشيح الحزب الجمهوري وهزيمة أي منافس ديمقراطي محتمل.

ومع ذلك، فإن خطاب ترامب المثير للانقسام وتصرفاته المثيرة للجدل أدى أيضا إلى نفور العديد من الناخبين، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى المعسكرات المعتدلة والمستقلة. لقد ساهم تعامله مع جائحة كوفيد-19، وتصريحاته التحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي، ورفضه قبول نتائج انتخابات2020 ، في تكوين تصور سلبي لقدراته القيادية وشخصيته. ونتيجة لذلك، تقلبت معدلات تأييد ترامب طوال فترة ولايته، حيث أظهرت استطلاعات الرأي انقساما حزبيا كبيرا في الآراء حول أدائه.

ومن أجل تحقيق عودة ناجحة، سيحتاج ترامب إلى مناشدة قطاع أوسع من الناخبين ومعالجة مخاوف الناخبين المتأرجحين الذين قد يشعرون بالقلق من أسلوب قيادته. وسيحتاج أيضًا إلى التعامل مع الديناميكيات المتغيرة داخل الحزب الجمهوري، الذي شهد انقسامًا متزايدًا بين المحافظين التقليديين والموالين لترامب. وقد سعى بعض مسؤولي الحزب الجمهوري إلى النأي بأنفسهم عن ترامب في أعقاب تمرد الكابيتول، في حين واصل آخرون احتضان علامته التجارية الشعبوية.

وجهات النظر والتطورات المستقبلية:

أثارت العودة المحتملة لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة مجموعة من وجهات النظر والتوقعات حول مستقبل السياسة الأمريكية. ويعتقد بعض المحللين أن استمرار نفوذ ترامب داخل الحزب الجمهوري سيؤدي إلى انقسام الحزب الجمهوري، مع ظهور فصيل أكثر مركزية حول ترامب يركز على الولاء للرئيس السابق. ويعتقد آخرون أن شعبية ترامب بين الناخبين المحافظين ستضمن ترشيحه في عام 2024 وخوض سباق تنافسي ضد منافس ديمقراطي.

وبغض النظر عن النتيجة، فمن الواضح أن عودة ترامب المحتملة ستكون لها آثار بعيدة المدى على مستقبل الولايات المتحدة. وسيكون ترشيحه بمثابة اختبار لقوة المؤسسات الديمقراطية في البلاد وقدرة نظامها السياسي على الصمود. كما أنه سيجبر الناخبين على التعامل مع إرث رئاسة ترامب وتحديد ما إذا كانوا على استعداد لمنحه فرصة ثانية في أعلى منصب في البلاد.

إن العودة المحتملة لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة هي قضية معقدة ومتعددة الأوجه، وسوف تستمر في التطور في السنوات المقبلة. يلعب السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والرأي العام والتطورات المستقبلية دورًا في تشكيل نتيجة ترشيح ترامب المحتمل. ومع استمرار تحول المشهد السياسي، سيكون من الأهمية بمكان أن يفكر الناخبون بعناية في الآثار المترتبة على رئاسة ترامب وتأثيرها على البلاد ككل. ستكون انتخابات عام 2024 لحظة حاسمة للديمقراطية الأمريكية، وسيكون لقرار قبول أو رفض ترشيح ترامب عواقب وخيمة على مستقبل الأمة.

في السنوات الأخيرة، كان هناك اهتمام متزايد بمقارنة الاستراتيجيات السياسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. يُظهر كلا الزعيمين أساليب قيادة استبدادية، وقد استخدما وسائل الإعلام والدعاية لتعزيز أجنداتهما السياسية. سوف يستكشف هذا المقال السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية وتأثير مقارنة الاستراتيجيات السياسية لبوتين وترامب من حيث أساليب القيادة الاستبدادية واستخدام وسائل الإعلام والدعاية. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تحديد وتحليل الأفراد المؤثرين الذين ساهموا في هذا المجال. وستتم مناقشة وجهات نظر مختلفة، وتوفير تحليل منطقي للجوانب الإيجابية والسلبية لهذه الاستراتيجيات. وأخيرًا، سيتم النظر في التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بمقارنة الاستراتيجيات السياسية لبوتين وترامب.

تتميز أساليب القيادة الاستبدادية بالسيطرة المركزية، والحريات السياسية المحدودة، والتركيز القوي على النظام والانضباط. وقد أظهر كل من بوتين وترامب سمات مرتبطة عادة بالقادة الاستبداديين، مثل تجاهل المعايير الديمقراطية، والتركيز على السلطة الشخصية، والاستعداد لاستخدام القوة للحفاظ على السيطرة. ومع ذلك، تختلف أساليبهم في الحكم بطرق كبيرة.

هناك فاصلة بين بوتين وترامب:

وصل فلاديمير بوتين، ضابط الكي جي بي السابق، إلى السلطة في روسيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومنذ ذلك الحين عزز سلطته من خلال مزيج من المناورات السياسية، والسيطرة على وسائل الإعلام، وقمع المعارضة. ويتميز أسلوب قيادة بوتن بالتركيز القوي على الوحدة الوطنية والاستقرار، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الحقوق والحريات الفردية. لقد استخدم مزيجا من الوسائل القانونية وغير القانونية لإسكات المنتقدين وتعزيز سلطته، بما في ذلك استخدام الحملات الدعائية والتضليل لتشكيل الرأي العام.

في المقابل، وصل دونالد ترامب، رجل الأعمال والشخصية التلفزيونية، إلى السلطة في الولايات المتحدة في عام 2016 على موجة من الدعم الشعبوي. يتسم أسلوب قيادة ترامب بمزيج متقلب من الكلام المنمق، وعدم القدرة على التنبؤ، وتجاهل الأعراف والمؤسسات الراسخة. لقد استخدم وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تويتر، لتجاوز القنوات الإعلامية التقليدية والتواصل مباشرة مع مؤيديه، وغالبا ما ينشر معلومات مضللة ونظريات المؤامرة في هذه العملية.

وقد لعب استخدام وسائل الإعلام والدعاية دورا مركزيا في الاستراتيجيات السياسية لكل من بوتين وترامب. لقد استخدم بوتين وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة لتشكيل الرأي العام وقمع المعارضة، في حين استخدم أيضا حملات تضليل متطورة عبر الإنترنت لزرع الارتباك والانقسام، سواء في الداخل أو الخارج. من ناحية أخرى، استخدم ترامب منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر للتحايل على حراس وسائل الإعلام التقليدية والتواصل مباشرة مع قاعدته، وغالبا ما ينشر الأكاذيب ويثير الجدل في هذه العملية.

عند مقارنة استخدام بوتين وترامب لوسائل الإعلام والدعاية، من المهم أن نأخذ في الاعتبار دور الأفراد المؤثرين الذين ساهموا في صياغة نهج كل منهما. وفي روسيا شخصيات مثل فلاديسلاف وقد لعب سوركوف ، وهو استراتيجي سياسي معروف بتلاعبه بالإدراك العام، دوراً رئيسياً في تشكيل استراتيجية بوتين الإعلامية. في الولايات المتحدة، كان لشخصيات مثل ستيف بانون ، المستشار السابق لترامب المعروف بآرائه القومية والشعبوية، تأثير كبير على رسائل الرئيس السابق وتكتيكاته الإعلامية.

ومن منظور نقدي، فإن استخدام وسائل الإعلام والدعاية من قبل القادة المثيرين للجدل مثل بوتين وترامب يشكل تهديدا كبيرا للديمقراطية وسيادة القانون. ومن خلال التحكم في تدفق المعلومات والتلاعب بالرأي العام، يتمكن هؤلاء القادة من تعزيز سلطتهم وتقويض المؤسسات التي من المفترض أن تحاسبهم. إن انتشار المعلومات الخاطئة والمضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الأخرى يؤدي إلى تآكل الثقة في العمليات الديمقراطية ويعزز مناخ الاستقطاب والتطرف السياسي.

ومع ذلك، تجدر الإشارة أيضا إلى أن استخدام وسائل الإعلام والدعاية يمكن أن يكون له آثار إيجابية في سياقات معينة. على سبيل المثال، في أوقات الأزمات أو الصراع، قد يستخدم القادة الدعاية لحشد الدعم الشعبي وتعزيز الوحدة الوطنية. وبالمثل، يمكن أن يوفر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي منصة للأصوات المهمشة ووجهات النظر البديلة التي قد لا تكون ممثلة في وسائل الإعلام الرئيسية.

عند النظر في التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بمقارنة الاستراتيجيات السياسية لبوتين وترامب، فمن الواضح أن استخدام وسائل الإعلام والدعاية سيستمر في لعب دور مركزي في تشكيل الخطاب السياسي والتأثير على الرأي العام. ومع تطور التكنولوجيا وظهور منصات جديدة، فمن المرجح أن يقوم القادة بتكييف تكتيكاتهم لاستغلال هذه الأدوات لتحقيق أغراضهم الخاصة. سيكون من المهم أن تظل المجتمعات الديمقراطية يقظة في الدفاع عن حرية التعبير والصحافة، ومحاسبة القادة على استخدامهم للدعاية والمعلومات المضللة.

في الختام، فإن مقارنة الاستراتيجيات السياسية لبوتين وترامب من حيث أساليب القيادة الاستبدادية واستخدام وسائل الإعلام والدعاية توفر رؤى قيمة حول ديناميكيات السلطة والنفوذ في السياسة المعاصرة. ومن خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية وتأثير هذه الاستراتيجيات، بالإضافة إلى النظر في وجهات النظر المختلفة والتطورات المستقبلية المحتملة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل التحديات والفرص التي تفرضها القيادة الاستبدادية في العصر الرقمي. ومن الضروري أن نظل يقظين في الدفاع عن القيم والمؤسسات الديمقراطية ضد زحف الاستبداد، وأن نحمل القادة المسؤولية عن استخدامهم لوسائل الإعلام والدعاية للتلاعب بالرأي العام. ولن نتمكن من ضمان مستقبل تزدهر فيه الديمقراطية والحرية إلا من خلال الالتزام بالشفافية والمساءلة وسيادة القانون.

ردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة: ردود فعل إيجابية وسلبية وتأثيرها على الاتفاقيات والتحالفات الدولية

عندما يتحدث التاريخ:

أثارت عودة فلاديمير بوتين في روسيا ودونالد ترامب في الولايات المتحدة إلى السلطة ردود فعل قوية على مستوى العالم . وكان كلا الزعيمين موضع ثناء وانتقاد، حيث كان لأفعالهما آثار بعيدة المدى على الاتفاقيات والتحالفات الدولية. ومن أجل فهم ردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة، فمن الضروري دراسة السياق التاريخي الذي برز فيه هؤلاء القادة.

أصبح فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا لأول مرة في عام 2000 ، ومنذ ذلك الحين احتفظ بقبضة قوية على السلطة، إما كرئيس أو رئيس للوزراء. وقد اتسم أسلوب قيادة بوتين بالنهج الصارم في التعامل مع الحكم، حيث اتهمه منتقدوه بالاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان. وعلى الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال بوتين يتمتع بشعبية كبيرة بين العديد من الروس بسبب موقفه القوي بشأن الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي.

من ناحية أخرى، قوبل صعود دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة بالتشكيك والقلق من جانب العديد من زعماء العالم. أدى سلوك ترامب الذي لا يمكن التنبؤ به والمثير للجدل في كثير من الأحيان إلى توتر العلاقات مع الحلفاء التقليديين وتحول في السياسة الخارجية الأمريكية نحو موقف أكثر قومية. لقد شكلت أجندته "أمريكا أولا" تحديا للاتفاقيات والمؤسسات الدولية القائمة منذ فترة طويلة، الأمر الذي تسبب في حالة من عدم اليقين والانقسام بين القوى العالمية.

لعبت شخصيات رئيسية في المجتمع الدولي دورا مهما في تشكيل ردود الفعل على عودة بوتين وترامب إلى السلطة. وكان لزاما على زعماء مثل أنجيلا ميركل في ألمانيا، وإيمانويل ماكرون في فرنسا، وشي جين بينج في الصين، أن يتغلبوا على التحديات التي تفرضها أساليب القيادة التي ينتهجها بوتين وترامب. وكانت ميركل، على وجه الخصوص، من أشد المنتقدين لتصرفات بوتين في أوكرانيا وسوريا، بينما أعربت أيضًا عن قلقها بشأن تجاهل ترامب للتعددية والأعراف الدولية.

التأثير على الاتفاقيات والتحالفات الدولية:

كان لردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة تأثير عميق على الاتفاقيات والتحالفات الدولية. وكانت سياسة بوتين الخارجية ، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم والتدخل العسكري في سوريا، وعدم التزام الغرب بتعهداته تجاه روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سببا في توتر علاقات روسيا مع أوروبا والولايات المتحدة. وقد أدى هذا إلى فرض عقوبات وعزلة عن المجتمع الدولي، مع التخلي عن الاتفاقيات الرئيسية مثل معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى.

وعلى نحو مماثل، خلف النهج الذي اتبعه ترامب في التعامل مع الدبلوماسية، والذي اتسم بازدراء التحالفات التقليدية والتشكيك في المنظمات الدولية، تأثيرات مضاعفة في مختلف أنحاء العالم. كان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، والشراكة عبر المحيط الهادئ، بمثابة تحدي لأسس التعاون العالمي وأثار تساؤلات حول مستقبل التعددية.

وبوسعنا أن نرى تأثير عودة بوتين وترامب إلى السلطة على الاتفاقيات والتحالفات الدولية في الديناميكيات المتغيرة لعلاقات القوى العالمية. وتعرضت التحالفات التقليدية مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لضغوط شديدة في ظل صراع الدول الأعضاء مع مصالح وأولويات متباينة. وكان صعود الزعماء الشعبويين في دول مثل المجر وبولندا وإيطاليا سببا في تعقيد الجهود الرامية إلى الحفاظ على التضامن بين الديمقراطيات الغربية.

وفي الوقت نفسه، ظهرت شراكات وتحالفات جديدة استجابة للمشهد الجيوسياسي المتغير. ويشير تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون والعلاقات الأوثق بين روسيا والصين إلى التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، مع إعادة تعريف ديناميكيات القوة من قبل الاقتصادات الناشئة والقوى غير الغربية.

الأفراد المؤثرون والتطورات المستقبلية:

في تحليل ردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة، من الضروري النظر في دور الأفراد المؤثرين الذين شكلوا الخطاب السياسي حول العلاقات الدولية. وقد لعبت شخصيات مثل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، وزعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني ، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ، دورا حاسما في انتقاد سياسات بوتين وترامب والدعوة إلى نهج أكثر تعاونا وشمولا في التعامل مع الحوكمة العالمية.

وبالنظر إلى المستقبل، تظل التطورات المستقبلية المتعلقة بردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة غير مؤكدة. ومن الممكن أن تؤدي الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة والتغييرات المحتملة في القيادة في روسيا إلى تغيير ديناميكيات العلاقات الدولية وفتح إمكانيات جديدة للتعاون أو الصراع. وسيكون من الأهمية بمكان أن يتعامل زعماء العالم مع هذه التحديات بحكمة وبصيرة من أجل معالجة القضايا العالمية الملحة مثل تغير المناخ، والانتشار النووي، والتفاوت الاقتصادي.

كانت ردود الفعل على عودة بوتين وترامب إلى السلطة متنوعة ودقيقة ، مما يعكس الطبيعة المعقدة للعلاقات الدولية المعاصرة. وفي حين رحب بعض القادة بأساليبهم القيادية القوية باعتبارها استجابة ضرورية للتحديات العالمية، أعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن تآكل المعايير الديمقراطية والتعاون الدولي. وكان التأثير على الاتفاقيات والتحالفات الدولية كبيرا، حيث تم اختبار الهياكل التقليدية وتشكيل تحالفات جديدة استجابة للمشهد الجيوسياسي المتغير. وبينما يمر العالم بفترة من عدم اليقين والاضطرابات، فمن الضروري أن يعمل القادة العالميون على تحقيق رؤية أكثر شمولاً واستدامة لمستقبل العلاقات الدولية. ومن خلال فهم السياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، والتطورات المستقبلية المحتملة المرتبطة بردود الفعل العالمية على عودة بوتين وترامب إلى السلطة، يمكننا أن نسعى جاهدين نحو عالم أكثر سلاما وازدهارا للجميع.

التأثير على العلاقات الدولية: عودة بوتين وترامب إلى السلطة

لا شك أن عودة فلاديمير بوتين ودونالد ترامب إلى منصبيهما سيكون لها تأثير كبير على العلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالديناميكيات الجيوسياسية والآثار الاقتصادية والتجارية. ويقدم السياق التاريخي للفترتين السابقتين لهذين الزعيمين في المنصب نظرة ثاقبة لسياساتهما وأساليبهما في التعامل مع الشؤون الخارجية، وهو ما يمكن أن يساعد في التنبؤ بكيفية تأثير عودتهما على العلاقات العالمية. في هذا المقال، سنستكشف التحولات المحتملة في الديناميكيات الجيوسياسية، والتداعيات الاقتصادية والتجارية، والشخصيات الرئيسية التي لعبت دورا في تشكيل مجال العلاقات الدولية في سياق عودة بوتين وترامب إلى السلطة.

فقد كان فلاديمير بوتين شخصية مهيمنة في السياسة الروسية لأكثر من عقدين من الزمن، حيث شغل منصبي الرئيس ورئيس الوزراء. وكثيرا ما قوبل موقفه الحازم في السياسة الخارجية، خاصة في مجالات مثل أوكرانيا وسوريا والحرب السيبرانية، بانتقادات من الدول الغربية. خلال رئاسة ترامب، كانت هناك علاقة معقدة بين الزعيمين، حيث أعرب ترامب في كثير من الأحيان عن إعجابه ببوتين وسعى للتعاون مع روسيا في مختلف القضايا العالمية.

ومن ناحية أخرى، اتسمت رئاسة دونالد ترامب بنهج أكثر انعزالية، مع التركيز على سياسات أمريكا أولا وتحدي المؤسسات والاتفاقيات الدولية القائمة. وأدت قرارات ترامب المفاجئة، مثل الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية باريس للمناخ، إلى خلق حالة من عدم اليقين والتوتر على الساحة العالمية. وأدى أسلوبه الدبلوماسي القائم على المواجهة إلى توتر العلاقات مع حلفائه التقليديين، في حين سعى أيضا إلى إقامة علاقات أكثر دفئا مع الزعماء الاستبداديين مثل بوتين.

التأثير على الديناميكيات الجيوسياسية:

من المرجح أن تؤدي عودة بوتين وترامب إلى منصبيهما إلى تحولات في الديناميكيات الجيوسياسية على جبهات متعددة. وفي حالة روسيا، فإن استمرار وجود بوتين من شأنه أن يعزز نفوذ موسكو في مناطق مثل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. ومن الممكن أن تؤدي سياسة بوتين الخارجية الحازمة، مقترنة بدعمه للأنظمة الاستبدادية، إلى المزيد من تحدي النظام الدولي الليبرالي والمعايير الديمقراطية.

ومن ناحية أخرى، فإن عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تعيد أجندته "أميركا أولا"، التي تتميز بالتركيز على المصالح الوطنية والتشكك في التعددية. إن نهج المواجهة الذي يتبناه ترامب تجاه الصين وإيران وكوريا الشمالية قد يؤدي إلى تصعيد التوترات القائمة وخلق صراعات جديدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تجاهله للتحالفات التقليدية يمكن أن يضعف وحدة الدول الغربية، مما يترك فراغا يمكن للقوى الاستبدادية مثل روسيا استغلاله.

الشخصيات الرئيسية في العلاقات الدولية:

عند تقييم تأثير عودة بوتين وترامب إلى المنصب على العلاقات الدولية، من الضروري النظر في دور الشخصيات الرئيسية التي شكلت هذا المجال. ومن بين هذه الشخصيات أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، التي كانت مدافعا قويا عن القيم الليبرالية وداعمة للتعاون عبر الأطلسي. وكانت قيادة ميركل في أوروبا فعالة في التعامل مع الأزمات مثل تدفق اللاجئين وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، مما يجعلها لاعبا حاسما في الحفاظ على توازن القوى في المنطقة.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى شي جين بينغ ، رئيس الصين، الذي أثارت مبادرة الحزام والطريق الطموحة التي أطلقها وتصرفاته الحازمة في بحر الصين الجنوبي المخاوف بين القوى الغربية. ويشكل توطيد شي لسلطته داخل الحزب الشيوعي الصيني ودفعه نحو الهيمنة التكنولوجية تحديا للمؤسسات التقليدية التي يقودها الغرب، مما يؤدي إلى تحول محتمل في توازن القوى العالمي.

علاوة على ذلك، شخصيات مثل إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، وناريندرا ويلعب مودي ، رئيس وزراء الهند، أيضا أدوارا مهمة في تشكيل العلاقات الدولية. وتتناقض جهود ماكرون لتنشيط التكامل الأوروبي ودعم مبادرات تغير المناخ مع أجندة مودي القومية والشراكة الاستراتيجية المتنامية مع الولايات المتحدة. وسوف تحدد التفاعلات بين هذه الشخصيات الرئيسية، إلى جانب بوتين وترامب، مسار الشؤون العالمية في السنوات المقبلة.

وجهات النظر والتحليل السياسي:

تثير العودة المحتملة لبوتين وترامب إلى منصبيهما مجموعة من وجهات النظر حول تأثيرهما على العلاقات الدولية. ويقول أنصار بوتين إن أسلوب قيادته القوي والتزامه بالمصالح الروسية يمكن أن يعيد الاستقرار في مناطق الصراع، مثل أوكرانيا وسوريا. وعلى نحو مماثل، يشيد أنصار ترامب بنهجه غير التقليدي في التعامل مع الدبلوماسية، والذي يعتقدون أنه يعطي الأولوية للمصالح الأميركية ويتحدى الوضع الراهن للحوكمة العالمية.

ومن ناحية أخرى، يشير منتقدو بوتين إلى ميوله الاستبدادية، وقمع المعارضة، والتدخل في الانتخابات الأجنبية، باعتبارها تهديدات للقيم الديمقراطية والأمن العالمي. وعلى نحو مماثل، يسلط منتقدو ترامب الضوء على خطابه المثير للانقسام، وقراراته غير المنتظمة، وتجاهله للمعايير الدولية، باعتبارها عوامل مزعزعة للاستقرار ويمكن أن تؤدي إلى تصعيد الصراعات وتقويض الثقة في التحالفات.

ومن حيث العواقب الاقتصادية والتجارية، فإن عودة بوتين وترامب يمكن أن تؤدي إلى تحولات في الأسواق العالمية وسلاسل التوريد. ومن الممكن أن تؤدي سيطرة بوتين على موارد الطاقة الهائلة في روسيا وسياسات ترامب التجارية الحمائية إلى خلق تقلبات في أسعار السلع الأساسية وتعطيل اتفاقيات التجارة الدولية. علاوة على ذلك، فإن فرض العقوبات من قبل الزعيمين كأداة للسياسة الخارجية يمكن أن يكون له آثار مضاعفة على الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، مما يؤدي إلى حروب تجارية وتوترات مالية.

التطورات المستقبلية:

بالنظر إلى المستقبل، فإن العودة المحتملة لبوتين وترامب إلى منصبيهما تثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات الدولية والحوكمة العالمية. فهل تؤدي عودة هؤلاء الزعماء إلى المزيد من الاستقطاب في المجتمع الدولي، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب يضم مراكز قوى متنافسة؟ أم هل ستكون هناك فرص للتعاون والحوار، خاصة في مواجهة التحديات الملحة مثل تغير المناخ والأوبئة والإرهاب؟

إن الدور المتطور الذي تلعبه القوى الناشئة مثل الصين والهند، إلى جانب القوى التقليدية مثل الولايات المتحدة وروسيا، سوف يشكل معالم الشؤون العالمية في الأعوام المقبلة. إن توازن القوى بين الأنظمة الاستبدادية والدول الديمقراطية، وتأثير الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الشركات المتعددة الجنسيات ومنظمات المجتمع المدني، وتأثير التقدم التكنولوجي على الحرب والدبلوماسية، كلها عوامل من شأنها أن تؤثر على المسار المستقبلي للعلاقات الدولية.

في الختام، فإن عودة بوتين وترامب إلى السلطة ستكون لها آثار بعيدة المدى على العلاقات الدولية، بما في ذلك التحولات في الديناميكيات الجيوسياسية، والآثار الاقتصادية والتجارية. ومن خلال دراسة السياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، ووجهات النظر، والتطورات المستقبلية المحتملة، فمن الواضح أن تصرفات هؤلاء القادة سوف تشكل المشهد الجيوسياسي العالمي لسنوات قادمة. وعلى هذا النحو، من الضروري أن يراقب صناع السياسات والعلماء والمواطنون هذه التطورات عن كثب وأن يشاركوا في حوار لتعزيز السلام والاستقرار والتعاون في عالم مترابط بشكل متزايد.

هل يقوم دونالد ترامب في رئاسته المقبلة بتفكيك الولايات المتحدة كما فعل ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي؟

في السنوات الأخيرة، كان هناك قلق وتكهنات متزايدة حول التأثير المحتمل لدونالد ترامب على الولايات المتحدة، مع تشبيه البعض بتفكيك الاتحاد السوفيتي في عهد ميخائيل غورباتشوف. إن مسألة ما إذا كان ترامب سوف يقوم بتفكيك الولايات المتحدة كما فعل غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي هي مسألة معقدة ومثيرة للجدل، وتتطلب دراسة متأنية للسياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، والأفراد المؤثرين، ووجهات نظر مختلفة حول هذه المسألة.

المقارنة بين دونالد ترامب وميخائيل غورباتشوف هي مقارنة رائعة، حيث كان يُنظر إلى كلا الشخصيتين على أنهما قوى مدمرة في أنظمتهما السياسية. كان الهدف من سياسات غورباتشوف المتمثلة في الجلاسنوست (الانفتاح) والبريسترويكا (إعادة الهيكلة) هو إعادة تنشيط الاتحاد السوفييتي من خلال إدخال الإصلاحات السياسية وإرساء الديمقراطية. ومع ذلك، أدت هذه الإصلاحات في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، مع انفصال الجمهوريات المختلفة وانهيار الحكومة المركزية.

وفي حالة دونالد ترامب، اتسمت رئاسته بشعور مماثل من الاضطرابات والجدل. أثار نهج ترامب غير التقليدي في التعامل مع السياسة، وتجاهله للأعراف والمؤسسات، وخطابه المثير للانقسام، مخاوف بشأن استقرار الولايات المتحدة ومؤسساتها الديمقراطية. وزعم بعض النقاد أن رئاسة ترامب يمكن أن تؤدي إلى تفكك مماثل للنظام السياسي الأمريكي، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة.

ومع ذلك، هناك أيضا اختلافات مهمة بين الحالتين يجب أخذها في الاعتبار. إن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية أكثر رسوخا ومرونة من الاتحاد السوفييتي، وتتمتع بتاريخ طويل من الحكم الديمقراطي ونظام من الضوابط والتوازنات مصمم لمنع تركيز السلطة في يد أي فرد أو مؤسسة. ورغم أن ترامب اختبر بالتأكيد حدود هذه المؤسسات، فمن غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان لديه القدرة على إعادة تشكيل النظام السياسي الأميركي بشكل جذري على النحو الذي فعله جورباتشوف في الاتحاد السوفييتي.

علاوة على ذلك، فإن المقارنة بين ترامب و غورباتشوف تتجاهل العوامل التاريخية والثقافية والجيوسياسية الفريدة التي شكلت انهيار الاتحاد السوفييتي. كان تفكك الاتحاد السوفييتي نتيجة لعقود من الركود الاقتصادي، والقمع السياسي، والحركات القومية التي قوضت في نهاية المطاف تماسك الدولة السوفييتية. وعلى النقيض من ذلك، تُعَد الولايات المتحدة مجتمعاً أكثر تنوعاً وديناميكية، ويتمتع باقتصاد قوي، وتقاليد قوية في الحكم الديمقراطي، ومجتمع مدني نابض بالحياة وقادر على صد الميول الاستبدادية.

عند دراسة التأثير المحتمل لترامب على الولايات المتحدة، من المهم النظر في أدوار الشخصيات الرئيسية والأفراد المؤثرين الذين ساهموا في المناقشة. أحد هذه الشخصيات هو ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين السابق في البيت الأبيض والمستشار الرئيسي لترامب خلال حملته الرئاسية. كان بانون من أشد المؤيدين للأجندة القومية والشعبوية، ويدافع عن السياسات التي تسعى إلى قلب النظام السياسي التقليدي وإعادة تشكيل المجتمع الأمريكي على طول خطوط أكثر استبدادية. وقد كان تأثيره على ترامب وإدارته موضع نقاش على نطاق واسع، حيث اعتبره البعض مُنظِّرا خطيرا عازما على تقويض الأعراف والمؤسسات الديمقراطية.

ومن الشخصيات الرئيسية الأخرى في إدارة ترامب المدعي العام ويليام بار، الذي تعرض لانتقادات بسبب جهوده لحماية ترامب من التحقيقات في سلوكه وتقويض استقلال وزارة العدل. أثارت تصرفات بار مخاوف جدية بشأن سيادة القانون والفصل بين السلطات في الولايات المتحدة، حيث يخشى الكثيرون من استعداده لوضع الولاء لترامب فوق مصالح العدالة والدستور.

ومن ناحية أخرى، هناك أيضًا أفراد مؤثرون عارضوا جهود ترامب لتعزيز سلطته وتقويض المعايير الديمقراطية. وأهمها وسائل الإعلام، التي لعبت دورا حيويا في محاسبة إدارة ترامب على أفعالها وكشف الفساد وإساءة استخدام السلطة. واجه الصحفيون والمؤسسات الإخبارية هجمات لا هوادة فيها من ترامب وأنصاره، لكنهم استمروا في التحقيق والإبلاغ عن انتهاكات الإدارة، مما ساعد على توعية الجمهور وتعزيز سيادة القانون.

بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من منظمات المجتمع المدني، ومجموعات المناصرة، والحركات الشعبية التي حشدت لمقاومة أجندة ترامب والدفاع عن القيم الديمقراطية. إن المسيرة النسائية، وحركة حياة السود مهمة، وحركة المسيرة من أجل حياتنا ليست سوى أمثلة قليلة على المعارضة المتنوعة والقوية لترامب التي ظهرت ردا على رئاسته. وقد نظمت هذه الحركات احتجاجات، وضغطت على صناع السياسات، وحشدت الناخبين للرد على سياسات ترامب المثيرة للانقسام والمدمرة.

إن مسألة ما إذا كان دونالد ترامب سوف يقوم بتفكيك الولايات المتحدة كما فعل ميخائيل جورباتشوف في الاتحاد السوفييتي هي مسألة معقدة ومثيرة للجدل. ورغم أن ترامب اختبر بالتأكيد حدود الديمقراطية الأميركية ودفع حدود السلوك السياسي المقبول، فمن غير المؤكد على الإطلاق ما إذا كان لديه القدرة على إعادة تشكيل النظام السياسي الأميركي بشكل جذري على النحو الذي فعله غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي. إن الولايات المتحدة مجتمع أكثر مرونة وتنوعاً من الاتحاد السوفييتي، حيث تتمتع بمؤسسات ديمقراطية قوية ومجتمع مدني نابض بالحياة وقادر على صد النزعات الاستبدادية. ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من التهديد الذي يشكله ترامب على سلامة الديمقراطية الأمريكية، وسوف يتطلب ذلك اليقظة والتعبئة والمقاومة المستمرة من قبل كل أولئك الذين يقدرون الحرية والعدالة والديمقراطية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

......................

المراجع:

1. Kissinger, Henry. "World Order." Penguin Books, 2015.

2. Hurrell, Andrew. "On Global Order: Power, Values, and the Constitution of International Society." Oxford University Press, 2007.

3. Talbott, Strobe. "The Great Experiment: The Story of Ancient Empires, Modern States, and the Quest for a Global Nation." Simon & Schuster, 2008.

4. BBC News. (2018). Trump-Putin summit: US president under fire over poll meddling comments. Retrieved from https://www.bbc.com/news/world-us-canada-44835520

5. The New York Times. (2020). How Trump’s foreign policy has changed the world. Retrieved from https://www.nytimes.com/2020/09/25/world/

6. The Guardian. (2021). Putin warns West of “rapid and harsh" response if it crosses his “red lines". Retrieved from https://www.theguardian.com/world/2021/jun/04/vladimir-putin-warns-west-russia-red-lines-missile-test.

7. Snyder, T. (2018). The Road to Unfreedom: Russia, Europe, America. Tim Duggan Books.

8.Tsygankov, A. (2017). Russia and America: The Asymmetrical Rivalry. University of Georgia Press.

في أغلب الدول المتحضرة ينص القانون الأساسي ساري المفعول على ما يلي: (تكفل الدولة حرية الصحافة والنشر والإبلاغ السمعي بصري ـ الإذاعة والتلفزيون، أيضا المقروء والصورة). إنما في بلد كالعراق لا يجد مئات الصحفيين الذين يعملون على هذا المبدأ، مكانا لمهامهم الحقيقية بين أوساط المجتمع، بسبب حركة الرقابة المتشددة لمنع انتشار الحقيقة.. والسؤال: متى يأتي اليوم الذي كان أصحاب المهنة يحلمون بحرية المهنة واحترام القانون؟

يبدي العديد من الخبراء القانونيين والإعلاميين وآلاف القراء العراقيين من الصنف المتابع لمجريات الأحداث والأزمات وتداعياتها التي لم تتغير في بلادهم لأكثر من عقدين، امتعاضهم من استخدام صاحب القرار الرقابة المفرطة بحق الصحفيين وتقييد حريتهم الإعلامية بموجب قوانين قديمة التاريخ وتقارير كيدية مطيعة. وفيما هناك وسائل إعلام لا تلتزم الشفافية في أداء واجبها الصحفي ولا تخضع للرقابة الذاتية التي تشترط الحقيقة والأمانة والصدق. أصبح مبدأ، "الصحافة لأجل مصالح الحزب" منهجا، يقتضي لأن تتدبر وسائل الإعلام ذات التبعية السياسية بيئة غالبا ما يكون فيها الوعي الإخباري محدودا بشكل حاسم. بذلك يتم وأد كل دفعة توجيه أو انتقادات من لدن المعارضة الشعبية وبعض وسائل الإعلام لأصحاب السلطة في مهدها.

وإذا ما تحدثنا عن حرية التعبير والرأي بموجب الأحكام والقوانين، "شبه العرفية" التي تطبق للأسف في زمن السلم، يشعر الصحفيون وأصحاب الفكر دائما وكأن الرقابة جاهزة على وضع "المقص فوق الرأس" مع إنتقاص للتوصيات والمبادئ التوجيهية التي ينص عليها أحكام الدستور والقوانين التي تحرم حظر حرية التعبير ومصادرة الرأي، أو سوء سلوك من أي نوع يهدد بالسجن أو الشطب المهني.

منذ تأسيسها بعد احتلال العراق، تعكس بعض وسائل الإعلام "المرئي والمسموع والمقروء" التابعة للأحزاب، في المقام الأول، مصالح أحزاب السلطة وتكتل النخب السياسية والطائفية وشركائهم التجاريين. مسلك مثير للقلق، لكنه بالتأكيد يجسد إشكالية الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام "التابعة" تلك، لتضليل الرأي العام. والأخطر الدور الذي يمكن أن تلعبه باسمها لتصعيد الأزمات وإثارة أفراد المجتمع سياسيا وعقائديا. في ظل هكذا معايير وسلوكيات ونظام التعتيم الإعلامي واحتكار الأخبار وعدم وجود مؤسسات بحثية يرجع إليها الإعلامي خلال أداء عمله المهني. لم يبق أمام الصحفي سوى أن يفكر في النتائج الوظيفية الاجتماعية السلبية، خاصة وأن العراق لا زال يعاني من سلبيات التحول السياسي، ومجتمعاته المتنوعة لم تجد لنفسها مكانا بين أصحابها المعنيين على مستوى الانتماء "العرقي والطائفي والقومي" وحتى أحيان في مثالية المصالح والحقوق الشخصية والتطبيق الفعلي لممارسة العمل والتدرج الوظيفي والتكيف مهنيا ومعيشيا مع المحيط المجتمعي.

نعتقد أن الكثير من الصحفيين ووسائل الإعلام العراقية لا زالت غير مؤهلة لأن تحسن الفعل فيما يخدم المصالح العامة للدولة والمجتمع. وعلى ما يبدو أن الكثير من الصحفيين لا يضعون مكانة لازمة في محيطهم المهني للجزئيات المجتمعية ومحرماتها السياسية. والأسوأ، أن أغلب الإعلاميين ليسوا سوى أداة طيعة في يد كبار رجال الأعمال والنخب السياسية، الذين ليس لديهم فقط، الأدوات العقائدية، إنما المال والسلطة، لكن أيضا، الترويج عبر وسائل إعلام متطورة وأبواق إعلامية مأجورة. يتأكد من ذلك، أن بنية ونشأة هذه الطبقة هي المشكلة التي تواجه التحول الديمقراطي. وإن التوازي الإعلامي المباشر، هو مزيج من جماعات سياسية ذات مصالح فئوية مشتركة، تروج لها بشكل واضح أبواق يمولها القطاع الخاص ويتم تشغيلها في الغالب من قبل رجال الأعمال، حيث كثيرا ما تتداخل المصالح السياسية والاقتصادية.

من جانب آخر، ليست هناك ضمانات لأن تكون وسائل الإعلام العراقية غير الحزبية والمملوكة للدولة، حرة. لكن من الواضح هناك ضغوطات تتعرض لها، ويحتمل أن تشكل بعض المحرمات فزاعة لملاحقة محرريها وتعرضهم لقانون (المستوى الهابط) سيئ الصيت. وفي أكثر الأحيان لا يفهم بأن وسائل الإعلام أجهزة عامة للتعبير والتوعية المجتمعية، يوضع لها في الدولة المدنية معيار مجتمعي وثقافي خاص، على أساسه يحرم مساءلة أو اعتقال أو ملاحقة الصحفي سياسيا، إلا في العراق ديوان القسوة والظلم مفتوح على مصراعيه طالما الصراع لأجل الحقيقة لم ينته بعد.! 

***

عصام الياسري

في يوم اعلان  تشكيل حكومة السيد محمد شياع السوداني، نشرنا مقالا بعنوان: (دولة رئيس مجلس الوزراء.. مع التحية – وزير التعليم العالي)! اثبت الآن ان فضيحة (جامعة البصرة) كانت نتيجة، وأن السبب باق لفضائح اخرى أكثرها في الجامعات الأهلية، لكن المال يسترها.. وستبقى الفضائح ما دام السبب باق.

ولأن دولته لا يعرف علماء ومفكري البلد فأنني اضطررت في حينها أن أبدأ النصيحة هكذا:

اتحدث لجنابكم الكريم بوصفي قضيت اربعة عقود في التعليم العالي، وكنت في التسعينيات عضوا في لجنة من ثلاثة اكاديميين مهمتها اختبار صلاحية حملة الدكتوراة القادمين من جامعات امريكية وبريطانية ودول اخرى للتدريس في الجامعات العراقية، ومحاضرا لربع قرن بمركز طرائق التدريس الذي يقوم بدورات تدريبية للتدريسيين بهدف الارتقاء بمستوى التعليم الجامعي، واستاذا في جامعات عراقية وعربية، ومشرفا على أكثر من سبعين اطروحة دكتوراة، ومؤلفا لكتب منهجية تدّرس في الجامعات. وكنت مقرر اول مؤتمر للتعليم العالي بعد 2003 في (ايلول 2004)، وفيه اقر ستة اهداف من اصل ثمانية وضعتها انا ومعتمدة حاليا في الوزارة، وانتخبت في (2005) رئيسا لرابطة اساتذة جامعة بغداد، وقبلها حصلت في (2000) على تكريم وزارة التعليم العالي الخاص برعاية العلماء.

اقول هذا معتذرا ومضطرا، لأن السياسيين لا يعرفون غير السياسيين ولا يرتاحون لعلماء النفس والأجتماع المستقلين لأنهم يقولون الحقيقة، ولأن العراق بعد 2003 صار طاردا للأكاديميين، ولأن معظم الذين تولوا هذه الوزارة ما كانوا مؤهلين، ولا يعرفون أن اهم وأخطر وزارة في العراق هي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. فهم لا يدركون ان التعليم العالي يعدّ أحد أهم المحركات الرئيسة لأداء النمو الأقتصادي والتقدم الأجتماعي والتنمية من خلال تعزيز الابتكار وزيادة المهارات العالية للخريجين، والقدرة التنافسية للدول بوجه عام وللأفراد بوجه خاص. وأنه الوسيلة التي تعمل على تحسين نوعية الحياة للناس ومعالجة التحديات الأجتماعية والعالمية الكبرى، وأن تقدم الدول يعتمد بالدرجة الأساسية على البحوث العلمية التي ينجزها العقل الأكاديمي، وانها هي التي تعد العقول العلمية التي تبني الانسان والوطن.. فضلا عن أن اساتذتها موزعون بين مستقلين سياسيا وبين من يحتل مواقع متقدمة في الأحزاب العراقية، وان صوتهم مسموع في الفضائيات العراقية والعربية والأجنبية.

في ضوء ما اوجزناه في اعلاه عن اهمية وخطورة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.. فان تساؤلي لجنابكم الكريم، هو:

ما المؤهلات التي يتمتع بها من اخترته وزيرا لهذه الوزارة؟

استطلاع رأي

من عادتي انني استطلع الرأي في قضايا كهذه، فتوجهت بهذا الأستفسار:

(أرجو تزويدي بمعلومات حقيقية وموضوعية عن وزير التعليم العالي الذي اختاره السيد السوداني.. ؟).

في ادناه نماذج من اجابات اكاديميين ومثقفين ونشطاء:

رجل راكز نفسيا واجتماعيا ومتوازن. درس في جامعة الكوفة لغة عربية وكان مهذبا ومنتظما ولبقا وذكيا. سياسيا هومجاهد بطل وشجاع ولا يخشى شيئا.

على عيني سياسي ومجاهد وبطل وشجاع.. بس هاي وزارة تعليم عالي.

الوزير منصب سياسي في كل بلاد الدنيا، جينين بلاسخيرت كانت قبل تسلمها منصب ممثلة الأمين العام في العراق وزيرة دفاع هولندا. العبرة في إدارته للوزارة والتزامه بالأنظمة والقوانين وتطوير التعليم ومؤسساته.

باعتقادي اول قرار سيصدره ويطبق على الجامعات هو التزام الطالبات بالحشمه والأخلاق، هذا اولا

ثانيا – إضعاف دور الجامعات الحكوميه وزياده الاهتمام( بالنسبه العدديه) للجامعات الاهليه،

ثالثا – سيكون منح الشهادات الجامعيه المزوره على قدم وساق وبالمزاد العلني.

لا تسعد الامة إلا بثلاثة: حاكم عادل، و عالم ناصح، و عامل مخلص، وان شاء الله يكون عامل مخلص. نتمنى له التوفيق، والايام القادمة سوف نرى ما يقدمه هذا الشاب الغيور.

استاذي، انت اعرف منا بهذا الامر وهو واضح حاله حال الاخرين، الامر ليس للمؤهلات ولكن للتوافقات.

يقال انه اكمل دراسته العليا في لبنان في الجامعة الاسلامية والتي الغي الاعتراف بها من قبل التعليم العالي.

المحاصصة والانتماء الحزبي هو الحاكم، اما الكفاءة فهذه محذوفة من القاموس عندهم.

السؤال، هل عمل في الجامعات العراقية حتى يعرف مشاكلها ويحلها؟!هل قدم محاضرات للطلبة؟ واين نشرت بحوثه، السيرة الذاتية تدل على ضعف علمي لهذا الشخص.

انطو الرجال فرصة يشتغل وبعدين احجو عليه.

ادري اشلون انطيه فرصه هو لا صاير معاون عميد ولا عميد ولا رئيس جامعه اشلون اتريده يقود وزاره ويعوفون البرفسوريه والدكاتره خريجين جامعات عالميه ويجيب واحد خريج جامعه مزوره!.

وزارة التعليم.. تاريخ

تأسست وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق عام 1970 وكانت الدكتورة سعاد خليل اسماعيل اول وزيرة لها (اجريت معها لقاءا صحفيا لجريدة الجامعة التي اصدرها وزير التعليم العالي الدكتور منذر الشاوي، ببيتها في الصليخ عام 1989)، تلاها الدكتور هشام الشاوي.. محمد صادق المشاط.. منذر ابراهيم الشاوي.. وكان معظم من تولى هذا المنصب يحملون شهادة الدكتوراه من جامعات عالمية رصينة، وخبرة غزيرة وبمرتبة (بروفيسور)، وخرجت اساتذة اسسوا كليات في بلدان عربية.. الى ما بعد 2003 حيث كانت الأنتكاسة.

علي الأديب.. مثالا

تولى السيد علي الأديب منصب وزير التعليم العالي في (2010)، وبدعوة من مكتبه، جرى في نيسان (2012) لقاء شخصي معه عرض عليّ العودة الى بغداد مع تلميح نقله لي ملحق ثقافي كان حاضرا اللقاء بأسناد موقع اكاديمي كبير لي.. فشكرته واعتذرت. وفي نهاية اللقاء اسديت له نصيحة كانت بالنص:

ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه، واخشى أن يكون المحيطون بك من هذا النوع وبينهم من هو حديث الخبرة.. وعليه اقترح على جنابك تشكيل هيئة مستشارين بدرجة بروفيسور من الاختصاصات العلمية والانسانية على ان يكونوا مستقلين سياسيا.. ولم يأخذ بها فكان التراجع الكبير لمستوى الجامعات العراقية واقحامها في السياسة الطائفية.. شاهد على ذلك، انني دعيت لمناقشة اطروحة دكتوراه في الجامعة المستنصرية، وحين دخلتها لم اصدّق أنني ادخل جامعة بل جامعا! حيث اللافتات السود من مدخلها الى أروقتها.. مكتوب عليها عبارات شيعية بعضها فيه ما يبعث على الكراهية والتحريض الطائفي.

العبودي.. كيف سيكون؟

ما اتصف به سلفه السابق السيد علي الاديب ينطبق على السيد نعيم العبودي، فكلا الرجلين امتهنا السياسة، الأول في حزب الدعوة والثاني في (عصائب اهل الحق). ولا يعنيني هنا معتقدات (الحزبين)، بل المؤهلات التي ينبغي ان يتصف بها من يتولى هذه الوزارة.

ان السيد العبودي لا يمتلك مؤهلات وزير تعليم عالي وبحث علمي في بلد كالعراق متعدد القوميات والأديان والمذاهب والثقافات. فالرجل (الشاب) تلقى محاضرات ثقافية ودينية ونضال وجهاد سياسي صاغت فكره بآليات دوغماتية ومعتقدات طائفية.. تؤثر كلها في أدائه الوظيفي وان حاول تحييدها، وانه سيخضع لما يريده من رشّحه ومن يتولى قيادة (عصائب اهل الحق)التي ينتمي لها، وان كانت ضد ارادته.

وبغض النظر عن التهمة الشائعة عن الجامعة الأسلامية في لبنان (التابعة للمجلس الأعلى الشيعي في لبنان) التي منحته شهادتي الماجستير والدكتوراه، من انها تمنح شهادات مزورة او بثمن.. فانها جامعة غير رصينه لا تؤهل من يتخرج فيها ان يتولى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق. يؤكد ذلك أن وزارة التعليم العالي كانت قد اصدرت قرارا بتعليق الدراسة في ثلاث جامعات لبنانية (الجامعة الحديثة للأدارة والعلوم، الجامعة الأسلامية في لبنان، وجامعة الجنان) لعدم التزامها بمعايير الرصانة العلمية.. ما يعني ان السيد نعيم العبودي ليس مؤهلا اكاديميا لتولي هذا المنصب الرفيع، ولا يمتلك الخبرة، ولن يأخذ بالنصيحة التي كنا اسديناها لسلفه علي الأديب، لأن سيكولوجيا السلطة في العراق عودت حتى الحاكم المستقل سياسيا ان يحيط نفسه باشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه، فكيف اذا كان سياسيا ومنتميا الى (عصائب أهل الحق)!.

في ضوء ذلك فان التعليم العالي سيتدهور اكثر، ومؤكد ان امر تغييره الآن ليس مناسبا، لكننا نتوقع ان سيادتكم ستراقبون اداءه، وتتابعون ما سيكتبه اكاديميون نخبة من داخل العراق وخارجه، فتعمدون اولا الى توجيهه قبل ان تضطروا الى ان تأتوا ببديل يكون قادرا على اصلاح ما افسده غيره في اهم مؤسسة علمية.. فبالعلم والعلماء يبنى المواطن والوطن، مع خالص تمنياتنا بالموفقية.

1 كانون اول 2022

توقع

ما توقعناه حصل، بل واكثر.. وهذا يعود الى سبب رئيس هو ان الكارثة الأوجع التي حلت بالعراقيين هي أن القيم الأخلاقية في العراق قد تهرات بعد 2003، وأن سببها الرئيس هو شيوع الفساد وتحوله من فعل كان يعد خزيا الى شطارة وانتهاز فرصة، وأن الفاسدين الذين فقدوا الضمير الأخلاقي والديني و وصفتهم المرجعية بـ(الحيتان)، ما زالوا يحتلون المراكز العليا في الدولة.. ما يعني أن الفضائح الأخلاقية ستكون ظاهرة عادية. فكما كان الفساد يعد خزيا في القيم العراقية الأصيلة وأصبح حالة عادية، كذلك الفضائح الأخلاقية.. ستصبح حالة عادية ما دامت وصلت الى من كانت ارقى مؤسسات القيم في الدولة العراقية، وما دام الفاسدون الفاقدون للقيم والأخلاق هم المستفردون بالسلطة والثروة.

***

د. قاسم حسين صالح

 

حتى كتابة هذه السطور بلغ عدد الذين راحوا ضحية العمل الإرهابي الذي استهدف احدى قاعات الحفلات (وليس ثكنة عسكرية) في المجمع التجاري كروكوس سيتي، في ضواحي موسكو، بلغ 115 قتيلا ، والحصيلة قابلة للارتفاع ، وعدد كبير من الجرحى نصفهم لازالوا في مرحلة خطرة ، ولا يسعنا في هذه اللحظة الا ان نتقدم بالتعازي لروسيا وعوائل المتضررين، والشفاء العاجل للجرحى، ونستنكر كل أنواع الإرهاب من أي جهة وفي أي مكان، لأن ما تم فعله جريمة لا يمكن وصفها الا بأبشع عبارات الاستنكار والادانة ، لتضاف هذه الجريمة، الى مثيلاتها من الجرائم التي ارتكبت في مسرح "نورد أوست" في موسكو و مدرسة بيسلان ومدينة بودينوفسك، قبل سنوات عديدة ، وفي أماكن أخرى في العالم .

والملفت في موسكو اليوم، هو ذلك المشهد، الذي يسجل فيه الشعب الروسي اسمى شعور بالوطنية، واصطفافه بطوابير الكبيرة ، امام المستشفيات و المراكز الطبية في المدينة، رغم سوء الأحوال الجوية والبرد، وحتى قبل الدعوات للتبرع بالدم لجرحى الحادث " الاجرامي "، الامر الذي دعا رئيسة مؤسسة المتطوعين لمساعدة الأيتام الخيرية إيلينا ألشانسكايا، الى حث سكان موسكو على عدم التسرع في التبرع بالدم، لأن المراكز الصحية مزدحمة جدا، وقوائم الطوابير الالكترونية قد امتلأت حتى الى ما بعد أسبوعين، وبالإمكان التبرع بعد ثلاثة أسابيع ، ان كانت هناك حاجة ، مشهد يستحق الوقوف له احتراما واجلالا لهذا الشعب العظيم بتاريخه وحضاراته، وهو رسالة قوية للذين دبروا ونفذوا هذا العمل الاجرامي ومن وراءهم، بأنهم يد واحدة، ضد أولئك الذين يحاولون تفتيت بلادهم، ونشر الذعر والفوضى وزعزعة الاستقرار فيها .

والمراقب لردود الفعل الامريكية منذ اللحظة الأولى " للعمل الإرهابي "، يلحظ وبشكل كبير ذات الارتباك والتخبط في هذا الموقف الفاضح، ولا يمكن الاستغراب منه، ففي الوقت الذي اكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، بأنه لم تتوفر لدى واشنطن أي معلومات عن احتمال وقوع حادث في المركز التجاري "كروكوس سيتي" بضواحي موسكو، الا ان السفارة الأمريكية في موسكو دعت في إنذارها لمواطنيها قبل عيد المرأة 8 مارس، دعت فيه المواطنين الأمريكيين بعدم السفر إلى روسيا، والموجودين على أراضي البلاد بإبداء الحذر وتجنب التجمعات الحاشدة نظرا "لخطر إرهابي عال" أثناء فترة العطلة الأسبوعية !!!.

تصريحات كيري أيضا أوقعت واشنطن في حرج كبير (ولو انهم لا يخجلون من أعمالهم أصلا)، بسبب تناقض تصريحاتها ، ولاستدراك الامر، قالت أدريان واتسون، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، كانت لدى الإدارة الأمريكية معلومات بشأن مخطط هجوم إرهابي في موسكو، يحتمل أن يستهدف تجمعات كبيرة، بما في ذلك الحفلات الموسيقية، وقد تشاركت واشنطن في مارس الجاري بهذه المعلومات مع السلطات الروسية، وانه لم يتم تحديد المكان، والغريب وكما كشف الرئيس الصربي الكسندر فوتشيتش، فإن الأمريكيين والبريطانيين وبعض الدول الأخرى، قاموا بنفس الخطوة الامريكية في تحذير رعاياهم، وهذا يعني، ان النوايا والتخطيط في الغرب، والتنفيذ من الجارة الغربية لروسيا.

كما أن تصريحات البيت الأبيض، بأنه لا يرى أي مؤشر على تورط أوكرانيا أو الأوكرانيين في الهجوم الإرهابي في موسكو، يؤكد ضلوع كييف في الحادث، خصوصا وان المشتبه بهم في تنفيذ الهجوم " الإرهابي "،قد القي القبض عليهم وهم يهربون إلى أراضي أوكرانيا عبر مناطق الغابات على طول خط السكة الحديد، والسؤال وكما طرحته المتحدثة باسم الخارجية الروسية هو، على أي أساس يستنتج المسؤولون في واشنطن أي استنتاجات حول براءة أي شخص في خضم المأساة؟ فإذا كانت لدى الولايات المتحدة أو كانت لديها معلومات موثوقة في هذا الصدد، فيجب نقلها على الفور إلى الجانب الروسي، وإذا لم تكن هناك مثل هذه البيانات، فليس للبيت الأبيض الحق في إصدار الغفران لأي شخص، وسيتم تحديد هوية جميع المتورطين، كما صرحت القيادة الروسية، من قبل الجهات المختصة.

وهنا لابد من الالتفات الى ، أهمية ردود الفعل ، فمنذ اللحظات الأولى للإعلان عن الجريمة " البشعة "، تهافت الجميع ليست فقط في الدول العربية والإسلامية والعالمية الصديقة لروسيا، ولكن أيضا حتى تلك الدول التي تقف موقف العداء العلني لروسيا مثل فرنسا وبليجكا وغيرها من الدول، والأمين العام للأمم المتحدة، الذي بدل تعازيه لتتناسب مع واقع الحدث، والذي استحق شكر روسيا على ذلك، يراها فيها المراقبون، انها لم تكن تعزية غربية تشاطر روسيا حزنها، ولكن كونها جريمة " بشعة "، ومحاولة امتصاص ردة الفعل الروسي وغضبه ، لأنه اذا ما امتلك روسيا كل خيوط الجريمة، وان بان البعض منها، وكلها تدور حول أوكرانيا، فإن الرد بالتأكيد سيكون قوي " ومزلزل "، بسبب الضغط الشعبي الروسي على قيادته للقصاص من المذنبين أي منهم كان .

ان الحديث عن تبني " داعش " لهذه الجريمة، والترويج لها بهذا الشكل الإعلامي الكبير، لأبعاد الشكوك حول المتهم الرئيس في الجريم (أوكرانيا)، فإنه يدين الولايات المتحدة بشكل خاص، فإن هذه الدولة الاجرامية، لها و "داعش " سجل كبير في الاجرام، في العراق وسوريا وليبيا، وان من أسس هذه الجماعة الإرهابية هي نفسها الولايات المتحدة باعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، وهي من تمولها، وهي التي توجهها في الاتجاهات التي تريدها، فلماذا في هذا الوقت ظهرت " داعش " في موسكو؟ سؤال بات يطرح بشكل كبير، وجوابه، هو ان الانتصارات الروسية في ساحات المعركة، وفوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية، بشكل قياسي، أسباب كافية، لتحرك الإدارة الامريكية ذيولها، ولن تتوانى عن تنفيذ أبشع الجرائم، انتقاما لفشلها الكبير في سياستها المعادية لروسيا .

ولا يختلف اثنان، من أن الهجوم الإرهابي الذي وقع في مركز "كروكس سيتي هول" بضواحي موسكو، هو جزء من حرب تخوضها أجهزة المخابرات الغربية ضد روسيا منذ سنوات، والسنوات الماضية كشفت كيف يدعم الغرب الإرهابيين في القوقاز في التسعينيات، والانقلاب في أوكرانيا عام 2014، وتعطيل اتفاقيات مينسك وقتل المدنيين في نوفوروسيا، وتأجيج الروسفوبيا، ودعم النازية الجديدة، والآن كروكوس، كل ذلك حلقات في سلسلة الحرب ضد روسيا، والمستفيد من كل ذلك، واحد، والشيء الرئيسي من وجهة نظر زاخاروفا، هو أن السلطات الأمريكية لا تنسى كيف ربطت بيئتها الإعلامية والسياسية بين الإرهابيين، الذين أطلقوا النار على الناس في قاعة مدينة كروكوس ، وبين منظمة داعش الإرهابية المحظورة، وان روسيا تعرف جيدا في أي بلد خطط هؤلاء  " الأوغاد" الدمويون للاختباء من الاضطهاد – أوكرانيا ، خصوصا وان نفس الدولة، تحولت على أيدي الأنظمة الليبرالية الغربية لمدة عشر سنوات، إلى مركز انتشار الإرهاب في أوروبا، متجاوزة حتى كوسوفو في جنون المتطرفين.

ونقول لكم بأمانة كنا احد المتوقعين بإنساب هذا العمل الاجرامي، للجماعات الإرهابية " داعش"، لكن وقائع الحادث تشير الى انه، لم تكن هناك تصريحات سياسية ولا مطالب ابتزاز ولا محاولات لأخذ رهائن، وهذه ليست الطريقة التي يتصرف بها الإرهابيون الكلاسيكيون، وهو أشبه بسلوك القتلة المأجورين، أو القسوة الحيوانية التي يمارسها غير البشر، والتي أعمتها كراهية كل شيء روسي، وهذا أمر مألوف بالفعل عند وحدة الخدمات الخاصة الأوكرانية التي تقف وراء الهجوم الإرهابي، حيث لا يتطلب الأمر أي تحضير جدي لإطلاق النار على حشد غير مسلح، المهم هنا هو موقع الهجوم الإرهابي المدروس بعناية وشكله، الإعدام والحرق العمد كغطاء للهروب، وان كل ما في الأمر أن كييف، في كراهيتها لكل شيء روسي، انحدرت إلى مستوى جهنمي جديد.

واليوم، وعلى الرغم من ان كل المعلومات لم تؤكدها السلطات الروسية بشكل رسمي، ستبقى في إطار التخمين والتحليل ، فقد تعالت في روسيا أصوات، تؤكد أن هذا الهجوم الإرهابي لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة، ويستوجب التضامن مع روسيا، لأنه عندما يتقرر مصير البلاد ومصير روسيا وشعبها، فمن المستحيل محاربة الإرهاب ومقاومته، وفقا لقوانين زمن السلم، ومن المستحيل بنفس القدر صد عدوان الغرب الجماعي على روسيا، وبادئ ذي بدء، وكما أوضح بيان جمعية المحاربين الروس، ينطبق هذا على الإرهابيين والمخربين وقادتهم، والمتواطئين معهم، الذين تشكل أفعالهم تهديدا لحياة الناس، وأمن البلاد أو التي أدت بالفعل إلى حدوث عواقب وخيمة .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

هزت مشاهد فاضحة لعميد كلية علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات مع احدى الطالبات داخل مكتبه في الجامعة ارجاء المؤسسة التعليمية، لتعيد الى الواجهة موضوع الفساد، لكن هذه المرة بصورة اشد وطاة لارتباطها بفضيحة اخلاقية تتعلق بالفساد الجنسي.

اثار هذا الحدث تساؤلات حول ما اذا كانت هذه الحادثة استثنائية ام انها جزء من ظاهرة اوسع لتفشي الفساد بمختلف اشكاله، المالي والاخلاقي والسياسي، في مختلف الجامعات؟

يربط الكثيرون هذه الظاهرة بنظام تعيين القيادات الجامعية الذي لا يراعي الكفاءة والخبرة والانجازات العلمية والبحثية، ولا يهتم بمهارات الادارة والقيادة والاتصال والتعاون الدولي واللغات والبحث. بل توزع المناصب على اساس المحاصصة البغيضة بين الاحزاب والميليشيات والقوى التي تتحكم برقاب الشعب، وتمسك بخناق العراق واهله.

لا نحتاج الى تخمين ان الفساد المالي والاخلاقي اصبح حالة شائعة بين القيادات الحكومية، خاصة في ظل غياب اليات شفافة لاختيار القادة، قائمة على خطوات واضحة تبدا من الاعلان عن الوظيفة، مرورا بفرز الطلبات، والتوصية، والسيرة الذاتية، والمقابلة، وانتهاء باختيار المرشح الاكثر كفاءة و نزاهة.

على القيادات الحكومية والوزارية اغتنام فرصة الفضيحة الاخلاقية هذه لاحداث انقلاب في اسلوب تعيين القيادات الجامعية وذلك بقبر اسلوب المحاصصة كليا، والشروع بعمليات اختيار القيادات علنيا وبصورة شفافة، مع التركيز على توفر الصفات اللازمة في المرشحين، مثل الكفاءة الاكاديمية والعلمية والقدرة على التواصل والاتصال والتفاعل مع التدريسيين والرغبة في التعلم المستمر متضمنا ذلك السعي الدائم لتطوير المهارات والقدرات العلمية والادارية والتفاني والشغف والاخلاص للعمل الاكاديمي والسعي الدؤوب للارتقاء بمستوى الكلية والنزاهة والالتزام بالقيم الاخلاقية والمبادئ المهنية. ويتم الانتقاء على اساس المنافسة على المنصب وذلك بفتح المجال امام جميع الكفاءات للتنافس علميا على اشغال اي منصب اكاديمي او اداري، وبما يؤدي الى الارتقاء بجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية بحيث تساير مستويات الجامعات العالمية. ولا يجوز ان يكون انتماؤه السياسي او الحزبي او الديني معيارا لحصوله على هذا المنصب او ذاك. الكفاءة تنبغي ان تكون هي المعيار الاوحد.

ولما كان هذا المسؤول-الفضيحة ينتمي، كما يقال، لجماعة سياسية اقول ما دام هذا فأن سلوكه المشين هذا يؤكد حقيقة انه بفعلته هذه اساء اساءة كبيرة لمسؤوليته الاكاديمية وللموقع الذي اؤتمن عليه. 

انها فرصة ثمينة لاعادة تنظيم العمل الاكاديمي على اساس الكفاءة والنزاهة، بعيدا عن فساد المحاصصة. حان الوقت لوضع حد للممارسات السيئة والضارة، وضمان مستقبل افضل للجامعة وللطلاب.

***

محمد الربيعي

كـَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عند بعض التنظيمات السياسية عن الحاجة إلى "التغيير"، ويقصدون به التغيير السياسي، في بنية نظام الحكم، غير أنهم نسوا أو تناسوا الركن الأساسي للتغيير، وهو التغيير الإجتماعي للأفراد عامةً، ولتنظيماتهم السياسية خاصةً، التي أصبح الوصول إلى تحقيق أهدافها أو الاقتراب منه بعيداً، أو أنه استغرق وقتاً طويلاً، أو أنها لم تحقق من الهدف شيئاً كثيراً. لذلك فإن تركيزنا في هذا المقال سيكون عن الحاجة للتغيير في بنية التنظيمات السياسية وتركيبها ووسائلها وغاياتها، ولماذا تعارض أو تقاوم أي توجهات جدية لتغيير أساليبها وبرامجها ومخططاتها.

إن أسباب التغيير، متعددة، متشعبة، نذكر منها تعرّض التنظيمات السياسية  باستمرار إلى إخفاقات وانتكاسات وأخطاء عميقة أثناء مسيرتها الطويلة، التي  يعود معظمها إلى اتخاذ قرارات غير صائبة أو القيام بأفعال غير سليمة، أو تبنّي آراء غير مدروسة بشكل جيد، متسرّعة، بعيدة عن الواقع، وحتى بعيد عن التوجه العام لأعضائها. وإذا كان هناك ثمة استشارات، فهي لا تتجاوز استشارات بعض الأشخاص الذين يكونون عادةً مؤيدين لهذه التوجهات. ومن المفيد الرجوع إلى كتاب جان ماري دانكان "علم السياسة" الذي يبين أحد أسباب فشل هذه التنظيمات السياسية في تحقيق أهدافها بقوله: "إذا كانت بعض نظريات علم السياسة قد فشلت، فذلك لأن طموحها كان عند نقطة الانطلاق غير معقول... ويمضي بالقول: لقد أدى الفشل النسبي على الأقل، لهذه الجهود التنظيرية إلى إحداث أزمة في العلوم الاجتماعية. فمعرفة العام لا يمكن بلوغها إلا من خلال معرفة الخاص. ومعرفة الخاص بحد ذاتها، مشروطة بجهد نظري يستهدف إعداد المفاهيم ويستلزم وجود منهج مجرد وعام بدونه ستبقى هذه المعرفة مجرد تكرار للمعطيات. يجب أولا ملاحظة أن الأسس النظرية لمثل هذه المحاولات انتهت للافلاس، لكن التناقض يبدو ساطعا بين الأسس الفكرية المعلنة والمنتج الذي تم الحصول عليه".

ومن أسباب توقف التغيير في بنية التنظيمات السياسة، هو تعطل آلية ما يطلق عليه جان ماري دانكان في كتابه السابق "دورة النخب". فالنخب القديمة تتمسك بالقيادة، لكن الأخرى الفتية والفاعلة تريد الوصول إليها، قبل أن تُطرد بدورها، فيما بعد ..هذه العملية تسمى "دورة النخب".

إن ظاهرة حلول نخبة جديدة محل القديمة تتم بطريقة غير محسوسة، لكن آليتها تتعطل فجأة أحيانا. فالكثير من الأفراد قليلي الجدارة نجحوا في الدخول إلى صفوف النخبة، والبقاء فيها. كما أن النخب القديمة تتمكن بشكل تعسفي من احتكار القيادة بحيث لا تتمكن النخب الجديدة من الوصول إليها. إن مثل هذه الأوضاع تثير ضغطا يؤدي لانفجار عنيف. ومن نتائجه الانشقاقات وخروج أفراد من هذه التنظيمات.

ومن الأسباب الأخرى، هو إهمال أو تجاهل الاقتراحات أو النصائح أو الآراء التي يطرحها كثير من المفكرين والمخلصين، سواء من داخل هذه التنظيمات أو من خارجها، لأن قيادات هذه التنظيمات كثيراً ما يتصورون أنفسهم متفوقين في كل شيء، ولذلك لا يرغبون سماع الحقيقة أو أي رأي مخالف لهم، لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم كما يقول فريدريك نيتشه، حيث أن كثير من هذه التنظيمات تعتبر، مع الأسف، النقد الموجه إليها "إهانة"، والاختلاف معها "خيانة". وعلى ذكر النصيحة، يقول أفلاطون، "من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئا، فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر". ولهذا فإن هذه التنظيمات تريد التأييد فحسب، هذه هو شعارهم.

نعم من حق هذه التنظيمات أن يكون لها "رأي" تعتقد فيه وتدافع عنه، لكن ليس من حقها أن تسميه "الحقيقة". وعلى هذا الأساس لا جدوى من الحوار مع أي فرد من هذه التنظيمات لأنه عبد تابع، ذليل، خاضع، خانع، بلا إرادة، عقله وقف في خدمة وتبرير عقيدته، كلما جادلته ازداد تعصبا وحقدا. إنهم السلبيون الذين يمتلكون عقدة لكل حل. إذن تقديس القيادات والطاعة العمياء لكل أفكارهم وأعمالهم وأقوالهم من أهم أسباب توقف التغيير في هذه التنظيمات وضعفها. وأكثر ما تكرهه هذه التنظيمات، كما يقول شوبنهاور، هو وجود إنسان يفكر بشكل مختلف، لأنهم لا يكرهون رأيه فحسب بكن يكرهون جرأة هذا الإنسان على امتلاك الشجاعة للتفكير ليكون مختلفاً.

ومن الأسباب الأخرى هو استصغار الأمور أو شيئا من الخطأ أو الزلل، وعدم القدرة على قراءة صفحة المستقبل بما كان، وفي ملابسات الحاضر وإمكانياته. كذلك انتهاج سياسة غير واقعية، وهي أن تفعل ذات الشيء مرة بعد أخرى، وتتوقع نتائج مختلفة.                                    

إذن على هذه التنظيمات حتى تنهض من ضعفها وتنجح في الوصول أو الاقتراب من أهدافها ينبغي تغيير العقليات السائدة فيه فضلا عن ذلك، تغيير أو ابتكار وسائل جديدة للعمل السياسي، مثل الاهتمام بالدراسات والأبحاث العلمية واستطلاعات الرأي، والاهتمام أو تأسيس قاعدة بيانات أو ما يسمى "مخازن التفكير". فالدراسات وركيزتها البحث العلمي، هي التي تطرح نتائج تتضمن إعادة صياغة بدائل واحتمالات متوقعة.

وأخيرا، وكما هو متوقع أن كل من يدفع باتجاه التغيير يجابه  من أصحاب العقول الجامدة، وأصحاب المركزية الشديدة، بالرغبة الجامحة في إبقاء الموجود، وذلك من أجل مواقعهم ومصالحهم ومنافعهم الخاصة . والشخص ذو التفكير الجامد، مغلق الذهن لا يستطيع أن يتقبل أفكار غيره ويتفهمها.

وأن ما يدفع التنظيمات السياسية ويساعدها في النجاح والتطوّرهو الجرأة. الجرأة في التفكير، والجرأة في التنفيذ، والجرأة في تقبل الفشل ومراجعته. أضف إلى ذلك اعتماد المنهج العلمي في التحليل والاستنتاج المنطقي، لأن العلم هو حصيلة خبرات كثيرة انصبت آخر الأمر في قواعد، ولذلك قالوا: إن القاعدة الصحيحة هي التي تصح عند التطبيق.

***

أحمد محمد جواد الحكيم (باحث وأكاديمي عراقي)

 

بقلم: ساندرين بيرجيس وإريك شليسر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بصفتها جمهورية، زعمت صوفي دي غروشي أن التعاطف، وليس الهيمنة، يجب أن تكون الغراء التي تجمع المجتمع معًا.

خلال كومونة باريس عام 1871، كان لا بد من انتخاب جميع المسؤولين الحكوميين والقضاة من قبل الشعب. وقد احتفل كارل ماركس بهذه الحقيقة في كتيبه "الحرب الأهلية في فرنسا". كانت هذه الفكرة تلوح في الأفق في الدوائر الثورية الفرنسية، ولكن لها جذورها في المساواة الراديكالية التي اتسم بها أنصار المساواة في إنجلترا في القرن السابع عشر.

ومع ذلك، عندما نتتبع الأصول المختلفة للاقتراح من الإصدارات اللاحقة الموجودة في أعمال الطوباويين والاشتراكيين في القرن التاسع عشر، نجد أنه خلال الفترة الثورية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان أبرز مؤيدي (على الأقل جزء من) كان هذا الاقتراح هو المترجم الفرنسيm الأرستقراطيm لآدم سميث، صوفي دي غروشي (1764-1822). رسائل عن التعاطف، العمل الموقع الوحيد المعروف لغروشي، تم نشره في عام 1798 كملحق لترجمتهh للطبعة الأخيرة من كتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية (1792) ومقالته أطروحة عن أصول اللغات (1792). ظلت هذه الترجمة هي الترجمات النموذجية لأعمال سميث الرئيسية لمدة قرنين من الزمان. ونتيجة لذلك، ظلت رسائل غروشي عن التعاطف أيضًا منتشرة على نطاق واسع، وكانت قادرة على التأثير على نمو الأفكار السياسية.

في الرسالة السابعة من رسائلها حول التعاطف، في سياق حجتها الأوسع حول الإصلاح الجنائي، كتبت غروشي: "إذا تم إجراء جميع التعيينات من خلال انتخابات عامة وانتخابات حرة، فلن يحتاج ضميرنا إلى مقاومة نوع الحافز الذي يؤدي إلى الجريمة أو الظلم المستوحى من الطموح” (جميع الترجمات بقلم ساندرين بيرجيس). ومن الواضح أن غروشي افترضت أن الحكومة والبيروقراطية المؤلفة من مسؤولين منتخبين ستكون مصدراً للشرعية والعدالة.

هناك إشارات إلى هذا النهج في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو (1762) وفي الجمهورية الرومانية، لكن صياغة غروشي لهذا لم تحظ بالاعتراف الكافي. كيف أصبحت المرأة المولودة في عائلة أرستقراطية ثرية قناة للديمقراطية الراديكالية خلال الثورة الفرنسية؟

في عام 1793، عملت غروشي  فنانة وكاتبة ومترجمة في استوديو صغير في شارع سانت أونوريه، على بعد بضعة منازل من مكان إقامة ماكسيميليان روبسبير. كان زوجها، نيكولا دي كوندورسيه، مختبئًا من عهد الإرهاب على بعد بضعة كيلومترات، وكانت تزوره عندما تستطيع، ووتجلب معها الكتب ومواد الكتابة بالإضافة إلى الدعم المعنوي. أقامت أسفل الاستوديو الخاص بها متجرًا للملابس الداخلية، وكان شقيق سكرتيرة كوندورسيه يديره. في أحد الأيام، علمت الميليشيا أنه يمكن العثور على زوجة أحد المنشقين في ذلك العنوان، وطرقت الباب عازمة على اعتقالها. لكن بدلًا من جرها إلى السجن، جلس الضابط الذي اعتقلها لالتقاط صورته في الاستوديو الخاص بها - مجانًا بالطبع. تم إنقاذ غروشي من عواقب فلسفتها السياسية الراديكالية (وفلسفة زوجها) بفضل  مهاراتها الفنية.

وُلدت غروشي في شاتو دو فيليت بالقرب من مولان عام 1764. لم تكن عائلتها غنية وأرستقراطية فحسب، بل كانت أدبية أيضًا: كان أحد أسلافها مدرسًا لميشيل دي مونتين، وكان والداها يقيمان صالونا أدبيًا معروفًا في باريس. وبصفتها طفلة تقية ومجتهدة، كان كتاب غروشي المفضل هو تأملات ماركوس أوريليوس. لكن في أواخر مراهقتها، اكتشفت المفكرين الأكثر خطورة مثل فولتير ودينيس ديدرو وروسو. وأصبحت ملحدة – مما أثار رعب والدتها – وجمهورية.

وربما كان تطرفها السياسي أحد الأسباب التي جعلتها تنجذب إلى كوندورسيه (أحد أبرز علماء الرياضيات والمنظرين الاجتماعيين في عصره، والذي أيد، قبل عصره بفارق كبير، الحقوق المتساوية للمرأة)، وانجذب إليها. لقد التقيا من خلال عمها الذي كانت تدرس ابنه. في ديسمبر 1786، تزوج غروشي وكوندورسيه في الكنيسة الصغيرة في فيليت، وكان ماركيز دي لافاييت شاهدًا علي زواجهما.

انتقل العروسان إلى شقق كوندورسيه في فندق Hôtel des Monnaies، Quai de Conti، مقابل Pont des Arts، حيث عمل كوندورسيه كمفتش عام لدار سك العملة. كانت لغة صوفي الإنجليزية ممتازة في ذلك الوقت، وقد استقبلت العديد من الزوار الأجانب بما في ذلك توماس جيفرسون، وتوماس باين، وأناشارسيس كلوتس، وإتيان دومونت. كان صديقهم المخلص بيير جان جورج كابانيس، وهو طبيب وعالم فيزيولوجي ومصلح اجتماعي، والذي تزوج لاحقًا من شقيقة صوفي، شارلوت، زائرًا متكررًا أيضًا. كانت كابانيس أيضًا "C ***" التي وجهت إليها غروشي رسائل التعاطف.

لقد هاجمت الملكية باعتبارها إسرافًا اقتصاديًا، اقترحت استبدال الملك بالآلات

منذ البداية كان من الواضح أن غروشي لم تتخلف عن زوجها من حيث الفكر السياسي الراديكالي. وبالتأمل في دورها في الثورة، كتب صديقها السابق، أندريه موريليه، أن غروشي هي المسؤولة عن آراء زوجها الأكثر تطرفاً. من المؤكد أن رسائلها عن التعاطف تُظهر إطارًا جمهوريًا لا هوادة فيه. لكن للحصول على دليل أكمل على وجهات نظرها الأكثر تطرفا، نحتاج إلى الرجوع إلى الصحيفة التي أسستها مع كوندورسيه وباين وآخرين: لو ريبوبليكان. نُشرت المجلة عام 1791، وتضمنت مقالات مجهولة المصدر بقلم غروشي وترجماتها لبعض أعمال باين. أصبحت تُعرف بأنها جمهورية "شرسة"، وليس من المستغرب أنها تعرضت للسخرية باعتبارها مناهضة للملكية وتم تصويرها كاريكاتيرًا في المجلات الملكية.

في إحدى هذه المقالات، هاجم غروشي النظام الملكي باعتباره إسرافًا اقتصاديًا، وأظهر في الوقت نفسه أنه لا يخدم أي غرض يتجاوز الغرض الاحتفالي من خلال اقتراح استبدال الملك وحاشيته بأشياء آلية. ونظرًا لتكلفة "المنحوتات المتحركة" الحقيقية وصعوبة إنتاجها وصيانتها في حالة عمل جيدة، فإن الادعاء بأن الآلات الآلية ستمثل توفيرًا كبيرًا في التكلفة كان بمثابة هجوم مباشر على الإسراف الملكي. ولكن أكثر من مجرد تكلفة اقتصادية، كانت التكلفة النفسية للملكية هي التي كانت أكثر ما يقلق غروشي. في المقال الثاني (الذي ربما تكون قد أعادت صياغته من مقال سابق لصديقتها دومونت)، تناولت غروشي موضوعًا طورته في رسائلها حول التعاطف: التكلفة الأخلاقية والنفسية للهيمنة، وهو نوع الهيمنة المميزة للملكية.

إن الهيمنة هي الضرر السياسي الأساسي والأكثر انتشارًا بالنسبة للجمهوريين، لأنها، كما تقول غروشي، تقضي على حريتنا. وفي هذا، يختلف الجمهوريون إلى حد ما عن الليبراليين، الذين يرون أن الحرية مهددة بالتدخل. إن السيطرة على الآخرين ليست بالضرورة نفس الشيء الذي يتم التدخل فيه. إن السيطرة تعني الخضوع لقوة تعسفية لديها القدرة على التدخل في أي وقت. تجادل غروشي بأن الملك غير المقيد بالقانون هو الذي يحكم دائمًا. حتى الملك الحميد الذي لا يريد التدخل في الحياة الشخصية لرعاياه مستبد. ادعى لويس السادس عشر أنه يهتم قبل كل شيء بسعادة رعاياه، إلا أن سلطته عليهم لم تكن خاضعة للتنظيم بموجب القانون، وبالتالي كانت تعسفية ومتسلطة بهذا المعنى. وبما أن موقف الملك قد يتغير على مدار فترة حكمه وقد يحل وريثه محله في يوم من الأيام، فلا يمكن الاعتماد على إحسانه لمنع الضرر المستقبلي من التدخل. وعلى هذا فإن شخصية الملك ليس لها أي تأثير على ما إذا كان ينبغي لنا أن نقبل حكم الملوك: فهم ما زالوا يهيمنون، مهما كانت نواياهم حسنة. كما كتبت غروشي في صحيفة Le Républicain:

كيف يكون من الفضيلة أن نحب الملوك، سواء كانوا صالحين أو أشرار، أغبياء أو حكماء، فاعلين صالحين أو أشرار، سواء كانوا طغاة أو أدوات طغيان، غارقين في الكسل وتركوا الحكومة لأتباعهم الفاسدين؟

هذه هي الحجة الجمهورية الكلاسيكية ضد الهيمنة: فالسلطة الوراثية تعسفية بالضرورة، وتسبب الضرر بغض النظر عن شخصية حامل اللقب الحالي. لكن غروشي تذهب إلى أبعد من ذلك: حتى لو تمكنا من التأكد من عدم التدخل، فإن الهيمنة هي في حد ذاتها ضارة. إن الهيمنة تقلل من استقلالية الأشخاص، مما يجعلهم يشعرون بالقلق المستمر بشأن ما قد يحدث لهم، وغير قادرين على التخلي عن حذرهم إلا من خلال القمع النفسي العام للحقيقة ــ وهي حيلة نفسية لإنكار حقيقة الموقف. تقول غروشي إن رعايا الملك الخيرين هم مثل الأطفال: غير ناضجين، يسهل الترفيه عنهم بالتفاهات، وغير قادرين تمامًا على تحمل المسؤولية عن حياتهم وأفكارهم. فقط من خلال رفض حكم الملك تمامًا، يمكن لرعاياه أن يدركوا إنسانيتهم أخيرًا، ويتركوا طفولتهم المجازية وراءهم:

لقد تحطم احترامهم [الفرنسيين لملكهم]، وكذلك حبهم: قلب الشعب الفرنسي، الذي شُفي من هذه العاطفة الغبية والعبثية، ارتفع إلى حب القوانين والوطن. إن أرواحهم التي تعلوها المشاعر السخية لن تعود إلى الزحف عند قدمي الأمير.الملك هو أكثر الخشخيشات طفولية، مما يحط من طفولة الأمم: لم يعد الفرنسيون يريدون الخشخيشات: لقد كبروا.

ونظراً لأنها كانت تجادل، أولاً، بأن الدور السياسي للملك كان ضئيلاً للغاية بحيث يمكن بسهولة استبداله هو وحاشيته بآلات أوتوماتيكية ــ والتي ستكون صيانتها أقل تكلفة بكثير ــ وثانياً، فإن مجرد وجود ملك يجعل الشعب الفرنسي طفولياً، ليس من المستغرب أن تختار غروشي عدم الكشف عن هويتها لعملها. حتى بين الثوريين الأكثر تطرفًا، كانت مثل هذه الهجمات المباشرة على النظام الملكي نادرة، على الرغم من أن باين شاركتها بالتأكيد العديد من معتقداتها حول هذا الموضوع. ولكن إذا اختارت غروشي عدم الكشف عن هويتها في نشر فكرها السياسي، فقد قدمت الكثير من شخصيتها في المظاهرات العامة لجمهوريتها. كانت حاضرة مع العديد من النساء الأخريات في ساحة مارس في 17 يوليو 1791، وهو اليوم الذي اقتحم فيه جيش صديقتها لافاييت الحشد. لقد كان منزلها هو المكان الذي أتى إليه جنود مارسيليا عندما وصلوا إلى باريس للانضمام إلى الثورة: وقد احتفى بها الجنود هي وكوندورسيه كأبطال جمهوريين.

وعندما اندلعت الثورة، اختبأ زوجها، وتمت مصادرة ثروة غروشي. وفي وقت لاحق، بعد شائعة مفادها أنها هاجرت، تم رفض ذلك مرة أخرى.كتبت ابنتها إليزا أن هذه الفترة من الفقر النسبي هي ما دفعها إلى نشر رسائل التعاطف:

ظلت والدتي لعدة أشهر دون أي دخل. وعندما لم تعد قادرة على العثور على صور لترسمها، قامت بترجمة كتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية، والذي ضمت إليه رسائل عن التعاطف، موجهة إلى كابانيس، كانت قد  كتبتها في وقت سابق.

لدينا دليل جيد على أن الرسائل تمت صياغتها في وقت سابق، في عام 1792، حيث أرسلت نسخًا منها إلى صديقها دومونت في ربيع ذلك العام، ويشير كوندورسيه إليها في كتابه عام 1794 بعنوان "نصيحة لابنته". ربما كانت هناك مسودات سابقة: لاحظ بيير لويس روديرر، في مراجعته للرسائل المنشورة في 14 يوليو 1798، وجود مخطوطة سابقة رآها بين يدي إيمانويل سييس في عام 1789 أو 1790. وبالتالي فإن الرسائل هي نتاج السياسة الثورية، على الرغم من نشرها في وقت لاحق إلى حد ما.

في رسائلها، تجادل غروشي بأن الأخلاق بالنسبة لآدم سميث تحتاج إلى سبب لتنضج ولكنها تولد من ميل الإنسان إلى الشعور بالتعاطف. وبعبارة أخرى، فإن الأخلاق تأتي إلينا بشكل طبيعي، ولكننا نحتاج إلى عمل فكري لتنميتها. ومع ذلك، لا يشرح سميث مصدر هذا الميل إلى الشعور بالتعاطف مع آلام الآخرين. في الرسائل، تتفق غروشي تمامًا مع سميث على أن العقل يلعب دورًا مهمًا في تطوير الأخلاق والعدالة من التعاطف الأساسي، لكنها تذهب إلى أبعد من سميث. أولاً، تسأل من أين يأتي ميلنا للشعور بألم بعضنا البعض. وتشير إلى أن سميث يتجاهل فكرة مهمة عندما يفترض فقط أن التعاطف هو سمة إنسانية طبيعية. ثانيًا، تتساءل كيف يمكن تطوير نظرية التعاطف للمساعدة في إصلاح المؤسسات الاجتماعية والسياسية بعد الثورة في فرنسا. هذه الأفكار الثاقبة، فى نصها الموجز مقارنة بأطروحة سميث الضخمة، تجعل الرسائل تستحق القراءة.

يجب على الآباء والمعلمين مساعدة الأطفال على إدراك الألم لدى الآخرين والتعلم من هذا الألم

أول موقف لغروشي من سميث، والذي كشفت عنه في أولى رسائلها، هو أنه لا يشرح بشكل كامل ماهية التعاطف، أو من أين يأتي. لقد قام  «تأكيد وجوده، وشرح آثاره الرئيسية»، لكنه لم يعد إلى سببه الأول: فهو «لم يبين أخيرًا لماذا أصبح التعاطف ملكًا لكل كائن معقول قابل للتفكير».ترتكز فرضيتها على علم وظائف الأعضاء، الذي يوفر محفزات جسدية من شأنها أن تجلب المتعة والألم وتخلق في النهاية مشاعر متعاطفة. تجد هذه المحفزات في العلاقة الأولى التي يمربها أي إنسان: علاقة الطفلة المعالة بالشخص الذي يرضعها. يستمتع الرضيع بقربه من الشخص الذي يطعمه ويسكن آلام جوعه. وهذا القرب يعلمها أيضًا أن تدرك عندما تتألم من ترعاها ، وأن تشعر بنفسها بهذا الألم. ربما عرفت غروشي هذا الأمر من خلال مراقبة ابنتها المولودة عام 1790، وأيضًا من خلال القيام بجولات خيرية مع والدتها عندما كانت طفلة.

تناقش الرسالتان التاليتان لغروشي كيف تؤثر أصول التعاطف على تطوره من خلال العقل والتعليم. وشددت على مركزية دور الآباء والمعلمين: فلا ينبغي عليهم فقط مساعدة الأطفال على تعلم التفكير المجرد، بل يجب عليهم أيضًا تعليمهم إدراك الألم في الآخرين والتعلم من هذا الألم.هنا، تعتمد غروشي على ذكريات طفولتها:

لقد علمتيني الكثير، أيتها الأم المحترمة، التي كنت أتبع خطواتها كثيرًا تحت  سقف البائسين المتهالك،لذين يحاربون الفقر والمعاناة! ... نعم، عندما رأيت يديك تخففان البؤس والمرض، والعيون البائسة المتألمة تتجه إليك، وتنعم عندما باركتك، شعرت أن قلبي أصبح كاملاً، واتضح لي الخير الحقيقي للحياة الاجتماعية، و ظهرت لي في سعادة محبة الإنسانية وخدمتها.

تقدم الرسالتان الرابعة والخامسة روايتها الخاصة لأصول الأخلاق من منطلق التعاطف. إنها تتفق في الغالب مع سميث. في الرسائل الثلاثة الأخيرة، تستكشف غروشي آثار نظريتها على الإصلاحات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دعت إليها الثورة الفرنسية، وأصبحت ممكنة. وعلى الرغم من الاهتمام الكبير بهذا الأمر، فإن مجموعة معينة من الحجج تتعلق بالتفاوت الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص، التفاوت الشديد.

الحجة المركزية في رسائل غروشي هي أن الفضيلة، الأخلاقية أو السياسية، تولد من التعاطف، والقدرة والميل إلى الشعور بألم الآخرين والرغبة في تخفيفه. أحد ابتكاراتها الأساسية التركيز على الظروف التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل التعاطف ممكنا.ولكي يكون هذا ممكنًا، نحتاج إلى رؤية الآخر الذي يعاني كإنسان، كشخص قادر على تجربة الألم مثلنا تمامًا.وكما يقول الفيلسوف فيليب بيتيت في كتابه "حول شروط الناس" (2012)، نحتاج إلى إجراء "اختبار مقلة العين": هل يمكن للناس أن ينظروا في عيون بعضهم البعض دون خوف أو إذعان؟ وهذا يعني أننا نعتبر أنفسنا أعضاء من نفس النوع، وقادرين على تجربة نفس المشاعر، وربما الأهم من ذلك، ليس كحيوانات مفترسة.

بالنسبة لغروشي، يصبح اختبار مقلة العين بمثابة اختبار للتقبل العاطفي، أو كما يقول علماء أخلاقيات الرعاية، "الانتباه": هل نحن قريبون من الآخرين بالقدر الكافي لإدراك إنسانيتهم؟ ويمكن أن يشكل التفاوت الشديد عقبة أمام ذلك: فالأغنياء والفقراء للغاية لا ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم من نفس النوع، لذلك لا يمكنهم التعاطف مع بعضهم البعض بسهولة، وبالتالي من غير المرجح أن يطبقوا قوانين الأخلاق والعدالة النزيهة في تعاملاتهم مع بعضهم البعض.وتقول غروشي إن هذا يؤدي إلى الجريمة:

دعونا فقط نزيل التفاوت الشديد الذي يجعل الفقراء بعيدين جدًا عن الأغنياء بحيث لا يعرفونهم، والأغنياء بعيدين جدًا عن الفقراء بحيث لا يتمكنون من رؤيتهم، ولندع صوت الإنسانية يصل إلى قلوبهم؛ عندها ستصبح المصائب غير المتوقعة أكثر ندرة وسيتم إصلاحها بالتأكيد. انزع من كل الطغاة الصغار صولجانهم الخراب؛ اجعل هذه الأكوام من الذهب تختفي، والتي من المحتمل أن يكون لأصغرها وأقلها شرعية ألف ضحية سرًا؛ ولم يعد الإنسان يسمو فوق الإنسان بحيث لم يعد يرى واجباته إلى جانب مصالحه؛ وبعد ذلك ستكون السرقة والاحتيال نادرة جدًا لدرجة أن الخطر الأكبر والعقاب الأكثر رعبًا هو أن تصبح أفعالهم علنية.

تقدم غروشي اقتراحًا ملموسًا للحد من عدم المساواة الشديدة. وتفترض أنه بالنظر إلى حجم فرنسا الكبرى، حتى مع افتراض بعض عدم المساواة في إعادة توزيع الأراضي، سيظل هناك ما يكفي للجميع للعيش بشكل مريح، إما من الأرض أو عن طريق بيع أراضيهم والانضمام إلى شركة أخرى. وتقول إنه بعد إعادة التقسيم الأولية، كل ما هو مطلوب هو مجموعة من القوانين الجيدة التي تحمي حقوق الملكية وغياب الفساد. وبالاعتماد على "الحدوديين" المعاصرين مثل إنغريد روبينز، ترى أنه بدون الفقر المدقع أو الثروة المتطرفة، سيكون المواطنون قادرين على رؤية بعضهم البعض على قدم المساواة سياسيا وأخلاقيا ومعاملة بعضهم البعض باحترام.

تردد غروشي انتقادات سميث للنزعة التجارية والحمائية. لكنها تسعى إلى تكييف تفكيره مع فرنسا ما بعد الثورة.ويشمل ذلك تغيير النظام الضريبي، الذي يفيد الأغنياء على حساب الفقراء، واستبدال المسؤولين الذين يتم تعيينهم لحماية ثرواتهم وثروات أصدقائهم بآخرين منتخبين يتبعون القانون وإرادة الشعب. إن مساهمتها الفكرية في المناقشات حول كيفية تنظيم المجتمع بعد الثورة الفرنسية لا تزال مستمرة.إن حقيقة توزيع رسائلها على نطاق واسع كملحق لترجماتها لأعمال سميث تعني أن أفكارها ربما وصلت إلى عدد أكبر بكثير من المثقفين مما كان ممكنًا عادةً لامرأة تكتب عن السياسة الراديكالية في القرن الثامن عشر.

عاشت غروشي نهاية عهد الإرهاب، وحكم الدليل، والإمبراطورية الأولى، والسنوات الأولى من استعادة بوربون. كما ظلت أيضًا في قلب السياسة، وأقامت صالونات في باريس وأوتويل. وكان نابليون بونابرت من بين الأشخاص الذين يترددون على هذه الأماكن. ذات يوم، أخبرها أنه لا يحب النساء اللاتي يتدخلن في السياسة، فأجابت بذكاء أنه في بلد حيث يمكن للسياسة أن ترسل النساء إلى المقصلة، فمن الأفضل أن يفهمن السبب. للأسف، ليس لدينا أي أعمال متبقية من غروشي خلال تلك الفترة من حياتها، باستثناء إصداراتها من أعمال زوجها كوندورسيه. من الممكن، بل من المحتمل، أنها كتبت الكثير، ولكن بينما اهتمت هي وأحفادها كثيرًا بالحفاظ على أوراق كوندورسيه، فقد فقدت أوراقها أو دمرت بطريقة أو بأخرى.

***

..........................

* صوفي دي غروشي (1764–1822)  فيلسوفة فرنسية يقدم كتابها "رسائل حول التعاطف" وجهات نظر واضحة ومبتكرة حول عدد من القضايا الفلسفية الأخلاقية والسياسية والقانونية الهامة. بالإضافة إلى هذا الكتاب الذي نشرته مع ترجمتها لكتاب سميث نظرية المشاعر الأخلاقية عام 1798، كتبت غروشي ونشرت نصوصًا أخرى بأسماء مستعارة ومجهولة. على وجه الخصوص، نشرت غروشي مقالات دفاعًا عن الجمهورية وشاركت في كتابة وتحرير آخر عمل لزوجها (كوندورسيه)، وهو رسم للتقدم البشري. ولسوء الحظ، ظل عملها في الظل لسنوات عديدة. وحقيقة أنها أصبحت الآن معروفة في المجتمع الفلسفي هي نتيجة للجهد العام الذي بذل خلال العشرين عامًا الماضية لاستعادة أعمال الفلاسفة الأوائل. يرتبط غروشي بشكل خاص بالفلاسفة الذين يعملون في مجال الجمهورية (النسوية)، وفلسفة القرن الثامن عشر، وآدم سميث، والفلسفة الاجتماعية والقانونية.

صوفي دي غروشي، ماركيز دو كوندورسيه (1764-1822) كانت فيلسوفة وصاحبة صالون للثورة الفرنسية، وهي شخصية ملفتة للنظر بسبب حيويتها وشجاعتها بالإضافة إلى سعة الاطلاع. تميزت حياتها بمصاعب هائلة. وباعتبارها شريكة في عائلة جيروندين، فقد تحملت خسائر فادحة خلال فترة الإرهاب: فقد تم الاستيلاء على ممتلكاتها، وظلت تحت تهديد دائم بالاعتقال، وتوفي زوجها الفيلسوف وعالم الرياضيات نيكولا كوندورسيه في السجن. نجت غروشي من خلال براعتها الرائعة. ولكي تنقذ نفسها من الفقر، قامت بتأليف ترجمة جيدة لكتاب آدم سميث "نظرية المشاعر الأخلاقية" (TMS) لدرجة أنها ظلت الترجمة الفرنسية النهائية لمدة مائتي عام. كملحق لترجمتها، نشرت أيضًا كتابها Lettres sur la Sympathie، والذي يشكل معًا قطعة من علم النفس الأخلاقي والفلسفة السياسية تستحق اهتمامًا أكبر بكثير مما تلقته حتى الآن.

ساندرين بيرجيس /Sandrine Bergès أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. تشمل كتبها رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) والحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية (2022).

إريك شليسر/ Eric Schliesser : أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمستردام في هولندا. تشمل كتبه رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) وميتافيزيقيا نيوتن: مقالات (2021).

تركت الثورة العلمية التكنولوجية تأثيرًا كبيرًا على نظام الاتصالات والمواصلات والإعلام، بل على عموم حياة الناس، لدرجة أصبح ما قبلها لا يشبه ما بعدها، لاسيّما في ظلّ العولمة بوجهيها الشديد التوحش، وهو الغالب الشائع، والإيجابي، والمقصود به عولمة العلوم والتكنولوجيا والثقافة والحقوق والعمران والجمال، وإن كان ثمة عقبات أمام البلدان النامية للاستفادة منه.

وبات العلم اليوم مختلفًا بفعل هيمنة وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل"، وخصوصًا في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، التي اتّسمت باقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، الذي سيغيّر حياة الناس بالكامل.

وأصبح  للعالم الافتراضي حضور كبير، وبقدر ما ساهم في تقريب المسافات والتواصل المباشر بين البشر، فإنه باعد في الوقت نفسه بينهم، لدرجة أن كلّ فرد صار منشغلًا بحاله دون أن يفكّر بغيره، حتى وإن كان يعيش معه في منزل واحد، مستغنيًا عنه بالاتصالات البعيدة عبر العالم.

لقد انتقل الإنسان من عالم المعارف إلى عالم المعلومات، بعد أن كانت المعلومة هي الأساس في المعرفة، وباعتمادها تتوالد الحكمة، حسب الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، وصار الإعلام الجديد منتجًا للمعرفة وليس ناقلًا للمعلومات، وغدت الشائعة أحيانًا بديلًا عن العلم، والخبر بديل عن الرأي، حيث أصبح لزامًا حماية المعلومة من التحريف أو التشويه أو السرقة أو التلاعب، الأمر الذي أخذ منحىً خطيرًا، حين "تطوّر" من انتهاك الأسرار الشخصية إلى اختراق الأمن الوطني، وذلك ما نقصد به الأمن والإعلام السيبراني.

يتنازع رأيان بشأن الإعلام الجديد والأمن السيبراني، أولهما - محافظ  يريد منع أو تحريم أو وضع رقابة صارمة وشديدة على وسائل الإعلام الحديث، وذلك تحت مبرر "الأضرار" التي قد يسببها وصولًا إلى "الجرائم" التي قد يرتكبها، ومثل هذا الرأي ينتمي إلى الماضي. وثانيهما - الإعلام المنفتح، الذي يرفض أي نوع من الرقابة التي تستغلّها الحكومات بحجب الآراء والمعلومات والأخبار التي تحدّ من حريّة التعبير، دون أن يعني عدم وجود أضرار أو ارتكابات خطيرة، لكن طرق معالجتها تختلف عن عملية المنع أو التحريم القديمة.

تلك الآراء والمفاهيم احتوتها محاضرة وحوار مفتوح لي مع طلبة الدراسات العليا في كلية النور الجامعة وجامعة الموصل، وبحضور إعلاميين وأكاديميين بارزين، بينهم ثامر معيوف وعبد العزيز الجبوري وحسن عبد الحميد، ووجدت من الضروري التفريق بين حريّة التعبير وحريّة التشهير بإحداث نوع من التوازن، ورفع درجة وعي الرأي العام ومناعته، دون المساس بحريّة التعبير، مع الأخذ بنظر الاعتبار التقنيات الجديدة التي تشكله، مثل الإعلام الرقمي والاقتصاد والحماية، فالأمن السيبراني هو مجموعة الوسائل التكنولوجية والتنظيمية والإدارية، التي يتمّ اتّباعها لمنع الاستخدام غير المصرّح به، أو سوء استخدامه لضمان استمرارية عمل نظم المعلومات وحقّ الوصول إليها من جهة، وتعزيز حماية سريّة الخصوصيات الشخصية أو العامة المتعلقة بالأمن الوطني من جهة أخرى.

وتساءلت، كيف استخدم تنظيم "داعش" الإرهابي التقنيات الحديثة ليعطّل جميع وسائل الاتصال خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه أبو بكر البغدادي في جامع النوري بعد احتلال الموصل؟ وهو تساؤل بحاجة إلى إجابات معمّقة بشأن الأمن السيبراني، فلم يعد الصحافي، حسب ألبير كامو "مؤرخ اللحظة"، وهي مهنة محددة يقوم بها من يمتلك مؤهلات معينة، فإنه في الإعلام الجديد بإمكان أي فرد أن يقوم بهذا الدور من خلال الإيميل والهاتف النقال ووسائل التواصل الاجتماعي. وأصبح التحكّم بذلك غير ممكن، بل يقترب الإلى مستحيل أحيانًا، فما بالك حين تسخّر قوىً كبرى إمكاناتها العلمية والتكنولوجية كجزء من الصراع الكوني؟

وفي ذلك وجهان، أحدهما إيجابي وقد جرت الإشارة إليه؛ والآخر سلبي، وهو خطِر وثمنه باهظ، لاسيّما حين يتمّ عولمة الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب بما فيه السيبراني.

ظلّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يكرّر: روسيا.. روسيا.. روسيا.. وذلك ردًّا على اتّهام خصومه باختراق روسيا وسائل الإعلام الأمريكية لصالحه في انتخابات 2016، وقبل ذلك في انتخابات العام 2008 و 2012، ويضيف ربما الصين، والخرق وصل إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووكالة المخابرات المركزية CIA، وإدارات ووزارات ومؤسسات أخرى. وعن طريق الصدفة تم اكتشاف عمليات الخرق بعد تحقيق أجرته شركة فاير أي، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن 12 إدارة تعرّضت للاختراق السيبراني.

لقد كان موضوع الأمن السيبراني وتُهم الاختراق هو الزاد الذي ملأ الموائد وتغذت عليه إدارة الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو اليوم على أشدّه بين الرئيس جو بايدن وغريمه دونالد ترامب.

والأمن السيبراني اليوم هو جزء من الصراع الدولي، لأنه يمثّل القوّة الناعمة التي تتغلغل بسرعة خارقة دون مقدمات لتصل إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة وجميع مناحي الحياة، وذلك عبر ما يسمّى بالفضاء السيبراني والردع السيبراني والهجوم السيبراني والجريمة السيبرانية، وهي أسلحة الحرب الجديدة.

والأمن السيبراني هو أمن المعلومات، وعلى الدول حماية أنظمتها وممتلكاتها وبرامجها وخططها من الهجمات الرقمية، كي لا تتسلّل لها هذه القوى الخفية والناعمة عبر برنامجيات خبيثة وهجمات تطبيقية وعمليات الابتزاز والتهديد بالمعلومات السريّة.

وبسبب اتهام روسيا بخرق أمن الولايات المتحدة، فقد اتّخذت الأخيرة سلسلة عقوبات ضدّها، لكن الرئيس بوتين عبّر عن فخره بالعمليات الصعبة، التي نفّذتها الأجهزة السيبرانية التابعة لجهاز أمن الدولة KGB.

لم يعد العالم الورقي قادرًا على منافسة العالم الرقمي، فالحضارة لا تعود إلى الوراء ولا تنظر إلى الخلف، إلّا بالاستفادة من دروس الماضي، وعلينا فهم التطوّر الحاصل والتعاطي معه دون انتظار، وخارج دوائر العواطف.

***

د. عبد الحسين شعبان

فاجأ اعلان لجنة الانتخابات الروسية المركزية، بفوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنتيجة قياسية في الحصول على نسبة أصوات وصلت الى نسبة 87.28، بعد مشاركة ملفتة للشعب الروسي وصلت الى اكثر من 83 مليون ناخب في هذه الانتخابات، يمثلون نسبة 74% من مجموع الناخبين المسجلين والبالغ عددهم 120 مليون، يمثل اعلى نتيجة حصل عليها الرئيس بوتين خلال جولات الانتخابات السابقة، في حين لم يصل بقية المرشحين الثلاثة للانتخابات الى حاجز 4% من أصوات الناخبين، الدوائر الغربية بشكل كبير، بعد ان كرست هذه الدوائر الاستخبارية والإعلامية كل جهودها، لزعزعة الوضع الداخلي، وتمويل حملات على مواقع التواصل الاجتماعي، لتضليل الشعب الروسي، ومحاولة ثنيه عن المشاركة، وبالتالي تعطيل الانتخابات .

العالم الغربي تلقف وباهتمام كبير هذه النتائج، وراحوا بتصريحاتهم المتوقعة حتى قبل اجراء الانتخابات، بعدم اعترافهم بنتائجها، او انها غير شفافة، او انها تفتقر الى ابسط مقومات الشفافية، وغيرها من بقايا " الأسطوانة المشروخة " التي تعود العالم على سماعها، من العالم الغربي، ضد أي بلد يقف بوجه مطامعهم ونواياهم الاستعمارية، في غضون ذلك وجه زعماء العالم برقيات تهنئة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالفوز الكبير الذي حققه في انتخابات الرئاسة الروسية، وأجمعت البرقيات من رؤساء دول الامارات والصين والبحريني وعمان وسوريا والجزائر والكويت وقطر وكازاخستان وبيلاروسيا وفنزويلا، ورئيس الوزراء الهندي وعشرات الدول الأخرى، أن نتائج التصويت، تؤكد الدعم الكبير الذي يحظى به الرئيس بوتين في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها روسيا، وأعربوا عن أملهم في مواصلة تطوير العلاقات مع روسيا، وتمنوا ان للعلاقات القائمة بين بلدانهما وروسيا الاطراد والتطور والازدهار.

وفيما يواصل زعماء العالم إرسال برقيات التهنئة للرئيس فلاديمير بوتين، اعتبر الاتحاد الأوروبي أن الانتخابات الرئاسية الروسية التي أظهرت فوزه الساحق "لم تكن حرة"، وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ان إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا جرت في انتخابات استندت الى "القمع والترهيب"، والانتخابات "لم تكن حرة أو نزيهة"، في حين اكد وزير الخارجية البريطانية ديفيد كاميرون، ان نتائج الانتخابات في روسيا تظهر مدى "القمع" في عهد الرئيس بوتين، "الساعي إلى إسكات أي معارضة لحربه غير الشرعية".

ولم يكن مفاجئا لاحد ان الشعب العربي كان أول من هنأ الرئيس فلاديمير بوتين بفوزه في الانتخابات الرئاسية الروسية، وعبر رواد "إكس" على فوزه الساحق بولاية جديدة لست سنوات، وتنافس آخرون حول من هنأ الرئيس الروسي أولا وقال أحدهم: "الف مبروك لأكون اول مواطن جزائري يهنئ بوتين"، ورد آخر بالقول: "راجع التغريدات نحن أول من هنأ بوتين با الفوز"، في حين تمنى آخر: "بالتوفيق للشعب الروسي بعد نجاح الإنتخابات رغم الهجمات والتشويش والتشكيك في نزاهتها وقوة المشاركة فيها، والمزيد من الأرق والقلق لحلف الضباع وأمهم شيطان العالم"، في حين قال احد المهنئين من لبنان حيث يلقب الرئيس الروسي بـ"أبو علي بوتين"، وكتب "ما بتلبق لغيرك الشيخ أبو علي بوتين"، "الف مبروك ابو علي بوتين، والمقهور اليوم خلي يضرب راسو بالحيط ويروح يشرب حتى الثمالة، بركي بينسى شواي"، والف مبروك للرفيق ابو علي بوتين".

وجلب خطاب الفوز للرئيس بوتين، في مركزه الانتخابي الرئيسي، والذي أعرب فيه عن شكره للمواطنين الروس الذين حضروا إلى مراكز الاقتراع، وأدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية التي انتهت، أهتمام المراقبون، واعتبروه انه يتضمن رسائل عديدة، لقضايا مهمة سواء في الداخل والخارج، ففي الداخل ذكًر بوتين أولئك الذين ذهبوا بمعداتهم ضد بلدهم، وضد وطنهم، بانه في الوقت الذي لا توجد عقوبة الإعدام في روسيا، توعدهم بأن التعامل "مع هؤلاء الناس دائما، الآن وفي المستقبل، سيكون كالتعامل مع أولئك الذين هم في منطقة قتال".

كما ان أن قلة عدد الشكاوى في مقر الانتخابات الرئاسية الروسية يعكس برأي بوتين، جودة العمل المبذول، ووصف نتائج الانتخابات، بأنها علامة ثقة من جانب المواطنين وأملهم في إنجاز كل شيء، وان نتائج هذه الانتخابات اكدت وحدة الشعب الروسي والتفافه خلف قيادته، وانه (أي الشعب) عبر من خلال تصويته عن ثقته بالنهج والسياسة التي ينتهجها بوتين، الذي اكد ان المحاولات الخارجية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الروسية، لن تتوقف، و "سيتصرفون بشكل أكثر تطورا، لكنهم لن يغيروا أهدافهم بشأن روسيا الاتحادية"،

هذا النجاح الكبير في تنظيم الانتخابات في روسيا، والشفافية التي سارت عليها هذه المرة، بشهادة المراقبين المحليين والأجانب الذين حضروا الانتخابات، دعت الرئيس الروسي، الى القول إن هناك كل الأسباب للاعتقاد بأنه لا توجد ديمقراطية ملحوظة على الأقل خلال الحملات الانتخابية في بعض الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، وأن استغلال الموارد الإدارية والنظام القضائي أصبح وصمة عار عالمية على واشنطن .

وتؤكد القيادة الروسية إن بلدهم ليست على مفترق طرق، وإنها تسير على الطريق الاستراتيجي لتطورها ولن تبتعد عنه، وانها لو لم تفعل روسيا ذلك (حماية أبناء شعبها في العالم) لكانت ستبدو كدولة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وإذا لم تتمكن روسيا من حماية نفسها، فسيستخف بها الجميع ولن يأخذها أحد بالاعتبار، وبالتالي العواقب يمكن أن تكون كارثية.

اما الرسالة الخارجية للرئيس بوتين، فقد حملت دعوات عديدة في معالجة الملف الاوكراني، وتجديد تأكيد روسيا بالانفتاح الى أي مبادرات او مساعي " حميدة "، لوقف القتال، وأن روسيا تؤيد مفاوضات السلام، ولكن فقط إذا لم يكن ذلك وكما عبر عنها بوتين، بسبب نفاد ذخيرة العدو، والتأكيد أن موسكو ستنطلق من مصالحها بشأن أي قضايا مطروحة، و إذا كانوا جادين حقا ويريدون بناء علاقات سلمية وحسن جوار بين الدولتين على المدى الطويل، وليس التوقف مؤقتا لإعادة التسلح لمدة عام ونصف أو عامين، أنه لا يمكن للصواريخ الغربية، بما في ذلك الصواريخ البريطانية والأمريكية أن تغير الوضع في ساحة المعركة .

وروسيا التي سبق وان أعلنت شروطها لوقف القتال، هي تلك الشروط التي كانت أوكرانيا على استعداد للتوقيع عليها في مفاوضات إسطنبول 2022، لولا تدخل رئيس الوزراء بريطانيا الأسبق بوريس جونسون، وإقناعه للرئيس الاوكراني بعدم التوقيع على الاتفاق، ولكن هذا الرفض ترتب عليه شروط ووقائع جديدة، ليس شرط ضمان أمن روسيا وحده، بل أيضا الاخذ بعين الاعتبار جميع التغيرات التي حصلت على الأرض، مع إمكانية انضمام مقاطعة خاركوف إلى روسيا، والتي لم يستبعد بوتين أن تضطر روسيا إلى إنشاء منطقة عازلة في المناطق التي يسيطر عليها نظام كييف، مشيرا إلى أن عمقها سيكون بمثابة عائق على الأسلحة المدمرة وطويلة المدى.

كذلك خاطب الرئيس الروسي، فرنسا، التي تقود لواء العداء على روسيا اليوم، وبإمكانها، ان تلعب دور في التسوية السلمية للأزمة الأوكرانية، دورا لا يؤدي إلى تفاقم الصراع أو إثارته، والحديث هنا عن السبل الممكنة للتسوية السلمية، وبهذا المعنى، يمكن لفرنسا أن تلعب دورها في ذلك ، وأن الخطاب العدواني لباريس هو محاولة للتغطية على مشاكلها في السياسة الداخلية، ودعاية انتخابية للمجلس الأوربي ولحصول الحزب الحاكم في فرنسا على مقاعد مهمة فيه .

وحول مدى احتمال نشوب صراع واسع النطاق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، فإن التحذيرات الروسية مستمرة بهذا الخصوص، ويشار هنا الى الحملة الغربية المسعورة عن الهجوم الروسي "المزعوم"، والهستيريا التي تعيشها الدول الاوربية، ومساعيها لتعزيز ترساناتها العسكرية، واجراءاتها للاستعداد للحرب مع روسيا، واعراب نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ميرسيا جيوانا عن اعتقاده، أن دول الناتو في حال إعادة انتخاب بوتين، يجب أن تستعد لعدة سنوات أخرى من التوتر في العلاقات مع روسيا، كلها عوامل مهمة للتأكيد في رسالة بوتين، أنه في حالة نشوب صراع واسع النطاق بين روسيا وحلف "الناتو"، سيكون العالم على بعد خطوة واحدة من حرب عالمية ثالثة، وليس مرجحا أن يكون أحد مهتما بذلك .، كما إن روسيا من وجهة النظر التقنية العسكرية، مستعدة لحرب نووية، وأن "الأمور تسير باتجاه الصدام المباشر"

كما أن أعلان الكريملين على لسان متحدثه ديميتري بيسكوف، باستعداد روسيا لإجراء مفاوضات بشأن مجموعة كاملة من المواضيع الأمنية، بما في ذلك قضايا نزع السلاح النووي وعدم انتشار الأسلحة النووية، جاء مكملا لما تحدث به الرئيس بوتين، عن إمكانية إجراء مفاوضات في ظل الظروف الحالية مع مناقشة مجموعة كاملة من المواضيع الأمنية، وتبدو تصريحات بوتين وإعلان الكريملين، قد لاقت صداها لدى العالم الغربي والولايات المتحدة على وجه الخصوص، والتي ومن خلال أعلان المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، في مناقشة مفتوحة بمجلس الأمن الدولي حول "السلاح النووي" و"عدم انتشار الأسلحة النووية، عرضت فيه استعداد واشنطن لإجراء مفاوضات ثنائية مع موسكو وبكين بشأن الحد من الأسلحة، دون شروط مسبقة، وقولها " الآن.. وكل ما يحتاجون إلى قوله هو نعم"، وأن الدول التي تمتلك أسلحة نووية يجب أن تحافظ على وقف اختياري لتجارب الأسلحة النووية، كما أشارت إلى أن من الضروري "التوصل إلى وقف إنتاج المواد الانشطارية التي تستخدم في الأسلحة النووية" ومواصلة المفاوضات بشأن معاهدة حظر المواد الانشطارية.

لقد أغرقت نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية حلفاء أوكرانيا في ذهول، وان فلاديمير بوتين فاز بنتيجة مذهلة، وإن معظم السكان الروس يدعمون بوتين بالفعل، بعد أن حقق فوزا في الانتخابات، يمكنه الآن أن يقول: "أريد ما يريده بلدي "، وهذه إشارة إلى العالم الخارجي بأن المسار الحالي للاتحاد الروسي، سيستمر، وأن الرئيس الروسي يشعر بدعم هائل لسياسته، أصبحت حقيقة، وإن أكبر وأهم حالة من عدم اليقين الآن، هي ما سيحدث في الانتخابات الأمريكية في عام 2024، فرفض الولايات المتحدة الدعم والضغط الأمريكي على أوكرانيا لإجراء مفاوضات سيعني فوز بوتين.

لقد أصبحت الانتخابات الرئاسية الحالية للكرملين ليس فقط تحديا سياسيا داخليا، ولكن أيضا تحديا للسياسة الخارجية، ومن الآمن أن نقول إن الخطاب حول عدم شرعية الانتخابات في المصطلح الجديد سيصبح سائدا في الغرب، وربما سيجدون حتى صياغات حول كيفية ذكره، وتجنب عبارة "رئيس روسيا"، لكن الوقائع الجديدة تفرض على الغرب على الاعتراف بأن الرئيس بوتين هو رئيس روسيا الشرعي، ويجب التعامل معه فقط على هذا الأساس، وهو ما حدث بالفعل، فقد صرح مستشار شؤون الأمن القومي الأمريكي جيك ساليفان،، بأن بوتين هو رئيس روسيا، وسوف تتصرف الولايات المتحدة على هذا الأساس !!.

***

د. كريم المظفر - موسكو

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته في رثاء دمشق :

وللحريّة الحمراء باب

بكلّ يد مضرّجة يدقّ

اليوم 19 مارس 2024 م، ذكرى عيد النصر في الجزائر، قبل 62 سنة، أُعلن التاسع عشر مارس تاريخا لوقف إطلاق النار، بين جيش التحرير الوطني وقوات الاحتلال الفرنسيّة، بعد 132 سنة من الاحتلال الاستيطاني الغاشم. أجل، قرن وثلثه، وفرنسا الاستعماريّة الصليبية تجثم على صدر الجزائر، العربيّة، المسلمة، زاعمة، زورا وبهتانا، أنّ الجزائر قطعة من فرنسا. فعاثت فيها فسادا ودمارا وقتلا وإبادة ونفيا واعتقالا، ولم تدع وسيلة من الوسائل الجهنّميّة إلاّ وسلّطتها على الأمّة الجزائرية المسلمة. تماما مثلما يحدث اليوم في غزّة، وما يقوم به الكيان الصهيوني، قامت به فرنسا الاستعماريّة في الجزائر، بل أكثر من ذلك. لكن الشعب الجزائري لم تنكسر إرادته ولم تهن عزيمته يوما.

يحكى أنّ بعض المثبّطين والحركى كانوا يسخرون من جنود جيش التحرير الوطني ويقولون لهم: كيف ستُخرجون فرنسا من الجزائر، وأنتم لا تملكون سوى بنادق الصيد ؟ بينا فرنسا تمتلك جيشا مدرّبا ومدجّجا بالأسلحة في البّر والبحر والجوّ، ومن ورائها الحلف الأطلسي . وكانت جواب جيش: هم يملكون السلاح الفتّاك ومعهم الحلف الأطلسي، أمّا نحن فنملك الإيمان والإرادة والعزيمة وحبّ الشهادة في سبيل الله، ومعنا الله، سندحر فرنسا وبالعصيّ والحجارة. وفعلا، سطّرت ثورة نوفمبر المجيدة أروع الملاحم البطوليّة، ومرّغت أنف فرنسا في أوحال الذلّ والهوان والهزيمة. وأرغمها على التفاوض مع جبهة التحرير الوطني، (مفاوضات إيفيان) وأفضت تلك المفاوضات إلى إتفاقيات إيفيان، التي حدّدت التاسع عشر مارس 1962 م موعدا لوقف إطلاق النار. فكان عيدا للنصر، يحتفل به الشعب الجزائري سنة بعد سنة.

إنّ الجرائم الفظيعة، التي ارتكبتها فرنسا الاستعماريّة، لا يكفيها البحر المتوسط مدادا لتجيلها على القراطيس. حتّى المجاهدون، أنّ عدد شهداء الجزائر لا يمكن إحصاؤهم، ففي شبر من أرض الجزائر اعتلى شهيد إلى ربّه راضيا مرضيّا. وقد ارتكبت فرنسا الاستعمارية جرائم الإبادة الجماعيّة، ففي شهر نوفمبر سنة 1844 م قّدر الماريشال بيجو، الوالي العام للجزائر آنذاك، عدد السكان الجزائريين بخمسة ملايين و" ربّما ستّة "، وفي شهر يناير 1855 م أعطى أمام مجلس النواب رقما آخر، هو أربعة ملايين. وسبب انخفاض هذا الرقم يعود إلى الإبادة الجماعيّة وحصار التجويع ونزوح السكان ونفيهم فضلا عن انتشار الأوبئة بينهم. فالسكان الذين لا يموتون بالحديد والنار، يموتون بالجوع والمرض. ما أشبه اليوم بالبارحة. ما يجري في غزّة نسخة ممّا جرى في الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي الغاشم. حقّا، إنّ عقيدة الاحتلال واحدة، وجرائم المحتلّين واحدة، لا فرق بين أساليب الاحتلال الفرنسي للجزائر والاحتلال الصهيوني لفلسطين إلاّ في المنظور الزمكاني.

لقد شهد على تلك المجازر المروّعة شهود من أهلهم، ورغم ذلك لم ينقلوا الحقائق كاملة، ومازالت فرنسا، إلى يومنا هذا تعتقل جماجم المقاومين في متحفها الإنسانيّ المزعوم، بل الأحرى في مسلخها اللاإنساني البشع، وتخطف الأرشيف الجزائري، لطمس جرائمها في الجزائر، وتسعى لمحو الذاكرة الجزائريّة بشتّى الأساليب الشيطانيّة. وها هو الجنرال شانغارنيي يصف جنوده قائلا: " لقد وجدوا خير تسلية لهم في الغارات المتكررة التي كنت أشنّها في الشتاء ضد القبائل المناهضة لنا فيما بين الحرّاش وبوركيكة " (1) . ثم أضاف: " إنّ الكتاب المقدّس قد علّمنا بأنّ يشوع وغيره من القادة الذين بارك الله في عملهم كانوا يقومون بغارات رهيبة " (2). أما الكومندان ويستي، فقد كتب في عام 1841 م متحدّثا عن حملة في جنوب مقاطعة الجزائر: " إن عدد الدواوير (3) التي أُحرقت، والمحاصيل الزراعيّة التي أُتلفت، لا يكاد يُصدّق، فلم يكن أحدنا يرى على الجانبين من الطابور سوى النيران " (4).

و كي لا تنسى الأجيال تاريخ الآباء والأجداد وما قدّموه من تضحيات جسام في سبيل الحريّة والكرامة والهويّة القوميّة، وجب التذكير، والذكرى تنفع النشء الصاعد، والتاريخ عبر لمن يعتبر. ولتعلم أجيال الاستقلال ومواليد الجزائر الحرّة، أنّ الحرّيّة لم تُوهَب، وإنّما أُخذت بقوّة الحديد والنار، وسُقيَت بأنهار من الدماء والدموع والأرواح الطاهرة.

لقد قدّم الشعب الجزائري ملايين الشهداء من أجل الحريّة، ومنذ أن وطأت أقدام المحتلّين أرض الجزائر الطيّبة، لم تتوقف المقاومة الشعبيّة الباسلة، وخاض الأمير عبد القادر بن محي الدين ملاحم بطوليّة قبل منفاه. وكانت ثورات الشيخ بوعمامة والشيخ المقراني والحدّاد ولالة فاطمة نسومر ثم ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 م خير دليل على تضحيات الشعب الجزائري الأبيّ.

أجل، تعود ذكرى عيد النصر، في جوّ رمضانيّ ممزوج بنفحات ربّانيّة، وإخواننا الفلسطنيين في غزّة يسطّرون بدمائهم ودموعهم وصبرهم وإيمانهم وشجاعتهم ملاحم بطوليّة عجيبة وعظيمة، أدهشت الأعداء والأصدقاء.

و ليكن إخواننا في غزّة على يقين، أن النصر قادم لا محالة، ما دام إيمانهم به راسخا رسوخ الرواسي الشامخات. فهما طال ظلام الاحتلال الصهيوني، فهو إلى زوال كما زال الاحتلال الفرنسي من الجزائر وصدق الشاعر أبو القاسم الشابي، شاعر تونس الخضراء القائل:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

*

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر.

هذا عيد انتصار الجزائر اليوم، وغدا سيكون عيد انتصار فلسطين. إنّ غدا لناظره لقريب.

***

بقلم: علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر

...............................

هامش:

1 ـ الجزائر: الأمة والمجتمع ـ مصطفى الأشرف. ترجمة من الفرنسيّة: د. حنفي بن عيسى. المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية – رحدة الرغاية 1983 – الجزائر.

2 ـ المصدر نفسه

3 ـ الدواوير: جمع دوار. مجتمع سكاني ريفي باللهجة الشعبيّة، أصغر من القرية .

4 ـ الجزائر: الأمة والمجتمع ـ مصطفى الأشرف. ترجمة من الفرنسيّة: د. حنفي بن عيسى المؤسسة - الوطنية للفنون المطبعية – رحدة الرغاية – الجزائر 1983.

هل تنقض مقولة الهلال السوري الخصيب عروبة العراق وسوريا؟

بالإشارة إلى المقالة المطولة بقلم السيد وجدي المصري بعنوان "العروبة والهلال الخصيب: حول دراسة علاء اللامي" في الأخبار عدد 3 تشرين الأول 2023، أسجل الملاحظات التالية: سيقتصر ردي على مجموعة من التوضيحات التي تصحح بعض مواضع سوء الفهم أو سوء القراءة - وليس كلها - التي وقع بها المعقب. ولن أرد على المضامين والعبارات المسيئة للعرب كأمة وهوية في مقالته وهي كثيرة من قبيل اعتبارهم غزاة ومحتلين لما يسميه "الهلال السوري الخصيب"، ومساواتهم بالغزاة الرومان والإغريق والفرس والفرنسيين والأميركيين. وتجريدهم من أي إنجاز حضاري - غير الأشعار كما كتب - ووصمهم بالتخلف، والقول بأنهم "لم يكونوا سوى طلاب حضانة على مقاعد الحضارة الإنسانيّة العالميّة" مقارنة بما يسميه "الحضارة الأولى في العالم حضارة سوريا الكبرى"، والتي لم يفلح دعاتُها في الاتفاق تماماً على أصل تسميتها، ومتى ظهرت بالضبط؟

وحتى حين يعترف المعقب بوجود حضارة عربية فهي عنده "حضارة طارئة ومرتكزة على الدين واللغة اللذين فُرضا بحدّ السيف"، ويعتبر بلاد الرافدين، بحضاراتها السومرية والأكدية البابلية والآشورية والكلدانية وأخيرا العربية الإسلامية في طورها العباسي، مجرد نتوء متمم لمقولة "الهلال السوري الخصيب". أقول؛ لن أردَّ بعبارات من النوع ذاته على كل هذه الإساءات لتفادي الانجرار إلى جدالات أيديولوجية لا علاقة لها بالبحث العلمي، وسأكتفي بكشف جوهرها الانعزالي عبر التركيز على مقاربة الجانب البحثي المنهجي لمقاربة الموضوع.

خرافة الهلال السوري الخصيب

إنَّ مقولة "الهلال السوري الخصيب" التي يستعملها المعقب، وكأنها مقولة علمية لا تقبل الجدل، تستلهم في الواقع عبارة وصفية إنشائية حديثة هي "الهلال الخصيب"، كان قد ابتكرها أو ارتجلها المستشرق والآثاري الأمريكي جيمس برستد (1865 - 1935) قبل قرن تقريبا. وقد أضاف إليها المعقب اسم سوريا المشتق من اسم واحدة من دول وادي الرافدين هي (آشوريا/ آسوريا)، أطلقه الغزاة السلوقيون على منطقة غرب الفرات وفق أرجح التفسيرات.

أطلق برستد هذا الاسم على حوضي نهري دجلة والفرات وامتدادهما نحو الجزء الساحلي من بلاد الشام في كتابيه "الخطوط العريضة للتاريخ الأوروبي" الصادر سنة 1914، وكتابه "العصور القديمة - تاريخ العالم المبكر" الصادر سنة 1916، بسبب عدم وجود مصطلح جغرافي قديم ومتفق عليه يجمع أقاليم هذه المنطقة الشاسعة في ما نسميها اليوم بلاد الرافدين وبلاد الشام. وقد شاعت هذه التسمية "الهلال الخصيب" في اللغة السياسية والبحثية الجغرافية والتاريخية لاحقا لهذا السبب بالذات. وعلى هذا، يريد لنا السيد المعقب أن نوافقه الرأي على تحويل الوطن الأصلي والأقدم ومهد حضارات الشرق أي بلاد الرافدين إلى مجرد جزء أو نتوء متمم لما يسميه "سورية الكبرى" أو "الهلال السوري الخصيب".

ثمة فرضيات مختلفة تحاول تفسير وتأثيل اسم "سوريا/ سورية"، ولكنَّ أقدم إشارة وصلتنا إلى لفظ قريب من الاسم وهو "سورا"، عُثر عليها في نصب شينيكوي (قرية تبعد نحو 30 كم جنوب أضنة بتركيا)، وورد فيه اسم آشوريا مكتوبا باللغتين الفينيقية وباللوفية الأناضولية المنقرضة بلفظ "سورا". وصار نقش شينيكوي موضوع دراسة نشرت في مجلة (دراسات الشرق الأدنى Journal of Near Eastern Studies) بقلم روبرت رولينغر يدعم فيها الرأي القائل إن اسم سوريا مشتق من آشور.

إنَّ المعقب ليس الوحيد، ولا الأول الذي قال بفكرة تبعية بلاد الرافدين لسوريا الكبرى فهي تعود إلى مرحلة تأسيس الحزب "القومي الاجتماعي السوري". فالأستاذ علي حمية مثلا، في رد سابق له على إحدى مقالاتي (الأخبار23 كانون الأول 2021)، اقتبس عن أنطون سعادة قوله: "إنَّ العراق، أو منطقة ما بين النهرين، هو جزء (متمّم) للأمة السوريّة والوطن السوري، وكان يُشكل جزءاً من الدولة السوريّة الموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية"، ويبدو أنهم ما يزالون مترددين في اعتماد هذا الاسم المفبرك والخيالي "سوراقية" بعد مرور قرابة القرن على هذا الكلام غير الدقيق تأريخيا كما سنوضح!

هل بدأ التأريخ مع سلوقوس؟

وهكذا، فالتاريخ يبدأ عند البعض مع تشكيل ولايات وأقاليم الاحتلال السلوقي للعراق والشام سنة 312 ق.م. أما الدول الإمبراطورية والحضارات الرافدانية العريقة طوال ثلاثة آلاف عام، ودول وإمارات بلاد كنعان وآرام وفينيقيا غربا فلا قيمة ولا وجود لها في هذا التاريخ المؤدلج! بل إنهم لا يقيمون اعتبارا لكون العراق كان إقليماً مستقلاً ضمن الدولة السلوقية نفسها وكان يضم ولايتين "ميزوبوتاميا الشمالية" أي ما بين النهرين وولاية "بابيلونيا" جنوبا. بل إن عاصمة الإمبراطورية السلوقية آنذاك لم تكن في سوريا وإنما على مسافة 29 كم جنوب بغداد وهي مدينة "سلوقية"، وقد أنشأت عام 307 ق.م، لتصبح عاصمة الإمبراطورية كلها في عهد سلوقس الأول؛ ثم استولى عليها الفرس الفرثيون عام 140 ق.م، وبنوا قربها مدينة قطسيفون عاصمة الساسانيين، وبعد حرب الفتح وتحرير العراق من الاحتلال الفارسي الساساني أقام العرب مدينة "المدائن" على أنقاض سلوقية وقطسيفون، وعلى هذا يحق للعراقيين  المعاصرين - لو كانوا مغرمين بدويلات الغزاة - لاعتبروا العراق مهد الإمبراطورية السلوقية وفيه عاصمتها وجغرافيتها الأوسع!

أما في إقليم سوريا السلوقية - كما يكتب باسيليوس زينو -  يشمل "الإقليم الذي يضمّ المدن السورية الأربع: أنطاكية، وسلوقية بيروية (حلب)، وأفاميا على نهر العاصي، ولاوديكية (اللاذقية) على البحر. ويشير مصطلح "سورية الشرقية" إلى المنطقة الواقعة بين بيروية (حلب) ونهر الفرات. أمّا مصطلح "سورية المجوّفة"، فهو الإقليم الواقع إلى الجنوب من نهر الإيلوثيروس، ويشمل هذا المصطلح فينيقيا". ويضيف زينو "وقد جرى التمييز بين ميزوبوتاميا الشمالية، وهي المنطقة الواقعة بين نهرَي دجلة والفرات شمال مدينة بغداد الحالية (بلاد ما بين النهرين)، وبابيلونيا، وهي المنطقة الممتدّة جنوباً من بابل وسلوقية دجلة".

يُذكَر أن ولايات الاحتلال السلوقي في بلاد الرافدين والشام أقيمت خلال حالة فراغ سياسي وهزيمة عسكرية وحضارية قاسية لشعوب المنطقة بسقوط آخر دولة وحضارة رافدانية هي الدولة الكلدانية وآخر ملوكها نبونائيد سنة 539 ق.م، وبدء عصر الاحتلالات الأجنبية الفارسية فالإغريقية فالرومانية. ولم يبق من آشوريا الرافدانية سوى اسمها الذي استعمله الإغريق والرومان وأطلقوه على ولايتهم غرب الفرات.

الخطاب القومي العروبي والآخر السوري:

والواقع، فإنَّ هذا الخطاب الأيديولوجي الإلحاقي ليس حكرا على الكُتاب القوميين السوريين بل هو يشمل حتى بعض الكتاب والمترجمين القوميين العروبيين البعثيين في سوريا؛ فالكاتب أحمد داوود مثلا يكتب على ص 21 من كتابه "تاريخ سوريا القديم": "أما سوريا التاريخ الحضاري القديم فقد عمل على طمسها ومحو ذكرها كلياً من التأريخ العربي، وذلك من خلال اختزالها واختزال حضارتها الكلية في حضارات ومواقع وأسماء جزئية كثيرة من قبيل نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي الرافدين وحضارة ماري ومملكة تدمر وسومر و أكاد وبابل وآشور ونينوى وأور وفينيقيا وأرام وبلاد الشام وبلاد كنعان...إلخ"، والحل عند هذا الكاتب يكمن في إلغاء كل هذه الأسماء والحضارات ودمجها في ما يسميه "سوريا التاريخ والحضارة" وهو بهذا الكلام غير العلمي يسيء لدولة سوريا وشعبها الشقيق ويحاول الترويج لنسخة رغبوية من نزعة "شبه إمبريالية" صغيرة لا تحترم الشعوب الشقيقة ولا تاريخها ولا المنهج العلمي في البحث التأريخي والإناسي "الانثروبولوجي" حين يعتبر حضارة بلاد الرافدين مجرد جزئية من التأريخ السوري في حين يقول التأريخ الفعلي أن كلمة (سوريا) نفسها اشتُقت من اسم إحدى الدول الرافدانية (آشوريا).

وقد شارك بعض المترجمين السوريين في هذا الجهد غير العلمي فترجموا بعض المؤلفات الآثارية الأجنبية بعيدا عن الدقة والأمانة العلمية. فالمترجم سالم سليمان العيسى مثلا، ترجم كتاب الباحث الفرنسي جان كلود مارغورون المعنون (les mesopotamiens)، وتعني الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو "الرافدانيون"، ولكن تحت عنوان جديد طويل هو "السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية". ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزج اسم سوريا الشمالية في العنوان، زاد وكتب عنواناً ترويجياً ثانياً تحت العنوان الرئيس في الصفحة الأولى من الكتاب هو "التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب - مفخرة سوريا"! وكتب المترجم مقدمة أخرى للكتاب زج فيها باسم "السوريين" ضمن شعوب بلاد الرافدين القديمة فكتب "إنهم السكان السومريون - الحوريون - الأكاديون - السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة...ص5"، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى "حقائق تأريخية ثابتة" بمجرد أن يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة من قلمه! 

وأخيرا، هل من فرق نوعي بين المصطلح الذي صكَّهُ الفرنسي مارغورون "الرافدانيون" ومنه "بلاد الرافدين" ومصطلح "الهلال الخصيب" الذي ابتكره الأميركي جيمس برستد؟ ثم لماذا اللجوء لمبتكرات الباحثين الغربين الارتجالية وبدائلها المحلية موجودة وتفي بالغرض؟ وكيف يفسر لنا السيد المعقب أن الأسماء العريقة في إقليم غرب الفرات وحتى سواحل المتوسط والذي يسمونه سوريا الكبرى تارة والهلال السوري الخصيب تارة أخرى ويلحقون به بلاد الرافدين، وهي الأسماء الأعرق الأقدم من السلوقيين بآلاف السنوات كأرض كنعان وبلاد آرام وفينيقيا الساحلية تلاشت ولم يعد يأخذ بها دعاة "القومية السورية"، فهل تنبجس القوميات من أسماء الولايات التي يبتكرها الغزاة الغرباء عن المنطقة كالسلوقيين أم أن القوميات والشعوب هي التي تعطي أسماءها للدول والأقاليم؟ يتبع في الجزء الثاني قريبا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

بقلم: سالي روني

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

"إن حكومتنا تنعم بالتوهج الأخلاقي المتمثل في إدانة منفذي العمليات الانتحارية، في حين تحافظ على علاقة حميمة مع أولئك الذين يزودونهم بالقنابل"

"صرخات الأبرياء سوف تطاردنا إلى الأبد إذا بقينا صامتين." هذه هي كلمات تاويستش ليو فارادكار، الذي تحدث في فعالية أقيمت في بوسطن هذا الأسبوع حول الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة. ومن يستطيع أن يختلف؟ إن ما يحدث في فلسطين الآن هو من أعمق الكوارث الأخلاقية وأكثرها صدمة في عصرنا.

ومنذ أشهر متواصلة، قامت القوات العسكرية الإسرائيلية بقصف سكان غزة المحاصرين والجائعين والمشردين إلى حد كبير بقصف جوي لا هوادة فيه. وقد اضطر الناجون الفلسطينيون، المنعزلون عن العالم الخارجي، إلى توثيق الأزمة في الوقت الحقيقي، وتبادل القصص والصور ولقطات المقابر الجماعية والمباني المدمرة والجثث المهجورة. ومع عدم وجود نهاية في الأفق، تواصل الولايات المتحدة ضخ الأموال والأسلحة إلى إسرائيل لإطالة أمد الهجوم.

لكن يوم الأحد، وفي ختام زيارته للولايات المتحدة، سيزور فارادكار البيت الأبيض لالتقاط صورة في يوم القديس باتريك مع الرئيس جو بايدن. في اجتماعهما يوم الجمعة، تم بلا شك تبادل بعض الكلمات المثيرة للقلق بشأن محنة المدنيين الفلسطينيين، لكن فرادكار كان واضحًا مسبقًا بشأن الغرض من المحادثة: "أنا لست هنا لتوبيخك أو إزعاجك... دعونا لا ننسى أبدًا". أنه "لقد كان صديقًا جيدًا جدًا لأيرلندا".

وهذا يوضح بوضوح النهج الذي تتبعه الحكومة الأيرلندية تجاه الحرب في غزة. إن النقد القوي والمباشر موجه لدولة إسرائيل الصغيرة نسبيًا (والمعزولة عالميًا بشكل متزايد). ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة ــ التي تزود إسرائيل بنحو 80% من واردات الأسلحة، فضلاً عن مليارات الدولارات من المساعدات ــ يتم التعامل معها باعتبارها طرفاً ثالثاً محايداً، وبطبيعة الحال، باعتبارها "صديقاً جيداً للغاية". ". وبهذه الطريقة تستطيع حكومتنا أن تنعم بالتوهج الأخلاقي المتمثل في إدانة منفذي القنابل، في حين تحافظ على علاقة حميمة مع أولئك الذين يزودونهم بالقنابل.

لكن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب إسرائيلية: إنها حرب أميركية، وبشكل خاص حرب بايدن. إن إسرائيل ببساطة لا تستطيع تحمل تكاليف تنفيذ هذا الهجوم المطول والمكثف للموارد ضد الشعب الفلسطيني دون الأموال والأسلحة الأمريكية. وتظهر استطلاعات الرأي أن معظم الأميركيين يريدون وقفاً دائماً لإطلاق النار؛ ويبدو أن دعم بايدن لإسرائيل يضر بفرصه في السباق الرئاسي المقبل. ومع ذلك فهو يرفض الاستماع إلى ناخبيه، وقد تجاوز الكونجرس مرارا وتكرارا لمواصلة تزويد إسرائيل بالموارد التي تعتمد عليها.

وقد يرغب أصحاب نظرية المؤامرة في تصور أن إسرائيل تمارس قدراً هائلاً من النفوذ على الولايات المتحدة، ولكن الواقع عكس ذلك تماماً. إن الولايات المتحدة هي التي تمارس سلطة هائلة على إسرائيل ــ وكان الرؤساء الأميركيون السابقون على استعداد لاستخدام هذه القوة. وفي الثمانينيات، رداً على الهجمات الإسرائيلية غير القانونية على العراق ولبنان، لم ينتقد رونالد ريغان الهجمات علناً فحسب، بل قام أيضاً بتقييد المساعدات الأميركية والمساعدات العسكرية لإسرائيل رداً على ذلك، مما ساعد على إجبار القوات على الانسحاب. في أوائل التسعينيات،وعلى نحو مماثل، استخدم بوش المساعدات الأميركية لإسرائيل كورقة مساومة في المفاوضات الدولية. إذا كان بايدن يرفض الاستفادة من هذه الموارد نفسها من أجل جعل إسرائيل تمتثل لسياسة الولايات المتحدة، فإن الاستنتاج المعقول الوحيد هو أن هذه الحرب هي بالفعل سياسة أمريكية.

ويصف العديد من خبراء القانون الدولي الحرب على غزة بأنها إبادة جماعية. وقد يتفق كثيرون آخرون عندما ينكشف الحجم الحقيقي للموت والدمار. وفوق كل هذا، لم تسمح إسرائيل لأي مؤسسة إعلامية خارجية بدخول غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلا تحت حراسة عسكرية مشددة. وفي الوقت نفسه، قُتل صحفيون فلسطينيون داخل القطاع بمعدل يدل على الاستهداف المتعمد. وفي العام الماضي بأكمله، قُتل 99 صحفياً في جميع أنحاء العالم أثناء قيامهم بتقاريرهم؛ ومن بين هؤلاء 72 صحافياً فلسطينياً قتلتهم إسرائيل. ويشير هذا الحظر المفروض على وسائل الإعلام الخارجية والقتل المستمر للصحفيين إلى أن هناك جهود قوية تُبذل لإخفاء الحقائق.

منذ بداية الهجوم، تم إسقاط أكثر من 65.000 طن من المتفجرات الأمريكية الصنع على قطاع غزة. كل غارة جوية جديدة تنزل المزيد من الدمار، وتدمر المزيد من البنية التحتية، وتحاصر المزيد من الأشخاص العاجزين تحت الأنقاض، وتسبب المزيد من الإصابات الكارثية. كل وفاة إضافية تترك وراءها المزيد من الحزن والحسرة التي لا يمكن إصلاحها. والآن، مع استمرار إسرائيل في منع تدفق المساعدات، بدأت مجاعة من صنع الإنسان تترسخ. إن البشر يموتون جوعا ببطء وبشكل مؤلم، ليس بسبب فشل المحاصيل أو الكوارث الطبيعية، بل نتيجة للسياسة المتعمدة التي تنتهجها إسرائيل والولايات المتحدة.

وفي وقت كتابة هذا المقال، يبلغ العدد الرسمي للقتلى في غزة أكثر من 30 ألف شخص. على الرغم من أن هذا الرقم مرعب، إلا أنه ربما يكون أقل من الواقع. ومن المرجح أن وزارة الصحة في غزة، التي تعتمد على أرقام من المستشفيات والمشارح المكتظة بشكل كارثي، فشلت في مواكبة معدل الدمار الفائق السرعة. نحن ببساطة لا نعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلوا على يد الدولة الإسرائيلية منذ أكتوبر من العام الماضي.

ما نعرفه هو أن كل واحدة من عمليات القتل هذه قد مُوّلت ودُعّمت من قبل "صديقنا العزيز جدًا" في البيت الأبيض. في الوقت القصير الذي أمضيته في إعداد هذا المقال، رأيت صورًا لواحدة من مرافق المساعدات القليلة المتبقية التابعة للأمم المتحدة في غزة والتي تعرضت لضربة جوية، بعد يوم واحد فقط من مشاركة إحداثيات المركز مع قوات الأمن الإسرائيلية؛ وصور العظام البارزة لطفل فلسطيني هزيل؛ وأنقاض قلعة برقوق المهيبة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر والتي دمرتها القنابل (الأمريكية) بشكل لا يمكن إصلاحه؛ والجنود الإسرائيليون الذين يتظاهرون بمرح وهم يرتدون الملابس الداخلية للنساء الفلسطينيات النازحات أو المذبوحات. وإلى هذه المجموعة من صور الفساد الأخلاقي المقيت ، سنكون قادرين قريبًا على إضافة صورة لبايدن وفارادكار وهما يبتسمان معًا أمام وعاء النفل المعتاد. إذا كان الأمر كذلك، فهي الصورة التي - إذا استخدمنا كلمات فارادكار نفسها - "سوف تطاردنا إلى الأبد".

***

...............................

المؤلفة: سالى رونى / Sally Rooney: سالي روني (من مواليد 20 فبراير 1991) مؤلفة روائية وكاتبة سيناريو أيرلندية. صدرت لها ثلاث روايات: "محادثات مع الأصدقاء" (2017)، "أناس عاديون" (2018)، و"عالم جميل، أين أنت" (2021). حظيت أعمال روني بإشادة من النقاد ونجاحًا تجاريًا، وتُعتبر واحدة من أبرز كتاب الألفية. صنفتها مجلة تايم ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم لعام 2022.

رابط المقال إيريش تايمز / Irish Times The:

 

قد لا يُصدق مَن درس بجامعات العّراق، بغداد والبصرة والموصل، في ما مضى، عندما يطلع على كوارث التَّعليم داخل هذا البد المبتلى "حتّى اختزى". أقول لا يصدق لأنه يتفاخر على أترابه نال شهادته الجامعيّة مِن بغداد، ناهيك عن تخصصات، لا تُطالب جامعات أوروبيّة معادلة الشّهادة، ويكفيها أنها صدرت مِن بغداد؛ وقديماً قال أحد شعراء "ما وراء النّهر" أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: "لَا تعجبنَّ من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزا من الْأَدَب/ وأعجبْ لمن بِبِلَاد الْجَهْل منشؤه/ إِن كَانَ يفرق بَين الرَّأْس والذَّنب"(الثّعالبيّ، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر).

أقول: لو عاد هذا الرّجل، واطلع على ما يحصل في مجال التّعليم، وسيادة الوهم وجبروته على الأذهان، لهان عليه هذا العراقيّ، الذي تعجب مِن علمه وأدبه، بمقياس زمانه وزماننا أيضاً، في ظل وزراء جعلوا الوزارات حقولاً لعقائدهم، وأحزابهم. يتصرف الوزير بالوزارة التي نُسب إليها، فهي حقله الخاص، يزرعها ما يرى ويرغب، وترغب الجهة التي صارت الوزارة مِن حصتها.

لا نذهب بعيداً عندما صار أحدهم، الذي نال شهادتين بتفسير القرآن، مِن دكاكين بالهند، وكان قبل السُّلطة، يقرأ المقدمة قبل قارئ المنبر بكندا، وفقه وقدمه حزبه ليكون وزيراً للتربية والتعليم، فقال قولته المدوية: "لي الشّرف بإعادة تشكيل العقل العراقيّ"! وقد حقق شعاره، فصارت وزارة التعليم العالي مِن حصة ميليشيا ولائية.

بالفعل أصبح العقل العراقي يتشكل كيف شاءت قوالبهم الحزبيّة؛ ليس المطلوب الخبرة ولا المعرفة، المطلوب استدامة الوهم في هذا العقل، ولا يستيقظ، حتّى لا يبقى شيء يعول عليه في المستقبل، جيل ينقل الوهم إلى جيل، فحلت الحوزات الدينيّة، وليتها مِن النّجف! إما خرجتهم قُمّ، أو حوزة الست زينب، فأتوا وزراء ومدراء. فمرة تصير وزارة الثّقافة بيد مؤذن، أو متدرب على الاغتيالات والتّفجيرات، في معسكرات "سرايا الدِّفاع"، ومرة تحت هيمنة ميليشيا. أمَّا وزارة التربية والتَّعليم العالي والبحث العلمي، فغدت مِن حصة حزبٍ، يعتبر المروج للقتل مفكرهُ وصوت فضائيته، وهذه المرة لميليشيا.

أمامي قائمة المناهج، التي يشترط تدريسها في محالات التعليم العالي، وضعتها لجنة وزارية، ودفعتها إلى الوزارة بتاريخ (26/9/2023)، لتأتي مصادقة الوزير عليها، بغضون الشّهر، أي في (19/10/ 2023)، هذه المناهج لو تقررت في حوزة دينية، أو جهة ثقافيّة عامة، ليست مدرسة ولا جامعة دولة، أو بلاد مثل العراق، لرُفضت، لأنَّ المؤلفين لا شأن له بمنطق التّدريس ولا الثّقافة، ولا ما ترجوه الوزارة مِن آفاق المستقبل. لكنَّ لأنَّ الوزارة بيد وزير، وزارته ملك ميليشيا دينية، فلا بدَّ لها مِن جعل تلك المناهج وفق عقيدتها، أو أوهامها، على أنها مناهج علميّة.

جاء في ديباجة قرار وزارة التعليم العالي، في تغيير المناهج الآتي: "حصلت مصادقتنا على أصل محضر اللجنة الوزاريّة، المشكلة بموجب الأمر الوزاريّ، ذي العدد(كذا وكذا)، التي تولت إثراء المناهج، والمصادر الدِّراسيَّة (للدِّراسات الأوليّة والعليا) بالمصادر والمراجع المؤلفة، مِن قِبل عُلماء ومفكرين عراقيين، لهم الأثر الكبير مِن خلال سيرهم ومؤلفاتهم، وإقرار بعض تلك المصادر، ككتب منهجيّة أساسيَّة، أو مساندة، ووفقاً لما جاء بكتب لجان العُمداء المختصة، التي أيدت توصيات اللّجنة أعلاه، والتي تضمنت باعتماد الكتب الآتيّة، في إثراء المناهج والمصادر الدّراسيّة، ووفقاً للتخصصات".

أولاً : إنَّ مؤلفي هذه الكتب المصادر ليسوا علماء ولا مفكرين، تدخل كتبهم في تدريس الجامعات، هؤلاء يا سادة فقهاء أو علماء دين، ماهو إطلاعهم على فنون المعرفة الحديثة، كي تكون كتبهم مناهج، المفروض تلقينها لطلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ هذه المناهج تحتاج أصحاب علوم ودراسات وباحثين، في العلوم الحديثة، التي تناسب الزّمن، ويُنتظر منها التقدم العلمي والبحثي. نعم، ليكن هؤلاء كباراً في الفقه، أو في تصوراتهم الدِّينية، المحدودة بدراستهم، لا تؤخذ مناهج تفرض في التعليم الرّسميّ، ليتخرج منها أجيال، فهذه وزارة دولة لا حوزة طائفة.

ثانياً: ما فُرض من مناهج، وسنأتي على ذكرها، لا يُعد إثراءً، مثلما ورد في ديباجة القرار الوزاري، بل إفقار علميّ، مع أنَّ العالم اليوم يتسابق على المعرفة الحديثة، وليس مِن الحقّ ربط مناهج جامعات بلد بالحقل الديني ووفق طائفة معينة، يدعي ساسته أنه يتقدم في الديمقراطية والعلم، وهذا ما يُسمع مِن الأحزاب والجماعات التي تفوز سنوياً في الانتخابات، وتوزع عليها حقائب الوزارات.

ثالثاً: إن الكُتب المختارة ليست منهجيّة، بل تُكرس الفرقة والحس الطائفيّ، فهي لرجال دين طائفة، الوزارة من ملكيات أحد تنظيماتها، مع أن من أبناء هذه الطائفة العلماء والمفكرون، مَن اختص في البحث العلمي، ولديه أفكار متقدمة، لكنهم هؤلاء أزيحوا أمام ما اختارته الوزارة من مناهج، قد تصلح للتثقيف الحزبي العقائدي لا أكثر، كُتبٌ أكل عليها الزّمن وشَرب، ولا يرى الهالة حولها إلا مَن عجز عن رؤية غيرها، أو كان معانداً حزبياً طائفياً.

رابعاً: هذه المناهج، مع عبارة في مستهل قرار الوزارة "القرآن منهجنا"، تشي أنها دولة دينية، الشّعار مستعار من الإخوان المسلمين، لماذا توريط القرآن في ما تعبثون بعقول الشبيبة، نعم هناك دراسات دينية خاصة، لا شأن للتعليم العالي والبحث العلميّ بها، هذا الشّعار "القرآن منهجنا" وضع لتمرير مشروع استدامة التّخلف، وتمرير هذا المنهج، بحجة القرآن هو المنهج، لو سألت أعضاء اللجنة، والوزير، ماذا تقصد بالقرآن منهجاً، هل ستخضع العلم للدين، وهذه ورطة للدين، فلا يجب مقابلة الدين بالعلم، إنما هناك أفكار وفلسفات، لا يجب أن تُطوع لهذا الشعار، الذي صاغه الإخوان المسلمون للتحايل على العلم والدّين نفسه، كذلك وضع هذا الشعار "القرآن منهجنا" لذر الرماد في العيون، كي يستر الخزي الطائفي في المناهج.

ما جُعلت هذه الكتب مناهج مفروضة على الجامعات، وفي تخصصات إنسانيّة، إلا لغاية مدمرة، يغلب على الظن لو كان مؤلفوها أحياء لقالوا ما قالوه الإمام مالك بن أنس(تـ: 179هـ) لخليفة عصره، وقد أراد جعل كتابه "المُوطأ" الوحيد مِن بين الكتب، ويعتمده في التعليم. قال مالك: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ"(ابن عبد البر، بيان العِلم وفضله).

المناهج المفروضة، جاءت مناصفة بين الصّدرين: محمد باقر الصّدر(قتل: 1980)، ومحمَّد محمَّد صادق الصَّدر(قُتل: 1999). فالميليشيا التي تملك الوزارة تتخذ مِنهما سنداً لوجودها، وعندما تُعليهما، إلى مستوى مناهج عليا، تقصد نفسها، لا تقصدهما، ولا الشعب العراقيّ، ولا يُستبعد أنَّ الوزير ، فرض وصادق، وقيل هو خريج الجامعة الإسلاميّة ببيروت، كي يُقدمها هدية لمالك الوزارة، فلا يعتقد رئيس الوزراء، أن له يد على هذه الوزارة أو غيرها.

-    المناهج في تخصصات العلوم الإسلاميّة:

من كتب محمد صادق الصّدر: "منة المنان للدفاع عن القرآن"، "فقه الأخلاق"، ما وراء الفقه"، الأسرة في الإسلام، الكائفية في نظر الإسلام.

مِن كتب محمد باقر الصّدر: دروس في علم الأصول، المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة.

-العلوم الإدارية ولاقتصادية، كتب محمد باقر الصّدر: اقتصادنا(كتاب منهجي للدراسات الأولى والعليا وأقسام الاقتصاد في مراحل الدكتوراه والماجستير). المدرسة الإسلامية أو الإنسان المعاصر.

- العلوم السياسية: كتاب محمد محمد صادق الصدر: الطائفية في نظر الإسلام.

تخصصات القانون: نظريات إسلاميّة في إعلان حقوق الإنسان، والأُسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.

-    تخصصات الآداب ومنها الفلسفة: المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة، كتاب فلسفتنا، وعلم الأصول لمحمد باقر الصّدر.

التربية للعلوم الإنسانيّة: كتاب الأسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.

قلتُ لا نظن، إنَّ عفة محمد باقر الصّدر، وعفوية محمد محمد صادق الصّدر، أنهما سيوافقان، على هذا المشروع، الذي يسلب من التعليم العالي مهمتها، فهذه الكتب ليست كتبت مناهج، ممكن تكون كتب ثقافة عامة، وقلنا: حتّى الحوزات الدينية لا تجعلها مصادر في مناهجها، الغرض على ما يبدو صفقة انتهازية، مِن قبل اللجنة والوزارة، لمالك الوزارة، وهو ضرب مِن ضروب أسلمة التعليم، وبشكل مشوه، ففئات وطوائف غير طائفة مالك الوزارة في حلٍّ منها. أقول: إلى أين أنتم ذاهبون بهذه البلاد المبتلية بكم وبشعبها المقهور بأوهامكم الدّينيّة الطائفيّة؟!

***

د. رشيد الخيّون

 

اقتداء بالإنجاز التاريخي الذي حققه الاتحاد الأوروبي بسن أول قانون شامل للذكاء الاصطناعي في العالم يوم الأربعاء 13 مارس 2024، أصبح من الضروري سن قوانين تنظيمية لهذه التكنولوجيا التحويلية الهامة للغاية في أنشطتنا وممارستنا اليومية الإنتاجية والاستهلاكية .

وإذا كان المغرب سباقا على المستويين العربي والإفريقي لتبنى الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية الاقتصادية والإنتاجية، فإن قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي يجب أن يشكل حافزا من أجل تدشين حوار حول إنشاء قانون تنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي لترشيد وعقلنة استخداماته .

إن قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي قد وضع منهجًا قائمًا على تحديد المخاطر، وصنف أنظمة الذكاء الاصطناعي بناءً على تأثيراتها المحتملة في المستقبل. ومن شأن هذا أن يوفر نموذجا قيماً يجب على المغرب أن يحذو جذوه ويأخذه بعين الاعتبار. وفيما يلي تفصيل للجوانب الرئيسية لقانون الاتحاد الأوروبي وصلتها المحتملة بالمغرب:

يصنف قانون الاتحاد الأوروبي الذكاء الاصطناعي إلى أربع فئات: المخاطر غير المقبولة (المحظورة)، والمخاطر العالية (متطلبات صارمة)، والمخاطر المتوسطة (تدابير التخفيف)، والحد الأدنى من المخاطر (قوانين خفيفة). ويمكن للمغرب أن يتبنى نظاما مماثلا أو أرقى منه ، مع تركيز جهوده التنظيمية على التطبيقات عالية المخاطر مثل التعرف على الوجوه أو خدمات المال والأعمال والرعاية الصحية.

كما أن قانون الاتحاد الأوروبي يدعم أنظمة الذكاء الاصطناعي الشفافة. ويتماشى هذا مع الحاجة إلى اتخاذ قرارات عادلة وخاضعة للمساءلة من خلال نماذج الذكاء الاصطناعي.

كما يؤكد قانون الاتحاد الأوروبي على الرقابة البشرية على الذكاء الاصطناعي عالي المخاطر. ويمكن للمغرب أن يقتدي بذلك من خلال إعطاء القوانين التنظيمية الأولوية للتطوير المسؤول ونشر الذكاء الاصطناعي مع الحوكمة البشرية.

من جهة أخرى تعد القوانين العامة لحماية البيانات (GDPR) للاتحاد الأوروبي إطارًا قويًا لحماية بيانات المواطنين حيث يمكن للمغرب، من خلال قانون حماية البيانات الخاص به، تحليل منهج القوانين العامة لحماية البيانات وتخزينها وموافقة المستخدمين في سياق الذكاء الاصطناعي على توظيفها للصالح العام . ويمكن أن يؤدي ذلك إلى دعم القوانين الحالية في المغرب لمواجهة التحديات الخاصة بالذكاء الاصطناعي.

لقد كشف قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي عن منهجً استباقيً لتنظيم ممارسات الذكاء الاصطناعي. وإذا كان اعتماد قانون الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر قد لا يكون مناسبا مع بيئتنا المغربية الخاصة، إلا أننا يمكن أن نستشف منه دروسا قيمة أهمها:

تحليل القوانين الحالية المتعلقة بحماية البيانات وحقوق المستهلك والمنافسة لتقييم مدى ملاءمتها في سياق الذكاء الاصطناعي.

يجب أن نضع في اعتبارنا عدة قوانين محددة للمجالات عالية المخاطر مثل المال والأعمال والرعاية الصحية والنقل ومحاربة الإرهاب. 

كما يجب تعزيز الاستثمار في البحث حول القوانين الأخلاقية للذكاء الاصطناعي وأفضل الممارسات المصممة خصيصًا لتلبية احتياجات المغرب.

أيضا تعزيز المناقشات المفتوحة حول تنظيم الذكاء الاصطناعي والتي تشمل المواطنين والشركات والأوساط الأكاديمية.

ومما لاشك فيه أن قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي يشكل فرصة هامة للغاية لبلادنا. وإذا كانت ستستفيد من إيجابيات الذكاء الاصطناعي، فإن اتباع منهج استباقي في التنظيم والترشيد بات أمرا ضروريا اليوم . ومن خلال التعلم من أفضل الممارسات الدولية، وإجراء تقييمات شاملة، وتعزيز التنمية المسؤولة، يمكن للمغرب ضمان أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة للتقدم في مسيرته التنموية، ورافعة للنمو الاقتصادي، والصالح الاجتماعي، والاعتبارات الأخلاقية.

لقد اقترحت بروكسل لأول مرة قوانين تنظيمية للذكاء الاصطناعي في عام 2019، لتلعب دورًا عالميًا في تشديد التدقيق في الصناعات الناشئة، فيما سعت بعض الحكومات الأخرى إلى مواكبة ذلك.

وفي الولايات المتحدة، وقع الرئيس جو بايدن أمرًا تنفيذيًا شاملاً بشأن الذكاء الاصطناعي في أكتوبر 2024، ومن المتوقع أن يكون مدعومًا بتشريعات واتفاقيات عالمية. وفي غضون ذلك، يعمل المشرعون في سبع ولايات أمريكية على الأقل على إعداد تشريعات خاصة بهم بشأن الذكاء الاصطناعي.

ومن جهته اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي من أجل الاستخدام العادل والآمن للذكاء الاصطناعي، وأصدرت سلطات بيكين " تدابير مؤقتة " لإدارة الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي ينطبق على النصوص والصور والصوت والفيديو والمحتويات الأخرى التي يتم إنشاؤها للأشخاص داخل الصين. .

وتتحرك دول أخرى، من البرازيل إلى اليابان، فضلا عن المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع، لوضع قوانين ملائمة لحماية للذكاء الاصطناعي.

***

عبده حقي

وما علاقة محمد مصطفى بذلك

لماذا تنبري حركة فتح للدفاع عن قرارات رئيس سلطة أوسلو محمود عباس المحسوب عليها، ضد انتقادات حماس لها، والذهاب إلى شيطنة الأخيرة دون اعتبار للتأييد الكاسح الذي تحظى به فلسطينياً.

والنتيجة أن حركة فتح التي خسرت قاعدة كبيرة من شعبيتها بسبب ارتباطها العضوي بسياسة السلطة منذ 31 عاماً، تتعرض الآن لحملة انتقادات واسعة عبر الفضاء الرقمي، بسبب هجومها على حركةٍ تتصدّى باقتدار لهجوم كاسح لا تصمد في وجهه دول بجيوشها الجرارة، وكأن اليد التي طرّتها السياسة الانهزامية، ستقاوم مخرز المقاومة القابضة على جمر التحرير.

وتتوالى الأسئلة العاصفة من وحي الردود القاسية على التصريح الفتحاوي الرسمي الذي اعتبره غالبية الفلسطينيين غير لائق:

أين هي مواقف فتح التي تهاجم حماس بشراسة، مِن احتلالِ ما لبث يمارسُ سياسةَ التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، ويسلب الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية التي زرعها المحتل الغاشم بالمستوطنات؟ فهل تكفي عبارة "إحمونا" التي أطلقها الرئيس عباس عبر الفضائيات، لردع الاحتلال وخاصة في الضفة الغربية! أم أن دعوته إلى المقاومة السلمية أدت الغرض المنشود! وقد اعتبر اتفاقية التنسيق الأمني مقدسة بينما المقاومة في نظره إرهاباً؛ هل أثمرت جهوده السلمية رغم ما قدم خلالها من تنازلات مذلة في تحريك العالم ضد أبشع احتلال عرفه التاريخ؟ ألم تعوض المقاومة النقص الذي أوجدته أوسلو؟

أين كانت حركةُ فتح بينما قطاع غزة محاصر، وقد أوشك على الاختناق.

ويعلم القاصي والداني بأنه لولا قدرة حماس الاستثنائية على إدارة الموارد المالية والفنية وتوظيف الدعم الشامل الذي حصلت عليه من محور المقاومة (إيران وحزب الله وأنصار الله) إلى جانب الدعم المالي والإعلامي القطري، لما نجحت في بناء قوتها الذاتية المتكاملة التي اعدتها من أجل تغيير معادلة المواجهة مع الاحتلال بحنكة واقتدار.

وذلك منذ فك الارتباط الأحادي الذي جاء بأوامر المجرم شارون عام 2005 حتى السابع من أكتوبر الماضي.

فأين هي حركة فتح التي تحررت من عبء خيار الكفاح المسلح والارتماء في أحضان أوسلو منذ سبتمبر 1993، مِنْ محتلٍ ما زال يبتلع أراضي الضفة الغربية دون رادع، وينتهك الأقصى من قبل قطعان المستوطنين تحت حماية القوى الأمنية الإسرائيلية، فيما يهاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي مدن الضفة الغربية ومخيماتها المستباحة، في الوقت الذي تنكل فيه سلطات السجون الإسرائيلية بالأسرى الفلسطينيين، وعلى رأسهم مروان البرغوثي الذي يمثل شرفاء فتح المتمسكين بالمقاومة.

إنها حركة فتح التي تطالب بحرمان حركة المقاومة حماس، من المشاركة في أية تفاهمات لرأب الصدع الفلسطيني الداخلي، كون الحركة التي يرفع العالم لها القبعات، هي المسؤولة عن عملية طوفان الأقصى المجيدة التي جلبت -وفق الرؤية الفتحاوية- النكبة لأهل غزة، مع أنه من الطبيعي أن يقدم الشعب الفلسطيني التضحيات في حرب ضروس تقودها المقاومة ضد الهجوم الإسرائيلي على غزة عقب ما حدث في السابع من أكتوبر؛ لارتباط ذلك بمحاولة فك الحصار عن غزة وتبييض سجون الاحتلال، كهدفين مباشرين، أما على المدى البعيد فرفع الطغيان عن الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتفعيل ملف القضية الفلسطينية دولياً لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني القانونية والتاريخية.

لقد تحقق النصر في أدنى درجاته بما في ذلك ما جرى من تحولات في المواقف العالمية بفعل الضغوط الشعبية وخاصة في الدول الغربية، لصالح القضية الفلسطينية.

وكان من الممكن إرضاخ "إسرائيل" لمطالب حماس بعد أن انكسر جيشها نسبياً وتكبدت خسائر لا تطاق، لولا تلقيها النجدة الطارئة من قبل حلفائها ومن بينهم بعض المتواطئين من العرب والفلسطينيين.

ورغم الضغوطات التي تتعرض لها المقاومة فما زالت تعيد بناء السردية الفلسطينية لتتواءم مع مستقبل يليق بالشعب الفلسطيني الذي أهمله العالم لولا معجزة طوفان الأقصى، التي قلبت الطاولة على رأس الاحتلال حيث فشل في تحقيق أهدافه في غزة ومنها: اجتثاث حماس وتهجير الفلسطينيين وتحرير أسراه لدى القسام، وتنفيذ مؤامرة روابط القرى التي أفشلها بيان العشائر حيث أدرج كل من يشارك فيها في قائمة الخونة.

وبناء على ما تقدم، أليس من حق حماس كحركة مقاومة مجمع عليها أن تنتقد تعيين رئيس وزراء فلسطينيّ جديد من قبل رئيسٍ السلطة، عباس (الفاقد لشرعيته) وذلك قبل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية؟

فوفقاً للمادة (34) من النظام الأساسي.فإن مدة رئاسة محمود عباس امتدت بسبب الظروف الطارئة التي اجتاحت الساحة الفلسطينية، لأربع سنوات اخرى بحيث تنتهي في 15 يناير 2013، ولا يمكن تجديد ولايته لأكثر من دورتين، أي أن فترة رئاسته من عام 2013 وحتى تاريخه، غير شرعية، وبالتالي فإن عباس يتصرف بلا شرعية وبلا صلاحيات دستورية، ولا يجد سنداً له في القانون الأساسي، ولكن وجوده يخضع لضرورة إسرائيلية من أجل تسيير شؤون السلطة وهو ما ساعد شق الصف الفلسطيني، ورغم ذلك ظلت حماس تتعامل مع عباس كرئيس شرعي بحنكة.

وهذا يفسر لماذا انتقدت حماس مساء الجمعة الماضية بشدة قرار رئيس السلطة الفسطينية محمود عباس في تعيين محمد مصطفى رئيساً للوزراء. من خلال بيان قالت فيه إن "تعيين حكومة بدون توافق وطني هو خطوة فارغة -بالتأكيد- من المضمون وتعمق الانقسام" بين الفلسطينيين. لكن حركة فتح ردت على انتقادات حماس على الفور بإصدار بيان اتهمت فيه حماس بالتسبب بـ"نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة العام 1948"، متهمة إياها بأنها "تفاوض الآن إسرائيل وتقدم لها التنازلات تلو التنازلات ولا هدف لها سوى أن تتلقى قياداتها ضمانات لأمنها الشخصي".

وهذا هراء واستخفاف بالدم الفلسطيني ويدل على إفلاسِ حركةِ فتحِ السياسيِّ -إلا من رحم ربي من شرفائها وهم كثر- فكيف بحركة نضالية كبرى تتحول إلى بوق لسلطة أوسلو التي قصرت بحق شعبها، واضعة نفسها في موقف حرج أمام الشعب الفلسطيني الذي ما فتئ يدافع عن مقاومته المظفرة، فيما لا يلمس من السلطة إلا الخذلان.

فلا تجد المقاومة من يساندها في الميدان إلا إخوة لها في اليمن وجنوب لبنان والعراق وقطر وشعوب العالم الحر.. فالشمس لا تغطى بغربال، ولا توجد حرية بلا تضحيات.

***

بقلم بكر السباتين

17 مارس 2024

 

العام الأخير من ولاية بايدن قبل انتخابات نوفمبر القادم شهد أحداثاً خطيرة..

أخطرها ما حدث في غزة على مدار أكثر من خمسة أشهر. وخلال تلك الشهور رأينا مشاهد تبدو درامية وغريبة ! إننا لم نرَ الولايات المتحدة الأمريكية بمثل هذا الضعف والتراخي من قبل. لن أتساءل عن أسباب يعلمها القاصي والداني. كما لن أفسر تلك المشاهد فأقفز إلى استنتاج سبق وتحدثت عنه في مقالات سابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد بنفس قوتها السابقة وأنها فى مرحلة أفول..

فقط سوف أستعرض تلك المشاهد معتمداً على ذكاء القارئ في استنباط ما يشاء من استنتاجات.

تمرد تكساس

لا يمكننا فهم ما حدث في ولاية تكساس من تهديد بالانفصال والاستقلال في أعقاب قرار المحكمة بهدم السور الفاصل بينها وبين المكسيك. والذي تسبب في أزمة بين حاكم تكساس وبين البيت الأبيض، بمنأي عما تمت تسميته بالحركة الترامبية، أو بمنأي عن فهم طبيعة الحياة السياسية في الداخل الأمريكي..

تهديد تكساس الأخير لم يكن الوحيد، بل حدث مراراً في تاريخها السابق. وهي تفعل هذا لعدة أسباب: منها أنها مثل جميع الولايات تتمتع باستقلالية القرار في ظل حكومة فيدرالية لامركزية. وطوال عمرها وهي تقبع في كنف الحزب الجمهوري. أي أن ثورتها تأتي دائماً كرد فعل ضد أي قرار خاطئ يتخذه رئيس ينتمي للحزب الديمقراطي.

السبب الأهم في تمرد حاكم تكساس شعوره بقوته التي تجعله بالقعل قادر على تنفيذ تهديده. فولايته هي من أكبر الولايات الأمريكية من حيث المساحة والقوة البشرية والعسكرية والاقتصادية. ومواردها هي الأكبر وبخاصة البترول. ثم إنه يتمتع بدعم الولايات الجمهورية الأخرى وقد يصل عددها إلى نصف الولايات الأمريكية.

ماذا عن الحركة الترامبية التي ظهر تأثيرها المرعب عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة؟ تلك الحركة التي وصل نفوذها وعنفوانها لدرجة اقتحام مبني الكونجرس وتهديد أعضائه. تلك الحركة التي تستعد لمناصرة الحزب الجمهوري ودعمه في انتخابات قادمة تشهد أكبر انقسام مجتمعي حاد في تاريخ أمريكا بما يشي بصعوبة هذه الانتخابات..

اختفاء بايدن

رأينا الخطاب الغريب للرئيس بايدن والذي بدا فيه مهتزاً عديم التركيز بما جعله ينطق بعبارات تنم عن ضعف ذاكرته وعدم أهليته لقيادة دولة بحجم أمريكا. وهو خطاب جاء بعد عدة مواقف سابقة له وهو يسقط أو يتلجلج أو يبدو تائهاً. كثرت المواقف من هذا النوع أمام كاميرات التقطتها وبثتها في كل العالم، لتصبح سمعة البيت الأبيض نفسها مهددة بما يسيئها. وهنا اختفي بايدن!

لم نعد نري بايدن إلا نادراً. وبدلاً منه ظهرت نائبته "كامالا هاريس" في مشهد عجيب قد يشير لتوليها أمر قرارات مصيرية نافذة. بدا هذا في خطابها الذي وجهته لإسرائيل تدعوها للاستجابة للدعاوي التي تنادي بتغيير منهجها الدموي في حربها مع غزة والاتجاه نحو دعاوى الهدنة والوصول لحل جذري للقضية الفلسطينية بدلاً من الصلف والعناد الذي يتخذه نتنياهو. وجاء الخطاب متزامناً مع لقاء أجرته كامالا مع بعض وزراء حكومة نتنياهو بشكل غير رسمي أغضب الأخير ووتر العلاقة بينه وبين البيت الأبيض.

الغريب في الأمر أن خطاب هاريس بدا حاسماً كأنه صادر من الرئيس الأمريكي ذاته. فهل ستصبح كامالا هي مرشحة الحزب الديمقراطي القادمة لرئاسة أمريكا؟!

عودة ترامب

على الناحية الأخرى شاهدنا عودة ظهور اسم ترامب مرة أخري على ساحة المرشحين للرئاسة. يحدث هذا برغم كل القضايا والاتهامات والأحكام التي صدرت ضده، ومنها أحكام تطعن في أهليته للحكم. فهل تفلح محاولات إبعاده عن المشهد أم يفلح هو في فرض قراره بمعاونة مناصريه من المنتمين للحزب الجمهوري في الشارع الأمريكي ودوائر القرار؟!

مهما كان الاتجاه فإن مجرد عودة ظهور ترامب يمثل خطورة في الشارع الأمريكي الذي يشهد بالفعل حالة من الانقسام والتشرذم والاحتقان لأسباب كثيرة أهمها غلاء الأسعار وارتفاع نسب البطالة وانحدار مؤشرات الاقتصاد الأمريكي في ظل حربين تخوضهما أمريكا بالنيابة إحداهما في أوكرانيا والأخري في غزة. وتلك الحرب الأخيرة تسببت في توسيع الفجوة بين الشارع الأمريكي وبين إدارتها داخل أروقة البيت الأبيض. وهو الانقسام الذي ينذر بحدوث الأسوأ في الانتخابات القادمة قرب نهاية هذا العام.

مظاهرات نيويورك

منذ مظاهرات الوول ستريت التي حدثت في أمريكا منذ نحو عشر سنوات مضت وملأت شوارعها لم تشهد أمريكا مظاهرات بهذا الحجم الكبير كما حدث في ميادين أمريكا الكبرى اعتراضاً على مجازر إسرائيل في غزة، وعلى القرارات الكارثية التي تتخذها إدارة بايدن لتأجيج الوضع هناك والتي أدت لما نشاهده اليوم من تفاقم الوضع الإنساني هناك، دون أن يحدث أي حسم لهذه الحرب.

أمريكا أصرت على دعم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ووقفت أمام العالم كله شاهرة الفيتو في وجه كل الدول التي نادت بالوقف الكامل والفوري لإطلاق النار! والواضح أن الإدارة الأمريكية لم تعد تعبأ بكل هذا الغضب الذي يبديه الشارع الأمريكي تجاه ظلمها وعنجهيتها. ربما تفتر المظاهرات غداً أو بعد غد، وربما تقل حماسة الجمهور الأمريكي المعترض على سياسات إدارتها، لكن ستبقي النار كامنة تحت الرماد تنتظر هبة ريح تعيد إشعالها من جديد.

والأكيد أن مثل هذا الغضب له تأثير ضخم ممتد، بدليل مشهد انتحار أحد طياري أمريكا حرقاً!

اعتراض الجنود

المشهد العجيب الذي حدث أمام الكاميرات، والذي أحرق فيه أحد الطيارين الأمريكيين نفسه اعتراضاً على حرب غزة ورفضه للمشاركة في مجازر الحرب. ثم هتافه لفلسطين كآخر كلمة يصرخ بها وهو يشتعل. مثل هذا المشهد يعيد للأذهان مشهد اعتراض الجنود الأمريكيين بعد سنوات من معاناتهم أثناء حرب فيتنام.

حاملة الطائرات التي أرسلتها أمريكا للمشاركة في حرب غزة فور بدئها انسحبت، واستبدلتها الإدارة بفكرة ميناء عائم لجلب المساعدات، أو ربما لتأمين مخططات ما بعد الحرب. إلا أن هناك اعتراض لدي فريق من الجنود داخل الجيش الأمريكي ضد المشاركة في حرب الإبادة والتجويع في غزة. وهو ما بدا من ردة الفعل التالية لمشهد الطيار المنتحر؛ حيث تلاه مشهد آخر لعدد من الضباط والجنود يحرقون ملابسهم العسكرية تعاطفاً مع زميلهم المنتحر.

أمام هذا التمرد الذي فضحته الكاميرات، لا يمكن للبنتاجون أن يقف متفرجاً دون أن يكون له موقف في بلد بات يعاني انقساماً مجتمعياً خطيراً قبيل انتخابات يبدو أنها الأهم والأخطر في تاريخ أمريكا.

تهديدات الحوثي

الملاحة في مضيق باب المندب مهددة. سفن كثيرة تعرضت للقصف والأسر. لدرجة أن سفينة بريطانية غرقت بالفعل، وسفينة أخرى سقط فيها قتلي نتيجة القصف العنيف. ثم ارتفع حجم التهديد باستهداف بعض كابلات الإنترنت. الأمر الذي جعل خطر الحوثي يستفحل ويهدد المصالح الأمريكية بمنطقة البحر الأحمر. لكن أمريكا ومعها بريطانيا لم تردا بالشكل الكافي بما يردع مناوشات وتهديدات الحوثي، والسبب أنها تخشي اتساع نطاق الحرب في الوقت الذي ترزح فيه أمريكا لضغوط هائلة من روسيا والصين ومن الداخل الأمريكي المنقسم على ذاته قبيل الانتخابات ومن الوضع الاقتصادي الذي يسوء أكثر يوماً بعد يوم.

وبغض النظر عما ستسفر عنه المواجهة بين الحوثي وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين من جهة أخري، فإن المحصلة أن الولايات المتحدة تبدو أضعف وأقل قدرة على الردع أمام أعدائها الأهم والأقدم: روسيا والصين.

كل تلك المشاهد الدرامية وغيرها لها دلالة. وخاصة أنها تأتي متتابعة متسارعة وكأنها تمهد لمشاهد قادمة قد تكون أكثر إدهاشاً وغرابة!

***

عبد السلام فاروق

ثلاث عناصر أساسية تقوم عليها عملية التنمية، أولها - الثقافة؛ وثانيها - السلام؛ وثالثها - العدالة؛ وهذه العناصر مترابطة عضويًا، حتى وإن كانت منفصلة ولكلّ منها حقله.

فالثقافة ركيزة أساسية للتنمية، وهي مصدر كلّ تنوّع وينبوع كلّ ازدهار، وهي صمّام أمان لنجاح التنمية، والانتقال من التخلّف إلى التقدّم، لأنها تمثّل روح التنمية.

أما السلام فهو الحاضنة التي تزدهر فيها عملية التنمية، ولا تنمية دون سلام، لأن الحروب والنزاعات المسلّحة تحول دون إنجاز مشاريع التنمية، وبالتالي تضع عقبات وعراقيل كبيرة أمامها.

وهدف التنمية هو العدالة وتحسين حياة الناس، فلا تنمية حقيقية دون عدالة اجتماعية بحدّها الأدنى، والمقصود بذلك توفير مستلزمات حياة حرّة كريمة وعمل مناسب، والاستثمار في التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي، فضلًا عن تأمين المتطلّبات الأولية للحياة الروحية للناس بتوسيع خياراتهم.

وهناك أربعة أبعاد للتنمية؛ أولها - الاقتصادي؛ وثانيها - الاجتماعي؛ وثالثها - الثقافي؛ ورابعها - البيئي؛ وهذه الأبعاد جميعها ترتبط ارتباطًا عضويًا بالسلام، فكلما ازدهرت ثقافة السلام انخفضت ثقافة الحرب.

وحسب الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونو، أن أحد أسباب تطوّر اليابان، هو امتلاكها ثقافة مناسبة، وادّخارها واستثمارها في التعليم، وكانت الكونفوشيوسية خلفية فكرية لتنمية اليابان، مثلما كانت التاوية والبوذية مصدرًا ملهمًا لتنمية الصين الجديدة وسنغافورة وكوريا، وساهمت اللوثرية في نجاح دول اسكندنافيا في عملية التنمية.

ويمكن للثقافة العربية - الإسلامية أن تكون مرجعًا مهمًا لعملية التنمية في البلدان العربية، إذا ما توفّرت مستلزمات الإرادة السياسية والإدارة الناجحة والرشيدة والمساءلة والشفافية، وذلك بقراءة انفتاحية على المستقبل بعيدًا عن القراءة الماضوية الانغلاقية.

مفهومان للتنمية، أحدهما ضيّق، والمقصود به النمو الاقتصادي، والآخر واسع، والمقصود به التنمية الإنسانية، التي تقوم على المساواة وعدم التمييز والحريّة والعدالة، وتحسين حياة الناس، وذلك أساس للشرعية السياسية، التي لا بدّ أن تستند إلى المشروعية القانونية، والمقصود "حكم القانون"، وحسب مونتيسكيو القانون ينبغي أن يطبّق على الحاكم والمحكوم، فهو مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحدا.

وكانت مؤسسة البابطين الثقافية (الكويت)، قد نظّمت مؤتمرها العالمي الثالث في القاهرة تحت عنوان "المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل"، وناقش في جزء منه مشكلات الدولة الوطنية فيما يتعلّق بالتنمية والسلام العادل، فإضافة إلى التحديات الخارجية، ولاسيّما محاولات فرض الهيمنة والاستتباع ومشاكل العولمة والذكاء الاصطناعي والتنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فثمة تحديات داخلية، أساسها الدولة الريعية، واتّساع الهوّة بين الحكام والمحكومين وضعف البنية المؤسسية واختلال مفهوم المواطنة، وصعود ما دونه إلى ما فوقه، لاسيّما تفشي الطائفية والعشائرية والجهوية وعموم الهويّات الفرعية، خصوصًا حين يتم تجاهلها، وعدم حل مشكلة المجموعات الثقافية، فضلًا عن قلة مشاركة المرأة في الحياة العامة، وتضخّم الجهاز البيروقراطي.

وكان إعلان الحق في التنمية (1986)، قد ركّز على عدد من الحقوق الأساسية الفردية والجماعية غير القابلة للتجزئة، والتي أساسها الإنسان وارتباطها بتكافؤ الفرص وعملية السلام واحترام مبادئ القانون.

ولبناء تنمية مستدامة لا بدّ من الترابط بينها وبين الثقافة والسلام والعدالة، وهذه جميعها تتعزّز بالتراكم والتفاعل والتداخل، وتلك جدلية تمتدّ من التراث إلى الحداثة، فثمة علاقة بين الأصالة والمعاصرة، مثلما هناك علاقة بين الأنا والآخر، ونحن والغرب، وهو ما يحتاج إلى مشروع نهضوي حضاري عربي بالتعاون والتنسيق والتكامل بين البلدان العربية، علمًا بأن اللغة العربية هي التي يمكن أن تجعل التكامل ممكنًا، في ظلّ تاريخ وثقافة مشتركة ومصالح ومنافع آنية ومستقبلية جامعة، وثمة لحظة وعي جديد لابدّ من التقاطها اعتمادًا على كلّ ما قام به نهضويو القرن التاسع عشر، واستنادًا إلى تطوّر المجتمع البشري، وكلّ ما أنجزه على هذا الصعيد.

وإذا كان اختيار "السلام العادل" طريقًا للتنمية، فقد كان ذلك جوهر رسالة عبد العزيز سعود البابطين، الذي عمل على الإعداد لهذا المؤتمر، لكنه رحل قبل أن تتكحّل عينه بتحقيقه، وترك لنا تراثًا غنيًا على هذا الصعيد، وهو ما بلوره كحصيلة لتجربته في كتابه "تأملات من أجل سلام عادل"، بتحديد 7 أسس لتحقيقه، الأول - الاحترام والصدق بحيث يصبح السلام صيغة تعليمية فاعلة تُربى عليها الأجيال، الثاني - السلام العادل ضرورة، لأن المجتمعات الإنسانية بطبيعتها لا تستمرّ إلّا بالتواصل فيما بينها ماديًا وقيميًا، والثالث - السلام العادل إجماع، بمعنى التمييز بين التوافق السياسي وبين الاجماع الاجتماعي، فالأول لا يدوم، في حين أن الثاني يقوم على القيم، وهي لا تختلف حولها الإنسانية، والرابع - السلام العادل حاجة تاريخية، بمعنى نقل السلام من مستوى الصورة إلى مستوى الواقع الفعلي، بحيث يكون حاجة تاريخية ملحّة، والخامس - السلام العادل مسار متواصل، أي أنه غير مكتمل، فالإنسانية هي مشروع يظلّ أبد الدهر يكتمل لبنة لبنة؛ والسادس -  السلام العادل ثقافة، وذلك بجعلها شكلًا معيشًا ومتاحًا وممكنًا؛ والسابع - السلام العادل تربية وتعليم، أي الاهتمام بثقافة السلام من الحضانة وحتى الجامعة وفي الحياة أيضًا.

وتلك هي صرخة البابطين القلبية الموجهة للبشرية جمعاء قصد اعتناق السلام كقيمة عليا، كما عبّر عن ذلك مايكل فريندو، وزير خارجية مالطا الأسبق، وأضاف أن "العالم بلا سلام هو عالم مظلم"، وتلك رسالة عالمية دعا إليها المهاتما غاندي لاعتماد المقاومة السلمية اللّاعنفية.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

تشهد المجتمعات الأوربية ظاهرة غريبة وفريدة في تأريخها. وهو كثرة الكلاب البوليسية وأعني هنا ليست الكلاب، الحيوانات التي تتميز بحا سة الشم، ولكن أعني الكلاب البشرية، التي ازداد عددها بشكل أصبح يستفز المواطن الأوربي ويشعره بما يزعجه ويكدر حياته، الكثير من هذه الكلاب هم من الأجانب، الذين وجدوا أنّ الشركات، التي تتولى شؤون الأمن والحراسة، توفر لهم عملا دائما ودخلا مغريا، في حين تستشري البطالة وتشحّ فرص العمل. وهذه الشركات، التي فاقت مواردها موارد الشركات الاخرى المنتجة للسلع، التي اصبحت من ضروريات الحياة، تفضل الأجانب لسبب بسيط وهو أنّ الأجانب كلاب طائعة حتى النخاع، وهذا النوع من الكلاب له حاسة شمّ قوية لما هو أجنبي ويهجم عليه بلا رحمة، بل وحتى يهجم بكل شراسة على ابن البلد، طالما أنّ تعليمات الشركة تسمح له بذلك. وويل لمن يعترض أو يدافع عن حقه، فقد يصل الأمر أن يطرح َ أرضا.

وأن يضرب ويرفس بكل وحشية بحجة أنه قاوم، وهو لم يقاوم جسديا بل اعترض كلاميا والإعتراض هنا يعتبر خرقا للنظام. الذي يصف نفسه أنه ديمقراطي تساءلت كثيرا هل من المعقول أن تتحقق الديمقراطية في أجواء الرعب النفسي وبثّ الخوف؟.

الأنظمة الديمقراطية الحقيقية تضع قانونا مقبولا من الجميع وتطبقه بدون اللجوء الى إرهاب المجتمع بجيوش الكلاب البوليسية.

كثرة شركات الأمن والحراسة في ألمانيا ومعظم العاملين فيها من الأجانب، ذكرني بانتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة، والتي اربكت المحتل وكلفته الكثير من الضحايا، فلجأ الى أسلوب خبيث بأن سلط على أبناءانتفاضة الحجارة إناسا من جلدتهم فلسطينيين تحت مظلة (السلام الكاذب)، وهذه الظاهرة ليست حصرا على المانيا، بل هي منتشرة في معظم البلدان الأوربية.

تسليط الأجنبي على الأجنبي سلاح ذو حدين، استفادت منه اسرائيل في قهر الفلسطينيين من خلال الفلسطينيين الكلاب البوليسية كثيرة ومنتشرة في كلّ مكان، ولكنّ أخطرها، تلك التي تعمل تحت مظلة (الثقافة)، والتي تستهدف المثقف العربي الحقيقي. وهي تقف جنبا إلى جنب مع المؤسسات التي تقمع المثقف الأوربي الحقيقي،

كثرة الكلاب البوليسية في المجتمعات تدلّ على أن أنظمتها تعاني من خلل، وهو قصورها ولا مبالاتها في تحقيق العدالة الإجتماعية وضمان الحرية الحقيقية للجميع، واستئثارها بمنافعها حتى ولو أدى ذلك لشن أو دعم لحروب تنتهي بإبادة شعوب، وخير دليل على ذلك ما يحدث في غزة هذه الأيام من قتل وترويع وتجويع لأبرياء من أطفال ونساء ومسنين تحت مرأى ومسمع من العالم.

غزة ستبقى جرحا عميقا في ضمير الإنسانية إلى أبد الآبدين، واللعنة ستلاحق كل من اشترك في إبادة شعبها أو غضّ البصر وأغلق السمع لما يجري فيها من فضائع.

يا من تعتقدون أنكم نلتم السلامة بخذلانكم غزة، ستحصدون الندامة، لقد ظلمتم أنفسكم: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)

***

جميل حسين الساعدي

يربط أغلب الخبراء بين القرار المفاجئ، الذي اتخذته نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند (عبقرية أوكرانيا الشريرة) بالاستقالة، بالتغيرات التي طرأت على توجهات البيت الأبيض في التعامل مع القضية الأوكرانية، وهذا هو الحال بشكل عام، ومن المؤكد أن الخروج من فريق بايدن، الذي ربما يكون أكبر "الصقور" وجماعة الضغط من أجل خلق "استقلال" مناهض لروسيا، سيؤثر بالتأكيد على مصير نظام كييف في المستقبل.

ووفقاً لوسائل الإعلام الأوكرانية، فإن نولاند هي العرابة والمهندس والمصمم الفعلي للسياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا لأكثر من 10 سنوات، وبشكل عام، كانت واحدة من أهم الأشخاص الذين صاغوا سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، وحقيقة استقالتها الآن كما تقول صحيفة سترانا الأوكرانية تشير إلى حد كبير من وجهة نظر الطريق المسدود الذي وصلت إليه هذه السياسة خلال السنوات العشر الماضية.

الدبلوماسية الروسية ماريا زاخاروفا في قناتها على تلغرام علقت على هذا الخبر بالقول "لن يخبروك بالسبب، لكن الأمر بسيط: هو فشل المسار المناهض لروسيا في إدارة بايدن، وإن رهاب روسيا، الذي اقترحته فيكتوريا نولاند باعتباره المفهوم الرئيسي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، يجر الديمقراطيين إلى القاع مثل الحجر، "مهما كان الأمر، فهو لا يسمح لي بالابتعاد عنه"، لكن أوكرانيا، على الرغم من كونها المفضلة، لم تكن الموضوع الوحيد الذي أشرفت عليه بابا فيكا، ولم تكن أقل اهتمامًا بالعمل مع ما يسمى بالمعارضة الروسية، والتي تمثل إلى حد كبير مجموعة من "الخونة" الصريحين المستعدين "مقابل ثمن بسيط"، لتنفيذ أي أمر من أنصار العولمة لتدمير روسيا، فقبل أيام قليلة من استقالتها "الطوعية، أصبحت نولاند بطلة فضيحة مع تسريب مفاوضات داخلية في البيت الأبيض، تتعلق على وجه التحديد بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه هذا الجمهور، وكما ذكرت بوابة كلير ستوري الإخبارية، فقد تم تسريب تسجيل لمحادثة هاتفية بين نولاند وزميلها مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية جيمس أوبراين عبر الإنترنت.

وكان جوهر محادثتهما هو أن واشنطن، في محاولتها لزعزعة الوضع في روسيا، ومنع حسن سير الانتخابات الرئاسية في الاتحاد الروسي، قررت التخلي عن رهانها على المعارض الروسي والمليونير ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان شخصية مركزية في الاتحاد الروسي لسنوات عديدة، مدرجة في قائمة الإرهابيين والمتطرفين من قبل وزارة العدل في الاتحاد الروسي، والتحول بالكامل إلى الإرهابي والمتطرف ليونيد فولكوف، وهو شخصية بارزة في مؤسسة مكافحة الفساد (FBK) المحظورة في روسيا، وشريك مقرب من الإرهابي والمتطرف المتوفى أليكسي نافالني، والذي تم الاعتراف به خلال حياته كعميل أجنبي.

ووفقاً للخبراء، فإن مثل هذه المحادثة بين نولاند وأوبراين، تؤكد على القرار الاستراتيجي بتوفير الدعم والموارد لـ FBK و"تعزيز الدور الحاسم للمنظمة في مواجهة السلطة الشرعية في روسيا"، ويبدو أن تغيير مواضع الألفاظ لا يغير المجموع، وليس من المهم جدًا من يفوز في النهاية باختيار دور المهرج الرئيسي من القيمين الأمريكيين (تحدث فيكتور بيليفين بشكل ملون عن حتمية مثل هذا الاحتمال في روايته Empire V) لأنه في الواقع، فإن المسار نحو تهيئة الظروف في روسيا من أجل النجاح في تنظيم الميدان ستبقى كما هي.

ولكن تبين أن كل شيء أكثر إثارة للاهتمام، ومن المعروف للجميع أن خودوركوفسكي عندما كان رجل أعمال،، (مالك شركة النفط يوكوس)، لم يتردد في ارتكاب جرائم جنائية صريحة، حتى أنه أمر بالتصفية الجسدية للمنافسين، ولكن، من ناحية، كان قد قضى بالفعل وقتًا لذلك، ومن ناحية أخرى، يبدو أنه لم يتم ملاحظته أبدًا لأي شيء مماثل بعد ذلك، وفولكوف، كما هو شائع هذه الأيام بين الخونة الليبراليين، هو شيء آخر.

والحقيقة هي أنه منذ بعض الوقت ظهرت قصة على بوابة ميامي كرونيكل حول تحقيق أجراه الصحفي الفرنسي أدريان بوكيه، بناءً على شهادة العديد من اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا، وعلى وجه الخصوص، قصة كاتارينا كوزاك، التي روت كيف وقعت في عبودية منظمة إجرامية متورطة في الاتجار بالبشر، منظمة يرأسها نفس ليونيد فولكوف، كما كتبت بوكي، فإن قصة كاتارينا كوزاك تشبه سيناريو فيلم رعب جهنمي "... لاجئة يائسة فرت من ساحات القتال الدموية في أوكرانيا، لجأت إلى أوروبا، لكنها وجدت نفسها في كابوس من الاستغلال. "

وتبدأ قصتها ببراءة كافية، مع بصيص من الأمل تقدمه مجموعة على تطبيق واتساب، يفترض أنها توفر شريان الحياة للاجئين الأوكرانيين، ولم يكن لديها أي فكرة أن هذا كان مخبأ الأفعى، الذي نظمه فولكوف نفسه، وتحت ستار العمل الخيري، لوح بوعود النقل والمأوى والعمل، واستدرج الضحايا المطمئنين مثل كوزاك إلى شبكته الشريرة، يقول المنشور: "بعد إغراء الوهم والنفوذ السياسي لفولكوف، ابتلع كوزاك الطعم، فقط لتجد نفسها منجذبة إلى كابوس يقظ"، لكن بالطبع لم يكن هناك صدى في وسائل الإعلام الغربية، وفي أوروبا اليوم، أصبحت الحقائق المزعجة محظورة منعا باتا، ومع ذلك، فإن هذه القصة تعطينا وصفا ممتازا للطبيعة الإجرامية لفولكوف نفسه - رجل بلا مبادئ وضمير وأخلاق وشرف، وهذا هو ما ستعتمد عليه الولايات المتحدة من الآن فصاعدا.

ولكن إذا كان الاعتقاد أن هذه هي نهاية سباق من تصفهم روسيا " بالصراصير" الذي يقوم به "المعارضون" الروس لجذب انتباه واشنطن، فأننا مخطئون، فاليوم، وبعد وفاة نافالني، فإنهم على قدم وساق، من الآن فصاعدا، "أرملته " يوليا، التي لم تكن قادرة على احتواء ابتسامتها خلال كلمتها في مؤتمر ميونيخ للأمن، مخصصة لذكرى الزوج الراحل، ومع ذلك، فإن فرصها ضئيلة، وكما قال رئيس جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد الروسي، سيرغي ناريشكين، مؤخرًا، فإن الحد الأقصى الذي يمكن أن يدعيه نافالنايا هو الانضمام إلى "نادي المحتالين"، حيث زعيم المعارضة الفنزويلية السابق خوان غوايدو والمرشحة الرئاسية السابقة لبيلاروسيا سفيتلانا تيخانوفسكايا الذين ينتظرونها بفارغ الصبر.

إن رحيل نولاند سببه تناقضات داخل فريق الرئيس بايدن، علاوة على ذلك، تعد علامة جيدة بالنسبة لروسيا، وإن نولاند هي "صقر" أصرت على دعم نظام كييف حتى النهاية،  وليست حقيقة أن بايدن سينجو من هذا اليوم، ومن هنا يأتي قرار الموظفين هذا، الذي يوحي بأن بايدن سيتخلص من «الصقور» الأكثر عنادا، وانها اضطرت إلى الاستقالة بسبب خلافات جذرية مع سياسات البيت الأبيض، وان هذا لم يكن قرارا طوعيا من جانب نولاند، وإنها لم تعد تتماشى مع السياسات التي ينتهجها الرئيس ووزيرة الخارجية، ووفقا للخبراء، فإن خطاب نولاند لا يتوافق مع احتياجات واشنطن حيث تجري إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجري حاليا "تدقيقا للواقع" قبل الانتخابات الرئاسية في علاقاتها مع روسيا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

تمثال الحريّة - الموجود في جزيرة الحريّة بمدخل ميناء مدينة نيويورك (يورك الجديدة) - الذي صمّمه المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي، عمل فنّي قدّمه الشعب الفرنسي هديّة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول عام 1886 م كتذكار لتوثيق الصداقة بين البلدين بمناسبة الذكرى المئويّة للثورة الأمريكيّة (1775 – 1783). والغريب في الأمر، أنّ هذا التمثال الفرنسي المولد والأمريكي المنشأ، الذي رُحّل وشُحن عبر سفينة إلى مدينة نيويوك يوم 17 يونيو / حزيران عام 1885م، وافتتحه الرئيس الأمريكي غروفر كليفلاند يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول 1886 م، قد عبّر من خلال ملامحه الخارجيّة عن التحرّر من العبوديّة والقهر واستبداد الحكّام. كما جسّد سيّدة بالروب الروماني الأخضر، وهي تمسك شعلة الحريّة بيدها اليمنى، وكتابا بيدها اليسرى نُقش عليه بأحرف لاتينية (رابع يوليو 1776 م) تاريخ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكيّة، بينما تضع على رأسها تاجا يرمز إلى البحار السبعة أو القارات السبع في العالم. وقد نصبت دول غربية على منواله تماثيل للحريّة من نسل التمثال الأم في نيويورك، من بينها: فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا واليابان وغيرها. ألا ما أغرب فلسفة الغرب، وما أغبى ساسته وعساكره. لقد صدق قاشد ملحمة ديان بيان فو، الجنرال الفيتناميي جياب، حين وصف الاستعمار (الاستدمار) بأنّه (تلميذ غبيّ).  هل كان المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي الذي صمّم تمثال الحريّة، يدرك أنّ عمله الفنّي – الذي رمز به إلى (الحريّة تضيء العالم) – سيفقد معناه بمرور الزمن، في بلد تمارس الظلم والاضطهاد وتفرض سياستها بقوّة الحديد والنار على الشعوب المستضعفة، وتعطّل بحق (الفيتو) قرارات مجلس الأمن لوقف الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة أمام أعين العالم، وتسفّه أحكام محكمة العدل الدوليّة، التي أدانت تلك الجرائم البشعة في قطاعي غزّة والضفة الغربيّة ؟ هل كان السيّد المهندس الفرنسي، على علم بأنّ نصب تمثاله كان في المكان الخطأ كما كان في الزمان الخطأ ؟ ماذا سيكون موقفه وردّ فعله وهو يشاهد تحفته الفنيّة في قبضة دولة مارقة، بينها وبين الحريّة بضع سنين ضوئيّة ؟ إنّ الحريّة لا تُخلّد في ألفاظ بديعة وعبارات رومانسيّة وتماثيل من رخام أو مرمر أو فضّة أو ذهب، تُوهَب لشعب دون آخر أو أمّة دون أمّة أخرى، بل هي حقّ فطريّ وإنسانيّ. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).

لقد أهدت فرنسا الاستعماريّة تمثال الحريّة في الوقت الذي كانت فيه قواتها المتوحّشة تبيد الشعب الجزائري في عقر داره، وترتكب أبشع الجرائم في الجزائر، وتدكّ مدافعها مئات القرى الآهلة بالسكان، ولم ينج من وحشيتها الحيوان والشجرو الحجر. أجل، لقد كانت فرنسا الاستعماريّة تعلم أنّ (الولايات المتحدة الأمريكيّة)، قامت على دماء الهنود الحمر والعبوديّة والتمييز العنصري ضد الأفارقة المهجّرين في سفن العبيد عنوة وقهرا.

و ها هو التاريخ الدموي الأمريكي والفرنسي والنازي والفاشستي يتجدّد – اليوم - في فلسطين، ويتّبع الأخلاف دروب الأسلاف. وتنفّذ الصهيونية العالميّة ما جاء في بروتوكولاتها المجنونة، القائمة على العنف والإرهاب والمكر والحرب، الهادفة لغزو العالم والقضاء على النصرانيّة والإسلام وكلّ القيّم الإنسانيّة.متى يستيقظ العالم ويدرك أنّ الفلسفة الصهيونيّة خطر داهم، ما بعد خطر، على اليهود والنصارى والمسلمين.

كنت، فيما مضى، أعتقد، إلى حدّ اليقين، بأنّ المدنيّة الغربيّة ستنقذ البشريّة وتحميها من الكوارث والجوائح المدمّرة والحروب الفتّاكة والنزاعات الرعناء، في ظلّ الفتوحات العلميّة الباهرة، والتطوّر التكنولوجي العارم. لكنّ ظنّي خاب، وسقطت أمنياتي في وحل الواقع المرّ. وكنت أظنّ، أن مأساة البشريّة في القرون المنصرمة، بل ومنذ فجر التاريخ، سببها المباشر غلبة الجهل على العلم، غير أنّ مأساة غزّة أبانت لنا عن حقيقة، كنّا من قبل نشكّ في مصداقيتها، ألا وهي أن العلم وحده، ودون القيّم الأخلاقيّة، لا يمكن أن يحلّ الأزمات ويحقّق الأمن والرفاهيّة للإنسان المعاصر. لقد أباد الغرب المتصهين عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مستخدما أبشع الوسائل الحريّة التي توصّلت إليها مخابره العلميّة المتطوّرة. وها هو الغرب ينفق على البحوث العلميّة المميتة أضعاف ما ينفقه على المشاريع السلميّة. إنّ ما ألقته الولايات المتحدة الأمريكيّة وو ما ألقاه الكيان الصهيوني المصطنع من قنابل مدمّرة على أهل غزّة،

و كان أملي، ونحن في القرن الواحد والعشرين، وقد بلغ الإنسان المعاصر سنّ الرشد القانوني، واستطاع أن يُوجِد لنفسه منابر سياسيّة راشدة، ويؤسّس مجالس أمميّة لفضّ النزاعات بين الدوّل والأمم، ويطوي الصحائف السود من تاريخ البشريّة إلى الأبد، ويعيش هذا الإنسان المعاصر في كنف السلم والتعاون والتكافل وحماية الضعفاء من غطرسة الأقوياء وحماقاتهم. لكنّ، شتّان بين الآمال المعسولة وسواد الواقع الذي نعيشه، والذي فرضته أمم رفعت شعارات، الحريّة والأخوّة والمساواة، ادّعت أنّها حارسة حقوق الإنسان والحيوان.

ما يجري في غزّة، من إبادة جماعيّة ممنهجة ومقصودة عن سبق إصرار وترصّد، تعجز الألسنة الحرّة عن توصيفه وتصنيفه وتبريره. جرائم هوجاء، بشعة، برعاية الولايات المتحدة الأمريكيّة وبطانتها من العجم المتصهينين وثلّة من الأعراب المطبّعين. لقد جمعوا لأهل غزّة الأبرياء، المسالمين، من النساء والأطفال والصبيان الخدّج والمرضى، كلّ وسائل القتل والإبادة، وأوقدوا لهم محرقة صهيونيّة، نازيّة، فاقت محارق التاريخ كلّها. يبدو أنّ الصهاينة هم خير خلف للنازيين. هم تلاميذتهم المجدّون، منهم تعلّموا فنون حرق الأبرياء وإبادتهم بشتى الوسائل الجهنّميّة، البربريّة.

كلّما أطلقت العنان للبصر ناحيّة الغرب، وعبرت نظراتي أهوال المحيط الأطلنطي، وأبصرت تمثال الحريّة هناك، منتصب القامة، مرفوع الهامة، يده ممدودة بشعلة الحريّة، انتابني إحساس بالأسى، وغمرني شعور مرارتها علقم، ورددت في همس ممزوج بطعم المرارة: أليس من الغباء والقرف والنفاق والعبثيّة والسخريّة والخديعة، أن يكون موضع هذا التمثال البريء هنا ؟

من العار والشنار أن يُنصب تمثال الحريّة على أرض مغتصبة بقوّة الحديد والنار، أرض ارتوت بدماء أهلها وأبنائها الحقيقيين. أولئك الهنود الحمر، الذين نُفّذت فيهم أبشع إبادة جماعيّة عبر التاريخ المنصرم والحقب المظلمة. من الزور والمخادعة أن تدّعي الولايات المتحدة الأمريكيّة بأنّها حارسة الحريّة وحقوق الإنسان، ويمنحها العالم المخدوع شرف احتضان تمثال الحريّة ومقرّات المجالس الأمميّة، كمجلس الأمن، الذي لم يعد راعيا للأمن العالمي، بقدر رعايته لمنطق الظلم والحرب والدمار.

أليس من أولى الأولويات أن يرّحل تمثال الحريّة من المكان الخطأ، إلى المكان المناسب. ولا أرى، اليوم، مكانا أفضل له من غزّة الأبيّة. إنّ غزّة – التي تجري هذه الأيام دماء أبنائها ودموعهم أنهارا – تستحقّ احتضان تمثال للحريّة الحمراء، تشعّ منه أنوار الصبر السلام. تمثال يذكّر الأجيال القادمة بهمجيّة الصهاينة العنصريين، الدمويين، الذين داسوا على كلّ القيّم الإنسانيّة والدينيّة والشرائع السماويّة التي بشّر بها أنبياء الله وسله ؛ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين.

إنّ بقاءه في الولايات المتحدة الأمريكيّة عار ما بعده عار. فلو نطق، واستُمِع لرأيه، لرحّل اليوم قبل الغد. إنّه يشعر بأنّه سجين وأسير وغريب الوجه واليد واللسان. إنّه يقول: إنّ وجودي هنا غربة أبشع من غربة المسيح بين اليهود.

ما معنى أن يُنصّب تمثال الحريّة في بلد يعادي حريّة الشعوب، جهارا، نهارا، سرّا وعلنا، ويدعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويتاجر، سياسيا واقتصاديا، بالقيّم الإنسانيّة ؟ أليس من المفارقات العجيبة أن تحتضن الولايات المتحدة الأمريكيّة مجلس الأمن، وتُمنح حقّ النقض (الفيتو) إلى جانب الدول الأربعة الأخرى، وهي التي أبادت شعوبا وقبائل ودمّرت مدنا وقرى عن بكرة أبيها ؛ في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق، وهاهي اليوم تبيد غزّة العزّة ؟ فعلا، إنّها لمفارقة عجيبة، أن يُلبس المجرم جبّة القاضي، ويُنتظر منه تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه.

لقد آن الأوان أن ينتفض العالم الحرّ انتفاضة عنقائيّة، قبل أن يدمّر المجانين كوكب الأرض، ويبيدوا البشريّة، وينقذ تمثال الحريّة من أسره، وينصف المؤمنين بالحريّة قولا وفعلا. وينهي مسرحيّة الزيف والنفاق والكيل بمكيالين ويسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، ويضع الأمور في نصابها، فمن الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. إنّ أحرار العالم ينتظرون – بشغف - ترحيل تمثال الحريّة من خليج نيويورك إلى مدينة غزّة، لتفنيد الأكذوبة الأمريكيّة حول الحريّة.

***

بقلم: علي فضيل العربي – روائي وناقد جزائري

 

كم التضليل والأكاذيب فيما يسمى (الحرب على غزة) فاق الوصف وآخرها أن الولايات المتحدة الأمريكية، الشريك المباشر في حرب الإبادة على غزة، تريد بناء ممر مائي لأسباب إنسانية وتوصيل المساعدات لأهل غزة.

فهل يعقل أن تفشل واشنطن والغرب والأمم المتحدة ودول الجوار في إقناع أو إجبار إسرائيل على دخول المساعدات عبر معبر رفح وكرم أبو سالم ويتعثر إنزالها جواً ثم توافق إسرائيل على فكرة الممر المائي بسرعة ويدعم وتمويل الاتحاد الأوروبي ودول عربية وخصوصاً دولة الإمارات العربية؟

دخول أمريكا الحرب بالقوة التي شاهدناها منذ اليوم الأول لم يكن لأن وجود إسرائيل مُهدد بالزوال من طرف حركة حماس وغزة أو من طرف ما يسمى محور المقاومة بل لأن واشنطن شريكة في حرب تم التهيئة لها مسبقاً، تتجاوز غزة ولهدف أبعد من القضاء على القدرات العسكرية لحماس وتصفية قادتها وضمان عدم تكرار ما جرى في السابع من أكتوبر في غلاف غزة.

خمسة أشهر واسرائيل تزعم أنها تحارب حماس وتبحث عن قادتها، وفي الواقع وعلى الأرض تقوم بتدمر غزة وتقتل عشرات آلاف المدنيين وتُرحِل من تبقى إلى رفح تمهيداً لتهجيرهم خارج القطاع، بينما قادة حماس في قطر على مسمع ومرأى إسرائيل وواشنطن.

لم تبدأ إسرائيل حربها باستهداف قادة حماس ومقر قياداتها بل بقصف مدمر لمنطقة الرمال الأكثر ازدهارا ورقيا في القطاع، ثم بدأت في 27 من نفس الشهر العملية البرية من الشمال بزعم أن قوة حماس وقادتها يتمركزون هناك، وعندما تم تدمير مدن ومخيمات الشمال ولم يجد جيش الاحتلال أو يقتل أحدا من قادة حماس الذين نشر الجيش صورهم وأسمائهم وزعم أنهم يختبئون في المستشفيات وخصوصا في الشفاء والقدس والعودة والمعمداني، وأعلنت إسرائيل أن جيشها سيقتحم المستشفيات! وبعدما دمرت المستشفيات وكل ما حولها من أحياء بكاملها وقتلت وجرحت الآلاف قالت إن قادة حماس هربوا للجنوب، وأعلن قادة الجيش أن العملية ستنتقل إلى معسكر البريج وشرق القطاع، ودمروا وقتلوا وجرحوا الآلاف من الأطفال والنساء دون أن نسمع بقتل أو اعتقال أحد من القادة المطلوبين.

وتواصلت جريمة الإبادة الجماعية بقصف على مدار الساعة بحجة البحث عن قادة حماس ليعلن الجيش أن قادة حماس يختبئون في أنفاق خانيونس، وأعلن أنه ستبدأ عملية برية هناك وبدأت العملية في الثالث من نوفمبر ّ! ولأكثر من ثلاثة أشهر لم يجدوا أو يقتلوا أحدا من المطلوبين.

بعد أن عاثت دمارا وتقتيلا في مدينة خانيونس أعلنت أنها ستنتقل لمرحلة جديدة باجتياح مدينة رفح، وضح العالم وتعالت الأصوات منددة ومحذرة من هذه الخطوة التي قد تؤدي لمجازر تفوق كل المجازر السابقة بسبب الكثافة السكانية في رفح واحتمال اندفاع الناس نحو سيناء، وما زال سيف اقتحام رفح مسلطا على رقاب مليون ونصف من البشر.

خلال كل هذه الأشهر الخمسة وبحجة البحث عن قادة حماس وتدمير قدراتها العسكرية كان جيش الاحتلال يدفع الناس تحت القصف للانتقال من الشمال إلى الجنوب ليحصر حوالي المليون ونصف في مدينة رفح الحدودية مع مصر مع منع دخول المساعدات لكل القطاع وخصوصا لأهل الشمال، وفي نفس الوقت كانت إسرائيل تعمل على افشال اي محاولات للتوصل لاتفاقات وقف إطلاق النار أو حتى هدن إنسانية -باستثناء هدنة مؤقتة في أواخر نوفمبر ولمدة أسبوع- ولم تتوقف المفاوضات من القاهرة الى موسكو وباريس وأوسلو حول الهدنة ووقف النار ومستقبل قطاع غزة، وكلها فشلت أو تعثرت حتى هدنة مؤقتة في شهر رمضان، وأخيرا في خطاب للرئيس بايدين حول حال الاتحاد في الثالث من مارس أعلن عن مشروع الممر المؤقت لإدخال المساعدات الإنسانية متجاهلا أن واشنطن تتحمل المسؤولية الكبرى عن معاناة أهل غزة وجرائم الاحتلال وما زالت تمد إسرائيل بكل ما يمَكنُها من الاستمرار بالحرب وتغطي على جرائمها وتحميها من أي إدانة في المنظمات الدولية.

ما سيق يؤكد أن الأمر يتجاوز مواجهة تهديد حماس، دون تجاهل البطولات الفردية للمقاومين في غزة، وأن هناك لعبة أمم كبيرة تبدأ بحرب غزة ولا تنتهي عندها.

 العقبة أمام تنفيذ هذا المخطط ليس الكتائب المسلحة لحماس فقط بل الشعب والقضية الفلسطينية برمتها وقطاع غزة على وجه الخصوص بكثافته السكانية وتاريخه الوطني المقاوِم للاحتلال.

وواشنطن في سياق حربها الكونية في مواجهة روسيا والصين دفاعاً عن مصالحها القومية مستعدة للتضحية بغزة وأهلها وحتى بحلفائها التقليديين حكام مصر والأردن، وكل حديثها عن الشرعية الدولية والقانون الدولي والاعتبارات الإنسانية والمفاوضات العبثية حول الهدنة وتبادل الأسرى.. مجرد أكاذيب وذر للرماد في العيون.

ما يسمى الممر الإنساني المؤقت سيبدأ بدخول مساعدات إنسانية وفي هذه الحالة لن يعارض أحد من قطاع غزة الجوعى، وسيجد ترحيبا من عديد دول العالم وستظهر امريكا كدولة إنسانية تدخلت في الوقت المناسب لإنقاذ أهالي قطاع غزة وفرضت رأيها على إسرائيل، ولكن بعد ذلك سيتم استعمال الممر لتسهيل هجرة أهل غزة لقبرص، ثم يتحول لميناء دائم لتنفيذ مخطط أو مشروع خط الهند الذي سينافس خط الحرير الصيني أو الحزام والطريق الذي تشتغل عليه الصين وروسيا ودول البركس منذ سنوات، وسيكون غاز غزة وقناة بن غوريون ضمن هذا المخطط، وبالتأكيد لن يكون الممر أو الميناء تحت اشراف السلطة الفلسطينية بل اشراف إسرائيلي أمريكي مشترك، ولا نستبعد إحياء مشروع دولة غزة التي ستكون جزءا من هذا المخطط الكبير وخارج السياق الوطني.

***

إبراهيم ابراش

نحن نواجه سياسات غربية.. تتصف بالخبث والمكر واللامبدئية تجاه كل شيء يخص العرب

تحاول أمريكا ذر الرماد في العيون من خلال محاولتها إنزال مواد غذائية كمساعدات إنسانية في سماء غزة الجريحة والمُحاصرة، بالطبع هذا يجري بالتنسيق وأخذ الموافقة من السلطات الصهيونية، ترى ألا تستطيع إدارة بايدن أن توقف الحرب؟ بالطبع نعم، باستطاعة أمريكا لو أرادت الإدارة الموقرة في البيت الأبيض ذلك وبيوم واحد، وذلك حين تمتنع السلطات الأمريكية عن إرسال الإمدادات بالسلاح والذخيرة والخبرات التجسسية وغيرها من المساعدات التقنية إلى الكيان الصهيوني. أمريكا تريد أن تصطاد عصفورين بحجر واحد: من جهة تريد أن تظهر أمام العالم بأسره أنها لم تفقد بعد الإحساس الإنساني تجاه الناس المُحاصرين،الجياع، المُقيمين في العراء دون سقف يحميهم، في ظل إستمرار القصف الإسرائيلي البربري النازي، ومن جهة أخرى لا تريد الضغط على ربيبة الغرب (إسرائيل) وقطع الإمدادات عنها. المرجو من هكذا سياسة هو الظهور أمام الشارع المحتج في عواصم العالم أن أرأيتم ها هي أمريكا ترسل مساعدات إنسانية إلى غزة. والربح الأساسي هو إقناع الناخب الأمريكي، المعارض لسياسة السطو على حقوق الشعب الفلسطيني بالتأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل المعتدية، بأننا يابا ها نحن نرسل مساعدات إنسانية إلى غزة !!.

من طرف آخر ترسل أمريكا بين فترة قصيرة وأخرى، ترسل موفدها عاموس هوكشتاين إلى بيروت وتعرض مغرياتها لو أن حزب الله يوقف ضرباته الصاروخية نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة.غير أن الشخصيات اللبنانية من الصف الأول والثاني قد تعودوا على وعود أمريكا الكاذبة حين تتحقق مطالب أمريكا وإسرائيل، ويغيب الخطر على الدولة ربيبة الغرب.

السفارات الغربية في بيروت وبغداد وعمان والقاهرة وغيرها تتدخل في كل شاردة وواردة، حتى في شؤون البلاد الداخلية وتخترق حتى التنظيمات التي نطلق عليها منظمات المجتمع المدني: تارة من خلال شراء بعض المتنفذين في تلك المنظات، وتارة أخرى في تقديم المعونات العينية على مبدأ (أطعم الثم تستحي العين).رأينا مَن مِن تلك المنظمات ينزل إلى الشارع كي يتظاهر حين يكون هذا الأمر مفيدا للغرب. هذا الأمر ليس جديدا على السفارة الأمريكية نحن نذكر كيف مظاهرات الطلاب في باريس أسقطت الرئيس ديغول بطل الجمهورية، ومحرر فرنسا من الإحتلال النازي، وهذه المظاهرات كانت بمباركة من واشنطن. في زماننا الحديث نشاط ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر وسورية لم يكن أبدا إستثناء في سياسات الغرب منذ الحملات الصليبية حتى يومنا هذا، زد على ذلك التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة: في دول الخليج وفي العراق والأردن وسورية، وإذا استثنينا تلك الدول التي يعتبر تواجد القوات الأمريكية له طابع رسمي اي بموافقة الدولة على ذلك، فإن قواعد أمريكا في العراق وسورية حصلت بحجة واهية ألا وهي محاربة تنظيم داعش والنصرة وغيرها، في حين أن المواطن الأمريكي نفسه أصبح مقتنعا أن هذه التظيمات تقف خلفها دول الغرب وعلى رأسها أمريكا. حين يطالب أبناء الشعب العراقي بإنهاء مهمة القوات الأمريكية على أرض العراق، وحين تواجه التنظيمات الشعبية القواعد الحربية الأمريكية في كل من سورية والعراق، جماعة أمريكا يبكون على ضياع الرفاهية والإستقرار.

قام الغرب بمواجهة روسيا الإتحادية في سياساته السرية والمعلنة أن روسيا في نظر هؤلاء السادة خرقت حرمة السيادة الوطنية في دخولها أراضي ضمن خارطة أوكرانيا. هذا الغرب نفسه كم من المرات قام بخرق حرمة دولة صيربيا حين قامت طائرات الناتو عام 1999 بقصف المدن الصيربية مدينة بعد أخرى ومربعا بعد آخر، دون أي قرار بهذا الشأن من مجلس الأمن، وذلك على مبدأ ما يحق للغرب لا يحق لغيره، زد على ذلك غزو العراق عام 2003،مع ما عرفته المدن العراقية من دمار وخراب وما عرفناه عن وقوع أعداد كبيرة من الضحايا والشهداء. وبعد ذلك جاء إنشاء قواعد غربية على أراضي الجمهورية العربية السورية دون أي قرار من الأمم المتحدة ودون موافقة من الدولة ذات السيادة.

كل ذلك يجري تحت يافطة محاربة الإرهاب، في حين أن خريجي مدرسة محو الأمية يعرفون من أين يأتي الدعم الحربي والمالي للتنظيمات الإرهابية، ومن أين يأتي العتاد إلى هذه التنظيمات، ومن أشرف على إعداد قادة هذه التنظيمات، أدخلت عن طريق تركيا آلاف السيارات الجديدة ذات الدفع الرباعي وأصبح لدى التظيمات الإرهابية قوة قوية متنقلة تعبر الصحراء.

حتى أن الغرب قد استثمر في الأوساط التي حسبت حتى عام 1991 على الإتحاد السوفييتي.أنا لا أعمم، ولكن الواقع يدل على أن مجموعة ليست قليلة من قوى اليسار صدقت بما جاء به ما سمي بالربيع العربي وشاركت بما سموها زورا ثورة، وها هو الشعب السوري اليوم يكتوي بنارين نار الخراب والدمار مما أوجدتهما ما سميت ثورة، ونار الحصار الغربي الأمريكي ضد المصالح السورية والإقتصاد السوري. حين يكتب واحد ممن رفضوا المشاركة في معاقبة الوطن، تأتيه التعليقات والإنتقادات من كل العواصم حيث استقر رعيل من تركوا سورية بعد أن وافقوا على تدميرها وبعضهم ربما قد شارك بذلك. لهذا السبب ولغيره قمت بتدوين النص التالي:

غياب صوتي أمر مستحيل

وُعِدتُ بالرفاهيةِ

والعيشِ الرّغيدِ،

همسوا في الرسائلِ،

وأكثروا

في طرح الوعودِ:

" لماذا لا ترغب

بإيجاد مكان ٍ هادئ

تحت الشمسِ ِ،

أ نسيتَ ما فعلَ

أولئكَ

في غرف ِ المُساءَلة ِ

قبلَ أول أمسِ ِ؟ "

كلُّ الذي تقولونه

لغوٌ....

إنّ غياب صوتي

أمرٌ مُستحيلْ.

طمئنوا مَن يوشوش

في آذانكم،

أنّ نارَ مَوقدي

لا زالت قوية ً،

طمئنوا من يَعدكم بالنصر

أنه واهمٌ، واهمْ،

بلغوه: أنّ النصرَ

في عزم الرّجال ِ

أمرٌ مُحتم ٌ

وليسَ في رَنين الدّراهمْ !!

طمئنوا الذين بينكم

ويدعون الرّجولة

أنّ صوتي سَينازلْ

وأنني حتى آخر نبضٍ

في فؤادي سَأقاتِلْ،

فَوالله

لن أعاقبَ وطناً

عشتُ له ُ،

وعاش فيهِ

أهلي

وأعمامي

وأجدادي.

طمئنوا الذين بينكم

ويدعون الرّجولة

أنني باق ٍ

إلى آخر يوم ٍ

لنصرة ِ قضيةٍ

تسمى − الوطن.

بلغوا تلك الرّياح العاتية

أنّ تحتَ الرّمادِ جذوة ٌ

مازالت تشتعل،

وأنّ ذاك الجندي،

ابن البلد

لن يرميَ الرّاية

ففي صدرهِ حكاية حبٍ

لفتاة ٍ ودعته

وما زالت تنتظر.

بلغوا من وعدكم بالنصر،

قولوا له:

أنّه ُ واهمٌ، واهمْ.

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

كان جزع ايران على قطع نظام المشير"عمر حسن أحمد البشير" صلاته بها، قصيراً محدود الأمد، لأن حاجتها للسودان قليلة ضئيلة، لأجل ذلك لم تضيع وقتها في اللوم والعتب، وأدارت رأسها عنه، وتركت الديكتاتور مرتهناً بالوعود التي بسطها إليه حليفه الجديد، والتي لم يتحقق منها غير أطياف، ثم مضى البشير، الحاكم الذي منحته الأقدار من الوقت ما يتيح له أن يعدل، وأن يوفق لعهد زاهر، هو ورهطه، ولكنهم أصابوا بعض النجاح، وأخفقوا أفدح الاخفاق وأثقله.

ثم شهد السودان تطورات مختلفة، أجملنا الحديث عنها في مقالنا السابق"ايران والسودان وتوطيد الصلات" ونستطيع أن نزعم إذا أردنا تلخيص طابع الأحداث في ذلك العهد في ايجاز شديد، بأن الساسة قد فشلوا الفشل كله، حينما لجأوا إلى الغرب يستمدون منه الرأي والفكرة، وأدرك الشعب الذي جدّ في تنظيم مظاهراته المنددة بخطايا شركاء الحكم، وما كان يجري بينهم من خلاف، أن ساسته وما هم فيه من نزاع باطل كله، فانصرف عنهم، واستعان بالكد والاجتهاد، ليجابه ما أبتلي به من شقاء في حياته، وظلت شريحة الشباب على ما كانت عليه، تختلف إلى الشوارع والميادين، في مسيرات هادرة، تقام يومين من كل أسبوع، ولا تمضي ساعات إلا وتفضها القوات المعنية بفضها، في لغة تتقنها كل الاتقان، وحتى لا نسرف في تحليل الخطوب التي تكاثفت في تلك الفترة، ونترك هذه الأحاديث الطوال الثقال، كما يقول الدكتور طه حسين، نقول أن غمرتها انجلت بحرب ضروس بين القوات المسلحة، وبين قوات الدعم السريع، وفي الحق أن وقائع الحرب، أبعد من أن تحد، وأوسع أن تحصر، وحتى نترك عنا هذا الإسهاب، لنا أن نزعم، أن قوات الدعم السريع هي من ابتدرت هذه الحرب، وأنها حقا طمعت في غير مطمع، وسعت لنيل ما لا سبيل إليه.

وانبرت الحكومة الشاحبة التي لا نكاد نتبين معالمها، في ظل هذه الحرب التي ما زالت مستعرة، تدير حوار الهدنة، ووقف الحرب، في عدة منابر، وهي موقنة أن من العسير أن تحقق لتلك الدول الراعية لتلك المنابر، فلسفتها التي تريد أن تنتهي إليها، فتلك المنابر، تريد أن تعيد قوات الدعم السريع إلى حياتنا الواقعة في هدوء ورفق، وألا نعرض عن مليشيا النهب والاغتصاب اعراضاً شديداً أو هيناً، وأن يعود الدعم السريع في صوره وأشكاله الغليظة، مستأثراً بكل خير، ومستحوذاً على كل نصيب، ونسيت هذه المنابر أن كل آآهة طويلة، وصرخة متصلة، صدرت من موجوع أو مفجوع، سببها تلك المليشيا التي تقمصت نهج التتار.

الفريق أول البرهان، القائد الذي نعجب بذكائه، ونكبر عقله، وفلسفته في الحرب، بعد خروجة من جحيم الخرطوم، واستقراره في مدينة الثغر، ذلك الثغر الذي تحبه بعض الجهات وتتهافت عليه، وتتدله في لذات هذا الحب العنيف الحار، لدرجة تدفعها لأن تحيل خصب السودان وغناه لجدب قاحل، انتظم رئيسه في زيارات متصلة، تخالف العرف المعروف، فقائد الجيش يعود نفسه الحرمان، ويمكث مع قواته حتى ينجلي غبار المعركة، ولكن نستطيع أن نذهب، إلى أن الغاية الملجئة التي دفعت "البرهان" لكي يقوم بكل تلك الرحلات، هي أن تحتفظ قواته بحظها من الانتصار، و"البرهان" قائد الجيش الذي اشتد عليه سخط الناس، لخططه التي لم تلجم المليشيا التي استفحل خطرها، وعظم أمرها، اتضح الآن نجاعة تلك الخطط، التي حظ الصواب فيها أكثر من حظ الخطأ، لقد توقع الفريق أول "البرهان"، أن تفضي هذه الزيارات لدول الجوار لما ينفع ويفيد، تلك الدول التي تسأثر بقلب شعبه ولبه، قد يتاح لنا الوقت للتفكير عن ماهية الأسباب التي أجبرتها أن تملأ قلب "البرهان" حزناً وحسرة، وحتى لا نقول كلاماً مبهماً لا يفهمه الناس، نزعم في عنف وحدة، أن تلك الدول لم تنظر إلى "البرهان"، أو تسمع منه، كما نظرت إليه "الجزائر" نظرة تضج بالاشفاق، وسمعت منه في حرص واحتياط، هناك في بلد المليون شهيد، تحدث الرئيس "البرهان" بصوت مرتفع، ولم يكن خاطره كليل، أو فؤاده دامي، لأن لا الرئيس "تبون" ولا دولته تؤثر العافية عن اغاثة الملهوف، ولا تضن بنفسها عن نصرته، مخافة مشهد وجهد، أوضيق وضنك، قد يلحقها نظير نجدتها تلك.

إذن الجزائر من الدول التي أظهرت وجهاً ناصعاً للسودان، وسرت فيها تلك الرغبة الصادقة في دعمه، وليست الجزائر وحدها من أقدمت على اتخاذ تلك الخطوة، فهناك دولة ايران التي لم تمتنع عن السودان، وتسرف في الامتناع، بحجة الخذلان الذي تورط فيه نظام البشير من قبل، ايران الدولة التي تحيفتها المكاره، وكثرت عليها الأحداث والخطوب، واضطرتها إلى هذا الخصام والجهاد، مع محيطها ومع دول الصلف والغرور، نلتقي ونختلف من أنها تبتغي أي جائحة، أو كارثة، "لقطر سني" حتى تتوطد العلاقات بينها وبين ذلك البلد الذي أزرت به المصائب والمحن، فخلافنا العقدي معها، وسيرتها التي ليست كلها صافية نقية، مع دول وشعوب المنطقة، تجعلنا لا ننخرط معها في مودة خالصة، ولكن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد، أن الدولة الفارسية أسرع إلى التعاون، وأقرب إلى الفهم، لادراك طبيعة المخاطر الهائلة التي تحدق بالسودان، ولأنها أيضاً لا تطرأ عليها علامات التردد والتلكؤ، وتشعرنا بأنها تريد أن ترى وتسمع وتفكر، كلا ايران، حرة الإرادة تنظم علاقاتها وتتطورها، دون أن تنظر لأحد، أو تنتظر رضا أحد، نعم هي ترقب الحوادث، وتهتبل الفرص، لتتصل أفراداها وجماعاتها وكياناتها الدينية والسياسية، مع بيئات وأمزجة الدول المهيضة، ولكنها على كل حال، دولة يمكن أن نعتمد عليها، وأن نعقد عليها أوسع الآمال في ظرفنا الراهن، بعد أن تجافى الأشقاء عن نصرتنا، بل هناك من الأشقاء من لم يرعى للسودان حرمة، وسعى إلى الغاية التي لا تدرك، وهي تفتيت  شمل السودان ونهب خيراته.

وايران التي تغيرت صورتها، فلم تعد هي الصورة المعروفة على صاحبتها، تلك الدولة التي تريد أن تخضع الجميع للاستسلام والاذعان لارادتها، استطاعت في جهد عنيف أن تقرب منطقها من فهم الناس له، وأن تنسجم في هذه المعاهدات التي تمس العقل، ولا تمس الشعور، وأن تنخرط في مباحثات كفلت لها تجاوز الخلافات مع أعتى خصومها، فاتفاق بكين، طوى خلافها الطويل العنيف مع الدولة الكبرى في المنطقة، ولكن مثل هذه الاتفاقيات في الحق، لا تحقق لايران هدفها الذي تبحث عنه، بغيتها الأزلية التي تتمثل في اغراق المنطقة بفلسفتها الساذجة إلى حد بعيد، فنحن مهما اتسعت أطماعنا، وتعددت مطالبنا التي نتظر تحقيقها من الدولة الفارسية، فلن نرضى أن نوفيها حاجتها، ونحقق لها أملها النديان، فدولة ايران التي تستقبل الآن الزائرين والزائرات من طاقم الخارجية السودانية، تعي تماما أن  هذا الشعب الذي عرفته واختبرته من قبل، لن يخضع لحجتها، أو يذعن لجلالها، فحرياً بها، أن تكتفي بالورق المالي الصفيق- هذا إذا كان السودان  ما زال يملكه- نظير عتادها العسكري الذي سوف تقدمه لقواته المسلحة، وأن تعلم أن السودان ينتظر منها أكثر من تلك المسيرات التي جلبها منها، والتي أسهمت كثيراً في تغيير دفه حربه مع المليشيا، السودان ينتظر من دولة ايران أن تسبغ على علاقتها به لونا من الجد، حتى لا تتعثر تلك العلاقة مرة أخرى، وأن تسالم وتصانع بعض الشيء، حتى تزول بينها وبين شعبه الكلفة، فالسودانيون يستطعيون أن يبصروا، رغم أعينهم المتورمة من فرط الألم، فهم ينظرون إليها بعين الحاجة، لا بعين الحب، وبشهوة البقاء، لا بشهوة الهيام، ولها أن تفكر في الاعراض عنه، إذا أرادت ذلك، وللسودان أن يطيل النظر والتمعن والتفكير، في خيارات أخرى خلافها، رغم ضعفه وهزاله الحالي، لن نكتفي بالشكوى أيها السادة، نسعل سعالنا المتكرر هذا، ولكن لن نموت، لن نستخذي أحد، وقريبا جداً سنظفر بكل ما نحتاج إليه، وسنشهد جنازة كل من سعى لقتلنا وترويعنا، ونشيعها إلى القبر.

على السودان بعد أن تضع الحرب أوزارها، أن يعكف على اغلاق حدوده ويحكم اغلاقها، بعد أن فطن لأن "جيرته" قد أخذت من فلسفة "الآثرة" إلى أقصى حد ممكن، وأغرقته في انتهازية مروعة ، وتغاضت عن العاطفة وعن الشعور، وأن يتحفظ تحفظاً  عظيماً تجاه الكثير من عاداته وتقاليده، وأن يترك عنه هذه الطيبة وهذه السذاجة، فهذه الخصال هي التي أحالته لهذا الوضع الضئيل، فهذه الحرب التي جشمته الأهوال، من الحق عليه ولنفسه أن يفكرفي حدوده وسواحله، وأن يخلق لها هذا الاتصال الوطيد مع الدول التي انغمست في نصرته، وأن يعمل على استقلال نظامه السياسي، فيطهره من كل شوائب الضعف والتبعية والاذعان، على السودان أن يوحد صفوفه، ويقوي جيشه، ليستعيد مجده وألقه ونضاره، وليحرر كل ذرة من تراب، شمخ فيها الشقيق بأنفه، على شعبنا أن يترك عنه هذا الخمود والخمول، وأن يتحرر من ربقة الفساد والاضطراب، وأن يعلم أن بلوغ الغاية التي يبتغيها ليس من السهولة واليسر، فهي تتطلب دأباً وجهاداً والحاحاً عنيفا، إنسان السودان لن يعيش آمناً مطمئنا، إلا إذا توثقت صلاته برحاب الدين، وهز بندقيته في الهواء ملوحاً ومحذرا، في كل وقت وحين، حتى يرعوي الطامع، ويخنع الصفيق، علينا أن نبذل كل مشقة، ونحتمل كل عناء، حتى تنفرج الشفاه، وتنبسط الابتسامة، وتتهلل الأسارير، ولن يحدث هذا إلا ابتعدنا عن محورالدول التي تتشدق بديمقراطية زائفة، وأظهرنا الود لبعض الدول الاشتراكية، ووثقنا صلاتنا مع قطر وتركيا وايران، فقد بان أصلهم في ظل هذه الهيجاء كأجمل وأبهى ما يمكن أن يكون. 

***

د.الطيب النقر

 

صدرت الطبعة الأولى من كتاب "الاقطاع والفلاح في العراق الملكي ـ لواء العمارة انموذجاً" للدكتور حميد حسون نهاي 1، وهو في الأصل رسالة ماجستير قُدّمت الى كلية التربية الجامعة المستنصرية في عام 2015 تحت اشراف الباحث الاقتصادي الدكتور عبد الله شاتي عبهول 2 وحصلت على الامتياز.

قَسّمَ نهاي كتابه الى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعِدة ملاحق:

تناول الفصل الأول: لواء العمارة، تقسيماته الإدارية، تركيبته الاجتماعية، أُسس تكوّن الاقطاع في العراق.

وتناول في الفصل الثاني: علاقة الاقطاعي بالفلاح في العراق 1932 ـ 1958، طبيعة علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة بشكل عام، علاقة اقطاعيي البو محمد وآل ازيرج وبني لام مع فلاحيهم، نتائج علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة.

أما الفصل الثالث فكان: الموقف الرسمي والشعبي من علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة 1932 ـ 1958.

كانت مصادر الباحث متعددة ومتنوعة:

1ـ الوثائق غير المنشورة: ملفات الحكم الجمهوري ـ ملفات مجلس الوزراء ـ ملفات وزارة الداخلية ـ ملفات وزارة الاعمار.

2ـ الوثائق غير المنشورة: محاضر مجلس النواب ـ محاضر مجلس الاعيان ـ المطبوعات الحكومية.

3ـ المذكرات الشخصية.

4ـ المقابلات الشخصية: كانت ثلاث وخمسون مقابلة مع عدد من الشخصيات العارفة والقريبة من الاحداث آنذاك، منها على سبيل المثال لا الحصر: مؤرخ العمارة الأستاذ جبار عبد الله الجويبراوي في 5 حزيران 2014 ـ  المؤرخ العراقي المعروف الدكتور جعفر عباس حميدي 3 في 8 نيسان 2014.

5ـ الرسائل والاطاريح الجامعية: فكانت تسع وستون رسالة واطروحة.

6ـ الكتب العربية والمعرّبة والآجنبية: عددها مائتان وأربع وأربعون كتاباً، أما الآجنبية فكانت أربعة كتب.

7ـ الصحف والمجلات: ست وأربعون صحيفة، واحدى عشر مجلة.

8ـ البحوث والدراسات المنشورة: واحد وثلاثون مبحثاً.

9ـ الموسوعات: أربع موسوعات.

10ـ مواقع الانترنت: موقع واحد.

ما هي أهمية هذا الكتاب في الوقت الحالي؟ قد يتساءل القارىء باستغراب ويقول:

ما الفائدة التي سنجنيها من الحفر في حقبة مضت واندثرت وأصبحت في ذمة التاريخ؟ وعليه فسنقول:

لم تذهب هذه الحقبة تماماً، نعم ذهبت من الواقع، لكنها حاضرة في رؤوس الكثيرين الآن! خصوصاً عند الشباب الذين لم يُدركوها، لكنهم في الوقت نفسه يتحسّرون على ذهابها!! وهنا العجب، اذ كيف لي أن أتحسّر على حقبة لم أعشها!! وماذا لو كان جد الشاب الذي ينعى هذه الحقبة من الكادحين؟! من الذين ضربتهم سياط الاقطاع!! ماذا سيقول هذا الجد لحفيده ـ لو عاد الى الحياة الآن ـ ورآه يتحسّر على حقبة أنزلته "الجد" الى الدرك الأسفل! وفي الوقت نفسه يرى ارتفاع صوت هذا الحفيد في المطالبة بالتعددية السياسية والحرية والعدالة في عراق ما بعد صدام حسين!!! تناقض ما بعده تناقض!

والأهمية الاستثنائية لهذا الكتاب برأينا، هي أنه يتناول تاريخ مدينة كاتب هذه السطور "العمارة ـ محافظة ميسان".

ما يُحسب للباحث الدكتور نهاي أنه لم يكن "محايداً" في طرحه، بل كان في صف الكادحين، فتجاوز نهاي "الكتابة الوصفية" السائدة تقريباً في الدراسات الجامعية، فكان شجاعاً بحق هنا، مع ضرورة التأكيد على أن "عدم الحياد" لا يعني تجاوز الحقيقة الموضوعية، أبداً. ويُذكّرني الآن بالدكتور حيدر عطية كاظم، صاحب الكتاب القيّم "الصرائف في بغداد" 4.

حاول الوالي العثماني المُصلح مدحت باشا حل مشكلة الأراضي من خلال القضاء على المنازعات العشائرية حول الأراضي الزراعية، وسعى بكل جدٍ وإخلاص لتحقيق تلك الأهداف، فتساهل كثيراً في قيمة الطابو، وكان في أحيان كثيرة يمنح سندات الطابو بثمنٍ بخس 5.

لم ينجح مدحت باشا في مسعاه، خصوصاً في تفويض الفلاح ابن العشيرة في التعامل مع الدولة دون وساطة رئيس العشيرة، وكانت أسباب هذا الفشل:

قوة التنظيم العشائري ـ فقر الفلاح المدقع وعدم تمكّنه من توفير قيمة الطابو وخشيته من التجنيد الاجباري والضرائب، فضلاً عن تخلّف الجهاز الإداري 6.

فماذا كانت النتيجة؟ فُسح المجال أمام أثرياء المُدن وتُجارها وكبار الموظفين في الحصول على عقود تفويض الأراضي مقابل دراهم قليلة 7.

كانت محاولة مدحت باشا الإصلاحية محاولة جريئة هنا، وهي خروج عن المألوف في السياسية العثمانية، لكن لم يُكتَب لها النجاح كما أسلفنا.

جاء البريطانيون الى العراق، فعكسوا مسار التاريخ باحتضانهم شيوخ العشائر 8، وكان لاسناد هؤلاء الشيوخ جوانب سلبية كثيرة أكدتها ألمس بيل، فقالت:

(ان سياسية اسناد الشيوخ بهذه الطريقة كانت لها جوانب سلبية كثيرة، فالشيخ أصبح طاغية في منطقته، مما انعكس ذلك على سمعة الحكومة التي كانت تسنده، وعليه فإن النقمة على الشيوخ من هذه الحيثية أحد روافد الحركة الوطنية الاستقلالية) 9.

سنتعرض الآن لنماذج من علاقات الاقطاعي بالفلاح، ثم نُعَرّج بعدها على موقف الطبقة السياسية الملكية الحاكمة.

كانت خشية الفلاحين في لواء العمارة من الاقطاعي كخشيتهم من الله أو أشد 10، ويُروى أن احدى خادمات شيخ كبير تُدعى جريوه، كانت تتبختر وتذكر سيدها باستمرار، فعندما تدخل جريوه لواء العمارة، كانت تُرعب الكثير 11، وكانت تُفرَض على الفلاح عدة ضرائب ما انزل الله بها من سلطان ومنها ضريبة السكتة 12، وقام جلاوزة أحد الاقطاعيين بقلع أظافر فلاح شاب 13، وقد ندبت احدى الفلاحات حظها العاثر، فقام الاقطاعي بجلدها بالخيزران 14.

هذه عَيّنةٌ بسيطة من هذه العلاقات الظالمة، أما عن موقف النظام الملكي من الاقطاع، يقول الدكتور نهاي ناقلاً عن الأستاذ عبد الرزاق الظاهر:

(ان الاقطاعية في لواء العمارة نقطة سوداء في جبين المملكة العراقية، انها البهتان الأعظم) 15، وفعلاً كانت بهتاناً أعظم، فقد كان الاقطاعيين، لا سيما الكبار، ملوكاً غير مُتَوّجين 16، فقد كان النظام الاقطاعي غريباً وخارجاً عن مسار التطور الاقتصادي والحضاري في العراق والاقليم وحتى العالم، لأنه يفتقر للأسباب الموضوعية الداعية لوجوده، لكنه كان يُحقَن بأسباب الحياة من خلال تأييد الحكومات العراقية المتعاقبة له وبريطانيا 17. تُحتّم الموضوعية علينا هنا، أن نُسَجّل بأن حكومة السياسي المعروف حكمت سليمان 18 قد كانت استثناءً، فقد تَعَهّدت بحل مشكلة الأراضي وتوزيعها على الفلاحين بشكل عادل 19، والمفارقة هنا أن حكمت سليمان قد وصل الى الحكم عن طريق انقلاب عسكري قام به الجنرال بكر صدقي في عام 1936م!!

سعت الحكومات العراقية بكل قوة الى إيجاد الأساس القانوني لتجريد الفلاحين من حق التصرف في الأرض، فكانت تطبيقات "قانون اللزمة" من أكثر الإجراءات التي اتخذتها الحكومات العراقية المتعاقبة في تدعيم المشايخ وترسيخ النظام الاقطاعي 20، وكانت النتيجة لقوانين "اللزمة والتسوية" هو حرمان الغالبية العظمى من أبناء العشائر من حقوقهم التاريخية في التصرف بالأرض، فانقض العديد من رؤوساء الوزراء والوزراء وكبار موظفي الدولة وبعض التجار والمُلاّك على الأراضي الأميرية واستحوذوا على آلاف الدونمات دونما مراعاة لضمير أو وازع ديني أو مصلحة وطنية 21.

سنذكر الآن نماذج من حيازات الطبقة الحاكمة من الأراضي بالدونم بموجب هذه القوانين بين سنتي 1933 و 1939:

حمدي الباجه جي: 27،872 في الكاظمية.

رشيد عالي الكيلاني: 25،819 في العزيزية.

الملك فيصل الأول: 1597 في الدورة.

صباح نوري السعيد: 2312 في بغداد المحمودية (يُلاَحَظ هنا أن ممتلكات نوري السعيد كانت باسم ولده صباح، ويُذَكّرنا هذا بما أورده حنا بطاطو، فقد ارتفعت حيازة صباح السعيد من الأراضي في عام 1958 لتصل الى 9294 دونم) 22.

الأمير علي بن الحسين: 23،232، هذه عينة من جدول أورده الدكتور نهاي 23.

أنزلت هذه القوانين التي سنتها الدولة الفلاح الى منازل العبيد، خصوصاً "قانون حقوق وواجبات الزراع" 24، فما هو موقف الملوك الثلاثة من الاقطاع والاقطاعيين؟

حاول الملك فيصل الأول في مذكرته التي وجهّها الى الساسة العراقيين في آذار 1932 أن يُقدّم تصوّره لحل مشكلة الأراضي، لكنه أكّد على: لا يجب أن يشعر الشيوخ والأغوات بأن قصد الحكومة القضاء عليهم، وانما يجب أن نُطمئنهم على معيشتهم ورفاهيتهم 25.

أما الملك غازي فقد وقع تحت التأثير الكبير للإقطاعي جاسم محمد العريبي 26، وبشأن موقف البلاط الملكي في عهد الملك فيصل الثاني فقد كان ضعيفاً، لكن الأمير عبد الاله بقي مدافعاً صلباً عن الاقطاعيين حتى آخر أيامه 27.

أما نوري السعيد فقد تَخَلّى عن عقله تماماً وداس بأقدامه على معرفته وخبرته في شؤون العراق، والتي لا يُضاهيها أحد من الساسة، عندما تحدث ونفى وجود الاقطاع في العراق 28.

من حقي كمواطن عراقي أولاً، وكباحث تاريخي ثانياً، أن أتساءل:

ماذا لو سمع "الملكي العراقي" الآن، في القرن الحادي والعشرين، أن سياسياً عراقياً ـ عادل عبد المهدي، نوري المالكي، محمد الحلبوسي مثلاً ـ قد امتلك أراضٍ واسعة في منطقة معينة من العراق، فماذا سيكون ردّه؟ سيصبّ اللعنات عليهم وعلى كل العملية السياسية الحالية بكل تأكيد ... طيّب، لماذا عندما تسمع وتقرأ بأن صباح نوري السعيد قد امتلك آلافاً من الدونمات لا تفعل الشيء نفسه؟! لما التبرير ولَيّ عنق الكلمات والنصوص؟! ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الشيوخ والاقطاعيين المدعومين من النظام الملكي، لم يستعبدوا الفلاح في الأرض فقط، بل وقفوا بالضد من تأسيس المدارس في مناطقهم، لدرجة تهديد المعلم بالقتل، ولم يُفلح مدير معارف العمارة في فتح مدرسة في منطقة اقطاعي كبير 29.

تُحتّم علينا الموضوعية الإشارة الى أن الدكتور نهاي قد فَرّق بين الاقطاعيين من خلال تعاملهم وقسوتهم مع الفلاحين، فكان اقطاعيو آل ازيرج منفتحين ويصغون لكلام الفلاح 30، وكانت علاقة معظم اقطاعيي بني لام مع فلاحيهم جيدة 31، الشدة كانت مع اقطاعيي البو محمد 32.

وقبل أن نختم المقال، لا بُدّ من التَطَرّق لتعليل قيّم قُدّم عن "وفرة الإنتاج الزراعي في زمن الاقطاع"، يقول المؤرخ الدكتور جعفر عباس حميدي:

نستطيع أن نُرجع هذه الوفرة الى قسوة الاقطاعيين ونهبهم لقمة الفلاحين من أفواههم وأفواه أطفالهم 33، والنتيجة أن نظام الاقطاع نظام لا انساني، كما أشار الدكتور نهاي بحق 34.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.....................

الحواشي:

1ـ حميد حسون نهاي: الاقطاع والفلاح في العراق الملكي لواء العمارة انموذجاً ـ دراسة تاريخية، مراجعة: الدكتور عبد الله شاتي عبهول، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2020

2ـ الدكتور عبد الله شاتي عبهول باحث مختص بالتاريخ الاقتصادي، له في مكتبتنا: تجربة العراق الملكي في الاعمار 1950 ـ 1958، تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي.

3ـ سنتعرض لاحقاً لتعليل حميدي القيّم عن "وفرة الإنتاج" في العراق الملكي.

4ـ حيدر عطيه كاظم: الصرائف في بغداد 1932 ـ 1963 دراسة في التاريخ الاجتماعي، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2018

5ـ نهاي: المصدر السابق ص78

6ـ المصدر السابق ص79

7ـ المصدر السابق ص80

8ـ المصدر السابق ص86

9ـ المصدر السابق ص90

10ـ المصدر السابق ص136

11ـ المصدرالسابق ص137 حاشية رقم 1

12ـ المصدر السابق ص140

13ـ المصدر السابق ص165

14ـ المصدر السابق ص168

15ـ المصدر السابق ص157

16ـ المصدر السابق ص144

17ـ المصدر السابق ص113

18ـ عن حكمت سليمان يُنظَر:

عكاب يوسف الركابي: حكمت سليمان والانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1936م ـ دراسة تاريخية تحليلية، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2024

19ـ نهاي: المصدر السابق ص207 و 208

20ـ المصدر السابق ص100

21ـ المصدر السابق ص104

22ـ حنّا بطاطو: العراق ك1 ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، بترجمة: عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية لبنان ط3 2003، منشورات دار القبس الكويت ص394

23ـ نهاي: المصدر السابق ص106

24ـ المصدر السابق ص110

25ـ المصدر السابق ص202 و 203

26ـ المصدر السابق ص204

27ـ المصدر السابق ص204 و 205

28ـ المصدر السابق ص213

29ـ المصدر السابق ص149 و 150 و151

30ـ المصدر السابق ص173

31ـ المصدر السابق ص177

32ـ المصدر السابق ص158

33ـ المصدر السابق ص276

34ـ نفس المصدر والصفحة

 

 

من مكاسب ملحمة "طوفان الأقصى" الكثيرة والكبيرة ، كسمة واضافة بارزة لما تحقق في مختلف الأصعدة والمستويات، مكسب انطلاق طوفان، اجل طوفان، غضب شعبي في العالم من اجل قطاع غزة خصوصا، ومن اجل فلسطين عموما، لما تعرض له  القطاع في الانتقام الامبريالي الصهيوني من وحشية نازشية، (نازية/ فاشية) تجاوزت ما عرفه التاريخ من جرائم احتلال همجية، بدعم صارخ وعلني، واعادة القضية الفلسطينية مرة اخرى الى واجهة الاحداث والمانشيتات الرئيسية في وسائل الاعلام والتواصل والمؤتمرات الدولية والإقليمية وغيرها، رغم كل محاولات تصفيتها، والاعتداء على القدس الشريف والاماكن المقدسة في فلسطين المحتلة.

اتسم هذا المكسب الكبير بوعي سليم لعدالة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال الصهيو إمبريالي ووسائله الوحشية في الاضطهاد والقمع والارهاب والاعتقال والحصار والابادة عموما وتجاوزها في الانتقام بعد معركة طوفان الأقصى بما لا يمكن الصمت او التغاضي او التفرج كما حصل سابقا او تراوح بين بين لأسبابه، الفلسطينية او العربية والاسلامية في طروحاتها المتهافتة نحو الاستسلام والتواطؤ العلني لتصفية القضية الفلسطينية والاعتراف بكيان الاحتلال و"التطبيع" المذل معه.

رسم هذا الطوفان الغاضب مداه الواسع في كل عواصم الدول الاستعمارية والداعمة او المشاركة في عمليات الانتقام الوحشي ضد سكان غزة خصوصا وامتداده الى مدن فلسطينية اخرى في الضفة الغربية المحتلة والقدس وحتى مدن احتلال عام 1948، اي عموم فلسطين المحتلة، ورفع شعارات له واضحة ومعبرة في الحرية لفلسطين وحق شعبها في التحرر الوطني والعودة لاهلها الى ديارهم دون مراوغة او مساومة وباشكال منوعة نهايتها توصل الى تصفية القضية الفلسطينية وهدر الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. واخذ الطوفان اشكاله المتنوعة، من التظاهر الواسع (بلغ في بعضها اكثر من مليون مشارك، في اوروبا والولايات الامريكية المتحدة وكذلك في بعض العواصم والمدن العربية) او الوقفات الاحتجاجية في مراكز المدن وساحاتها الرئيسة والمتضمنة لمقرات حكومية او مؤسسات رسمية للدول التي شاركت في العدوان الوحشي وانتهاك كل القوانين الدولية أو المعاهدات المتعلقة بحقوق الانسان والعدالة والقرارات والقيم الانسانية والمواثيق السياسية وبرامج او انظمة المؤسسات الدستورية والسياسية في تلك البلدان.  مما عكس حالات اخرى لفضح طبيعة الإمبريالية والصهيونية والممارسات العملية في إزدواجية المعايير الدولية والاقليمية وتهميش القيم الانسانية والاجتماعية والثقافية والانسلاخ من الالتزامات الموقعة عليها واللازمة التنفيذ والاحترام من الجميع، فكيف بتلك الدول التي صدرت فيها وادعت مواقف مؤيدة لها ومروجة لافكارها ومحاسبة لغيرها باسمها؟!.

اشترك في طوفان الغضب الشعبي في العالم بعض قيادات احزاب سياسية حاكمة (في ايرلندا، اسبانيا، بلجيكا مثلا) او حتى معارضة لحكوماتها (في ايطاليا، كندا، هولندا، بريطانيا مثلا)، في تلك الدول المشتركة في العدوان والجرائم النازشية، وكذلك من اليهود المعارضين للصهيونية (في الولايات

١

المتحدة الامريكية، مثلا)، وهو ما يميزها ويعطيها زخما اعلاميا ومساهمة إنسانية في الغضب الشعبي، وكذلك اعضاء برلمانات وطنية او اقليمية، (دول منفردة، او الاتحادات، كالاوروبي او الافريقي او مشابهاتها)، او شخصيات سياسية بارزة في بلدانها، عاكسة مواقف متميزة في التصدي لقوى العدوان ومطالبتها بوقفه فورا والامتثال للقوانين الدولية وقواعدها في الحروب والسلم والأمن الدوليين ومحاكمة المجرمين والداعمين لهم ومحاسبة الحكومات التي تصر على استمرار العدوان وتعميق معاناة الشعب الفلسطيني، وتضحياته الجسيمة، التي تلوّن دماؤها وجوه المندفعين  للعدوان والحرب على غزة وفلسطين عموما، ولم يرتدعوا من حجم الماساة التي تدور رحاها في غزة خصوصا، والتي تجري امام مرأى العالم كله، وموثقة بالصورة والصوت وبالنقل المباشر، بما تجاوز كل حدود قانونية او اخلاقية او انسانية عامة، وقدمت مثالا صارخا للتوحش والإجرام وانتهاك كل المعايير والقيم والقرارات والمواثيق  وما يتعلق بها. وفضحت من جهة اساسية، لا يعرف بهذا الوضوح، قبل معركة الطوفان، العقل الغربي الرسمي في فهمه القوانين والانظمة الداخلية للمنظمات والمؤسسات الرسمية المحلية والدولية، واساليب التعامل معها وطرق تنفيذها والزعم بوزنها ووثيقتها واهميتها، كما وضعت مؤسسات دولية كالامم المتحدة وتوابعها على المحك وبينت خيبة الامل منها ومن عناوينها وإدعاءاتها بالاستقلالية والعمل الانساني والعالمي وعدم التفريق بين الشعوب، لا باللون او الانتماء العرقي او الديني او الجنس او العمر او الحجم او الثروة او التركيب الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وغير ذلك. وكذلك كشف الطوفان تخاذل المنظمات الاقليمية كجامعة الدول العربية او رابطة التعاون الاسلامي وعرى اسس تاسيسها وطبيعة مسؤليتها ومسؤوليها وتشوه وجودها واستمرارها وفقدان الثقة والامل بمستقبلها.

ولاشك تجدر الاشارة هنا بدور الطوفان الشعبي واتساع غضبه في التاثير، المباشر او غيره، على سياسات بعض الحكومات الغربية التي ساهمت بالعدوان ودعم الكيان الصهيوني في كل جرائمه التي ارتكبها والتي لن تتقادم ولن يمسحها التاريخ ودائما يكلل فرسانها بالعار ومزبلة التاريخ، كما سجلها عن امثالهم وباقل المجازر والفضائح التي اقترفوها، ولكن المجزرة تبقى مجزرة والجريمة اسمها جريمة، ولن تمحى كوارثها، مهما غدر الغادرون او ساوم المساومون او تواطأ المذنبون او تخاذل الموهومون. ورغم ذلك فان الحكومات التي اسهمت باي شكل او مساهمة في العدوان والحرب والقتل والدمار والانتهاك والاجرام العنصري والهمجي والوحشي متصاعدا الى الابادة الجماعية، تظل تتحمل مسؤوليتها ودورها ومكانها التاريخي في ما حصل في غزة، وفلسطين عموما.

حكم التاريخ قاس كقسوة المجازر الوحشية، ولعل في طوفان الغضب الشعبي العالمي، وتنوعه وتعدد اشكاله، وتطوره واستمراره وتوسعه دائما سبيلا اخر او صورة اخرى لواقع البشرية وحقيقة الإنسانية التي تحاول القوى المهيمنة على القرارات الدولية والمرتهنة بروابط نازشية، عمليا وفكريا، تضليلها والراي العام بشتى الوسائل لادامة زخم ممارساتها الاجرامية وتهربها من مواجهة الحقيقة ومخاطبة التاريخ. وما قام به هذا الطوفان الشعبي يسجل له، ومثلما فاجأ طوفان الأقصى الجميع، فاجأ هذا طوفان الغضب ايضا، عاكسا الاحساس الانساني بوجوده وفعله وصموده بالضد من التوحش العنصري والمجازر الدموية والهدم الشامل والتخريب الهمجي، الذي تنقله صورة غزة اليوم.

كما عرى طوفان الغضب الشعبي في العالم جوهر الحكومات الغربية خصوصا وفضحها عندما اتخذت اجراءات تقييد للتظاهرات والمسيرات والشعارات ومنع رفع الاعلام الفلسطينية ولبس الكوفية او الزي الفلسطيني في بلدانها، على نحو غير قانوني ولا دستوري، مخالفة ابسط حقوق الانسان

٢

ومتناقضة مع زعمها بالالتزام او التوصيف بالنظم الديمقراطية، وكانت الاجراءات القمعية التي اتخذتها تلك الحكومات ادلة صارخة على طبيعة تلك الانظمة وخداعها وممارساتها في غسل الادمغة وكي الوعي الشعبي، وسجلت حالات مثيرة فعلا في بعض الدول في هذا الشان، ورد عليها طبعا الاحرار في تلك الانظمة والبلدان، كما حصل في داخل الاتحاد الاوروبي، (رمز التحضر الغربي)!، اذ انتقدت النائبة الايرلندية كلير دالي  في قاعة البرلمان الاوروبي اكثر من مرة، مواقف رئيسة المفوضية الأوروبية (الألمانية) اورسولا فون دير لاين التي  تؤيد العدوان الصهيوني، معرفة اياها ب"سيدة الابادة الجماعية"، ووصفت الاحتلال ب"نظام فصل عنصري وحشي"، واتهمت اعضاء البرلمان الاوروبي بدعم المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، وقالت: "ان الوضع تعدى كونه ابادة اسرائيلية لياخذ بصمة اوروبية ايضا". ومثل جرأتها خاطب برلمانيون وسياسيون في اكثر من عاصمة اوروبية حكوماتهم بتلك الروح النقدية الانسانية تضامنا مع غزة والشعب الفلسطيني ودعما لطوفان الغضب الشعبي العالمي والمطالبة بحرية شعب فلسطين وحق العودة وهدف الاستقلال ووقف العدوان فورا والمساهمة في اعمار غزة ومحاكمة كل المجرمين الذين قاموا بتلك المجازر والابادة وانتهاك كل القوانين والقواعد العالمية.

***

كاظم الموسوي

 

بقلم: ويندي بيرلمان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن استراتيجية إسرائيل البعيدة المتمثلة في تجاهل الغليان والواقع المعيشى لملايين الرجال والنساء والأطفال قد اتخذت أبعادا جديدة خطيرة ومرعبة.

في يناير/كانون الثاني، عندما اتخذ المحامون الإسرائيليون موقفهم في محكمة العدل الدولية ردًا على قضية جنوب إفريقيا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، قام أحد مستخدمي تطبيق "تيك توك" الفلسطيني الأمريكي ببث مباشر لتتبع كل مرة ذكر فيها الوفد الإسرائيلى حماس. لقد أحصى 137 مرة في الجلسة التي استغرقت ثلاث ساعات، أو مرة واحدة على الأقل  في الدقيقة.

وكان الرد، المكتمل بالسخرية من النطق الإسرائيلي المميز لحماس، بمثابة كوميديا لاذعة وإشارة إلى وجود نقطة عمياء خطيرة.

عندما يتحدث الممثلون الإسرائيليون عن الفلسطينيين، فإنهم غالبا ما يستخدمون لغة مهينة للإنسانية إلى حد مخيف، كما يوثق الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية. وفي كثير من الأحيان، لا ترى إسرائيل المجتمع الفلسطيني على الإطلاق. لقد قام القادة الإسرائيليون والخطاب الغربي بشكل عام منذ فترة طويلة باختزال النضال الوطني الفلسطيني في قادة أو فصائل محددة. ومن هذا المنظور، فإن الفلسطينيين ليسوا أكثر من مجرد دمى يحركها هؤلاء القادة، أو دروع بشرية يختبئون خلفها، أو - كما تظهر الدعوات الحالية لإخلاء مدينة رفح جنوب غزة - أهداف يجب على إسرائيل إزالتها كجزء من الغزو.

إن هذا الانشغال بمن تعتبرهم إسرائيل قادة فلسطينيين عديمي الضمير ورفضها رؤية إرادة وتطلعات وواقع الملايين من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين له نتيجة طبيعية سياسية: فإذا تمكنت إسرائيل من القضاء على المنظمات السياسية الرائدة، أو ربما استمالتها أو إنشاء منظمات جديدة، فإن "مشكلتها" الفلسطينية سوف تُحل.

إن عدم الاعتراف بالمجتمع الفلسطيني له تاريخ طويل. تعهد وعد بلفور الصادر في عام 1917 عن بريطانيا العظمى بتسهيل إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، مضيفًا أنها ستفعل ذلك دون المساس بالحقوق المدنية والدينية لسكان فلسطين غير اليهود. لم يكن التعهد جريئًا فحسب، بل كشف أيضًا كيف تنظر الحركة الصهيونية وقوى الدولة في أوروبا إلى 90٪ من السكان العرب المسلمين والمسيحيين. فلم يكونوا  فى نظرهم شعبًا يتمتع بحقوق سياسية، بل كانوا يمثلون عقبة كئود على الطريق نحو إقامة الدولة اليهودية.3516 لوحة القدس

واستمرت نفس وجهة النظر خلال الحكم الاستعماري البريطاني. قادت العائلات العربية الفلسطينية البارزة تقليديًا الحركة ضد الصهيونية في البداية. ومع ترسخ دولة يهودية أولية، انتقد جيل جديد من الناشطين نزعة النخب المحافظة ودعوا إلى استراتيجيات أكثر جرأة. واستشهد البعض بمثال غاندي وحثوا على العصيان المدني. ودعا آخرون إلى المواجهة العسكرية. لقد تحول الزخم السياسي للنضال الفلسطيني من "من أعلى إلى أسفل" إلى "من أسفل إلى أعلى".

في عام 1936، أعلن النشطاء الفلسطينيون المحليون إضرابًا عامًا للضغط على بريطانيا لمنع الهجرة اليهودية وحيازة الأراضي ومنح فلسطين الاستقلال. وشاركت قطاعات واسعة من المجتمع في المظاهرات وإضرابات العمل والمقاطعة. أثارت الموجة الشعبية ستة أشهر من التعبئة الخالية من العنف  في جميع أنحاء البلاد ثم أدت أيضًا إلى تمرد مسلح.

واتهم المعلقون آنذاك ومنذ ذلك الحين مفتي القدس أمين الحسيني بتدبير الثورة. ومع ذلك، فإن التركيز بشكل مفرط على زعيم معين يمنح دوره الكثير من القوة والمجتمع الفلسطيني أقل مما ينبغي. ولم يكن التحريض على الاحتجاج ناجماً عن النخب الفلسطينية فحسب، بل عن السخط الشعبي من فشل هذه النخب في حماية المصالح الوطنية الفلسطينية. ومن خلال استهداف القادة الفلسطينيين، رفضت السلطات البريطانية في ذلك الوقت ـ كما هي الحال مع بعض السلطات اليوم ـ أن تتقبل حقيقة مفادها أن القوة الدافعة وراء نضال الفلسطينيين كانت رفضهم أن يصبحوا غرباء على أرضهم.

وأدت حرب 1948 إلى قيام دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية وتهجير أكثر من نصف السكان الفلسطينيين قسراً. وفي العقود التالية، شكل اللاجئون الشباب مجموعات سياسية وجماعات حرب عصابات مقتنعة بأن الفلسطينيين يجب أن يقودوا كفاحهم بانفسهم من أجل التحرير. وقد عززت هذه النهضة الوطنية مرة أخرى القاعدة الشعبية، وعززت ما أصبح يسمى فيما بعد منظمة التحرير الفلسطينية. لقد جاءت قوة منظمة التحرير الفلسطينية، المتجذرة في مجتمعات اللاجئين في المنفى، من الفلسطينيين من جميع مناحي الحياة الذين انضموا إليها واعترفوا بها كممثل شرعي وحيد لهم قبل سنوات من تأسيس الأمم المتحدة.

وبعد أن احتلت إسرائيل الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية في حرب عام 1967، قامت بشيطنة منظمة التحرير الفلسطينية وحاولت استمالة النخب المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان المنطق هو عزل القادة "السيئين" وتمكين القادة "الصالحين" على أمل أن يستسلم السكان للسيطرة الإسرائيلية. وأجرت إسرائيل انتخابات المجالس البلدية في الضفة الغربية عام 1976، معتقدة أن الشخصيات المتعاونة مع الاحتلال هي التي ستفوز. وكانت المفاجأة أن المرشحين المؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية سجلوا انتصارات ساحقة في كل بلدية تقريبًا.

وبينما عمل رؤساء البلديات القوميون ونشطاء المجتمع المدني معًا للضغط من أجل الاستقلال الفلسطيني، حاولت إسرائيل قمع الاحتجاجات من خلال حظر تنظيمهم الائتلافي وترحيل أو إقالة بعض رؤساء البلديات. وكشفت سلطات الاحتلال بعد ذلك عما أسمته "روابط القرى"، في محاولة لإضفاء الطابع الرسمي على شبكتها من المتعاونين الفلسطينيين كقيادة بديلة. وقد قوبلت هذه الخطة بازدراء واسع النطاق من الجمهور الفلسطيني وفشلت. إن فكرة قدرة إسرائيل على القضاء على القيادة الفلسطينية التي انبثقت عضوياً من المجتمع، وفرض المتعاونين معها، وبالتالي إسكات المعارضة للحكومة الإسرائيلية، تبين أنها مجرد خيال سخيف.

وبدلاً من ذلك، انضم الناس في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بشكل متزايد إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن الحزب الشيوعي ومجموعة من المشاريع التطوعية ذات التوجه الوطني، والمجموعات النسائية والطلابية، والجمعيات والنقابات المهنية. وقد بنى النشاط الشعبي الواسع النطاق بنية تحتية شاملة للمقاومة الشعبية. عندما أثارت جريمة قتل على جانب الطريق الاضطرابات في عام 1987،كان لدى المجتمع الفلسطيني القدرة التنظيمية لشن انتفاضة غير مسلحة واسعة النطاق: الانتفاضة. عبر القرى والبلدات ومخيمات اللاجئين، قامت مئات اللجان المحلية بتنظيم الناس من مختلف الطبقات والأجناس والأديان والأعمار في أشكال متعددة من الاحتجاج والعصيان المدني.

كانت الانتفاضة (أو الانتفاضة الأولى، كما ستُعرف فيما بعد) بمثابة ثورة شعبية جوهرية. واتهمت إسرائيل قادة منظمة التحرير الفلسطينية بتنظيم الانتفاضة من قاعدتهم في تونس. وكان ذلك مثيراً للضحك بالنسبة للمشاركين في الانتفاضة، حيث أشار أحدهم إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية سمعت عن الانتفاضة "في نفس الوقت الذي سمعت فيه زيمبابوي".

لقد دفعت الانتفاضة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية نحو المفاوضات، وتم الإعلان عن عملية أوسلو للسلام في عام 1993. وسواء كان ذلك بدافع الأمل أو الإرهاق، فقد رحب أغلب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة باتفاقات أوسلو بتفاؤل. ومع ذلك، فإن السنوات السبع التالية من المحادثات خيبت آمال الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، وفشلت في التوصل إلى الاتفاق النهائي الموعود. وفي سبتمبر/أيلول 2000، اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى، واشتدت حدتها في مواجهة القمع العسكري الإسرائيلي، وتحولت إلى الانتفاضة الثانية.

وكان الدافع وراء الثورة الجديدة هو فقدان الفلسطينيين الثقة في أن المفاوضات سوف تسفر عن دولة ذات سيادة حقيقية، فضلاً عن إحباطهم إزاء السلطة الفلسطينية التي أنشأتها أوسلو. هناك أدلة كثيرة، بما في ذلك بحثي الخاص، تشير إلى أن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات لم يكن هو من أطلق الانتفاضة، ولم يقودها أو يقمعها. وفي الواقع، أعرب الفلسطينيون عن أسفهم لغياب أي قيادة للسلطة الفلسطينية على الإطلاق. ومع ذلك فإن إسرائيل وأنصارها كانوا ينظرون إلى عرفات باعتباره العقل المدبر الذي يحرك خيوط الانتفاضة. وأعلن إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، أن "موجة العنف هذه فُرضت علينا بإرادة عرفات". أطلق كتاب الأعمدة الأمريكية على الانتفاضة الثانية اسم "حرب عرفات" أو "استراتيجية عرفات". ولم يكونوا قادرين أو غير راغبين في رؤية - أو تجاهلوا عمدا - أن محرك الحركة الفلسطينية، كما هو الحال دائما، كان رغبة شعبها في أن يكون حرا.

ومنذ ذلك الوقت، ظل المجتمع الفلسطيني، وليس قادة أو فصائل معينة، هو شريان الحياة لتلك الحركة. في ربيع عام 2018، شارك عشرات الآلاف من الأشخاص في “مسيرة العودة الكبرى”، وهي حملة من المظاهرات غير المسلحة عند الجدار الذي يفصل قطاع غزة عن إسرائيل. وهذه المرة جاءت مطالبة الفلسطينيين بالكرامة في سياق ثلاث حروب مدمرة والحصار الإسرائيلي الصارم الذي أدى إلى توليد الفقر المدقع، والنقص الحاد في الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، والبحر الملوث بمياه الصرف الصحي، والظروف التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "غير صالحة للعيش".ودعا المشاركون إلى إنهاء الحصار وحقهم في العودة، وهو حق أصيل وحقيقى  لأن حوالي 80٪ من الفلسطينيين في غزة هم من اللاجئين أو أحفادهم.

وكما حدث في الأعوام 1936 و1987 و2000، كان الشباب والمنظمون المحليون هم من أخذوا زمام المبادرة لتوجيه التوق إلى التغيير - وليس منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية أو حماس، التي سيطرت على قطاع غزة في عام 2007 بعد فوزها في الانتخابات التشريعية للسلطة الفلسطينية. في عام 2006. انضمت حماس إلى المسيرة بعد انطلاقتها، كما فعلت جماعات أخرى في غزة، لكنها لم تبدأ الاحتجاج ولم تقوده. ومن المميز أن منتقدي حماس في إسرائيل والغرب ألقوا اللوم عليها على أي حال. بينما تقوم إسرائيل بقتل وتشويه المتظاهرين الفلسطينيين والصحفيين والمسعفين، ادعى متحدث باسم الجيش أنه “للأسف، منظمة حماس الإرهابية تعرض المدنيين للخطر بشكل متعمد ومنهجي”. ثم اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حماس بالتحريض على العنف واستخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، من الواضح أن الواقع الذي يسيطر على المجتمع الفلسطيني لم يكن احتجاجًا جماهيريًا، بل مذبحة جماعية. ومع ذلك، فإن الاتجاه التاريخي لإسرائيل والدول الأخرى لعدم رؤية المجتمع الفلسطيني استمر واتخذ أبعادًا جديدة مروعة. تنظر إسرائيل إلى 2.2 مليون شخص في غزة ولا ترى سوى حماس أو الأشياء التي تستخدمها حماس. إن الملاحظات الافتتاحية للمحامين الإسرائيليين في محكمة العدل الدولية مفيدة هنا:

تهدف [جنوب أفريقيا] إلى وصف الواقع في غزة. ولكن يبدو الأمر كما لو أن حماس... ببساطة لم تكن موجودة كسبب مباشر لهذا الواقع. ... [وفقاً لرواية جنوب أفريقيا، فقد اختفوا عملياً. لا توجد متفجرات في المساجد والمدارس ومهاجع الأطفال، ولا سيارات إسعاف تستخدم لنقل المقاتلين، ولا أنفاق أو مراكز إرهابية تحت مواقع حساسة، ولا مقاتلون يرتدون زي مدني، ولا سيطرة على شاحنات المساعدات، ولا إطلاق للنار من منازل المدنيين، ومنشآت الأمم المتحدة ومكاتب الأمم المتحدة. وحتى المناطق الآمنة. لا يوجد سوى إسرائيل التي تعمل في غزة.

وبطبيعة الحال، ناقشت شهادة جنوب أفريقيا حماس (إذا كان ذلك أقل من 137 مرة). ولكن ليس ذلك المقصود. ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن الفاعل الوحيد في غزة هو حماس. وإذا لم تكن حماس هي الفاعل الوحيد، فإن الفاعل البديل يجب أن يكون إسرائيل. وفي كلتا الروايتين، يختفي الشعب الفلسطيني.

وفي هذا الهجوم، الذي يعتبره مئات الخبراء إبادة جماعية، قد يكون الهدف هو محو الشعب الفلسطيني من الوجود. تقوم إسرائيل بتجويع الأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين وتقصفهم وتطلق النار عليهم وتهينهم، وتحرمهم من الماء والرعاية الصحية والمأوى والقليل من اللياقة الإنسانية. ففي أقل من خمسة أشهر، قامت إسرائيل بتهجير 85% من سكان غزة قسراً، وحشرت نحو 1.4 مليون شخص في المحافظة الواقعة في أقصى جنوب البلاد والتي تخطط الآن "لإجلائهم" قبل شن هجوم على المنطقة. ومع ذلك، فإن إنسانية المدنيين وقوتهم تظهر في كل لحظة من لحظات البقاء، على الرغم من الصعاب. إن المجتمع الفلسطيني – أطباءه المضطهدين، وصحفييه الأبطال، وأطفاله الأيتام، وآبائهم المكلومين، وسجنائه المعذبين، ومبتورى الأطراف الذين يعالجون دون تخدير، وغيرهم الكثير – هو قلب قصة هذه المذبحة، فضلاً عن هدفها الرئيسي.

لقد كان عدم الاعتراف بالفلسطينيين كشعب حقيقة اجتماعية واستراتيجية سياسية لأكثر من قرن من الزمان. هذا هو السياق الأوسع الذي تساوي فيه إسرائيل بين غزة وحماس وتزعم أن غزة سوف تصمت بمجرد جلب قيادة أكثر مرونة لحكمها. هذا هو السياق الذي تزعم فيه الولايات المتحدة أن الاتفاق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية يمكن أن يحل القضية الفلسطينية.

وهذا هو السياق الذي غالباً ما يهمل فيه القادة الفلسطينيون أنفسهم المجتمع الفلسطيني أيضاً. لقد مرت سبعة عشر عاماً على الانتخابات الوطنية الأخيرة للسلطة الفلسطينية. وتشير الدراسات الاستقصائية منذ فترة طويلة إلى أن الفلسطينيين ينظرون إلى حكوماتهم – السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح في الضفة الغربية وحماس في غزة – على أنها استبدادية وقمعية وفاسدة. وبغض النظر عن ذلك، فقد أبدت إسرائيل استعدادها للعمل مع كلا الطرفين الفلسطينيين، طالما أنهما يحافظان على أمن إسرائيل. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية المتمثلة في السعي إلى التوصل إلى تسوية مؤقتة مع زعماء فلسطينيين بعينهم، مع إهمال احتياجات الشعب الفلسطيني وتطلعاته، أنه لأمر  كارثي  على الجميع.

لسنوات أو عقود من الزمن، غالبًا ما ينسى العالم أن الشعب الفلسطيني موجود وأنه يفعل ذلك في ظل ظروف قاسية من القمع والسلب. ويبدو أنها لا تتذكر الفلسطينيين إلا خلال التصعيد الدوري للعنف، عندما يتحول الاهتمام إلى إدانة المنظمات والقادة السياسيين الفلسطينيين. وتبدأ الدورة من جديد.

***

........................

الكاتبة: ويندي بيرلمان/Wendy Pearlman: ويندي بيرلمان هي أستاذة العلوم السياسية ومديرة برنامج دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة نورث وسترن. تشمل كتبها "العنف واللاعنف والحركة الوطنية الفلسطينية" (2011) و"الإكراه الثلاثي: استهداف إسرائيل للدول التي تستضيف جهات فاعلة غير حكومية" (2018).

رابط المقال على: New Lines magazine   بتاريخ 24 فبراير 2024م

https://newlinesmag.com/argument/the-erasure-of-palestinian-society/

كانُ اليهودُ يعيشون في بلدانِنا العربِيَّةِ والاسلامِيَّةِ مُعَزَزِينَ مُكَرَمينَ، لايتعرضُ لهم أَيُّ شخصٍ بأذى، ولم تكن عندنا محاكِمُ تَفتيشٍ تُحاكِمُ على النوايا، كما حدثَ في اسبانيا مع اليهود والمسلمينَ.لم يتعرض اليهود عندنا الى ابادةٍ في معسكراتِ الاعتقال  النازِيَّةِ، ولم تكنْ هناكَ محارقُ ولامذابحُ، بل عاشَ اليهودُ بينَنا في أَمنٍ وسلامٍ .

اليهودُ تعرضوا للاضطهادِ والقتل والطرد من البلدان وحملات الكراهية في أُوربا . ومن يقرأ مسرحية "تاجرُ البُنْدَقِيَّةِ" لشكسبير، وشخصية شايلوك المرابي اليهودي يعرف مزاج الشعوب الأوربيَّةِ تجاه اليهود.

كانَ اليهودُ يُشَكِّلونَ مُشكَلَةً في البلادِ الاوربيَّة. كان دورُهُم دوراً وطيفِيّاً، كما يقولُ المُفَكِّرُ المِصرِيُّ "عبدالوهاب المسيري"، دور المرابي الذي يقرض الناس الاموال بفوائد فاحشة. ولما انتهى هذا الدور بظهورِ البنوك والمصارف الاوربية، فكَّروا أنْ  يجدوا لهم دوراً وظِيفِيّاً آخرَ من خلال اقامةِ دولة لهم لتؤدي هذه الدولَةُ دوراً وطيفيّاً آخرَ كما يقول المسيري، وهذا الدور هو ان تكون دولة اسرائيل ذراعاً وطيفيّاً للدول الاستعماريَّة.

اليهود عاشوا في بلدانِنا كأقلِيّات ولم تكن هناك مشكلة. ليس كلُّ الأقليات عليها أنْ تقيمَ دولَةً لها. هناكَ أَقَلِيّاتٌ كثيرةٌ في العالَمِ موجودة ضمن مُكَوِّناتِ الدُوَلِ الأخرى، واذا فتحنا المجال لكل الاقليات بأن تقيمَ دُوَلاً فانَّنا بذلك نقومُ بتفكيكِ العالَم.

الأوربيُّونَ لما تخلصُوا من المُشْكِلَةِ اليهوديَّةِ هل هم -فعلاً- قاموا بحلٍ جَذرِيٍّ للمُشكِلَةِ، أم أنّهم خلقوا مشكلاتٍ لليهودِ ولدول المنطقةِ، فزادوا المسألَةَ تعقيداً، فاسرائيل منذُ تأسيسِها عام 1948م حتى اليوم، هي كيانٌ لاينعم بالاستقرار؛ لانَّها  وجودٌ غيرُ طبيعيٍّ في المنطَقة. انَّ خلقَ كيان اسرائيل أضافَ الى المنطقة عاملَ توترٍ وعدم استقرار وفجَّرَ صراعاتٍ كثيرةً في المنطقة. وهذا الرأي يشاركنا فيه اليهودُ المعارضون لدولةِ اسرائيل، فحركة "ناطوري كارتا" والتي تعني "حراس المدينة"، وهذه الحركةُ هي حركةٌ يهوديَّةٌ ترفضُ الصهيونِيَّةَ بكلِّ أشكالِها وتعارض وجود كيان باسم دولة اسرائيل. وجود اسرائيل الذي اسس على اساطير ومقولات توراتيّةٍ كما يرى روجيه غارودي في كتابه " الاساطير المؤسسة لدولة اسرائيل" . وهذه الحركة لاتؤمن بقيام دولة لليهود قبل خروج المسيح.

الاوربيونَ حينما تخلصوا من المشكلة اليهوديَّةِ، فكروا بانفسهم ومصالحهم، ولكن لم يفكِّروا باليهود انفسهم، واستقرارهم، وسلامة وجودهم، ولم يفكِّروا باستقرار المنطقة الحيويَّةِ حتى بالنسبة لهم ولمصالحهم. كيان اسرائيل وفق المعطيات والحساباتِ الدقيقةِ غير قابل  للديمومة ؛ لانَّهُ كيانٌ غير طبيعي؛ كيانٌ ليس فيه مُقَوِّماتُ الدَّولَةِ من ارض ؛ لان الارض ليست أرضه، ارضٌ اغتصبت بالقُّوَةِ، وليس لديه شعب، بل هم تجمعات من شعوب مختلفة، كيان غريبٌ عن المنطقةِ واهلها، فكيفَ يبقى؟ انه يقف اليوم بالدعم الهائل بالمال والسلاح  والهجرة .

***

زعيم الخيرالله

أشعر شعوراً جلياً بأن كل أزمات السودان، وعقباته الكبرى التي تمس صميم وحدته، يمكن أن ننعيها، ونهيل عليها التراب، إذا انخرطت كل أطيافه ومجموعاته الاثنية المتعددة في قالب معروف، فمشاكل السودان على اختلاف درجاتها وتعقيداتها، ليست أدق من أن نفهمها، أو أشد غموضاً من أن نظهر عليها، فهي واضحة بينة، ولست أشك أنها رغم صورها المختلطة، وتفصيلاتها المتصلة، سهلة يسيرة، ليست خاضعة للاستحالة والانتقال من طور إلى طور، وإذا كانت أطر المقال وحدوده، تمنعني من أن أسرف في استقصاء التاريخ، فإن الحقيقة التي يجب عليّ قولها غير حافل بالرضا والسخط، أن التاريخ أكبر الظن قد عرضنا نحن في "بلاد النيلين" لكل  هذه المحن القاسية، والخطوب المتدافعة، فالتاريخ هو الذي جعلنا نتعثر في حياتنا السياسية، وهو الذي جعل طابع حياتنا يتسم بالحدة والعنف، وهو أيضاً الذي جعل مشاكلنا على وجه الخصوص هي التي نحوطها بالرعاية والعناية، فمشاكلنا وحدها هي التي نتخذ في سعينا لها أبعد الطرق، وأشدها التواء، وأفدحها عاقبة، وحتى لا أتحدث حديثاً لا طائل منه، ولا غناء فيه، ينبغي أن أعمد إلى الأدلة التي سأكون شديد الاقتصاد في ذكرها، فالذي أراه، أن "روح الخلاف" السائدة فينا، والتي نحتاج أن نستغرق كل أعمارنا حتى نفهم دقائقها، ونحيط بجوانبها، قد أورثتنا من العلل والأسقام ما لا يخفى على الأذهان، هذه "الروح" التي تثب مسرعة نحو الصراع وتهيم به، وتصفق له، قد أخذت تطوف أقطار هذه البلاد تطلب هواها في شدة والحاح، حتى أمست كل أمصارنا عنوانها الصراع، والتشرذم، فنحن إذا أردنا توصيف طابع حياتنا الاجتماعية، بما فيه من خير أو شر، في عبارات مقتضبة، لما وسعنا إلا نقول من غير عناء، ولا كد ذهن، أو تشحيذ خاطر، أن مجتمعنا قد أخذ من الصراعات بحظوظ متساوية، وأن حقائق الحياة فيه، والمألوف عنه، أن شبابه  وكهوله وشيوخه، قد أظهروا الميل لأن يجتمعوا في زمان ما، وفي مكان ما، بعد أن طافت بهم أيام قاسية، وحلّ بهم هذا الشقاء الذي حلّ بغيرهم من قاطني هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف، الشقاء المضني الذي ليس إلى دفعه من سبيل، ضرب لهم جميعا موعداً واحداً، وقادهم إلى نتيجة واحدة، وهي ألا تذعن أطيافهم لأحداث الزمان، وأن تمعن في هذه التجارة المنكرة التي تحملهم من بيئة إلى بيئة، ومن ولاية إلى ولاية، وأن يتخاطبوا جميعاً بهذه اللغة التي يطربون لها، ويفهمونها جميعاً، لغة السلاح، تلك اللغة التي تلعب المؤثرات الخارجية دوراً مهماً في انتشارها والحفاظ عليها، ولغة السلاح التي لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيء ردئ، يتهافت عليها السواد الأعظم من نسيجنا الاجتماعي، عدا الشمال والوسط، ولعل العلة في ذلك تطور الادراك الاجتماعي في هذه المناطق، وعدم مبالاتهم أأنصفهم الناس أم غبنوهم،  وحتى نجمل القول، نقول أن لغة السلاح، هي اللغة التي يتحرف لها كل إنسان يتطلع أن ينال من نعيم الحياة، ومن طيب العيش ورغده، إذاً السعي إلى الحرب، والحرص عليها، تدل دلالة واضحة قوية، على مزايا هذه "الروح" التي لا تعرف المصانعة والمداهنة والملق، نزعات هذه "الروح" وخصائصها الساذجة المتأصلة فيها، تختصر خبايا هذه "الروح" اختصاراً شديداً، وتبرهن بجلاء أن شعورها "بالغبن والتهميش" هو الذي ينتهي بها دائماً إلى سعيها اللاغب في مضمار البؤس والمعاناة.

التاريخ أزرى بمجتمعنا هذا، هذا هو الرأي الذي يجب أن نتماثل، ونتقارب، ونتآلف حوله، التاريخ هو الذي اضطرنا أن نرافق على كره منا، مشاعر متنافرة، لا تتوادد، ولا تجتمع، ولا تملك نفسها في أن توغل في الخصومة بغير حساب، "التاريخ ونظامنا الاجتماعي والسياسي"، هم من جعلوا حظنا من الفقر والجدب، والنزاع، وافياً كافيا، ونحن في الحق نتعجل أن نضع حداً لكل هذا البؤس، وهذه المعاناة، فكل المؤشرات توحي بعد هذه "الكريهة الشنيعة" التي ما زالت مستعرة في العاصمة وفي غرب ووسط البلاد، أن السودان ماض نحو التفرقة، والتفتت، ما لم يقم كينونته على حب عنيف شفيف، ولكي لا تتبعثر جزئيات هذه الديار، يجب أن نطهر دواخلنا من دنس التاريخ، وأن نرعى أصول ومناهج وحدتنا القومية، وأن ندير ملكة التفكير التي لا نكاد نصل إليها، التفكير الذي لا نجهده ونشقيه إلا في حياتنا المالية، وأعمالنا الصناعية، والتجارية على قلتها، علينا أن نفكر ونحسن التفكير، في كيف تمضي مسيرتنا في قوة، وصدق، واخلاص، ومحبة، و كيف نصفي أفئدتنا مما يخالطها ويعتورها، كيف نترك الخمود، والجمود، ونسير بهذا الوطن المثقل بالجراح في غير أناة نحو الرقي والتطور، ينقصنا الحب أيها السادة، وقد نظفر به إذا صدقنا في عزمنا، نحن فعلا في حاجة لأن نحيط بناصية الحب وننزلها على حكمنا، وأن نترك هذا التباغض، وهذا الاسراف في الحديث عن الأعراق، فأعراقنا مختلفة متباينة، ولا رابط لها غير خصيصة لوننا، فنحن سود عرباً كنا أم أفارقة، الحديث عن الأعراق يعوقنا عن الحركة، ويجعل وتيرة تقدمنا لا تمضي إلا في بطء وأناة، كما يقول أديب مصر، خريج جامعة السوربون، فمن الخير أن نكف عن هذه الأحاديث العجفاء، وأن نحظى بحياة عقلية محضة، لا أثر فيها لجاهلية ما قبل الإسلام، فصلتنا بتفاصيل تلك الحياة الشائهة المضطربة ما زالت قوية خصبة رغم تباعد القرون.

ما أخشاه أن تتقوس قناتنا من الهرم، إذا قيض الله لنا أن تمضي مسيرتنا في هذه الحياة، قبل أن نظفر بحياة هادئة وادعة، نتفوق فيها في الطب والعلوم، العلوم التي تنشط العقول وتحملها على التفكير، ما زال صوتها خافتاً فاتر، وأنى لصوتها أن يعلو ويرتفع مع صخب هذه الحروب التي كلفتنا من العنت ما نطيق وما لا نطيق، أتمنى بعد أن نطوي صفحة الحرب، أن نناضل في سبيل تحقيق هذه الآمال العريضة، فأنا على الصعيد الشخصي ما أتمناه أن نحوز على المراتب العليا في كل شيء، وأن يكون قطرنا صاحب النشاط الدائب في الآداب والفنون، وفي التعايش السلمي والحكم الرشيد، ولكن لعمري لن يحدث شيئاً من هذا، إذا ما زلنا مستمسكين "بارث الانجليز"، فمن هنا نعلم، أن خصوماتنا العنيفة المحرجة والممضة، سببها السياسة التي رسمها المحتل قبل أكثر من قرن، وما زلنا نتبعها، ونؤيدها، ونسرف في تأييدها، معظم ما واجهنا من مشقة وعسر، وما جابهناه من جدال ونضال، تسببت فيه"بريطانيا" بمكرها وخبثها، فهي كانت لا تسعى إلا لتحقيق منفعتها الخاصة، لأجل ذلك كانت تئد أي مظهر يعمق من وشائج مكوناتنا الاجتماعية، أو يثري من عواطفنا القومية، بعد أن هال هذه الدولة التي تكره الشعوب على ما لا تريد، انصهار هذه القبائل المختلفة، والسحن المتباينة، وذوبانها في بوتقة"المهدية" ونصرتها لهذه الدعوة التي كلفتها الكثير، لقد أيقنت المملكة التي كانت لا تغيب عنها الشمس، أنها لن تقدر أن تحقق منافعها وآمالها من هذا القطر، إلا إذا أخضعته لنظم وقوانين "التصنيف والتفضيل"، فليس من باب الصدفة المحضة أن يتاح لوناً من ألوان الحياة الاجتماعية على منطقة جغرافية بعينها، ويحرم هذا اللون على منطقة أخرى، وأن يقصى اقليم وتقيد حركته بالأغلال والكوابل، ويترك غيره شديد الحركة، متصل النشاط، لقد افضت هذه السياسة المقيتة لانفصال الجنوب، ونخشى أن تحذو دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق حذواً لا نرضاه أو نقبله، وحتى نريح أنفسنا من اللوم المتصل لسياسة المحتل البغيض، نقول أنه من السهولة بمكان أن ندير ظهرنا لهذه السياسة، وأن نشفى من ويلاتها، وأن نتعافى من عقابليها، إذا سعينا لتحقيق منفعة سياسية خاصة تتمثل في "تدوير الحكم"، فقد طال به المقام في شمال السودان، آن الأوان لأحزابنا الحرة النزيهة، أن تلتقي، وتتحدث، وتختار" الحاكم المدني" الذي يملأ يديه بما ينفع الناس، وأتمنى صادقاً أن يتجافى الشمال عن الاستحواذ على هذا المنصب، وأن تتفق هذه الأحزاب على معاهدات الصلح بين القبائل ونظم السلام، حينها فقط يعود إلى السودان نشاطه، ويعود إليه شبابه، ونحس من انجلترا هذا الألم اللاذع الذي يجعلها منكسرة القلب، كاسفة البال.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم