آراء

آراء

"لقد اصبح الامر اكثر وضوحا"؛ اعلن انتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة في زيارته الأخيرة الى الدوحة، متحدثا عن مسار عملي، ومحدد زمنيا، ولا رجعة فيه لإقامة دولة فلسطينية تعيش في سلام جنبا الى جنب مع دولة إسرائيل (طبعا بلينكن يدعو الى دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة). وهذا الامر يتوافق مع ما يدعو اليه  النظام العربي الرسمي منذ فتره بما يسمى حل الدولتين، كما دعت السعودية وقطر الى تسوية شاملة. في المملكة المتحدة اعلن ديفيد كاميرون وزير الخارجية دعمه التام لدولة فلسطينية، كما اصر في بروكسيل جوزيب بوريل على انها الطريقة الوحيدة لإحلال السلام في الشرق الأوسط.  يمكن النظر الى هذه التصريحات على انها محاولة محمومة للاحتواء الامبريالي، واذا لم يكن من الممكن تجاهل الفلسطينيين بالكامل كما هو الحال في اطار الاتفاقيات الابراهيمية، فمن الأفضل الدفع باتجاه إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومجزأة حتى يتسنى المضي قدما في التطبيع مع إسرائيل. الرئيس بايدن، شخصيا وسياسيا ملتزم بأجندة كوشنر للشرق الاوسط بعد ان اخرجها طوفان الاقصى من المسار في السابع من أكتوبر.

وكما ذكرت "الفورين افيرز" الامريكية ان حل  الدولتين سيسحب البساط أيضا  من ايران والقوى المتحالفة معها، من حزب الله والقوى الشيعية في العراق وانصار الله في اليمن. وسيكون المجال مفتوح لتحالف عربي سني -إسرائيلي ضد ايران. والدعوة الى دولة فلسطينية سيخفف من الغضب الشعبي الذي يكتسح الجماهير العربية ضد الأنظمة العربية التي لم تستطع ان تقدم أي مساندة للشعب الفلسطيني وتركت اهل غزة يعانون ابشع المجازر، هذا  بالإضافة الى التجويع والقهر.

ولكن كيف على القوى الوطنية والتقدمية الفلسطينية والعربية التعاطي مع عودة موضوع حل الدولتين. رد الفعل الأكثر شيوعا، هو رفضه باعتباره خيالا إمبرياليا خطيرا، وعلى انه إضفاء الشرعية على نظام الفصل العنصري، ومن ثم الدعوة الى نظام الدولة الواحدة كخيار استراتيجي. طبعا خيار الدولة الديمقراطية الواحدة تم طرحة بعد نكسة حزيران من قبل اليسار الفلسطيني، ومن ثم تم تبنيه  كاستراتيجية سياسية من قبل ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. بعد اوسلو تبنى هذا الخيار تيارا من المثقفين الفلسطينيين من ضمنهم؛ أدورد سعيد، غاده الكرمي، لما أبو عوده واخرون. كتبت غادة الكرمي في عام 2002،  "رغم ان النضال من اجل دولة ديمقراطية يبدو يوتوبيا ، ولكن ليس اكثر يوتوبيا  من مشروع انشاء دولة يهودية على ارض الغير".

ان الشعب الفلسطيني في غزه والضفة وفلسطين التاريخية هو من له الحق في اختيار الحل الأمثل لصراعه مع الصهيونية، لذلك لا يحق للأخرين تحديد نوع الحل المقبول للفلسطينيين.  ان حل الدولتين يحد من حق العودة للفلسطينيين، وسيحصر الفلسطينيين في كانتونات متفرقة تمزقها المستوطنات اليهودية. اما سردية الدولة الواحدة سيفرض عليهم التخلي عن النضال من اجل انهاء الاستعمار الاستيطاني، وتكوين صداقات مع المحتلين والسماح لجميع المستوطنين بالبقاء. كم يبدو ذلك امرا صعبا بعد المجازر التي اقترفها الصهاينة.  ان قرارا مثل هذا يجب ان يأت من الفلسطينيين انفسهم، ومن هنا تكمن أهمية الطابع الديمقراطي للبنية السياسية الوطنية الفلسطينية، مما سيدعو الى تمكين المداولات الشعبية الحقيقية للمحافظة على الثوابت الوطنية الفلسطينية.

وكما ذكرت الباحثة الفلسطينية كرما نابلسي " انا واقعية للغاية فيما يتعلق بما يجب ان يكون عليه الحل، بعض الناس حريصون جدا على حل الدولتين. هناك من يجادل لصالح دولة واحدة ثنائية القومية. اود ان أقول انها ابسط من ذلك بكثير. صححوا الظلم الذي وقع، وبمجرد ان يتمكن الناس من العودة الى منازلهم، دعوهم يقررون بشكل ديمقراطي نوع الاطار الذي يريدونه".

ولكن بالنظر الى الوضع الإقليمي الحالي هل لا يزال خيار الدولة الواحدة هو الخيار الأكثر مبدئيا وواقعيا؟ ان مرض مجتمع المستوطنين الذي لا يمكن علاجه، والذي اصبح أوضح واكثر رعبا من أي وقت مضى، قد يكون عائقا امام دولة واحدة، بقدر ما تشكل الجغرافيا الاستيطانية الراسخة في الأراضي المحتلة. اذا كان من المستحيل  تصور اقتلاع المستوطنين من الضفة الغربية، فمن المؤكد انه من الأصعب توقع قبول إسرائيل بنهاية القومية العرقية العنصرية والتعايش السلمي مع الفلسطينيين.

في عام 1974  أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية ضمن برنامجها الوطني إقامة سلطة فلسطينية على أي ارض فلسطينية يتم تحريرها باي وسيلة كانت، ومن هنا تم انشأ سلطة فلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو. ولكن من الواضح ان إسرائيل فرغت المحتوى الوطني لهذه السلطة وكبلتها باتفاقيات امنية. المفهوم الاستراتيجي لحركة المقاومة (حماس) لم يكن يختلف في جوهره عن مشروع منظمة التحرير، وهي تسعى نحو تحقيق انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. غير ان عبدالعزيز الرنتيسي وجد في انتصار حزب الله وفي قدرته على اجبار الإسرائيليين على الانسحاب من جنوب لبنان نموذجا يقتدى به في تحرير فلسطين.

لاشك ان غزو إسرائيل لقطاع غزه، والمذابح التي اقترفها الصهاينة تطرح مهاما صعبة على حركة المقاومة، ولكن في نفس الوقت ان طوفان الأقصى ضرب الاستراتيجية الإسرائيلية في مقتل. كما فضحت هذه الحرب تواطؤ معظم  الانظمة العربية في مخطط تصفية القضية الفلسطينية. كما بات واضحا نفاق دول الغرب وسياسة ازدواج المعايير التي تمارسها ضد شعوب الجنوب. ان التضامن الذي شهدته القضية الفلسطينية على مستوى العالم أعاد هذه القضية الى مركز اهتمام الرأي العام العالمي. كما ان صمود المقاومة في غزة منح المقاومة وبالذات حركة حماس شرعية ثورية لا يمكن تجاوزها في أي حل للقضية الفلسطينية. 

***

علي حمدان

أن من بواعث اغتباطي هذه المقاومة التي شبت نارها في الأمة السودانية، وهي في الحق اضطراب نبيل قد باغت "الدعم السريع" بما لم يضع له حساب، فالدعم السريع الذي أقحم السودان في نكبة سياسية عنيفة، عرضته لهذه العواصف المتنافرة المتدابرة، بيحث  هذا "الدعم" مع حاضتنه السياسية التي تظن أنها خليقة بالاعجاب والاكبار، لأنها من دفعت هذا الشعب لأن يبتغي الراحة، ويبحث عن النوم العميق، بعد أن أماطت عنه شر حكم المشير "البشير" قحت" أو تقدم" سمها كما شئت، ما هي إلا الأم الرؤوم، أو الزوجة الوفية لقوات الدعم السريع، لقد دأبت هذه الحاضنة السياسية العاجزة عن الشعور بآلالام الناس ومعاناتهم، على تغيير اسمها في كل وقت وحين، تماماً كما تغير الأفعى جلدها الناعم الأملس، ولعل من الحقائق الثابتة الآن، أن "قحت" هي و"الدعم السريع" الذي يفضي إليها بكربه، يبحثان عن نافذة يقفزان منها طلباً للنجاة، "قحت" و"الدعم السريع" اعتقدا أن السودان سيظهر لهما الخضوع والاذعان، وأنه سينخرط معهما في نضال دائب لاجتثاث تشكيلاتنا السياسية على اختلافها، تلك التشكيلات التي نصفها  أعمى ونصفها مشلول، تسعى "قحت" التي تحتاج إلى من يعيد إليها اتساق خاطرها، بعد أن مُنِيتْ قوات الدعم السريع" لهزائم فادحة متتالية، وبعد هذه"الهبة الشعبية الهادرة" التي أفضت لأن ينتظم السواد الأعظم من هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، في استنفار عظيم، جعله يرسل صفوفه المنظمة المستمرة إلى ساحات التدريب، تلك الساحات التي تفتح الباب لنيل رغائب عليا، وتشق لهم طرقاً تقودهم إلى الجهاد والاستشهاد، والدعم السريع وقحت معاً، قد أظهرا ضجرهم من هذه الساحات، ومن هذا الاصطفاف مع القوات المسلحة السودانية، ووجدا عسراً في هضم هذا التلاحم وازدراده، لأنه كفيل بأن يقصم ظهريهما، هذا الانصهار حتماً فاتحة التوفيق للجيش والشعب معاً، لأن يتحركا ويضطربا طوال الليل، وطوال النهار، حتى تصطبغ الأرض بلون الدم، وينتقل السودان من طبقة الاكتئاب التي مكث فيها قرابة العام، إلى طبقة مترفة لا مشقة فيها ولا عناء.

وفي الحق هذا الواقع يثقل على"قحت" الشرِهِ إلى الحكم، ويؤذيها، ويزيدها ضيقاً إلى ضيق، أما قوات "الدعم السريع" التي يخالجها شعور بالخوف، دفع كماتها وجنودها الأشاوس، لأن يتسربلوا بأزياء النساء الواسعة الفضفاضة، طمعاً في الفرار من نقمة " قوات هيئة العمليات"  تلك القوات الكثيفة الحالكة، التي لا تمكن "قوات الدعم السريع" أن تختلس حتى النظر إليها، فهم كوكف المطر الذي ينهمر بغتة، ليجعل من فاجأه لا يلوي على فعل شيء، وقوات الدعم السريع التي تستخذي هذه القوات الضارية استخذاءً عظيما، وتسعى لئلا تقع تحت يديها، ساخطة زارية على" "قحت لأنها تخوض هذا النشاط الفاتر الذي لم  يفضي إلى شيء، ولم يأتي بالسلم الذي تبحث عنه أطيافها، لقد غام الأفق في سماء الدعم السريع، وأغوار الأرض وسهولها، ها هي عابسة مقطبة، والجيش والمستنفرين لا يجدون لذتهم إلا في الفتك بهم، والهجوم عليهم بضراوة، هذه الهجمات العنيفة المتصلة، تدفع بعض قوات الدعم السريع إلى حافة الجنون، وتجبر طائفة أخرى لاتخاذ هذه المواقف المخزية كارتداء ملابس النساء، ومحاكاة مشيهن وتأودهن كلما مرت هذه الجماعات الملتحفة "بملابس الحريم" بارتكازات الجيش، هجوم الجيش المتواصل وثباته في الذود عن حياض بلده، هو  الأمر الذي يجبر قوات الدعم السريع تسعى للهروب مهما كانت المشقات.

و"قحت" التي لم تطل التفكير منذ أن تماهى هذا الشعب مع هذه "النفرة" وأظهر الإصرار في أن يمضي بها قدماً حتى يسحق "منظومة الدعم السريع" على اختلاف شيعها، وطوائفها، وألوانها، فواهماً من ظنّ أن تلك المنظومة مرتهنة لجرثومة واحدة،  أو تعود أصولها إلى أرومة محددة بعينها، كلا، هي عدة جرثومات تدافعت من أقطار شتى لتلقى حتفها في أرض السودان، هؤلاء الموتى كان الأمل يحدوهم بأن يعيشوا عيشة مادية ممتازة، وأن يأخذوا من كل لذة بطرف، ولكن القوات المسلحة السودانية أقصت كل هذه الأماني، وأحالتها إلى زوايا النسيان، ومن تبقى حي منهم، ينظر الآن في حسرة بالغة إلى هذه الحياة الذاهلة عنه، ويبصرها وهي تسير مدبرة عنه، وأكبر الظن أمام هذا التدافع المحموم من قٍبَلْ الشعب وانخراطه في سلك الجندية، أن القادة في قوات الدعم السريع لا يستطيعون أن يفرغوا لأنفسهم، أو يعكفوا في مكاتبهم المؤسسة أو المتحركة، لوضع الخطط التي توقف سلسلة هذه الهزائم الساحقة، أو حتى ينفردوا بحياتهم الخاصة، ليتعهدوا أسرهم وذويهم بالرعاية، هؤلاء القادة المنخوبي الفكر، قطعاً لا يقدرون على بث شكواهم لعائلاتهم، ويخبروهم عن أفئدتهم التي تمزقها الحسرات، ولا عن بركان الخوف الذي يوشك أن ينفجر في صدورهم المضطربة، وهم عاجزين عن كبحه، الضعف يمنعهم عن البوح كلما التفتوا إلى خاصتهم، ولكن كيف لمهجهم الجزعة أن تثوب إلى السكينة؟ فالأزمة التي تعبث بهم في وقتنا الحاضر، ليست مثل تلك الأزمات التي صادفتهم في طريقهم المحفوف بالخطر، والمترع بالأماني الجياد، ليست مثلاً أزمة خصومة بينهم وبين غيرهم من الأحزاب السياسية، أو أزمة تنافس بينهم وبين هذا النظام أو ذاك من نظم الحكم، أزمتهم الحالية هي أزمة مدت عنقها، وقادتهم لأن ينكروا  نفوسهم، ويظلوا مطرقين حيناً، ثم ناظرين عن يمين وشمال حيناً آخر، كما يقول أديب مصر الضرير، إنها أزمة أعمق من كل تلك الأزمات، أزمة تتعلق بوجودهم على ظهر هذه البسيطة، أزمة جعلت أعصابهم تفتقر للاسترخاء والطمأنينة، أزمة تستحق هذا اللقط المتصل الذي تنهض به حاضنتهم السياسية، والذي تسعى لأن تعكر به الأجواء، وتجعل الناس، كل الناس، تنصرف عن هذا الاستنفار، حتى لا يبقى فرد في هذه الساحات والميادين والمعسكرات، إن أكثر ما يضني الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع، أن جموع وشرائح الشعب السوداني ما زالت تعبر عن نفسها بصور مختلفة، وترفض كل الادعاءات والحجج التي ساقتها "قحت" لتنفر الناس من هذه المقاومة، هذه الجموع التي تعلوها ابتسامة زاهية تعرفها "قحت" جيداً توحي بأن خطر الحرب الأهلية التي ساقته "قحت" المبوءة بالشر، لم ينطلي عليها، هذه القطاعات لم يومض ثغرها بالابتسام فقط، بل ذخلت في نوبة من الضحك المتصل على ترهات "قحت" لأنها لا تحترم نبوغ هذا الشعب وألمعيته، فبعض أراجيف الحاضنة السياسية للدعم السريع لم تأخذ حظها الوافي من النظر والتأمل والتفكير، وذلك مثل قولهم:"أن الحركة الإسلامية التي قوضت الحكم المدني، وأشعلت أوار هذه الحرب، وقصفت منازل الأبرياء في حدة وعنف، وقضت أيضاً على البنية التحتية، وهدمت الجامعات ومراكز البحوث، لأنها قنطت من العودة لصولجان الحكم، ألجأها فكرها الخبيث لابتكار خدعة "المقاومة الشعبية" غير عابئة بالأضرار الجسيمة التي يمكن أن تنجم عنه، والحركة الإسلامية السودانية التي تلقت هذا الرزء لقاءاً كريما، وتعاظم جهادها في معركة الكرامة،حتى انتزعت الثناء من عتاة خصومها، تستطيع أن تقدم عشرات الحجج لدحض افتراءات" قحت" ولكنها في الحق لا تصغي إلى أضاليل الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع، بل تصغي لشيء آخر أشد الاصغاء،  تصيخ بسمعها لصوت تشعر أن من بلادة الحس، وجفوة الطبع، وقسوة النفس، وضعف الإيمان، ألا تسمعه وتهرع إليه، وأن تخلو إليه وحده، فنحيب الوطن يدفعها لئلا تراعي لغيره من الأصوات السمجة، وأن تنصره إلى أبعد آماد النصرة، فالوطن وحده هو من يستولى على هوى الحركة الإسلامية "الصادقة" ويقتنص قلبها.

***

د. الطيب النقر

 

لم تمر كلمات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، خلال مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا، عقد في باريس مؤخرا، وقوله "إنه لا يستبعد إدخال قوات الناتو إلى أوكرانيا"، مرور الكرام، فقد كان الرد الروسي سريعا، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين، خلال رسالته إلى الجمعية الفيدرالية يوم 29 فبراير/شباط الماضي، و ذَكرَ فيها بوتين الغرب بخطوط بلاده الحمراء، واكد إن نقل جنود الناتو إلى كييف، يمكن أن يؤدي إلى حرب نووية وتدمير الحضارة، وحذر الغرب وعلى أي دولة تجرؤ على إرسال قوات إلى أوكرانيا من "عواقب وخيمة".

وعلى مبدأ " خير الكلام ما قل ودل "، لم يخصص الرئيس الروسي وقتا طويلا للحديث عن العملية العسكرية الخاصة، رغم طول خطابه الذي عُد بأنه الأطول له منذ عام 2018، الا انه أثار اهتماما كبيرا لدى الغرب وجميع وسائل اعلامه  الصديقة منها لروسيا  والغير صديقة، وقالت  صحيفة التلغراف البريطانية  ان هذا "تهديدًا نوويًا" هو ما سمع  في كلمات بوتين حول عواقب النقل المحتمل لقوات الناتو إلى أوكرانيا.

وفي الوقت الذي يحذر فيه قادة حلف شمال الأطلسي، وخاصة على طول حدود الحلف الطويلة مع روسيا، وبشكل متزايد من أن الصراع المباشر مع موسكو يشكل خطرا حقيقيا، مما يشير إلى أن الغرب لديه ما بين ثلاث إلى عشر سنوات للاستعداد للحرب، أُعتُبِر ان رسالة الرئيس الروسي وتأكيده مرة أخرى  إن القوات النووية الاستراتيجية الروسية في حالة استعداد تام، هي بمثابة  رسالة تحذيرية وتهديدية  مهمة.

وتصريحات الرئيس الفرنسي والتي تراجع عنها بعد ذلك، رغم انه اكد بان ما قاله هو كلام موزون " وفكر فيه مليا "، عاد مرة  ليقول،  " بانه لا يوجد إجماع اليوم بشأن إرسال قوات على الأرض بطريقة رسمية ومضمونة " ، وبالتالي ان المبادرة رفضت على الفور، وابرزت ذلك الانقسام الكبير في صفوف الاتحاد الأوربي،  حتى صارت هذه التصريحات   مصدر سخرية  الجميع، وقال مستشار البنتاغون السابق العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي دوغلاس ماكغريغور" إن غاية ما يستطيعه الجيش الفرنسي هو "رحلات السفاري في إفريقيا"، لا مواجهة القوات الروسية بأوكرانيا،  وفي تعليقه كتب  نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف،  "إن البعض يعاني من سلس البول "، في حين ذكرت  صحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية أن تصريحات الرئيس الفرنسي، أجبرت المستشار أولاف شولتس على وضع حد لكلامه، مذكرا بالاتفاقيات الأوروبية، وانه  "ما تم الاتفاق عليه منذ البداية ينطبق أيضا على المستقبل، وهو أنه لن تكون هناك قوات على الأراضي الأوكرانية مرسلة من الدول الأوروبية أو دول الناتو".

ورغم أن معظم الخطاب الرئاسي كان مخصصاً للقضايا الداخلية الروسية، إلا أن الغرب يحاول أن يحلل باهتمام كبير إشارات السياسة الخارجية التي عبر عنها رئيس الدولة الروسية، وتشير صحيفة نيويورك تايمز مثلا  إلى أن "السيد بوتين يعلم أن معارضيه - بقيادة الرئيس بايدن - هم الأكثر خوفًا من تصعيد الصراع"، وان بوتين  لم يوضح فقط أنه يضاعف "عمليته العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، بل  وأوضح أيضًا "أنه لا ينوي إعادة التفاوض بشأن آخر معاهدة رئيسية للحد من الأسلحة سارية مع الولايات المتحدة، والتي تنتهي صلاحيتها في أقل من عامين، ما لم يتم تحديد مسار جديد لمصير أوكرانيا، التي من المفترض أن أجزاء كبيرة منها  تقع الآن  تحت يد روسيا".

الرئيس الروسي نبه الغرب بأن قواته المسلحة حصلت على خبرة هائلة نتيجة لتعاون جميع الأسلحة، ولديها  طاقم كامل من القادة الذين يستخدمون الأسلحة والتكنولوجيات الحديثة، بدءا من الفصائل ووصولا إلى أعلى القيادات يتفهمون المشكلات ويعالجونها، وقد نمت قوتها القتالية عدة أضعاف، والتشديد في الوقت نفسه على ان بلاده تَكُن من بدأ الحرب، وإنما قامت  بها دفاعا عن سيادتها وعن أمن مواطنيها، ولديها استعداد قتالي كبير للقوات النووية الروسية، والتي استقبلت  الأسلحة الحديثة وهو ما تحدثت عنه في 2018.

لقد اختار الرئيس بوتين هذا الوقت بالذات بشكل خاص، واختبر من خلال خطابه مقدار مخاوف الغرب، ورد  أيضاً على تكهنات مفادها أن الولايات المتحدة، التي تشعر بالقلق إزاء تعرض أوكرانيا لسلسلة من الخسائر، قد تزود كييف بصواريخ أطول مدى أو تصادر 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة منذ فترة طويلة، والمحتفظ بها الآن في البنوك الغربية،  ونقلها إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لشراء المزيد من الأسلحة، واستشهد بوتين بما تحققه الأسلحة الروسية كصواريخ الفرط الصوتية " كنجال "،  وصواريخ " تسيركون "، والتي باتت تستخدم بفاعلية لضرب الأهداف الأوكرانية، والاشارة الى انه يجري الان اختبار صواريخ "بوريفيسنيك"، والغواصات المسيرة "بوسيدون" وهي تحمل ميزات فريدة من نوعها، وان روسيا مستمرة في عملها على سلسلة من الأسلحة المتطورة، وسوف يكشف المستقبل عنها، والاشارة الى انه تم تسليم مجمع "سارمات" للقوات المسلحة، وستستعرضه روسيا  قريبا.

لغة القوة كانت عنوان الخطاب للرئيس الروسي، فقد وصف ما يقوم به الغرب هو "نفاق شديد "، والذي يرمي بالاتهامات الباطلة بسعي روسيا  لنشر أسلحة في الفضاء الكوني،  وتلك هي ليست إلا  محاولة لجر روسيا إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، التي تعرقل المقترحات الخاصة بنشر الأسلحة النووية في الفضاء، والتي وضعت  في 2008، ولم تتلق روسيا  أي رد، وان تصريحات الإدارة الأمريكية الحالية بالسعي إلى النقاش بشأن الاستقرار الاستراتيجي ليست سوى كلمات وكما عبر عنها بوتين "خاوية من المضمون"، ولا يمكن مناقشة ذلك إلا بمجموعة متكاملة من القضايا مرتبطة بالأمن القومي الروسي.

روسيا تمتلك الآن نوع من الميزة في تطوير وإنشاء أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، وهو ما تتخلف عنه  الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ومن الواضح وفقا لفلاديمير  فاسيلييف، كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا،  أن محاولتهم الدخول في مفاوضات حول هذه القضية، وإبرام نوع من الاتفاق، تهدف إلى الحد من قدرة روسيا  على تحسين أنظمة الأسلحة هذه وحرمان روسيا  من المزايا التكنولوجية، ويظهر التحقيق الذي أجراه الأمريكيون أنهم يحاولون إقناع روسيا  بوقف تطورها، وإذا لم تكن هناك تطورات، فلن تكون تلك المزايا نفسها موجودة، ولهذا السبب تم رفض المبادرة الأمريكية، حيث تصر روسيا بالعودة  إلى صيغتها  لعام 2008 بشأن مسألة إطلاق جميع أنظمة الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة النووية، إلى الفضاء.

كما ان الغرب يسعى لجر موسكو  إلى سباق التسلح، وتكرار المخطط الذي حققوه في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت تبلغ نسبة تمويل المجمع الصناعي الدفاعي 13%، الا ان روسيا وكما اكدت عدة مرات انها لن تنجر الى ذلك السباق، وانها تعمل اليوم على بناء منظومة فعالة لقواتها المسلحة، واستخدام كل روبل لمخصصاتها  العسكرية لتعزيز دفاعها  والوصول إلى مستوى جديدة للأسطول والجيش، وشدد بوتين، على انه  لا بد أن يفهم الغرب أن بلاده  تمتلك أسلحة قادرة على إصابة الأهداف في أراضيهم،  وانهم( الجيش الروسي ) وعلى عكس الغرب،  مروا باختبارات صعبة، و يعرفون ما تعنيه الحرب، وتجاوزوا هذه الاختبارات في القوقاز، ويتكرر الوضع في أوكرانيا الآن، وإن ما يقوم به الغرب يهدد الأمن الأوروبي، ويجب أن يكون هناك هيكل جديد للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة، واعرب الرئيس الروسي عن استعداد بلاده  للحوار مع جميع الأطراف.

وروسيا اليوم ترى آفاقا واعدة في شراكة أوراسيا عظيمة في إطار انسجام المشاريع الاتحاد الأوراسي والمبادرة الصينية "طريق واحد-حزام واحد" كما يتم تطوير المشاريع في منطقة "آسيان"، و لديها شراكات مع الدول العربية لتعزيز العلاقات، وكذلك الحال مع دول أمريكا اللاتينية، وهناك عدد من البرامج لنشر اللغة الروسية حول العالم.

رسالة بوتين كانت واضحة، فهو يرى النصر في أوكرانيا باعتباره صراعا وجوديا محوريا وأن الرئيس الروسي، وكما قالت صحيفة نيويورك تايمز، "يراهن على أن الولايات المتحدة تتحرك في اتجاه مختلف، وتصبح انعزالية بشكل متزايد، وغير راغبة بشكل متزايد في مواجهة التهديدات الروسية، وبالتأكيد غير مهتمة بدرء التهديدات النووية الروسية بنفس القدر"، ولفتت قناة CNBS التلفزيونية الانتباه إلى حقيقة أن فلاديمير بوتين أشار إلى وحدة الشعب والجيش الروسي في الدفاع عن الوطن الأم، وأشاد بالمواطنين الروس والصناعة وقطاع الأعمال، وكذلك القوات الروسية في أوكرانيا لجهودهم، ووقف دقيقة صمت حدادًا على القوات المسلحة الروسية، قبل أن يمتدح الخبرة القتالية "الهائلة" التي اكتسبتها خلال عامين من القتال في أوكرانيا، في حين وصفت صحيفة جلوبال تايمز الصينية خطاب بوتين بأنه رسالة ثقة، و"أظهر التحدي الذي تشكله روسيا للنظام الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

نحن على مشارف انتهاء هذه الدورة من معركة بدأت منذ السابع من أكتوبر واستمرت نحو مائة وخمسين يوماً.. وقاربت على الانتهاء بهزيمة غير معلنة لإسرائيل. والتفكير القائم في كل أروقة السياسة في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية يدور الآن حول اليوم التالي للحرب..

  ومهما كان ما قرروه وما يتآمرون لتحقيقه، فهو لن يستطيع إغفال حقيقة الهزيمة الإسرائيلية، ومن المعلوم أن المهزوم لا يستطيع إرغام المنتصر على شروطه مهما حاول!

مؤامرات مكشوفة

  رغم كل الخلافات التي تعصف بمجلس الحرب الإسرائيلي، والانقسامات الحادة بين كل أعضاء الكابينت من جهة، وبين رئيس وزراء يريد إنقاذ رقبته وتبييض سمعته السوداء الحالكة الملطخة بدماء ضحايا بالآلاف أولهم جنوده الذين ألقي بهم في أتون حرب خسروها خسرانا مبيناً في كل مواجهاتهم المباشرة.

 رغم كل الخلافات العاصفة والانقسامات المنذرة بالأسوأ، فإنهم لم يتوقفوا يوماً عن التآمر والخداع ورسم الخطط للنيل من فلسطين والعرب والعروبة. آخر تلك المؤامرات هي تلك التي من أجلها سحبوا قواتهم في الشمال والوسط الغزاوي وأنظارهم تتجه صوب مدينة رفح يريدون اجتياحها لتنفيذ مخطط التهجير القسري لمليونين من فلسطينيي غزة. وهو ما وقفت مصر ضده بالمرصاد. بل ووقفت ضده أمريكا، بل وسائر الدول العربية أمام محكمة العدل الدولية للتحذير من تنفيذ ذلك المخطط الذي ستنتج عنه مذبحة أشد وأقسى من كل مذابح إسرائيل على مدار تاريخها المظلم.

  وفى مجلس الأمن موقف غير مفهوم وغير مقبول من أمريكا راعية الحريات! عندما أشهرت سلاح الفيتو للمرة الرابعة أمام الجميع، ورفضت قراراً بوقف إطلاق النار، رغم أنها أعلنت في تصريحات صدرت عن البيت الأبيض أملها في الهدنة ورغبتها في إدخال المساعدات الإنسانية لتلك البقعة المنكوبة بسفاحي الحرب الذين انتهكوها أمام عالم غض الطرف عن مأساتها. وأما أمريكا فقد خلعت عن وجهها قناع الحريات الزائف لتكشر عن أنياب أشد مضاءً وفتكاً من ضبع الشرق الأوسط الطليق برعاية أمريكية بلا حدود!

نتيجة حرب أم مصير أمة؟

 انتهي الكلام في منابر الإعلام الغربية والإسرائيلية عن خسائر إسرائيل التي لم تعد تخطئها عين. وبات الكلام اليوم عن مصير إسرائيل!

 حتى حاخامات أورشليم خرجوا صارخين محذرين بأن نتائج الحرب الأخيرة تتعدي الضرر الأمني إلى تهديد وجودي يحدق بالكيان الإسرائيلي الغاصب.

    الإعلام العبري يتحدث الآن عن آلاف الإسرائيليين الذين تساقطوا في الحرب بين قتيل وجريح ومعاق. وأن العدد ارتفع لما يقارب الثلاثين ألفاً. وأن نحو نصف القوة الضاربة من تعداد الجيش يرزحون تحت وطأة العبء النفسي الجاثم على صدور جنود لم يعودوا مقتنعين أنهم يقاتلون في سبيل وطن، بل في سبيل رئيس وزراء يسعر نيران الحرب ويطيل أمدها فرارا من محاكمة قد تنهي حياته السياسية للأبد.

  والسؤال: لماذا تخشي إسرائيل انطفاء جذوة حرب تعلم أنها لن تربحها؟!

الحق أنها ترزح تحت ضغوط وخيارات أحلاها أشد مرارة من الحنظل. إذ لو توقفت الحرب فإن هناك سلسلة من الأحداث ستحدث بشكل تلقائي: أولها إجراء تحقيق حول حصيلة الخسائر التي مُنِيَ بها الجيش الإسرائيلي. وهي خسائر فادحة تتجاوز كثيراً ما يتم إعلانه أو تسريبه، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إدانة مجلس الحرب وقادته وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو. وقد يؤدى هذا لتنفيذ أحكام قضائية ضدهم وإلى حل الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة سيكسبها اليسار الإسرائيلي حتماً، وهو ما يرفضه ويخشاه اليمين المتطرف.

  ثم يأتي دور الداخل الإسرائيلي الذي سيفيق على كارثة مخيفة: كارثة الأسري، ثم كارثة النازحين من المستوطنين، وأغلبهم يخشون العودة لمستوطنات ستظل مهددة على الدوام بنيران وصواريخ المقاومة رغم الهدنة وتوقف الحرب. ثم هناك كارثة ثالثة، هي أن الجنود الذين هربوا من نيران الحرب لن يكون بمقدور أحد إقناعهم العودة للقتال في حالة تأججه من جديد؛ بسبب الصدمات النفسية لتي تفشت بين الجنود والضباط على السواء!

 معنى هذا أن توقف الحرب الإسرائيلية الغاشمة الظالمة لن يؤدي فقط لإعلان هزيمتها. بل لتفتتها وتشتتها على كل الأصعدة: حكومتها وشعبها وقوتها العسكرية والاقتصادية. إنها اللحظة التي تتحاشاها إسرائيل وتؤخر أمريكا قدومها بكل ما تستطيع..

مآلات المعركة

 لا يستطيع أحد الجزم بما سيحدث في قادم الأيام..

 الشعب والكنيست الإسرائيليين يضغطان من أجل توقف الحرب واسترداد الأسري. بينما يصر بنيامين نتنياهو ومعه سائر وزراء اليمين المتطرف، وعلى رأسهم بن غفير، لاستمرارها خشية انهيار حكومتهم ومن ورائها أكاذيبهم التي سيفضحها توقف الحرب..

  التهديد ضد مدينة رفح لتحقيق التهجير القسري ما زال قائماً، وإن وقفت في وجهه مصر ومعها كل دول المنطقة. وتوسيع مجال الحرب في البحر الأحمر وفى جنوب لبنان قد يؤدي لدخول أطراف أخري للميدان، وهو ما تحاول أمريكا الدفع لتجنبه وعدم حدوثه. وبين الشد والجذب قد تشتعل الأمور بين ليلة وضحاها. أو قد تهدأ تماماً إذا أفلحت أمريكا في السيطرة على ضبعها الهائج الطليق بتحييد اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو.

 الكرة الآن ليست في ملعب إسرائيل ولا حتى في ملعب المقاومة الفلسطينية، بل في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية. وأمريكا في مأزق لا تحسد عليه: إنها مقبلة على انتخابات وشيكة وسط تدني شعبية بايدن وحزبه الديموقراطي. والصين تكشر عن أنيابها بعد ظهور نتائج انتخابات تايوان وفوز المرشح الموالي للغرب. وروسيا تستعد للتصعيد ضد أوكرانيا. والحلف الأمريكي بدأ عقده في الانفراط، والكراهية العالمية ضدها في تصاعد مستمر لدعمها لمذابح إسرائيل في غزة.

 أغلب الظن أن هدنة طويلة ستحدث من أجل إجراء صفقة تبادل أسري على مدار عدة شهور. وقد تطول الهدنة أو تقصر طبقاً لمدي التزام إسرائيل بشروطها. وإذا حدث هذا فلسوف نتنفس الصعداء استبشاراً بالقادم. وأهم ما فيه أن قضية فلسطين باتت قضية العالم أجمع لا قضية العرب وحدهم. وهو ما يعني أن حلم تحرير المسجد الأقصى بات أقرب مما كنا نتخيل.

فلسطين هي الباقية

 لو أن حرب السابع من أكتوبر باتت تهدد الوجود الإسرائيلي كما يزعم بعض حاخامات اليهود، فهي البشري بأن الوجود الفلسطيني الأصيل سيعود ليسترد أرضه في المستقبل القريب..

  لقد انكسرت شوكة إسرائيل للأبد، ولم يعد باستطاعتها تزييف الحقائق التي انكشفت أمام الكافة.. وأولها حقيقة أن الجيش الإسرائيلي أضعف كثيراً مما كان يبدو. وأن هزيمته ممكنة. وأن الموساد الإسرائيلي ليس أقوى جهاز مخابرات في المنطقة كما كان يشاع. وأن صورة إسرائيل في الغرب باعتبارها نموذج التمدين والرقي انهارت أمام ساديتها ووحشيتها ضد المدنيين العزل من الشيوخ والأطفال والنساء. كل هذا معناه أن إسرائيل لم تعد هي هي. وأن وجودها صار مهدداً بالزوال أكثر من ذي قبل.

 إن عقارب الساعة لا تعود للوراء. وليس بإمكان إسرائيل ولا أمريكا استعادة هيبة جيش انهزم هزيمة مخزية لن تكون الهزيمة الأخيرة. لقد عادت القضية الفلسطينية للحياة من جديد في صدور كافة الشعوب العربية، ولم يعد بإمكان أحد صغر شأنه أو كبر أن يطفئ جذوتها المشتعلة مهما كانت إجراءات ما بعد الحرب. فقد ترسخ مفهوم المقاومة في قلوب الجيل القادم من فتيان فلسطين الذين سيأتي على أيديهم النصر المؤزر. وما دامت إسرائيل تصر على عدم حل الدولتين. فلسوف يأتي اليوم الذي ينتهي فيه الصراع ببقاء دولة واحدة اسمها فلسطين.

  كانت فلسطين منذ البداية وسوف تبقي وتظل رغم أنف كل أعدائها.

***

د. عبد السلام فاروق

لا بد أن هناك ما يفسر للرئيس الأمريكي بايدن تصريحه السابق قبل أن يصبح رئيساً، والذي أعلن فيه أنه ليس نصيراً لإسرائيل فحسب وإنما هو صهيونياً بخمسة نجوم. التفسير ببساطة متناهية: لأن الرجل كاثوليكي وليس بروتستانتي. ولأنه كذلك فلقد كان من حقه أن يتحدث عن دعمه الأكيد لإسرائيل دعماً مفتوحاً على أساس نظرية الأمن القومي الأمريكي التي تتبنى الأمن الإسرائيلي إلى حد التوئمة بدلاً من دخوله الخانة التي تلزم الشخص أن يكون بروتستانتياً متطرفاً حتى يصير مسيحياً صهيونياً، لأننا في الخانة الأخيرة ننتقل هنا إلى الدين دون أن نغادر السياسة.

بالنسبة لي كان ذلك مضحكاً بعض الشيء. لقد جعلني ذلك أجزم أن التصريح لا يخلو من المجاملة المتطرفة حتى في الحالات القليلة التي يدعي فيها الكاثوليكي انتماءه للمسيحية الصهيونية ذات الفقه البروتستانتي المتطرف.

لكن معرفة أن المال السياسي وكذلك الإعلام وأغلب السياقات التي تتحكم بوصول السياسي إلى البيت الأبيض أولاً، والكونغرس ثانياً، بمجلسيه السنت والنواب، هو مال تهيمن عليه إلى حد فائق قوى اليهودية الصهيونية، سيجعلك تفهم سريعاً السر الذي يجعل هؤلاء السياسيين (المسيحيين) يتقاتلون من أجل إرضاء الحركة والمؤسسات الصهيونية، وبخاصة من خلال التأكيد على دعمهم إسرائيل بكل الوسائل المتاحة، وتفهم أيضاً لماذا يجب أن يكون الطامع لمنصب سيادي أمريكي، بداية بعضوية الكونغرس ونهاية بالرئيس، منافقاً سياسياً وذلك إن لم يكن بروتستانتياً منتمياً لتيار الصهيونية المسيحية.

لو كان ترامب هو الذي أعلن ذلك، فلن أشكك بمصداقية الرجل، فالصهيونية المسيحية هي بالأساس حركة ذات جذور وفقه ومضمون بروتستانتي متطرف، والرجل بايدن كاثوليكي كما نعرفه. وما جعل بايدن منافقاً من الناحية الدينية أن صهيونيته المسيحية تشترط عليه أن يكون بروتستانتياً في المقام الأول لأن الصهيونية المسيحية هي حركة دينية قبل أن تكون سياسية، والسياسي هنا فيها تعبير عن الديني، وليس هناك فرصة مطلقاً لتغيير جوهر المعادلة، كأن يكون الديني تعبيراً عن السياسي، كما ليس شرطاً أن يكون المتعاطف مع إسرائيل والمشروع الصهيوني بروتسانتياً، لأن التعاطف السياسي هنا هو حالة تماهي سياسي وليس حالة انتماء. فأما التماهي الأمريكي الإسرائيلي فهو كان قد نشأ على مشتركات أمنية وسياسية جعلت المشروع السياسي الأمريكي والإسرائيلي يتوحدان حتى تكاد تحسبهما بالأصل واحداً، و كأنهما صارا كما هي أحجية: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة. وما لدينا هنا المعادلة التي تقول: ليس كل بروتستانتي هو مسيحي صهيوني وإنما هو جناحهم اليميني العنصري المتطرف، أما الكاثوليكي فيمكن أن يكون داعماً للصهيونية دون أن يكون صهيونياً بالفقه والرؤى الدينية.

وليس من باب الغرائب ولا العجائب أن نقول أن إسرائيل هي مشروع المسيحية الصهيونية قبل ان تكون مشروع اليهودية الصهيونية، وأن دولة إسرائيل تبدو في إطارها الثقافي والفقهي ومن ثم السياسي هي في خدمة مشروع المسيحية الصهيونية قبل أن تكون في خدمة مشروع اليهودية الصهيونية، ففي النهاية ومن ناحية دينية خالصة تطمع الصهيونية المسيحية أن يتحول اليهود الصالحين إلى مسيحيين. إن الإتيان على بعض الحقائق التاريخية ربما سيساعدنا على فهم ذلك.

نعلم أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي ترأسه هرتزل كان قد عقد في بال السويسرية وذلك في عام 1897، لكن في عام 1844 وفد إلى القدس أول قنصل أميركي، (واردر كريستون)، وكان من الأهداف التي رسمها القنصل لنفسه أن "يقوم بعمل الرب، ويساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد" (رضا هلال: المسيح اليهودي ص 95). وبذل (كريستون) جهداً مضنياً في الاتصال بالقادة الأميركيين وحثهم على العمل من أجل "جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود حتى يلتئم شمل الأمة اليهودية، وتمارس شعائرها وتزدهر"

وعلى خطى كريستون جاء الرحالة الإنجيلي الأميركي (ويليام بلاكستون)، الذي نشر كتابا بعنوان "المسيح قادم" عام 1878 بيعت منه ملايين النسخ، وأثر تأثيراً عميقا على البروتستانتية الأميركية. والفكرة الرئيسية للكتاب أن "عودة المسيح" التي ظل المسيحيون ينتظرونها على مر القرون لن تتم إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. وفي العام 1891 تقدم بلاكستون بعريضة إلى الرئيس الأميركي يومها (بنيامين هاريسون) مطالبا بتدخل أميركا لإعادة اليهود إلى فلسطين. وجمع على العريضة توقيعات 413 من كبار رجال الدين المسيحي في أميركا، إضافة إلى كبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب، وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء تحرير عدد من الصحف الكبرى.

على الجهة الأخرى علينا أن نتذكر أن عدداً لا باس به من اليهود يؤمنون بأن الفقه اليهودي لا يقر قيام دولة أسرائيل ومثال ذلك اليهود من (الحريديم) الذين يحرمون على أنفسهم الخدمة في الجيش. وثمة حركة يهودية تطلق على نفسها اسم "ناطوري كارتا" أي حراس المدينة تحارب الفكر الصهيوني ولا تؤمن بدولة إسرائيل.

إن اليهود الصهاينة الذي عقدوا مؤتمرهم الأول عام 1897 في (بال السويسرية) لم يعقدوه إلا بعد أن أدركوا أن الظرف السياسي الأمريكي والأوروبي، على إختلاف الذرائع، قد بات يعمل لصالحهم. وأقول مختلف الذرائع بغية التمييز بين الدوافع الأمريكية من جهة والأوروبية على الجهة الأخرى، إذ حيث ينسب للمال السياسي والإعلام الصهيوني والتعاطف البروتستانتي صلته بخلق التعاطف الأمريكي فإن أوروبا كانت طامعة أيضاً في التخلص من اليهود الذين كانوا قد أصبحوا مشكلة حقيقية لمجتمعاتها.

ونلاحظ هنا أن الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية ميالة لإتخاذ مواقف لصالح الفلسطينيين ومثال ذلك إسبانيا وأيرلندا، أما البرازيل ذات الأغلبية الكاثوليكية العالمية فمواقفها واضحة. ولا نعني أن هذه الدول محكومة بمواقف ذات صبغة دينية كاثوليكية، إلا أن المعني هنا أن ثقافتها الدينية العامة الداعمة لثقافتها السياسية هي بكل تأكيد معاكسة إن لم تكن متناقضة مع ثقافة المسيحية الصهيونية ممثلة بالجناح البروتستانتي اليميني المتطرف.

***

د. جعفر المظفر

بعد ان توقفت الحياة عندنا وأختلت موازين الحقوق والواجبات.. كان لزاماً علينا ان نتوقف فورا والعودة لمعرفة اساسيات الحياة التي تقدمت فيها الشعوب ووقفنا نحن امامها دون حراك الا ما نعنيه بأننا مسلمون ولاغير.. نعم انه المنهج المدرسي الذي صاغه لنا فقهاء الدين من اتباع البويهيين والسلجوقيين جبرا وخطئا ليعلموننا الأفضلية في التضليل.. ليبقوا هم يحكمون ونحن نرفع شعار "علي وياك علي".. وننتهي نحن الى غير رجعة في العالمين.. فهل سنستمر على الحالة المزرية اليوم، ام نختار البديل لنصل الى التغطية على الحقيقة لننهي التجهيل.. وسط فئة حاكمة مجرمة تقاسمت ثروات الوطن فيما بينها والاخرين.. قسمة لم تشهدها الأوطان منذ فجر السلالات الى اليوم مدفوعة برغبة تدعي فيها انها من أهل المعرفة والعرفان صاحبة الحق في ثروة وطن العراقيين.

لم تكن الاديان السماوية الا نموذجا لفكرة الأديان في الاساطير القديمة نتيجة الحالة الأيمانية بالقوة الخفية وهي ليست ملكاً لمرجعياتها المنتحلة التي تدعي بأحقيتها الباطلة.. بل وجدت منذ عصر الانسان الاول حينما بدأ العقل الفعال يفكر بدرء الخطر عن حياته في الغابة والصحراء وهو يعيش بلا حماية ولا قانون.. حتى تحولت هذه الاساطير القديمة الى حالة ايمانية عند الانسان.. وبمرور الزمن ظهر لها التنظير من الكهنة الذين حولوها الى واقع ايماني، او معتقد ديني لا يناقش في احكامه ونواهيهِ بعد ان غلفوه بالمقدس الذي لا يمس.. من هنا تعددت المظاهر حتى أرتبطت بالاطار الثقافي للشعوب فاصبحت عقيدة دين ملزمة التطبيق.. منها ظهر الأستعلاء على الاخرين.. دون الحقوق.

وحتى تجد لها المسوغ الذي يمكنها من السيطرة على العقول راحوا منظريها ينسبونها الى قوى خفية آلهية بعيدة عن الوجود "الأصنام مثالاً"، متمثلة باشارات او تماثيل صنعت من وحي الخيال لامن صنع الوجود.. حتى اصبح الانسان القديم اسيراً للعواطف الدينية التي صنعوها فخضعت للترغيب والترهيب والثواب والعقاب.. وبمرو ر الزمن اصبحت ديانات لها مرجعياتها المقدسة التي لا يجوزالشك فيها او معارضتها، لانها خًلقت من وحي الهي كما يدعون يمثل وحي الوجود.

وما دروا ان منبعها ديانات المدن العراقية القديمة منذ عهد السومريين من سلسلة اراء كهنتهم والمتفيهقين منهم.. ثم ازدهرت بعد ذلك وتوسعت عند البابليين والاشوريين حتى اصبحت عقيدة لا يجوز التجاوز عليها دون تحقيق.. لكن المهم عند العراقيين، اشتقت منها القوانين كشريعة آور نمو السومري وحمورابي البابلي، ووثائق الآشوريين. فماذا لو ان حمورابي ادعى النبوة آنذاك لصدقوه فكان واحدا منهم.. ومنها انتقلت الى الدول المجاورة في بلاد فارس وصولا لحضارة اليونان والفينيقيين ومصر الفرعونية. فكان البحر المتوسط وسيطة لانتقال الاديان هكذا أخبرتنا الأساطير القديمة "اسطورة الطوفان والكهف وغيرها كثير".. من هنا اعتمدت الاديان كحقيقة على تلاصق المعتقد الديني بالاساطير.

 وبمرور الزمن منها انطلقت الاديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام وما قبلها من اديان وتأملات فاقت كل تصور.. حتى تحولت الى حقائق عند اصحاب الدين الحقيقي المنادى به كواقع صحيح.. فلم يعد احد الا واعتقد بها دون اختيار من رأي او قانون،فالدين الصحيح جاء من اجل العدالة والقانون لا من اجل المتفيهقين من مرجعيات الدين الوهمية "من حكم العدل وصل.. ومن حكم الباطل سقط".. لذا سقطوا دون تمييز. وحين تحولت الى اديان سماوية يصعب رفضها باعتبارها من آله مقدس خالق للكون وما فيه اصبحت عقيدة لا تمس، وهي كلها أدعاءات نبوة لا غير.. من هنا كانت نقطة التحول من الاساطير الى الديانة الواقعية عن طريق الرسل والانبياء بنظر معتنقيها وان اختلفوا في التفاصيل.. ولو أعتقدوا بها حقا لما خرجوا على قوانينها.. مثل اصحاب نظرية المهدي المنتظر لو كانوا يؤمنون بها حقاً لماذا لا يطبقون عدالتها المنتظرة وهم اليوم يحكمون.

كل الاساطير التي وردت في المعتقدات القديمة نقلت للاديان الآلهية باعتبارهاجديدة ومبتكرة من الله حلت في عقول معتنقيها دون تغيير وهي من وَهمَ المبتكر لها لا حقيقة دين.. كأسطورة الطوفان، واسطورة الخلق، والكهف،ويوسف، والقصص القديمة التي جاءت كتنزيل.. وعليها تأسست الديانات السماوية التي الحقت بهما كل التفاصيل الاخرى من عقاب وثواب، وقوانين، في كيفية التكوين في الموت والخلق والخلود والبعث والجنة والنار والحساب والعقاب التي تجسدت في قوانين الخلق والدين،وهي رمزيات حياة لا دين.. تجسدت في ثلاث ديانات هي اليهودية متمثلة بموسى والمسيحية بعيسى والاسلامية بمحمد بن عبد الله.. فكانت ديانته أخر الديانات.. وفي غالبيتها.. رمزيات.

هنا في الديانات الثلاث تطورت فكرة الخلود والروح والنفس.. والجنة والنار.. وفكرة العقاب والثواب.. ولا زال العلماء والفلاسفة الى اليوم يبحثون فيما غُمض من مراسيم الاديان وارتباطها بالحياة.. ليحولوا النصوص الى قوانين.. بعد ظهور الرجل المقدس الذي يأمر فيجب ان يطاع (ولي الأمر كما أرادوه) وهي كلها من وحي اللا وجود.. كأساطير الآولين.

وحين استطاعت قيادات الشعوب القديمة تثبيت هذه الاساطير في معتقداتها كقوانين.. جاءت الاديان السماوية لتتلقفها وتحولها الى حقائق دينية ربانية مقدسة لا يجوز الشك فيها او محاورتها.. وهي كلها من صنع العقل القديم لا الوجود.. فكانت طقوس التطهير والاحتفالات والنذوروالمزارات الوهمية والدعاء لمناسبات هم صنعوها لألهاء الناس بالأمل الموعود وغيرها كثيرحتى باتت تقاليد دينية مقدسة عندهم يحتذى بها الى اليوم.. كلها وضعت في طقوس الديانات حتى جعلوها تثبيت وتأكيد. فكانت الاستجابة لها دون دليل فمشت الناس عليها معتقدة انها من وحي الوجود..

فاسطورة الطوفان مثلاً : بدأت في بلاد ما بين النهرين عند السومريين والبابليين.. متمثلة في الألواح السومرية السبعة،ومسلة حمورابي البابلية،وفي الهندية بالسمكة الكبيرة"فاسكو" التي أنقذتهم من الطوفان والغرق،وبمرور الزمن انتقلت الى الهنود والاغريق والفرس والمصريين "انظر الديانة الزرادشتية والبوذية".. ومن ثم تلقفتها الديانات السماوية لتضفي عليها المنطق القدسي الكبير.. ولتعطي منها دروسا في العدل والحقوق وعدم الاعتداء على الاخرين.. طوفان نوح وقصة يوسف وأهل الكهف مثالاً.

واسطورة الخلق المتمثلة في خلق البشرالقديم الحقيقي والوهم (هوموا.. وأبلس ) ومنها تفرعت بقيت الاساطير. فكانت اسطورة آدم وحواء كبداية في منظور العلم الحديث، ومازال العلماء والفلاسفة يبحثون الى اليوم عن هذه الالغاز الاسطورية لتفيسير الكثير من المعتقدات الدينية، وما غمض من مراسيم الحياة الاخرى.. ولا زلنا نبحث اليوم عن بداية ظهور أول بشر قبل ملايين السنين من قبل مجيء آدم وحواء "انسان النياندترال ". ومن اين جاء هؤلاء البشر ومن خلقهم.. لكن الثابت ان آدم ليس هو اول البشر بل يمثل "الأنسنة " اي بداية ظهور أنسانية الانسان والحقوق. نظرية بحاجة الى بحث وتدقيق بعيدا عن مؤسسة الدين صاحبة الوهميات في التثبيت.

اما قصص الخلق فقد أختلط فيها السحر بالخيال فأنتج قصصا كلها تدعو الى الخلق واسراره المتعددة،وحتى القرآن الكريم يقول:"نحن نقص عليك نبأهم بالحق،الكهف 13".. وهنا يعطينا القرآن خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريعاي التفاعل مع العقيدة،ومع التفاعل بالسلوك ولاغير. كما في اسطورة الخلق عند السومريين والبابليين والفرس والفراعنة وكل منهم له نظريته في الوجود، تمثلت باراء " بيضة ازوريس وتموز عند البابليين " وتوالدها كرمزا للخلود.. واستمرت الاراء تطرح في الحضارة الهندية والصينية وكل له وجهة نظر مخالفة لكن الجميع يصرون على وجود النظرية في زمانهم كان لها وجود.. والكتب السماوية والمخطوطات والبرديات المصرية تقف الى جانب هذا التفسير التاريخي الرصين.. لكن قصة الخلق بدأت بآدم وحواء عند المسلمين كنص مقدس حرم محاورته.. وهي لا زالت بحاجة الى نقاش معمق وتدوين بعد ان فُسر القرآن تفسيرا ترادفيا لم تكن التسميات الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات.. لذا هي بحاجة الى تدقيق.

وهكذا تأثرت الديانة اليهودية بحضارة وتقاليد حضارة مابين النهرين، والفارسية والفرعونية بشريعة اور نمو وشريعة حمورابي. اما المسيحية فقدتأثرت بالفلسفات اليونانية والرومانية وانتقلت منها الى الشرق، اماالاسلامية فقد تاثرت بديانة العرب قبل الاسلام مثل طقوس مناسك الحج والصوم والنذور وزيارات المعابد والادعية فيها،وفي غالبيتها منقولة طبق الأصل من القديم..

وهكذا بمرور الزمن اصبحت الاساطيروطقوسها دلالات مصدرا ايمانيا بعقيدة الله الواحد الاحد للتمسك بالعقيدة الواحدة وتجنب الفوضى.

ومع هذا لم تسلم الدياناتات الثلاثة من هَناتٍ التي ادخل عليها الفقهاء من ابتكاراتهم العقلية الباطلة التي لا اساس لها في الوجود فحولوها الى تقديس.. فتحولت الاديان الى حكم المستغلين كما هي اليوم.. حين أضافوا ولي الأمر لحكم الله تجاوزا على النص المقدس. "أطيعوا الله والرسول وآلوا الأمرمنكم".

فالديانات الثلاثة استحدثت من وحي الاساطير الاولية تحولت الى اديان سماوية بفعل خالقها العظيم.. لذا فان نظريات التزوير الفقهية لعبت دورا في التفريق،هذا التفريق الذي لا يزال يحتل الكثير من التعقيدات الفكرية والفقهية السياسية التي دخلت المجتمعات فمزقتها الى فرق واديان ومذاهب باطلة ما انزل الله بها من سلطان فوقفت حجرة عثرة امام التغير والتطورفي حياة معتنقيها.

وتبقى الديانات السماوية الثلاث لهاصفة التكريم والتقديس شرط ان يلتزم اصحابها بوحدة الهدف، لا التفريق ما دامت كلها منزلة من الله للعالمين كما يعتقدون،وكما جاء في النص القرآني "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل،آل عمران 48". وما دامت تهدف الى وحدة الهدف في الحق والعدل، وصانعة المجتمع دون استغلال وتفريق.. والتخلي عن التعصب، وهذا لم يحدث.. بل حدث العكس حتى غلفت شعوبها بالتخلف والدكتاتورية وضياع الحقوق واللاقانون..

هنا يجب الاعتراف بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطورعبر الزمن وهي ليست مطلقة ومنقوشة فوق حجر.

واخيرا نقول :اذا أردت ان تتحكم في جاهل عليك ان تغلف كل باطل بغلاف الدين بعد ان اصبح الدين عقيدة مستغلة من قبل صانعيها.. وهذا هو واقعنا المزري اليوم.. لذا على الشعوب ان تحرر نفسها بأيديها من المستغلين. فان القدر لم يأتِ بدين ليجعله نقمة على العالمين.. اعتقد ان المسافة أصبحت طويلة علينا وتحقيق الهدف بات شبه مستحيل.. ولكن لا يوجد مستحيل أمام من يحاول قهر المستحيل..

فأين اساتذة المناهج المدرسية التي على عاتقهم يقع التغيير.

***

د. عبد الجبارالعبيدي

هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 شباط /  فبراير 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحًا، تكتلًا ضدّ تكتل، خصوصًا بتعزيز المحور الروسي - الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرةً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم المادي والمعنوي إلى أوكرانيا، التي وضعها حظّها العاثر في طريق روسيا.

وكان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1977 - 1981)، كتب "من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تُصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، فقد كانت أوكرانيا تاريخيًا جزءًا من المجال الحيوي لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثاني دولة انسلخت عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وأبدت سعيًا حثيثًا للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علمًا بأن واشنطن كانت قد قدمت تعهدات لغورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى الناتو، بعد تفكك حلف وارشو، لكن واشنطن تنصّلت من وعودها، وسعت إلى تطويق روسيا، بل خنقها داخل حدودها.

لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل في مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتي تبعها شنّ الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمرّ كما حصل في ضمّ شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئًا تمامًا، لأن الأمر مختلف هذه المرّة، فأوكرانيا تمثّل بوابة روسيا إلى الغرب.

صحيح أن وضع منصّات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازًا كبيرًا لها، وتهديدًا لأمنها القومي ومصالحها الحيوية، وهو ما حذّرت منه، إلّا أن عوقب شنّ الحرب واستمرارها كانت كارثيةً على الجانبين.

وسبق لبوتين أن اتهم واشنطن بتنظيم انقلاب في أوكرانيا لدعم أنصارها وإقصاء الرئيس المنتخب الموالي لروسيا فيكتور إنيوكوفتش، واستبداله بشخصية موالية للغرب، عبر حركة احتجاج شعبية، تلك التي عُرفت باسم "الثورة الملوّنة" (2014)، التي أوصلت بترو بورشنكو ومن بعده فلاديمير زيلينسكي.

من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية - الروسية، يفاجئ أن هذين البلدين السلافيين الجارين، اللذان يدينان بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيرهما بشكل عضوي، وهو ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأساويةً وتعقيدًا، إذْ أن أكثر من 20 % من الروس والأوكرانيين، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكرانيين يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخيًا، حين تكونت أول دولة في كييف، في العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.

فقط في الحرب العالمية الأولى أُعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفيتي في العام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شنّ الألمان النازيين الحرب على الاتحاد السوفيتي في 22 حزيران / يونيو 1941، وذلك على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضًا، انخرطوا في الدفاع عن الوطن السوفيتي، حيث ساهم الجيش الأحمر في تحريرهم  في العام 1945.

وخلال فترة الحكم السوفيتي، وسّعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2 ، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدةً من تدليل زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلّنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها في العام 1956، لكن بعد 58 عامًا أقدم بوتين على استعادتها وفصلها عن أوكرانيا في محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معًا، على حدّ تعبيره، مما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلًا من محاولات "الترويس".

تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عديدة مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافةً إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة "أكرنتهم" والتمييز ضدّهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما في ذلك في الدونباس وشبه جزيرة القرم، وخصوصًا بتقرّبها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية - الروسية.

لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلّح، وخصوصًا ببرنامج حرب النجوم، في عهد الرئيس رونالد ريغان، والآن تسعى لتوريطها في أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكراني، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغاني في مواجهة السوفييت، ردًا على هزيمة فيتنام.

كل هذه الأوضاع عبّر عنها، بحزن وألم، الكاتب والديبلوماسي السابق الروسي - الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، حين كتب يقول "هذه الحرب تمزقني، كانت والدتي روسيةً ووالدي بطلًا أوكرانيًا في الحرب العالمية الثانية..."، ولم يكتف بذلك، بل حذّر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، وذلك في كتابه الموسوم "بوتين - أوكرانيا: الأوجه الخفية"، الصادر عن دار النهار، بيروت، 2023.

***

عبد الحسين شعبان

يتسائل العراقيون ومنذ حوالي ربع قرن بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 حيث سقط الدكتاتور الذي تسبب حكمه في استشهاد اكثر من مليون شاب عراقي في حروبه العبثية عن افاق مستقبل العراق وها نحن الان فقدنا عقدين من الزمان ادت بتراجع العراق على جميع الاصعدة الى مستوى غير معقول من التخلف والفشل واصبحت المحافظات الجنوبية بشكل خاص في حالة يرثى لها !

ان هيمنة القوى الدينية من فئة الاسلام السياسي على مقاليد الحكم ليس بامكانها الا ان تؤدي بالعراق الى الخراب والدمار كما تثبت تجارب الدول المتقدمة حيث لم تنهض الا بعد الخلاص من هيمنة الكنيسة في عصر النهضة السحيق حيث حققت تلك الدول تقدما على جميع الاصعدة وقدمت للبشرية انجازات علمية وتكنولوجية لا تحصى  ويسير العالم اليوم بوتائر سريعة جدا تؤدي الى توسيع الهوة بين بلداننا "النامية او النايمة" وبين العالم المتقدم .

ان انتفاضة اكتوبر 2019 كانت بارقة الامل للعراق والعراقيين وارعبت قوى الظلام المسيطرة على الحكم كما اثبتت ان شباب العراق الواعي رغم كافة المصاعب هو امل المستقبل الواعد وتمكنت الانتفاضة من تحقيق الكثير في مسارها حيث نجحت في ارسال حكومة المجرم عادل عبد المهدي الى مزبلة التاريخ وارغموا البرلمان على تغيير قانون الانتخابات كما ان شعاراتها وعلى رأسها شعار "نريد وطن" عبرت عن وعي ونضوج عالي وحاول ازلام السلطة اغداق الوعود الكاذبة لتخليص حكمها الذي اوشك على السقوط .

لقد لملم ازلام السلطة اوضاعهم ويسيطرون حاليا ومن جديد  وبنفس اساليبهم البالية على كافة مقاليد الحكم ولم يتعلموا شيئا من تجربتهم السابقة ويتصورون مخطئين ان بامكانهم ارجاع عقارب الساعة الى الوراء ومحو افكار واثار الانتفاضة وهو المستحيل من عقول وافئدة العراقيين حيث في هذا الوضع الشاذ قد اعادوا قانون الانتخابات القديم وكذلك اعادوا حلقة الفساد الساقطة "مجالس المحافظات" الى العمل بعد عشرة سنوات من اختفائها لتكون حلقة فساد وسرقة على صعيد المحافظات اذ لايكفيهم كما يبدو "اللغف" والنهب المتواصل على الصعيد المركزي في الوزارات ومكتب رئيس الوزراء.

تشكلت الحكومة الحالية قبل اكثر من عام لتمثل جماعات الاطار التي خسرت الانتخابات واستحوذت بالرغم من ذلك وبشكل غير عادل على مقاعد برلمانية ليست من استحقاقها وطرحت الحكومة برنامجا مليئا بالوعود وفي مقدمتها محاربة الفساد " الذي انعكس في اطلاق سراح نور زهير صاحب سرقة القرن!" واجراء انتخابات برلمانية مبكرة تنصلت عنه لاحقا وبدل ان تركز الحكومة على برامج تنموية حقيقية نجدها مشغولة بخدمات بلدية صغيرة لغرض الدعاية والاعلان عبر ابواق من المرتزقة مهمتها تلميع صورة اي حاكم .

كيف يمكن للحكومة الحالية تقديم القتلة المسئولين عن قتل اكثر من الف شهيد في انتفاضة اكتوبر 2019 وهي في الحقيقة تمثل تلك المليشيات المجرمة كما ان الحاكم الفعلي المتنفذ هم مسلحين يستلمون رواتبهم من الدولة ولكن يخضعون في قراراتهم للاجنبي وقد ارتفعت في الاونة الاخيرة اصوات تطالب باخراج القوات الامريكية حرصا على سيادة البلد المنتهكة وليس هناك اي وطني لا يتمنى تحرير بلاده واخراج كافة القوى الاجنبية وينبغي ان ندرك بان قرار مغادرة الامريكان هو بيدهم وقد صرحوا مرات عديدة اصرارهم على البقاء وطالما هي قوات جاءت عام 2014 من جديد بدعوة من الحكومة العراقية فان اخراجها لن يتم الا عبر مفاوضات شاقة ليس للحكومة الحالية المراوغة والتي تكذب على الشعب قدرة حقيقية او حتى قد لا تكون لديها نية حقيقية على ادارة مثل هذه المفاوضات كما ان السؤال الاخر هو ماذا بشان القوات الاجنبية الاخرى كالقوات التركية او "الخبراء الايرانيين" .

ان الحاكم الفعلي في العراق حاليا هي المليشيات المسلحة والتي يصف احد قادتها رئيس الوزراء بمدير عام عندهم اي ان المليشيات تصول وتجول في الوطن وتنتهج سياسات تخدم مصالح دول الجوار على الضد من مصلحة الوطن وقد عادت اليوم الى عمليات الاغتيالات السياسية والتهديدات بقوة السلاح المنفلت والتي لا تعكس اي استتباب للامن عكس ما تدعيه الحكومة واما البرلمان العراقي في عاجز وفاشل عن اصدار اية قوانين تذكر عدى القوانين التي تصب في خانة قمع الاراء كما يجري حاليا في محاولات تمشية قانون المعلوماتية الذي يستهدف فرض المزيد من القيود على الحريات العامة .

ان الاوضاع الاقتصادية السيـة لاغلبية المواطنين والغلاء الفاحش الذي يزيد في افقار الناس في نجد بسبب الفساد المستشري طبقة من السراق والحرامية متخمة بسرقة المليارات من قوت الشعب والذي يعاني محروما من الخدمات الاساسية الضرورية كالكهرباء التي هي عصب الحياة في هذا العصر اضافة الى انحدار مستوى التعليم بكافة مراحله لمديات مخيفة وكذلك الوضع الصحي الذي انهار فيه عمليا قطاع الصحة الحكومية والتي يعتمد عليها كافة الطبقات المسحوقة .

ان حرب اسرائيل وجرائم الابادة التي ترتكبها بحق سكان غزة وخاضة المدنيين العزل وفي مقدمتهم النساء والاطفال قد سلطت الاضواء على الازمات التي تعاني منها منطقة الشرق الاوسط ومنها اوضاع العراق ومشاكله التي عجزت حكومات المحاصصة والطائفية الفاسدة المتسلطة على الحكم والتي لا تمثل في احسن الاحوال اكثر من 20% من المواطنين الذين فقدوا الثقة بهذه الزمر الفاشلة والتي ليس لها هدف سوى مصالحها الشخصية ومواصلتها لسرقة ثروات الشعب والتي ادت وتؤدي الى المزيد من افقاره .

ان مستقبل العراق ونموه وتقدمه مرهون بالخلاص من الحكم الطائفي المحاصصاتي الفاشل الحالي وهو سيتحقق على ايدي ابناء وبنات العراق التبتوا بتضحياتهم الهائلة في اكتوبر 2019 بانهم قادرين على تخليص العراق وانتشاله من وضعه المزري الحالي ولاشك فان الانتفاضاة القادمة عندما تحصل فستكون قد تعلمت الدروس والعبر من الانتفاضة السابقة وسيكون النصر حليفها لامحالة .

***

محمد الموسوي

 

لا أميل غالباً إلى اللغة الانتصارية الشعاراتية رغم ضرورتها أحيانا لرفع المعنويات ومواجهة حملات التثبيط والتيئيس التي يشنها العدو وأذنابه وجواسيسه، وأفضل على تلك اللغة تشغيل آليات العقلانية النقدية والواقعية لرؤية الواقع الحقيقي على الأرض. ولكن ورغم احتكامي دائماً إلى مقولة غرامشي حول ضرورة التوازن بين "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، أجد من الواقعي تماما القول إنَّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى الرغم من تواضع إمكاناتها القتالية المادية وكونها محاصرة حصارا شديدا فقد انتصرت المقاومة انتصارا لا لبس فيه بصمودها أمام جريمة الإبادة الجماعية واستمرارها في القتال الضاري لقرابة خمسة أشهر.

* ما حدث في السابع من تشرين/ أكتوبر 2023، كان هجوماً خاطفاً جريئاً ودقيقاً استهدف الجهاز العسكري والأمني والاستيطاني للكيان "فرقة غلاف غزة" بشكل رئيس، وقد حقق المهاجمون انتصاراً كبيراً باعتراف العدو نفسه. وكان لابد للعدو بعد أن أفاق من ذهول الصدمة أن يلجأ إلى الانتقام المدمر فشنَّ هجومه الغادر على الشعب الفلسطيني وصمدت المقاومة وصمد الشعب وكان مقدراً أن ينتهي الهجوم الانتقامي بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولكن قيادة الكيان اليمينية الدينية المتطرفة حصلت من أميركا والغرب على شيك على بياض لمواصلة حربها الإبادة مستفيدة من أجواء الخنوع والذل في العالمين العربي والإسلامي، فواصلت عمليات القتل المنهجي المبرمج وصمدت المقاومة، وسُفكَت دماء الشعب سيولا، وبعد خمسة أشهر يعجب المرء كيف تمكنت مقاومة تقدر بآلاف المسلحين في منطقة ضيقة (بطول 41 كم وعرض يتراوح بين 6 و12 كم) ومحاصرة –كما قلنا - برا وجوا وبحرا من الصمود ومواصلة القتال في مواجهة واحد من احدث جيوش العالم وتوجيه ضربات صاروخية مستمر على مستوطنات العدو وإثخان هذا الجيش بالقتلى والجرحى والمعاقين!

* لا ريب أن المقاومة قد نزفت دماء أيضا وقدمت شهداء وجرحى وهذا أمر متوقع في حرب ضارية كهذه، وخسرت بعض الأنفاق والعتاد والأسلحة ولكن الخلاصة المهمة هي أنها استمرت وماتزال مستمرة في القتال وخصوصا خلف خطوط العدو وفي المناطق التي سيطرت عليها قوات العدو منذ أشهر في الشمال والوسط وجنوب القطاع. وأن جيش العدو باعتراف قياداته عاجز عن سحب دباباته وآلياته المدمرة والمعطوبة وتسود الفوضى والكوابيس المرضية صفوفه، فوضى دفعت العدو لتخصيص جيش من الأطباء والباحثين النفسانيين لمعالجة هذه الظاهرة المرضية المتفاقمة أما حالات الإعاقة والخروج من الخدمة العسكرية فهي بالآلاف.

* وآخر الأخبار تقول إن المقاومة كما يظهر قد فهمت اللعبة جيدا والضغوطات العربية عليها وهذا ما عبر عنه القيادي إسماعيل هنية في خطابه اليوم والذي قال فيه "نؤكد للصهاينة وللولايات المتحدة شريكتهم في العدوان إنَّ ما عجزوا عن فرضه في الميدان لن يأخذوه بمكائد السياسة" وأضاف محذرا "من قيام إسرائيل بعملية عسكرية برية في رفح، متوعدا إياها بأن المقاومة الفلسطينية في الميدان ستتصدى لها، ودعا العالم -خصوصا الدول العربية- إلى التصدي لهذا العدو وكبح جماحه لثنيه عن غزو رفح". وهذا الكلام يوحي بأن المقاومة في سبيلها الى رفض الإملاءات الصهيوأميركية عبر الوسيطين المصري والقطري، ويعني أيضا أن العدو في سبيله لارتكاب مجزرة ضخمة في رفح لتحقق أوهام وكوابيس نتنياهو وعصابات اليمين الصهيوني الدني المتطرف المحيط به وعندها سيلحق العار بالعدو الصهيوأميركي وبأذنابه من أنظمة الخيانة العربية.

إن المنطق المتخاذل الذي يحمل المقاومة مسؤولية ما سيحدث من هجوم دموي على رفح إذا رفضت صفقة باريس الجديدة منطق فارغ ومخاتل يتناسى أن العدو لم يوافق على إنهاء العدوان ووقف إطلاق النار بموجب هذه الصفقة أي أن الهجوم على رفح قد تأجل قليلا كما قال المجرم نتنياهو حرفيا، بمعنى سواء وافقت المقاومة أو لم توفق على شروط العدو فالهجوم على رفح سيحدث فلماذا التفريط بورقة القوة الوحيدة بيد المقاومة والموافقة على الشروط الصهيوأميركية؟

* لقد فشل جيش العدو حتى اليوم بتحرير أيٍّ من محتجزيه وأسراه إلا شخصين لم يكونا بيد المقاومة وهناك شكوك بإن مخابرات العدو حصلت عليهما عبر مسرحية مخطط لها ومقابل فدية مالية ضخمة.

* وقد فشل العدو طيلة الخمسة أشهر من أسر قيادات مهمة أو حتى مقاتلين عاديين من المقاومة وعرضه على الجمهور الصهيوني المتعطش لدماء الفلسطينيين كما عبرت عن ذلك وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية ماي غولان بقولها "أنا شخصيا فخورة بالخراب والقتل فخورة بدمار غزة.. وبأن كل طفل حتى إلى ما بعد 80 عاماً من الآن سيروي لأحفاده ما فعله اليهود عندما تم قتل أقاربهم"! فعن أي سلام يمكن الكلام مستقبلا مع سفاكي دماء وقتلة مجرمين كهؤلاء يتفاخرون بالخراب والتدمير وقتل الأطفال؟ ألا تكون "إسرائيل قد حكمت على نفسها بالإعدام بعد جريمتها الرهيبة التي ارتكبتها وماتزال ترتكبها بحق الشعب الذي يزعم البعض إنهم يرون العيش معه بسلام؟.

* كما وقد فشل العدو بتهجير الشعب الفلسطيني الغزاوي فشلا ذريعا رغم تواطؤ الأنظمة الرجعية العربية وإحكامها الحصار وخصوصا من حدود القطاع مع مصر "ممر فيلادلفيا"، وما يزال سبعمائة ألف فلسطيني يعانون الجوع في شمال غزة شأنهم شأن مواطنيهم في الوسط والجنوب ولكنهم صامدون.

* وقد ألحقت المقاومة خسائر مذهلة بجيش العدو معبرا عنها بمئات القتلى وآلاف الجرحى من ضباط وجنود والمعدات والآليات، وحاصرت العدو سياسيا واستثمرت دعوى مقاضاة الكيان أمام محكمة العدل الدولية التي رفعتها الشقيقة الكبرى دولة جنوب أفريقيا بغض النظر عن نتائجها المشكوك فيها فلا خير يرتجى من المؤسسات الدولية الاستعمارية التي أنشأها الغرب.

* وقد هزَّت المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني والروح المعنوية لمستوطنيه هزّا عميقا ولأول مرة منذ قيام الكيان سنة 1948، وأفقدته الشعور بالأمن والأمان لعقود قادمة إذا ظل على قيد الحياة وهذا أمر مشكوك فيه حتى من قبل بعض "الأذكياء" في الكيان، كما فرَّغت عرس الرجعيات العربية العميلة في ما سمي الاتفاقيات الإبراهيمية للاعتراف بالعدو والتطبيع معه كالإمارات والبحرين والمغرب بعد استسلام مصر والأردن وجعل الرجعيات التي لم تشارك تتردد قليلا في اللحاق بزميلاتها كالسعودية والسودان وموريتانيا.

* ومع ورقة باريس الثانية يحاول العدو الأميركي مدعوما من بعض الأنظمة العربية الخانعة انتزاع اعتراف أولي بالتعب والإرهاق من المقاومة والتحضير لجولة أخرى بعد شهر رمضان إذا وافقت المقاومة على الشروط الجديدة... ولكن هيهات لقد قال التأريخ وقولته وسجل على صفحاته:

لقد انتصرت المقاومة الفلسطينية في غزة وهُزم العدو وحرم من تسجيل انتصار ساحق كما كان يأمل وكما كان يتيح له جيشه الحديث المدعوم بجسر جوي أميركي غربي، ولو كان هناك شيء قليل من العدل والنزاهة في هذا العالم لأوقف إطلاق النار وأجبر الكيان الصهيوني على وقف المذبحة بحق المدنيين وسحب قواته ولكنه عالم إمبريالي غاشم وظالم ومغمس بدماء الشعوب والأمم ولكنه سيغرب يوما ويزول كما زالت الحضارات الظالمة البائدة قبله. أما الكيان الصهيوني فقد حكم على نفسه بالإعدام ولن يكون له مستقبل في المشرق العربي وسيلتحق بالكيانات الإفرنجية "الصليبية" الأربعة (كونتية الرها (1098-1150) وإمارة أنطاكية (1098-1287) وكونتية طرابلس (1102-1289) ومملكة بيت المقدس (1099–1291). التي أقامها الأعداء قديما في بلاد الشام ولكنها صارت شيئا من رماد التأريخ!

***

علاء الللامي

 

من الأقوال العربية المأثورة والتي ينسبها البعض لعلي بن أبي طالب (الاعتراف بالخطأ فضيلة) وهو قول له أساس ومرجعية دينية بأن البشر غير معصومين من الخطأ، حتى الأنبياء والرسل غير معصومين من الخطأ في الأمور الدنيوية فما بالك بالقيادات السياسية.

مناسبة هذا الاستهلال هو المعاندة والمكابرة المسّيطرة على حركة حماس ورفضها الاستفادة من تجارب الشعوب ومن تجاربها ومغامراتها السابقة التي أضرت بالقضية الوطنية وكان آخرها عملية طوفان الأقصى التي أعطت الكيان اليهودي الصهيوني مبررا لتنفيذ ما كان يخطط له لغزة وكل القضية الوطنية، ومع ذلك ما زالت تصر قيادة حماس على موقفها وترفض الاعتراف بخطئها وتتحدث عن بطولات وإنجازات متجاهلة الشعب ومعاناته في القطاع والتي وصلت لدرجة أكل الناس للحشائش وأعلاف الحيوانات وامتهان كرامته وأدميته من طرف الاحتلال وتجار الحروب ومن عناصر حماس أنفسهم.

حركة حماس تعاند وتكابر متجاهلة ما يجري على الأرض وأن الأوطان أهم من الأحزاب وأن الشعب وكرامته وأمنه أهم من القيادات السياسية وخصوصا عندما تكون هذه القيادات خارج الوطن ولا تعاني ما يعانيه الشعب.

صحيح أن حركة حماس نجحت بانتخابات تشريعية عام ٢٠٠٦ وأنها جزء من الشعب الفلسطيني ولها حضور شعبي، وصحيح أنها حركة مقاومة تقاتل الاحتلال على طريقتها وحسب أجندتها، ولكن علينا التذكير بما سبق أن كتبنا عنه مطولا منذ تنفيذ الكيان اليهودي لمخطط الانسحاب من طرف واحد في خريف 2005:

1- التزامن المريب لخروج جيش الاحتلال من غزة 2005 والانتخابات التي فرضتها واشنطن على القيادة الفلسطينية 2006 والانقلاب على السلطة 2007.

2-  نجاحها في الانتخابات كان في سياق انتخابات في الضفة وغزة لأعضاء مجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي نصت عليها اتفاقية أوسلو، وقبل ذلك كانت ترفض المشاركة في الانتخابات وتُكفِر كل من يشارك فيها، وجاءت مشاركتها بعد أن طرحت واشنطن مشروع الشرق الأوسط الكبير ٢٠٠٤ الذي يسعى لمشاركة الجماعات الإسلامية في السلطة.

3-  لم يكلف الفلسطينيون حركة حماس أن تنوب عن منظمة التحرير الممثل الشرعي لقيادة الشعب الفلسطيني ونجاحها في الانتخابات لا يؤهلها لذلك، كما لم يكلفها الشعب أو تأخذ رأيه بأن تتفاوض مع العالم الخارجي باسمه.

4-  لم يفوضها من انتخبها بالقيام بانقلاب على السلطة الوطنية واتهامها بالخيانة.

5-   لم يفوضها الشعب أو أخذت موافقته عندما عرضت قطاع غزة لخمسة حروب مدمر.

6-   لم يفوضها الشعب بأن تجعل مرجعية الشعب والقضية جماعة الإخوان المسلمين وميثاق حركة حماس.

7-  لم تأخذ رأي الشعب عندما استبدلت الوحدة الوطنية بمحور المقاومة ووحدة الساحات، وراهنت على قطر وتركيا وإيران وجماعات الإسلام السياسي التي تقف اليوم موقف المتفرج على حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة.

8-  لم تستشر حركة حماس الشعب ولا حتى فصائل المقاومة الأخرى عندما قامت بعملية طوفان الأقصى، كما لم يفوض الأسرى حركة حماس بتحريرهم على حساب تدمير غزة وأكثر من مائة ألف شهيد وجريح..

سكت الشعب عن الممارسات السلطوية لحركة حماس وتفردها بالسلطة والحكم لمدة 17 عاما كما صبر على فشلها في إدارة القطاع وعلى كل مظاهر الفساد المالي والإداري وعلى مسؤوليتها عن استمرار محاصرة القطاع وتفقير أهله في الوقت الذي كان عناصرها يعيشون حياة مريحة نسبيا وقادتها يقيمون في الفنادق والفلل في قطر وتركيا، ولم يكن صمت وسكوت الشعب قبولا بحكمها ونهجها ولكن تجنبا لفتنة داخلية يوظفها العدو لصالحه.

وسكت الشعب عندما هربت أو تسربت القيادات السياسية في الصف الأول من القطاع إلى تركيا وقطر قبيل الحرب الحالية حاملة معها ملايين الدولارات المنهوبة من أهالي غزة، تاركة عناصر حماس وقيادات من الصف الثاني بقيادة السجين المُحرر عديم التجربة بالسياسة والقيادة ليتدبروا أمرهم.

وعندما انكشف عجز قيادة الداخل بسبب عدم خبرتهم في القضايا الاستراتيجية وما تركته لهم القيادة السياسية الهاربة من أوضاع اقتصادية واجتماعية معقدة بحيث أصبحت سلطة حماس وعناصرها يعتمدون على أموال قطرية تأتيهم عبر دولة العدو وبموافقته أو من خلال مشاركة عمال غزة ما يحصلون من أموال يحصلون عليها بعرق جبينهم من العمل في دولة الاحتلال، أو من ضرائب وخوات يفرضونها عنوة على الشعب، أو من أية جهة تخفف عنهم مسؤولية الحكم دون أن ينفقوا من أمول حماس شيئا لأن أموال حماس لحماس كما قال خليل الحية.... عندها لجأوا لتسخين جبهة غزة من خلال إطلاق صواريخ عبثية تارة أو من خلال مسيرات العودة الأكثر عبثية والتي تسببت بقطع أطراف ألاف الشباب ومقتل المئات، وعندما لم تسعفهم كل هذه الوسائل كانت عملية طوفان الأقصى.

فلماذا يدفع الشعب والقضية ثمن أخطاء حزب وحركة لا تمثل الشعب الفلسطيني وثمن مغامرة غير محسوبة؟

تراجع حماس عن عنادها ومكابرتها قد تنقذ القضية الوطنية مما يخَطِط له الكيان الصهيوني متحالفا مع الغرب وبعض الدول العربية، وينقذ القطاع من حرب الإبادة وأهله من التهجير وينقذ حتى المقاومة من هزيمة نكراء لن ينفع معها كل البطولات الفردية للمقاومين.

***

إبراهيم ابراش

حسب مؤشر الديمقراطية لعام 2023 الصادر عن مرصد Economist Intellingence . يبدو ان العام الماضي كان عاما يؤشر لتدني مستوى الديمقراطية في العديد من دول العالم. وفي ذات المؤشر حل العراق بالمرتبة 128 عالميا من أصل 165 دولة، حيث يظهر هذا الرقم عن تراجع كبير في مؤشر الديمقراطية في مؤسسات السلطة. مما يجعل العراق في التوصيف العام في المنطقة الحمراء،  أي في مصاف الدول التي تحكم من قبل نظام استبدادي قمعي.

يتطرق أستاذ علم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي في إحدى لمحاته عن المجتمع العراقي،  للعديد من العلل التي تميز المجتمع،  حيث يقول في إحدى الفقرات (إن المجتمع العراقي حائر) ثم في فقرة أخرى يقول،  إن الدولة أساس مهم من أسس حضارة الشعوب. الهدف الأعم لدراسة الدكتور الوردي كان محاولة تشخيص علل وظواهر سائدة في المجتمع العراقي ساسيولوجيا وكشف أسباب حيرة المجتمع العراقي،  وعلاقة هذا بطبيعة التنازع الحضاري بين البداوة والمدنية في بناء الدولة وتشكيلاتها الاجتماعية السياسية.وهذه بحد ذاتها واحدة من أشد الإشكالات تعقيدا ووقعا على حراك المجتمع لحد الآن. ورغم أن العلامة الوردي أتكأ فقط على علم الاجتماع في دراسته وبحثه عن العقد والعلل والأزمات في المجتمع،  فهو لم يجافي محاولة سبر غور الأسباب الأخرى وقراءة  المعنى الشامل لجوهر السلطة في العراق منذ تأسيسها، وبحث في مناهجها وطرق سلوكها وتأثيرها الحاسم والكبير في بناء القيم الاجتماعية والسياسية لعموم الشعب العراقي.

وهناك أيضا الكثير من الدراسات المنهجية والبحوث التي ذهبت لقراءة الوضع العراقي وفق رؤى ومشارب عديدة،  حاولت من خلالها تلمس وتقليب الأزمات المجتمعية وتشخيصها ومن ثم إيجاد الحلول لها،  ومن ثم الخروج بنتائج تهدف لوضع أسس وقواعد يمكن من خلالها تجاوز تلك الأزمات وإخراج العراق من حال الإرباك والتخبط السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي وصل إليه.

مجمل تلك الدراسات والنقاشات خرجت بنتائج متقاربة خلصت دون لبس إلى أن جوهر الإشكال يكمن في موضوعة علاقة السلطة بالديمقراطية،  وهي علاقة شائكة في مسيرها الطويل منذ تأسيس السلطة الوطنية عام 1921. ولا يمكن في أية حال من الأحوال فصلهما عن بعض،  كونهما جزءاً جوهرياً لموضوعة واحدة .وتلازمهما مع بعض يعطي نموذجا متكافئا لمجتمع حيوي يمتلك الوعي بقدراته وخبراته ومصائره .وإن فصلهما وتسويفهما بهرطقات أيدلوجية أو التقليل من أهمية ربطهما، يعيد أبدا بلورة وتغذية بؤر الأزمات ويجعل السلطة تراوح دائما في ذات المواقع العقيمة التي اختارتها كطريق ورؤى لإدارة الدولة.

في ظاهرتي الديمقراطية والحريات وفي القطبين المهمين منهما السياسي والاجتماعي،  فالهدف الأعم من علاقتهما بالبعض،  والذي يحتل أهمية فائقة،  هو إعادة صياغة منظومة الأفكار التي تنظم سير العلاقات غير السوية التي وسمت المجتمع بطابعها،  والتي افتعلتها أو صنعتها وغذتها الأعراف والتقاليد المجتمعية ومعها السلطة السياسية والعسكر منذ بداية تشكيل الدولة العراقية. وكان طابعها وأداؤها دائما ما يظهر على شكل محاولات قسرية صريحة وضمنية لتحجيم وإبعاد مؤسسات المجتمع المدني عن ممارسة دورها. وتغذية ليس فقط الخصومات والفرقة السياسية،  وإنما الحث الدائم على تصعيد الخلافات الأثنية والطائفية،  وزرع الخصومة والاختلاف بين الفرد والسلطة،  ومن ثم بين التجمعات السكانية.ويحدث هذا  من خلال الإرهاب اليومي المنظم،  كوسيلة لسلب الحقوق المدنية وممارسة التعديات الفجة على حقوق الإنسان والحريات العامة.

لاشك أن الديمقراطية الحقيقية تحمل من السمات  ما يمكن خلالها تطمين الكثير من حاجات الشعب الذي بات  يشعر وبمختلف شرائحه وطوائفه بحجم الكارثة والخيبات التي فرضت عليه قسرا عبر عقود كثيرة ومن خلال تداول السلطة بالقوة المفرطة،  بنماذج هجينة ومختلفة لحكومات متعددة المناهج والرؤى،  لتضعه في العديد من الأوقات في متاهات لا طاقة لبني البشر عليها،  بالرغم من كونه من أكثر شعوب العالم تطلعا نحو الديمقراطية والحريات المدنية فهو مجتمع مديني بالفطرة.

أس الديمقراطية يعني وفي المقدمة النزوع لبناء دولة القانون التي تفضي لشعور المواطنين بتكافؤ الفرص وحسب الاستحقاق،  وتدفع عنهم الخوف والريبة،  وتنمي لديهم ملكات الإبداع والإخلاص للمجتمع والوطن. ودولة القانون تعني بالضرورة هزيمة ماحقة لكل التشكيلات والأفكار التي تتبنى القيم العشائرية والطائفية والمناطقية والوجاهة. فالديمقراطية ليست ذات طابع سياسي فحسب وإنما هي معطى اجتماعي ثقافي أولا.

من الواضح للعيان فأن دولة القانون الديمقراطية ترسخ وتعيد تنظيم ليس فقط عناصر التكافؤ الاجتماعي وحرية الاختيار والتطور العلمي والثقافي والاقتصادي،  وإنما تعيد أيضا ترتيب الحسابات السياسية في علاقة السلطة بالشعب،  ومثلها علاقات القوى والفعاليات السياسية مع بعضها . والأهم من كل هذا،  تؤكد بفاعلية وقبل أي شيء آخر الهوية الوطنية.

في جانب حساس من الموضوعة فأن ضمان سيادة القانون وخيار الديمقراطية يمكن أن تكون الدعوة إليها مضللة ووسيلة لأهداف منتقاة بشكل تحريفي ومزيف. ويأتي ذلك من خلال فرض علاقات وتعميم صيغ ترسخ مصالح فعاليات وقوى سياسية محددة،  وبمسميات مختلقة تنشأ عنها روابط تتحكم في مفاصل الحياة العامة من خلال وضع القوانين وتجييرها لصالح شريحة أو قوى أو فئة بعينها،  وعندها يوضع مفهوم سلطة القانون حصرا تحت معطف أيدلوجي أو مذهبي يفضي في النهاية إلى مفاقمة الاختلال والأزمات.

ان السعي لتحقيق التكافؤ بين أبناء الشعب وبينهم والسلطة،  من خلال تعميم لغة وقواعد القانون وضمانة الحقوق الإنسانية،  كان ولازال الجوهر والمغزى العام لنضال الشعب العراقي في جميع المراحل التاريخية التي مرت عليه. وكان دائما يتطلع لأن يصبح للسلطة دورا جديدا تغدو معه أداة لتطوير وتحديث بنية المجتمع،  وتأمين السلام والوئام الاجتماعي،  وان تشعره بأهمية مشاركته وفاعليتها في تقرير مصائره قبل أي شيء آخر. لتغدو وبشكل حقيقي الممثل الكفء لجميع شرائحه وفئاته.

إجمال ذلك يقتضي وجود سلطة ذات مواصفات بينة،  تكون في حقيقة الأمر المرجعية التي تطمئن الناس على حقوقهم،  في نفس الوقت الذي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك إنها قادرة على تهيئة الظروف لبناء حياة إنسانية أكثر رقيا وتسامحا وعدالة ومساواة،  في إطار حضاري يبعد كل تلك الخيبات  والألام التي غلفت حياة العراقيين عبر عهود طويلة من القهر والاستعباد .وان لا تكون تلك السلطة سلطة أبوية كهنوتية تزعم وتبرر لنفسها تمثيل الأمة العراقية وتكون موضوعتها  الحق في التفكير واتخاذ القرار ضمن كواليسها المغلقة نيابة عن شعب مغيب،  وبعد ان يتلبسها هوس الحكم،  لتشعر بكونها دون سواها الطريق للنجاحات والبناء والخير والمستقبل الأفضل.

إن فلسفة القيادة والإدارة واختصارها وحصرها بيد مجموعة بعينها تدعي سمو منهجها في إدارة السلطة وامتلاكها للحقيقة دون الآخرين، فهذا لوحده يكفي ليكون دافعا حيويا لإثارة جميع مكامن الحقد والعداوة والفتن والاستعداد للفوضى والتخريب والتبرع بالإيذاء دون مبررات أخلاقية أو واعز من ضمير  .وكذلك لإباحة سرقة المال العام وتدمير الحياة المدنية وإثارة النزاعات،  وخلق بؤر ومنظومات وقوى تكون لها اليد الطولى في تسيير حياة الناس وتشكيل علاقاتهم .وتعميم صيغ مشوهة ومؤذية عن المغزى الخاص الذي يربط المواطن بوطنه وبمؤسسات الدولة والمجتمع.وفي مقدمة ذلك  زرع الفصام والخصام المستديم في النفوس اتجاه السلطة التي باتت ملكية خاصة و قدس الأقداس، لا يمكن لبشر الحديث حولها أو مناقشتها دون موافقة سدنتها.

تلك الإشكاليات بسعتها وضخامتها تتطلب المعاينة والتدقيق الحقيقيين من قبل  أبناء شعبنا وفعالياته الوطنية ومثلهم السلطة . وتتطلب ثقافة حقيقية تنسجم وروح العصر. و أن لا تغيب عنا ضرورة وأهمية الديمقراطية والتعددية كوصفة ناجعة وأكيدة تطمئن الناس وتعيد لهم ثقتهم بقدراتهم وبنبالة وسمو ورفعة الانتماء للوطن . وتؤسس لمرحلة تؤكد على غنى وأهمية فسيفساء المجتمع العراقي ووحدته الوطنية.

***

فرات المحسن

 

 الفشل الإسرائيلي النازي الفاشي الداعشي

الناظر في حرب إسرائيل النازية الفاشية الداعشية على غزة العزة يسجل بوضوح:

أ ـ الأهداف المعلنة للحرب؛

ب ـ الأهداف المضمرة للحرب؛

بالنسبة للأهداف المعلنة لهذه الحرب التي أعلنها " النتن ياهو "، وهي: القضاء على حركة حماس كليا، لإنهاء تهديدها للكيان الصهيوني النازي الفاشي الداعشي بصفة تامة وإزاحتها عن حكم غزة العزة، وتحرير أسرى السابع من أكتوبر 2023 الصهاينة القتلة لدى حماس، وإخراجهم من قطاع غزة العزة. وملحقات هذين الهدفين التي تنضاف مع تصريحات القادة الصهاينة البرابرة الهمج الخمج.

وأما بالنسبة للأهداف المضمرة للحرب، فهي: الإبادة الجماعية للفلسطينيين جميعهم دون استثناء، وعلى الترتيب والأولوية، بدء من غزة العزة وانتهاء بفلسطينيي 48 ومرورا بالضفة الغربية. وقتل مقومات الحياة في غزة العزة بالتدمير الشامل للقطاع بنية ووظيفة، وللضفة الغربية بالمغتصبات والمستعمرات الصهيونية النازية الفاشية الداعشية. وإسقاط المشروع الفلسطيني في تأسيس دولتهم المستقلة بعيدا عن الملاحظات والتحفظات بخصوص المساحة والحدود. ففلسطين التاريخية هي الهدف لكل إنسان مقاوم وحر. وإفراغ القطاع من أهله للعودة إليه بالمغتصبات والمستعمرات ترحيلا إلى خارج فلسطين المحتلة، مصر والأردن ولبنان والدول الغربية والعربية، تحقيقا لتصفية القضية الفلسطينية بصفة نهائية.

وبالنسبة للأهداف المعلنة والمضمرة؛ رغم ما يربو عن خمسة أشهر من الحرب، لم يحقق الصهاينة النازيون الفاشيون الداعشيون وجيشهم المهزوم أهدافهم المعلنة أمام المقاومة. لكنهم للمضمرة؛ فهم يقتلون ولا يقاتلون في غزة العزة، يقتلون الأبرياء بمختلف أعمارهم ومهنهم وجنسهم. لا يفرقون بينهم في شيء، كل سواء بالنسبة للجيش الغاصب المهزوم الهمجي البربري، بمعنى حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ويدمرون كل شيء بنية تحتية ومنشآت مدنية ومساجد وكنائس ومستشفيات ومركبات صحية ... ويقطعون ويمنعون سبل العيش للإنسان الغزاوي العزيز أدوية وتجهيزات ومواد غذائية وماء، بمعنى حرب التجويع ... إنهم يبيدون الحياة الإنسانية للإنسان قاطبة في الكون بعنوان الإنسان الغزاوي الكريم. وباحتضان من قادة وحكومات الدول الغربية وعلى رأسها هولاكو العصر أمريكا الرسمية لا الشعبية الهمجية البربرية، سفاح العالم واللص العالمي قاطع الطرق، وناهب الثروات ... فهم حققوا بعض الأهداف دون التهجير، نتيجة تمسك الغزاويين الأحرار والأبرار بأرضهم ما داموا أحياء يرزقون من فوقها، وكذا تحتها إن استشهدوا وصعدوا السماء أحياء عند ربهم يرزقون.

وبما أن الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين فشلوا في القتال في غزة العزة، فلم يحققوا أهدافهم المعلنة، ونجحوا في القتل دون تحقيق التهجير وإيجاد البديل لحماس أو ما بعد حماس. فإن حربهم غدت حربا عبثية لا معنى لها على المستوى السياسي والعسكري، وأصبحت عبئا ثقيلا على الكيان الصهيوني على المستوى البشري والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والسياسي قبل أن تكون عبئا أثقل على أهل غزة العزة الكرام. وديمومة هذه العبثية لن تكون لصالح الكيان الغاصب، وإنما لصالح " النتن ياهو " الذي يريد إطالتها تمديدا لجلوسه على كرسي رئاسة الحكومة، لكي لا يحاكم بالفساد وحماية الصهاينة الهمجيين العنصريين. وكأني به حاكما عربيا يضحي بالشعب من أجل الكرسي، لا العكس؛ يضحي بالكرسي لأجل الشعب. لذا؛ فأرواح الصهاينة العنصريين رخيصة بشكل رهيب مقابل كرسي الحكم، والاستمرار في الجلوس عليه.

وأظن أن " النتن ياهو " قصد تلك الأهداف المعلنة للاستمرار في الحكم، وهو يعلم علم اليقين أنها أهداف عالية مثالية متعالية عن إمكانية التحقيق. فنزع إليها طريقا وسبيلا إلى تحقيق أهدافه الشخصية. ولعل استمراره في إفشال المفاوضات دليل على تلك القصدية في الحرب. ومنه؛ على الصهيوني النازي الفاشي الداعشي أن يفكر بعمق في مآلات الحرب عليه، فهو لا يحقق سوى القتل. وهذا؛ لا يحقق له النصر، ولا يعيد له هيبته العسكرية المزعومة، ولا يرجع أسطورة وخرافة " الجيش الذي لا يقهر "، فقد قهر في السابع أكتوبر 2023 ومن قبل في الحرب مع المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة العزة. فهو الآن ينفخ في الرماد بدلا من النار. وهزيمته حتمية وزواله كذلك حتمي وضرورة إنسانية عالمية لإعادة البعد الإنساني للبشرية جمعاء، الذي أسقطه الكيان الصهيوني الاستعماري الاحتلالي بكل الأدوات، وفي العالم كله باسم معاداة السامية. فالمحاكم تقوم لأهل البلدان الأصليين من أجل عيون الصهاينة الهمجيين باسم تلك " التهمة " التي استعبدوا بها العالم واحتقروه في قعر دياره، وفي محافله الدولية المزعومة للحقوق الإنسانية. فالصهاينة العنصريين فوق العالم كله. فهل يستفيق " النتن ياهو " من أحلام اليقظة بالاعتراف بالهزيمة، والخروج من الحرب قبل فوات الأوان؟ فكل يوم يمر وإلا يزيد فشلا على فشلا، ويغرق في الهزيمة إلى أذقانه، فرمال غزة العزة أغرقت الغزاة عبر التاريخ مهما طال غزوهم. وهم إلى زوال مهما طال الزمن ... والصهاينة العنصريين سيمرون كما مر غيرهم، وتبقى فلسطين لأهلها.

***

عبد العزيز قريش

لم نجد أي قصة او حكاية تاريخية، لوصف حالة الرئيس الأمريكي بايدن، قد تكون عنوانا لمقالنا هذا، سوى كلمة " الخَرَف "، الذي بات واضحا، انه بات يستحوذ على عقل وفكر الرئيس العجوز، الذي يحاول ان يتصابى في أواخر عمره، وكلما تقدم به العمر يوما، يزداد لديه "الخرف التقدمي"، الذي يسبب تضرر في الأوعية التي تمد الدماغ بالدم، ويسهم في اضطرابات الدماغ والحبل الشوكي والأعصاب.

ولا يمكن لنا أن نشبه بايدن الا بذلك الملك العاري، الذي يعيش في عالمه الخيالي والكئيب، في قصة "ثوب الإمبراطور" أو "الملك العاري"، والتي نسبت للكاتب الدنماركي كريستيان أندرسون، في حين هي قصة مغربية، وتربط بين القصص الغربي وبين التراث الشعبي، ولا تقتصر على “ألف ليلة وليلة” كما هو شائع، وملخصها، محتالان، كانا يشيعان بأنهما حائكان يعملان في صناعة النسيج، قاما بالاحتيال على الملك المولع بشراء الملابس مهما غلا ثمنها، واوهموه بانهما قد انتهيا من خياطة ثوبه (مقابل مبالغ كبيرة) لحضور احتفاله الكبير.

وقبيل ذلك أراد الملك ان يرى ما وصل اليه عملهما، فارسل رئيس وزراءه الذي دخل غرفتهما (المحتالان) التي يعمل فيها الحائكان، وشاهد النول الفارغ، ففكر قائلاً: “اللهم احفظنا!.. إنني لا أرى شيئاً”، ولكن أحد النصابين بادره بالسؤال: “أخبرنا ما رأيك فيما ترى؟”، فرد متمتماً: “رائع” وبادر إلى ضبط نظارتيه على عينيه، ثم لم يلبث الإمبراطور أن دخل الحجرة التي كان الحائكان منهمكين بالعمل على النول الفارغ، فكر الإمبراطور “إنني عاجز عن رؤية أي شيء إنها لكارثة”، ثم صاح بصوت مرتفع: “إنه قماش رائع، وهو يروق لي”.

وأخيراً أعلن المحتالان على الملأ: “ملابس الإمبراطور الجديدة جاهزة” وعندما اقترب الإمبراطور منهما تحركا، على نحو يوحي بأنهما يقومان بإلباسه الثياب الجديدة، وعندما سار في الموكب، أجمع سكان البلدة على أنها رائعة، ولم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنهم لا يرون شيئاً، ولكن طفلاً صغيراً لم يلبث أن صرخ قائلاً “إنه لا يرتدي شيئاً”، ودار الهمس واللغط بين الحاضرين قبل أن يكرّروا ما قاله الطفل الصغير: “الإمبراطور عريان”، وهذا هو حال الرئيس الأمريكي بايدن، الذي يرى في عينيه بأنه يرتدي ثوب " العفة والنزاهة والصدق "، وهو ما لا يراه الاخرين فيه، فمن أين نأتي بذلك الطفل ليصرخ بأن " الرئيس لايفقه شيء .. وهو عار لا يلبس شيء "! .

ووفقا لمتخصصي العلوم النفسية، فان مصطلح "الخَرف"، يُستخدَم لوصف مجموعة من الأعراض التي تصيب قدرات الذاكرة والتفكير والقدرات الاجتماعية، وقد تؤثر أعراض الخَرَف على الحياة اليومية للأشخاص المصابين به، ويُشار إلى أن الإصابة بالخَرَف لا تحدث بسبب مرض واحد بعينه، بل نتيجة للإصابة بعدة أمراض، ويكون فقدان الذاكرة من أعراض الخَرَف عادةً، وهو في الغالب أحد الأعراض المبكرة للإصابة بهذا المرض.

والشخص المصاب، تبرز عنده مشكلات في التواصل أو التعبير بكلمات مناسبة، او صعوبة في القدرات البصرية والمكانية، مثل فقدان الطريق أثناء القيادة، أو ضعف التناسق الحركي وصعوبة التحكم في الحركة، والخَرَف، ولنا في هذه الحالات العشرات من التصرفات للرئيس الأمريكي، والتي تثبت بشكل قطعي انه وكما يقول المثل المصري " جاب آخره "، كأن يسلم على أناس مجهولين غير متواجدين بالقرب منه، او يضل طريقه ويدور حول نفسه، او يمشي ويتعثر بإقدامه، او السقوط على السلالم، لأنه " نسي " أنه بات عجوزا، أكثر ما يمكن ان يعمله هو، مسك " خراطيم المياه " لسقي حديقة بيته .

وتحذر هيئة الخدمات الصحية البريطانية، من أن المؤشر الأول لمرض " الخرف " هو عادة مشاكل ذاكرة بسيطة، وظهور الأعراض التالية مع تفاقم الحالة، والارتباك والضياع في الأماكن المألوفة، وصعوبة التخطيط أو اتخاذ القرارات، او مشاكل في التكلم واللغة، ومشاكل في الحركة دون مساعدة أو في أداء مهام الرعاية الذاتية، و تغيرات في الشخصية، مثل أن تصبح عدوانيا ومتطلبا وتشكك في الآخرين، بالإضافة الى الهلوسة (رؤية أو سماع أشياء غير موجودة) وأوهام (تصديق أشياء غير صحيحة بشكل واضح) .

نسوق هذه المقدمة الطويلة، لنعود مرة أخرى الى ما خرج به الرئيس الأمريكي من آداب اللياقة، والدبلوماسية، بتصريحات غريبة، تؤكد ان " العجوز بايدن " بالفعل يحتاج الى نقله الى مستشفى، لمعالجته مما هو عليه الان، وان تدهور حالته أكثر، قد تكون سببا مباشرة لنشوب صراعات عالمية، قد لا تحمد عقباها، فخلال فعالية انتخابية مغلقة في سان فرانسيسكو تكلم "بوقاحة" تجاه الرئيس الروسي بوتين، حيث قال: "لدينا أبناء عاهرات مجانين مثل هذا الرجل بوتين وغيره، وعلينا دائما أن نقلق بشأن الصراع النووي" .

وكعادته فإن الكريملين استقبل تلك التصريحات بهدوئه المعهود، واكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، " بأن ما قاله بايدن الآن (الشتيمة) يبين أنني محق بالمطلق في تقييمي، لأن كلامه هذا هو رد فعل طبيعي على ما قلته.. لكن لماذا؟.. لأنه لا يستطيع مثلا أن يقول لي " أحسنت يا فالوديا (فلاديمير) لقد ساعدتني كثيرا، ونحن نفهم ما يجري هناك في الشأن السياسي الداخلي، ورد فعل بايدن هذا طبيعي تماما قياسا بما يحدث هناك، ما يعني أنني كنت على حق"، في حين اكد السكرتير الصحفي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف، إن مثل هذه التصريحات الفظة من فم رئيس دولة الولايات المتحدة الأمريكية، من غير المرجح أن تسيء بطريقة أو بأخرى لرئيس دولة أخرى، لا سيما الرئيس بوتين، لكنها وصمة عار كبيرة على الولايات المتحدة نفسها، وأضاف أنه، كمواطن     (ونحن معه)، نريد من مساعديه أن يقوموا "بالبحث عن بيان واحد مسيء" من بوتين ضد بايدن، وبالتأكيد لن يجدوا ذلك .

وهذه ليست المرة الأولى التي يخرج العجوز بايدن عن منطق " العقل "، وكثيرا ما تطاول على الرئيس بوتين، حيث أثار خلافا دبلوماسيا عندما وصف الزعيم الروسي بأنه "قاتل"، وهو ما علق عليه الرئيس الروسي بتمنياته بالصحة والعافية لبايدن، وأشار إلى أن تقييم الآخرين يشبه النظر في المرآة، وبعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، وصف بايدن بوتين علنا بأنه "دكتاتور" و"جزار" و"مجرم حرب" وقال إنه "لا يمكنه البقاء في السلطة".

ان تقييم الاخرين يشبه بالنظر في المرآة، نعم فالرئيس الأمريكي، ماذا سيجد في المرآة، سوى صورة (راعي البقر في هوليوود) التي يستغلها ببساطة، وكما عبر عنها بيسكوف من اجل السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، وبالتالي فإن مثل هذه التصريحات الفظة من فم رئيس دولة، من غير المرجح أن تسيء بطريقة أو بأخرى لرئيس دولة أخرى، لا سيما الرئيس بوتين، " لكنها وصمة عار كبيرة على الولايات المتحدة نفسها ".

أن معظم العقلاء في جميع أنحاء العالم، يعتبرون سياسات بايدن جنونا حقيقيا، وأن بايدن هو التهديد الرئيسي للبشرية جمعاء، لقدرته على الوصول إلى (الحقيبة النووية)"، وإن مثل هذه التصريحات الفظة لبايدن، لا يمكن وصفها إلا "بخرف الشيخوخة"، ويبدو أنه (بايدن) يعود إلى مرحلة الطفولة، وينظر إلى العالم كله بوصفه لعبا في الرمال، حيث يسمح له وحده باللعب، ويتعامل مع من حوله بوصفهم جزءا من اللعبة، إلا أنه يجب إعادة تربية الطفل المدلل، ونحن متأكدون من أن الشعب الأمريكي لن يكرر الخطأ في الانتخابات الرئاسية، ولن يسمح بعد الآن لهذا " الخرف " الذي أثار الحروب في مختلف أرجاء العالم بالوصول إلى السلطة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

اللقاء الذي اجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، سيُسجل في التاريخ، وسيصبح واحدة من أكثر المقابلات مشاهدة وإعادة مشاهدة، سواء بسبب الطريقة التي تصرف بها تاكر كارلسون أو بسبب مدى دقة شرح الرئيس بوتين لموقف روسيا، والذي لم يكن في عجلة من أمره لإقناع أي شيء، أراد التحدث عن التاريخ، حول أسباب ما يحدث في العالم اليوم، وفي نهاية المطاف، لم يكن يتحدث عن أوكرانيا، بل كان يتحدث عن الأحداث العالمية، وعما حدث قبل أن يصبح رئيسا، وما يحدث الآن وما سيحدث بعد ذلك. لقد قلب الرئيس بوتين صورة هذا العالم رأساً على عقب، وكان لا بد من أن تنتهي أكاذيب الأنغلوسكسونيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من المستعمرين عاجلاً أم آجلاً

وكل شيء تقريبا من خطاب الرئيس الروسي الشهير في ميونيخ في فبراير 2007 ، وأصبح "حقيقة، ولا يزال عدد من الأفكار والتحذيرات التي ذكرها بوتين صالحة حتى يومنا هذا، ويُطلق عليه إعلان إحياء السيادة الروسية، لكنه لا يزال أكثر من ذلك، فقد حذر الزعيم الروسي، الولايات المتحدة وأوروبا من المسار الذي قد يقودهم (وكذلك بقية العالم) إلى صراع كبير، أي ما تحدث به في 10 فبراير 2024 وما قاله بوتين مؤخرًا للصحفي الأمريكي تاكر كارلسون.

فقد قال بوتين بالفعل في مؤتمر ميونيخ، إن توسع الناتو إلى الشرق يشكل تهديدًا لروسيا، وفي خطابه في ميونيخ، تحدث أيضًا عن حالة الأزمة التي تمر بها الاتفاقيات الدولية المهمة، خاصة في مسائل التسلح، وتحدث عن خطط الولايات المتحدة لإنشاء نظام دفاع صاروخي، والتي كانت تدمر نظام الاستقرار الاستراتيجي، وبطبيعة الحال، انتقد المفهوم الغربي لعالم أحادي القطب، ووصفه بالقول "هذا عالم سيد واحد، وملك واحد" وأوضح بوتين أن "هذا مدمر في نهاية المطاف، ليس فقط لكل من هو داخل هذا النظام، ولكن أيضًا للسيادة نفسها، لأنه يدمره من الداخل".

واكد الرئيس الروسي إن العالم الأحادي القطب محكوم عليه بالفشل، وستتم مقاومته لأنه دكتاتورية عالمية، ومن وجهة النظر هذه، فإن توسع الناتو والدفاع الصاروخي هما أدوات للحفاظ على أو بالأحرى، محاولات الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها وهيمنتها العالمية، ويقول ديمتري سوسلوف، نائب مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة في المدرسة العليا للاقتصاد، ان محاولات منع صعود وإحياء المنافسين المحتملين، وحتى تدميرهم، وهو ما أوضح مخاطره بوتين، واعتبر أن هذا مستحيل، فأن مثل هذه السياسة لن تؤدي إلى أي شيء جيد، ولن يؤدي إلا إلى المزيد من المعارضة، وقد أثبت التاريخ أنه كان على حق، وأصبح كل شيء تقريبًا من خطاب بوتين في ميونيخ حقيقة.

فمحاولات الحفاظ على الأحادية القطبية باتت محكوم عليها بالفشل، وتحققت، و أصبح تشكيل عالم متعدد الأقطاب حقيقة، وأصبحت المواجهة بين الغرب وروسيا بشأن توسع حلف شمال الأطلسي حقيقة، كما وأصبح سباق التسلح وتدمير نظام الاستقرار الاستراتيجي بسبب المحاولات الأمريكية لإنشاء نظام دفاع صاروخي حقيقة، وبدلاً من الحفاظ على الهيمنة، لم تفعل الولايات المتحدة سوى تسريع تدمير العالم الأحادي القطب، ودمرت أيضًا الأدوات الحقيقية والفعالة للحفاظ عليه (مكانة الدولار كعملة عالمية، والجاذبية العالمية لليبرالية مع الرأسمالية، وما إلى ذلك). .

وما تحدث عنه بوتين مرة أخرى في مقابلة مع كارلسون بان «الدولار هو أساس قوة الولايات المتحدة" وبمجرد أن قررت القيادة السياسية استخدام الدولار كأداة للنضال السياسي، وجهت ضربة لهذه القوة الأمريكية، وأوضح الرئيس الروسي: "لا أريد استخدام أي تعبيرات غير أدبية، لكن هذا غباء وخطأ فادح"، والسؤال كيف رأى بوتين عام 2007 ما لم يراه الأميركيون؟ ولماذا لم يستمعوا إليه؟، والجواب بسيط، إذا اعتمد بوتين على الأنماط التاريخية والنقاط الأساسية لنظرية العلاقات الدولية، فإن واشنطن كانت في عالم الأحلام، " ولم يستطع الغرب أن يأخذ تحذيرات بوتين على محمل الجد في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في ذلك الوقت، كان الغرب لا يزال مبتهجاً بالنصر في الحرب الباردة، وفي سياق ما اعتبره عصر الأحادية القطبية، آمنت النخب الأميركية بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على هذه الهيمنة إلى الأبد.

ويؤكد الخبراء، انه ولفهم نشوة النخبة الغربية، يكفي النظر إلى بداية كتاب زبيغنيو بريجنسكي “رقعة الشطرنج الكبرى”، فهناك كتب المؤلف أن هناك العديد من الهيمنة في العالم، وأن كل واحدة منها انهارت، لكن الهيمنة الأمريكية لن تنهار، أو على الأقل فرص سقوطها ضئيلة للغاية، وذلك لأن الهيمنة الأمريكية هي نوع جديد من الهيمنة يختلف جوهريا عن كل أشكال الهيمنة السابقة، وهي تختلف من حيث أنها تقوم على القيم العالمية - الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ولا يقوم على الاستيلاء على الأراضي من قبل الولايات المتحدة نفسها، وقد اعتقدت النخب الغربية بصدق، أن نهاية التاريخ قد جاءت، ومن المفترض أن يكون النظام الدولي الليبرالي جذابًا ورائعًا لجميع البلدان (وليس فقط لحلفاء أمريكا)، وسيكونون سعداء بالانضمام إليه، وأن العقبة الرئيسية أمام انتشار هذا النظام هم "الديكتاتوريون السيئون"، ويشرح سوسلوف: "لقد اعتقد الغرب أن بوتين كان على الجانب الخطأ من التاريخ ومحكوم عليه بالهزيمة التاريخية".

ولم يكن يُنظر إلى روسيا على أنها لاعب يجب أن يؤخذ رأيه بعين الاعتبار، وكما قال بوتين في مقابلته "كنا بحاجة ليس فقط إلى الاستماع إلينا، بل إلى الاستماع إلينا أيضًا "، فمن وجهة النظر الغربية، فإن روسيا، التي ليست جزءًا من الحضارة الأوروبية، هي هدف للتوسع والاستعمار، أي شريك غير متكافئ، ويتذكر نيكيتا ميندكوفيتش، رئيس النادي التحليلي الأوراسي، انه منذ بداية التسعينيات، اتبعت الولايات المتحدة ودول الناتو طريق عدم الاعتراف وتقويض مصالح روسيا، الأمر الذي حدد مسبقًا في نهاية المطاف الانتقال إلى المواجهة الحادة في العقد الأول من القرن الحادي والعشري، ولم يعير الغرب الكثير من الاهتمام للتحذيرات الروسية (من أنه إذا لم تؤخذ مصالحنا في الاعتبار، فسوف نحميها بطرق أخرى)، وتشير المحللة السياسية يلينا سوبونينا، الى ان الرئيس بوتين "قد صدمهم في مؤتمر ميونيخ، لكن على حد علمي من التواصل مع الممثلين الغربيين في تلك السنوات، فقد اعتبروا خطاب بوتين مجرد نقد لفظي، لن تتبعه خطوات حقيقية جادة"، ففي ذلك الوقت، كان يُنظر إلى روسيا على أنها محطة وقود، وليست دولة.

ويتذكر الروس هذه التصريحات الهجومية التي أدلى بها جون ماكين، وممثلون آخرون للولايات المتحدة، وكذلك الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس ديك تشيني آنذاك في فيلنيوس، حين قال إن أسعار النفط ستنخفض، وسوف تهبط روسيا معها، ويبدو أن التصور الغربي لهذا الخطاب قد ظهر بوضوح شديد في مقال ماكس "كان عنوانها "الفأر الذي زمجر"، ومع ذلك، وفي نفس العام، بدأت روسيا في استعادة ملامح الدب الغاضب بسرعة، أولاً، علقت موسكو عضويتها في معاهدة القوات التقليدية في أوروبا البائدة، ثم، في أغسطس/آب 2008، استعادت النظام في جنوب القوقاز، وبدأت عملية تحديث الجيش وإنشاء أحدث أنظمة الأسلحة، ولكن العواقب غير السارة بالنسبة للولايات المتحدة بدأت مع "الميدان الأوروبي" في كييف، عندما اتخذت الخطوط العريضة للدولة الروسية التي ستتبع سياسة سيادية هيئتها النهائية.

ونظر الأمريكيون إلى أحداث عام 2014 المتعلقة بشبه جزيرة القرم، لقد اعتقدوا أن روسيا لا تملك القوة والمزاج اللازمين لاتخاذ أي خطوات ملموسة تتجاوز التعبير عن عدم الرضا، وبعد ذلك في عام 2015، بدأت العملية الروسية لمكافحة الإرهاب في سوريا، والتي أحبطت خطط أمريكا وحلفائها للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، ونتيجة لذلك، وصل فبراير 2022، و فشل معه الغرب في كسر روسيا بسبب تصرفاتها في الأراضي الأوكرانية السابقة، علاوة على ذلك، فقد أجهد نفسه، وبدأت الهيمنة الأمريكية التي بذلت مثل هذه الجهود للحفاظ عليها في الانهيار، و "اليوم، تبحث العديد من الدول عن بديل للهيمنة الأمريكية وتجده في شكل منظمات أخرى، مثل البريكس" .

وفي مقابلة مع كارلسون، دعا الرئيس الروسي مرة أخرى النخب الغربية، إلى العودة إلى رشدها والانتقال من نموذج المواجهة إلى التعاون، أو على الأقل إلى صياغة مبادئ التعايش السلمي، ولا يزال اقتراحه صالحا، العمل معا لحل كل هذه المشاكل المتراكمة، نعم، في عام 2007 وما بعده، رفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه المقترحات الروسية، ولكن بعد ذلك حدثت أشياء كثيرة مهمة، وإذا رفضوا ذلك الآن، فإن العالم سوف يقترب أكثر من حافة الهاوية الخطيرة، والتي بعدها تبدأ احتمالية نشوب صراعات ليست إقليمية ومحلية فحسب، بل وأيضاً صراعات عالمية، وتتحدث موسكو الآن عن هذا الأمر بقلق بالغ، في وقت كان هذا القلق بحسب سوبونينا: “في عام 2007، كان هذا القلق لا يزال أقل”.

ويشكك مجمع الخبراء ان تتقبل النخب الأميركية العرض الروسي، لأنه وللقيام بذلك، تحتاج السلطات الأمريكية إلى إعادة النظر بشكل كامل في رؤيتها للعالم، ومن أجل الاستماع لروسيا، وأخذ مصالحها في الاعتبار، كما طالبت منذ ميونيخ، من الضروري الاعتراف بها على قدم المساواة على الأقل، كدولة لها مصالحها الخاصة التي قد لا تتوافق مع مصالح الغرب، "كموضوع مستقل للسياسة الدولية"، وإدارة بايدن، إذا حكمنا من خلال سلوكها، ليست مستعدة لذلك.

ان من يستطيع أن يفهم أن غطرسة الغرب ودواره، إزاء نتائج الحرب الباردة، وإيمانه بأساطيره الخاصة قادته إلى تصور خاطئ للواقع، ومن لن يكرر هذه الأخطاء، هم من سيفهم أن روسيا الآن، كما كانت قبل 17 عامًا، لا تزال منفتحة على التعاون مع تلك الدول والجمعيات الدولية المستعدة للتعاون المتبادل والمحترم معها، وحل مشاكل التعايش الدولي بشكل عام، على المستوى العالمي، وقال بوتين في عام 2007، انه بسبب التطور الديناميكي لعدد من الدول والمناطق، "إنني على قناعة بأننا وصلنا إلى مرحلة هامة، يتعين علينا فيها أن نفكر جديا في هيكل الأمن العالمي برمته، وهنا يجب أن نبدأ من البحث عن توازن معقول بين مصالح جميع موضوعات الاتصال الدولي، وخاصة الآن، حيث يتغير "المشهد الدولي" بشكل ملحوظ وبسرعة كبيرة، ولا تزال هذه الكلمات ذات صلة في عام 2024 .

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

في العالم ما يشبه الثورة الشعبية على إسرائيل والصهيونية وحتى على اليهود وسرديتهم حول الصراع في الشرق الأوسط التي كانت تسيطر على العقول وخصوصاً عند الجيل الجديد في الغرب، حيث تجوب المظاهرات الشوارع في عديد عواصم ومدن العالم منددة بالاحتلال وجرائمه ويرفرف علم فلسطين خفاقاً في كل مكان وتعج وسائط التواصل الاجتماعي بكتابات وفيديوهات تكشف جرائم الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين ولا تقصر الفضائيات وخصوصاً العربية في تصوير مظاهر التعاطف الشعبي ودموع الناس وحزنهم على حال الفلسطينيين ، ولكن، السياسات الدولية لا تُبنى على المواقف الشعبية وتوجهات الرأي العام والمجتمع المدني ولا على الالتزام بالقانون الدولي وما يسمى الشرعية الدولية وتقارير المنظمات الحقوقية الخ بل على المصالح القومية التي تعبر عنها الحكومات وعلى موازين القوى.

المقياس الحقيقي لتأثير وفعالية المواقف الشعبية والرأي العام هو قدرتها على التأثير على سياسة الحكومات وهو تأثير حتى الآن محدود، حيث يستمر الكيان اليهودي الصهيوني في عدوانه وجرائمه وحرب الابادة على مسمع ومرأى العالم بشعوبه وحكوماته ومنظماته الدولية، فلا المنظمات الدولية والمدنية المعنية بحقوق الانسان قادرة على محاكمة مجرمي الحرب أو التأثير على نظيراتها في دولة الكيان، ولا المنظمات الدولية وغير الحكومية المعنية بحقوق الطفل والمرأة قادرة على حماية أطفال ونساء فلسطين حيث 70% من مجموع الشهداء من النساء والأطفال، ولا المنظمات الدولية والمدنية غير الحكومية المعنية بالصحة قادرة على توفير أبسط المتطلبات الطبية والدوائية للقطاع حيث تنتشر الأوبئة والأمراض، ولا المنظمات والنقابات العمالية العالمية قادرة على حماية حقوق عمال غزة وتعويضهم عن فقدانهم لعملهم بسبب الحرب، ولا المنظمات والنقابات الصحفية والإعلامية الدولية والمدنية قادرة على حماية الصحفيين والإعلاميين من الاستهداف المباشر لهم من جيش الاحتلال، ولا المؤسسات الأكاديمية قادرة على حماية الأكاديميين الفلسطينيين الذين يستهدفهم جيش الاحتلال عن عمد، ولا المنظمات والمؤسسات العالمية الدولية والمدنية المعنية بحماية البيئة قادرة عن معاقبة إسرائيل على تلويثها للبيئة في الجو والأرض والبحر بسبب الدمار الذي ألحقه جيش الاحتلال بالبنية التحتية وبمصادر المياه وشبكات الصرف الصحي الخ.

كل هذا التأييد والتعاطف الدولي لم يستطع ادخال مساعدات إنسانية من غذاء ودواء لمنع المجاعة وتفشي الأمراض في القطاع، وأهلنا في القطاع لم يعودوا يعيرون اهتماماً بكل مواقف التعاطف وشعارات التأييد والدعم بل باتوا يثورون غضباً على من يدعوهم للصبر والصمود أو يدعو لهم بالنصر، فالنصر الوحيد بالنسبة لهم الآن هو ايجاد ما يسد جوع أطفالهم ويقيهم من البرد ويمنع عنهم الأمراض المتفشية ويوَقُف الحرب نهائياً ليعودوا لحياتهم الطبيعية.

قد يكون للتحولات الايجابية للرأي العام العالمي وموجة التعاطف الشعبي العالمي دور إيجابي في مسار القضية الوطنية في حالة وجود حاضنة وطنية رسمية فلسطينية لتوظيف هذه التحولات والبناء عليها في سياق استراتيجية وطنية، وهذا للأسف ما لم يتوفر حتى الآن.

***

د. ابراهيم ابراش

 

"بعد موتي، ستُرمى على قبري أكوام النفايات، لكن رياح التاريخ ستبدّدها"، هذا ما توقّعه جوزيف ستالين قبل بضعة أشهر من وفاته في 5 آذار / مارس 1953، ولعل موجة الحنين،  التي تجتاح بعض الشباب الروسي إلى "الديكتاتور الأحمر"، هي التي تذكّر بذلك، إذْ سيعتبر ستالين "الشخصية المجيدة في روسيا الخالدة"، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية (24 شباط / فبراير 2022)، ذلك ما توصّل إليه الكاتب والديبلوماسي، الذي عمل مع غورباتشوف، وكان المتحدّث باسم البريسترويكا، فلاديمير فيدروفسكي، في كتابه المثير "بوتين: أوكرانيا - الأوجه الخفيّة". وهو ما يؤكده مركز ليفادا الروسي المستقل والمختص بالأبحاث الاجتماعية وإجراء الاستطلاعات، الذي صنّف ستالين على رأس الشخصيات التاريخية الأكثر تميّزًا.

وهكذا يُبرَّء ستالين "الكاريزمي، الجذاب" من الأخطاء والخطايا، التي ارتبطت باسمه، فهو صاحب الإرادة الفولاذية والعناد الثوري والتواضع الإنساني، وتلك الصفات أخذت تقرّبه من لينين سلفه المباشر، ومن القيصر بطرس الأكبر، ومن "إيفان الرهيب" باعتبارهم رموزًا لقوّة روسيا.

وتترافق استعادة ستالين، الذي "تسلّم روسيا الفقيرة وحوّلها إلى قوّة عظمى"، مع توجّه فلاديمير بوتين، الذي تولّى دست المسؤولية الأولى في روسيا منذ العام 2000، وحاول "إعادة العافية إلى روسيا" بعد أن غرقت في الفساد والانحلال، إثر الإطاحة بالنظام الشيوعي.

وحين تُقدّم صورة ستالين - بوتين، فإنها تُظهر الاختلاف والتعارض مع صورتي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن، على المستويات السياسية والنفسية والأخلاقية، فالأول ضعيف وساذج، والثاني عاجز وسكّير، في حين أن ستالين يقدَّم باعتباره رجل الدولة المستقيم، ويبرر النيوستالينيون أعمال القمع، التي قام بها بأنها كانت من اختراع لينين، وأنها ماكينة حكم ثورة أكتوبر، المحاطة بالأعداء الداخليين والخارجيين، وهذه فرضت مثل هذا النوع من الحكم لمواجهتهم وحماية أمن البلاد.

وكانت المفكرة والاقتصادية الماركسية روزا لوكسمبورغ، المعروفة باسم "روزا الحمراء" والتي أطلق عليها لينين اسم "صقر الماركسية المحلّق"، أول من احتجّ على هذا النهج، وكتبت إلى لينين تقول "الثورة ليست حمام دم"، مثلما عارضها الروائي مكسيم غوركي، الذي مات مكسورًا بعد أن اضطرّ أن يتدثّر بالصمت، وانتقد كارل كاوتسكي، الديكتاتورية البلشفية، التي قامت عليها السلطة السوفيتية، علمًا بأنه يُعتبر أحد زعماء الأممية الثانية، والمنظّر الأبرز بعد وفاة صديقه إنجلز، وكان يُلقّب ﺑ "أبو الماركسية"، علمًا بأن لينين خالف الكثير من أطروحاته وردّ على أفكاره  بكتاب عنوانه "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي".

والحجج التي تقف إلى جانب ستالين كنت قد سمعتها من العديد من الشيوعيين بشكل مباشر، مثل القيادي البارز آرا خاجادور والمفكر حسقيل قوجمان، اللذان ظلّا، حتى آخر أيامهما، يتغنّيان بمجد ستالين ويرفضان الاتهامات الموجهة إليه، علمًا بأن بعض الكتابات تستبعد الأرقام المبالغة بشأن الضحايا، وتختصرهم إلى مجرد بضع مئات آلاف، في حين يقدّرهم البعض الآخر بالملايين، وهنا يمكن استعادة كلام ينسب إلى ستالين "موت رجل واحد مأساة، أما موت ملايين فتلك إحصائية".

كان ستالين بارعًا في الدراما السياسية، فهو شديد التواضع في ملبسه ومسكنه ومأكله، غرفته تتزيّن بسجادتين بسيطتين وستائر سميكة وطاولة خشب مصقول وسماور للشاي وعلبة تبع وغليونين أو ثلاثة، وهذا ما يذكره المؤرخون، وقد رفض بناء قصر خاص له وأصرّ على البقاء في موسكو خلال الاجتياح النازي.

كما استطاع ستالين اللعب على الخصوم، فتحالف مع زينوفييف وكامينيف ضدّ تروتسكي، ثمّ أطاح ﺑ بوخارين وتومسكي وريكوف، وتدريجيًا أعدم بعض هؤلاء الزعماء، بمن فيهم بوخارين، الذي كان يلقّب "بمحبوب الحزب" وأعدم ابنه معه بتهم الخيانة والتجسس في محاكماته الشهيرة، الـتي أودت بالكادر القيادي، وصعد هؤلاء منصة الإعدام وهم يهتفون بحياة ستالين، وتلك مفارقة أخرى.

وفي ذاكرتي الطفلية، استعدت صورة ستالين، التي رأيتها أول مرّة مخبأة في إحدى كتب عمي شوقي شعبان المدرسية، فسألت عن هذا الرجل، وإذا بي أسمع اسم "ستالين"، باعتباره رئيسًا للشيوعيين في العالم. وحصلت المفاجأة والدهشة حينما عدت من المدرسة بعد أسابيع، ورأيت عيني عمي شوقي الزرقاوين الجميلتين وقد اغرورقتا بالدموع، وبدا الحزن واضحًا على وجه عمي ضياء، الذي كان من أنصار السلام، ثم عرفت الخبر: لقد مات ستالين، وبسذاجة طفولية سألت، هل ستلبس بيبتي (جدتي) السواد حدادًا عليه؟

ولم يمض وقت طويل وإذا بالصورة "المشرقة" تبهت وتتغيّر، بل اهتزت بعد التقرير الذي قدّمه خروتشوف إلى المؤتمر العشرين للحزب العام 1956، وتدريجيًا أخذت تسبّب لي نفورًا بمرور الأيام، ارتباطًا مع تعمّق وعيي، وانخفاض منسوب الحمولة الآيديولوجية، خصوصًا بالانتقال من اليقينية الإيمانية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية النقدية.

النظرة التقديسية إلى حد المعصومية أخذت تتبخّر، حتى وإن كانت ببطء شديد، بسبب ادعاء الأفضليات، وغضّ الطرف عن الأخطاء والنواقص، بل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، فضلًا عن منظومة الدعاية التوجيهية المضلّلة، التي كانت تُضخّ إلينا، ناهيك عن الجهل بالكثير من الحقائق والمعطيات الصادمة.

وكان صدور كتاب اسحق دويتشر الموسوم "ستالين - سيرة سياسية"،  قد أحدث هزّة جديدة وعنيفة في النفوس، لاسيّما بكشفه معلومات لم نكن نعرفها، وهو ما أشرت إليه في مراجعتي للتجربة في محاضرتي في الكوفة كاليري في لندن بتاريخ 2 شباط / فبراير 1994 والمنشورة في كراس بعنوان "بعيدًا عن أعين الرقيب".

***

د. عبد الحسين شعبان

 

انتفضت المستعمرات الأمريكية ضد بريطانيا العظمى في عام 1775 بهدف أن تصبح دولة مستقلة. في عام 1776، أرسلوا إلى الملك البريطاني إعلان الاستقلال، متخذين الخطوة الأولى نحو تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية. بعد ما يقرب من ثماني سنوات من القتال في الحرب الثورية الأمريكية، تراجع البريطانيون أخيرا، وأنشأ الأمريكيون حكومتهم الخاصة.

تشبه حكومة الولايات المتحدة اليوم إلى حد كبير تلك التي تم إنشاؤها في عام 1787. كان الآباء المؤسسون شخصيات رئيسية في استقلال أمريكا عن بريطانيا العظمى وتأسيس الحكومة الأمريكية المبكرة. كان لديهم العديد من الأسباب لكتابة دستور الولايات المتحدة بالطريقة التي فعلوها. لا تزال هذه الخيارات جزءا كبيرا من كيفية عمل الحكومة الأمريكية اليوم.

الاستعمار والثورة

أبحر الأوروبيون إلى الأمريكتين و كانت هذه القارات جديدة على الأوروبيين، على الرغم من استقرار الشعوب الأصلية فيهما منذ آلاف السنين، سعى الأوروبيون للاستكشاف والغزو. غزت إسبانيا أمريكا الجنوبية والوسطى في القرن السادس عشر بحثا عن الذهب. في القرن السابع عشر، أنشأ البريطانيون مستوطنات واكتسبوا موطئ قدم في أمريكا الشمالية.

سرعان ما أصبح للبريطانيين نفوذا قويا في أمريكا الشمالية، وبحلول عام 1732، سقطت جميع المستعمرات الثلاثة عشر تحت الحكم البريطاني. ولفترة من الوقت استمتع هؤلاء المستوطنون بكونهم جزءا من مملكة قوية. وهذا يعني أنهم سيكونون محميين من قبل حكومة قوية. في أواخر القرن السابع عشر تغير ذلك وأصبح المستوطنون منزعجين بشكل متزايد من مقدار القوة التي يمتلكها الملك.

بعد الانتصار في الحرب الثورية الامريكية وانسحاب الجيش البريطاني كان على القادة الأمريكيين أن يقرروا كيفية إدارة البلاد. كانت ذكرى الحياة تحت حكم بريطانيا العظمى تؤلمهم وخصوصا صلاحيات الملك المطلقة وأرادوا صيغة لتقاسم السلطة السياسية بين الشعب وأولئك الذين يحكمون. ومن أجل القيام بذلك كتب الآباء المؤسسون وثيقة مواد الاتحاد. كانت هذه الوثيقة تشرح واجبات حكومات الولايات، كما حددت حدود ما يمكن أن تفعله الحكومة المركزية. سيكون للحكومة المركزية القدرة على بدء الحرب، لكن لم يسمح لها بتجميع جيش. كما سيحظر على الحكومة المركزية تحصيل الضرائب ولم يكن هناك حتى رئيس. بدلا من ذلك، تم التعامل مع هذه الوظائف من قبل الولايات بشكل فردي، وسمح لكل ولاية أن تقرر كيفية إكمالها. في ذلك الوقت، شعر الآباء المؤسسون أن الحقوق ستكون أكثر أمانا إذا كانت الولايات تتمتع بأكبر قدر من القوة.

لسوء الحظ  تسبب هذا النظام في الكثير من المشاكل. في ماساتشوستس، بدأ المزارعون الذين انزعجوا مما اعتبروه ضرائب غير عادلة  تمرد شايز. استخدم المتمردون الأسلحة في محاولة للتغلب على حكومة الولاية. لقد كان صراعا خطيرا ولم تستطع الحكومة المركزية فعل أي شيء للمساعدة لأنه لم يكن لديها أي سلطة في الدولة. مشكلة أخرى هي التجارة والديون، والتي لم تكن موحدة في البلد بأكمله في وقت واحد. إن إبرام اتفاقيات منفصلة لولاية تلو الأخرى لم عملا منظما. استمر هذا النوع من المشاكل لسنوات.

أدرك العديد من الآباء المؤسسين أنه سيتعين عليهم إجراء تغييرات و في عام 1786، دعا ألكسندر هاملتون وكان من الأباء المؤسسين والسكرتير الأول للخزانة، دعا إلى عقد اجتماع لإصلاح مواد الاتحاد. التقى القادة في فيلادلفيا، بنسلفانيا للحديث عن كيفية حل هذه المشكلة.

مؤتمر التسويات

كان اجتماع الآباء المؤسسين في مايو 1787 والذي سمي المؤتمر الدستوري وقد استغرق الاجتماع طوال الصيف، لأن العديد من المندوبين اختلفوا حول ما يجب القيام به. أراد البعض تغيير المواد و أراد آخرون البدء من الصفر و في النهاية، كان على الجميع تقديم تنازلات.

واحدة من أكبر المنازعات كانت حول عدد الممثلين. كان من المهم تحديد عدد المندوبين لكل ولاية في الكونغرس، وهو الهيئة التشريعية للحكومة. أرادت الولايات الكبرى أن يكون عدد الممثلين على أساس عدد سكان كل ولاية بينما كانت الولايات الأصغر قلقة من هذا الأمر وأنه سيكون غير عادل بالنسبة لها وكانوا يريدون أن يكون لكل ولاية نفس العدد من المندوبين. وفي النهاية اتفقوا على التسوية الكبرى حيث سيتم تقسيم الكونغرس إلى قسمين. وسيكون عدد ممثليهم في مجلس النواب استنادا إلى عدد السكان وسيكون لمجلس الشيوخ عدد متساو من الممثلين من كل ولاية.

قبل وبعد التأسيس الرسمي للولايات المتحدة، كان يتم اختطاف الأشخاص من إفريقيا إلى الأمريكتين ضد إرادتهم ويجبرون على العبودية. اعتقدت الولايات التي بها عدد كبير من السكان المستعبدين أنهم يجب أن يعتبروا جزءا من إجمالي سكانها مما يعني ارتفاع إجمالي عدد السكان في هذه الولايات و يكون لها المزيد من المندوبين في مجلس النواب - وبالتالي المزيد من السلطة. كانت الولايات التي لديها عدد أقل من المستعبدين ضد هذا. في النهاية، توصلت الولايات إلى اتفاق حيث تم احتساب ثلاثة أخماس سكان كل ولاية من المستعبدين ضمن إجمالي سكان الولاية. وعلى الرغم من احتسابهم ضمن عدد سكان الولاية وبالتالي في عدد ممثلي الولاية، لم يتم اعتبار المستعبدين مواطنين وبالتالي لم يكن لهم حق التصويت في الولاية التي يعيشون فيها. ظلت هذه القاعدة جزءا من دستور الولايات المتحدة حتى بعد الحرب الأهلية الأمريكية.

مضامين الدستور

 انتهى الاجتماع في 17 سبتمبر 1787. وكانت النتيجة وثيقة تسمى دستور الولايات المتحدة الأمريكية. كان يحتوي على سبع مواد فقط وكان أقصر دستور في العالم لكنه غطى ما اعتقد الآباء المؤسسون أنه أهم أقسام الحكومة.

الفصل بين السلطات

تذكر الآباء المؤسسون المشاكل التي واجهوها تحت حكم بريطانيا العظمى. كانوا مصممين على الحفاظ على حقوقهم وفي الوقت نفسه علمتهم وثيقة مواد الاتحاد أن الحكومة المركزية بحاجة إلى بعض السلطة.

قرروا تقسيم الحكومة إلى ثلاثة سلطات، السلطة التشريعية أو الكونغرس، هي التي تضع القوانين. والسلطة التنفيذية، أو الرئيس، ومن واجبها أن تتأكد من تنفيذ القوانين وتنظيم العلاقات مع الدول الأخرى. وتقوم السلطة القضائية بتفسيرالقوانين وتتخذ القرارات بشأن القضايا القانونية. تتكون السلطة القضائية من المحكمة العليا وجميع المحاكم الاتحادية.

إن إعطاء كل سلطة مسؤوليات مختلفة يضمن عدم وجود فرع لديه الكثير من السلطة. وهذا يجعل من الصعب انتزاع حقوق الشعب.

الضوابط والتوازنات

بالإضافة إلى تنظيم الحكومة في فروع او سلطات منفصلة، فأنه يمكن لكل فرع منع فرع آخر من اتخاذ قرارات معينة أو اكتساب الكثير من السلطة. وهذا ما يسمى نظام الضوابط والتوازنات. على سبيل المثال، يكتب الكونغرس القوانين، لكن الأمر متروك للرئيس للموافقة عليها. يمكن للمحكمة العليا إلغاء القوانين الجديدة إذا اعتبروها غير دستورية.

الفيدرالية

أراد الآباء المؤسسون أيضا التأكد من احتفاظ الولايات ببعض السلطة. يسمى توازن القوى بين الحكومة المركزية وجميع حكومات الولايات بالفيدرالية.

أحد الأمثلة على هذا التوازن هو مجلس الشيوخ. لكل ولاية ممثلان، بغض النظر عن حجمها، مما يجعل الولايات متساوية القوة في مجلس الشيوخ. مثال آخر هو الانتخابات الرئاسية حيث كل ولاية تجري انتخاباتها الخاصة. يتم فرز النتائج في وقت لاحق كجزء من المجمع الانتخابي.

الخلافات الدستورية

تمت كتابة دستور الولايات المتحدة بعناية لتقاسم السلطة بين الولايات والحكومة المركزية. ومع ذلك، لم يعتقد كل واحد من الآباء المؤسسين أنه كان جيدا بما فيه الكفاية. تم تشكيل أول نظام حزبين، يتألف من الفيدراليين والمناهضين للفيدرالية. خشي المناهضون للفيدرالية من أن تتمتع الحكومة المركزية بالكثير من السلطة.

جيمس ماديسون وألكسندر هاملتون وجون جاي وهم جميعا من الآباء المؤسسين، كتب الجميع مقالات تدعم الدستور الجديد وقد سميت هذه بالأوراق الفيدرالية وكانت لصالح حكومة مركزية صغيرة ولكنها قوية. ونجحت الأوراق، وبحلول عام 1790، صدقت جميع المستعمرات ال 13 على دستور الولايات المتحدة.

وثيقة الحقوق

لم تنته مهمة الآباء المؤسسين بعد ذلك حيث طلبت العديد من الولايات من الكونجرس إضافة وثيقة حقوق إلى دستور الولايات المتحدة. نتج عن ذلك 10 تعديلات مهمة. الغرض من وثيقة الحقوق هو النص بوضوح على حقوق المواطنين وتأمينها. في ذلك الوقت، كان هناك عدد مختار فقط من السكان يعتبرون مواطنين في الولايات المتحدة، أي المستعمرين الأوروبيين وأحفادهم في الولايات المتحدة.

وثيقة الحقوق هي ما يحمي حرية التعبير والصحافة والدين والاحتجاج في الولايات المتحدة. وتتناول تعديلات أخرى قضايا قانونية، مثل ضمان حق الناس في محاكمة عادلة وسريعة. ينص التعديل 10 على أن أي شيء لا تسيطر عليه الحكومة المركزية متروك للولايات.

الدستور اليوم

 تستخدم الولايات المتحدة دستورها لوضع قوانين وسياسات جديدة. أجرى الكونجرس 17 تعديلا إضافيا على مدار تاريخ الأمة. لا يزال دستور الولايات المتحدة أقصر وثيقة حاكمة في العالم.

***

د. احمد مغير

 

Luiz Inacio Lula da Sivila

سيادة  رئيس جمهورية البرازيل الإتحادية المبجّل

تحيّة تليق بشخصك ومقامك

وتحية حب لشعب البرازيل

حين استمعت إلى آخر تصريح لك شعرت بالإطمئنان، وقلت في نفسي ما زال هنالك قادةَ، بإمكانهم أن ينقذوا العالم ويحققوا السلام العادل، وأن ينشروا رسالة العدل والسلم في كلّ مكان، وأنت من أهم قادة العالم، فمنذ أن كنت شابا يافعا كرّستَ جهودك لمحاربة الفقر.

شيء يشرّفك ويشرف شعب البرازيل أنّك أدنت حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وصورتها أدقّ تصوير بأنّها لا تختلف عن حرب الإبادة التي شنّها النازيون، وأنا أقول بل أكثر بشاعة وإيغالا في الإجرام من النازية القديمة.

أمّا ما قاله المجرم نتنياهو الذي أوغل في دماء الأبرياء من أهل غزة والذي قتل حتى الآن أكثر من عشرة آلاف طفل، منهم من لم يبلغ  عمره الشهرين بأنّ تصريحاتك كانت موجهة ضد السامية.. إنه أمرٌ يدعو الى السخرية، لأنّ ضحايا

النازي نتنياهو هم ساميون، العرب هم ساميون . لكنّ هذا المجرم لا ينتمي إلى أصول سامية ويكفيك اسمه، فهو وغيره ممن يمثلون كيانا عنصريا مقيتا يخدم المصالح الإستعمارية الغربية ليسوا ساميين، بل هم أدوات تتاجر بالسامية، وقد كشف الفيلسسوف الفرنسي روجيه غارودي هذا الأمر حين نشر الرسائل المتبادلة بين الحزب النازي في ألمانيا وقادة اسرائيل الصهاينة السابقين. لقد ساهم الصهاينة النازيون من اليهود في قتل اليهود في بلدان عديدة وذلك ضمن خطة تؤدي الى هجرة اليهود الى فلسطين.

سيادة رئيس جمهورية البرازيل المبجل

أنتِ صوت الضمير في عالم لا ضمير له، وهناك مثلك من نجلّ لهم الإحترام، مثل رئيس وزراء اسبانيا والأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة البرتغالي الأصل وكل من أدان الهمجية الصهيونية

لك مني كلّ الحب والإجلال

واسمح لي أن اختم رسالتي المختصرة هذه بما أسعفتني به لغتي البرتغالية البرازيلية، التي شرعت بتعلمها منذ سنوات

Todas as pessoas livres do mundo apreciam a sua nobre postura

Humanitária

دمتم ناصرا للحق والمظلومين

وليرتفع صوت أحرار العالم مدويّا

ضد قتلة الأطفال

***

الشاعر العراقي جميل حسين الساعدي

العدل الدولية تنصاع للضغوطات الغربية والصهيونية وتعطي إسرائيل ضوءا أخضر لبدء هجومها على الرفح برفضها الاستجابة لطلب جنوب أفريقيا اتخاذ إجراء يلزم دولة الاحتلال بوقف إطلاق النار وعدم شن هجومها على أكثر من مليون فلسطيني يتكدسون في رفح وتعلن: الوضع في رفح لا يتطلب إجراءات إضافية بحق إسرائيل!

فضيحة كبرى لا يمكن فهمها إلا في سياق انحياز محكمة "العدل" الدولية الفاضح للكيان الصهيوني والانصياع للضغوطات الغربية والصهيونية! كيف يمكن لنا أن نفهم أن المحكمة اعترفت بأن "التطورات الأخيرة في قطاع غزة، وفي رفح على وجه الخصوص، من شأنها أن تزيد بشكل كبير ما يعتبر بالفعل كابوسا إنسانيا له عواقب إقليمية لا توصف"، وأن "هذا الوضع الخطير يتطلب التنفيذ الفوري والفعال للتدابير المؤقتة التي أشارت إليها المحكمة في أمرها الصادر في 26 يناير 2024، والتي تنطبق على جميع أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك رفح، ولا يتطلب الإشارة إلى تدابير مؤقتة إضافية". وأكدت المحكمة أن "دولة إسرائيل تظل ملزمة بالامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية والأمر المذكور، بما في ذلك ضمان سلامة وأمن الفلسطينيين في قطاع غزة". فهل امتثلت إسرائيل امتثالا كاملا لالتزاماتها القانونية أم استمرت بقتل المدنيين وبمعدلات مئوية يوميا؟

هل أبدت أي نية أو أعطت أية إشارة إلى أنها ستوقف استهداف المدنيين أو تدمير البنية التحتية التي دمرت بالكامل؟

أليس القرار الذي أصدرته المحكمة متناقض ينفي قسمه الأول قسمه الثاني؟ لنقرأ النص: " وقالت المحكمة إن "الوضع الخطير في قطاع غزة ورفح بشكل خاص "يتطلب تنفيذا فوريا وفعالا للإجراءات المؤقتة" بموجب قرارها الصادر في 26 يناير كانون الثاني و”لا يتطلب الإشارة إلى تدابير مؤقتة إضافية". كيف يمكن التوفيق بين خطورة الوضع والمطالبة بتنفيذ الإجراءات المؤقتة التي لم تنفذ بعد شهر تقريبا من اتخاذها وبين القرار بعدم اتخاذ تدابير مؤقتة إضافية؟ أليس معنى ذلك إعطاء ضوء أخضر لجيش الكيان الذي قتل عشرات الآلاف من المدنيين وخصوصا من الأطفال والنساء ولم يستثنِ حتى الأطباء والصحافيين للبدء بهجومه الكارثي على رفح؟

ولكن ماذا ننتظر من محكمة كانت رئيستها الحالية جوان دونوهيو موظفة قانونية في وزارة الخارجية الأميركية ومستشارة للرئيس الأميركي أوباما؟ ماذا ننتظر من محكمة قررت ترقية القاضية الوحيدة (الأوغندية جوليا سيبوتيندي) التي اعترضت على كافة قرارتها لمصلحة الكيان الصهيوني ترقيتها إلى نائبة لرئيسة المحكمة؟

لقد كان هدف جنوب أفريقيا انتزاع قرار من المحكمة يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار وهذا لم يحدث بل ولم يحدث ما هو أقل منه وهو صدور قرار يلزم إسرائيل بوقف أو حتى تعليق هجومها الكارثي على رفح فإي عدل وأية عدالة في هذه الهيئة التي يسمونها دولية؟

لقد وضُحَ الآن مزيدا من الوضوح أن انتظار العدالة والحياد من جميع الهيئات الدولية التي أنشأتها الدول الاستعمارية العنصرية الغربية ومارست الهيمنة عليها طوال فترة ما بعد الحرب الأوروبية "العالمية" الثانية وحتى اليوم إنما هو وهم وغباء، ولم يعد مبررا الاستمرار في هذا الوهم القاتل، وأن على شعوب منطقتنا والعالم الثالث كله التفكير جدياً بإيجاد بديل حقيقي ومحايد لهذه الهيئات "الدولية" التي أسسها أولاد وأحفاد تجار العبيد والأسلحة ومبيدو الشعوب الأصلية في جميع القارات!

***

علاء اللامي

.........................

* يمكن العثور على تقرير مفصل عن هذا الخبر في موقع قناة "روسيا اليوم" بالبحث عن العبارة المفتاحية "محكمة العدل الدولية: الوضع في رفح " في محرك البحث غوغل".

* رابط لمختصر الخبر في رويترز:

https://www.swissinfo.ch/ara/%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%84-%D9%84%D8%A7-%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%B7%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A6-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86/72655894

في خضمّ المراوحة التي تعيشها معظم بلداننا في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا، والمتمثل ببطئ تقدمِها إلى الأمام وفشلها الذريع في تطوير مؤسساتها وتنمية الإنسان فيها، تتبادر إلى الأذهان والألسن مقارنات بينها وبين مجموعة دول أخرى لا تختلف كثيراً عنها؛ مقارنات تنتج أسئلة تبحث عن إجابات رغم أن الأمر لا يتعلق بتلك الإجابات الإنشائية أو التبريرية في معظمها، بل هو البحث عن مكامن الخلل البنيوي الذي يتعلق بجملة من المرتكزات في البناء والأسس والتركيبات التربوية والاجتماعية وربما العقائدية، وما يلحق بها من عادات وسلوك متوارث، ناهيك عن التأويلات والتفسيرات لكثير من النصوص والعقائد والنظريات في مجتمع قَبَلي وأسري يرتبط عضوياً بالبداوة والزراعة، وما يتعلق بهما من قوانين وضوابط وارتباطات؛ ولذلك ذهبنا إلى محاولة لمقاربة مجتمعات هي الأقرب في ظروف تكويناتها وطبيعة تركيباتها الاجتماعية والاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، الثورة الصينية التي وقعت في 1949، وكانت بحق حدثاً مهماً في قارة آسيا، تبعها بعد سنتين حدث لا يقل أهمية في قارة أفريقيا ألا وهو الثورة المصرية عام 1952م، والثورتان حدثتا في مملكتين من أعرق ممالك التاريخ، مملكة مصر وارثة ممالك الفراعنة أعظم حضارات الدنيا، وممالك الصين وحضاراتها الغائرة في أعماق الزمن، والمثير أنّ الثورتين الصينية والمصرية تصنفان على يسار الحركة السياسية في العالم آنذاك، وهناك الكثير من التشابهات بين الدولتين والشعبين فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة التي تمتد في كليهما إلى عدّة آلاف من السنين، إضافةً إلى التشابه في نسبة الفقر والأمية العالية قياساً لكثافة السكان، مع انخفاض مريع لإنتاجية الفرد والمجتمع إبان قيام الثورتين،

وربما بعدهما بسنوات ليست طويلة ما حدث في كوريا ثم قيام الثورة العراقية في تموز 1958م والكثير من التشابهات بين هذه الدول وأنظمتها الاجتماعية المحافظة وما جرى فيها خلال عدة عقود من الزمن المزدحم بالإنجازات في بعضها والمتقهقر في بعضها الآخر. ورغم أن مجموعة دول الصين وملحقاتها في تايوان وهونغ كونغ، وكوريا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، خاضت حروباً وصراعات كثيرة، لكنها رغم ذلك وبعد ما يزيد على سبعين عاماً بقليل استطاعت أن تُحدث تغييراً نوعياً كبيراً في مسار تقدمها وشكل ومضمون حضارتها، وبالذات في الصين العظمى والصغرى في تايوان والأصغر في هونغ كونغ، وما حصل من تطور مذهل في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ومقارنة مع مجموعتنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عما حصل خلال ذات الحقبة الزمنية من تقهقر مريع وحصاد هزيل في بلداننا، ندرك البون الشاسع بين دولنا وأنظمتنا وبين تلك المجموعة التي كما قلنا لا تختلف ظروف تكوينها وموروثاتها وكيف غدت دول مثل العراق وسوريا ومن ماثلهما من أنظمة ودول بقياسات زمنية واجتماعية وسياسية متقاربة قياساً إلى ما حدث في الصين الصغيرة منها والعظمى، وما نتج في كوريا وكثير من بلدان جنوب شرق آسيا التي لا تختلف كثيراً عن دولنا وشعوبنا.

هذه المقارنة وما تنتجه من أسئلة تقودنا إلى البحث عن مراكز القوة في المجموعة الأولى التي أنتجت لنا تقدماً مذهلاً خلال هذه السنوات السبعين في كل من الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وفي الطرف الآخر، أي في مجموعتنا هنا في الشرق الأوسط عموماً، وحصرياً في دول الحضارات القديمة، أين تكمن نقاط الضعف والخلل التي تسببت في هذا الانهيار والتقهقر والانكفاء؟

وكما يقول الأطباء فإن التشخيص نصف العلاج، خاصة عند إجراء مقارنة بين الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية مجموعتنا في الشرق الأوسط والتي تتشابه كثيراً في طبيعة مجتمعاتها وأوضاعها، هذه المقارنات قد تقودنا في رسم خارطة طريق للأجيال القادمة لا تعتمد ذلك الكم الهائل من الموروث المربك والمعيق وما يلحقه من عادات وتقاليد ونظريات وتأويلات اجتماعية ودينية أثبتت فشلها على أرض الواقع، وكان الاعتماد عليها سبباً رئيساً لفشل كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وحان الوقت رغم كل ما جرى أن نعتمد مرتكزاً أساسياً للتقدم دونما شعارات رنانة ألا وهو التعليم الحديث والتأهيل البشري ضمن سياقات حضارية معاصرة لا تخضع لتلك الموروثات التي أثبتت فشلها في حياة شعوبنا وأنظمتنا.

***

كفاح محمود

قد يكون هذا عنوانا واستهلالا صادما ولكنها الحقيقة التي لا يمكن لكل أشكال التنديد والشجب العربية والدولية والدعوات والتمنيات من تغييرها. صحيح أن حرب الإبادة في غزة وممارسات المستوطنين في الضفة أثارت الرأي العام وحركت الشعوب والمنظمات الدولية ضد دولة الكيان وأحيت القضية مجددا اعلاميا، ولكن كل ذلك لا يؤثر على مجريات الحرب ولم ولن يردع نتنياهو وكيانه اليهودي الصهيوني الإرهابي عن استكمال المشروع الصهيوني التوراتي الذي بدأ عمليا عام 1948.

  ما وصلت اليه الأمور في قطاع غزة من جوع وفقر وانتشار للأمراض وغياب متطلبات الحياة الضرورية من دواء ومياه واستمرار آلة الموت الصهيونية في حصد مئات المواطنين يومياً ما بين شهيد وجريح والتهديد باجتياح رفح ... كل ذلك يتطلب درجة عالية من الصراحة والوضوح وإعمال العقل وتجاهل الخطابات والشعارات المضخمة عن المقاومة وقدراتها وعن الصمود الخارق للشعب الفلسطيني الخ التي يروج لها المتفرجون خارج الوطن الذين يرومون إخفاء عجزهم عن القيام بواجبهم القومي والإسلامي والإنساني بالزعم أن المقاومة في غزة بخير وأن أبطال حماس والفصائل يقومون بواجبهم في الدفاع عن غزة والقدس وكرامة الأمة العربية والإسلامية، ويعتقدون أن السماح لمحطاتهم الفضائية باستضافة كل من هب ودب من أشباه ومدعي الخبرة في السياسة والاستراتيجية العسكرية بنقل ما يجري في غزة والحديث عن بطولات وصمود أهلها، أو تصوير شاحنات المساعدات الغذائية التي يرسلونها لحدود القطاع  دون أن يجرؤوا على إدخالها للقطاع، معتقدين أن كل ذلك سيعفيهم من المسؤولية عن أكبر جريمة إبادة جماعية في حق شعب وقضية كانوا يزعمون أنها قضيتهم الأولى .

نعم نقولها بصراحة إن القضية الفلسطينية ليست بخير وأهل غزة ليسوا بخير ومكرهون على الصمود والصبر لأنه لا بدائل أمامهم، وأن المقاومة ليست بخير بالرغم من البطولات الفردية للمقاتلين، ومهما كان بأس المقاومة فلن تُوقف العدو عن تنفيذ مخططاته بما في ذلك اجتياح رفح، ونقولها بصراحة أيضا إن هدف حركة حماس الحفاظ على سلطتها في القطاع بأي ثمن حتى من خلال قمع المواطنين واسكات المحتجين والمعارضين بقوة السلاح والمساومة على دماء خوالي 50 الف شهيد ومفقود وأضعافهم من الجرحى والمعاقين والمعتقلين.

كل ما يجري من تطورات عسكرية وفشل كل المفاوضات حول الهدنة وصفقات تبادل أسرى والتي تفشلها إسرائيل عمداً لكسب الوقت، يؤكد أن العدو سينفذ مخططه المُعد مسبقاً في القطاع بما في ذلك التهجير الى سيناء أو خارجها ولن تردعه الحواجز والاسلاك الشائكة التي تضعها مصر على حدودها ولا التهديد بوقف العمل باتفاقية كامب ديفيد وقطع العلاقات، كما لن تلتفت إلى كل التحذيرات والتنديدات من دول العالم التي لا تتجاوز انتقاداتها المطالبة بتجنب وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين، فإسرائيل تعرف أن هذه الدول التي سكتت على جرائمها طوال أكثر من أربعة أشهر لن تفعل لها شيء في حالة قيامها بمجزرة جديدة في رفح وتهجير سكانها ، وهذا العالم العاجز والمتواطئ سيقول إنه عمل ما في وسعه ولكن نتنياهو لم يستمع كلامهمّ، وما بعد مجزرة رفح سيتم تحميل شخص نتنياهو مسؤولية الجريمة وحرب الابادة وتعود العلاقات الرسمية بين إسرائيل ودول العالم الى طبيعتها وسيتواصل التطبيع مع الدول العربية أقوى مما كان. وسيتواصل العجز الرسمي الفلسطيني بل ستكون منظمة التحرير والسلطة أكثر ضعفاً مما كانتا وستدفع الضفة والقدس ثمن الانتصارات المزعومة لحماس في غزة.

 في مقابل كل هذه المعاناة والدمار ستواصل حركة حماس في الترويج لخطاب النصر وسترفع رايتها على أنقاض بيوت ومدارس وجامعات ومستشفيات ومساجد ومتاحف غزة وعلى جثث وأشلاء وقبور أكثر من خمسين ألف شهيد، وستستمر في المكابرة والمعاندة وترويج وهم أن هزيمتها كحركة إسلامية هزيمة للإسلام وأن هزيمتها كحركة مقاومة هزيمة للمقاومة، متجاهلة انها مجرد حزب أو جماعة سياسية وسيستمر الإسلام والمقاومة في فلسطين بوجودها أو بدونه، وأن الحرب ليست على حركة حماس بل على كل الشعب والقضية وأن العدو مخادع في حديثه عن الحرب على غزة وحماس، فما يسعى له هو القضاء على القضية الوطنية برمتها..

الشيء الإيجابي الوحيد في كل ما يجري هو انكشاف حقيقة إسرائيل ككيان عنصري إرهابي ونازي عند جزء كبير من شعوب العالم الغربي حتى في الولايات المتحدة الامريكية، وأن هزيمة أو فشل فصائل المقاومة والنظام السياسي الرسمي في مواجهة المخطط الصهيوني لا يعني هزيمة الشعب ونهاية القضية الفلسطينية فسينهض الشعب مجددا كما نهض وثار بعد نكبة 1948 وبعد نكبة 1967 وبعد خروج الثورة من لبنان ودول الطوق 1982.فهل الطبقة السياسية الفلسطينية مؤهلة للبناء على ذلك في مرحلة ما بعد الحرب؟

***

ا. د. ابراهيم ابراش

 

بقلم: مورا رينولدز

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يصف أحد آخر الصحفيين الغربيين الذين أجروا مقابلة مع الزعيم الروسي الألعاب الذهنية التي يمارسها الكرملين، وكيفية التمييز بين الصحافة والدعاية.

وقال ليونيل باربر، رئيس التحرير السابق لصحيفة فايننشال تايمز: "هدف بوتين هو إضعاف أمريكا. لقد وصل بوتين إلى هنا وهو يشعر بأن روسيا قوة من الدرجة الثانية مقارنة بأمريكا". | ميخائيل كليمنتيف / وكالة الصحافة الفرنسية عبر غيتي إيماجز

مورا رينولدز هي نائبة رئيس تحرير مجلة بوليتيكو للأفكار.

لا يجري فلاديمير بوتين الكثير من المقابلات مع الغربيين. لذلك، عندما يبث تاكر كارلسون لقاءه  يوم الخميس، ستكون هذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي أجرى فيها الرئيس الروسي مقابلة شخصية مع صحفي غربي - على الرغم من وجود جدل حول ما إذا كان كارلسون يعتبر واحدا منهم.

كان أحد الصحفيين الذين تمكنوا من الوصول إلى هذا النوع من التواصل مع بوتين هو ليونيل باربر، رئيس تحرير صحيفة فايننشال تايمز حتى عام 2020. أمضى باربر، مع زميل له مقيم في موسكو، أكثر من ساعة ونصف في إجراء مقابلة مع بوتين في الكرملين في تموز 2019. ويتذكر تجربة لا بأس بها، حيث ظل ينتظر لساعات حتى منتصف الليل تقريبا بينما كان مساعدوه يلعبون ألعابا ذهنية لإثارة أعصابه.

لقد فتحت المقابلة التي أجراها باربر آفاقا جديدة ، حيث حصلت على إجابات من بوتين كشفت كيف تغيرت نظرته للعالم، وكيف كان عداءه للغرب يتزايد. ويبقى أن نرى ما إذا كان كارلسون يفعل شيئا مماثلا - يستخدم المقابلة بالطريقة التي يستخدمها الصحفي لاستخلاص معلومات جديدة - أو ما إذا كان هو وبوتين يسعيان إلى الترويج لأجندة سياسية مماثلة.

ويقول باربر إنه سوف يراقب كارلسون عن كثب كما يراقب بوتين، وهو شخصية يصفها بأنها "شخصية جليدية للغاية".

وقال باربر: "سأحكم عليه أولا من خلال جودة الأسئلة، وما إذا كانت أسئلته تكشف اللعبة، وتُظهر أنه يقف إلى جانب بوتين". "إذا كانت مجرد أسئلة سوفتبول أو نفخة كريمة، فهي مجرد قطعة من الدعاية وهو مجرد بمثابة الناطق بلسان بوتين ودميته".

مورا رينولدز: لا يجري القادة الروس مقابلات فردية مع الغربيين في كثير من الأحيان، وعندما يفعلون ذلك، فإنهم عادة ما يكون لديهم دافع خفي. ما هو برأيك دافع بوتين للتحدث مع كارلسون الآن؟ هل يريد بوتين التحدث أم أنه يريد التحدث مع كارلسون على وجه التحديد؟

يونيل باربر: أولا، يعرف أن لديه أذنًا متعاطفة. كارلسون صحفي من نوع ما، لكنه أيضا داعية. إنه متعاطف مع النسخة الروسية من سبب غزوهم لأوكرانيا. تاكر ليس صديقا على الإطلاق لـ [الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي]. وتحدث في كلمته الافتتاحية عن معاملة زيلينسكي على أنه "علامة تجارية استهلاكية" في وسائل الإعلام الأمريكية، وهو ما كان مهينا بصراحة. لذلك نحن نعرف من أين أتى كارلسون. لن يجري مقابلة معادية، رقم واحد.

ثانيا، إذا فكرت في التوقيت، فستجد أن حزمة المساعدات العسكرية في واشنطن متاحة للجميع؛ لقد تم احتجازها كرهينة من قبل عدد صغير من الجمهوريين، وجمهوريي ماجا، وأنصار ترامب. وهذه هي اللحظة التي حسبها بوتين أنه يمكنه استخدام هذه المقابلة لجذب هذا الجمهور. وأخيرا، لجذب الجمهور الغربي، الذي من المؤكد أن بعضه يجهل التاريخ والتعقيد المحيط بهذا الصراع.

مورا رينولدز: لذا، فأنت تعتقد أن أحد دوافع بوتين هو دق مسمار في نعش حزمة المساعدات لأوكرانيا التي يجري النظر فيها حاليا في الكونجرس الأمريكي، وكذلك احتمال الوصول إلى جمهور الأمريكيين الذين ليسوا متأكدين من حجم المبلغ الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تفعله. هل ندعم أوكرانيا في هذه المرحلة؟

يونيل باربر: لا أعرف ما إذا كان بإمكانه دق مسمار في النعش. ما يريد أن يفعله هو شيء أكثر غدرا قليلا، وهو إضعاف عزيمة الغرب، وإعطاء الانطباع بأنه شخص عاقل، ولماذا لا ننسى أن هذا صراع وحشي حيث هو المعتدي. أن هناك صفقة يجب عقدها وهو شخص عاقل. فهو يريد مناشدة هذا النوع من الأشخاص لتقويض عزيمة الغرب ووحدته. وهذا بالفعل ما يريد أن يفعله، وكنتيجة ثانوية لذلك، ربما إنهاء حزمة المساعدات هذه.

مورا رينولدز: أخبرني كيف جاءت مقابلتك مع بوتين؟ هل كانت صحيفة فاينانشيال تايمز تسعى لذلك؟ هل اقترب منك الكرملين؟

يونيل باربر: لقد طلبنا إجراء مقابلة في أوائل عام 2010. لقد كنت في الواقع أتناول العشاء مع بعض رجال الأعمال – اثنان من رجال النفط، واثنين من الأكاديميين، ورئيس تحرير مجلة الإيكونوميست – في عشاء مع بوتين في السفارة الروسية في لندن. كان هذا قبل [2014] غزو القرم وضمها. لذا فكرت في ذلك الوقت، حسنا، سيكون من الجيد محاولة إجراء مقابلة. كنت أتطلع إلى إجراء مقابلات منتظمة مع زعماء العالم وكان بوتين على القائمة. لكن بعد شبه جزيرة القرم، اعتقدت أنني لا أريد الذهاب إلى هناك. ونظرا لوجود عقوبات دولية، فإن ذلك يرسل رسالة خاطئة. لذلك انتظرنا ثم بذلنا جهدا آخر في عام 2017 أو 2018 تقريبا. واستغرق الأمر بضع سنوات. ثم جاء مراسل جديد لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إلى موسكو واعتقدنا أن هذا كان بمثابة فرصة، وكنا نناشد غروره نوعا ما: "هناك قمة مجموعة العشرين في اليابان في أوساكا. هذه هي اللحظة المناسبة لك للخروج على المسرح العالمي." لقد أوضحنا أنه ظل في السلطة لمدة 20 عاما وأنه سيكون القائد الأكثر خبرة هناك، لذا فهذه فرصة للتحدث إلى "فاينانشيال تايمز"، والتحدث إلى جمهور عالمي.

وهكذا قالوا أخيرا نعم.

مورا رينولدز: هل وضعوا أي شروط للمقابلة؟

يونيل باربر: لا، و أنا لا أضع الشروط.

مورا رينولدز: أين تم ذلك؟ هل كان هناك أشخاص آخرون في الغرفة؟

يونيل باربر: كنا نعلم أنها كانت مقابلة ليلية. كنا نعلم أن بوتين سيجعلنا ننتظر أربع ساعات على الأقل. اتضح أن الأمر قد انتهى للتو. واستمر الأمر حتى منتصف الليل. خلال النهار علينا فقط أن ننتظر. وبعد ذلك تم استدعاؤنا إلى الكرملين في حوالي الساعة السابعة والربع.

تم نقلنا بعد ذلك إلى غرفة الوزارة، الغرفة الشهيرة التي تحتوي على أطول طاولة في العالم الشرقي، لكنها لم تكن  في وقت كوفيد، لذا كان لدينا طاولة صغيرة مستديرة. طاولة صغيرة جدا. وبعد ذلك بقينا واقفين لساعات. كانت هناك كل أنواع الألعاب الذهنية الجارية لأنهم وضعوا الكراسي جانبا وفكرت، حسنا، هذا جيد لأنني كنت واقفا أتحدث إلى هؤلاء المرافقين لمدة ساعة. لكن عندما تحركت نحو الكراسي للجلوس، جلس حراس الأمن على الكراسي بدلا من ذلك. لذلك كان كل هذا يحدث. ثم ذهبنا لتناول بعض الشاي وظللت أفكر، قد يكون هذا شاي البولونيوم . كما تعلم، لم تكن تريد أن تشرب أي شيء لأن ما الذي سيحدث في المشروب؟ كانت هناك كل أنواع الألعاب الذهنية. وفي النهاية كنت أفكر، حسنا، لقد مرت أربع ساعات الآن، و20 دقيقة حتى منتصف الليل. ثم تم إرجاعنا إلى غرفة مجلس الوزراء، وتم إعداد جميع الكاميرات ودخل بوتين.

كما تعلم، فهو أقصر بكثير مما يبدو. ربما يبلغ طوله في الواقع 5 أقدام وخمسة أقدام أو نحو ذلك. وكان [ديمتري بيسكوف]، المتحدث باسم الكرملين منذ فترة طويلة، في الخلفية، ثم أنا وهنري. ثم قلت لهنري، كما تعلم، لقد انتظرنا أكثر من أربع ساعات. سأتحدث معه باللغة الألمانية لأذكره بأنني أعرف أنه كان عميلا للكي جي بي في دريسدن. وبالطبع، تحدث بعد ذلك باللغة الألمانية. قلت باللغة الألمانية، شكرا جزيلا لك على رؤيتنا، لقد مر بعض الوقت منذ آخر مرة رأيتك فيها. ثم قال شكرا لك وأين تعلمت لغتك الألمانية؟ وقلت أكسفورد، لكنني لم أتعلم اللغة الألمانية فحسب، بل تعلمت التاريخ الألماني الحديث. ثم قال بالألمانية ما هو التاريخ الحديث؟ كان الأمر كما لو تم ضربه بمطرقة ثقيلة. ماذا أقول؟ إنه سيد زعزعة الاستقرار، عليك أن تكون دائما على أهبة الاستعداد. لذلك تجمد ذهني، ثم قلت فجأة، باللغة الألمانية، حسنًا، سيدي الرئيس، التاريخ الحديث هو كل ما حدث بعد عام 1989 [عندما سقط جدار برلين]. وأعجبته هذه الإجابة، ثم قال: حسنا، اجلس.

لقد استعدت لهذا بجدية. لقد قررت أن المقابلة ستستمر أكثر من ساعة. وانتهى الأمر بمدة حوالي ساعة و40 دقيقة. وأتذكر أنه بعد حوالي 80 دقيقة، بدأ يتذمر ويقول إن هذا استغرق وقتا طويلا. وقلت، سيدي الرئيس، لقد انتظرت خمس سنوات من أجل ذلك، وعلينا أن نستمر قليلا.

أحد الأشخاص الذين تحدثت إليهم قبل المقابلة كان بيل بيرنز، الذي كان آنذاك سفير الولايات المتحدة في موسكو لفترة طويلة. التقى بوتين عدة مرات وهو الآن رئيس وكالة المخابرات المركزية. وسألته عن كيفية التعامل مع بوتين. وأيضا بوب زوليك، نائب وزير الخارجية الأسبق، كان يعرف بوتين جيداً، وكلاهما قالا: لا تعاديه في البداية. تعامل معه باحترام. وكانت تلك نصيحة جيدة. لا يتعلق الأمر باللين، ولكن إذا كنت ترغب في الحصول على فرصة لتعلم شيء ما، فلن تقوم بالتسديد الرخيص أو العدوان في البداية. لذلك كانت تلك نصيحة جيدة.

مورا رينولدز: ينظر منتقدو كارلسون إليه على أنه داعية أو ديماغوجي أكثر من كونه صحفيا. إذا، هل هذا يعني أن أسلوبه في هذه المقابلة سيكون مختلفا عن أسلوبك؟ وما الذي ستبحث عنه لمحاولة الحكم على أهداف كارلسون في هذه المقابلة؟

يونيل باربر: سأحكم عليه أولا من خلال نوعية الأسئلة وما إذا كانت أسئلته تكشف اللعبة، وتُظهر أنه يقف إلى جانب بوتين. إذا كانت مجرد أسئلة سوفتبول أو نفخة كريمة، فهي مجرد قطعة من الدعاية وهو مجرد بمثابة الناطق بلسان بوتين ودميته.

والنقطة الأخرى هي: هل سيطرح على الأقل بضعة أسئلة من شأنها أن تجعل بوتين غير مرتاح؟ وأود أن أقول أنه يجب عليه ذلك. إذا كان صحفيا، فإن الصحفي المناسب سيسأل عن اعتقال إيفان غيرشكوفيتش، مراسل موسكو المسجون بتهم ملفقة بالتجسس. إذا لم يذكر غيرشكوفيتش، فهذا أمر مروع. غيرشكوفيتش ليس معارضا سياسيا للنظام. إنه صحفي. إنه صحفي أمريكي.

مورا رينولدز: فإذا كان كارلسون موجودا بالفعل كصحفي، فسوف يسأل عن مصير صحفي آخر؟

يونيل باربر: هذا هو الاختبار الحقيقي لنزاهة هذه المقابلة. هل ذكر أن غيرشكوفيتش محتجز؟ أم أنه سيكون نوعا من المحاور المتملق؟ أعني أنه يمكنك أن تكون مهذبا ولكن ليس بشكل مفرط. هل سيتم فصله قليلا؟ فهل يستخرج أي معلومات من بوتين تثير الدهشة؟ أم أن الأمر مجرد ما نعرفه جميعا، ولا يختلف عما قاله بوتين من قبل؟ هذا هو الاختبار للمحاور، هل أنت في الواقع تستخرج المعلومات بدلا من الدعاية؟

مورا رينولدز: إلى أي مدى كانت النسخة الروسية الانتقامية من التاريخ عنصرا في مقابلتك مع بوتين وكيف تطورت في السنوات الأربع اللاحقة في رأيك؟

يونيل باربر: كان هناك على الأقل ثلاثة أشياء مهمة جدا ظهرت في مقابلتنا. الأول كان - ويجب أن أمنح بيل بيرنز الفضل في ذلك لأنني سألته، ما هو السؤال الوحيد الذي قد تطرحه على بوتين؟ وقال: اسأله: "بعد 20 عاما، هل ارتفعت شهيتك للمخاطرة أم انخفضت بناء على خبرتك؟" إنه سؤال رائع. في البداية حاول بوتين التملص من الأمر ثم دفعته. ثم قال: حسنا، لدينا قول مأثور في روسيا، "أولئك الذين لا يخاطرون، لا يمكنهم شرب الشمبانيا". حسنا، كان ذلك واضحا. وقد ارتفعت شهيته للمخاطرة.

السؤال الثاني كان عن الشعبوية. لقد رأينا شعبوية في أمريكا مع ترامب وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. متى ستأتي إلى روسيا؟ وهو حقا لم يعجبه هذا السؤال. وبعد ذلك توصل إلى ما تبين أنه القصة الكبيرة بالنسبة لنا، وهي أن الفكرة الليبرالية عفا عليها الزمن. أنتم يا رفاق منحلون وناعمون. أنت لا تعرف شيئا وأنت تعلم أنك تقوم بتدريس المرونة بين الجنسين في المدارس. أعني أنه كان لا يصدق. وكانت تلك هي القصة لأنها أخبرتك للتو أنه يعتقد أن الغرب كان منحطا ومتهالكا، وكان على الجانب الصحيح من التاريخ.

النقطة الثالثة كانت عندما سألته عن سقوط الاتحاد السوفييتي، فأعاد التأكيد على ما قاله عن كونها مأساة بسبب ملايين النازحين الروس، ويمكنك حينها أن تستشعر ثقافة وعقلية التظلم. وبعد أقل من ثلاث سنوات، ذهب وقام بغزو أوكرانيا.

من الواضح أن الأمور سارت على مسار آخر خلال كوفيد عندما كتب هذا المقال الطويل عن الإمبراطورية الروسية القديمة . أعتقد أنه حصل على أساس تاريخي فلسفي أكثر من خلال التحدث إلى [الإيديولوجي الروسي ] ألكسندر دوجين وآخرين للحديث عن روسيا الكبرى وإعادة بناء روسيا الكبرى.

مورا رينولدز: لذا، هل سيكون هذا أمرًا آخر يجب مراقبته في مقابلة كارلسون، سواء سمح لبوتين ببساطة بتقديم هذه النسخة الجديدة من التاريخ التي تعتبر فيها روسيا قوة عظمى والغرب منحطا، أو ما إذا كان يتحداه بالطريقة التي فعلتها وتشير إليها. هل يمكن أن نستنتج أن غزو أوكرانيا لم يكن مبررا؟

يونيل باربر: وسأراقبه لأرى ما إذا كان قادرا على حمل بوتن على القول بشكل مباشر: "أوكرانيا ليست دولة. ولا تتمتع بوضع الدولة المستقلة. إنها حقا جزء من روسيا." وبعد ذلك سأنتظر لأرى، هل سيتابع الأمر ويقول، هل يعني ذلك أن هناك أجزاء أخرى من أوروبا لا تنتمي حقًا إلى الدول المستقلة؟ سألته عن ذلك عام 2013، فرأيت وجهه قد تحول إلى ثلج. وبالمناسبة، فإن بوتين شخصية جليدية للغاية. حقا، يمكنه أن ينظر إليك وهو وجه ميدوسا إذا لم يعجبه شيء ما. إذا ذكرت دول البلطيق، فسوف يتجمد. لذلك أود أن أقول له، حسنًا، دول البلطيق كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي. ماذا عنهم؟ هل هم مستقلون حقا؟ إلى أي مدى ستصل هذه الإمبراطورية الروسية الجديدة؟ يحتاج إلى إثارة ذلك.

مورا رينولدز: كارلسون هو نوع من الانعزالي الجديد. هل تساعد انعزالية كارلسون أجندة بوتين؟

يونيل باربر: هدف بوتين هو إضعاف أمريكا. لقد وصل بوتين إلى هنا وهو يشعر بأن روسيا قوة من الدرجة الثانية مقارنة بأمريكا. لقد سئم من الطريقة التي اضطروا بها إلى المضي قدماً في الحرب على الإرهاب. ورأى ما حدث في ليبيا والربيع العربي. وهو يعتقد أن أمريكا تقف وراء كل هذا، وأن روسيا تُعامل معاملة سيئة. لذا فهو يدعم أي شيء يمكن أن يضعف أمريكا. ومن الواضح أنه نظرا لأن الغرب يدعم أوكرانيا المستقلة، فإن الغرب يدعم عضوية الاتحاد الأوروبي، ويريد بوتين كسر ذلك. فهو يريد أوكرانيا محايدة في فلك روسيا. وهو يريد مساحة أكبر للمناورة وأن يكون على رأس الطاولة. ويريد إضعاف الغرب. والقوة الرئيسية هي أمريكا.

مورا رينولدز: كيف يلعب كارلسون في ذلك؟

يونيل باربر: كارلسون من أنصار ومعجب بفيكتور أوربان في المجر. أوربان هو مستبد بحرف كبير. وهو مستبد غير ليبرالي. لم تعد المجر دولة ديمقراطية ليبرالية فاعلة بعد الآن. لذا فإن كارسون مناهض للاتحاد الأوروبي، ومناهض للديمقراطية الليبرالية، وبالتالي فهو يحمل ماء بوتين إلى هنا. لأن بوتين يريد أيضاً إضعاف الاتحاد الأوروبي، وإذا تفكك، فإن ذلك كله لصالحه لأن ذلك يجعل روسيا أقوى. لذا فإن العزلة الجديدة التي يتبناها كارسون، وتصوره بأن أميركا ليس لديها كلاب في القتال في أوكرانيا، تصب في مصلحة بوتن.

مورا رينولدز: في أمريكا، كان هناك انقسام متزايد بين المؤسسات الإخبارية التي تكون سياسية بشكل علني وتلك التي تكون أقل سياسية بشكل علني. كيف يمكن للأميركيين أن يتعلموا عن كيفية عمل الدعاية، في مقابل كيفية عمل الصحافة؟ كيف سنكون قادرين على معرفة ما إذا كان ما يفعله كارلسون هو صحافة أم دعاية؟

يونيل باربر: اسمحوا لي أن أكون واضحا، أنا من المعسكر الذي يقول إنه إذا أتيحت الفرصة لأي مؤسسة إخبارية لإجراء مقابلة مع فلاديمير بوتين، فيجب عليها الآن، مع اقتراب الذكرى السنوية، أن تفعل ذلك. المشكلة في مقابلة تاكر كارلسون هي أنه مروج للدعاية. إنه يطمس التمييز بين الصحفيين والدعاة. إنه أكثر من مجرد آراء. لدينا جميعا آراء. لكنه ليس مراسلا. انه ليس محررا. إنه شخصية سياسية ذات وجهة نظر محددة مسبقًا.

المشكلة الآن في الصحافة الأميركية، بطبيعة الحال، هي أن هذا التمييز أصبح غير واضح مقارنة بما كان عليه قبل عشرين عاما، عندما كان هناك انقسام صارم إلى حد ما في وسائل الإعلام التقليدية بين الرأي والتقارير، وجانب الرأي وغرفة الأخبار. والضبابية الثانية – التي شهدناها مع الرئيس السابق ترامب على وجه الخصوص – هي طمس الحقائق والرأي ونشر الحقائق البديلة. تحتاج المؤسسات الإخبارية في أمريكا إلى العودة إلى الإيمان بالتقارير ونقل الحقائق، وعدم التوافق مع نماذج الأعمال هذه التي تقول بشكل أساسي، تحديد الجمهور المستهدف، والقيام فقط بالصحافة التي تجذب هذا الجمهور، وإذا كان عليك طمس الحقائق والرأي لبناء المزيد من الأعداد وتعزيز الولاء بين هذا الجمهور - إذا كان لا بد من الخروج من النافذة للمعايير التقليدية للصحافة - فليكن. وهذا طريق خطير للغاية.

مورا رينولدز: وهذا هو الطريق الذي كان يعمل فيه كارلسون لفترة طويلة.

يونيل باربر: نعم. أعتقد أن هناك مجالا لفوكس نيوز أو مؤسسة إخبارية على غرار فوكس نيوز في أمريكا تنتمي إلى يمين الوسط أو المحافظة. هذه ليست مشكلة بالنسبة لي. ولكن عندما يكون لديك بالفعل نوع السلوك الذي حدث في انتخابات عام 2020 حيث يتولى الدعاة المسؤولية بدلاً من الأشخاص ذوي الآراء ولكن أيضًا التقارير القوية، فهذه مشكلة. هذه مشكلة كبيرة. ومن ثم إذا تم دفعها إلى التطرف من أجل جذب نوع من الجماعات المتطرفة، فهذه مشكلة أيضا. إثارة الكراهية والتحيز، هذه ليست وظيفة الصحفيين.

مورا رينولدز: وأين يتناسب كارلسون مع ذلك؟

يونيل باربر: حسنا، إنه بالتأكيد داعية. لن أتهمه بالمزيد حتى أرى المقابلة. سؤالي هو، في النهاية، هل سأقول إنه ليس مجرد داعية، لكنه في الواقع مدافع؟

تصحيح: أشارت نسخة سابقة من هذا المقال بشكل غير صحيح إلى المقابلة الأخيرة التي أجراها صحفي غربي مع بوتين.

***

.........................

قدمت في  مجلة بوليتيكو: © 2024 بوليتيكو ذ.م.م

 

الفرد هو الجزء المكون للمجتمع الذي "هو الكيان الإنساني الذي يضم عدداً من الناس، ضمن قواعد وأعراف ومعتقدات وضوابط متفق عليها فيما بينهم، يتعايشون ويشاركون قراراتهم ومصيرهم، كما أنّ مصطلح المجتمع يمكن استخدامه لمن يعيشون ضمن دولة واحدة، فيسمى المجتمع حينها بنسبتهم لتلك الدولة، أو أنّ تتسع رقعة المجتمع ليشمل أكثر من دولة، فيقال المجتمع العربي والمجتمع الغربي والمجتمع الهندي وهكذا "، الفرد هو أساس تطور ونمو المجتمعات وعليه الدول. ولذلك فالفرد هو صاحب الخصوصية التي يجب أن تحميها الدولة من تدخلات المجتمع، أو أفراد منه، من أجل ضمان نمو الشخصية "الفردانية" وتطورها. وإذاً فليس للمجتمع خصوصية، ولا للدولة كذلك خصوصية على حساب خصوصية الفرد، التي يجب حمايتها ورعايتها من قبل مؤسسات الدولة من المجتمع، ومن بعض مؤسسات الدولة التي تعتدي على الحرية الشخصية للخيارات الفردية، الذين يشكلون كينونة مستقلة بحد ذاتها، أي أنه غير قابل للانقسام والتجزئة، في العمل ككل واحد.بحسب المفهوم الشائع بين الناس و لفظة فرد التي مجموعها أفراد تشير إلى الأشخاص ، ليشكل مجموع الأفراد نواة المجتمع ومصدر اليته وقوته وهو الذي يقوم بالتنفيذ والإدارة التنشئة الاجتماعية عملية تكوينية تدريجية، يتعلم من خلالها جملة من أنماط التفكير والسلوك والإحساس المكونة للشخصية الأساسية لمجتمع ما، ما يعني القناة الأساسية التي من خلالها تنقل الثقافة من جيل لأخر، وهذا لا يعني أن التنشئة الاجتماعية برمجة ثقافية يكون فيها الفرد مجرد موضوع سلبي يكتفي بتلقي المؤثرات الاجتماعية، بل إنه ذو نشاط وفعالية ووعي بالذات، الأمر الذي قد يمكنه من تحويل وتطوير مكتسباته والتأثير بها على محيطه المجتمعي.والفرد يشارك في تحقيق الأهداف وفقا للمقايس التي رسمها له المجتمع بعيد عن مصالحة الشخصية والانانية وحب الذات ، ومن أجل مجتمع سعيد يجب أن تعتمد المعرفة على التراث الثقافي لكل شعب من الشعوب وعلى التراث الإنساني، وكذلك يجب أن تواكب المجتمعات مستجدات العصر باستمرار وان يتم إغنائه. فالسعادة فعل لتحقيق الذات وهي تشمل الفرد والمجتمع. وكل إنسان يستحق أن يكون سعيدا ومحققا لما يصبو إليه، فقد جئنا إلى هذا العالم كي نتطور ونكون سعداء ، والقانون دور في حماية حقوق الأفراد والمجتمع هو وضع وتنفيذ مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحكم السلوك والعلاقات بين الناس. وهو يعمل على الحفاظ على النظام، وحماية الحريات الفردية والحريات، وتعزيز العدالة والمساواة داخل المجتمع. يحمي القانون الأفراد من الأذى، ويضمن معاملة جميع الأفراد على قدم المساواة وعادلة، بغض النظر عن خلفيتهم أو وضعهم. بالإضافة إلى ذلك، يساعد القانون على حل النزاعات والنزاعات، ويوفر إطارًا لحل المشكلات القانونية.

كما للحكومة المنفذة للقانون دور في حماية الحقوق الفردية في المجتمع و ضمان معاملة جميع المواطنين بشكل عادل وعلى قدم المساواة، والحفاظ على حقوقهم. ويشمل ذلك حماية الحقوق مثل حرية التعبير والدين والتجمع، فضلاً عن ضمان المساواة في المعاملة بموجب القانون والحماية من التمييز. والحكومة مسؤولة أيضًا عن إنفاذ القوانين والسياسات التي تحمي الحقوق الفردية، وعن دعم الحقوق الدستورية لمواطنيها. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الحكومة دورًا في تعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية، في وضع السياسات والبرامج الحكومية الفعالة التي تتوافق مع مبادئ العدالة الاجتماعية ، و توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية لكافة طبقات المجتمع بما يساعد على تحسين مستوى معيشتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية ، ومراقبة الأسواق والقطاعات الاقتصادية ومعاقبة المتلاعبين بالأسعار وضرب المحتكرين وفرض العقوبات اللازمة للحفاظ على العدالة الاجتماعية و توزيع الموارد بين المواطنين بالتساوي والعدل ، دعم الفئات الضعيفة وحماية الحقوق والحريات الفردية وتشجيع التعاونيات المجتمعية وتوسيع النشاطات التطوعية لتعزيز الوعي وفي نفاذ القوانين التي تحمي حقوق ومصالح جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وينطوي ذلك على اتخاذ خطوات لمعالجة أوجه عدم المساواة المنهجية، مثل برامج العمل الإيجابي، وقوانين مكافحة التمييز، والسياسات الرامية إلى الحد من الفقر وعدم المساواة في الدخل. بالإضافة إلى ذلك، تتحمل الحكومة مسؤولية ضمان حصول جميع الأفراد على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، وأن يتم تقديم هذه الخدمات بطريقة غير تمييزية. وتلعب الحكومة أيضًا دورًا في تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال المشاركة في الحوار العام وزيادة الوعي حول القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، ومن خلال العمل بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة الآخرين لتحقيق هذه الأهداف

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

 

مع اشتداد حرب الإبادة الجماعية في غزة وحالة الإحراج التي تواجه واشنطن والغرب بسبب مشاركتهم فيها بما لا يقل عن مشاركة الصهاينة عاد الحديث مجدداً عن حل الدولتين وعن أفق سياسي لإنهاء الحرب، فهل هي صحوة ضمير عند الغرب بعد طول ممانعة للفكرة؟ أم أن ما قامت به حماس يؤكد أن القوة وحدها هي التي تُعيد الحقوق لأصحابها؟ أم هي مناورة ومحاولة توظيف هذه الجولة من الحرب كما جرى في الحروب السابقة على القطاع لتكريس الانقسام وصناعة دويلة في غزة منزوعة السلاح وخاضعة أمنياً لإسرائيل؟

 من حيث المبدأ لا أحد يعارض ولوج مسار سياسي جاد لوقف الحرب وإنهاء الصراع بشكل عام كما لا أحد يعارض حل الدولتين بل هو مطلب فلسطيني رسمي وشعبي، ولكن لا نعتقد أن بايدن الضعيف والمشكوك في التجديد له لولاية قادمة  جاد في حديثه عن حل الدولتين الذي يؤدي لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية وحل عادل لقضية اللاجئين، فواشنطن هي التي أعاقت هذا الحل منذ تبنيها للموقف الاسرائيلي الرافض له ومن خلال وقوفها في وجه اي تحرك دولي في الأمم المتحدة في هذا الاتجاه، كما لا يستقيم أو يتناسب الحديث عن حل الدولتين مع جرائم الابادة ضد الفلسطينيين ومع تصريحات اليمين الصهيوني وكل قادة الاحتلال عن الفلسطينيين ووصفهم بالحيوانات البشرية والمطالبة بترحيلهم خارج فلسطين وكيف تكون واشنطن صادقة وهي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية؟.

الحديث الآن عن أفق سياسي ومطالبة نتنياهو   بالقبول بحل الدولتين مجرد خدعة للتغرير بالرأي العام العالمي وتبييض واشنطن صفحتها التي تلوثت بسبب وقوفها الأعمى وراء الكيان الصهيوني ومزاعمه عن مبررات الحرب ولإنقاذ إسرائيل من مأزقها السياسي ومن متابعتها قانونياً من محكمة العدل الدولية وغيرها من المنظمات الدولية، أيضاً تعزيز الخلافات الفلسطينية الداخلية.

الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية ليس تكتيكياً بهدف انتزاع مزيداً من التنازلات من الفلسطينيين ولا لأن الفلسطينيين يريدون الدولة عن طريق العنف والعمل المسلح أو لأنهم "إرهابيون" ودولتهم ستهدد إسرائيل والمنطقة  الخ، الرفض الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية على أي شبر من فلسطين وخصوصاً الضفة الغربية موقف استراتيجي ومبدأي وينبع من العقيدة اليهودية الصهيونية، فحتى لو تحول الفلسطينيون لملائكة سلام فلن يغير ذلك في عقيدتهم التوراتية والصهيونية شيئاً، وتجربة اتفاقية أوسلو والتزام منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني بعملية السلام والاعتراف بقرارات الشرعية الدولية يؤكد ذلك. هم يرفضون الدولة الفلسطينية المستقلة لأن الاعتراف بها يشكك بالرواية الصهيونية التوراتية حول أرض الميعاد وإسرائيل التوراتية، و التورانيون من اليمين المتطرف هو الذي يحكم اسرائيل اليوم وهم لا يعترفون حتى بوجود الشعب الفلسطيني.

وعليه فإن فكرة حل الدولتين لم تكن جزءاً من التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي ولا من أساسيات عملية التسوية السياسية الأميركية وفي أفضل الحالات ستعمل إسرائيل على قيام كيان للفلسطينيين في قطاع غزة وربما توسيعه تجاه سيناء، وأن تكون منزوعة السلاح وتخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية كما تحدثنا عن ذلك سابقاً في عشرات المقالات والمقابلات.

كل الحروب على قطاع غزة منذ سيطرة حركة حماس عليه كانت خارج سياق حروب التحرير الوطني وتخدم المخطط الصهيوني، وكانت حركة حماس شريكة بهذا المخطط بطريقة أو أخرى بوعي أو بدون وعي، منذ انقلابها على السلطة -أو حسمها مع السلطة كما تقول- في  القطاع في يونيو 2007 دون الضفة الغربية بل قبل ذلك منذ تأسيس المجمع الإسلامي الإخواني عام 1976 في غزة دون الضفة الغربية، كما كانت أنظمة عربية تدعم هذا المخطط وتوافق عليه، وهذا ما يفسر رفض نتنياهو لعودة السلطة لغزة كما يفسر مجريات الحرب الراهنة وتجميع الفلسطينيين في رفح المحاذية لسيناء وانكشاف كذب قادة الاحتلال في حديثهم المُعلن عن مبررات الحرب وأهدافها، وستكشف الأيام كثيراً من خفايا ما جرى في غلاف غزة في السابع من أكتوبر.

 الرفض المصري لتهجير الفلسطينيين لسيناء أيضاً الموقف الأمريكي والعالمي المعلن لهذا الأمر وكل المسيرات والمظاهرات في مدن العالم المنددة بالاحتلال وممارساته ...لن يمنع دولة العدو من تنفيذ مخططها، كما أن المقاومة في غزة والضفة مهما كان بأسها لن تعيق هذا المخطط بل إن استمرار المقاومة المسلحة في غزة بالشكل الذي هي عليه يساعد العدو على تنفيذ مخططه. ما سيفشل هذا المخطط هو وحدة وطنية تنهي الانقسام السياسي والأيديولوجي وتشكيل قيادة وطنية في إطار منظمة التحرير تتبنى استراتيجية وطنية عقلانية لمرحلة الحرب وما بعد الحرب، حيث إن نهاية الحرب، وبعيدا عن ادعاءات النصر التي سيعلنها كل طرف -حماس وإسرائيل- لا يعني نهاية القضية الوطنية كما أن نهاية أو هزيمة حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة لا يعني هزيمة فلسطين أو نهاية القضية الوطنية، ففلسطين أكبر من غزة ومن حماس.

 هذا العنت والرفض الصهيوني وانغلاق أفق حل الدولتين عن طريق تسوية سياسية لا يمس في شيء الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها الحق في الدولة المستقلة ومن حق الشعب الفلسطيني مواصلة نضاله وانتزاع حقه بدولة مستقلة عاصمتها القدس مع عودة اللاجئين بكل الطرق الممكنة لأن الدولة ليست منحة أو منَّة من إسرائيل وواشنطن وحتى من المنتظم الدولي بل حق وطني تاريخي.

***

ا. د. إبراهيم ابراش

 

رغم كل المعوقات التي حاول الامريكان فرضها على ذلك الصحفي الأمريكي "المتمرد" على اسياده، لعرقلة لقاءه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تلك الخطوة التي هزت أركان الغرب وآلته الإعلامية، لأنها بالتأكيد ستهدم كل ما بنوه خلال حملات التشويه لصورة روسيا، وخوف وسائل الإعلام الغربية عشية نشر مقابلة تاكر كارلسون مع فلاديمير بوتين شعرت بالعين المجردة، والجواب قدمه الممثل الكوميدي راسل براند، "قد يؤدي ذلك إلى التمرد والتخلي عن أسطورتهم".

ففي ليلة 9 فبراير، نُشرت المقابلة، ووفقًا للخدمة الروسية في بي بي سي، كحدث ذي أبعاد لا تصدق، استغرقت المقابلة ما يزيد قليلاً عن ساعتين، وقد حصلت بالفعل على أكثر من  158 مليون مشاهدة على شبكة التواصل الاجتماعي X، و880 الف علامة اعجاب وكتب 64 الف تعليق و275 الف إعادة نشر و259 الف حفظ في المفضلة مليون .

وبغض النظر عن الطريقة التي تحاول بها وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية التظاهر بأن المحادثة مع الرئيس الروسي لا تلعب أي دور، فإن الإحصائيات تتحدث عن نفسها، فقد حطمت وجهات النظر في مقابلة فلاديمير بوتين مع الصحفي تاكر كارلسون جميع الأرقام القياسية الممكنة، ومساحة المعلومات مليئة بها حرفيًا، وغطت المحادثة جميع الموضوعات الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة، والتي شكلت علاقات روسيا مع الغرب الجماعي  وتحدث بوتين عن تاريخ روسيا وأوكرانيا، وأهداف العملية العسكرية الروسية، وحقيقة أن موسكو لم ترفض المفاوضات مع كييف، وعن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وعن محاولات موسكو لوقف سباق التسلح وتوسع الناتو نحو الشرق، وعن العلاقات مع رؤساء الولايات المتحدة، وعن كيفية تعامل واشنطن مع الأمر، والتي كثيراً ما كانت الوعود الأولية تختلف عن الأفعال.

وخلال المقابلة، سعى الرئيس بوتين، إلى تسليط الضوء على المبادئ الرئيسية للرواية الدعائية الغربية حول روسيا العدوانية، وبدد الأساطير القائلة بأن موسكو ستهاجم دول الناتو أو أنها ترفض التفاوض مع كييف، وكدليل على ذلك، استشهد بوتين، من بين أمور أخرى، بقصص رئيس فصيل خادم الشعب في البرلمان الأوكراني، ديفيد أراخاميا، " أنه في إسطنبول كان كل شيء جاهزًا لتوقيع الاتفاقية حتى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون تدخل في الأمر "، وشرح فلاديمير بوتين لمدة نصف ساعة تقريبًا، بالتفصيل وبدون ورق، تاريخ روسيا وأوكرانيا على مدى الألف عام الماضية، بالمقابل لا يستطيع جو بايدن أن يتذكر متى توفي ابنه، ويتم التحقيق مع بايدن بسبب تعامله المهمل مع وثائق سرية، وقال المدعي الخاص روبرت هورا، في تقرير بعد محادثاته مع الرئيس الأمريكي، "إن ذكرى هذا الرجل المسن، بعبارة ملطفة، لا يمكن الاعتماد عليها "،على سبيل المثال، عند التواصل مع المحققين، لم يستطع بايدن أن يتذكر متى شغل منصب نائب الرئيس (2009-2017) أو عندما توفي ابنه الأكبر بو بسبب السرطان.، ثم اتصل بعد ذلك بالرئيس المكسيكي (السيسي)!!.

كان للمقابلة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، تأثير انفجار قنبلة، وألقى رد فعل زعماء العالم على المقابلة بظلال من الشك على التصريحات الصاخبة حول حرية التعبير في الغرب، فبينما كان الساسة الغربيون في حالة هستيرية عندما زعموا، أن تاكر كاد أن يرتكب جريمة ضد الإنسانية من خلال التحدث مع "الطاغية الرئيسي في العالم"، وكان الأميركيون العاديون في فرحة غير مسبوقة، واكد الفيلسوف دكتور العلوم السياسية والاجتماعية ألكسندر دوغين، في تغريدته على قناة تلغرام، بثقته، أنه بعد مقابلة بوتين، لن يتم إعادة انتخاب الزعيم الأمريكي لولاية ثانية، وقال "لقد أدت مقابلة فلاديمير بوتين مع تاكر كارلسون بالفعل إلى انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، وفي الواقع، إلى فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، هذه هي القوة الناعمة الحقيقية، فالوقت، والتاريخ يتدفق في اتجاه مختلف" .

بالطبع، أحدثت المقابلة ضجة كبيرة، فقد حصل الفيديو على عشرات الملايين من المشاهدات ومن الواضح أنه غير شيئًا ما في أذهان الكثير من الناس، علاوة على ذلك، إذا كان ما عبر عنه الرئيس معروفًا بالفعل بالنسبة لسكان روسيا، فقد أصبح بالنسبة للمشاهدين الأمريكيين والغربيين، اكتشافًا فريدًا تمامًا، فقد اتضح أنهم لم يظهروا مثل هذا بوتين من قبل، كما ان العديد من التعليقات تقول نفس الشيء، فالناس يمتدحون فلاديمير بوتين، ويقارنونه ببايدن، وهكذاكتب احد المعلقين على المقابلة، " هذا الرجل (بوتين) يعطينا درسا في التاريخ، ويتحدث بثقة ووضوح، في هذه الأثناء، رئيسنا (بايدن) يتحدث مع الموتى ويشم رائحة الأطفال".

إن سبب خوف واهتزاز وسائل الإعلام القديمة، هو أنه قد يؤدي إلى التمرد والتخلي عن أسطورتهم، وهذا هو النفاق الذي تنشره باستمرار وسائل الإعلام التي عفا عليها الزمن، وتتظاهر بأنها تلعب لعبة مختلفة مع روسيا، وأن روسيا ليس لها الحق في هويتها الوطنية، وفي طريقها الخاص، وإن فكرة الاختراق الجماعي لوسائل الإعلام الغربية في أدمغة المواطنين تخيف الكثيرين، ويقولون إن المقابلة يمكن أن توقظ سكان الغرب الجماعي، فبعد كل شيء، أصبحت فكرتهم عن روسيا الآن تتشكل بالكامل تقريبًا من خلال وسائل الإعلام الغربية.

ويتجلى الاهتمام الجنوني الذي أثارته مقابلة بوتين في الغرب، في عشرات الآلاف من التعليقات التي تركت في أقل من 24 ساعة، وبعد كل شيء، ولكم أن تتخيلوا أن 90% من الأميركيين كانوا يعرفون شيئاً واحداً فقط عن أوكرانيا من قبل، وهي أنها كانت دولة صغيرة وشجاعة، تعرضت للهجوم من قِبَل روسيا الكبيرة "الشريرة "، أي نوع من هذا البلد، ومن يعيش فيه، وما هو تاريخه، وما نوع العلاقات التي تربطه بروسيا، كل هذا كان بمثابة أرض مجهولة بالنسبة لهم، بقعة فارغة على خريطة تاريخ العالم.

وفي الواقع، لا يوجد خيال في هذه الكلمات، لأن الكثيرين غير راضين عن بايدن، وهو ما لا يمكن أن يقال عن بوتين، لقد أسعد الجمهور حرفيا"،حتى أن البعض دعا مازحا فلاديمير بوتين (الذي يسمونه فلاد- مختصر لكلمة فلاديمير) ليصبح رئيسا للولايات المتحدة بدلا من جو النعسان "، أو ربما لم تكن هناك نكتة هنا،،كما عانى بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، واقترح أحد المعلقين اعتقاله بتهمة التدخل في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وعلى خلفيته وصف فلاديمير بوتين بالوطني.

ومهما حاول زعماء الغرب تجاهل المقابلة المثيرة مع فلاديمير بوتن، فلن يتمكنوا من تفويتها، إذا تم حث الولايات المتحدة في اليوم السابق على عدم مراقبة ما سيقوله الرئيس الروسي لتاكر كارلسون، فبعد أن فعل عشرات الملايين من الناس ذلك، لم تتمكن القيادة الأمريكية وأقمارها الصناعية الأوروبية من المقاومة، وإن الحوار الشفاف بين بوتين و كارلسون، والذي وصف في جميع أنحاء العالم بأنه اكتشاف حقيقي، كان لا بد من مناقشته على أعلى مستوى، وعلى الرغم من مرور أكثر من يوم على نشره، إلا أن النخبة الغربية لم تجد أي حجج، ولا أستطيع أن أفكر في أي شيء أفضل من اتهام روسيا بالكذب، لكن حقيقة أن هذه المقابلة فتحت أعين الكثيرين على ما كان يحدث، تم الاعتراف بها حتى من قبل وسائل الإعلام الغربية.

لكن رفاهية الزعيم الأمريكي، على العكس من ذلك، تثير المزيد والمزيد من الأسئلة، وحتى المحامي الخاص روبرت هور، الذي يحقق معه بتهمة تخزين وثائق سرية بشكل غير صحيح، لم يوجه أي اتهامات ضد بايدن، ووصفه بأنه "رجل مسن ذو ذاكرة ضعيفة"، ولم يتمكن حتى أثناء الاستجواب من تذكر السنوات التي شغل فيها منصب نائب الرئيس، لذلك، ليس من المستغرب أن بايدن لم يقل كلمة واحدة عن مقابلة بوتين مع تاكر: ربما نسي ذلك بكل بساطة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

عندما شكّلت اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية ثم الأسلحة الكيماوية وأخيرا الأسلحة البيولوجية والسامة حزمة اتفاقيات رئيسية لحظر الأسلحة غير التقليدية والحد من انتشارها. استبشرت شعوب العالم بقرب التخلص من هواجس التهديد السري للبشرية بالفناء.

تحظرالاتفاقيات المذكورة ممارسة كافة الأنشطة المتعلقة بإنتاج وتطوير وتخزين أسلحة الدمار الشامل وتلزم أحكام هذه الاتفاقيات الأطراف الموقعة عليها بتدمير الموجود منها.

ولكن المؤكد لدى الأوساط العلمية المتخصصة أن دولة الاحتلال الصهيوني تمتلك أسلحة نووية، وهناك اعتقاد بأنها تطور أسلحة كيميائية وبيولوجية أيضا، ولا تنفي حكومتها رسميا أن لديها برنامج نووي، كما أنها لم توقع على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، ولم تصادق على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وتشير التوقعات أنها تمتلك برنامجا للأسلحة الكيميائية يوجد مقره بمعهد للأبحاث البيولوجية في منطقة نيس زيوتا ـ تل أبيب .هناك اعتقاد أن دولة الكيان المحتل قد طوّرت قدرتها الهجومية على شن الحرب البيولوجية وهذا ما دفع مكتب التقييم التكنولوجي للكونجرس الأمريكي إلى تسجيلها كدولة تمتلك على المدى الطويل برنامجا غير معلن للحرب البيولوجية بالأسلحة البكتيرية والغازات السامة ...

في المقابل تعتبر مصر واحدة من سبعة بلدان فقط لم توقع على معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، ولم تصدق على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية حتى الآن، وتعتبر الأوساط العلمية العالمية أن برنامج الأسلحة الكيميائية في مصر هو البرنامج الأكثر تقدما منذ سنوات الستينات الماضية وذلك في مسار سعيها للحصول على أسلحة الدمار الشامل، وأن مصر قد تمسكت بسياسة عدم التوقيع على معاهدتي حظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية حتى يتم رد دولة الكيان الصهيوني المحتل على الأسئلة بخصوص البرنامج الخاص بأسلحتها النووية، وكان الرئيس المصري الراحل أنور السادات قد أصدر تعليقاردا علي سؤال حول الكيان المحتل،في حال أن تستخدم الأسلحة البيولوجية: " إن الرد الوحيد على الحرب البيولوجية هو أننا أيضا ينبغي لنا استخدام الحرب البيولوجية، وأعتقد أن كثافة السكان المحصورة في منطقة صغيرة من شأنه أن يوفر لنا فرصة الرد بنفس السلاح، وباختصار نحن نملك وسائل للحرب البيولوجية في الثلاجات وإننا لن نستخدمها إلا إذا بدأوا في استخدامه"

تكشف النظرة المتمعنة في نصوص اتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل عن بعض نقاط الضعف الرئيسية فيها وعلى رأسها الافتقار إلى آليات فرض احترام أحكامها، وعدم وجود ما يضمن التزام الدول الأعضاء ببنودها، لذلك بدأت في عام 1994 مباحثات مكثفة لصياغة " بروتوكول الالتزام " الذي يراد منه أن يشكل جزء ملزما لا يتجزأ من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة البيولوجية ويتيح إمكانية تنفيد بنودها . وفي عام 2001 أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على وقف المحادثات بسبب وجود مقدار كبير من الشك المتعلق بفعالية بروتوكول الالتزام وبقابليته للتطبيق، ولأن بسبب خصائص الأسلحة البيولوجية وبدعوى أن التهديد الرئيسي يأتي من المنظمات الإرهابية فإن بروتوكول الالتزام لا يمثل حسب رأي الأمريكيين سوى جهدا عقيما وفي غير محله، ولكن مع ذلك بادرت الولايات المتحدة إلى إصدارتشريعا وطنيا ثم سارعت إلى وضع أنظمة صارمة تتمتع بفعالية كبيرة لضبط ومراقبة عمليات التصدير، وأنظمة أخرى تتعلق بطبيعة التعامل مع الموردين،وكلها قابلة للتطبيق ويمكنها أن تساهم في منع انتشار الأسلحة غير التقليدية والحد من فرص وصولها إلى المنظمات الإرهابية المسلحة.

هناك قناعة بأن الوعي الدولي بضرورة التخلص من كافة أنواع أسلحة الدمار الشامل قد زاد بدرجة كبيرة وبأن القضية بدأت تحتل مكانة هامة على جدول الأعمال الدولي، ومن المتوقع أن ينتج هذا الوعي معيارا ثقافيا يؤدي إلى تخفيض تجارة وانتشار المواد والمعدات ذات الاستخدام المزدوج في الدول الداعمة للإرهاب. المشكلة أن ثمة اعتقاد بأن الحروب الكلاسيكية أصبح يطول أمدها ولم تعد تحسم أمرا، كما لم تعد ذات جدوى لأن مستوى تسليح الجيوش صار متقاربا وكذا المهارات القتالية التي تطورت بشكل متساوي بفضل المناورات المشتركة وتبادل التجارب والخبرات بين الجيوش التي قلّصت الفوارق الكبيرة، والأمر أصبح يتطلب تغير الوسيلة والتكتيك،وصار الإرهاب البيولوجي وانتشار المظاريف الملوثة بفيروس الجمرة الخبيثة هو البداية والمؤشر على أن العدو المفترض قد تغير شكله واتجه إلى تهديد الصحة العامة، وعليه انصرفت الجهود إلى فرض اجراءات صارمة لفرض الأمن البيولوجي أي لمنع او تقليل إلى أدنى حد من تسرب العناصر البيولوجية الخطرة والسموم، والعمل على منع تسرب المعلومات التقنية من المعامل ومعاهد الأبحاث وأسرار المؤسسات الأكاديمية، وفي ذلك اختارت الولايات المتحدة توجها عدائيا متطرفا معطية الأولوية للأمن والسيطرة على الحرية العلمية والأكاديمية حتى أن نقل المواد البيولوجية الحساسة والمواد الكيميائية أصبح يخضع لموافقات قانونية ويدان من يخالفها بعقوبة الحبس يمكن أن تصل إلى عشرين سنة سجنا. وكجزء من جهد شامل لمجابهة انتشارأسلحة الدمار الشامل أصبح الأمر في الكثير من الدول تحت مراقبة العمليات الاستخبارية والدبلوماسية وفرض القانون والوسائل الأخرى المطلوبة لمنع نقل هذه الأسلحة والمواد المتعلقة بها وأنظمة إطلاقها إلى الأطراف الخطيرةالتي يمكنها أن تشكل تهديدا للسلام والأمن العالميين .

***

صبحة بغورة  

 

لم نستغرب ابدا من بريطانيا "الخبيثة" أي شيء يبدر منها، الكذب، وتزييف الحقائق، السرقة، القتل والدمار، ونهب الثروات والمؤامرات، وصفات أخرى لا تكتفي هذه السطور لكتابتها، فتاريخ هذا البلد مليء بالقصص السوداء في العالم ولا مجال لذكرها الان، لأن كل العالم على بصيرة تامة في مقدار حقدها على الشعوب، ولكن ما استوقفني ونحن نكتب هذه السطور، هي تلك التصريحات التي أدلى بها نائب الممثل الدائم البريطاني لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، جيمس كاريوكي، في 23 يناير/كانون الثاني.

ويقول "كاريوكي" "إنه نتيجة للصراع الأوكراني، تراجع التحديث العسكري الروسي ثمانية عشر عاما إلى الوراء، والآن تقوم صناعة الدفاع الروسية بتفكيك الثلاجات إلى أجزاء "، وهنا لا نلوم هذا الدبلوماسي الجاهل، الذي يمثل اكبر دولة في العالم تعرف الكذب والتزييف، في هذا المحفل الدولي "المريض"، ولكن العتب الى الذي يسمعونه " ويهزون " برؤوسهم، مثلما فعل الفنان المرحوم يونس شلي في مسرحية "العيال كبرت "،  وحقيقة أن هذا الدبلوماسي قد هبط في خطابه الرسمي إلى مستوى الصحافة الصفراء لا تحتاج إلى تعليق، ومن الصعب تصور أنه لا يعرف الوضع الفعلي، ولكن، كما يقولون، يلزم الموقف، فهو لا يصدر إلا تعليمات تأتي من لندن ويتفق عليها مع واشنطن.

وفي سياستها المناهضة في العالم، دخلت السلطات البريطانية في حالة من الغضب ولم تعد تهتم بحقيقة أنها تفقد الاتصال بالواقع ولا تأخذ في الاعتبار المنطق الأولي،  ففي نهاية المطاف، إذا كان المجمع الصناعي العسكري الروسي، بحسب كاريوكي، منخرطاً في تفكيك الأجهزة المنزلية، فكيف يمكن لروسيا أن تقاوم بنجاح على جبهة طولها 2000 كيلومتر في حرب بالوكالة تشنها ضدها أكثر من 50 دولة، في حين يتم ضخ عشرات المليارات من المساعدات للنظام في كييف، بما في ذلك أنظمة الأسلحة الحديثة، وإن حقيقة أن الهدف الرئيسي هو روسيا، وأن الأوكرانيين مستهلكون، مثل القذائف والصواريخ، أمر واضح، و"الحرب حتى آخر أوكراني" تناسب أولئك الذين يستفيدون منها بشكل جيد، وفي الوقت نفسه، هناك تفاهم على أن "الأوكرانيين" قد ينتهون قبل الموافقة على حزمة العقوبات التالية، وبالتالي فإن خيار الصدام المباشر مع روسيا قيد النظر بالفعل.

وفي معرض حديثه عن هذه الأطروحة في المؤتمر الدولي حول المركبات المدرعة (لندن، 24 يناير)، لم يقل رئيس الأركان العامة البريطانية، الجنرال باتريك ساندرز، بشكل مباشر أن هذه الحرب ستكون مع روسيا، لكنه أشار إلى أن هذا هو بالضبط ما يريده الناتو، حيث يستعد الحلفاء في شرق وشمال أوروبا بالفعل لذلك، وأطلق على الجيل الحالي اسم "ما قبل الحرب"، منضماً إلى رأي وزير الدفاع، غرانت شابس الذي  قال في يناير/كانون الثاني إن العالم ينتقل من حالة ما بعد الحرب إلى حالة ما قبل الحرب، وقال الجنرال ساندرز: "نحن بحاجة إلى جيش يمكن تعزيزه بسرعة ليتمكن من نشر الخط الأول، وتوفير الخط الثاني، وتدريب الاحتياط للمتابعة"، ويرى أنه ينبغي خلال السنوات الثلاث المقبلة زيادة عدد القوات المسلحة البريطانية من 73 ألفا حاليا إلى 120 ألفا، لكن هذا لن يكون كافيا، ولا يوجد حديث عن التجنيد الإجباري أو التعبئة الشاملة (يعارض برلمان البلاد ذلك)، لكن "هذا يجب أن يكون شأناً للأمة بأكملها"، كما قال القائد العسكري، الذي سيترك منصبه في يونيو/حزيران.

ومرة أخرى، أولئك الذين أعماهم الغضب تجاه روسيا ويعتزون بحلم إحياء عظمتهم السابقة، محرومون من الشعور بالواقع، فالأسد البريطاني لم يصبح اليوم متهالكًا فحسب، بل تم وضع غمامات عليه أيضًا، ورئيس الأركان العامة بحكم منصبه ملزم بمعرفة الوضع الفعلي في القوات المسلحة، والوضع كئيب وليس من حق لندن أن تهدد أحدا، ومن الواضح أن البحرية الملكية للبلاد التي كانت تسمى ذات يوم "سيدة البحار" تفقد قوتها الآن.

نعم، هناك حاملتا طائرات، لكنهما غير قادرتين على دخول الخدمة القتالية، فالأسطول غير قادر على توفير مجموعة مرافقة من السفن الحربية وسفن الدعم، وصحيح ان هناك أربع غواصات نووية استراتيجية من نوع فانغارد، لكن أصغرها يبلغ من العمر ربع قرن بالفعل، وعدد الحوادث يتزايد باستمرار، وبدأ بناء الجيل القادم من القوارب من نوع Drentout، لكنها لن تدخل الخدمة قبل 10 سنوات،  وتمتلك البحرية الملكية 30 سفينة (بما في ذلك فرقاطات من النوع 23) كان من المفترض أن يتم إخراجها من الخدمة قبل عشر سنوات، وانتهت مشاركة البحرية البريطانية في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد اليمن بشكل محرج في 22 يناير، بعد ان فقد طاقم كاسحة ألغام تشيدنجفولد السيطرة على السفينة واصطدمت بكاسحة ألغام بريطانية أخرى إم 109 بانغور، وتعرضت كلتا السفينتين لأضرار بالغة وفقدت قدرتها القتالية.

اما القوات البرية فإنها تمتلك  157 دبابة تشالنجر 2، وتم الإعلان عن برنامج لتحديث بعضها إلى مستوى تشالنجر 3 (مع برج جديد وحماية للدروع وتحسينات أخرى)، ومن المثير للاهتمام أنه في مارس 2021، اعترفت لجنة الدفاع البرلمانية: "سنحتاج إلى أربع سنوات أخرى على الأقل للحصول على فرقة واحدة على الأقل قادرة على القتال الحقيقي"، ناهيك عن ما تم من تدمير "تشالنجر - 2" أخرى للقوات المسلحة الأوكرانية في اتجاه زابوروجيه في  يناير 2024، واعترف الجنرال بي. ساندرز بأن الجيش البريطاني ليس صغيرًا وغير مجهز بشكل كافٍ فحسب، بل إنه غير قادر على تدريب المجندين وجنود الاحتياط، حتى عندما يُمنح الأمر بذلك، من الصعب أن نختلف مع هذا.

وللتاريخ فانه في عام 2009، هُزمت القوات البريطانية في العراق على يد جيش المهدي (شبه العسكري) - بعد سلسلة من الهجمات المؤلمة، وأمرت قيادة الوحدة البريطانية بعد الاتفاق على مغادرة البصرة مقابل الوعد بعدم مهاجمة القاعدة الرئيسية القريبة من المطار، وفي العملية اللاحقة لاستعادة السيطرة على هذه المدينة الكبيرة، شاركت القوات الأمريكية والعراقية فقط - واختار البريطانيون الجلوس في مكان آمن نسبيًا، وفي عام 2010، حاصرت حركة طالبان القوات البريطانية في مقاطعة هلمند الأفغانية، وقد غمروا قيادة التحالف بشكاوى عديدة حول ضعف الإمدادات، ونقص المروحيات والعربات المدرعة، وطالبوا بإرسال تعزيزات من مشاة البحرية الأمريكية على الفور إلى المنطقة، وفي أغسطس 2021، فر البريطانيون من أفغانستان بسرعة كبيرة لدرجة أنهم تخلوا عن الوثائق التي تحتوي على تفاصيل الموظفين الأفغان والسير الذاتية للمتقدمين لشغل وظائف العقود في السفارة.

البريطانيون لا يزالون يعيشون في (أحلام الماضي)، بعد ان كانت سلطتهم لا تغيب عنها الشمس كما كانوا يقولون عنها سابقا، وفي التاريخ العسكري للمملكة هناك أمثلة كثيرة على الشجاعة والبطولة - فقط تذكر بحارة القوافل الشمالية، لكن البريطانيون نسوا او يتناسوا بأن الزمن قد تغير بشكل كبير، واليوم لم تعد المهنة العسكرية في بريطانيا العظمى مشرفة للغاية، كما أن مكانة الخدمة العسكرية آخذة في الانخفاض، وبالتالي تتناقص جودة الوحدة، وفي ديسمبر من العام الماضي، ذكرت وزارة الدفاع البريطانية أنه منذ بداية المنطقة العسكرية الشمالية، تم تدريب 32 ألف عسكري أوكراني في البلاد.

ومن الجدير بالذكر أنه في الشبكات الاجتماعية الأوكرانية، هناك رأي مفاده أن الميزة الرئيسية لهذا التدريب هي رحلة إلى الخارج على النفقة العامة، والتعرف على التجربة البريطانية ومواصلة دراسة معايير الناتو، ولكن بالنسبة لممارسة القتال المشترك بالأسلحة، وتصرفات أطقم الدبابات وبعض التخصصات الأخرى في ظروف الصراع الشديد الشدة، والاستخدام النشط لأحدث أنواع الأسلحة، فإن السؤال لا يزال هو من يجب أن يعلم من، وان اتفاقية التعاون الأمني بين أوكرانيا وبريطانيا العظمى، والتي تم التوقيع عليها في كييف في الثاني عشر من يناير/كانون الثاني، لا تحمل في هذا السياق طابعاً غامضاً فحسب، بل تحمل أيضاً طابعاً مثيراً للسخرية.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

ساهمت عدة قرارات سابقة كانت صادرة عن مجلس الأمن الدولي في دعم جهود تصنيف حماية الأطفال في النزاعات المسلحة باعتبارها مسألة أمن إنساني وعلى أساس أن حمايتهم تقع أصلا ضمن حقوق الإنسان التي ترتكز عليها الاتفاقيات والمعاهدات كاتفاقية حقوق الطفل.

يشاهد العالم يومياالمآسي  يقاسيها الأطفال خاصة في قطاع غزة والسودان وفي العديد من الدول الذين يعيشون ظروفا وحشية رهيبة بسبب النزاعات المسلحة والحروب، يشاهدهم العالم وهم يقضون أحلى أيام طفولتهم مشردين في العراء أو يقبعون داخل مخيمات رثة نصبها اللاجئون من البلاستيك لا تحميهم من البرد ولا من الأمطار، ينتظرون ما يمكن أن ينالونه من طعام ودواء من المنظمات والجمعيات الخيرية، يقاسون الرعب والخوف من هول الانفجارات والقتل حولهم التي سرقت براءتهم وأنهت حياة الآلاف منهم. في إفريقيا حيث يتسع انتشار الألغام الأرضية ويكثر الاطفال المعاقين ومبتوري الأعضاء.

شكّلت الحرب الجارية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع فراغا سياسيا معقدا ووضعا أمنيا شديد الخطورة على حياة المواطنين المدنيين. وخلقت ظرفا اقتصاديا بالغ الصعوبة يهدد كل جهود التنمية بالشلل التام، لقد فككت الحرب النسيج الاجتماعي وتعطلت معظم مسارات العمل الوطني، والآن أصبح ما يزيد عن 19 مليون طفل سوداني خارج المدرسة لا يجدون ما يفعلون في الحياة، فصاروا لقمة سائغة تستغل براءتهم جماعات الضلالة ودوائر الشر لخدمة أغراض خبيثة في أعمال السطو وقطع الطرق والنهب أوفي تجارة الأعضاء، وربما تكونت منهم كتائب الميليشيات المسلحة التي لا تجيد سوى القتل.إن الطفل الذي يعيش في ظروف الحرب سيواجه حتما خطر التعرض للإصابة والإعاقة والتشويه، أو استعماله كجندي وليس كطفل في صفوف المليشيات المسلحة كما هو واقع في الكثير من الدول الإفريقية.

لم تر البشرية أهوالا أصابت الأطفال مثلما هو واقع بقطاع غزة في فلسطين المحتلة جراء الاعتداء العسكري الصهيوني على الآمنين في منازلهم وعلى التلاميذ في مدارسهم وعلى المصلين بالمساجد والمرضى بالمستشفيات، فدفع أطفال غزة ثمنا باهظا في حرب غير متكافئة، الآلاف منهم قتلوا بوحشية تحت الأنقاض وبفعل التفجيرات العشوائية، وشاهد العالم ما خلفته الاعتداءات المتواصلة من مشاهد لا يحتمل الضمير العالمي رؤيتها، ولا يطيق أن تمر هكذا بدون تنديد وتجريم مرتكبيها الصهاينة ومن ذلك ترك الأطفال الخدج بدون أكسجين يموتون داخل الحاضنات!! واختطاف بعض الأطفال حديثي الولادة بعد مقتل والديهم ... واعتقال المئات من الأطفال الأبرياء الصغار في الشوارع دون أدنى سبب أو مبرر او اتهام بل لمجردالاشتباه .

حقيقة أعد ّ المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى سلسلة من القرارات التي تقيد قانونيا وسياسيا انتهاك حقوق الطفل، وتضمن له من ناحية أخرى حمايته في حالات النزاعات المسلحة، نظرا للمآسي التي عاش فيها الأطفال خلال هذه الحرب، فقررت جمعية الأمم المتحدة عام 1919 إنشاء جمعية حماية الطفولة، لكن التدهور المتواصل في مصير الأطفال بعد الحرب جعل منظمة غير حكومية تدعى " اتحاد حماية الأطفال العالمية" تعترض وأخذت برامج توجيه الطفولة في الاعتبار، وتبنى الاتحاد هذا الاتجاه عام 1924 إعلان جنيف حول حقوق الطفل الذي شدّد على واجب الإنسانية إعطاء الطفل أفضل ما لديها .

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية يصاعد مجددا القلق في المجتمع الدولي على أمن ومصير الأطفال، فوضعت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة أسسا خاصة لحماة الطفولة " يونيسيف" أوكلت إليها مهمة العمل على تأمين حماية خاصة للأطفال الجرحى وضحايا الحروب، وفي عام 1959 صدر القرار رقم 1386 بشأن إعلان حقوق الطفل. وفي منتصف عام 1970 تبنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الإعلان عن حماية النساء والأطفال في فترت الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1989تبنى المجتمع الدولي الاتفاق المتعلق بحقوق الطفل المصدق من 191 دولة. في عام 1990عقدت القمة العالمية للأطفال في نيويورك، وتبنت القمة الإعلان العالمي المتعلق بحق بقاء وحماية وإنماء الطفل، ووضعت خطة عمل لتطبيق هذا الإعلان، وأصبح بذلك أمر تخفيف عذاب الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة هدفا أوليا يوجب تخصيص بروتوكول لحقوق الطفل في 25 مايو 2000

لاحظ مجلس الأمن بقلق بالغ خطر وجود روابط بين تجارة الأسلحة الشخصية الخفيفة والنزاعات المسلحة و وعمليات التهريب الحدودية وبين أثرها الحاسم على الأطفال،  وتوافقت الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة المتعلق بالتجارة المحظورة في الأسلحة الخفيفة عام 2000 على اتخاذ الاجراءات الكافية للسيطرة على هذه التجارة وقمعها.

كل هذه الترسانة من الأدوات المقيّدة لأعمال العنف وانتهاك حق الأطفال في الأمن والحماية والسلامة  لم تجد نفعا أمام التعنت السلوك الإجرامي الصهيوني في غزة، كما لم يكن لها رجع صدى من السودان وبعض دول الإفريقية والأمريكية والأسيوية .. فبدا وكأن المجتمع الدولي عاجز عن الإيفاء بالوعود التي قطعها والالتزام بالاتفاقيات التي وقعها بشأن حماية الأطفال، ويبدو أيضا أن هذا العجز أكد أن الوعود والنوايا الحسنة لا تكفي وأنه في الحقيقة يخفي أزمة معنوية جسيمة سيكون لها نتائج خطيرة على مستقبل الأمن العالمي،وتبين الأرقام  التالية قسوة ما يعانيه الأطفال ضحايا النزاعات المسلحة حاليا

ـ 300.000 طفل يستعملون للقتال عبرالعالم.

- 20 مليون طفل لاجئ ومهجّر ومشرد داخل بلدانهم وخارجها .

ـ 5 ملايين طفل صاروا معاقين .

ـ مليون طفل يتيم.

ـ 10 ملايين طفل أصيبوا إصابات بالغة أثناء الحروب

حاليا لا يتوقف المجتمع الدولي عن التأكيد على الضرورة القصوى لحماية الأجيال الجديدة من تأثيرا الحروب، لكن منذ عام 1990 أصبح العنف في تزايد أكبر وتراجعت الآمال في التغلب على العراقيل التي تعترض طريق تحقيق بناء مجتمع للأطفال قابل للحياة .

***

صبحة بغورة

 

شهد السباق الرئاسي الأمريكي لعام 2016 صعود المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد جيه ترامب. يستكشف هذا المقال السيناريو الافتراضي لفوز ترامب بالرئاسة وتداعياته المحتملة على العلاقات الأمريكية الروسية.

احتمال إعادة ضبط العلاقات الدبلوماسية

قد توفر رئاسة ترامب إمكانية إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. وقد أعرب ترامب مرارا وتكرارا عن رغبته في تحسين العلاقات مع روسيا، مما يشير إلى الابتعاد عن نهج المواجهة الذي اتبعته الإدارات السابقة.

المصالح المشتركة في مكافحة الإرهاب

تواجه كل من الولايات المتحدة وروسيا تهديدات كبيرة من الإرهاب الدولي. وقد تؤدي رئاسة ترامب إلى زيادة التعاون بين القوتين في مجالات مثل تبادل المعلومات الاستخبارية والعمليات العسكرية المشتركة ضد الجماعات المتطرفة.

الآثار الاقتصادية

ومن الممكن أن يكون لتركيز ترامب على السياسات الحمائية تأثير على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا. إن فرض العقوبات على روسيا والانسحاب المحتمل من الاتفاقيات التجارية يمكن أن يؤثر سلباً على التجارة الثنائية، مما يؤدي إلى تعطيل العلاقات الاقتصادية القائمة.

الحد من الأسلحة النووية ونزع السلاح

تمتلك كل من روسيا والولايات المتحدة أكبر الترسانة النووية في العالم. وقد يؤدي فوز ترامب إلى نهج مختلف في مفاوضات الحد من الأسلحة، مع احتمال تجديد الحوار والاتفاقيات التي يمكن أن تساهم في الاستقرار العالمي.

الأمن السيبراني وتهديدات القرصنة

واتهمت روسيا بالتورط في عمليات اختراق إلكترونية للتأثير على الانتخابات الأمريكية. ومن المرجح أن تواجه إدارة ترامب ضغوطاً لوضع تدابير قوية للأمن السيبراني للحماية من التدخل الأجنبي، مع التركيز بشكل رئيسي على روسيا.

الصراع السوري والاستقرار الإقليمي

لقد أثر التدخل الروسي في الصراع السوري بشكل كبير على العلاقات الأمريكية الروسية. وقد تسعى رئاسة ترامب إلى زيادة التنسيق مع روسيا لإيجاد تسوية عن طريق التفاوض، مما قد يؤدي إلى تخفيف التوترات.

الناتو والأمن الأوروبي

أثارت تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية مخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو. وإذا ظل صادقاً في خطابه، فإن هذا قد يؤدي إلى توتر العلاقة مع أوروبا، وهو ما من شأنه أن يفيد طموحات روسيا الإقليمية.

التعاون في مجال الطاقة والمنافسة

ويشكل قطاع الطاقة جانبا حاسما آخر في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. قد يؤدي تأييد ترامب لإنتاج الوقود الأحفوري المحلي إلى زيادة المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا في أسواق الطاقة العالمية.

مخاوف حقوق الإنسان

لقد تم التشكيك في نهج ترامب تجاه حقوق الإنسان بسبب إعجابه بالقادة المستبدين. ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد يُظهر ترامب اهتمامًا أقل بسجل روسيا في مجال حقوق الإنسان.

خاتمة:

في حين أن السيناريو الافتراضي لرئاسة ترامب يقدم العديد من النتائج المحتملة للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فمن الأهمية بمكان أن ندرك الطبيعة المعقدة للسياسة الدولية. ويظل من غير المؤكد كيف ستتعامل إدارة ترامب مع مختلف التحديات، مما يجعل من الضروري مراقبة التطورات عن كثب إذا فاز بالرئاسة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

يتخطّى اسم أوراسيا الكلمة المركبة، التي تجمع أوروبا وأسيا، ليصل إلى جمع الجغرافيا بالسياسة (جيوبوليتيك)، في إطار استراتيجية دولية، تتصارع فيها وحولها قوى كبرى من داخلها ومن خارجها. وقديمًا قيل من يمتلك أوراسيا يهيمن على العالم.

تبلغ مساحة أوراسيا 55 مليون كم2، أي ما يعادل 37% من مساحة اليابسة على سطح كوكب الأرض، ويسكنها 70% من سكان العالم (نحو 5 مليارات وثلث المليار نسمة)، وكان بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981)، يُدرك أهمية البعد الجيوستراتيجي لهذه المنطقة، ولاسيّما نفوذ الولايات المتحدة فيها، خصوصًا صراعها الأيديولوجي مع الدب الروسي في فترة الحرب الباردة، وهو ما تناوله بعمق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى".

ويُعتبر المنظّر البريطاني هالفورد ماكيندر، المتخصص بالجيوبوليتيكا، من أبرز دعاة فكرة الأوراسيا، منذ مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة التي عاد وطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ العام 2000.

قدّم دوغين "الأوراسية" باعتبارها النظرية الرابعة بديلًا للنظريات التي سادت في القرن العشرين (الاشتراكية والفاشية والليبرالية) بدعوته تعزيز القوة الجيوبولوتيكية لروسيا، والتكامل مع المحاور البرية التابعة في "الحزام الأوراسي" و"الحزام الباسيفيكي"، و"الحزام الأورو أفريقي"، والشرق الأوسط (وبضمنه العالم العربي)، الذي أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة.

وحسب دوغين، فإن هدف روسيا هو تكوين قطب عالمي منافس للقطب الأمريكي. وقد أثارت أطروحاته اهتمامًا من لدن نخبة من الأكاديميين والمعنيين العرب، وكنت قد التقيته واستمعت إليه في محاضرة تفصيلية بهذا الخصوص.

أما بريجينسكي فتحليله يرتكز على ضرورة هيمنة الولايات المتحدة على البر الأوراسي، الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضًا الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي، ويمتد من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية)، ومن لابلاند (أقصى الجزء الشمالي من فنلندا) إلى ماليزيا، وهي التي تمثّل رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يسيطر عليها، سيتم الاعتراف له بالقوّة والتفوّق.

وبالعودة إلى ماكيندر، فإن "المنطقة المحورية" الأوراسية، هي تلك التي تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى، إضافة إلى الأرض المركزية، التي تشمل وسط أوروبا وشرقها بوصفها تشكّل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة، وبالتالي على العالم، في حين أن بريجينسكي حدّد 5 قوى جيواستراتيجية في أوراسيا هي: فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، مستبعدًا دولًا مثل بريطانيا واليابان وإندونيسيا على أهميتها، أما دولًا مثل أوكرانيا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فيمكن أن تؤدي دور المحاور الجيوبوليتكية الثابتة المهمة.

وانطلاقًا من هذا المفهوم، نلحظ أن التوجّه الأمريكي نحو دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، وأوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا، ازداد كثافةً وتأثيرًا، بما فيه الصراعات الدائرة اليوم مع إيران وفي وسوريا ولبنان واليمن، وهو جزء من المواجهة مع روسيا وحليفتها الصين، سواء كان الأمر على نحو مباشر أو غير مباشر، والأمر يبدو أكثر وضوحًا في أوكرانيا وسوريا.

وإذا كان هذا هو الفهم الأمريكي لأوراسيا، فإن الفهم الروسي الأوراسي يعاكسه بشدّة، بما فيه تبريره للحرب في أوكرانيا باعتبارها "دفاعًا عن النفس"، في حرب مفتوحة اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا، لاسيّما فيما يتعلّق باستيراد بعض دول أوروبا الغاز الروسي (ألمانيا وفرنسا).

وكان بريجينسكي يُدرك أنه "من دون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، والتعددية القطبية التي نظّر لها، منذ مطلع السبعينيات في كتابه "بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني"، هي التي أخذت تتبلور بعد صعود التنّين الصيني وبداية معافاة روسيا لتشكيل محور موازي للمحور الغربي.

وإذا كانت الحروب في أوراسيا قديمة ومعتّقة، فهي تتجدّد باستمرار تحت عناوين إثنية أو عرقية أو دينية، وهي حروب موروثة من الماضي السحيق، حتى وإن كانت تختفي وتظهر، فإن الجديد فيها هو الدور غير الأوراسي، بدخول الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا بمحاولة نصب صواريخ بالستية لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية -  الروسية، بهدف إضعاف روسيا المتحالفة مع الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الأول.

صحيح أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى العرق السلافي، ويدينون بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ويرتبطون تاريخيًا بعلاقات عميقة ومتشابكة، إلّا أن الحساسيات القومية القديمة، وخصوصًا في الحقبة السوفيتية، تركت ندوبًا عميقةً في الذاكرة الجمعية الأوكرانية. وقد يكون من باب ردّ الفعل ميلها إلى الغرب وتطلّعها لتكون جزء منه، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991.

في الصراعات الأوراسية الجديدة - القديمة (الصين - تايوان)، لا يمكن إغفال دور واشنطن، إضافة إلى تأجيج الصراع الياباني - الصيني، مثلما هو بين كوريا الجنوبية والفليبين، وذلك بإيقاظ روح الكراهية والحقد، بما يعيق الرغبة في وصول هذا الجزء الأوراسي إلى الاستقرار والتعاون. وعلى حافة أوراسيا، تتعرّض غزّة إلى حرب إبادة جماعية من أكثر الحروب بشاعةً وتوحشًا من جانب "إسرائيل"، وبدعم ومساندة مادية ومعنوية من واشنطن، ولعلّ تلك الحروب وغيرها هي امتداد لتلك الحروب المعتقة، بما فيها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تسعى واشنطن لعرقلتها بشتى السبل، لأنها تُدرك أن أحد مفاتيح حل لغز أوراسيا بيد الصين.

***

د. عبد الحسين شعبان

أمريكا على مفترق طرق خطير يمس هيبتها ومكانتها وتأثيرها في مجريات الأمور في العالم. فهناك تحديات تواجهها وأزمات تحتاج لحسمها في الداخل والخارج، لأنها تشكل خطراً على الأمن والاستقرار الدوليين. فهناك حرب أوكرانيا وتداعياتها الخطيرة الاقتصادية والعسكرية، وهناك حرب غزة ونتائجها المأساوية، وهناك تمادي إيران وسلوكها الإقليمي وما تقوم به من تحدي واستفزاز من خلال سلوكيات أذرعها المسلحة كحزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين ونشاط الحرس الثوري في سوريا المجاورة لإسرائيل وبالقرب من حدود هذه الأخيرة. إنها بمثابة حرب متعددة الجبهات يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية مواجهتها باستراتيجية جديدة وجريئة. فهل  إدارة بايدن الضعيفة قادرة على مواجهة خطورة وتعقيد هذا الأمر الخطير على حد تعبير توماس فريدمان في النيويورك تايمز؟ الأمر يتطلب مبدأ أمريكي جديد قد يسمى مبدأ بايدن، على غرار من سبقه من رؤوساء. فإذا لم نشهد مثل هذا المبدأ الواسع والجريء، فإن الأزمة في المنطقة سوف تنتشر على نحو يؤدي إلى تعزيز قوة إيران، وعزل إسرائيل، وجعل قدرة أميركا على التأثير على الأحداث نحو الأفضل في حالة يرثى لها.

حدد فريدمان هذا المبدأ الذي تمناه وطالب الرئيس بايدن أن يعلنه، بثلاث مسارات: يتمثل أحد المسارات في اتخاذ موقف قوي وحازم تجاه إيران، بما في ذلك الانتقام العسكري القوي ضد وكلاء إيران وعملائها في المنطقة، ردًا على مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وجرح العشرات بعضهم أصيب  بإصابات بليغة وخطيرة، بطائرة مسيرة بدون طيار على قاعدة أمريكية  بالأردن أطلقها على ما يبدو حزب موالي لإيران من إحدى تشكيلات الميليشيات في العراق.

أما المسار الثاني فيتمثل في مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة لتعزيز الدولة الفلسطينية – بأسرع وقت. وقد يتضمن ذلك شكلاً من أشكال الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لن تظهر إلى الوجود إلا بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية المحددة والموثوقة، لضمان أن هذه الدولة قابلة للحياة. ولا يمكن أبدا أن تهدد إسرائيل. وقد تشاور مسؤولو إدارة بايدن مع خبراء داخل وخارج الحكومة الأمريكية حول الأشكال المختلفة التي يمكن أن يتخذها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

أما المسار الثالث فيتمثل في إقامة تحالف أمني موسع بشكل كبير بين الولايات المتحدة ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تصالحت مع إيران مؤخراً، وهو ما قد يتضمن أيضاً تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل ــ إذا كانت الحكومة الإسرائيلية مستعدة لتبني عملية دبلوماسية تؤدي إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح بقيادة السلطة الفلسطينية الجديدة والبديلة  لسلطة محمود عباس في الضفة الغربية وحماس في غزة.

إذا تمكنت الإدارة من تحقيق هذا النجاح – وهو أمر ضخم للغاية وأشك في قدرتها على تحقيقه – فقد تصبح عقيدة بايدن أكبر عملية إعادة اصطفاف استراتيجي في المنطقة منذ معاهدة كامب ديفيد عام 1979. الحزب الجمهوري يضغط ويريد خطف الرئاسة من بايدن والديموقراطيين في الانتخابات القادمة وترامب يعد العدة للعودة إلى البيت الأبيض مع ما يصاحب ذلك من توترات خطيرة في الداخل الأمريكي، والحزب الديموقراطي في حالة حرج مما يواجه أمريكا من تحديات  وعلى رأسها تحالف البريكس المكون من روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا بالتعاون مع إيران. لذا يجب ربط المسارات الثلاثة معًا تمامًا حتى تنجح عقيدة بايدن. وأعتقد أن المسؤولين الأميركيين يفهمون ذلك، كما يقول توماس فريدمان.

فالسابع من أكتوبر الماضي شكّل نقطة مفصلية إثر هجوم تنظيم حماس على إسرائيل وقتل العديد من الإسرائيليين وأخذ مئات الرهائن منهم، مما أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة التفكير بشكل جذري في الشرق الأوسط، خاصة بعد الرد الانتقامي الإسرائيلي الهمجي الواسع النطاق والذي أدى إلى مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء في غزة؛ وزيادة الهجمات على الأفراد الإسرائيليين والأمريكيين في المنطقة؛ وفشل الحكومة اليمينية في إسرائيل في صياغة خطة لحكم غزة في أعقاب انتهاء الحرب مع شريك فلسطيني من خارج حماس. يناقش الاستراتيجيون الأمريكيون هذا الواقع المتفجر في العالم  ويدركون أن ليس بإمكانهم الاكتفاء بالفرجة عن بعد على مايجري و السماح لإيران بمحاولة طرد الأمريكيين من المنطقة، وتعريض إسرائيل إلى الانقراض، وترهيب حلفاء أمريكا العرب لحملهم على اتخاذ إجراءات. من خلال الوكلاء الإيرانيين- حماس، وحزب الله، والحوثيين، والميليشيات الشيعية في اليمن. العراق – بينما تجلس طهران بهدوء تفرك الأيدي فرحة ولا تدفع أي ثمن. كما أن الوضع يشير إلى إدراك أن الولايات المتحدة لن تحظى أبدا بالشرعية العالمية، وحلفاء الناتو، لا سيما الحلفاء العرب والمسلمين الذين تحتاجهم لمواجهة إيران بشكل أكثر عدوانية، قد بدأوا يفقدون الثقة في نوايا وقدرات الولايات المتحدة. فما لم تتوقف عن السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاستمرار في سياساته العدوانية  وجعل أمريكا رهينة لسياساته، سيتوجب على أمريكا أن تبدأ في بناء سلطة فلسطينية ذات مصداقية وشرعية قادرة في يوم من الأيام على حكم غزة والضفة الغربية بشكل فعال، وباعتبارهما جارة جيدة لإسرائيل على طول الحدود النهائية، وأن يتفاوضان معًا لإيجاد مخرج لهذه العقدة المزمنة، حتى لو رفضت حكومة نيتنياهو اليمينية المتشددة هذا السيناريو.

يصف نادر موسوي زاده، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الجيوسياسية Macro Advisory Partners والمستشار الأول للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان، عقيدة بايدن الجديدة هذه بأنها “استراتيجية العد المزدوج”. لقد حان الوقت للولايات المتحدة لكشف خدعة إيران ونتنياهو في نفس الوقت.

وقال موسوي زاده: “إنكم تخدعون إيران استراتيجياً، وفي الوقت نفسه، تشرعون في مبادرة غير مسبوقة لوضع الأساس لدولة فلسطينية منزوعة السلاح بطريقة لم تفعلها الولايات المتحدة من قبل”. "كل مسار يحتاج إلى الآخر لينجح. وكل مسار يعزز الآخر ويبرره. التصدي الجدي والحاسم لإيران ووكلائها  بشكل معزز ومستدام يعزز أمن إسرائيل وأمن حلفائنا العرب. إن إقران ذلك بالتزام أميركي حقيقي وجريء بالدولة الفلسطينية يمنحنا الشرعية لاتخاذ إجراءات ضد إيران وحلفائها، وهو ما نحتاج إليه لنكون أكثر فعالية. كما أنها تعزل إيران عسكريا وسياسيا.

نتنياهو هو السبب الذي جعلني أتوصل إلى هذه القاعدة الخاصة بتقارير الشرق الأوسط: “كل ما يقوله لك الناس باللغة الإنجليزية على انفراد لا يهم. كل ما يهم هو ما يقولونه علانية بلغتهم الخاصة.

وقد همس نتنياهو لبايدن سراً بأنه قد يكون في يوم من الأيام على استعداد – ربما فقط – للنظر في نوع من الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بينما قال بالعبرية علناً العكس تماماً.

تجربة بايدن الطويلة مع نتينياهو كفيلة بتوضيح الأمور في ذهنه و ليعرف أن نتنياهو كذاب ومخادع و يحاول ببساطة جره إلى الفخ. لقد حان الوقت لإنهاء لعبة نتنياهو وآيات الله في الوقت نفسه. إن مبدأ بايدن هو الطريقة الصحيحة للقيام بذلك.

يذكر  المحلل السياسي موسوي زاده على لسان بايدن: " لقد تسامحنا مع قيام إيران بتدمير كل مبادرة بناءة حاولنا تنفيذها في الشرق الأوسط – طالما ظلت طهران تحت عتبة الهجوم المباشر ضدنا. وفي الوقت نفسه، تسامحنا مع حكومة نتنياهو التي تسعى إلى منع أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية بشكل دائم، حتى إلى درجة دعم حماس ضد السلطة الفلسطينية لسنوات عديدة لضمان عدم وجود شريك فلسطيني موحد. وأعقب موسوي زاده قوله: "كشف 7 أكتوبر/تشرين الأول أن سياستنا تجاه إيران كانت مفلسة وأن سياستنا الإسرائيلية الفلسطينية كانت مفلسة. سمحت هذه السياسات لحماس بزعزعة إسرائيل. وسمحت للحوثيين بشل حركة الشحن العالمية، وسمحت للميليشيات الشيعية الموالية لإيران لمحاولة إخراج القوات الأمريكية من المنطقة – القوات المنتشرة هناك لمنع داعش من العودة والمساعدة في الحفاظ على استقرار المنطقة بشكل معقول. وأضاف أن كل هذا حدث دون أن يحمّل أحد النظام في طهران المسؤولية عن كيفية "نشر عناصره السامة والمدمرة من الدول الأخرى في جميع أنحاء المنطقة ضد الأهداف البناءة لحلفائنا" في المنطقة. إن إسرائيل تخسر الآن على ثلاث جبهات. لقد خسرت حرب الإعلام وخسرت كسب تأييد الرأي العام العالمي لها في هجومها البربري على غزة: فرغم أن حماس قتلت واغتصبت إسرائيليين، فإن إسرائيل هي التي مثلت أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بسبب الخسائر في صفوف المدنيين التي تسببت بها في غزة أثناء محاولتها استئصال مقاتلي حماس الذين تم دمجهم في صفوف المدنيين.. وهي تخسر على جبهة الاستقرار الإقليمي: فإسرائيل الآن هدف لهجوم إيراني رباعي المحاور - من حماس وحزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق - لكنها لا تستطيع إيجاد حلفاء عرب أو في حلف شمال الأطلسي الذي تحتاجه لكسب هذه الحرب.. لأنها ترفض القيام بأي شيء من أجل إنشاء شريك فلسطيني شرعي وذو مصداقية. وخلص موسوي زاده إلى أنه إذا ظهرت عقيدة بايدن، "فستكون جيوسياسية جيدة في الخارج وسياسة جيدة في الداخل".

وهذا من شأنه أن يردع إيران عسكرياً وسياسياً، ويسحب الورقة الفلسطينية من طهران. وهذا من شأنه أيضاً أن يعزز قيام دولة فلسطينية بشروط تتفق مع الأمن الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، يخلق الظروف اللازمة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بشروط يمكن للفلسطينيين قبولها.

وهي استراتيجية يمكن أن تنجح مع الأميركيين العرب في بحيرة ميشيغان ومع الحلفاء العرب في الخليج العربي. إنها استراتيجية يمكن أن تفرض المساءلة داخل السياسات الإيرانية والفلسطينية والإسرائيلية. من الواضح إن أمريكا لاترغب في خوض مواجهة كبيرة ومباشرة مع إيران  لكنها قد تضطر للسماح لإسرائيل بتوجيه ضربات جوية موجعة لإيران دون خوف من التعرض لإدانة دولية.

***

إعداد د. جواد بشارة

عاشت معظم بلداننا التي تأسست بعد اتفاقية سايكس بيكو تحت مظلة المؤسسين الذين حاولوا استنساخ انظمتهم السياسية وحتى الاجتماعية في بلدان ومجتمعات تختلف عنهم جذريا في السلوك والعادات والتقاليد ناهيك عن الموروثات في طبيعة الحكم وموقع الرمز سواء كان اباً ام شيخ عشيرة ام رئيس دولة او ملك، وقد واجهت تلك العملية تحديات كثيرة أدت الى حدوث انقلابات وانتفاضات وثورات، وبعيداً عن إرهاصات تلك النظم وانقلاباتها الداخلية منذ انتهاء الحكم العثماني وبداية تبلور دول جديدة بأنظمة ملكية وجمهورية استنسخت فيها تجارب غربية لا علاقة لها بطبيعة المجتمعات الشرقية، هذه الأنظمة التي تقهقرت امام تحديات داخلية وخارجية كان أبرزها فقدان الوعي والتخلف الحضاري والنزعة القبلية والدينية، حيث أنتجت مجموعة من النظم القومية والدينية أساسها الصراع المجتمعي والتأثيرات الإقليمية والتي أسست نظماً مغلقة ومكبلة بقيود حديدية تحكمها العسكريتارية والأجهزة الأمنية، حيث أفقدت أي معارضة كانت فرصة تغييرها إلا باستخدام الخيار الخارجي الذي اجتاح العديد من دول الشرق الأوسط واستهدف تحطيم الهياكل الفوقية لتلك الأنظمة الراديكالية بمختلف توجهاتها يميناً ويساراً، دينياً أو مدنياً، في محاولة لإرساء نظم حديثة بلبوس ديمقراطي على الطريقة الغربية، ورغم كل المحاولات والإنفاق الهائل فشلت بعد عقدين من الزمن في تجربتها العراقية من أن تنتج قاعدة مجتمعية لاستخدام أدوات تلك الديمقراطية، حيث عادت تدريجياً تلك الموروثات المتأصلة في البناء الاجتماعي وانعكاسها على تكوين الأنظمة الجديدة.

إن أكثر شرائح المجتمع التي أصيبت بالذهول والإحباط بل الحيرة والإحراج الذي وصل حد المهزلة، هي الشرائح الواعية والمثقفة التي وقفت مذهولة أمام أنظمة جديدة تم تأسيسها على حطام سابقتها دون إحداث أي تغيير أفقي في المجتمع الذي بدى أكثر تعقيداً وتناقضاً مما كان عليه في النظم المغلقة، حيث رفعت بعض القيود الشمولية الكبرى كي تظهر بدائلها الصغرى في التركيبات القبلية والدينية التي تتعلق بطبيعتها البدوية والزراعية والعشائرية المتعطشة للسلطة والمال.

ولم يكن حال تلك الشرائح أفضل من عامة الناس وهي بالتالي مقيدة بكثير من سلاسل التقاليد والنظم الدارجة، وبقيت رغم وعيها وإزاء ظروف قاهرة تتعلق بطبيعة النظام وضوابطه الصارمة اضطرت لتسخير ادواتها، قلماً كان أو حنجرة أو فرشاة رسم أو ريشة عزف أو خشبة مسرح أو منصة علم ومعرفة تكتب وترسم وتغني وتعزف على أوتار ذلك النظام كأي موظف تنفيذي ليس إلا، ورغم إدراكها بأن ما تقوم به لا يرتبط بشخص النظام بل لتكريس الفن والمعرفة في ظل نظام طاغٍ متوهمة بأنها ستزيل انكسارات النفوس العميقة وجروحها، وإزاء ذلك كانت هناك أيضا مجاميع أخرى من المثقفين تضمها سجون رهيبة وأخرى قتلت وتم تصفيتها أو هاجرت وتحملت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض ولا توافق أو تؤيد ذلك النرجسي الأوحد والقائد الهمام ونظامه الشمولي، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة أنهم استبدلوا مهنهم وإبداعاتهم بأشغال وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟

وخلال عقدين من الزمن ورغم كل المبررات الواهية التي تسوقها الحكومات، تارة بسبب الحرب مع الإرهاب أو بسبب الفساد الهائل الذي أنتجته، إلا أنها انحدرت تدريجياً إلى سلوكيات لا تختلف عن الأنظمة السابقة وتحولت في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن وحتى في لبنان من دكتاتورية شخص واحد الى دكتاتوريات ميليشياوية متعددة تتكاثر وتنشطر مع ارتفاع سعر البترول والدولار مستثمرة في حكمها تارة المذهب وأخرى القومية وثالثة الدين والقبيلة وأخيراً غزة وشماعة تحرير فلسطين وعاصمتها القدس بعنتريات وشعارات تجاوزت من سبقتها في تسويق الخطابات النارية لتخدير الناس وتسطيح وعيهم، وبدلاً من الالتفات الى الداخل الذي يعاني من بطالة مخيفة وارتفاع خطير في مستويات الفقر والأمية انتشر الفساد المالي والسياسي وغدت دول غنية مثل العراق وليبيا من أفشل دول العام وأكثرها بؤساً.

وفي خضم الأوضاع الحالية والصراعات الإقليمية وتأثيراتها على هذه البلدان خاصة ما يحدث الآن في غزة وتداعيات حربها على المنطقة، وما تفعله ايران في توسيع مجالها الحيوي الذي يشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومحاولاتها لاختراق جدران كوردستان والمملكة العربية السعودية والأردن والبحرين، في خضم هذه (العجقة) لا اعتقد ان أي عملية إصلاح بإمكانها تغيير الأوضاع الحالية خاصة بوجود وتغلغل هذه الشبكة المعقدة من الفساد المالي والسياسي والإداري والطائفي والقبلي في أدق مفاصل الدولة والمجتمع، يرافقه إحباط كبير لدى غالبية الشعب لا يختلف عن الإحباط الذي أصيب به في الأنظمة السابقة!

***

كفاح محمود

في الحق أن القوات المسلحة السودانية قد أدت واجبها، ونهضت بما ينبغي أن تنهض به، من الذب عن حياض هذه الديار، فكانت صارفة مانعة، لمآرب عربان الشتات ومخططاتهم، وسيرضخ عربان الشتات لقضائها، ويرضوا به، مهما طال العهد أو قصر، وسيلبوا تلك الدعوة التي وجهتها لهم، في مودة صادقة خالصة، فدعوة الموت التي كثر فيها الحوار، واشتد فيها الجدال، لن تستطيع جموع عربان الشتات، أن تجنح عنها، أو تخفق في تلبيتها، مهما بلغ بها الرفض أقصاه، فالجيش حريص أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يجتث شأفة الدعم السريع  في حدة وعنف، وزوال هذه المنظومة، حدث لا ينبغي الوقوف عليه، أو الالتفات إليه، ولكن ينبغي أن نلتفت إلى قضية تقتضي منا، أن نختلف اختلافا شديدا في تحصيلها، قضية تتطلب أن نستخرج فيها الحق من الشبه، وأن نطرح في مرارة وحزن، هذه الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، إلى تفكير طويل، وروية متصلة.

أمزجتنا التي نختلف حولها ونختصم، لماذا أخذها هذا التطرف والغلو من جميع نواحيها؟ وهذا التعصب الذي لا نتحرج من استقبال زائريه من خارج قطرنا، حتى يَعْظُم جاه بعض القبائل، وشأنها يرتفع، متى ننكره، ونضيق به، وننصرف عنه؟ وهذا الجمود الفكري  الذي دمغ حصاتنا على ما فيها من ذبول وفتور، متى نميطه ونتحرر عنه؟ وهذه الأنا الضعيفة، الهشة، الهزيلة، كيف تترك عنها هذا الاسراف في الوهن؟، وتتوخى هذا الإلهام الشاحب اللون، الذي يجب أن يتزايد وأن يقوى، حتى يخلصها من عللها المتوطنة، إن الأزمة الحقيقية التي يشكو منها السودان، كل السودان، ليست هي أزمة تنافس بين خصمين راما السلطة، وتشبثا بحبالها، وإنما هي أزمة أعمق من هذا كله، وأيسر إصلاحا من هذا كله، كما يقول عميد "الفكر" العربي  الدكتور طه حسين رحمه الله، أزمة التكالب على السلطة في السودان هينة يسيرة، فليس التنافس بين الفريق أول "البرهان"، وقائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان دقلو" هي الأزمة الحقيقية التي مست حياة الشعب السوداني مساً عظيما، وأصابته في مقتل، إن أزمتنا الفادحة أيها السادة، تتمثل في تلك الاضطرابات الشخصية التي طافت بنا، وفي نظامنا الاجتماعي الفاسد، الذي جعلنا لا نتعامل مع قضايانا الملحة في قصد واعتدال، فشخصيتنا المعطوبة، تأنف أن تعيش في نظام تتحق في ظله قيم الحرية والعدالة، فهي مأخوذه بمعالم الجنوح والتطرف، وتؤثر هذه الحياة التي تخلب بروعتها عقولنا الناضبة، التي تتيح لنا بأن نأخذ من الحرية قدراً غير مألوف، حتى لا نرعى لشيء حرمة، وحتى نقدم على كل شيء مثير للذة والامتاع، إلى أبعد حد مستطاع، دون أن يردنا عن مواتاتها فضل من خلق، أو بقية من دين، وحتى ندني هذه الاضطرابات من الوضوح، ونقربها إلى الفهم، نقول أنها اضطرابات مهلهلة فجة، تذودها الكثير من القبائل  في السودان بالفتور والاهمال، وتحتفي بها قبائل أخرى، وتسرف فيها، وأضرب لذلك مثالا واحداً، يجدر بنا أن نشير إليه، فالحق الذي لا شك فيه أن البيئة هي التي تغذي الحس، والعقل، والشعور، هناك بيئات تنزع نحو التطرف الاجتماعي، ولا تتعارض قيمها مع قبوله وهضمه، هذه القبائل يستحسن أن تقتصر عنايتنا بها، وأن نرفع أصواتنا رفعا عنيفاً، ونلقي في مسامعها تلك الكلمات التي تعزز من مشاعر الألفة، والمحبة، والتضامن الاجتماعي، ونجتهد أن نردها عن البغي والعدوان، وجملة القول، أن تتحمل هذه القبائل الميسور وغير الميسور، حتى تقتنع بفكرة يسيرة، هي أن العزة، والكرامة، مرتبطة بالسلام الذي يكفل لها، ولغيرها من القبائل أن تعيش في أمن ودعة، وأن الوقت قد حان لتقطع الصلة بينها، وبين ثقافتها الموروثة، تلك الثقافة التي لا تجد مضاً ولا غضاضة، في اظهار هذا المزاج العنيف، الذي يعلي من شأن الحرب، فحياة هذه القبائل بدوية كانت أو حضرية، ما زال يقوم على المعاظلة و الصراع والتناحر، ولعل العلة في ذلك هي الموارد، التي ما زال الناس يتنافسون حولها تنافساً مريعا، فالموارد رغم توفرها مدعاة حقاً، لأن تزيد من حنق القبائل وعداوتها ضد بعضها البعض، ولكن لأننا صادقين في تحديد أسباب هذا المزاج العكر، ووصفه، والتعمق فيه، نزعم أن شح الموارد أو وفرتها، ومعارك الرعاة والمزارعين على الكلأ والماء، التي تركت آثاراً خالدة، لا سبيل إلى أن تزول، ليست هي من الأسباب الجوهرية لاندلاع مثل هذه الحروب، السبب الرئيس الشائع، هو إظهار القوة والبأس، فإظهار القوة الفردية والاجتماعية، مقدما على ازدحام الناس حول الموارد، وعلى تنافسهم في جميع ألوان الحياة، إذن اظهار القوة تأخذ علينا الطرق، وتطوقنا من كل ناحية، وتضطرنا لأن نخضع لهذه الحياة البائسة التعسة، التي لا تدفعنا إلى الرقي ولا إلى الحضارة، بل إلى القتل والإغضاء، والاذعان، لفلسفة الحرب، ولن نتحرر من أغلال هذه الفلسفة، إلا إذا خلت حياتنا من هذه العواطف الحادة، واستطعنا أن نلقي ستاراً كثيفا، على صدى الذكريات الذي لو لم نخمده،  لمضينا في سفك الدماء، ولأخفقنا في أن ننتظم في توادد جميل، وستظل الضغائن تملأ نفوسنا، وتملك عليها أمرها،  وسيلازمنا هذا الشقاء المتصل طوال حياتنا.

 ونظامنا الاجتماعي، الذي قد تطرقت إليه من قبل في مقال عريض، ولا أود أن أعود إليه، أو استأنف الحديث عنه، ولكني أحمله في سفور، اخضاع نظمنا السياسية، و الثقافية، والاجتماعية لسطوته، لقد قوض هذا النظام البسيط الساذج، كل مظاهر البهجة في حياتنا، وأزرى بكل لذة فنية أو عقلية، كانت من الممكن أن تخفف علينا وطأة هذه الحياة،  نظامنا الاجتماعي، حال بيننا وبين التفكر والتروي، في مسائلنا ومشاكلنا المعقدة، وجردنا من الوطنية المحضة وتبعاتها،  قناديل الوطنية التي تفرض علينا النهوض بواجباتنا تجاه السودان، حتى يظفر بالاستقلال السياسي التام، ويتعافى من هذا الاعياء الذي تفرضه عليه تبعات تدخل الغير في شؤونه، نظامنا الاجتماعي هو الذي فرض علينا أن نحرص على هذا التقليد، وأن نمعن في هذه الحياة التي تشبه الحياة الجاهلية في الكثير من صورها وأشكالها، تلك الحياة العجفاء المتخلفة، التي نظهر لها كل هذه الطاعة، وهذا الاذعان، مع أن النشاط العقلي، الذي تموج به الأقطار من حولنا، يُحْتِم علينا أن نعدل هذا النظام القديم، بنظام طارف جديد، يتبين الأشياء في وضوح وجلاء، ويتناول موضوع وحدتنا القومية الضعيفة الواهية، بالدرس والبحث والاستقصاء، نحن نحس فعلا الحاجة إلى اصلاح نظامنا الاجتماعي، أو تغييره، فالنظام الذي ننشده و نبتغيه، واهماً من ظن، أنه هو ذلك النظام الذي يكفل لنا أن نعيش في خفض ونعيم، بل هو أيها الأماجد، ذلك النظام الذي نلتمس فيه تلك الرغبة الصادقة، بأن تعيش جميع أطيافه في وحدة عضوية متضامنة، تخضع للتطور، وتكره الانحطاط والتردي والجمود، نظام اجتماعي جديد، يسعى لاضعاف سلطان القبلية، ويعمل على تضاؤله، نظام يدرس كل شيء، ويحلله، ويرده إلى الأصول المشتركة بين الناس، نظام لا تستأثر فيه طائفة بالحكم والسلطان، ولا تتحقق فيه المنفعة العاجلة، لجماعة أو ايدلوجية، حتى ترتقي رقياً مضطرداً على حساب غيرها من الجماعات والأيدلوجيات، فالطموح الذي يجب أن يأخذ نصيبه، لأي فئة كانت، هو ألا تتقوقع  أي جهة حول السلطة، أو تسعى لاحكام السيطرة عليها، بل أن تظهر المرونة، والسلاسة في تداولها، وأن تمضي بالسودان نحو التطور في غير أناة.

***

د. الطيب النقر

 

كنا تابعنا الزيارات المليونية منذ عام 2006 وكتبنا عنها تحليلا سيكولوجيا نشر في الصحف العراقية ووسائل التواصل الأجتماعي. ولمناسبة زيارة الأمام موسى الكاظم هذا العام (2024) نعيد ما كنا نشرناه بهدف الأجابة على تساؤل واحد:

ان الغالبية المطلقة من الزائرين.. يعرضون على الأمام الكاظم (ع) مظالم وطلبات.. فهل انتهت مظالمهم وتحققت طلباتهم عبر اكثر من عشر سنوات؟.

لنعد الى العام (2007) وتحديدا يوم 9 آب منه، فقد أفادت القنوات الفضائية التي واكبت المسيرة بأن عدد الزائرين كان بين مليونين إلى ثلاثة ملايين معظمهم جاء سيرا" على الأقدام برغم شدة الحر في آب اللهاب.

وتساءلنا في وقتها عن الأسباب وراء هذا العدد المذهل من الزائرين في ظروف الحر الشديد وعلمهم المسبق بأنهم قد يتعرضون إلى الموت بعبوات أو أحزمة ناسفة أو تفجير سيارات مفخخة أو قذائف من مدافع هاون وغيرها من وسائل الموت التي تعددت في حينه بما فيها تسميم مياه الشرب:

* هل فعلا" أن السبب كان دينيا" وأداء شعائر واجبة، أم أن ورائها أسبابا سياسية وإعلانا" تحذيريا" على لسان طائفة تريد أن تقول للخصوم والأعداء والمحايدين " مهما صار بنا فنحن ها هنا موجودون "؟.

وإن كان وراء هذا الحشد البشري الضخم " سياسة ".. اعني تعبئة سياسية من أحزاب دينية ـ سياسية فأنني اترك الأمر للمحللين السياسيين، فما يعنيني هنا هو الأسباب السيكولوجية ليس إلا.

لقد تابعت أيامهاعددا من المقابلات التي أجرتها قنوات فضائية مع زائرين وزائرات، فوجدت أن لديهم حاجات يأملون تحقيقها من هذه الزيارة حددوها في إجاباتهم على ألسنتهم بالأتي:

* نريد الأمان (أولادنا تكتلوا " قتلوا " واحنه عايشين بخوف والى متى نظل اليطلع من بيته ما يدري بروحه يرجع لو يموت.

* ونريد الكهرباء.. الله أكبر طكت أرواحنا.

* ونريد السياسيين يتصالحون ويديرون بالهم على الشعب مو يظلون يتعاركون على الكراسي والشعب حال الضيم حاله.. يزي عاد تره شبعنا تعب.

هذا يعني أن زيارة هذه الملايين لضريح الإمام موسى الكاظم كانت: عرض مظالم وتقديم طلبات لتحقيق حاجات عامة تتصدرها حاجتهم إلى الأمان.

ونسأل:

إن الذي أرعب الناس، في سنتها، وافقدهم الأمان هم: القاعدة وقوات الاحتلال والمليشيات وعصابات الجريمة، فما الذي يفعله الإمام بقتلة مجرمين نسفوا حتى أضرحة أحفاده من الأئمة الأطهار وقتلوا الآلاف من الناس المسالمين والنساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالسياسة وبالطائفية؟ !.

ربما سيكون جوابهم: إن للإمام جاها عظيما عند رب العالمين.. وجوابنا: وهل أن الله سبحانه غافل عما يفعلون؟!

وكانت حاجتهم الثانية: " نريد الكهرباء ".

ونسأل مرة أخرى: ما شأن الإمام " ع " بتوفير الكهرباء للناس؟. هل أن وزير الكهرباء " ظام " هذه النعمة عن الناس وان الإمام سيؤنبه ويأمره بتوفيرها إلى عباد الله. وإذا أجاب الوزير بأن قلبه " محترق " على الناس ولكن " ما بيدي حيله " فهل يأمر الإمام الحكومة بشراء المولدات العملاقة، وأنها ستستجيب لأمره فورا" فتنير العراق من زاخو إلى أم قصر؟ !

وكان الطلب الثالث للمسيرة المليونية هو " إصلاح حال السياسيين ".

لقد مضى على دعواتهم تلك، في يومها، أربع سنوات فحصل أن تغير حال السياسيين ولكن الى الأسوأ، فهل عجز الأمام عن اصلاح حالهم ام أنه تغاضى عن طلبهم لأنهم لا يستحقون؟!

الجواب لا علاقة له بالامام ولا بالدين ولا بالسياسة بل بالسيكولوجيا، خلاصته:

ان الانسان المحبط والمحدود الوعي الذي يتعذر عليه حلّ مشكلاته او يجد الواقع لا يقدم له الحلّ الذي يعالج أمور حياته ولا يخفف من حدّة ضغوطه ومعاناته فأنه يلجأ الى وسيلة روحية او خرافية تمنّيه بالفرج وتخفف عنه نفسيا.

ومن هذه الوسائل زيارة الأئمة والأولياء.. ولا نعني بها الزيارات التي يقوم بها الناس في اوقات استقرارهم النفسي، فهذه تكون للتبرّك والتقرّب من الامام وخالصة لشخصه الكريم، انما نعني بها زياراتهم للأئمة والأولياء بحشود في اوقات الأزمات القصد منها فك ازمة مأزوم.

ومع تنوع أزمات هذه الجماهير المليونية فانها تعمل في آليتين نفسيتين هما:

الأولى: شعور الانسان العاجز المحبط بقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة،

والثانية: اسقاطه على الأمام او الولي القدرة على فك ازمته لتميزه بكرامة او جاه او رجاء اذا رفعه الى ربّ العالمين فانه لا يخيب رجاءه.

وينشط عمل هاتين الآليتين في اجواء الطقوس الروحية، لأن رؤية الفرد الواحد للجماهير المهمومة تخفف من همومه حين يرى ان الكارثة عامة وأن مصيبته قد تكون اهون من مصائب الآف. غير ان اقواها:تراجع العقل عن التفكير بحلول واقعية امام طوفان الانفعال الجمعي للجماهير المليونية، والتنفيس عن هموم محنة عامة والشكوى من سوء الحال بأدعية تشيع في نفوس الجموع نوعا من الاطمئنان والرجاء والأمل واقناع الذات بأن ثمة فرج آت.. بعد وقت اضافي من الصبر!.

ساتابع زيارة الأمام الكاظم يوم الثلاثاء (6 / 2 /24) لأرى ما اذا كانت مليونية ايضا، وما اذا كان الزائرون يكررون طلباتهم التي عرضوها على الأمام قبل 17 سنة، لاسيما طلبهم بتوفير الكهرباء (الله واكبر كتلنا البرد، بعد ان كانت كتلنا الحر)، ودعوتهم الى ان يتصالح السياسيون، ويعيد التيار الصدري للعملية السياسية..

وبعدها سيكون لنا تحليل سيكولوجي جديد.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

وهل لديها المقومات التاريخية الاقتصادية السياسية في ذلك؟

قد يتساءل البعض عن سر النزعة الإنفصالية لحكام ولاية تكساس التي يحكمها الجمهوريون عن الولايات المتحدة ومآلاتها بعد احتدام الصراع مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن والمتمثلة بالرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي، جو بايدن.

لقد تولد لدى حكام هذه الولاية -الأقوى اقتصادياً- شعورٌ بالغبن والخضوع للاستغلال الجائر، من قبل القيادة الفيدرالية، حتى جاءت الذريعة القوية لخوض معركة انفصال جديدة، حينما قررت المحكمة الأمريكية العليا إزالة الأسلاك الشائكة بين الولاية والحدود مع المكسيك، الأمر الذي سمح بتدفق المهاجرين المكسيكيّين إلى الولاية دون رادع، وبالتالي إعاقة التعامل مع الظاهرة وفق معايير أمنية ضابطة.

لذلك عدّ حاكم الولاية، القاضي السابق غريغ أبوت، هذه الظاهرة المتنامية احتلالاً مكسيكياً يسير ببطء شديد، ومكمن خطورتها أنها تعتمد على تأثير التقلبات الديمغرافية في نتائج أي استفتاءات يكون من شأنها التحكم بمصير الولاية عند الأزمات الوجودية.

هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تكساس تقوم ديمغرافياً على المكونيْن المكسيكي والسكان الأصليين قبل أن يتدفق إليها المكوّن الأوروبي الذي تناما بكثافة بعد قرار الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمر الذي عزز من مخاوف حكام الولاية الجمهوريين .

وهذا ممكن لو تمحصنا في إسقاطات التاريخ على المكوِّن الديمغرافي المكسيكي، الأمر الذي استلزم من "أبوت" التصدي لقرار المحكمة الفيدرالية العليا الذي أعطى الولاية مهلة حتى 26 يناير 2024 لنزع السياج الأمني الذي أقيم على حدود تكساس مع المكسيك.

ولكن بعد انتهاء المهلة المقررة قام حاكم الولاية بمخالفة قرار المحكمة العليا ممعناً في تحدي الحكومة الفيدرالية، وذلك من خلال الزيادة في تحصين الحدود، وعدم تمكين حرس الحدود التابع للحكومة الفيدرالية من القيام بمهامه المنوطة به بتنفيذ قرار المحكمة العليا، من خلال التصدي له من قِبَلِ الحرس الوطني التابع للولاية، مدعوماً بقوات الحرس الوطني لعشرة ولايات جمهورية من بين 25 ولاية أبدت تأييدها لموقف "أبوت" من الهجرة غير الشرعية.

وفي خطوة وصفت بأنها أنانية تم إلقاء أزمة المهاجرين إلى الولايات المجاورة بتحويل أكثر من 100 مهاجر إليها بهدف تأزيم المواقف في وجه الحكومة المركزية، وهذا تصعيد خطير.

ولعل تأثير هذه النزعة على مستوى جماهيري تجلى أكثر من خلال جذب جيش الرب (AOG)‏ الذي زحف من ولاية فرجينيا نحو تكساس؛ للمساهمة في التصدي للهجرة غير الشرعية من المكسيك.

وقد تبنى الحزب الجمهوري هذا التوجه الذي رفع من معنويات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية المحتمل، دوناند ترامب كونه الأشد تأييداً لموقف حاكم الولاية الاستثنائي غريغ أبوت.

من جهته برر "أبوت" إجراءاته المخالفة للقانون قائلاً في مؤتمر صحفي: "الدستور يعطي الحق للولايات للدفاع عن نفسها.. وهذا بالضبط ما نفعله"

لذلك أمر "أبوت" بنشر قوات الأمن الوطني التابعة له، في أرجاء الولاية وعزز من تواجدها على الحدود مع المكسيك في تحدٍّ سافر لجو بايدن.

وهذا يمثل تصعيداً خطيراً من شأنه أن يضع الولايات المتحدة أمام خيارات مفصلية كارثية، وخاصة أن هذه الإجراءات وضعت قوات الأمن الوطني لتكساس في صدام مع قوات حرس الحدود الفيلدرالية.

فيما يرى مراقبون بأن النتائج ستظل محصورة في حدود التداعيات التي ترافق عادة الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ لكن المستحيل في وقتنا الراهن تحطمت حواجزه في أكثر من تجربة في العالم ولعل طوفان الأقصى خير مثال على ذلك.

والجدير بالذكر أن للنزعة الانفصالية في تكساس جذوراً تاريخية ومحفزات نفسية تقوم على رهاب الديمغرافيا، التي تميل إلى الثقافة المكسيكية والولاء المعنوي للجنوب، والشعور بالغبن والاستغلال من قبل حكومة المركز لثروات الولاية الهائلة.

فقبل نحو 118 عاما كانت تكساس جمهورية مستقلة، اعترفت بها الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، قبل أن تصوت على الانضمام إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الـ28 وقتها وذلك بدافع الخوف من المكسيك التي انتُزِعَتْ منها.

وكان الجنرال الأمريكي سام هيوستن قد انتصر على الجنرال المكسيكي سانتا أنا، فاستقلت تكساس عن الولايات المكسيكية الفليدرالية وحملت عاصمتها اسم محررها "هيوستن".

ولكن خشية تكساس من الطموحات المكسيكية نحو استعادتها، دفعتها للانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية-كما أشرنا آنفاً- في 29 ديسمبر 1845 من خلال استفتاء عام.

ويبدو أن طموح الولاية الانفصالي كان متعارضاً بشدة مع مصلحتها في الانضمام إلى الولايات المتحدة حيث وجدَ فيه التكساسيون ملاذاً آمناً ورادعاً للخطر المكسيكي المحدق بهم من الجنوب.. مع أن هذا الخطر قد يكون مبالغاً فيه، بحيث لا يعدو عن كونه وهماً درج قادة الانتخابات الأمريكية في صنعه للتأثير على النتائج.

وكانت لولاية تكساس إبّان الحرب الأهلية الأمريكية تجربة إنفصالية سابقة لأول مرة في أوائل عام 1861 إلى جانب إحدى عشرة ولاية تحت مسمى الولايات الكونفدرالية الأمريكية، حصل ذلك كون عنصر الأمان بات حينها مفقوداً بسبب انتصار الشماليين على الجنوبيين في الحرب الأهلية، لكنها عادت وانضمت رسميا من جديد إلى الولايات الكونفدرالية الأمريكية في 2 مارس من نفس العام. وخضعت لسيادة الحكومة الاتحادية بعد الحرب الأهلية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2021، تقدم أحد أعضاء مجلس نواب ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري بمشروع قانون لإجراء استفتاء غير ملزم على انفصال الولاية عن الاتحاد، ولكن لم يتم التصويت عليه أو تُحدَد له جلسة استماع من قبل المجلس.

في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ "الانفصالية" في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت "لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد".

يرى الكاتب أنه في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي شارك فيها أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، واقتحامهم للكونغرس، فإن ميليشيات اليمين المتطرف، مدفوعة بمزاعم ترامب التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات "سُرقت"، أصبحت تطالب بشكل متزايد بالانفصال، ليس فقط في تكساس، ولكن في ولايات أخرى كذلك. وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين من عدة جامعات أمريكية أن الفكرة يؤيدها ثلث الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية، وأكثر من نصف الجمهوريين في الولايات الكونفدرالية السابقة.

فولاية قوية ومكتفية ذاتياً مثل تكساس تستطيع اتخاذ قرار الانفصال عن طريق الاستفتاء إذا ما حظيت هذه الخطوة بتأييد الكونغرس.

ولا شك أن العامل الاقتصادي والقدرة على الاستقلال سيهيء لإجراء استفتاء حقيقي يقوم على نتائجه مستقبل تكساس.

إذْ تتمتع ولاية تكساس باقتصاد قوي يحتل المرتبة التاسعة بين الأكبر في العالم، متفوقا على العديد من البلدان مثل روسيا وإسبانيا وأستراليا. فهو يسهم بشكل كبير في قوة أميركا وازدهارها بشكل عام، كما تعد الولاية الحدودية مع المكسيك، مركز الطاقة في أميركا، حيث تنتج وتكرر معظم النفط والغاز في البلاد. كما أنها رائدة في مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.. وفيها مقر وكالة ناسا للفضاء.

وحتى من الناحية السياسية، فإن تكساس هي لاعب رئيسي في السياسة، حيث تمتلك ثاني أكبر عدد من الأصوات الانتخابية ومقاعد في الكونغرس في الولايات المتحدة. كما أن لها تأثيراً قويا ًعلى قضايا الحدود مع المكسيك، وسياسات الهجرة، والأمن القومي.

وخاتمة القول أن الرهانات على انفصال تكساس ليس سهلاً لكنه سيكون مؤشراً لاحتمالٍ ممكن الحدوث في عالم يتغيرُ بسرعة وأصبح فيه المستحيلُ مستحيلا.

***

بقلم بكر السباتين

6 فبراير 2024

 

العلاقات السودانية الايرانية، سوف تطوي ثوبها البالي، وتخطر في ثوب قشيب، بعد أن كلفتها خطوب الحياة،  وعنت الدول المستبدة، التي كانت تضيق بهذه الوشائج، التي توثقت في عهد الرئيس السابق المشير عمر حسن أحمد البشير، أشد الضيق، ولعل الباعث الذي دفع نظام البشير، لتوطيد صلاته مع ايران، التي أظهرت حباً له، وعطفاً عليه، العزلة التي فرضها عليه المجتمع الدولي، بعد أن حاد نظام الحركة الإسلامية، عن النظم المرسومة، والقواعد الموضوعة، وأراد أن يمضي في الحياة كما يريد هو، لا كما يريد الغرب، لقد رفض نظام البشير قيود الامبريالية، وذهب في عناده معها مذاهب مختلفة، فالجأته إلى ذلك البؤس الهادي المطرد، حتى قضت عليه، البؤس العاتي الغليظ، الذي جعل شرائح شعبه ومكوناته تتصايح، وتدعو بعضها بعضاً للخروج عليه، حتى ظفرت بالحرية قبل عدة أعوام، ثم فرطت في هذه الحرية، وأمعنت في هذا التفريط، حتى قادنا ذلك التفريط إلى هذه الحالة المنكرة، وإلى هذه المليشيا المارقة التي أودت بالناس في غرب الدولة، وشمالها، وفي وسطها، وأكبر الظن أن الساسة الذين جاءت بهم تلك الثورة التي لم تكمل غايتها، لم يكونوا على كل حال، هم القادة الذين سيبلغ بهم الشعب مأمله في العدل والحرية، وينهي بهم هذه السلسلة الطويلة من حلقات الخمول والجمود، فهم لم يقودوه إلى الأمل المنشود، ولم يقدروا جهده الدائب، وعمره القصير الذي أفناه، من أجل نيل التحرر والانعتاق، فتلك الناجمة لم تسعى إلا لأن تروي حقدها، وترضي حاجتها من التشفي والانتقام، وتمحو بأظافرها الحادة الملوثة، كل ما دونه التاريخ  للانقاذ من محاسن، ولا تبقي إلا على غثاء، لا يحتاج منا أن نضبطه، أو نعلق عليه.

وفي الحق، أن معارك النظام الإسلامي المحتدمة مع المجتمع الدولي، منحته بلا شك بصيرة نافذة، وذكاء متقد، وقدرة فائقة على المناورة والالتفاف، فاستطاع أن يكون لنفسه رأياً صارماً حازماً، خاض به العور والنوائب، على مدار عمره الطويل، حتى اشتد عليه المرض، واستيقن الموت، بعد أن صبر وأجمل الصبر، وسلك كل الطرق التي تبقيه حقبة من الدهر، قبل أن يلفظ آخر أنفاسه، وإيران كانت محطة من محطات  تشبثه، محطة استطاع أن يعيد بها بناؤه العسكري والسياسي، ونحن إذا أردنا أن نرصد هذه العلاقة، فسنجد أن نظام البشير  قد سار مع إيران سيراً رقيقاً عذبا، في بدايته، فوفق منها إلى ما أراد، ومنحها بعض ما تريد، ثم تنكر لها، وجحد فضلها، ليرتمي بعدها في أحضان دول الخليج التي كانت لا تتعصب له، ولا تثني عليه،  بل تبغضه وتزدريه، وتوغل في مجه وازدرائه، فبغض دول الخليج للانظمة التي تلتحف برداء الدين، لا يحتاج منا، أن نضيع وقتنا، وقت القارئ، في التماس الأدلة والبراهين على حقيقته وصحته، وقد لجأ نظام البشير إلى الخليج العربي، بعد أن فقد الأمل، واستيئس من النجاة، وقد منح الخليج العربي "البشير" الأمان، وأخذه بالحزم، ورده إلى الاعتدال، وأجبره على قطع صلاته بايران، التي كانت أحدب عليه من أبيه، واستأنف "البشير" حياته الجديدة، مع حليفه الجديد، وكان يحرص على رضاه، أكثر مما يحرص على أي شيء آخر، والخليج الذي كانت النار تضطرم بين جوانحه، وتحرق قلبه غيظاً على" البشير وطغمته"، استخدمته أداة للدفاع عن نفسها، وأقحمته في تدخل عسكري عنيف في اليمن، وجعلت قواته تنتقل من ثغر إلى ثغر، ومن غور إلى غور، تغالب الطبيعة، وتواجه العواصف والأنواء، وتجابه المنايا، في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، أمسى البشير يحارب  جماعة تعيش في وطنها، وبين أهلها، جماعة لم يجد السودانيون ما يدفعهم، إلى الجد، ويثير فيهم النشاط، لهضم مسوغات قتالهم، لقد اتخذ نظام البشير  هذه الخطوة في كثير من التردد والاستحياء، ولم يكن ينظر، أو لا يكاد ينظر كما يقول -العميد- إلى عمق العلاقة التي لم تشبها شائبة مع الشعب اليمني الشقيق، واستطاع البشير كعادته أن يحصر الثائرين، والمستهجنين، تلك الطائفة التي لم  تريد قتلاً ولا قتالا، ولا تبتغي شراً أو خصومة مع اليمن وأهل اليمن، استقبلت  هذا التداعي واجمة أول الأمر، ثم سائلة مستفسرة، عن الدواعي والأسباب التي تحملنا على حرب اليمن ومعاداة شعبها، فأجبرهم  الدكتاتور الحائر على الصمت، ومضى البشير في عزمه، وأرسل قواته إلى معمعة لا تحمل إليهم رضى ولا غبطة.

والقوات السودانية التي كانت تقاتل هناك بأبخس الأثمان، كانت تستشعر الحرج، وهي تتبع الحريق هنا وهناك، وتعلم أنها مهمة أثقل من تستطيع أن تنهض بها، لأجل ذلك كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، فهي غير مقتنعة بأنها قد حضرت هنا إلى هذه البلاد، حماية للكعبة، وبسطاً للعدل، وإنقاذاً للناس من ظلم الحوثيين، فالشيء المحقق أنها جاءت إلى هنا من أجل الطمع والطموح، الطمع في المال، والطموح إلى الترقية والتدرج في الرتب.

ونحن إذا اردنا الانصاف، نقول أن" المشير البشير" الذي كان ينتظر من الخليج، أن يحميه من عاديات الأيام، كان مكرهاً أن يساير حلفائه الجدد، وأن يظهر لهم هذا الخضوع والإذعان، فهو واهي أقعد به الداء، ونظامه ضعيف ثقلت عليه العلة، و حركته أزرى بها الخلاف، نظامه الذي بات يكره نفسه على البقاء، مخافة السجون والملاحقات الدولية، أفاض على وجهه هواناً، جعله يستخذى نصرة من أطنب في معاداتهم، وكان يعد أصواتهم أكثر خفوتاً، وصورهم أشد بعداً، وانقطع البشير في هذه العلاقة مع الخليج الذي لم يظهر مطلقا أن نفسه راضية، وقلبه سعيد، بهذا التأخي، وحتى نترك عنا هذا التحقيق الدقيق لكنه المشاعر، نقول أن "المشير البشير" لم يفرغ للهوه ومتاعه، والتنقل بين الأقطار، فقد عالجته ثورة هادرة قضت على بحكمه، ثم أخذت الجموع تكثر من التردد على القصر الجمهوري غداة كل يوم،  وهي ترسل صوتها الصريح بالانكار، حتى ظهر لنا شبح "الخبير الاقتصادي" المزعوم الدكتور عبد الله حمدوك، والذي اتضح انه أتى ليحارب عواطف الشعب ومثله العليا، لقد كنا على علم بأسباب هذه الثورة، ودوافعها الوطنية، ولكننا لا ندرك الكثير، أو نجد تفسير شاف لتصدر ممن هم على شاكلة "حمدوك" و طاقم حكمه الضعيف الهزيل، الذي لم يأتي إلا ليوقظ روح اليسار، ويجعل للخنا والفجور قيمة عظيمة، وخطراً جليلا، وقد رفق بنا الدكتور حمدوك حينما صاغ خطابه الشهير للأمم المتحدة، حتى لا نجتهد، ونضني أنفسنا بالاجتهاد، لكي ندلل على عمالته، خطابه الذي أتى "بفولكر"  الثعلب الألماني العجوز، الذي قوى من شخصية" قحت" ودفعها إلى الثقة بنفسها،  "قحت"مجموعة الأحزاب الهشة المنخوبة الفكر،  المغلولة اليد، المحصورة بين ردهات مكاتب المخابرات الأمريكية، لا ندري كيف تصدرت المشهد، وكيف رضينا منها أن تبت في يسير الأمر أو خطيره، لأجل ذلك لاح على السواد الأعظم من الشعب الضجر، وأظهر التبرم والملل، من سماجة، وضعف مردود الدكتور حمدوك ومن "قحت" الحاضنة السياسية له، ولحميدتي قائد قوات الدعم السريع من بعده.

ونحن نزعم في حدة وعنف، أن حكومة الدكتور حمدوك إنما وضعت لفئة محددة ولم توضع لعامة الناس، الفئة التي تجد ذاتها وسط الغرب، وحضارته الموغلة في العهر والانفصام، الفئة التي تنتهي آمالها إلى غاية تقتضي تغيير منهج الدين، وطرق التفكير المرتبطة  بأصول شريعته، ولعل حدود المقال وأطره، تمعنا من أن نقدم عرضاً مفصلاً للأحداث والمآلات التي صاحبت تلك الفترة، ولكن تلك الفترة انجلت باستقالة الدكتور حمدوك، وتدافع غلاة الفكر الحر، ورواد المجون والزندقة، نحو المطارات والمعابر، وتركوا قائد الدعم السريع الفريق أول محمد دقلو، الرجل الذي لا يدري كيف يصانع من حوله، شريكا للبرهان في حركته التصحيحية التي انتزعت أرباب العمالة من الحكم.

ولم تلبث "قحت" التي يملؤها الحقد والشر والكيد أن تبث العداوة والبغضاء في حنايا الفريق أول حميدتي تجاه شريكه وقائده في المجلس السيادي الفريق أول البرهان، فاندلعت هذه الحرب التي كان "فولكر وأحزاب الخزي والعار" أشد حدباً والحاحاً على تهييجها واضرامها، لأنها تحقق لهم كرامة أهدرها البرهان، وتتيح لهم أن يخاطبوا المنابر باسم الأفراد والجماعات.

سنرفد هذا المقال بمقال آخر باذن الله.

***

د. الطيب النقر

تمهيد: لم تكن عملية "طوفان الأقصى" حدثًا عابرًا في المواجهة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال "الإسرائيلي"، بل تعتبر حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، فما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 سوف لا يشبه ما قبله.

واجهت غزّة التي تبلغ مساحتها 365 كم2، لا تعادل سوى 2% من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم2، حربًا عالمية بكلّ معنى الكلمة، وتعرّضت إلى إبادة شاملة في ظلّ دعم غربي لا محدود، تبريرًا وتسويقًا للعدوان في الأمم المتحدة وخارجها، تحت حجّة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". فكيف يمكن فهم ما حصل؟

زمام المبادرة

بدأت عملية طوفان الأقصى بمباغتة فائقة البراعة، ليلة عيد الفرقان "الإسرائيلي"، حين اقتحمت قوات المقاومة "حماس"، المواقع "الإسرائيلية" في غلاف غزّة، بسرعة مذهلة ودقيقة في الساعة الثالثة صباحًا، في 22 موقعًا عسكريًا، وخلال ثلاث ساعات تمكّنت من اغتيال بضع مئات من الضباط والجنود "الإسرائيليين"، واقتادت ما يزيد عن 100 "إسرائيلي"، بمن فيهم اثنين من العسكريين من جهاز "الشين بيت - شاباك" (المختصّ بالأمن الداخلي، والذي يتبع لرئيس الوزراء مباشرةً)، وعدد من الأجانب، لاحتجازهم كأسرى، أطلقت سراح بعضهم (من المدنيين وحملة جنسيات أخرى)، في عملية تبادل للأسرى، واحتفظت ببعضهم الآخر، ولاسيّما العسكريين، ضمن خطة للضغط على "إسرائيل" لتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون "الإسرائيلية".

وتكمن أهمية عملية طوفان الأقصى في امتلاك زمام المبادرة أولًا، وثانيًا، ما حققته من اختراق نظرية الأمن "الإسرائيلي"، التي ظلّت مهيمنة لعقود من الزمن، وكيف أُخذ "الإسرائيليون" على حين غرّة؟ ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى دقة التخطيط والتنفيذ والمعلومات الاستخبارية، حيث تم تحديد المعركة والمبادءة في اختيار لحظة الهجوم، وتكاد تكون هذه العملية الجريئة الكبرى والأولى، التي تدار فلسطينيًا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 التحررية، التي حاولت فيها القوات المصرية والسورية مواجهة نظرية الأمن "الإسرائيلي"، حين اختارت هي تحديد لحظة المواجهة، وبدء المعركة، في حين كانت "إسرائيل" في المعارك الأخرى، هي التي تفرض المعركة بشنّها العدوان.

أركان نظرية الأمن "الإسرائيلي"

ساهمت عملية طوفان الأقصى في خلخلة الأركان التي تقوم عليها نظرية الأمن "الإسرائيلي"؛ وأهمها:

أولها – حرب المعلومات: التفوق الاستخباري، ففي جميع حروب "إسرائيل" ابتداءً من حرب العام 1948 أو في العدوان الثلاثي العام 1956 (الإنكلو - فرنسي "الإسرائيلي") أو في عدوان 5 حزيران / يونيو المعروف ﺑ "الأيام الستة" العام 1967 أو في الحروب على لبنان وغزّة وغيرها، كانت الاستخبارات "الإسرائيلية" الموساد، (جهاز الاستخبارات الخارجي، الذي يرتبط برئيس الوزراء مباشرة)، تمتلك معلومات أكثر مما يمتلكه الجانب العربي والجانب الفلسطيني بكثير، بل إن المعلومات الاستخبارية العربية والفلسطينية، كانت شحيحة جدًا، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت هشاشة التفوق الاستخباري والأمني "الإسرائيلي"، حين هاجمت قوات فلسطينية فدائية، لا تزيد عن بضعة مئات، أكثر من عشرين ألف عسكري "إسرائيلي"، وعرضتها للانكشاف، والفضل يعود، في جزء كبير منه إلى الدقة الاستخبارية الفلسطينية والحصافة الأمنية، وخطط التمويه والإيهام، التي قامت بها بسرية كاملة، ناهيك عن الشجاعة في اتخاذ القرار والتنفيذ، على الرغم من امتلاك الاستخبارات "الإسرائيلية" آخر اختراعات العلم وابتكارات التكنولوجيا.

لقد تمكّنت استخبارات المقاومة، على بساطتها وقلّة إمكاناتها، من الحفاظ على سريّة عملها وتحديد ساعة المواجهة، وإنزال ضربة مفاجئة وغير محسوبة بالمنظومة الاستخباراتية والأمنية "الإسرائيلية"، التي لم تكتشف خطة المقاومة، سواء في اتخاذ القرار، أو في التنفيذ والإداء بإعداد محكم ورصين لهذه العملية، التي استغرقت نحو عام من التحضير المضني.

وثانيها – حرب العلوم: التفوّق العلمي والتكنولوجي، وهذه هي الأخرى تمّ التغلّب عليها، حين اختارت المقاومة لحظة الهجوم، وهكذا كانت الإرادة والحق في مواجهة التكنولوجيا والباطل، فلم ينفع ادّعاء "إسرائيل" بامتلاكها أسرار الذكاء الاصطناعي، وتفوقها على الفلسطينيين والعرب، وتصنيف نفسها كدولة متقدمة، فقد تمكنت المقاومة بأدوات وأسلحة بسيطة، وخطة محكمة، أن تحقق نتائج  مذهلة، وأنزلت ضربة غير متوقعة بالقوات "الإسرائيلية"، علمًا بأنها تمتلك أسلحة متطوّرة ومعدّات واستعدادات وتهيئة، ومنظومات دفاع مدعومة غربيًا، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، كما حافظت المقاومة، طيلة الفترة المنصرمة، على سريّة بناء الأنفاق، وجهزتها بأسباب الحياة دون أن تعرف "إسرائيل" وعملائها، فضلًا عن أنها، حتى بعد اجتياح غزة، لم تتمكن من الوصول إليها.

لقد أظهرت، عملية طوفان الأقصى، "إسرائيل" عارية على الملأ، لدرجة أخذت تستنجد بحلفائها لدعمها، وقامت بعد ذلك بعملية انتقامية في حرب إبادة مفتوحة مثّلت فضيحة للضمير العالمي، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن زيف إدّعاءات بعض دعاة حقوق الإنسان وقيم العدالة والحريّة على المستوى العالمي.

وتمكّنت المقاومة خلال هجومها من الحصول على أسرار ومعلومات خطيرة، لا تتعلّق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل على بعض أسرار المنظومة الدفاعية "الإسرائيلية"، وذلك بوضع يدها على كومبيوترات ومعلومات مخزونة وأرشيف كبير، سواء عنها أو عن بعض "المتعاونين" مع "إسرائيل" أو عن المنظومة "الأمنية الإسرائيلية".

وثالثها – حرب الإرادة، وهذه مرتبطة بالسياسة من جهة وبالعقيدة العسكرية من جهة أخرى، فقد كانت "إسرائيل" تدرك أن النجاح في الحرب يعتمد على قرار سياسي أولًا وخطة عسكرية ثانيًا، وسيكون تحديد نتائجها للأقوى، ولذلك كانت دائمًا ما تبدأ بتحديد مكان وزمان المعركة ، وتضع الخطط المسبقة لذلك، ولكن المقاومة، هذه المرّة، كانت هي المبادرة، وهي التي حددت مكان المعركة وزمانها، فألهبت حماسة فلسطين بكاملها، بما فيها داخل الأراضي المحتلة وعرب اﻟ 48، كما يقال، ناهيك عن الضفّة والقدس، وعموم مناصري العدالة والحق على المستوى الكوني.

وسعت المؤسسة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية"، طيلة ثلاثة أرباع القرن، الإبقاء على تفوّقها من جهة، والعمل على تفكيك وإفشال أية محاولة لإعادة بناء القدرات الفلسطينية، عن طريق استراتيجية ما يسمى "قصّ الثيّل" أو "جزّ العشب"، وخلال العقدين المنصرمين عمدت "إسرائيل" إلى شنّ 4 حروب كبرى على غزّة بعد حصارها منذ العام 2007، وقبل عملية طوفان الأقصى، وهذه الحروب العدوانية هي:

الأولى في 27 كانون الأول / ديسمبر 2008 أسمتها "إسرائيل" "الرصاص المصبوب"، أما حماس فأطلقت عليها اسم "حرب الفرقان"، واستمرّت إلى يوم 18 كانون الثاني / يناير 2009.

والثانية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2012 ، وأسمتها "إسرائيل" "عامود السحاب"، ودعتها حماس "حجارة السجّيل" واستمرّت 8 أيام.

أما الثالثة في 7 تموز / يوليو 2014 وأطلقت عليها "اسرائيل" اسم "الجرف الصامد" أما حماس فأطلقت عليها "العصف المأكول" واستمرتّ 51 يوماً، حيث توقّفت في 26 آب / أغسطس 2014 .

والرابعة، في أعقاب "أحداث حي الجرّاح" في القدس والتي شهدت  مواجهات بين سكانها والسلطات "الإسرائيلية"، فانتفضت غزّة وكل فلسطين ما بعد الخط الأخضر تضامناً مع سكان حي الجرّاح في القدس، وشنّت "إسرائيل" عملية عدوانية كبرى أسمتها "عملية حارس الأسوار"، في حين أطلقت عليها حماس "معركة سيف القدس 2021"، حيث بدأ العدوان في 6 أيار / مايو 2021، وتوقّف إطلاق النار بوساطة دولية قادتها مصر في 21 أيار / مايو 2021.

وهكذا كانت "إسرائيل" في حالة "استرخاء" لاعتقادها أن المقاومة لا يمكنها شنّ حرب عليها بسبب الحصار والتجويع ومحاولات التفكيك المستمرة. ولعلّ ما يعزّز مثل هذا الاعتقاد هو بناء الجدار العازل اللّاشرعي واللّاقانوني واللّاإنساني. وبسببه كانت "إسرائيل" تشعر أنها أكثر "أمنًا"، خصوصًا وأن أية محاولة لاجتيازه تستهلك طاقة الفلسطينيين، حيث يبلغ طوله 770 كلم، وتم بناء 406 كلم منه، أي 52.7%، ويتراوح عرضه من 60– 150 مترًا في بعض المواقع، وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار لمنع مرور المركبات والمشاة، علمًا بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارًا استشاريًا في 9 تموز / يوليو 2004 بعدم شرعية  الجدار.

ورابعها – وحدة القرار والتنفيذ (الإرادة والعمل): المقصود بذلك التفوق بوحدة القرار السياسي والعسكري والإعلامي، وهو ما عرفته جميع الحروب "الإسرائيلية"، باستثناء ما بعد عملية طوفان الأقصى، فكان الانشقاق واضحًا، فبنيامين نتانياهو يلوم المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب عدم معرفتها بخطة طوفان الأقصى، سواء في مرحلة التخطيط أو الإعداد أو حين التنفيذ، وهذا يعني فشل المنظومتين الأمنية والعسكرية، في حين أنهما يلقيان اللوم على نتانياهو لتوريطهما في حرب مفتوحة  والخسائر التي منيت بها "إسرائيل"، وكلاهما يترصّد للآخر، فنتانياهو يريد زجّ الجيش بمعارك لا حدود لها، حتى لو سقط المئات من الجنود والضباط في هذه المعركة، بما في ذلك لو تم التضحية بالأسرى "الإسرائيليين"، طالما تؤدي إلى استمرار الحرب، لأنه يريد أن يظهر بمظهر "البطل"، كي يحمي نفسه بعد انتهاء المعارك من المثول أمام العدالة بتهم الفساد والتزوير، وبالمقابل، تترصّد له المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تريد إنهاء المعارك حقنًا لدماء الجنود واستعجالًا بمحاكمته.

ولعلّ ما أوقع "إسرائيل" في هذا الصراع، هو ازدياد حالات التذمر الشعبي، خصوصًا ضغوط عوائل الأسرى، والخسائر التي تعرّضت لها خلال عملية اجتياح غزّة، وذلك بعد تجريف الأجزاء الشمالية منها ودفع سكانها للهجرة إلى رفح باتجاه الحدود المصرية، فبعد أن كانت جميع الحروب "الإسرائيلية" تحظى باتفاق عام من الجيش والمستوطنين وسكان "إسرائيل"، فإن هذه الحرب أظهرت الانقسام الحاد بين حكم معزول ورئيس وزراء متّهم وجيش متذمّر، ومؤسسة أمنية مرتبكة، والأكثر من ذلك فإن الانقسام الشعبي والاصطفافات ضدّ حكومة نتانياهو التي سبقت الحرب ازدادت عمقًا، وآخرها امتناع وزراء من حضور اجتماعات مجلس الوزراء، وإعلان قادة عسكريين سابقين عن موقف مناقض لمواقف نتنياهو، وقرار جديد من المحكمة العليا بالتحقيق فيما حصل بطوفان الأقصى، حتى قبل انتهاء المعارك، وتلك مسألة تحدث لأول مرّة.

الحرب النفسية

لم تخلخل عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن "الإسرائيلي" فحسب، بل عملت على تبهيت صورة الجيش "الإسرائيلي" ، الذي لا يقهر وأسطورته، والذي يُقال عنه أقوى رابع جيش في العالم من حيث القدرات القتالية، والجيش الثامن عشر دوليًا، وهكذا انهارت صورة الردع "الإسرائيلي"، فالمحاصَرون والمجوَّعون انتصروا في لحظة تاريخية فارقة أذهلت العالم، الأمر الذي أدّى إلى استنفار حلفاء "إسرائيل"، الذين تسابقوا إلى تقديم النجدة العاجلة لها، والحج إلى تل أبيب حيث وصلها الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجية الولايات المتحدة بلنكن  ووزير دفاعها أوستن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك والرئيس الألماني فرانك شتاينماير ورئيس إيطاليا سيرجيو ماتاريلا، وهو ما وفّر لها غطاءً معنويًا لشن الحرب المفتوحة على المدنيين، ورفض أي مطالبة بوقف العدوان، ترافقًا مع الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، بحجّة:

1- استعادة الرهائن.

2- القضاء على قادة حماس وتفكيك بنيتها التحتية وإخماد أي صوت للمقاومة.

3- فرض سلطة أمنية جديدة على غزّة، صديقة "لإسرائيل".

4- تشطير غزّة ببناء حاجز يفصل بين شمالها وجنوبها.

5- تغيير نمط تفكير من يتبقى في فلسطين بتسفيه فكرة المقاومة، وإظهار عدم جدواها لقبول الأمر الواقع.

ودارت دورة الحرب النفسية الناعمة أيضًا في محاولة استبدال الوعي بالنصر لتحويله إلى موت ودموع ومأسي، وذلك بعد فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، فضلًا عن فشلها في تسويق روايتها بخصوص قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكأن همّ المقاومة ذلك، ناهيك عن أن العملية كلّها استغرقت 3 ساعات، فكيف يمكن أن يحدث ما هدفت "إسرائيل "إلى تسويقه؟ وللأسف فإن رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، ردّد ذلك، وعاد واعتذر عند قصف "مستشفى المعمداني"، باتهام جهات موالية لإيران، ثم ثبت أن الصاروخ أمريكي وهو مستخدم لدى جيش الدفاع "الإسرائيلي".

ومثل هذا الأمر ينبغي وضعه ضمن خطط المقاومة، لاسيّما استخدام كلّ ما يتعلّق بوسائل الحرب الناعمة، ووفقًا للذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة.

المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني

إن هدف رسالة الردع "الإسرائيلية" هو الإرهاب، ولذلك انفلتت عمليات التهديد لدرجة أن الأمر وصل إلى بيروت، التي هُدّدت بمصير غزّة، وبدأت مع ذلك المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني، فقد كانت المحطة الأولى هي إقامة "إسرائيل" العام 1948 بعد قرار التقسيم من الأمم المتحدة (1947).

ثم المحطة الثانية وهي احتلال كامل فلسطين، بما فيها القدس العام 1967، وضمها بقرار من الكنيست إلى "إسرائيل" (1980)، واعتبارها "عاصمة أبدية موحدة لها".

أما المحطة الثالثة، فهي التي بدأت مع طوفان الأقصى في العام 2023، بشن حرب إبادة ومجازر مروعة، باعتبار أن الفلسطينيين "حيوانات" يمكن تسويتهم بالأرض بهدف التهجير (ترانسفير)، والسيطرة على الأرض مجددًا (إعادة الاحتلال)، وتلك صفحة جديدة من صفقة القرن، التي يمكن شمولها لدول عربية أخرى، مثل الأردن (حسب ليبرمان) وسوريا ولبنان ومصر والسعودية والعراق واليمن، وإن كانت على مراحل.

وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد مرّتا، وحققت "إسرائيل" جزءًا من أحلامها التوسعية، فإنه بعد عملية طوفان الأقصى، بدى الأمر مختلفًا، على الصعيد الفلسطيني اولًا، وهو ما سيترك تأثيره عربيًا لاحقًا، وسيكون الأمر مؤثرًا كذلك على المستوى العالمي، فبعد أن خفت الحديث عن حلّ الدولتين، وطويت المبادرة العربية (بيروت 2002)، "الأرض مقابل السلام"، التي تعاملت معها "إسرائيل" باستخفاف كبير، ومعها حليفتها واشنطن، والتي كانت تريد من العرب "التسليم بالأمر الواقع" وركوب قطار التطبيع بلا عودة، وإذا بحديث الدولتين يعود بقوّة على المستوى العالمي، ويتصاعد الكلام في الأمم المتحدة وخارجها عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، طبقًا للقرارات الدولية.

سيناريوهان

شكل الارهاب جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، منذ ولادتها في نهاية القرن التاسع عشر، ونظر لها عرابوها من هيرتزل إلى جابوتينسكي، وتقوم الفلسفة الصهيونية على الإرهاب كنظرية عمل ونظرية حياة انطلاقًا من اعتبار "اليهود شعب الله المختار"، والشرط الجوهري لبلوغ ذلك، ليس سوى الإرهاب والعنف لمواجهة الوحوش الضارية، حسب هيرتزل، ووفقًا لجابوتينسكي تحطيم كل من يقاوم الصهيونية.

لا أحد يستطيع أن يقدّر متى ستنتهي الحرب وكيف ستنتهي؟

سيناريوهان يتصدّران المشهد، في الممكن وغير الممكن على المدى المنظور، أحدهما "إسرائيلي"، والآخر "فلسطيني"، الأول عاد بقوّة بعد عدم إمكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، إلى ممارسة الاغتيالات، والتي هي جزء من الفلسفة الصهيونية، فقد لجأت "إسرائيل"، خلال حرب الإبادة، إلى اغتيالات خارج دائرة العمليات الحربية فأقدمت على اغتيال رضا موسوي في دمشق وصالح العاروري (القيادي في حماس) في بيروت وقيادي من حزب الله في الجنوب اللبناني، وتزامنًا مع ذلك، اغتالت القوات الأمريكية مشتاق طالب السعيدي في بغداد من (الحشد الشعبي)، في إطار عمليات الانتقام من طوفان الأقصى.

السيناريو "الإسرائيلي" يريد استثمار التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي كي ما يؤدي إلى تغيير جيوسياسي، وذلك في الوعي والثقافة في الحاضر والمستقبل لإسدال الستار على القضية الفلسطينية لتصبح "ذكرى" أو "تاريخ"، والتمهيد لذلك يتم عبر تقطيع أوصال غزه، وتهجير سكانها وإيجاد من يقبل التعامل مع "إسرائيل"، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أشهر على شروع "إسرائيل" بحرب إبادة، فقد اضطرّت إلى سحب 5 فرق جديدة خارج غزّة، بعد فشلها من تحقيق أهدافها، كما سحبت لواء نخبة النخبة من الجولان، في محاولة لإعادة الانتشار، خصوصًا في ظلّ الضغوط التي تعرّض لها رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، والصراع بين القرار السياسي والقرار العسكري، بالرغم من الحرب المفتوحة، التي شنّتها "إسرائيل" على شعب أعزل،

أمّا السيناريو الثاني (الفلسطيني)، فإنه يقوم على إرغام "إسرائيل" على الحدّ من الاعتداءات على المسجد الأقصى، التي تكرّرت خلال السنوات الأخيرة، منذ محاولة حرقه في العام 1969 على يد مايكل دينيس روهان، وهو متطرّف من أصل أسترالي، إلى اليوم، علمًا أن المسجد الأقصى ليس رمزًا إسلاميًا فحسب، بل هو رمز تاريخي كوني، وهو ما أظهرته اليونيسكو يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 خلال اجتماع في العاصمة الفرنسية باريس بقرارها رقم 200، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بـالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثًا إسلاميًا خالصًا، بالضدّ من ادّعاءات "إسرائيل" وحفرياتها لإثبات عكس ذلك بزعم "وجود الهيكل".

ومن نتائج طوفان الأقصى، وقف قطار التطبيع، التي سارعت إلى ركوبه بعض الدول العربية، ظنًا منها أنه يمكن أن يساهم في عملية السلام في المنطقة، فضلًا عن الوقوف ضدّ مخطط تصفية القضية الفلسطينية، الذي كان يُراد له، في إطار صفقة القرن أن يدخل مرحلة التنفيذ لإنهاء فكرة قيام دولة، والقبول بالأمر الواقع ليصبح واقعًا، ومن النتائج الأخرى المحتملة، ضمن السيناريو الفلسطيني، إنهاء الحصار المفروض على غزة والذي يستمر منذ نحو 17 عامًا، فلم يعد ذلك مقبولًا ، ولا بدّ من التفكير في مسارات أخرى، خصوصًا بعد أن ساهمت عملية طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع "الإسرائيلي"، فضلًا عن التحوّل الكبير في الرأي العام العالمي لصالحها، حتى أن جنوب أفريقيا قدّمت طلبًا إلى محكمة العدل الدولية بشأن فتوى استشارية بخصوص ارتكابات "إسرائيل" في غزّة.

فأي السيناريوهين سيكون قريبًا من الواقع؟

لعل دروس تاريخ المقاومات تعلّم أن القوّة العسكرية والجيوش النظامية مهما أوتيت من جبروت وقوّة وامكانات علمية وتكنولوجية واستخباراتية، فإنه ليس بامكاننا تحقيق النصر على الشعوب الحرّة المكافحة من أجل استقلالها وحريتها وحقها في تقرير مصيرها، ومثالنا الحرب الأمريكية على فيتنام (1962- 1975)، حيث اضطرت في نهايه المطاف إلى تجرّع طعم الهزيمة على الرغم مما ألحقته من خسائر بالفيتناميين.

صحيح ان الحرب غير متكافئة، حيث لا يمكن قياس التفوق العسكري "الإسرائيلي" بإمكانات المقاومة الفلسطينية عسكريًا، لكنها فشلت في القضاء على حماس، بل أن الأخيرة أعادت طرح القضية الفلسطينية كمحور للصراع في المنطقة، بل قضية عربية مركزية، ويعكس الاهتمام الإقليمي والدولي بها شعوبًا وحكومات، ناهيك عن الرأي العام العالمي، بأنه لا بدّ من حلّ عادل ومقبول، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال إن آجلًا أم عاجلًا.

ويعود الفضل في كشف الوجه العنصري "لإسرائيل"، بكل سفور ودون براقع أو تزيين، إلى المقاومة، لدرجة أن نفورًا حصل في الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة، والذي كان باستمرار مؤيدًا "لإسرائيل"، وإذا بأعداد كبيرة من الشباب، أخذت تطالب بوقف الحرب، وتحمّل إستمرارها "لإسرائيل"، وتلك من الظواهر الجديدة التي أفرزها العدوان على غزّة، والبشاعة التي استخدمت فيها.

إن عملية طوفان الأقصى، وردّ الفعل "الإسرائيلي"، إنما هي صفحة جديدة ومهمة في صراع الإرادات والعقول، حيث تكون المطاولة فيها متنوّعة ثقافيًا وقانونيًا وديبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، حيث لا تنتهي المعركة بجولة واحدة، لأنها طويلة الأمد، ولكن النتيجة لن تكون إلّا لصالح الشعوب مهما طال أمد الصراع.

***

د. عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكر عربي من العراق

 

ظلت روايات الجاسوسية منذ بداياتها فنا ينتمي إلى أدب المغامرات في الدراما العربية والسينما العالمية حتى بدأت الصراعات الدموية والنزاعات المسلحة تفرض أحداثها المأسوية وجودها على خيالات رجال الفن السابع من خلال سيناريوهات جرى إعدادها من واقع الأحداث التي وثقتها تقارير الاستخبارات.

يجمع العديد من النقاد وأصحاب الأقلام الفنية على أن صورة اليهودي في الدراما التلفزيونية والسينمائية في مصر كانت إيجابية قبل بدأ الصراع العربي الصهيوني، حيث ظلت معظم الأفلام تصف اليهودي بالمرابي والبخيل بشكل كوميدي فقط وليس بنظرة عدوانية، والمفارقة ان معظمها كان من إخراج توجو مزراحي المخرج اليهودي الشهير، ويدلنا تاريخ السينما المصرية إلى تحولات مهمة لحقت بشخصية اليهودي فيها وفقا لطبيعة تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، ففي المرحلة الأولى أي تلك التي لم تكن مسألة العداء للصهيونية قد ظهرت فيها بوضوح، ظهر اليهودي إنسانا عاديا دون توصيفه بصفات سلبية وعرضت السينما أفلام أبطالها من اليهود مثل " شالوم الرياضي" وهو شخصية طيبة تساعد فريق رياضي كروي على كسب فرق أخرى أجنبية، وكذلك فيلم " شالوم الترجمان" وسلسلة أخرى بطلها شالوم ظهرت فيها شخصية اليهودي دون سلبيات، كما عكست بعض الأفلام الحديثة نسبيا مثل" فاطمة وماريكا وراشيل" و " حسن ومرقص وكوهين " حالة التعايش السلمي التي كان يحياها اليهود داخل المجتمع المصري باعتبارهم جزء من نسيجه.

ولكن بدأت الصورة السلبية بالظهور في أعقاب حرب 1948 وقيام الدولة الصهيونية، وسرعان ما تنامت بعد ذلك بعد حرب أكتوبر 1973 ويمكن اعتبار فيلم " الصعود إلى الهاوية عام 1978أحد الأفلام المهمة في صراع الدراما الاستخباراتية وهو يتحدث عن جاسوسة خطيرة عملت لصالح الكيان المحتل في الخارج وتم الإيقاع بها من خلال ضابط مخابرات مصري، ثم توالت المسلسلات التي ترسم ملامح أخرى لشخصية العدو وطرق محاربة سلوكه العدائي مثل " دموع في عيون وقحة" ثم " رأفت الهجان" و"السقوط في بئر سبع" و" الثعلب" و"الحفار" و"حرب الجواسيس " بالإضافة إلى أفلام الجاسوسية مثل" مهمة في تل أبيب" و" إعدام ميت" وكلها من وقائع مأخوذة من ملفات المخابرات العامة المصرية يعتبر الكاتب ماهر عبد الحميد صاحب أول عمل روائي يستند إلى وقائع من ملفات المخابرات في عمله الأدبي الموسوم " قصتي مع الجاسوس" المنشور في عام 1968 وكان آخر السلسلة من كتّاب قصص المخابرات هو الكاتب الدكتور نبيل فاروق صاحب سلسلة الكتب البوليسية الشهيرة " رجل المستحيل " وظلت المخابرات العامة هي التي تنشر الأعمال الأدبية إلى أن تبينت فيما بعد خطورة هذا العمل بعد اكتشاف أن هناك من قام بتحليلها لاستنباط أشياء معينة من بين السطور، وظهر بعد ذلك كتّاب آخرون استندوا إلى قصص حقيقية، ثم كان ظهور الكاتب صالح مرسي أشهر من كتب قصص المخابرات وأجاد حبكتها ليمثل انقلابا حقيقيا في هذا النوع من الروايات، ويجمع النقاد على أنه نجح في جعل الجاسوس في رواياته شخص له مشاعر وأحاسيس .

كان آخر حلقة من حلقات سلسلة الصراع الدرامي المخابراتي هو مسلسل " فارس بلا جواد " بطولة الفنان القدير محمد صبحي المأخوذ عن مذكرات الصحفي والمؤلف الراحل حافظ نجيب الذي تمتع بحس المغامرة واشتهر بقدرته العالية في التنكر والاحتيال وانتحال الشخصيات، ترك هذا المسلسل أثرا مزعجا في أوساط المنظمات الصهيونية حيث نقلت الصحافة الأجنبية تقارير عديدة عن هذه المنظمات عكست فزعها الشديد من تعرض المسلسل لكشف أو فضح بروتوكولات حكماء صهيون وبلغ الفزع حد المطالبة بتدخل وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت كولن باول وحثه على ممارسة الضغط على الحكومة المصرية لوقف عرضه إذ اعتبرت عرض المسلسل مظهرا من مظاهر التحريض على معاداة السامية، وتمكنت فعلا المنظمات الصهيونية من الحصول على قرار بالإجماع من الكونجرس الأمريكي بإدانة المسلسل .

لقد كسبت دراما المخابرات معارك الوعي، وساهمت في مهمة تنمية الشعور الوطني في مواجهة ضلال المعتقدات وزيف المبادئ التي تتعلق بالأرض والهوية والانتماء، واستطاعت دراما المخابرات المصرية تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفي لخدمة تعميق الوعي الوطني، وكذلك في بعث رسائل ضمنية ذات مغزى ومعنى موجهة للجهات الخارجية .

تميزت المعالجة الدرامية لأحداث أمنية خفية وقعت بالفعل بقدر كبير من الجاذبية الخاصة التي حققت التفرد باهتمام الجمهور لما تمتعت به من أهمية وحرفية عالية، ونجحت في فضح خيانات ترتكب باسم حقوق الانسان عبر منظمات تلتحف بستار المجتمع المدني، وفي إزاحة الستار عن زيف الإعلام المضاد وكشف حملات الترويج للمخططات الهدّامة والمؤامرات. أصبحت دراما المخابرات بمثابة سيرة ذاتية لأبطال حقيقيين كان لهم تأثير قوي في جهود ضمان الأمن والسلامة لأوطانهم وحملت أعمالهم الكثير من الإسقاطات على الحاضر، وهكذا يعمل الانتاج الدرامي في مصر على إعادة كتابة التاريخ وتصحيح من علق به من مغالطات وتشوهات .

***

صبحة بغورة

أخشى – ما أخشاه - أن يستيقظ العالم بعد فوات الأوان فيجد أهل غزّة، إمّا في القبور أو في الشتات أو في العراء أو جرحى في انتظار الموت السريع أو البطيء. وما جدوى البكاء والتنديد والاستنكار وصراخ الجماهير في الشوارع بعد إتمام فصول المذبحة في غزّة؟ إنّ البكاء على غزة بدعة العاجزين. فإنّ دماء الغزّاويين ودموعهم ستجرف عروش الخائنين والصامتين والمدبرين والمطبّعين والمستسلمين وأشباههم كلّهم.

ماذا جنى أطفال غزّة وصبيانها ونساءها وشيوخها حتى تسلّط عليهم الصهيونيّة والغرب معا كلّ هذه الألوان من العذاب المادي والمعنوي؟ لماذا عجز الضمير الإنسانيّ عن وقف الآلة الحربيّة الصهيونيّة عن ارتكاب هذا الكمّ الفظيع من الجرائم في غزّة؟ ماذا ينتظر العالم (الحرّ، المتحضّر) كي يوقف الجنون الصهيوني الأرعن، لم يشهد العالم مثيلا له في هذا العصر الحريص على حقوق الإنسان والحيوان؟ هل فقد العالم (الافلاطوني، الديمقراطي) البصر والبصيرة والسمع والفؤاد والحياء أمام مشاهد الدمار والإبادة؟ أم أنّ أهل غزّة والضفة كائنات خارج المنظومة البشريّة؟

إذا لم تُصنّف جرائم الصهاينة في غزّة في خانة الإبادة الجماعيّة والسلوك الهولوكوستي الشنيع، ففي أيّ خانة تُصنّف؟ الإبادة الممنهجة متواصلة على قدم وساق. والضحايا من كلّ مكوّنات المجتمع الفلسطيني يرتقون في كلّ دقيقة إلى ربّهم، والعالم مازال يمارس طقوس اللامبالاة والتجاهل والتماطل ولسياسة العمياء والتغاضي. إنّهم يمنحون مزيدا من الوقت للكيان الصهيوني من أجل رفع فاتورة الانتقام، ومزيدا من القبور لأطفال غزّة ونسائها وساكنتها عامة. لقد فهم الأحرار، لماذا فقدت أمريكا وأعوانها وأذنابها العقل والضمير الإنساني؟ إنّهم، جميعا، يريدون أن يحوّلوا غزة إلى مقبرة جماعيّة، تكون شاهدا على قوّة الغرب حين يغضب، ودرسا قاسيّا للشرق حين يتجرّأ على معاداة الغرب. وللأسف مازال القتلة للفلسطينيين في غزّة والضفة والقدس وفي المنافي وفي مخيّمات اللجوء، يسخرون من العالم، ويخاطبون العالم بلغة عاريّة من الحقيقة، متخمة بالكذب والادّعاء. يصفون جيشهم البربري بأنّه جيش دفاع وهو يهاجم الأبرياء، وأنّه جيش أخلاقيّ، ويعدم الأبرياء معصوبي الأعين، وقيّدي الأيدي وراء ظهورهم، يهدم آلاف الأطنان من الأسمنت على رؤوس الأطفال والنساء زاعما أنّه يحارب الإرهاب. وهل أصيب الساسة الغربيّون الداعمون بالعمى والصمم والبكم أمام تلك المشاهد المروّعة التي فاقت فظاعتها الخيال وتعدّت الجنون؟

إنّه لأمر يُحيّر الألباب، ويُشيِّب الولدان، أن يرتكب الصهاينة هذا الكمّ الفظيع من جرائم الإبادة الجماعيّة في غزّة، والأمم التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان لا تحرّك ساكنا، وكأنّ الذين يُقتلون بالأسلحة الغربيّة في غزّة ليسوا من سلالة البشر. هل اقتنع الساسة الغربيّون أن الكيان الصهيوني لا يقاتل في غزّة بشرا، بل حيوانات ووحوشا كما قال وزير دفاع العدو الصهيوني. إنّهم يمارسون الحرب من أجل الحرب، او كما قال توماس دو كوانسي: " الحرب صارت من الفنون الجميلة ". والصواب، أنّها صارت من الفنون القذرة. إنّ جيش الاحتلال الصهيوني الذي اقتحم غزّة بعد السابع أكتوبر، لم تكن مهمّته تحرير الرهائن لدى الفصائل الفلسطينيّة، بل كانت مهمّته القتل والتخريب،" ما أشبهه بذلك الضابط الذي يتحدّث عنه روبير ميرل في روايته " مهنتي هي القتل "، وهي شبيهة بفكرة شانغارينيي، لأنها تكشف عن الرغبة المسيطرة على نفوس العسكريين، وهي نيل المجد، وإخضاع البلاد. إنّها الحرب، أو التغنّي الرومنسي بالتقتيل " (1)

و قد كتب القبطان كلير: " إنّ الحرب التي نقوم بها اليوم في الجزائر حرب استثنائية.. فلا تُتّبع فيها القواعد المقررة في الحروب الكبرى والصغرى، والانضباط بين الجنود قليل، والتكوين العسكري يكاد يكون مفقودا، وكل ضابط يتصرّف كما يريد.. " (2)

لقد اقتحم مشاة الموت والطوابير الجهنّميّة لصهيونيّة غزّة من أجل ممارسة حرفة القتل والإبادة الجماعيّة المعتادة، منذ النكبة الأولى.

الزائر أو العائد اليوم إلى غزّة من معبر رفح، أو أيّ زاوية أخرى، سيكتشف عالما آخر من الخراب والدمار. لم تنج من آليات العدو الجارفة، ودبّاباته البيوت والمحلاّت والطرقات والأشجار. منظر يفوق منظر المدن الساحلية التي ضربها التسونامي ذات يوم. مشهد دراميّ يفوق ما آلت إليه هيروشيما ونكازاكي إثر إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما في الحرب العالمية الثانية. يتساءل الشاهد والألم يعصر قلبه: هل، حقّا، مرّ من هنا بشر؟ هل يمكن يصدّق المرء العاقل مقولة، من هنا مرّ جيش الدفاع الصهيوني، بل عصابات جيش الهجوم الصهيوني؟ لا، يمكن أن نصدّق أنّ بشرا مرّوا عبر شوارع مدن وقرى غزّة. بشرا لهم عيون وقلوب ومشاعر وعقول. إنّ الشاهد، ليتعجّب، كيف يصدر هذا السلوك الهمجي التتاري من آدميّ يدّعي الانتماء إلى العرق السامي زورا وبهتانا؟

لقد وصف المؤرخ روسي العمل الإجرامي الذي أقدم عليه الكولونيل بيليسيي سنة 1845 م في منطقة الظهرة بغرب الجزائر حين أحرق عرش أولاد رياح في إحدى المغارات التي فرّوا إليها ولجأوا فيها قائلا: " كان الحريق قد وصل إلى أمتعة اللاجئين. وفي الليل خُيّل للجنود أنّهم يسمعون ضجة لا تكاد تبين، وصيحات خافتة، ثم ساد صمت عميق. وفي وقت مبكر من الصباح استطاع بعض الرجال أن يخرجوا من المغارات فسقطوا مخنوقي الأنفاس أمام الحرس، وكان الدخان الذي انتشر في المغارات كثيفا مؤذيا إلى حدّ أنّ الجنود لم يتمكنوا في بداية الأمر من الدخول. على أنّنا كنّا بين الحين والآخر نرى مخلوقات بشريّة مشوّهة تخرج من المغارات زحفا على البطون، فيحاول آخرون ممن بقي متمسّكا بمبادئه إلى آخر رمق أن يمنعوهم من الخروج. وحينما تمكنّا في آخر الأمر من زيارة ذلك الجحيم بعد أن خمدت فيه النيران، عددنا أكثر من خمسمائة من الضحايا، ما بين رجال ونساء وأطفال. وقد أصيب جميع الحاضرين بوجوم شديد لهول الفاجعة " والحقيقة أنّ قوله " أكثر من خمسمائة من الضحايا " يعني ما يزيد على الألف. (3)

أمّا المسلمون؛ بعربهم وعجمهم، بجامعتهم الأعرابيّة ومنظمتهم الإسلامويّة، فينطبق عليهم المثل العربي السائر: أحشفا وسوء كيلة. فقد اجتمت فيهم خصلتين؛ الصمت والعجز. لقد خذلوا أهل فلسطين في غزّة ولم ينصروهم، واعتقدوا أنّ القضية قضيّة خبز وطحين وكفن لدفن الشهداء. ونسوا أنّ غزّة والأقصى وفلسطين كلّها ثارت من أجل الحريّة والعزّة والكرامة. لقد خدع المسلمون فلسطين منذ النكبة الأولى 1948 م، وادّعوا أنهم منتصرون لها ومدافعون عنها ومجنّدون للشهادة أو النصر من أجلها. اجتمعت ألسنتهم وتفرّقت قلوبهم، بينا الكيان الصهيوني يتباكى بكاء التماسيح إلى أن استعطف الغرب واستماله وانتفع من مساعداته.

و انخدع الفلسطينيّون، وظنّوا أنّ أبناء العمومة وإخوان العقيدة، سيعيدون لهم أرضهم المغتصبة. ونسيّ الفلسطينيّون أنّ الحريّة لا تؤخذ بالوكالة، وأنّ الثورات التحرّرية قادتها ومجاهدوها وشهداؤها أبناء الوطن. وليتهم استلهموا ذلك من ثورة نوفمبر الجزائريّة، وكفاح جنوب إفريقيا والثورات التحرريّة في إفريقا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة. لقد صدّق الفلسطينيّون أبناء العمومة وإخوان الملّة، بينا الكيان الصهيوني يكبر يوما بعد يوم، ويُعدّ العدّة والعدد في السرّ والعلن. إلى أن أمسى غولا يهابه أبناء العمومة، ويسعون للتطبيع معه سياسيا وثقافيّا واقتصاديّا وعسكريّا. إنّها الطامة الكبرى أيّها السادة.

لقد مارست ألمانيا الإبادة الجماعية في ناميبيا من عام 1904 إلى عام 1908، ومارست فرنسا الاستعمارية الإبادة الجماعيّة من 1830 إلى 1962 م، ومارس المهاجرون الأروبيّون الإبادة الجماعيّة في العالم الجديد) القارة الأمريكيّة، جنوبها وشمالها) وفي أستراليا، ومارس قبلهم النصارى القشتالبيّن بقيادة إيزابيلا وفرديناند الإبادة الجماعية بُعيد سقوط الأندلس ومارست إيطاليا الإبادة الجماعيّة في ليبيا،ى ومارست الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي تعتقل تمثال الحريّة الإبادة الجماعيّة في هيروشيما ونكازاكي وفي الفيتنام والعراق وأفغانستان ومارس الصرب العنصريّون الإبادة الجماعيّة في سيبرينيتشا البوسنيّة. إذن، الإبادة الجماعيّة فلسفة غربيّة استعماريّة ممنهجة ومقصودة، هدفها القضاء على الآخر قضاء مبرما. والصهاينة هم تلاميذ الغرب، وهم خريجو المدرسة الغربيّة الاستعماريّة الإرهابيّة. إنّ ظاهرة الإرهاب، التي أرّقت العالم، وبثّت الرعب في الشعوب، وشغلت المنابر السياسيّة، هي صناعة غربيّة مخابراتيّة خالصة، سواء بأيد غربيّة خالصة، أو بأيدي مرتزقة وعملاء من الشرق والغرب. هدفها السيطرة على مقدّرات الشعوب المستضعفة. ظاهرة الإرهاب نابعة من فلسفة غربيّة استعماريّة، آلياتها قائمة على إلغاء الآخر والسيطرة عليه. أصولها لاهوتيّة ثيوقراطيّة ÷دفها الأساسي محاربة الإسلام وكل ما هو مظهره دينيّ. لا عجب، ونحن نشاهد يوميّا إبادة جماعيّة ممنهجة في قطاع غزة والضفة وكامل فلسطين تقودها عصابات إرهابيّة صهيونيّة لا تمتّ لليهوديّة والإبراهميّة بصلة، بل هي خطر داهم على اليهود الذين لم ينخرطوا في التيار الصهيوني، ويبدون للعلم، علنا، معارضتهم للإيديولوجيّة الصهيونيّة القائمة على القتل الفردي والجماعي، بقيادة رهط من الصهاينة في فلسطين والغرب عموما. لنكن، واضحين وعادلين، وموضوعيين ونسال الغرب المتصهين – ونحن نتوقع نوع الإجابة سلفا: من هو الإرهابي الحقيقي؟ هل الذي يدافع عن أرضه وعرضه وماله ومقدّساته وحريّته إرهابيّ، أم المغتصب الظالم، القادم من الشتات، المقتحم لبيوت الامنين؟ إنّ الإجابة واضحة، لا لبس فيها. والعجيب في هذا العالم المكشوف العورة، أن نسمع زعماء الإرهاب الصهاينة في فلسطين المحتلة وفي الغرب، يزعمون بأنّ حربهم على أطفال غزّة ورضّعها وخدّجها ونسائها ومرضاها، هي حرب على الإرهاب. هكذا انقلبت موازين القيّم الإنسانيّة في الغرب المتصهين، وهو انقلاب قديم. فقد قامت الثورة الفرنسيّة بإسقاط الملكيّة والاستبداد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ورفعت شعارها المزيّف (الحريّة، الأخوة، المساواة) و، وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر، كانت سفنها الحربيّة تنزل الغزاة على شاطيء سيدي فرج غرب الجزائر العاصمة. وأعدمت، بل وأبادت فرنسا الاستعماريّة أكثر من خمسة ملايين جزائري. لقد خاضت فرنسا الاستعماريّة حربا صليبيّة في ربوع الجزائر من أجل القضاء على الإسلام واللغة العربيّة والسيطرة على الثروات ونهبها. وهذا بشهادة عساكرها وضباطها المجرمين. كتب الكولونيل فوري في سنة 1843 م عن غزو الجزائر: " انطلقت من مليانة وشرشال سبعة طوابير بهدف التخريب واختطاف أكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص اختطاف النساء والأطفال، لأنّ الوالي العام (وهو بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا، أن يلقي الفزع في قلوب السكان " (4) وأضاف: " اختطفنا في هذه الحملة ثلاثة آلاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في ما يزيد على عشرة من القرى الكبرى، وقطعنا أو أحرقنا أكثر من عشرة آلاف من أشجار الزيتون والتين وغيرها " (5). أمّا أبناء الجزائر، المقاومون، الشجعان، الأحرار، فقد استشهدوا وسالت دماءهم الطاهرة فداء للحريّة والكرامة. استعملت فرنسا وسائل الإرهاب كلّها من أجل إخضاع الأمّة الجزائريّة لإرادتها، استعملت أساليب الإبادة الجماعيّة (تدمير القرى والمداشر والدواوير) وتفقير الشعب وتجويعه، والتعذيب والنفي والإعدام بالمقصلة وبالرصاص والحصار بالاسلاك الشائكة المكهربة (خطا شال وموريس) واستعملت أفرادا جزائريين في تجاربها النوويّة بالصحراء (منطقة عين إن إيكر ووادي الناموس) وأقامت المحتشدات. كان الإرهاب الفرنسي فظيعا لا يقل فظاعة عمّا يقوم به الصهاينة في غزّة اليوم. وارتكبت الفاشية الموسولينيّة الإيطاليّة أفظع جرائم الإبادة الجماعيّة في ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين.

إنّه لمن المؤسف – حقّا – أن تتصدّر الولايات المتحدة الأمريكيّة الدول الكبرى الداعمة للإبادة الجماعيّة في غزّة – وهي جريمة إرهابيّة شنيعة -. أليست هي الدولة التي ينتصب على أرضها تمثال الحريّة وتضم مكاتب الهيئات الدوليّة المعتمدة؛ مجلس الأمن والجمعية العموميّة للأمم المتحدة وغيرها؟ أليس من التناقض العجيب أن تستغّل الولايات المتحدة الأمريكيّة حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار وتعطيل السلام في الشرق الأوسط؟

***

بقلم: علي فضيل العربي – ناقد وروائي جزائري

...............................

هامش: 1، 2، 3، 4، 5 – مصطفى الأشرف – الجزائر الأمّة والمجتمع – ترجمة د. حنفي بن عيسى – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – 1983.

 

في أعقاب نتائج قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في الأول من فبراير في بروكسل، تم اعتماد برنامج مدته أربع سنوات لمساعدة أوكرانيا في الميزانية بقيمة 50 مليار يورو، وقرر زعماء 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، أنه بحلول عام 2027 ستحصل كييف على قروض بقيمة 33 مليار يورو، وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل إنه سيتم إرسال 17 مليار يورو أخرى إلى أوكرانيا مجانا، وقال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كروس، إن الأموال مخصصة لتسليح القوات المسلحة الأوكرانية، وكذلك دفع رواتب موظفي الدولة الأوكرانية، وكانت المؤامرة الرئيسية تدور حول مصادر التمويل.

وشكك الكثيرون في إصرار المفوضية الأوروبية على تنفيذ قرار تخصيص 50 مليار يورو لكييف، ومع ذلك، كانت هناك شكوك حول الاتفاق على المبلغ وحول مصادر التمويل لهذا البند، الذي كان بمثابة نفقات كبيرة حتى بمعايير أوروبا الغربية بالنسبة لدولة ليست حتى عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكانت مكيدة أخرى مرتبطة بسلوك المجر، التي نجحت في السابق في منع هدر الأموال من وعاء الاتحاد الأوروبي المشترك للمغامرة الأوكرانية، وطالب بمراجعة الإنفاق ليس فقط على الأموال المخصصة لكييف، ولكن أيضًا على الإمدادات العسكرية.

ورأى عدد من البيروقراطيين الأوروبيين أن "يد الكرملين" تقف وراء هذا الموقف الرسمي لبودابست، إلا أن الساسة المجريين ألمحوا في البداية بكل شفافية، ثم بدأوا يتحدثون بشكل مباشر عن الوضع غير الطبيعي حين تنتقم المفوضية الأوروبية من دولة ذات سيادة في الاتحاد الأوروبي لاحترامها المصالح الوطنية، وتم اختيار التمويل كسلاح للانتقام - حيث تم منع Frau von der Leyen من تخصيص الأموال المستحقة للمجر تحت ذريعة بعيدة المنال، في الوقت نفسه، كان العمل جاريًا على ضخ أموال الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، حيث تم رسملتها على الفور من قبل ممثلي نظام زيلينسكي الفاسد تمامًا.

كما حاولت المفوضية الأوروبية حرمان الدول الأعضاء من حق النقض، فقامت السيدة أورسولا بعمل كبير في هذا الاتجاه، لكنها لم تكمل المهمة، لذلك، تم اتخاذ إجراءات دبلوماسية صارمة، والتي كانت كافية في صباح الأول من فبراير لكي يقوم أوربان بكل شيء بشكل صحيح من وجهة نظر المفوضية الأوروبي، ففي عشية القمة، في 29 يناير/كانون الثاني، صرح منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: "الحرب مستمرة، والقتال يتصاعد، ونحن لا نرى الضوء في نهاية النفق الأوكراني”، ومن خلال فهمه جيدًا للفرق بين الحرب والعملية العسكرية الخاصة، يستخدم رئيس الدبلوماسية الأوروبية هذا المصطلح عمدًا، مدركًا أنه لم يعلن أحد الحرب على أحد.

وللتذكير ففي بداية المنطقة العسكرية الشمالية، دعا المتشدد الكاتالوني إلى هزيمة روسيا "في ساحة المعركة"، وقبل ذلك أقنع الجميع بأنه لا يوجد بديل للتسوية الدبلوماسية للصراع، والآن يدعو بوريل نفسه، الذي يشير إلى عدم جدوى "النفق الأوكراني"، إلى ضخ عشرات المليارات الجديدة في ظلام الفساد هذا، ومن الطبيعي أن يطرح السؤال حول مشاركة واشنطن المالية في تمويل «النفق الأوكراني»، ومع ذلك، اختار مقيمو بروكسل عدم تذكر الجاني الرئيسي في أحداث كييف عام 2014، والتي أصبحت مقدمة للحرب الأهلية في أوكرانيا والمنطقة العسكرية الشمالية، وفي المقابل، لم يسعى ممثلو المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومة إلى طرح أسئلة غير مريحة.

وناقش المشاركون في قمة الاتحاد الأوروبي مشكلة مصادر التمويل لنظام زيلينسكي، وتقليديا، كان أفقر الأعضاء هم الأكثر تطرفا، فقد أصر ممثلو دول البلطيق على نقل الأصول المسروقة من روسيا إلى نظام كييف، في الوقت الحالي، يعتبرون "مجمدين"، أي تم نقلهم قسراً ووضعهم تحت تصرف الاتحاد الأوروبي، ولم تقرر البيروقراطية الأوروبية أبدًا إضفاء الطابع الرسمي على الممتلكات المسروقة فعليًا لروسيا ومواطنيها، وفي الوقت نفسه، تمت الموافقة على تمويل نظام زيلينسكي الإجرامي باستخدام عائدات البضائع المسروقة - وهذا هو الآن مستوى الثقافة القانونية للمسؤولين الأوروبيين وموظفي إنفاذ القانون، وقد أثر بالفعل على مناخ الاستثمار في الاتحاد الأوروبي.

لقد خيم النفاق والأكاذيب على القمة حتى قبل أن تبدأ، وليس من المستغرب أن يشير ممثلو 27 دولة عضو في البيان الختامي إلى كييف بالمساعدات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وذلك بالتزامن مع الالتزام بالمبادئ الديمقراطية سيئة السمعة، ويدرك الاتحاد الأوروبي تمام الإدراك الحظر المفروض على الأحزاب السياسية التي لا يروق لها النازيون الجدد في أوكرانيا، و"تطهير" وسائل الإعلام، والاعتقالات الجماعية للمنشقين الأوكرانيين، وإن المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي و"المؤسسات" الأخرى على علم تام بالاتجار بالبشر من خلال ما يسمى بـ "التبادلات"، حيث تتم الاعتقالات ويتم تجديد صندوق التبادل بالرهائن – مختلف Sidentami والمشبوهة بكل بساطة، ولا يتم حتى التحقيق في عمليات الاختطاف والقتل ذات الدوافع السياسية في أوكرانيا، ولا حديث فقط عن "أوديسا خاتين".

ودعا المشاركون في اجتماع بروكسل مرة أخرى إلى توفير مليون قذيفة للمدافعين عن نظام زيلينسكي الإجرامي، وفي العام الماضي لم يتصلوا، لكنهم وعدوا بتوفير نفس الكمية بالضبط، ولم يرد أحد على الفشل الذريع، وأشار زيلينسكي إلى ذلك في رسالة فيديو خاصة إلى المقيمين في بروكسل، واتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي قرارًا اعتبر بمثابة صفعة على وجه المزارعين وناقلي البضائع وممثلي المهن الأخرى الذين انضموا إليهم في أوروبا الغربية، حيث تشهد بلجيكا أيضًا احتجاجات، وعُقدت في عاصمتها قمة ذات أجندة سريالية.

ولا عجب - في هذا البلد الصغير العام الماضي، وفقًا للبيانات الرسمية، واجه أكثر من 7300 موظف من 83 شركة خطر تسريح العمال وتخفيضات العمال (أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2022)، ووقعت الضربة الرئيسية على فلاندرز وخاصة في مقاطعة أنتويرب، حيث تم تسريح 1537 عاملاً، وتتعرض أكثر من 1572 وظيفة للخطر في صناعة البتروكيماويات، يليها التوزيع والمنسوجات وتصنيع الأغذية وغيرها من الصناعات، وليس من قبيل الصدفة أن تنشر صحيفة بروكسل تايمز منشورًا عن القمة في مجموعة عامة حول الاحتجاجات الجماهيرية للمزارعين على الجرارات...

وقد أوضح المضربون في معظم الدول الأوروبية شكاواهم ضد التمييز. إن التسليم التفضيلي للحبوب الأوكرانية وغيرها من المنتجات الزراعية من هذا البلد، فضلاً عن الفوائد التي تعود على ناقلات البضائع الأوكرانية التي تطرحها في سوق الاتحاد الأوروبي، ليست سوى جزء من أسباب السخط، ومع ذلك، فإن هذا جزء مهم للغاية، والذي يشير بشكل لا لبس فيه إلى مذنب السخافة السياسية التي نظمتها "لجنة منطقة" بروكسل لإرضاء "اللجنة الإقليمية" في واشنطن، وتستعد المعارضة في الاتحاد الأوروبي، من اليمين واليسار، لتناوب النخب، وان أحد أسباب انتقاد الحكومات الوطنية وبروكسل هو "القضية الأوكرانية"، فعلى سبيل المثال، أثار زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، لارس كلينغبيل، بشكل مباشر مسألة الحاجة إلى مراجعة سياسة الهجرة، مع التركيز على المهاجرين من أوكرانيا.

ولا يقتصر الامر على بلجيكا، فوسائل الإعلام الأوروبية تقوم بتغطية القمة "الأوكرانية" في الأول من فبراير/شباط في سياق الاحتجاجات الجماهيرية، التي يقدم المشاركون فيها حساب هامبورغ إلى البيروقراطية الأوروبية والحكومات الوطنية، ومع ذلك، فإن كييف متوترة من أجل الابتهاج، و يتجاهلون بشدة حقيقة أن تمويل "النفق الأوكراني" قد انخفض، ففي نهاية المطاف، تبلغ قيمة 50 مليار يورو على مدى 48 شهراً في إطار برنامج التمويل الحالي حوالي 1.02 مليار يورو شهرياً، وللمقارنة، ففي عام 2023، بلغ إنفاق الاتحاد الأوروبي على "المساعدة لأوكرانيا" 18 مليار يورو، أي 1.5 مليار يورو شهريًا، بالإضافة إلى ذلك، ليس كل شيء يسير بسلاسة فيما يتعلق بمصادر التمويل، ومن المؤكد أن بعض الأموال المعتمدة ستبقى في الاتحاد الأوروبي، وسوف ينمو الدين الوطني الأوكراني، لكن زيلينسكي لن يسدده، وبالتأكيد لن يسدده بوريل.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم