قضايا

العشوائيات الاجتماعية.. بيئة التهميش والتوحش

مهدي الصافيالتاريخ والحضارة والاخلاق والفكر والاديان والعلم والمعرفة والثقافة والابداع والرياضة والتراث ليست ترف اجتماعي، انما ضرورة انسانية طبيعية دائمة التطور والتغيير والازدهار، من يتخلف عن مسيرتها او يهمل اتباع واحترام وتقدير اهمية الفطرة الانسانية، والصيرورة الكونية للحياة عموما، يحصد ماتزرعه الفوضى والعشوائيات الاجتماعية...

اغلب دول العالم تتكون فيها عشوائيات اجتماعية (لم نذكرمصطلح المجتمعات العشوائية لانها تختلف من حيث التعميم.. العشوائيات الاجتماعية هي التي تتكون بفعل الظروف الاجتماعية القاسية كالحروب والازمات الاقتصادية والفتن الداخلية التي تمر بها شرائح متفرقة واسعة من المجتمع، تتجمع في بيئات عشوائية مهملة فقيرة متهالكة لاوجود لاية خدمات وانجازات عمرانية متطورة فيها، الخ.) لاسباب عديدة اهمها الفقر، لكن تلك التجمعات الفوضوية العشوائية تزداد خطورتها واعدادها تبعا لزيادة المسببات او الظروف الصعبة المعروفة، الا ان القضية التي نود ان نبحث فيها، لتسليط الاضواء على ظاهرة اجتماعية مهملة لعقود في بلداننا، تأخذ احيانا ابعادا عامة ولكنها في الحقيقة هي خاصة ومحددة،

فمايجده الناس من ظواهر اجتماعية متوحشة كثيرة، لاتمثل بالضرورة ظاهرة اجتماعية عامة، انما هي صفة خاصة بمناطق العشوائيات الاجتماعية، التي قد يكون تأثيرها في المجتمع كتأثير افة المخدرات، الا انها تبقى دائما او غالبا محصورة في البيئة او الرقعة الجغرافية المستوطنة فيها، هذه الظواهر المتوارث بسبب الاهمال الرسمي الحكومي والاجتماعي، تأخذ عنها الاجيال المتعاقة نتائج كارثية من الفقر والعوز والظلم والحرمان والمعاناة، تتوارثه ابا عن جد، فيصبح حينها امر المعالجة واعادة التأهيل صعب جدا او يكاد يكون من المستحيل السيطرة عليه بسهولة، الا بتغيير طبيعة تلك البيئات العشوائية، وانتقالها جذريا او تحويلها الى مدن امنة متحضرة، يمكن لابناءها من ايجاد فرص عمل حقيقية، تنتشلهم من تلك الحياة البائسة، ومن ثم انتقال هذه التجمعات السكانية المنهارة من مرحلة التهميش الى مرحلة التفاعل والتأثيرواثبات الوجود...

لاتوجد صعوبة في تشخيص الاخطاء ولكن الصعوبة تكمن في اساليب وطرق واليات المعالجة وايجاد الحلول لها، وجدية الانظمة والسلطات الدستورية ومؤسسات ودوائر الدولة في تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية دون طبقية او تمييز بين فئات الشعب, الا على اساس الحاجة والظروف المعاشية ....

ليس الايمان بالله عزوجل او التمسك بالعقائد الدينية والشعائر والطقوس الطائفية هي من يفتح ابواب الحضارة امام المجتمعات القبلية او البدائية او الفاشلة، انما الايمان بالقيم والمبادئ الاخلاقية الانسانية، وبالحياة المتناغمة مع حركة عجلة التاريخ، وبالانسان وقدراته العقلية والعلمية والمعرفية في بناء الدول والمجتمعات الناجحة....

الدول والمجتمعات الفاشلة شمولية النهج والاسلوب والحكم، لايمكن التمييز او الفصل بين افرادها وعموم طبقات المجتمع، فكل مايراه الناس في دوائر ومؤسسات الدولة الرسمية من سلبيات هي انعكاس لما يحدث من فساد وفوضى او اخطاء كبيرة في قمة هرم السلطة، وكذلك بدرجة اقل نسبيا بما يراه في البيت والشارع ومراكز التربية والتعليم وبقية الاماكن العامة، وتلك الظواهر تعد من اهم عوامل الفشل المتوارث في تلك البلدان، اي غياب النظام والقانون والسلطات الدستورية التنموية النزيهة المنضبطة، فمثلما تتوارث العشوائيات الاجتماعية العادات والتصرفات والاساليب السيئة، تتوارث الدولة الاخطاء والسلبيات الادارية والحكومية بصورة عامة، مما يجعل مشروع او مسألة الاصلاح والتغيير امر في غاية التعقيد كما ذكرنا،

ولهذا نؤكد على حقيقة ان المؤسسات والمرجعيات الدينية وكل مراكز الوعظ والارشاد ليست بديلا عمليا ولاحتى نظريا عن مؤسسات الدولة القانونية والتنظيمية، حيث تجد في الدول الفاشلة مثلا لايذهب المواطن الى الطرق القانونية الحكومية لتقديم شكاوى عامة تخص الاداء الوظيفي لبعض المسؤولين او الموظفين بل يذهب للفقيه ومرجع الدين لاخذ فتوى شرعية لتحريم الاهمال والتسيب الوظفي او لمتابعة وكشف الفساد المالي والاداري، وهذا دليل واقعي دامغ على ضعف الاجهزة الرقابية الحكومية (ضعف السلطات الدستورية وبالاخص السلطة القضائية)،

هناك فرق بين قانون شرعي لايطبق الى في يوم القيامة، وقانون وضعي ينقذ المجتمعات من هذه الاساليب الادارية او الوظيفية الفاسدة المعطلة لحياة واعمال الناس اليومية(فضلا عن الاثار النفسية التي تخلفها تلك التصرفات المتواصلة مع حركة المواطنين من الدائرة والشارع الى البيت والاسرة الخ.)،

اذا ليس الاسلام هو الحل لبناء مجتمعات ودول امنة مرفهة، انما الحاجة لتبني مفاهيم مدنية علمية تؤمن بنظرية بناء الدولة العصرية، وفق معطيات وعوامل ومقومات وتجارب حضارية واقعية، مارستها اغلب شعوب العالم المتقدم......

العشوائيات الاجتماعية في بلادنا ارض قاحلة، لانبت فيها ينفع في اليوم الاسود، غير مظاهر البؤس والكسل والفقر والمستقبل المتأكل داخل جدران الظلام، الاب يورث اللاشيء لابناءه غير ثقافة الشارع، فالبيوت والاحياء المتهالكة التي تبدوا من بعيد كالمقابر القديمة لاتعطي شيئا للاجيال، اللعب والعنف لايفترقان عن تلك الاحياء، من انها قد تنتج احيانا كحالات نادرة او طفرة نوعية في الجينات الوراثية(الاذكياء)السياسي، والمفكر، والمثقف، والاديب والفنان، والرياضي(فالانسان العصامي لاتقهره الظروف والبيئة القاسية المحيطة به، وكذلك المواهب والابداعات الانسانية الخاصة،  الخ.)،

هي ارض رخوة جاذبة للارهاب والتطرف والجريمة والعنف والمخدرات وبقية الامراض الاجتماعية النفسية، لاتنتبه لها اغلب الدول الفاشلة، وكذلك بقية الدول التي ازدادت فيها حالات العنف الاجتماعي والجرائم المختلفة بشكل ملحوظ مؤخرا (حيث تكثر عندهم ظاهرة المافيات وجماعات الجريمة المنظمة، والجماعات الاجرامية العشوائية كالذين يتاجرون بالبشر والاطفال واعضاءهم، والتهريب، الخ.)،

حتى تجد الدول نفسها فجأة في مواجهة خطر الطاعون الزاحف نحو قلب المدن الرئيسية والعواصم الرسمية، هم بالطبع ضحايا جشع الانظمة الفاسدة او الراسمالية الامبريالية، فقد ذهب عصر الخوف والتهميش والتفرقة العنصرية، فصار ابناء العشوائيات الاجتماعية قادرين من الحصول على الاموال بالقوة الشرعية او اللاشرعية،، وهي احياء او تجمعات لاتوجد بينها وبين المدن او الاحياء الراقية اية حدود او فواصل كونكريتية (على غرار الافكار الجديدة للعزل كمشاريع بناء جدار الفصل العنصري او الحدودي)، مما يعني ان الاخطار والاثار الاجتماعية واقعية ومباشرة، وليست احتمالات وتوقعات مستقبلية، فهي موجودة بالفعل وتلمسها اغلب المجتمعات الفاشلة او المتحضرة، وفي اغلب دول العالم...

الحلول ليست بعيدة عن الاسباب التي انتجت تلك العشوائيات الاجتماعية، وهي واضحة ومعروفة لكنها مغيبة عن مراكز البحث والتحليل والرصد الحكومي، اي مراكز المسؤولية، لغايات واهداف واسباب عديدة، بعض تلك الاهداف خبيثة شيطانية لتحطيم معنويات الشعب ولكسر او قهر ارادته في مواجهة الفساد والفشل او الاستبداد الحكومي، فتعمد الى زيادة حجم الفوضى الاجتماعية، بترك العصابات ومافيات الجريمة المنظمة والغير منظمة، وحجم المشاكل والصدامات والخلافات والمعاناة والمواجهات العشائرية او القبلية او حتى الشخصية في دوامة التطاحن المستمر..

نعتقد ان اهم وسائل او طرق واليات الاصلاح تشخيص تلك الافات الاجتماعية العشوائية، واهتمام جميع شرائح المجتمع بتلك المعضلة او الظواهر الخطيرة المنتشرة داخل وخارج المدن،

وفيما يلي بعض النقاط العلاجية البسيطة لتلك الحالات..

اولا:رفع المستوى المعاشي للطبقات الفقيرة عبر توفير الضمان الاجتماعي و الصحي والتعليمي، الذي يمكنه المحافظة على تلك الطبقة بعيدة عن خط الفقر ومادونه، وتكون اقرب نسبيا للمستوى المعاشي للطبقة المتوسطة...

ثانيا:تفريق او ازالة تلك العشوائيات الاجتماعية، والانتقال الى مجمعات حكومية عصرية منظمة (لا كما يعتقد البعض بأن الحل يكون بجعلها واقع حال والابقاء عليه)

ثالثا:توسعة المدن الصغيرة وتحويلها الى مدن كبرى يصبح الاندماج الاجتماعي فيها فعالا، لما تمتلكه المدن الحديثة من مقومات خدمية وحضارية قابلة لتغيير نمط الحياة اليومية لابناء العشوائيات الفقيرة، وفتح افاق عمل جديدة للشرائح العاطلة عن العمل...

رابعا:انقاذ هذه المجتمعات المهمشة بجعل قضية انصافهم ماديا وخدميا ومعنويا قضية رأي عام، ومن اولويات السلطات الدستورية (كي لايصبح الفقراء وقود الثورات)، ففي بعض الدول المتحضرة على سبيل المثال لا الحصر تعطي عدة درجات لطلبة المرحلة الاعدادية الاخيرة على العدل العام لانهم من المناطق الاجتماعية الريفية...

خامسا:تطبيق النظام والقانون بصرامة على الجميع ودون تمييز او فساد او رشوة، تحت قاعدة لكل شيء قانون..ولكل حالة مستجدة قانون وليس فتوى..الخ.

اخيرا نود ان نذكر الجميع بمهمة ومسؤولية محاربة التمييز والطبقية والفساد، وحث الحكومات على تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والخدمية القادرة على تنمية تلك التجمعات المهملة، ضحايا الفساد والنهج الرأسمالي البدائي، هذه مسؤولية رسمية، وكذاك هي مهمة اجتماعية مدنية مستقلة، فالخطر يهدد الجميع، والمجتمعات لايمكن فصلها بحواجز، انما باليجاد سبل اتعايش السلمي تحت مظلة القانون والنظام والعدالة الاجتماعية...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم