قراءة في كتاب

الصحائف البغدادية .. نبذ وخواطر .. ذكريات وأحاديث .. أعلام وأقلام

nabil alrobaeiمدينة بغداد حقاَ هي مدينة الأسرار والأحلام ودار الخبايا والخفايا وعجائب الليالي والأيام، فقد كتب عنها الكثير ممن زارها من الكتاب والرحالة أو المستشرقين، فكانت شهادات تنطوي على الوفاء والانطباع الذي تركته مدينة بغداد في قلوب زوارها، يذكر الباحث د.عبد الستار الراوي في هذا الكتاب في ص167 "إن أبا جعفر المنصور شيّد عاصمة جديدة على موقع قرية تعرف باسم(بغداد) منذ أيام حمورابي (القرن 18 ق.م) وسماها مدينة السلام تيمناً بالجنة، وكأنه قد فهم الجزء الأول من اسمها المركب في لغة أهل (بابل )القدماء، إلا وهو(البستان) أو (الجنينة) حيث إن لفظة (باغ) الآرامية تعني ذلك، أما الجزء الثاني (داد) فيعني (الحبيب) إذن معنى (بغداد) هو (جنة الحبيب).

 صدر للباحث فؤاد طه محمد الهاشمي البغدادي عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع ضمن سلسلة بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013 وعلى نفقة وزارة الثقافة العراقية كتاب يخص مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، تحت عنوان "الصحائف البغدادية ...نبذ وخواطر، ذكريات وأحاديث، أعلام وأقلام"، الكتاب يحتوي على 194 صفحة من القطع المتوسط، تضمن الكتاب ملتقطات بغدادية حول أحياء وأزقة بغداد وبعض الشهادات ممن تعزز حب بغداد العباسية في نفوسهم إضافة إلى زيارات حديثة لبغداد من مثقفين وأدباء وفنانين ورحاله عرفوا هذه المدينة الجميلة عن قرب .

  الكتاب كان على فصلين، الفصل الأول احتوى على ما كتب عن معالم بغداد الأثرية التي بقى بعض من معالمها لحد الآن، وممن زال من معالمها وآثارها بسبب جيوش الاحتلال التي طمست بعض معالمها منها سور بغداد التأريخي و باب الطلسم الذي اتخذه الوالي العثماني كمخزن للعتاد والبارود فقد تمد نسفه من قبل الضابط (طه محمد شريف علي جهيم) بأمر عسكري بعد انسحاب الجيش العثماني المنكسر عام 1917 من مدينة بغداد ودخول الجيش الانكليزي المحتل لها كما ذكمر ذلك الكاتب في ص 44، فقد أقدم الأتراك على نسفه لأنهم اتخذوه مستودعا للبارود ثم انسحبوا ليدخل الجنرال ستانلي مود ويحتل بغداد في 11 آذار 1917، كما أشار الكاتب إلى إن هذا الباب كان مأوى للأشقياء والسراق ففي ص 39 يذكر الكاتب قد "قتل الشقي ابن الخبازة بالقرب من الباب الوسطاني، الذي كان وكرا يلجأ إليه عدد من أشقياء بغداد أمثال (طه ابن الخبازة)الذي لم يكن شقيا بل فارسا من (محلة الفضل) دافع عن أبناء محلته، فكان باب الطلسم أو ما يدعى بالباب الوسطاني وكراً للأشقياء منهم "عباس السبع وخماس ابن شاله وصالح ابن الدهان وعمران الشبلاوي وممودي أبو شكر والشقي سمرمد وابن عبدكة " إضافة للكثير من الأشقياء الذين كانوا يرددون بفخر "نحن أبناء الطلسم".

  كما أشار الكاتب إلى بعض أحياء وشوارع بغداد وهي من معالمها للفترة الماضية لتوثيق ذلك في كتابه الذي يعتبر ذات أهمية تاريخية لمن يبحث في تاريخ هذه العاصمة العباسية التي بناها الخليفة المنصور مثل "محلة فرج الله و والسور والصرافية والميدان وجديد حسن باشا والبارودية وقمر الدين والفضل والقرة غول وتبة الكرد وحمام المالح والحيدر خانة والعاقولية "والكثير من أحيائها، لكن الكاتب قد وضح بشكل أكثر عن محلة فرج الله معتمدا بذلك على الجدول المنشور على ص 21 من أطلس بغداد للأستاذ احمد سوسة الذي يضم محلات بغداد ومساحة ونفوس كل محلة مع بيان لعدد الدور والقصور والعمارات، كما أشار الكاتب في ص 21 من كتابه، أما في ص23 فقد أشار الكاتب إلى شارع القشلة ومدرسة الحميدية التي اتخذت مدرسة الحقوق مكاناً لها في بناية المدرسة الحميدية وقد أدار مدرسة الحقوق المرحوم "موسى الباججي "، إضافة إلى الإشارة إلى أول تظاهرة شعبية في شارع القشلة عام 1904 ضد قرار سلطاني صدر من دار الخلافة الإسلامية – استنبول بتسجيل عدد النسوة في العراق والذي اعتقد أهالي بغداد بأنه يمس تقاليد موروثة وعادات عربية ويمس شرفهم وكرامتهم، فخرجت تظاهرة يتقدمهم السيد احمد النقيب معلنين السخط والاستياء لهذا القرار، فقصد الجميع (سراي الوالي)ولم يخرجوا إلا بعد أن قرر الوالي تأجيل النظر في أمر التسجيل".

 الكتاب يتضمن مواضيع وأمور مهمة تخص العاصمة بغداد في العهود الماضية، فهو وثيقة مهمة لتوثيق تاريخ مدينة كانت رمزاً للعواصم العربية، فقد عرفت في تآلفها وتعايشها مع جميع أبناء الطوائف والديانات الأخرى، إضافة إلى ما تضمنه الكتاب بمواضيع تخص تاريخ المحاكم المدنية من خلال مقال بعنوان "بناية المحاكم المدنية"ولماذا أطلق عليها اسم (الدفتردار )، والدفتر ذلك المصطلح اليوناني أي بمعنى جلد الحيوان لأنه كان يستعمل للكتابة وقد اتخذ العثمانيين اسم(الدفتر دار) عن الإيلخانيين كما ذكره الكاتب في صفحة 28 أي بمثابة وزير المالية، لكن المصطلح بقى يستخدم حتى ألغى في تركية عام 1841م، ثم يتطرق الكاتب إلى (قصر الشابندر) في ص 30 لعائلة تألق اسمها التاريخي حيث تحول القصر إلى مقهى معروف على مستوى العراق والوطن العربي فهذه" الاسرة البغدادية لم يبق لها مما يقرن باسمها إلا مسجد في الأعظمية وخان في شارع المستنصر وقد بيع بثمن بخس وهذا المقهى، وقد جرت عدة محاولات لبيعها لولا كفاح الحاج محمد ابن كاظم ابن سعودي الخشالي عميد المقهى "، ثم يعرج الكاتب على دار القلمجي فهم عائلة اتخذت من التبغ تجارة لهم في بغداد وكان عميدهم أيوب القلمجي .

  يؤرخ الكاتب تاريخ غرفة تجارة بغداد في ص33 فكانت تمثل" أول غرفة تجارية بالمعنى الصحيح...وكانت مرجعاً للأمور التجارية والاقتصادية وعين لها:

1- مركوريان- مدير شعبة المصرف العثماني رئيساً

2- شاؤول معلم حسقيل –رئيساً ثانياً

3- الحاج ياسين باشا الخضيري المستشار الأول

4- يهودا زلوف- مستشارا ثانياً

أما الاعضاء فهم (شاؤول شعشوع، محمود الأطرقجي، الحاج عبد المجيد حمودي، إبراهيم حاييم معلم إسحاق، عزيز شكر، كريكور اسكندر)، أعلنت الغرفة لزوم تسجيل الشركات وان تحصل كل شركة على إجازة "، كما تضمن الكتاب ما احتوت به ساحة البقحة على طوب أبو خزامة، فكان مكانه في مدخل سوق الهرج القريب من وزارة الدفاع ويعود تاريخ هذا المدفع إلى عهد السلطان مراد الرابع، فقد ألف أبناء العامة من البغداديين القصص والخرافات والحكايات حول هذا الطوب منها أن الانخفاض الواضح على ضهره "يفسره البغداديون بأنه جاء نتيجة ضربة كف السلطان سددها إليه بعد أن حرن وتوقف عن المسير " فكان الطفل الوليد لا بد أن يكتسب شهادة ميلاده من قيام أمه أو جدته بإدخال رأسه في فوهة المدفع ثلاث مرات، وروحانية الطوب تسري على شفاه المرضى ودفع موجات الرمد والحمى والحصبة والحسد.... وقد ذكر احد المواطنين اليهود – وهو من بيت بحر، تحت التكية إن أمه حملته في أول أيام ولادته الى طوب أبو خزامة وفعلت به ما تفعل بعض الأسر المسلمة بأبنائها ".

يذكر الكاتب ضمن موضوع (بغداديات شاردة) لبعض المصطلحات التي تطلق على أزقة ومحلات بغداد وتاريخها ومصادرها مثل (الجشمحية، محلة سوق الغزل، البلانجية، الدنكجية، الحفرجية، الكلخانة، عقد الفتاتيل، الاسكجية، عقد النقاقيب، الدوكجية، البواديش، الدهامشة، سوق حمادة) وغيرها من الأسماء، إضافة إلى التطرق لتاريخ محلة رأس القرية والحمّامّات منها" حمام القاضي وحمام حيدر وحمام ياسة بنت أيوب وحمام تاجة بنت الطبقجلي وحمام بنجة علي وحمام الشورجة وحمام عيفان وحمام يونس) وما كتب من شعر شعبي عن حمّامات بغداد، ثم يعرج الكاتب إلى تاريخ إنشاء عمارة الدامرجي في ص57 وفي ص60 يذكر الكاتب نبذة عن تاريخ طاقات بغداد منها (الطاق الأظلم، طاق المشير هدايت، طاق السقا، طاق احمد الخبل) .

 أما الفصل الثاني فقد تضمن الكتاب مجموعة الشهادات لعشاق بغداد منذ الدولة العباسية وحتى يومنا هذا من أبناء بغداد وشعرائها وأدباء وشعراء عرب ومستشرقين زاروا بغداد وكتبوا بحقها ما يسر الناظر فبغداد كانت وما تزال لم تبرح بهوى أفئدة الشعراء لتاريخها وجمالها وجلالها لكن ما يؤلم من يقرأ ما كتب عن بغداد في العصور السابقة وما حالت إليه بغداد من دمار يحز في النفس فمن شهادة يوغسلافية للمخرج السينمائي (جورج سنمو سكي) في ص122"بغداد رائعة نظيفة، بخلاف عواصم كثيرة زرتها، بينها أجنبية اشعر إنني شرقي الثقافة والمشاعر، وجدت في بلدكم شيئاً مختلفاً انه سحر الشرق الحقيقي، حيث نهضت الحضارة ها هنا، ممثلة في بابل ورموزها"، ثم يتطرق الكاتب في ص155 إلى تاريخ طرق النقل وأنواعها في العراق، ثم يذكر الكاتب في ص181 مقال عن الدكتور (خالد ناجي داود الزبيدي) وطريقته البغدادية لمعالجة الحروق، الدكتور من مواليد بغداد عام 1923 تخرج من الكلية الطبية العراقية عام 1945 ونال درجة الماجستير في الجراحة عام 1948 ثم حصل لقب الاختصاص في الجراحة العامة و" فتح عيادة طبية شعبية لمعالجة المرضى من الفقراء استمرت أكثر من عشر سنوات وكان أجرة المريض تتراوح بين 150-250 فلسا شهريا ثم اصدر مع أشقاءه مجلة باسم (العيادة الشعبية) التي تصدر مرتين في الشهر وبحملة (15) ألف نسخة للدفعة الواحدة "لكن الدكتور الزبيدي " ابتكر(الطريقة البغدادية) لشفاء الجروح والحروق، ونتيجة ذلك وجهت الجمعية الطبية البريطانية دعوة للدكتور البغدادي لإلقاء بحث أمامها حول الموضوع " حتى أحيل الطبيب النابغة إلى التقاعد عام 1979.

  الكتاب مهم للباحثين في شأن العاصمة بغداد فهو يحتوي على المأثورات البغدادية التليدة، ولتاريخ مدينة هي أجمل عواصم البلاد العربية، لكنها في الوقت الحاضر أهملت ومزقت أحيائها بسبب الفوضى والحرب الطائفية والمذهبية .

 

في المثقف اليوم