قضايا

أيمن عيسى: الإشارات الجسمية ودورها فى التواصل

ايمن عيسىاللغة ليست هى الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الأفراد، فالإنسان يلجأ أيضا إلى التواصل مع الآخر والتعبير عما يريد باستخدام أعضاء جسده، حيث يؤدى بها حركات وإشارات ذات مرجع دلالى تعارفت عليه الجماعة، فحين يؤدى حركة ما أو إشارة فإن الآخر يعرف المدلول والمقصد، وقد تأتى هذه الإشارات مصاحبة للكلام، وقد تقوم مقامه وتغنى عنه، وإذا نظرنا فى شأن هذه الإشارات التواصلية نجد أن الأفراد يستخدمونها فى صورتيها، إما مصاحبة للكلام، وإما منفردة، لدرجة أنها أصبحت فى الغالب حركات لا إرادية أو عفوية يمارسها الإنسان وقد أصبحت طبيعة فيه لازمة فى تواصله مع الآخرين.

مفهوم الإشارات الجسمية

مما سبق، يمكننا أن نـُعرِّف الإشارات الجسمية، بأنها: إشارات وحركات بأعضاء الجسد، ولها معنى دلالى تعارفت عليه الجماعة. وتجدر الإشارة إلى أن هناك إشارات جسمية تتعارف على معناها ومدلولها كل الجماعات، وإشارات أخرى لا يُعرف معناها ولا مدلولها إلا فى بيئتها المحلية فقط.

تاريخ الإشارات الجسمية

يمكننا القول بأن الإشارات الجسمية قديمة قدم الوجود الإنسانى على الأرض، وهذا أمر بدهى، فالإنسان حركاته وإشاراته الجسمية مصاحبة له منذ تعرَّف التواصل مع الآخرين. الإشارات الجسمية تبدو وكأنها فطرة فى التكوين البشرى. وحين نطالع بعض شواهد الإشارات الجسمية فى القرآن الكريم فيما حدثنا به عن السابقين، فإننا نتبين قدم ظاهرة الإشارات الجسمية وأنها فطرة فى التكوين البشرى.

بل إن آية كريمة واحدة تحدث فيها الله عز وجل عن طبيعة موجودة فى الإنسان وهى الإعراض عن الطريق القويم حين تـُغدَق عليه النعم وينسى المنعم، وهى قوله (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) [الإسراء / 83]. فحين نتدبر التركيب اللغوى والسياق التصويرى للآية، نجد أنها إشارة إلى حركة جسمية يستخدمها الإنسان فى التعبير عن الإعراض عن شىء، وهى الاستدارة بالجنب.

وهذا مما يثبت بما لا يقبل الجدال ما ذهبنا إليه من أن الإشارات الجسمية فطرة فى التكوين البشرى وأنها قديمة قدم الإنسان. ومن ناحية أخرى فإن هذا الموضع مما يثبت استعمال القرآن الكريم للإشارات الجسمية ليس فيما يحكيه عن السابقين فقط، ولكن يستعمله وسيلة فاعلة فى البيان والتصوير القرآنى فيما يريد من إبراز لمعنى.

الغرض من الإشارات الجسمية

يتضح إذن أن هناك غرضين رئيسين للإشارات الجسمية، الأول: إذا جاءت مفردة دون كلام، هنا يكون غرضها التواصل والإفصاح عن معنى. أما الآخر: إذا جاءت مصاحبة للكلام، هنا يكون دورها إيضاح المعنى وتأكيده. وهناك غرض آخر وهو أن تأتى للتنبيه، وذلك مثل ما نعرفه بـ " الغمزة "، فالغمزة تنبيه، حتى فى استخدامها فى المعاكسات فإنها أيضا فى الأصل تنبيه، حيث يعمد الشاب إلى استخدام هذه الحركة لتنبيه الفتاة إلى وجوده ورغبته فى التواصل معها، فهنا وإن انحرفت عند البعض أخلاقيا فى الاستخدام، فإنها لا تزال مقيدة بالغرض الأصلى لها وهو التنبيه ولفت الانتباه.

الإشارات الجسمية فى الكتاب والسنة

علاوة على ما ذكرنا من إشارات جسمية فى القرآن الكريم، فإننا نجد قوله تعالى حكاية على لسان سيدنا لقمان وهو يعظ ابنه ﭽﯷ ﯸ ﯹ ﯺﭼ [لقمان / 18]. وتصعير الخد إشارة جسمية دلالة على التكبر، فالتصعير للخد هو رفعه وعلوه، فالمتكبر يرفع خده مميلا به جانب رأسه لأعلى، استعلاء على الآخرين وكأنه ينظر إليهم بطرف عين.

وقوله تعالى حكاية عن السيدة سارة لما بُشرت بأنها ستكون أما ً، فقال تعالى (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) [الذاريات / 29]. فصكت أى ضربت جبهتها بيدها تعجبا ً. وقوله تعالى حكاية عن ندم نادم وتحسره (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف / 42]. فتقليب الكفين وضربهما بعضا ً يأتى للتعجب أوالندم أو كلاهما معا. وغير ذلك كثير من الشواهد القرآنية.

أما فى الحديث الشريف فنجد، عن سهل بن سعد عن النبى ﷺ، قال (أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى) [صحيح البخارى – ج 8 – ص 10]. و معروف أن ضم السبابة والوسطى إشارة جسمية إلى التلازم، ونلاحظ فطنة العربى القديم إلى أن الإشارة الجسمية تقع موقع القول، وذلك من خلال لفظة " وقال بإصبعيه "، على ما جاءت به هذه الرواية.

وفى حديث آخر، عن أبى موسى عن النبى ﷺ، قال (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه) [المصدر السابق – ص 14]. وتشبيك الأصابع هنا دلالة على التماسك. ومما سبق نجد أن القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف قد استعملا الإشارات الجسمية فى صورتيها المفردة والمصحوبة بالكلام.

الإشارات الجسمية فى الشعر العربى

نلاحظ وجود الإشارات الجسمية فى الشعر العربى فى أبيات عديدة على مر العصور الأدبية، ومن ذلك قول امرىء القيس فيمن تغزل بها:

تـَصُدُّ وتـُبدِى عن أسيلٍ وتتقى    بناظرةٍ من وجرةِ وحشٍ مُطـْفِل

فهنا يتحدث عن إعراض محبوبته عنه وقد وظف إشارة جسمية فى التعبير عن هذا الإعراض وهى الميل بالوجه عن الشىء المُعرَض عنه. فحين تصد عنه وتعرض بوجهها، يظهر خدها الأسيل الذى أعرضت به، وهو مجاز عن الوجه.

وقول عنترة وقد أجرى الإشارات الجسمية على الخيل:

والخيلُ تقتحمُ الخـَبَارَ عوابسا ً     من بين شـَيظمةٍ وآخرَ شيظم

فيقول إن الخيل تسير وتجرى فى الأرض التى يصعب فيها ذلك، وقد عبست وجوه الخيل لما نالها من الإعياء والتعب. فكأنها إنسان يكشر بوجهه، وتكشير الوجه هو إشارة جسمية دالة على الغضب فى الغالب، أو الإعياء والتعب.

وقول ابن هانىء:

والبانُ فى الكثبان طوعُ يدى     إذا أومأتُ إيماءً إليه تعطـَّـفا

فشجر البان المتمايل إذا أومأ إليه الشاعر فقط، أى أشار إليه دون تكلم، فإنه ينعطف عليه ويميل.

وقول الراعى النميرى:

فأومأتُ إيماءً خفيا ً لحبتر   ولله عينا حبتر أيما فتى

وقول جميل بثينة:

ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا   وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

الشاعر يفخر بقومه، فإن ساروا يسير الناس خلفهم، كناية عن تبعية الناس لهم، وإن أشاروا فقط وقف الناس هيبة وطاعة لإشارتهم. وقد أخذ الفرزدق هذا البيت ثم ضمنه فى شعره الذى يهجو فيه جريرا ً.

أما عند أبى نواس فإننا نجد الإشارات الجسمية حالة فريدة وتجربة حداثية جديدة فى الشعر العربى، ذلك أننا حين نطالع الإشارات الجسمية فى الشعر العربى نجدها جاءت على سبيل الروى الشعرى أو الوصف، أما أن تدخل الإشارات الجسمية فى البنية التركيبية للبيت وتصبح جزءا ً أصيلا ً فى صورة مفردة دون كلام، فهذا هو الجديد الذى أتى به أبو نواس فى هذا الباب. وقد استغنى عن الألفاظ وأخذ يصدر إشارات جسمية وهو يلقى أبياته فتقوم مقام اللفظ.

وهذا ما حدثنا به ابن رشيق فى العمدة، قائلا (وقد جاء أبو نواس بإشارات لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين قال له مرة: هل تصنع شعرا لا قافية له ؟، قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالا:

ولـقـد قلت للمليحة قولى من بعيد لمن يحبـــك " إشارة قبلة "

فأشارت بمعصم ثم قالت من بعيد خلاف قولى " إشارة لا لا "

فـتـنـفسـتُ ساعة ثم إنـى قلتُ للبغل عند ذلك " إشارة امش "

فتعجب جميع من حضر المجلس من اهتدائه وحسن تأتيه، وأعطاه الأمين صلة شريفة).

فجعل الإشارات الدالة تحل محل الأصوات، وتأتى بدلا من القافية الكلامية، هو الشاعر الوحيد الذى صنع قافية إشارية " إشارة قبلة، إشارة عدم الموافقة، إشارة المشى والمسير". بل إنه لم يعد هذه الأبيات مسبقا وظل يعكف على تركيبها البنائى، بل جاءت لفوره ارتجالا.

النفس قد تبسط سلطتها فى الإشارات الجسمية

أحيانا نجد النفس هى صاحبة السلطة الأولى والأخيرة فى بعض الإشارات الجسمية، فالإنسان له القدرة على تحريك يده أو قدمه أو عضلات الوجه، بما يعطى إشارة ذات دلالة ما، وقد تأتى كما ذكرنا عفوية دون تعمد.

لكن أن يكون مسلوب القدرة تماما فى إشارة جسمية فهذا مما يستحق الإشارة إليه. وذلك مثل احمرار الوجه عند الغضب أو الخجل أو الحرج، فاحمرار الوجه هنا إشارة جسمية دالة على الموقف وليس للفرد أى دخل فيها، هى طرأت عليه بفعل سلطة النفس وملكاتها وانعكاسات الحالة السيكولوجية على الجسد.

علم اللغة النفسى والإشارات الجسمية

علم اللغة النفسى أو كما يطلق عليه البعض علم النفس اللغوى، هو علم حديث وهو ناتج تضافر علوم اللسانيات مع علم النفس، من هنا كان صوغ منهجه وتحديد معالمه، فيختص هذا العلم بدراسة العوامل النفسية والعصبية وأثرها فى اللسانيات، ومن ناحية أخرى الاستدلال باللسانيات وحركات التواصل والتعبير الشفهية والحركية على تحليل وتفسير النفس. وكذلك عيوب اللسان والنطق كالثأثأة والفأفأة وغيرها وبيان أسبابها النفسية، ومن ثم يتثنى علاجها وتقويم النطق اللسانى عن طريق العلاج النفسى، وهذه المهمة الأخيرة هى التى انفرد بها علم جديد انبثق من علم النفس اللغوى، وهذا ما نعرفه الآن بـ " التخاطب ".

وبذور اهتمام علم النفس بالإشارت الجسمية يرجع إلى العالم البريطانى " داروين / 1809م – 1882م " وهو عالم جيولوجيا وأحياء. وفى إطار دراساته فى الأحياء لاحظ اقتران حركات إشارية صادرة بالجسد تعبر عن دلالات أو عواطف معينة.

كانت هذه هى بذرة البداية، ثم توالى العلماء بعدها يصيغون النظريات من واقع التطبيق حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من التحليل النفسى للشخص عن طريق الإشارات الجسمية التى يستخدمها فى حديثه، كل حركة تؤدى باليد أو اليدين أو الأصابع أو العين أو الوجه، يحللها علم النفس ويفسر من خلالها شخصية المتحدث، ومن خلال هذه الحركات يمكن تحديد النمط العام للشخصية وتوصيفها بالعدوانية أو المسالمة، الانقباض أو الانبساط، الوضوح أو الغموض، المكر والمراوغة، الصدق أو الكذب والتصنع.

كل ذلك وغيره من خلال تحليل الإشارات الجسمية التى يستخدمها الفرد وسيلة للتواصل. ولعلنا الآن تعرفنا جيدا الإشارات الجسمية ودورها فى التواصل بين الأفراد.

 

د. أيمن عيسى

 

 

 

في المثقف اليوم