قضايا

السيميائية في القران الكريم

"سيماهم في وجوههم من أثر السجود"الفتح292

السيمياء لغة تعني العلامة سواء كانت متصلة بملامح الوجه او الشكل او الافعال او الاخلاق قال تعالى "تعرفهم بسيماهم" .

وفي معاجم اللغة العربية هي العلامة او الرمز الدال على معنى مقصود.

والسيميائية اصطلاحا كما عرفها بنكراد "هي دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية" وهي في حقيقتها كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير المرئية من خلال التجلي للواقعة، فلا قيمة للجاهز في السيميائيات، بل السعي الى تلمس الطريق الذي يقودنا الى فهم افضل، وهي تحويل العالم الخارجي الى مجموعة من العلامات ذات الطابع الرمزي من خلال اللغة اولا ثم انساق اخرى منها النسق البصري .

كما عرفها شولز (بانها دراسة الاشارات والشفرات اي الانظمة التي تمكن الكائنات البشرية من فهم الاحداث بوصفها علامات تحمل معنى، وقد عرفها اتكن (بانها الدراسة العميقة للنص والغوص الى المعاني البعيدة وقراءة مابين السطور ومحاولة اكتشاف الفكرة المراد توصيلها بطريقة مباشرة).

وقد ظهر هذا المصطلح في الغرب على يد دي سويسر في فرنسا وعلى يد بيري في الولايات المتحدة الامريكية في تسعينات القرن، ويعتبر رولان بارت خير من يمثل هذا الاتجاه، لان البحث السيميولوجي لديه هو دراسة الانظمة والانسقة الدالة، فجميع الوقائع الدالة والاشكال الرمزية والانظمة اللغوية تدل، ومادامت الوقائع والانساق كلها دالة فلا ضير من تطبيق المقاييس اللسانية على الوقائع غير اللفظية لبناء الطرح الدلالي، وقد انتقد بارت في كتابه"عناصر السيمولوجيا" الاطروحة السوسسيرية التي تدعو الى ادماج اللسانيات في السيمولوجيا مبينا ان اللسانيات ليست فرعا ولو كان مميزا من علم الدلائل، بل السيمولوجيا هي التي تشكل فرعا من اللسانيات"، وتعتبر اللغة الوسيلة الوحيدة التي تجعل هذه الانساق والاشياء غير اللفظية دالة، حيث ان"كل المجالات المعرفية ذات العمق السوسيولوجي الحقيقي تفرض علينا مواجهة اللغة ذلك لان النصوص تحمل دلالات". ولكن الاصل ان الكلمة عربية وقد وردت في القران الكريم في عدة مواضع دالة على معناها قال تعالى"فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول".

وبما ان السيمولوجيا هي العلم الذي يدرس الاشارات الدالة في بنيتها وعلاقتها بالانسان والكون، وذلك ماعبر عنه القران الكريم وامرنا بتدبر اياته (عالم الحس والغيب) وان نستدل من الاول على الثاني وينطلق الموضوع من معيار (القصدية) ويكاد ان يتفق جميع العلماء على ادراك الغيبي بالحسي"ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك" واذا تاملنا ايات القسم مثلالوجدنا ان الله سبحانه وتعالى يقسم بالسماء لعظمتها وماتحوي من اجرام عظيمة تعجز القول ويقول "انه لقسم ولو تعلمون عظيم"فهل تامل الانسان ذلك؟ وماهي الرسالة التي تركها لنا؟فهل للارض حياة بلا سماء؟" والذي نزل من السماء ماء بقدر".

وعليه يمكن اعتبار السيميائية المعنى الباطن وغير المباشر اي قراءة ما وراء السطور بصورة اكثر فلسفية فيها عمق واضح وهو مانصت عليه الايات القرانية في عدة مواضع يدعونا فيها للتدبر"قل لاأقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إان أتبع إلا مايوحى إليّ قل هل يستوي الاعمى والبصير أفلا تتفكرون"

وبصورة عامة فان تحديد نص ما والتعرف على ماهيته من خلال عباراته والفاظه وفكرته الرئيسية عن طريق سبر اغواره وصولا الى الشكل الدلالي الخفي بمنظور ابداعي يجعل من المضمون الباطن صورة واضحة لمضمونها الظاهر وهو مايدعوا اليه القران الكريم لتدبر آياته والوقوف على مواطن القوة فيها من خلال معرفة السمات الاساسية وراء كل نص قراني قال تعالى"سيماهم في وجوههم من أثر السجود" فأي علامة يتركها السجود على وجه المؤمن؟ فهل المقصود تلك العلامة بين الحاجبين التي توجد عند بعض الناس؟ في الحقيقة ليس المقصود بذلك بل لابد إنه النور الذي يرتسم على وجه المؤمن وهالته النورانية، ولايخفى على احد ان النصوص القرانية فيها دلالات ظاهرة وهي شكلها العام وعناوينها الصريحة وفيها دلالات باطنة نستدل عليها من الرموز"هو الذي أنزل من السماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون".

لقد تبلور علم السيمياء عند العرب على يد علماء الاصول والتفسير والبلاغة، وان الالسنية العربية هي من اوائل العلوم التي نضجت في تاريخ الحضارة العربية واستفاد منها الغربيون وليس العكس، فالموضوع قديم في تجاربه ومحاكاته للكون والطبيعة ومتنوع في مجالاته ومتسع في ميادينه لكنه مستحدث في اصطلاحاته، انه حقل علمي واسع ومتنوع ادركه العلماء العرب وربطوه بعلوم ومعارف اخرى كالنقد الادبي والاسلوبية والتحليل النفسي وعلوم الاجتماع فهي اذن ترتبط بالفنون اللفظية والبصرية والتشكيل، وقد اقترن مصطلح السيمياء في حركة التاليف عند جابر ابن حيان ولربطه بالكيمياء وماكان يمتلك من خيال علمي شاسع، اضافة الى علماء اخرين امثال ابن سينا وابن خلدون والحلاج، وقد جاء في كتاب اصطلاحات الفنون ان السيمياء تضم علوما عدة منها علم اسرار الحروف، وفي هذا دلالة واضحة على اصالة العلم الذي تمتد جذوره الى امة العرب وقد تناوله العلماء كل حسب طريقته، وقد نزل القران الكريم ليدعونا الى التدبر والتامل بالعلامة والدليل لاكتشاف البنية الدلالية"إن في ذلك آيات لقوم يعقلون".

وهو التوجيه الرباني للتعامل مع الدليل والعلامة لفهم مغزاها الروحي والنفسي والكوني كحقيقة حسية مدركة دالة على حقيقة مجردة، "وفي الارض آيات للموقنين*وفي أنفسكم أفلا تبصرون*وفي السماء رزقكم وماتوعدون ".

ان الانماط السيميائية المتنوعة بما فيها من الفاظ واشارات ورموزمع اشارتها الى القصد لها اهمية كبيرة في علم السيمياء وهو المجال الذي فتح الباب على مصراعيه وفسح المجال للتإويل وفق اسس سليمة لتفسير الايات القرانية، يقول ابن سينا"ان الانسان اوتي قوة حسية ترتسم فيها صور الامور الخارجية"وهذا التصور يتوافق مع ماجاء به دي سويسر، وهذا دليل على نبوغ العرب وكتابهم الكريم في العلوم الانسانية الواسعة مستعينين فيها بهدي القران وما جاء فيه من علوم بلاغية دعانا فيها الله لتدبر اياته والغوص في سيميائياته قال تعالى"حجارة موسومة عند ربك" فأي حجارة تلك التي يقصدها الله وماهي العلامة التي تميزها؟

ان الاعتماد على المحسوس لادراك اللامحسوس هي سمة القران الكريم وسيميائية اياته تعتمد على التدبر والبحث والتحليل"ماخلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون".

وهكذا وبعد مايزيد عن الف واربعمائة عام يترسخ لدينا بمالايقبل الشك ان القران دستور الحياة وهوكتاب منزه عن التحريف مقدس لما فيه من دلائل اعجازية تبهر العقول على مر الزمان" مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباح في زجاجة الزجاجة كإنها كوكبٌ دري يوقد من شجرةٍ مباركة زيتونةٍ لاشرقية ولاغربيةٍ يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نورٍ والله يهدي لنورهِ من يشاء"..النور 35

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم