قضايا

حجابٌ بلا عُزلة وسفورٌ بلا تبرُّج (2)

عصمت نصارلعلّ العديد من النقاد الذين زجوا «بالمنفلوطي» في زمرة الرجعيين بنوا حجتهم وحكمهم على موقفه من حرية المرأة أو من قضية «الحجاب والسفور». التي أثُيرت بين المثقفين عقب ظهور الكتابات الداعية لحرية المرأة وسفورها واقتدائها بالمرأة الأوروبية - وذلك في أخريات القرن التاسع عشر والرُبع الأول من القرن العشرين. 

والحقيقة غير ذلك تمامًا، أي أن حكمهم عليه لم يكن خاليًا من العجلة وقلة الدراية بوجهة نظره المتكاملة حيال هذه القضية، فمن ذا الذى ينكر أن الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» (1712م-1778م)» من قادة التنوير الأوروبي الذين دعوا إلى الحرية رغم موقفه المحافظ من قضايا المرأة، إذ انتصر إلى العقل والثقافة السائدة في مناقشته لسفور المرأة وحجابها واختلاطها وعملها.

وحسبي أن أشُير في عجالة إلى مذاهب المفكرين المحدثين في الثقافة العربية حيال قضية «الحجاب والسفور».

فقد انقسم المفكرون في مصر والشام إلى ثلاثة اتجاهات: أولها الاتجاه المحافظ الرجعى وعلى النقيض الاتجاه التغريبى العلمانى وبين هؤلاء وهؤلئك، ظهر الاتجاه المحافظ المستنير.

فقد ذهب الفريق الأول إلى أن حجاب المرأة المادي والمعنوي (الزى ومكانة المرأة في المجتمع) جزءٌ لا يتجزأ من الثقافة الشرقية وأصل من أصول العادات والتقاليد العريقة، وأمرٌ من الأمور التي حث عليها الدين.

أما الفريق الثاني فنزع إلى أن حال المرأة في الشرق أقرب إلى الجمود والتخلف والنظرة الذكورية التي تسلب المرأة كل حقوقها ومن ثم يجب الإقلاع عن كل ما يجور على حريتها وإزاحة كل المعوقات التي تحرمها من المساواة الكاملة بينها وبين الرجل، ثم الاقتداء بالمرأة الأوروبية في لباسها وتصرفاتها بغض النظر عن الدين.

أما الفريق الثالث (المحافظ المستنير) فقد نظر إلى القضية نظرة عاقلة تجمع بين الأصالة والمعاصرة والمنقول والمعقول، والثابت من الهوية والمشخصات والثقافة السائدة والعلم واحتياجات المجتمع والأصول الشرعية التي حدّدت حقوق المرأة وواجباتها في الواقع المعيش.

وقد انضوى «المنفلوطي» تحت راية الاتجاه الأخير، أعنى مدرسة «محمد عبده» تلك المدرسة التي ضمت بدورها ثلاثة اتجاهات: أولها في أقصى اليمين وكان يرى أن حال المرأة الشرقية لن يتغير إلا في ركاب الإصلاح الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي.

وأن الدعوة لسفورها ومساواتها بالرجل في الأمور العامة وإدارة شئون الحياة من الأمور المتعجلة التي يصعب تطبيقها في مجتمع يعانى من الأمية والجمود في العادات والتقاليد، وفى الوقت نفسه يشكو من انحلال ومجون الغربيات ومن سار في ركابهن من الشرقيات.

الأمر الذى يقتدى نهجًا لإعادة تربية الرأي العام بداية من الأسرة ونهاية بقادة الرأي من المنظرين والمفكرين والدعاة في الإسلام والمسيحية.

وفى أقصى اليسار نجد الليبراليين من مدرسة الأستاذ الإمام «محمد عبده» وهم الذين حاولوا الإبقاء على الثابت من الموروث الذى لا يتعارض مع الإصلاحات التي يجب القيام بها دفعة واحدة، مثل حقوق المرأة في اختيار الزوج والطلاق والخلع والاعتراض على التعدد والميراث والتعليم والعمل والمشاركة الإيجابية في شتى أمور الحياة. بالقدر الذى يتلافى الصدام مع الرأي العام القائد.

وفى الوسط نجد من يدعو إلى حقوق المرأة عن طريق إثبات أن الشرع والأصيل من العادات والتقاليد لا يمانع من استرداد المرأة الشرقية لحقوقها، تلك التي سلبتها منها قوى رجعية باسم الأعراف تارة والتأويلات الخاطئة للنصوص المقدسة (القرآن والأحاديث والإجماع والقياس) تارة أخرى.

وبيّن أنصار هذا الاتجاه أن ما جاء به الشرع أفضل بكثير مما تنادى به أوروبا، وإن الإسلام لم يكن قط ضد حرية المرأة بأوسع معانيها ولكنه حدد القيم الأخلاقية التي تحمى هذه الحرية وتمنعها من الجموح والجنوح.

ومجمل آراء «المنفلوطي» تنتمى إلى الفريق الأول، أى الذى ناقش القضية بعمقٍ وأكثر واقعية، ورغب عن نهج الوعظ والتوجيه الذى يستند إلى الأصول العقدّية والضوابط الشرعية، فذهب إلى مناقشة القضية بمنحى عقلي لا يخلو من الجِدّة والطرافة، سواءٍ في العرض أو المعالجة فلم يكتب «المنفلوطي» المقالات المسهبة التي تمدح في تقاليد وقيم المرأة المسلمة أى النصح المباشر، فلجأ إلى أسلوب القصة القصيرة التي تستمد أحداثها من الوقائع والواقعات الحياتية واتخذ من المنهج الاستقرائي الذى يستمد براهينه من التجارب الإنسانية في المجتمع المصري والممارسات اليومية سبيلًا لشرح وجهة نظره حيال هذه القضية وذلك في قصص: (الحجاب، الضحية، مذكرات مارجريت، الشرف، الحب والزواج والزوجتان).

ذلك بالإضافة إلى بعض الفقرات التي حرص على إيرادها في أحاديثه ونقداته لمفهوم الحرية غير المسئولة والتقليد الجاهل للمدنية الغربية.

إذا نحن عدنا لحديث «المنفلوطي» عن قصة صاحبه المفتون بنموذج المرأة الأوروبية وقضية حجاب المرأة المصرية وما ينبغي على المجتمع فعله تبعًا لمقتضيات الواقع والأوضاع القائمة آنذاك، فسوف نجد أن ذلك الصديق لم ينصت إلى «المنفلوطي» ولم يتعقل حجته التي لخصها في «أن كل نبات يزرع في أرض غير أرضه أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإمّا أن ينشب فيها فيفسدها».

فالثقافة الأوروبية قد أفلحت إلى حدٍ كبير في تهيئة المرأة والرجل للعيش في تلك الحياة بحرية لا قيدٍ فيها سوى الإلزام والالتزام. فالأول يمثله سيف القانون العادل الباطش بلا هوادة لكل مخالفيه، والثاني ولِد في كنف التربية والعلم والقناعات الشخصية والوعى بالمسئولية.

أما المرأة المصرية فلم تنعم بذلك ولم يظفر مجتمعنا الشرقي بهذا الذى نحلم به وصوت العقل يحذرنا من تجاهل مثل هذه الأمور.

ويكمل «المنفلوطي» حكايته فذكر أن ذات يوم من بعد ثلاث سنوات مضت - على حوارهما- رأى صاحبه يمضى مع شرطي إلى قسم البوليس لأمرٍ يجهله، فسأله «المنفلوطي» عن أهله فأجاب صديقه بأن زوجته لا يعرف أين تكون ولا علة غيابها فربما قد أصابها مكروه، فذهب معه «المنفلوطي» ليطمئن على حاله، وفى القسم أخبرنا المأمور بأنه وجد زوجة صاحبه مع رجلٍ في بيت مشبوه وزعمت أنها في ولايته وبعد لحظات دخلت المرأة علينا بصحبة من كانت معه فإذا بصاحبي يعترف بأن المرأة هى زوجته ورفيقها أحد أصدقائه، ثم أغُشى عليه من هول الصدمة فحمله «المنفلوطي» إلى منزله وترك زوجته لتنصرف إلى بيت أبيها، ولما ساءت حالته من تلك الكارثة حاول مفكرنا إفاقته ففتح الصديق عينيه على صراخ طفله الرضيع فحمله بين ذراعيه وفى وجهه ارتسمت صورة المرتاب الحزين قائلًا ردوا هذا الطفل إلى أمه فليس لى ولدٌ ولا زوجة وأخبروا أهلها بأننى بددت الأمانة وأننى نادم على ما فعلت فأنا الذى أوصلت ابنتهم إلى ذلك المصير المنحط فكانت الخجولة، الشريفة العفيفة، فأمست على يدى المرأة الخائنة اللعوب حتى حسبها الناس من صاحبات الرايات الحُمر واعتقدوا أننى قوادٌ، أما أصدقائي فكانوا يقبلون على رغبة فيها وكنت في أعينهم ديوثًا فجنيت عليها وعلى نفسى باسم المدنية، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة جاءت زوجته لتودعه وتطلب منه الغفران والسماح وتنبئه صادقة بأن الولد من صلبه، فقد حملت به قبل أن تخلع برقع الحياء والعفة.

وبغض النظر عن حكاية «المنفلوطي» إن كانت قد حدثت بالفعل أو هى من محض خياله وقد ساقها لتعليم المتلقي وتبصير القارئ، فأحداثها ليست بالأمور الغريبة عن حياتنا الآن.

ثم ينتقل مفكرنا إلى الحديث عن آفة التقليد والتغريب مؤكدًا أن التجديد والتحديث والتمدن لا يعنى فتح النوافذ والأبواب دون ضابط أو حارس، لأن الهواء بالخارج لا يخلو من الجراثيم الضارة والأتربة المختلطة بالأمطار فتعكره وبالنسيم فتفسده، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نهيئ أنفسنا بالعقل والعلم والحرية لنتمكن من الدفاع عن مشخصاتنا وترسيخ قواعد ثوابتنا الثقافية التي تعبر عن هويتنا ويقول: «لا يستطيع المصري، وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إذا دنا منها إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك بقشره ويفلت لُبابه أو المصفاة حيال الخمر تحتفظ بعقاره وتهمل رحيقه، فخير له أن يتجنبها وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب».

يريد المصري أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته.... فإذا جد الجد دب الملل إلى نفسه..... يريد أن يقلده في رفاهيته فلا يأخذ منها إلا حانات الخمر.... يريد أن يقلده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها والطنطنة بشعاراتها، وإذا سُئل عن البرهنة عليها والعمل من أجلها أسلم رجليه إلى الرياح وهرب متملقًا..... يريد أن يقلد الغربي في العلم فلا يعرف منه إلا كلمات يرددها بين شدقيه، أما جوهر المعرفة فلا يظفر منه بما يروى إغاثة الظمآن.... يريد أن يقلده في تعليم المرأة وتربيتها، فيقنع بعلمها الذى يمكنها من كتابة في جريدة أو خطبة في محفل، ويرتضى من تربيتها التفنن في الأزياء والمقدرة على سحر النفوس واستلاب الألباب بدلالها وتبرجها.... هذا التقليد المشوه يشبه تقليد جهلة المتدينين الذين يقلدون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملآى بالأقذار.... لا مانع من أن يعرب لنا المعربون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، على أن ننظر إليه نظرة الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم....».

وانتهى إلى أن غايتنا من تحرير المرأة يجب أن نضعها نصب أعيننا أثناء وضعنا للبرنامج التربوي والأخلاقي والتعليمي لتحريرها من حجاب الجمود والجهل والخرافة، وأن تكون توعيتنا لها توجيهًا وليس تلقينًا فتنبت أخلاقها التزامًا وليس إلزامًا ويصبح سفورها عرضًا لا يخدش كرامتها وشرفها ولا يقضى على حيائها وعفتها.

وعليه فحسبنا أن نثبت أن تجديد «المنفلوطي» لم يكن عشوائيًا أو شعارًا غير واقعي بل هو في الواقع برنامج نسقى ومشروع حضاري.

وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم