قضايا

علجية عيش: هجرة الأفكار

(فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات)

إن الاحتكار الفكري في مجتمعنا العربي وبالخصوص المجتمع الجزائري وراء الكساد الذي تعيشه "النخبة" في الوطن العربي، والأفكار تنتقل من جماعة إلى أخرى، فهل حان الوقت بأن تستفيد الأمة العربية من التغيرات التي حدثت في اليابان وتركيا وماليزيا، وكيف تصنع تاريخها العربي والإسلامي بواسطة حركة الأفكار؟ تلك هي المشكلة؟

فهجرة الأفكار وصب خبرتها في مؤسسات الأجنبي مثلما نراه في الوقت الحالي، هي واحدة من أهم المشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع العربي والمجتمع الإسلامي في كل أقطاره، وقد تحدث الكثير من الباحثين عن هجرة الأفكار، ومنهم جلبرت هايت في كتابه تحت عنوان: "هجرة الأفكار"، وضع فيه فلسفة التاريخ، وقدم أمثلة عن تطور الأفكار في جانبها الإيجابي وكيف استثمرت الشعوب في أفكار شعوب أخرى، ويكفي أن تكون فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات، لقد تحدث جلبرت هايت عن التاريخ بإسهاب شديد، وقال أن التاريخ من الدراسات الأكثر تعقيدا باعتباره الحقل الذي يحفز أحداث الماضي، والجزء الأكبر من التاريخ لا يدور حول الأشخاص والأفراد أو رجال عظماء، أو سجل للمعارك والحروب، وكيف انتزعت إحدى الطبقات الثروة والمجد من طبقة أخرى، وإنما يدور حول جماعات مختلفة ذات قوة أرادت أم تهيمن على جماعة ضعيفة، ليس بالسلاح بل بالأفكار، يمكن أن نقول أنه بهجرة الأفكار كان جلبرت هايت  يدعو إلى  التغريب.

فرغم  أن الإسلام تابع سيره مخترقا الحدود الطبيعية والجغرافية حتى وصل شرقا إلى إيران والهند والصين وغربا إلى إسبانيا، وشمالا إلى جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأناضول وأرض روسيا، وجنوبا إلى قلب أفريقيا وسواحلها الشرقية والغربية، غير أن العالمين العربي والإسلامي لم يعيشا عيشة الجسد الواحد، ولم يعملان بدستور الإسلام، هذا ما تؤكده العديد من الكتابات، فلم يعرف التاريخ مجتمعا نشأ سليما، أبيا مثل المجتمع العربي، ذلك أن المجتمع العربي أقبل في حماسة لكل ما يجلب له الخير والنفع، لقد كان العرب منذ أن ظهروا على مسرح الأحداث العالمية أصحاب رسالة سامية يدعون فيها إلى المحبة والإخاء، غير أنهم لم يستثمروا في أفكار غيرهم وحتى أفكارهم، وتخبط البعض منهم من أصحاب النفوس المريضة في فهم هذه الرسالة السامية، حيث اتخذ أعداء هذه الفئة طابعا خاصا في التاريخ، ومن هنا بدأت الحضارة العربية تعرف نوعا من التراجع والصراعات والخلافات بين المسلمين تحت ستار تيارات مختلفة فظهر الانشقاق في الأمة العربية والإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس، فعرفت بالشلل والجمود.

لقد ظهر رجل من شمال افريقيا ليطرح مشكلة الأفكار لكن بطريقة  تختلف عن الطريقة التي طرحها هايت، إنه المفكر الجزائري مالك بن نبي، إذ يقول وهو يتحدث عن جهل المسلمين بهذه الاعتبارات : "إنّ المجتمع الإسلامي يُعاني من السخط الإلهي الصادر من النماذج الكُلِّية في محيطه الثقافي بالذات، كما يعاني من الانتقام الشديد على الأفكار التي استعارها من أوروبا دون أن ينظر في الشروط التي من شأنها أن تُحافظ على قيمتها الاجتماعية، وينجم عن ذلك فقدان الحيوية في الأفكار الموروثة وفي الأفكار المُكْتَسَبَةِ، وهو الأمر الذي يُخِلُّ إخلالاً خطيرا بالتطور المعنوي والمادي في العالم الإسلامي، ودون تعميم طبعا، وكتابات مالك بن نبي حول مشكلة الأفكار والمشكلة الحضارية لقيت رواجا كبيرا عند المثقف الغربي كون مالك بن نبس كان يكتب باللغة الأجنبية، وقام مشارقة بترجمتها إلى اللغة العربية  لكن بالرغم من ذلك  لم تستثمر افكاره بالشكل الكافي وتؤسس لها مخابر للتحليل حتى السنوات الأخيرة بدأ ضوؤه يلمع في فضاء  الكتابة والنقاش في الفضاءات الجامعية،، حين حرك كتاب عرب وجزائريون اقلامهم للتعريف بفيلسوف الجزائر ومحررهم من التبعية، مثله مثل محمد أركون والعوّا والجابري وغيرهم من الذين اعتبروا الأفكار تخضع لسُنّة التغيير.

فحين تلتقي أفكارٌ مع أفكارٍ أخرى قد يحدث تصادم بينهما وقد تتلقح وتصبح لها قابلية التطور، وهو ما اشار إليه الباحثون بالازدواجية الفكرية  أكانت تعليمية إصلاحية أو سياسية، المشكل أن العرب لم يأخذوا بتجارب غيرهم فها هو إمبراطور اليابان الذي تحدث عنه جلبرت هايت وهو يؤدي مرسوم القسم أمام الشعب عام 1868، حيث قال: " سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم" ومن هنا بدأت سياسة اليابانيين تنحصر في تعلم كل ما يمكن تعلمه من الشعوب الأخرى، وطبقوا هذا الشعار في حياتهم اليومية، فاقتبسوا من الصين ذات الحضارة العظيمة، دون أن يصبحوا أسرى لها، فكانوا قوما أقوياء الإرادة، وقد سارت تركيا على نهج اليابانيين وكذلك الرومان الذين حوّلوا منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط من أحراش وصحاري إلى بلاد كلها حدائق وكروم وحقول يانعة، إن الفكرة الواحدة يمكن أن تولد في عقل فرد واحد، ثمّ تنتشر بعد ذلك لتشمل الجماعة كلها، فتثمر وتتحول إلى فعل أو مشروع وقد تموت عندما العرب في مفترق الطرق، الفكرة تظل فكرة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يكفي أن نؤمن بها لأنها من صنع تفكيرنا،  يبقى السؤال كيف نحقق التوزان بين ما نفكر فيه وما نقوله وبين ما نفعله؟

***

علجية عيش - كاتبة وباحثة - الجزائر

في المثقف اليوم