قضايا

علاقات مُعلَّقة

منى زيتونذكرنا أن الكفاءة الاجتماعية لا تشمل مهارتي التعبير اللفظي والانفعالي فقط، فهناك مهارات الضبط اللفظي والانفعالي، والحساسية اللفظية والانفعالية، ونحن بحاجة لجميع مهارات التواصل لنتمكن من رؤية المواقف بيننا وبين الطرف الآخر من منظور الآخر، لندرك كيف يراها، ونفهم لماذا تأتي أفعاله وردود أفعاله على النحو الذي هي عليه، ومن ثم لننجح في تفاعلنا الاجتماعي معه.

بوجه عام، فإن التأخر في حسم العلاقات قبل الزواج تحديدًا، يعد من أشد السلوكيات قسوة؛ لأنه يُشعر الطرف الآخر أن لديك خيارات أخرى، وأنك تقارنه بغيره، مما يعني أنك غير مقتنع به تمامًا، وهذا يتنافى مع معنى الحب الحقيقي. وهذه السمة –تأخر الحسم- تتعدى فترة ما قبل الزواج لتظهر أيضًا في العلاقات بعد الزواج.

قد يكون عدم الحسم سمة في الشخص لأنه من مفرطي التفكير؛ فيحتاج وقتًا طويلًا ليُقرر، وقد يكون عارضًا لأنه تواجهه صعوبات مالية أو عائلية أو أيًا كان نوعها، وقد يتمثل تأخر الحسم في وجود مماطلة في تنفيذ القرار رغم اتخاذه؛ لافتقاد هذا الشخص الجرأة الكافية بسبب وجود صعوبات تعيقه من أي نوع. لكن في بعض الأحيان قد يكون عدم حسم أحد الطرفين مرآة وانعكاسًا لسلوك الطرف الآخر!

في كثير من الحالات تأتيني الشكاية من أحد طرفي العلاقات الزوجية أو العاطفية بأن الطرف الثاني يتعامل معه وفقًا لنمط مزدوج الوجهين كالحركة الموجية، قمة يليها قاع يليها قمة جديدة، وهكذا! أو ما يُعرف بنمط السخونة/البرودة Hot/Cold. وهناك فهم خاطئ منتشر حول من هذا نمطهم بأنهم بالضرورة متلاعبون. من خلال خبرتي رأيت بينهم متلاعبين بالفعل، لكن هناك نسبة ليست بالقليلة من بينهم يكون سلوكها الظاهري على هذا النحو رغم كونهم غير متلاعبين، ومنهم من اشتكت لي من خطيبها، وقالتها بالإنجليزية: I don’t want a person who is emotionally unavailable، وترجمتها "لا أريد شخصًا مشاعره غير متاحة!". إذًا فهي تراه شخصًا لا يفتح لها قلبه، وهذا ما يجعلها تتراجع في إظهار مشاعرها لتبدو باردة!

فكثير ممن يأخدون نمط السخونة/البرودة؛ ويُتهمون بالدخول ثم الخروج من حياة شركاء حياتهم بشكل مستمر، ما يدفعهم لهذا السلوك حقيقة هو درجة كبريائهم المرتفعة التي تجعل خطواتهم نحو الشريك محسوبة، فهم يقتربون من الشريك خطوة واحدة في انتظار أن يبادلهم التحرك ويخطو نحوهم، ولكنه إن كان عنيدًا أو ربما يفتقد الوعي الكافي برد الفعل المناسب أو لا يعطي الانتباه الكافي للعلاقات الاجتماعية، يبقى هذا الشريك ملتصقًا مكانه، منتظرًا لمزيد من الخطوات منهم، والتي لن يسمح كبرياؤهم بها، فيقررون التراجع. والكبرياء هنا للحق أراها كبرياء صحية وليست مرضية.

أما عن الطرف الآخر العنيد، فهناك حقيقةً أشخاص يجيدون فقد الفرص التي تُتاح لهم، ولا يعي الواحد منهم قيمة ما بين يديه حتى يضيع منه، وربما لو عاد إليه لكرر السلوك عينه وفقده مرة أخرى! وأغلب هؤلاء يخطئ الواحد منهم بالتركيز على نجاحه المهني فقط، أو على علاقاته مع أهله أو أصدقائه، ولا يعطي الانتباه الكافي لشريك حياته، وهذا ما يجعل الشريك يظن أن قلبه مغلقًا نحوه. وقد يكون لدى هؤلاء مشكلة أيضًا في التوازن العاطفي؛ فالأخذ والعطاء لديهم ليس متكافئًا، كما أن بعض الناس يعطون كثيرًا، ولكن ليس بالطريقة الصحيحة التي يتمناها الشريك، وسبق أن تكلمنا عن هذا الأمر في مقال "لغات الحب".

والسبب في تكرار دورات السخونة/البرودة، أنه وبعد فترة يأتي من الشريك الثاني العنيد رد فعل متأخر متجاوب مع الطرف الأول، وتأخر ردود الأفعال سمة تقترن دومًا بالعناد كما هو معلوم، فيأمل الطرف الأول ذو الكبرياء المتهم بالتلاعب في انفراج الأحوال، ويرد على خطوة الشريك العنيد بخطوة إلى الأمام من جانبه، ليُفاجأ بأن الآخر قد عاد للالتصاق مكانه ثانية، فيضيع الفرصة من بين يديه لمرة جديدة، ليتراجع الأول مرة أخرى!

وتستمر هذه الدورات إلى أن يقرر الطرف عالي الكبرياء الخروج نهائيًا من هذه العلاقة، فغالبًا يكون هو من يأخذ القرار وليس العنيد البطئ في اتخاذ قراراته؛ فمهما كانت درجة الحب فإن سوء المعاملة ستجعل الطرف الذي تُساء معاملته يصل في لحظة ما إلى الاكتفاء من كل هذا العبث الذي يسمح به في حياته، ويبتعد نهائيًا. وسوء المعاملة تجاه الآخر لا يلزم أن يكون عنفًا بل يأخذ أشكالًا عديدة، منها عدم الرغبة في ترقية النضج الانفعالي، والإصرار على سلوكيات غير ناضجة!

لذلك أقول إن وجود طرف لديه كبرياء مرتفعة، وطرف آخر شديد العناد والالتصاق في مكانه، في علاقة معًا، هو الجحيم بعينه لكليهما، وربما تنجح العلاقة فقط في حال تدخل وسيط خير بينهما، لتتحرك تلك العلاقة للأمام. وهذا احتمال ضعيف لأن ذا الكبرياء يرى أنه يفعل ما عليه، ومن ثم لن يُقدم على أن يوسط أحدًا لأنه ينتظر الخطوة من الطرف الآخر، فإن لم يكن الطرف الآخر قادرًا على أن يخطو بنفسه، فعليه هو أن يطلب المساعدة والتوسط!

إن التصاق شخص في علاقة فاشلة معلقة لا فائدة مرجوة منها يفسد حياته ويهدر عمره، سواء كان التصاقه بسبب أنه الطرف المسئول عن المبادرة، ولكنه لا يبادر! أو لأن عليه أن ينزع نفسه من تلك العلاقة ولا يفعل! أو لأن الطرف الآخر تركه بينما هو لا زال يأمل وينتظر!

كما أنه أحيانًا قد ينفصل طرفا العلاقة لأسباب قد يصلح معها الالتئام، ويبقى أحدهما أو كلاهما يتمنى اتصال ما انقطع، ولكن على أساس أن يقوم الطرف الآخر بالمبادرة، فإن كان الطرف الذي عليه المبادرة عاجزًا عن اتخاذ تلك الخطوة، فالوضع أيضًا معلق!

والتعلق في حقيقته هو رفض للحاضر وثبات في الماضي، وكثير منا يعيش بخياله في الماضي أو المستقبل، ويعجز عن التعامل مع الواقع، بينما دراسة الماضي وتفحص حوادثه ورؤيته بشكل صحيح وتجنب خداع النفس حوله ضرورة لنفكر في أخطائنا، وهو طريقنا للتعلم. نحتاج الماضي للتعلم والمستقبل للتخطيط، وليس لخلق عالمًا من الأوهام.

وهذا التعلق هو أسوأ فعل، لأنه في حقيقته "لا فعل"! وأخذ أي قرار يتعلق بالتقدم إلى الأمام، مهما كان وتنفيذه أفضل من التعلق؛ فإما أن يحرر الإنسان نفسه من قيد العلاقة الفاشلة، ويعود للانخراط في المجتمع، أو يبادر إن لم تكن العلاقة فاشلة، وكان هو الطرف الذي تلزمه المبادرة. Take action.

ولنتذكر أننا بحاجة للثقة لأجل نجاح علاقاتنا الاجتماعية، لأن مجرد شك أحد الطرفين في وجود خداع من الطرف الآخر يدمر العلاقة؛ وعدم التواصل أو التواصل بطرق مُلغزة غير واضحة يُضعضع الثقة. تواصل بوضوح. Communicate clearly.

وحل أي مشكلة يبدأ بالتخطيط الجيد لأجل تجاوزها، ثم التنفيذ بدقة وحسم وسرعة. كما أن علينا أن نبدأ بإصلاح دواخلنا، فمن المؤكد لأننا نملكها أن إصلاحها علينا هيّن، لكن الظروف الخارجية على العكس منها لا يمكننا التحكم فيها تمامًا.

والعقلاء يتناقشون لأجل تحديد أسباب خلافاتهم، لحلها من جذورها، وليس للجدال العقيم والتنازع والبحث عن الطرف المخطئ. كما أن الإنسان العاقل يكون لديه تواصل جيد بين الوعي واللاوعي؛ فهو يعي حقيقة مشاعره وليس فقط ظاهرها. يعرف ماذا يريد تحديدًا، ويفهم متى يكون عليه أن ينخلع من العلاقات الاجتماعية الفاشلة، ويعرف كيف ينتصر لنفسه بشكل إيجابي، بتوظيف طاقته في ارتقاء ذاته وحياته العملية، وليس في توجيهها نحو الغضب والإحباط.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم