قراءة في كتاب

بدر العبري: كمال الحيدريّ وتأريخيّة العقل الفقهيّ

صدر مؤخرا عن "مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث" بالشّارقة كتاب لسماحة السّيّد كمال الحيدريّ بعنوان: "العقل الفقهيّ بين الإطلاق والتّاريخيّة: نقد قاعدة الاشتراك"، والكتاب بقلم حيدر اليعقوبيّ، وما أكتبه في هذه المقالة ليس وصفا للكتاب وتلخيصا له، وليس نقدا له أيضا، وإنّما لمحة سريعة عن الكتاب وفق النّظريّة التّأريخيّة، أو السّنّة التّدبيريّة، أو الظّرفيّة كما جاءت بإسهاب في الكتاب، لهذا التّأريخيّة قد تحدث شيئا من اللّبس وفق القراءات المعاصرة؛ لأنّها لا تتوقف عند المفهوم أو المصداق فقط؛ بل تتعدّى إلى النّصّ ذاته، غير ممايزة في الأصالة من حيث بشريّته ولاهوتيّته، بيد أنّ الكتاب من الابتداء جاء مناقشا للعقل الفقهيّ أكثر من النّصّ الدّينيّ ذاته، موردا الزّمنيّة والظّرفيّة في العديد من المصاديق الّتي أسهب حولها، في قراءة داخليّة من التّراث الإسلاميّ – خصوصا المدرسة الإماميّة -، ومدى دوارن المصاديق وأصولها بين الاشتراك والتّأريخيّة.

عموما القراءة التّأريخيّة من أكثر القراءات الجدليّة اليوم، ومع حضور بعض أجزائها علليّا في التّراث الفقهيّ الإسلاميّ إلّا أنّها محل جدل عند التّقليديين خصوصا، ومع حضورها معرفيّا في الدّراسات المعاصرة؛ إلا أنّ حضورها لا زال يصاحبه توجس كبير في الدّراسات الإسلاميّة عموما، خصوصا حول اجتهادات نصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومحمّد أركون (ت 2010م)، وعبد الكريم سروش وغيرهم، وهناك من يمايز بين التّأريخيّة والتّاريخانيّة، وسبق أن كتبتُ مقالة في هذا في جريدة عُمان بعنوان: "النّصّ الدّينيّ والقراءة التّأريخيّة"، أشرتُ إلى التّمايز بينهما، فليرجع إليها بُعدا عن التّكرار.

الّذي يهمني هنا الفريق الّذي لا يمايز بينهما ككمال الحيدريّ، فيطلقون التّأريخيّة بمعنى التّأريخانيّة من بعض الوجوه، فكلاهما كما يرى الحيدريّ "يُراد بها الموقّت والمقيّد بالظّرف التّاريخيّ الّذي تحقّق فيه، فالتّاريخيّ هو المرتهن أو التّابع للظّروف التّاريخيّة الّتي تحقّق فيها وصدر خلالها"، وإن كان كما يرى شفيق جراديّ في كتابه: الوحي ونقد النّصّ الدّينيّ أنّ "الحدّ الفاصل بين المنهج التّأريخيّ القائم على الوثيقة والتّحقيق، والمنهج التّاريخانيّ بما هو منهج معرفيّ خاصّ ينفي أي مستوى غير بشريّ في المعرفة، وأنّ اهتمامات المنهج التّأريخانيّ ليست التّاريخ بما هو تاريخ، بل المعرفة الّتي يمكن أن نلحظها في تولداتها ومسيرها التّطوّريّ، ونسبياتها البشريّة البحتة"، بيد أنّ الحيدريّ يوضح مراده بالتّأريخيّة "في هذه الدّراسة [بمعنى] الموقّت والمقيّد بالظّرف التّاريخيّ الّذي تحقّق فيه، فعندما يُقال مثلا إنّ السّنّة النّبويّة تاريخيّة؛ معناه أنّها مقيدة بالظّروف والأحوال المحيطة بها، ولازم ذلك أنّه لا ينعقد لها إطلاق أحواليّ وأزمانيّ لتشمل العصور اللّاحقة، والبيئات الّتي تختلف عن تلك البيئة الّتي تحقّقت فيها، وصدرت من خلالها".

فالتّأريخيّة عند كمال الحيدري أبعد عن التّأريخانيّة بمفهومها الفلسفيّ الشّموليّ، "الّذي يوحي بأنّ للسّنة مثلا تاريخ صلاحيّة معيّنا، وأنّ دورها قد انتهى بانتهاء ذلك التّاريخ، بل المقصود منها الظّروف الفكريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والعادات والتّقاليد الّتي تحيط بالنّصّ"، فهو أقرب إلى العلليّة المصاحبة للعلّة والقرائن والظّروف والاستصحاب والمصالح والمقاصد، بمعنى "أنّ العناوين الواردة في النّصّ الرّوائيّ سواء كانت فقهيّة أم عقائديّة أم أخلاقيّة أم اقتصاديّة أم اجتماعيّة عندما رتّب النّصّ عليها محمولا ما؛ أخذ فيها الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة".

ابتداء يرى الحيدريّ أنّ "الدّين ... أساسه النّصّ الدّينيّ، المتمثل بكتاب الله عزّوجلّ والسّنّة"، بيد أنّه في غالب الكتاب يركز على السّنّة أو الرّواية، فقد "كان [النّبيّ] يعيش بين النّاس، وصدرت عنه مجموعة من الأقوال والأفعال والإمضاءات شكلت بمجموعها ما عرف بعد ذلك بالسّنّة"، هذه لا تخرج عن التّأريخيّة بالاتّفاق؛ لأنّها "مقيّدة بالظّروف والأحوال المحيطة بها، ولا ينعقد لها إطلاق أحواليّ وأزمانيّ لتشمل ما بعد عصره، وخاصّة العصور اللّاحقة، والبيئات الّتي تختلف عن تلك البيئة اجتماعيّا وثقافيّا واقتصاديّا"، وهذا خلاف القرآن من حيث الوصول، والقول بتأريخيّة أي تأريخيّة القرآن قديما "بمعنى الخلق أي الحدوث في التّأريخ"، وهذا حسب الخلاف الكلاميّ هل هو حادث أم قديم، إلّا أنّه مرتبط علليّا في العديد من أحكامه الّتي تدور فهوماته حول الظّرفيّة لا الاشتراك.

ومراد الاشتراك "أنّ مشهور علماء الإماميّة ذهبوا إلى أنّه إذا ثبت حكم شرعيّ لمكلّف، سواء كان مخاطبا به أم لا، وسواء كان بدليل لفظيّ فيه إطلاق، أم بدليل لبيّ كالإجماع الّذي لا إطلاق له، فهو شامل لجميع المكلفين في الأزمان والأحوال"، وهذا عكس التّأريخيّة الّتي ينتصر لها الحيدريّ في الكتاب، بل حتّى من حيث غاية النّصّ ذاته، "فكلّما استقرأنا الأوامر والنّواهي الشّرعيّة وجدنا أنّ كلّ ما أمر به ففيه صلاح العباد، وكلّ ما نهي عنه فلا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك، وهذا يعني أنّ الأصلا أنّها شرعت لا لأجل الانقياد والطّاعة فقط، بل أيضا لتدبير شؤون الحياة البشريّة".

وبما أنّه جاء لتدبير شؤون الحياة البشريّة فلا يمكن نزع التّأريخيّة عنه، ولا يعني بالتّأريخيّة حسب هذه الصّورة نزع الثّوابت، فالدّين فيه "ثوابت غير قابلة للتّحوّل والتّبدل، لكن على مستوى المفهوم لا المصداق .. هذه الثّوابت تشكل مساحة صغيرة، وموارد قليلة من منظومة المعارف الدّينيّة"، ولهذا كان الأصل التّأريخيّة وليس الاشتراك أو الإطلاق.

ولهذا يطرح الحيدريّ تساؤلات: هل للنّصّ الدّينيّ قراءة واحدة أم متعدّدة؟ وحال التّعدّد هل جميعها حجّة أو بعضها فقط؟ وإذا قلنا جميعها فهل جميعها مطابقة للواقع؟، فهنا في الابتداء يمايز بين الإلهيّ المتمثل في الدّين، والبشريّ المتمثل في فهم الدّين، والّذي يترتب عليه تراتبيّة الواقع السّابق أو الّذي جاء فيه النّصّ، ثمّ النّصّ الدّينيّ، ثمّ فهومات النّصّ الدّينيّ، وبما أنّ "الواقع سابق للنّصّ، والنّصّ كاشف له، وإذا كان الواقع ثابتا؛ إلّا أنّ فهم الواقع من خلال النّصّ متغيّر ومتعدّد"، بيد أنّ الحيدريّ يرجّح "أنّ الواقع متعددّ إمّا باختلاف الأزمنة أو باختلاف درجات وطبقات النّاس".

ثمّ إنّ التّعامل مع النّصّ لا يمكن فصله عن زمن النّصّ من جهة، وزمن مؤول النّصّ من جهة ثانية، ثمّ تأثير المؤول ذاته في النّصّ، بمعنى غلبة ذات الفقيه على موضوع النّصّ ذاته، فزمن النّصّ لا يمكن للفقيه أن يكون فقيها "إلّا إذا عرف زمان صدور النّصّ؛ بمعنى أنّه يأخذ الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة المحيطة بعين الاعتبار في الاستنباط".

وزمن مؤول النّصّ لأنّ "المفسّر للنّصّ الدّينيّ ... يعيش ضمن ظروف زمكانيّة معيّنة، فيكون فهمه وقراءته متأثرين بالظّروف الّتي يعيشها، إذ لا يمكن لأيّ عالم أن يتجاوز زمانه ومكانه، ولازم ذلك أنّ آراء صحابة النّبيّ، وأصحاب الأئمّة، واجتهادات الأعلام هي تاريخيّة إلّا إذا ثبت العكس"، لهذا "قد يكون للنّصّ الدّينيّ فهم في زمن وصوله يختلف عن فهم رجال عصر صدوره".

وأمّا تأثير المؤول ذاته في النّصّ لأنّه "عندما يواجه الإنسان نصّا ... فهو إنّما يفهم النّصّ من خلال ما يحمل من موروث فكريّ وثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ ودينيّ في ذهنه، ومحال عادة أن يتجرّد عن موروثه، إذ لو تجرّد عنه لما أمكنه فهم النّصّ".

لهذا لا يمكن قراءة النّصّ الدّينيّ بعيدا عن الزّمكانيّة، والزّمان في نظر الحيدريّ "ليس هو معناه الفلسفيّ، أو مجموعة الآنات الّتي تقاس بها الحركة على نحو تغيير الأوقات من الصّباح إلى المساء، وعليه تتقرّر واجبات على المكلّف يجب عليه أن يؤديّها ... وليس المقصود كذلك تغيّر العرف والعادة، وإنّما المقصود هو تغيّر الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الّتي تحكم الحياة الإنسانيّة، مضافا إلى تطوّر الحياة بمختلف أشكالها"، وارتباطه بالمتغير أي "بالظّروف الّتي تؤدي إلى تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وتحوّلات في طريقة حياة النّاس، فقد يكون بلد ما محكوما بنظام سياسيّ واقتصاديّ واحد ثابت، لكنّ العادات والأعراف فيه مختلفة من محلّة إلى أخرى"، وتغيّر الظّروف "هو تغيّر الواقع، أو الأوضاع والنّظم الاجتماعيّة الّتي تربط بين أفراد المجتمع وعناصره، وما يعقب من ذلك من تغيّرات في موضوعات الأحكام، وسلوكيّات الأفراد ومعاملاتهم"، وعلى هذا يُقرأ النّصّ الدّينيّ.

بطبيعة الحال الكتاب مليء بالمصاديق والمضامين الّتي لا يمكن الإشارة إليها في مقالة قصيرة، إلّا أنّه يؤخذ عليه ا لإسهاب الممل في شرح المصطلحات والقضايا الأصوليّة والفقهيّىة الّتي في العديد منها أقرب إلى هامش أصل الكتاب، بيد أنّه دراسة مهمّة للاتفاتة إلى التّأريخيّة من خلال العقل الفقهيّ ذاته، بنصوصه الدّينيّة، ومصاديقه الإنزالية، وقراءنه الظّرفيّة، وعلله المقاصديّة، وتأثيرات الزّمكانيّة عليه.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

في المثقف اليوم