قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

تُعدّ السّيرة الغيريّة سجلّا لحياة إنسان، يخطّه قلم غير صاحبه، فهي رحلة عبر الزّمن تعيد إحياء قصة إنسانيّة بكلّ تفاصيلها، من لحظة الولادة إلى لحظة كتابتها. تشبه رحلة استكشافيّة، ينطلق فيها الكاتب باحثا عن خيوط حياة شخص آخر، مستعينا بالوثائق والمخطوطات، وروايات الشّهود وصور الماضي.

تُبنى السّيرة الغيريّة على قاعدة من الحقائق، مستخدمة أسلوبا أدبيّا يضفي عليها سحرا خاصّا، فهي ليست مجرّد سرد للأحداث، بل هي رحلة عبر أفكار ومشاعر بطلها، تسلّط الضّوء على تجاربه وتأثيرها على مسار حياته، وتشكل جسرا بين الماضي والحاضر، تعرّفنا على شخصيّات مؤثّرة وتلهمنا الدّروس من قلب التّجارب، وتساعدنا على فهم العالم من حولنا بشكل أفضل.

إذن، فالسّيرة الغيريّة نوع أدبيّ جميل، يجمع بين الدّقة التّاريخيّة والسّرد الأدبيّ، ليقدم لنا قصة إنسانيّة ملهمة تثري حياتنا وتوسّع آفاقنا.

كتاب "شقيقي داود- سيرة غيريّة" للأدب جميل السّلحوت، يقع في (200) صفحة.

يكتب السلحوت في مقدّمة كتابه: لفت انتباهي أديبنا الكبير محمود شقير في تقديمه للسّيرة الغيريّة التي كتبتها سابقا بعنوان "ابن العمّ أبو شكاف" عندما كتب: "وإذا كان مألوفًا ظهورُ سِيَر ذاتيّة أو غيريّة للمثقّفين والأدباء والفنّانين ورجال السّياسية، فلماذا لا يكون مألوفًا بل مطلوبًا ظهور سِيَر لرجال الأعمال النّاجحين، الّذين صنعوا نجاحهم بجدّهم واجتهادهم، وليس عن طريق الغشّ والتّزوير والسّرقة والاستغلال، وكذلك لغيرهم من الكفاءات في حقول العلم والتّجارة والاقتصاد، وغيرها من الحقول التي تميّزت فيها فلسطينيّات، وتميّز فلسطينيّون يستحقّون أن تُذكر أسماؤهم، وأن تُدوَّنَ تجاربهم للاقتداء بها، فلا يطويها النّسيان".

يشار إلى أنّ الأديب السّلحوت قد كتب من قبل سيرته الذاتيّة في كتابين هما "أشواك البراري-طفولتي" و" من بين الصّخور-مرحلة عشتها".

سيرة داود:

يُقدّم لنا الأديب السّلحوت سيرة شقيقه داود المولود عام 1963م، مسلّطا الضّوء على تميّزه اللافت منذ ولادته، وصولا إلى مسيرته الحياتيّة الحافلة بالإنجازات.

يصرّح الكاتب أنّ اختياره لكتابة سيرة داود لا ينبع من تحيزه لشقيقه دون إخوته الآخرين، بل لِما يمتلكه من معرفة عميقة بتفاصيل حياة داود منذ ولادته.

لقد عاش السّلحوت مع داود في بيت واحد حتى سفره إلى أمريكا عام 1988م، فكان بمثابة الأخ الأكبر المسؤول الذي تابع مسيرة داود الحياتيّة عن كثب. وقد زاره وشقيقه الأصغر "راتب" في أمريكا أكثر من خمس وعشرين مرة، كما حرص على زيارته في الوطن بشكل متكرّر. وما زال التّواصل بينهم حميميّا بعد عودة داود للاستقرار في الوطن عام 2021م.

يركّز الكاتب في سيرة داوود على تميّزه اللافت منذ ولادته، ونجاحه في حياته العمليّة بفضل جدّه واجتهاده، فهو يمثّل قدوة يحتذى بها، مما يضفي أهميّة بالغة على تدوين سيرته.

يتطرّق في سرده إلى جذوره العميقة، يتناول البيئة التي نشأ فيها بكلّ تفاصيلها، يرسم صورة حيّة للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والعلميّ الذي عاشه وأخيه في طفولته، يقدم رحلة عبر الزّمن يمضي بها إلى مسقط رأسه، حيث نشأ وترعرع. يعرّفنا على عائلته وأصدقائه، ويشاركنا ذكرياته، مبرزا تأثيرها عليه وعلى أخيه، يحلّل الواقع الاجتماعي الذي عاشه، مشيرا إلى التحدّيات والعقبات التي واجهها وأخيه داوود، كما يركّز على القيَم والتّقاليد التي سادت في تلك الفترة، يناقش أيضا الواقع الاقتصاديّ متطرقا إلى الأوضاع المعيشيّة للنّاس، وفرص العمل المتاحة، ومستوى المعيشة بشكل عام، ولا يغفل عن الواقع العلميّ وتأثيره على حياتهم.

يعقد داوود العزم على السفر إلى أمريكا، مؤمنا إيمانا راسخا بأنّه سيحقق هناك أحلامه وطموحاته. كان يدرك أنّ العمل الجادّ والاجتهاد هما مفتاح النّجاح، وأنّ المثابرة تؤتي ثمارها في نهاية المطاف.

كان حلمه الأساسيّ هو الاستثمار في مشاريع داخل البلاد، فهو يريد أن يوفّر فرص عمل لأبناء العائلة؛ ليساعدهم على تحقيق استقلاليتهم الماليّة والوصول إلى حياة كريمة.

لم يكن ذلك الحلم مجرّد رغبة في الثّراء، بل كان مرتبطًا برغبته في مساعدة عائلته وتحسين ظروفهم المعيشيّة. كان يريد أن يُؤمّن لهم حياة كريمة تحقّق لهم الاستقرار والسّعادة. وكان على دراية بالتحدّيات التي ستواجهه في أمريكا، لكنّه كان مؤمنًا بقدراته وإمكانياته، فهو يدرك تمام الإدراك أنّ العمل الجادّ والمثابرة هما السّبيل الوحيد لتحقيق أحلامه.

الوجه الآخر للمهاجرين العرب، رحلة بين النّجاح والضّياع:

يكتب السّلحوت: في حواراتي مع شقيقي داود حول أوضاع المهاجرين العرب في أمريكا، كشف لي عن صورة مزدوجة للواقع هناك، فبينما تعدّ أمريكا إمبراطورية غنيّة ومتطورة، تتيح فرصا لا حصر لها للجادّين، تخفي أيضا وجها قاتما لمن يفرّط في طاقاته.

يؤكّد داود أنّ أمريكا تمثّل حلما للكثيرين، فهي بلد الفرص لمن يحسن اقتناصها، فالنّظام الرّأسمالي فيها يكافئ العمل الجادّ والمثابرة، ولا مكان فيه للكسالى أو المتواكلين، ويشير أيضا إلى وجود العديد من العرب النّاجحين في أمريكا من متعلّمين وغير متعلّمين، فهؤلاء اتّخذوا من العمل الجادّ والمثابرة نهجا، وحقّقوا النّجاح والرّخاء.

لكنّ الصّورة لا تخلو من الجانب المظلم، ففي أمريكا أيضا سبل الضّياع موجودة بجانب سبل النّجاح؛ فالمخدّرات والملاهي تشكل خطرا على كلّ من يفرّط في طاقاته ويهمل نفسه.

يروي داود قصة فلسطينيّ ثريّ أرسلته عائلته لحضور حفل تخريج ابن شقيقته، لكنّ الأمور لم تجرِ كما هو مخطط لها، فبعد تخرّج ابن شقيقته وعودته إلى البلاد، ضاع الخال في متاهات أمريكا. باع أملاكه وترك زوجته وأبناءه، وأضاع كلّ ما يملك على موائد القمار والمخدّرات.

يذكر الكاتب أنّ بعض العرب ينجرفون وراء أحلام الثراء السريع، فيلجأون إلى تجارة المخدّرات، ممّا يؤدّي إلى ضياع أعمارهم في السجون. وينتقد ظاهرة زواج بعض العرب من أمريكيات بقصد الحصول على الجنسيّة، ثمّ تطليقهم بعد تحقيق هدفهم متخلّين عن أبنائهم دون أيّ مسؤوليّة. يتحدّث عن ظاهرة إنجاب بعض العرب من أمريكيات دون الاعتراف بأبنائهم، ممّا يؤدّي إلى ضياعهم وسط صخب الحياة الأمريكيّة. كما يقدّم قصة ستيف جوبز مخترع الأيفون، كنموذج مؤلم لطفل عربيّ ضاع وسط المجتمع الأمريكيّ، فقد تركه والده العربيّ السّوريّ عبد الفتاح الجندلي، مع والدته الأمريكية جوان شيبل؛ لينشأ في كنف عائلة أخرى.

خلاصة القول: تؤكّد هذه الظّواهر على أهميّة الوعي بالمخاطر التي تهدّد العرب في أمريكا، والتّمسّك بالقيم الأخلاقيّة والمسؤوليّة الاجتماعية، للحفاظ على استقرار العائلة والمجتمع.

كما تقدّم رحلة المهاجرين العرب في أمريكا نموذجا مزدوجا، فبينما يحقّق البعض النّجاح والرخاء، يواجه آخرون خطر الضياع. وتؤكّد هذه الصّورة على أهميّة العمل الجادّ والمثابرة، والابتعاد عن كلّ ما يؤدّي إلى الضّياع والانهيار.

ختاما، تُمثّل هذه السّيرة رحلة مثيرة عبر صفحات حياة حافلة بالإنجازات والذّكريات، تقدّم للقارئ معلومات كثيرة عن حياة السّلحوت وشقيقه داود، وتعرّفه على شخصيتهما معا ومبادئهما وأفكارهما. ولا شكّ أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة السّيرة كاملة، ففيها الكثير من التّفاصيل والمشاعر التي لا يمكن حصرها في بضعة أسطر.

إنّ قراءة هذه السّيرة تتيح للقارئ فرصة التّعرّف على تجربة إنسانيّة مختلفة، وفهم العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيّة داود ونجاحه في حياته.

أُوصي بقراءة هذه السّيرة لمن يودّ أن يتعرّف على قصة إنسان مثابر واجه التّحدّيات وحقق أحلامه.

***

صباح بشير

27-1-2024

 

قد يكون كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعيّ "الدين والظمأ الأنطولوجي" الصادر عن "دار الرافدين" (بيروت – بغداد)، ومركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، نوعاً من السيرة الذاتيّة الكاشفة عن تجربة إنسانيّة عميقة التحوّلات، تبتدئ من مرحلة الطفولة وتَشكُّل الذات، مروراً بمرحلة الشباب والنشاط السياسيّ، وصولاً إلى مرحلة النّضج المعرفيّ.

يستمدّ الرفاعي مضمونَ الكتاب الموزّع على سبعة فصول وملحقين من بداياته الريفيّة الموسومة بالفطريّة، ثم يستعرض مرحلة نشاطه الحركيّ ذي المرجعيّة الإيديولوجية الإسلامية، وصولاً إلى اكتشافه خيار الإسلام الأنطولوجيّ، فيقدّم خلاصة حياةٍ، وموقفاً قيميّاً يؤكّد أن الدينَ جوابٌ عن سؤال وجوديّ، وبيانٌ لحقيقة الوجود الإنساني المفتقر إلى الوجود الكليّ المقدّس، في الوقت الذي يُشكّل فيه (الدين) إرواءً للظمأ الأنطولوجيّ التكوينيّ لدى البشر، بعيداً من جفاف علم الكلام، وأدلجة الإسلام السياسيّ، الذي أخرج الدين من "مجاله الروحي والأخلاقي" (ص22)، فنسيَ الإنسان وحاجته إلى الفن والجمال والإيمان المنفتح.

قد يتوهّم البعض أن الرفاعي في نقده الأدلجة يُسيء إلى الدين، لكنّه على العكس من ذلك يرى أنّه ينزّه الدين، ويجعله حبل الله ما بين العبد ومحرّكه الدائم بفضل البُعد الأنطولوجي، الذي يعرّف الظمأ إليه (ص 25) بأنه "الحنين للوجود المطلق. إنه ظمأ الكينونة البشريّة بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً على الدوام إلى ما يُثريه". فـ"الإنسان كائن متعطّشٌ إلى وجود غنيّ مكثّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجوده، ويسقي به عطشه المزمن". "وحيث كان الظمأ للمقدّس فلا بدّ من أن يحضر الدين".

يتّخذ الرفاعي في الكتاب موقفاً حاسماً مناوئاً للإسلام السياسيّ معتبراً إيّاه مسيئاً إلى الدين والإسلام. ويركّز هجومه على أبرز المنظّرين الثوريين الدكتور علي شريعتي وسواه من الإيديولوجيين الإسلاميين الذين أساءوا بنظره إلى الدين، حين أدلجوه وجفّفوا منابعه الروحيّة تماماً مثلما أساءت السلفيّة بفكرها التبسيطيّ والحروفيّ، والصوفية الطرقيّة باستعبادها أتباعَها، إلى مضامين الدين العميقة المُثرية، ليُعلن بعد ذلك انحيازه إلى التصوّف المعرفيّ.

إزاء تحدّيات الإسلام السياسي وطرحه التجديد، يردّ الرفاعي في الكتاب على سؤال التجديد في العالم العربي والإسلامي، فيرفض اقتحام المجال الإسلامي من خارج، ويؤكّد (ص 103) أن "تجديد علوم الدين يعتمد على استكشاف المنطق الذاتي لها واستيعابه"، مشدّداً على أن "الفكر لا يغيّره إلا فكر من الخميرة ذاتها"، قبل أن يُشكّك في محاولات التجديد من خارج الحوزة وفضائها وأدوات اشتغالها، ويجزم (ص 20) بأن الطارئين "هؤلاء يضلّلون الشباب المفتونين بهم؛ حين يعلنون أن مهمّتهم تجديد الفكر الديني، بينما هم أعداء الجهود العلمية في هذا المضمار. كل من يتهكّم على الدين، ويسخر من التديّن لا يصلح لمهمة التجديد". ويُحدّد في التجديد أهدافاً ضروريّة تتمثّل بـ"إيقاظ الإيمان لا تقويضه"، وبـ"اكتشاف الحدود بين الدين وتمثلاته البشريّة" وبـ"تفكيك ركام التاريخ الذي حجب رسالة الدين"، و"يفضح التفسيرات المتعسّفة".

لكنّه يوضح بأن المعرفة الدينية ليست منعزلة عن المسار العام للمعرفة، بالرغم من خصوصيّتها، ويضيف (ص 103) أن "المعرفة الدينية حقل من حقول المعرفة، تخضع لشروط الإنتاج العامة المولّدة للمعرفة البشريّة، وتحكمها القوانين والمشروطيّة التاريخيّة واللغويّة نفسها".

يعطي الرفاعي انطباعاً بأن معرفته دائريّة غير خطيّة، تنطلق من بيئته الريفية الأولى البسيطة في كلّ شي، وذات الإيمان الشهوديّ المزدحم بالقداسة، لتعود إلى تلك البيئة بتمثلات مدينيّة معرفيّة، فينقل لنا انطباعاته الأولى أو ما وعيه في وقت لاحق بأنّها انطباعاته الأولى حول إيمان والدته الغنيّ، وحول نخوة والده الكادح، ثم يعرّج على عالم الإسلام السياسي، حيث اختبر حياة التخفّي ومجانبة الظهور وكثيراً من الأمراض الاجتماعية، والحرمان النفسي، وحيث دُجّن وأُجبر على التماهي مع الجماعة بآحادها المتكثّرين، حيث لا حياة فرديّة، ممّا أخذه إلى النظر من الجهة المقابلة فوصل إلى رفض الأدلجة، ثم منطق الإسلام السياسي، وصولاً إلى الاكتفاء من الدين بالبُعد الأنطولوجي. 

يطوّر الرفاعي رفضه للأدلجة عموماً، ولأدلجة الإسلام السياسي الذي أفرغ الدين من أفضل مزاياه – بنظر الرفاعي -  فيكتب (ص 11) في مقدّمة الطبعة الرابعة بسعادةٍ عن دور له في تغيير صورة الله في أعين أعداد من الناس: "أبتهج حين يبادر قرّاء أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في كلّ شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدين يمكن أن يحيي كلّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظ الضمير الأخلاقي، ويكرّس التكافل العائلي، والتضامن المجتمعي، ويخفض طاقة الشّرّ التدميريّة، ويبعث منابع الخير في الأرض، ويجعل صناعة السلام والعيش المشترك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن".

الإيديولوجيا التي يمقتها الرفاعي

يشدّد الكاتب على أن موقفه السلبيّ من الإيديولوجيا لا يتوجّه إلى المفهوم بمضمونه الذي وضعه أنطوان دستيت دو تراسي (Antoine-Louis-Claude Destutt de Tracy)، ويعني "دراسة الأفكار"، بل إلى المعنى التضميني الذي ابتدعه نابوليون بونابرت، واستعمله في سياق ازدراء مفاهيم التنوير، تماماً كما هو المعنى الوارد في كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" ويعني "الإدراك المقلوب والوعي الزائف". ويقول: "أعني بالإيديولوجيا نظاماً لتوليد المعنى يُنتج وعياً زائفاً بالواقع، ويصنع نسيج سلطة متشعّبة وفقاً لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ متخيّل. الإيديولوجيا تحتكر نظام توليد المعنى، بغية إنتاج وعي يطمس مختلف أبعاد الواقع، ويبتكر صورة متخيّلة له".

شريعتي والغواية الإيديولوجية الفاتنة

يشرح الكاتب دور الدكتور علي شريعتي السلبيّ في أدلجة الدين وإفقاده مزاياه الروحية والنزوع به إلى منحى بروتستانتي، بالرغم من إشادته بمزايا النص الشريعتي وحرارته، حين كتب في الصفحة 21: "فكر شريعتي يتلفّع بأقنعة متنوعّة، كلماته لا تخلو من غواية فاتنة، عباراته لا تخلو من سحر الشعر والفنّ، وكلّ ما يستثير المشاعر. محاضراته تُعلن عن شهامة وغيرة وشجاعة، أفكاره يسودها نقد الواقع الذي عاشه هو، وعاشه وطنه إيران قبل الثورة الإسلامية... يتطلّب كشف المضمون الأيديولوجي مزيداً من تأمّل العقل النقدي".

ويعترف الرفاعي بغواية شريعتي، ويكتب: "يرى أكثر من يقرأ شعاراته (شريعتي) الغاضبة المثيرة أنه مجدّد، خلافاً للقراءة المتأنيّة لأفكاره، وما تكشفه من أن خطاباته المتنوّعة وكتاباته يوحّدها قاسم مشترك هو توظيف الدين في الدولة والاقتصاد والعلوم والمعارف المتنوّعة وكلّ مجالات الحياة، وتلك هي خلاصة ما ينشده الإسلام السياسي".

بالإضافة إلى نقده وموقفه السلبي من إسهامات شريعتي الثورية وانعكاساتها المعرفية الإيمانية، لا ينسى الرفاعي مقاربة مساهمات الشخصيّة الإسلامية المصرية التاريخية سيّد قطب بأسى، وهو الذي حظي بسمعة قوية بين الإسلاميين فيقول: "...بعد أن طالعت كتاب معالم في الطريق لسيد قطب في الصف الخامس الثانوي. جرحت روحي غواية شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفت مشاعري النصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الدينية. إنها نصوص كلما غرقت في مطالعتها أسجّل غياباً إضافياً من عوالم الفنون الجميلة، بل إن مطالعتي للمزيد من تلك النصوص تُغيّبني عن تذوّق صورة الله الجميلة، وتجلّيات جماله في الوجود".

لكنّ الرفاعي - في مقابل الأدلجة، يستهدف السلفيّة كمنهجٍ في عالم المعرفة، ويحسم بأنّها أضرّت بالإسلام بتبسيطها وفهمها الحرفيّ للدين والإسلام، ويشرح ذلك بالقول (ص 22): "أعني بالسلفيّة ما يشمل كلّ قراءة سلفية للنصوص الدينية، وكلّ محاولة لاستدعاء الماضي أياً كان ودسّه في الحاضر كما هو، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي يدعو لها ويتبنّاها...السلفية تتسع لكل تفسير تبسيطيّ للنصوص الدينية؛ قابع في الحرف، عاجز عن تذوّق مقاصد النص وأهدافه، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي ينتمي إليه صاحب التفسير".

ويحكم على السلفيين وعلى الذين يتشبّثون بالماضي من أتباع الجماعات الدينية بالسطحيّة (ص 105) وبأنّهم "لم يعرفوا أنفاق التراث، ولم يكتشفوا مسالكه الوعرة، رؤيتهم صاغتها أدبيات الكثير منها: رومانسية لا تقول شيئاً، بقدر ما تنشد شعراً كثيراً يُثير المشاعر ويحرضها، يطرب له الحالمون بعالم متخيّل سعيد، و"جيل قرآني فريد"، حسب تعبير سيّد قطب".

ثم يشير إلى خللٍ معرفيّ لدى الإسلاميين أدّى إلى الخلل الذوقيّ الفادح، ويتجلّى في الخلط بين مقام الثبوت والإثبات، حيث "يقع الخلط في مناهج المعرفة عند الإسلاميين بين مرحلة صدور المعرفة وإدراك الحقائق، وهو ما يصطلح عليه "مقام الثبوت"، ومرحلة بيان ذلك الإدراك، والتعبير عنه، وإيصاله إلى الغير، وهو ما يصطلح عليه "مقام الإثبات". وذلك انعكس على فهمهم للدين وصلتهم بربّ العالمين.

لا بدّ للإنسان من دين وشعائر

في الوقت الذي يذهب فيه الرفاعي إلى الانفتاح الشديد على الأفكار والمفاهيم والأديان والتجارب، لا ينسى أهميّة الانتماء، فيرى أن الإنسان يتمثّل المفاهيم والتجارب وفاقاً للقوالب الفكرية والمقولات التي تبنّاها أو كان يعتقدها حتى لو بدّل عقيدته وغيّر؛ لذلك يتمسّك بالطقوس والشعائر التي خبرها ويعيشها ويقتنع بها، ويقول (ص 28): "لا دين بلا طقوس وعبادات، لا دين بلا عبادة منبثقة من اعتقاد. الطقس يوصل الكائن البشريّ عضويّاً بإيقاع صيرورة الوجود ولغته، ويشدّه إلى مداراته، بل يدمجه في تلك الصيرورة الأبدية".

ويضيف (ص 106): "لا أتذوّق حلاوة الإيمان، ولا تُضيء التجربة الدينية روحي من دون أداء الصلاة والتمسّك بالتقليد العبادي المستمدّ من الإسلام وشريعة نبيه الكريم".

لذلك يدعو الرفاعي إلى مواظبة السالك على العلاقة بالوجود الكليّ عبر الطقوس التي اعتادها، والتي تشكّل ضرورة للتجدّد الروحي والمعنويّ، ويجزم بأن الجمال لا ينتج من دون عبادة وطقوس، والمواظبة على الصلاة ضروريّة للشخص كيلا يذبل.

الجماعات الدينية إطارٌ لتماهي الذوات وإفقارها 

يكرّر الرفاعي على مدى صفحات كتابه أسفه على العمر الذابل في صفوف الجماعات الدينية، ويوضح أنه "في العمل الحزبي افتقدت ذاتي". ثم يعبّر عن رفضه لمنهج التأطير في تلك الجماعات التي تسبّب تشوّهاتٍ وذبولاً للنفس الإنسانيّة، وتقطع على الروح معراجها إلى بارئها، فيقول (ص 38): "أدبيات الجماعات والأحزاب تتجاهل فرديّة الإنسان، ولا تتحدّث عن الأنا الشخصية عادة، وهو ما يبدو ماثلاً في أدبيات الأحزاب اليسارية، والقومية والجماعات الدينية". ويضيف (ص 39): "ربما ينتهي تجاهل الأعضاء لحياتهم الداخلية، وتكتّمهم على عالمهم الباطني، إلى تورّطهم في ارتداء أقنعة تعلن عن سلوك خارجيّ لشخصيّة تجسّد ما تُمليه تعاليم الجماعة، فيما يخفي الشخصية قناعات ومعتقدات ورؤى... ازدواجية ونفاق".

ويخلص إلى القول (ص 46): "ربّما يتوهّم الإنسان أنّه سيجد ذاته في كلّ ما هو خارج عن ذاته، وهو لا يدري أنه لن يجد ذاته إلا في ذاته"، فـ"لإيمان خيار شخصي وتجربة ذاتية، والانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين" (ص 47).

العود الأبديّ إلى تجربة الأم الإيمانية

في نهاية الحديث عن الرؤية الرفاعية في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وبعد الإشارة إلى المسيرة الدائرية للدكتور عبد الجبار الرفاعي في دروب الإيمان، أقمنا رباطاً بين إيمان والدته وتجربته، وهو ما وعاه الرفاعي لاحقاً نظرياً، بعد اختباره حياتياً، إذ يؤكّد أن مواقفه كانت بتأثير من تلك الشعلة الإيمانية التي أوقدتها والدته سلوكياً لا نظرياً، ويكتب في الصفحة 63 أن "تديّن أمي غرس الإيمان في روحي"، وقد "استلهمت دروسي الروحية منها (الأم). لم تكن أنشودتها كلمات إنها من جنس الحالات الوجودية، كلماتها تضيء روحي".

ويضيف: "وإلى نمط تديّنها الفطريّ العفوي البريء الشفيف يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذّره ومقاومته لأية مجادلات أو مناقشات أو تساؤلات أو مشاكسات أو قراءات تشكيكية". فـ"الطمأنينة تسكن قلبي حين أتحسّس أسرار قلبها الذي يتقن لغة العشق الإلهي".

ويذمّ في مقابل فطرية الأم احترافيّة الأخلاقيين حيث يقول: "لم أتذوّق الأخلاق من المعلّمين الذين يعتاشون على الكلام في الأخلاق. أكثر من يتخذون الكلام بالأخلاق مهنة لا أخلاق لهم". فـ"الحياة الأخلاقية حقيقة نتذوّقها لا فكرة نتعلّمها"(ص 64). ثم يأسف (ص 141) لظلم الكثيرين أهلَ الإيمان بقوله: "تمنعنا معظم الجماعات الدينية ووعاظ السلاطين والمرتزقين...من رؤية النساء المغمورات... من العاملات والفلاحات...القدّيسات". 

الخلاصة

لا ينفكّ د. عبد الجبار الرفاعي في كتابه، الذي أراده ضوءاً في الطريق إلى الله تعالى، عن التذكير بالجرح الشخصي الذي حثّه على تجديد نظره إلى الدين وأبعاده التي تمثّلتها أمم من المسلمين، ويوضح بأن اكتشافه البعد الأنطولوجي للدين جاء بعد مسيرة شاقّة كرّست انحيازه إلى المهمّشين، ورسّخت تبنّيه لمبادئ الحب والجمال والخير، وكتب (ص 59): "أظن أن النواة الجنينية لتحيّزي الأبديّ لهموم وآلام المضطهدين والمهمّشين والمنبوذين والضحايا تشكّلت من هاتين المحطتين القاسيتين في بداية حياتي، أي غربة الطفولة الاجتماعية، واغترابي عن ذاتي في الإسلام السياسي".

***

طارق قبلان  - كاتب من لبنان

............................................

* عن موقع الميادين

 

توطئة: قبل الحديث عن كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب المغربيّ "سعيد ناشيد" (1969)، لا ضير من الحديث عن الفلسفة بصورةٍ عامّة، ونبدأ من تعريف الفلسفة وأبرز اشتغالاتها، على الرّغم من أنّها – أيّ الفلسفة – تنوّعت وتباينت تعريفاتها.

لكن إجمالاً نستطيع القول أن الفلسفة من أهمّ علوم المبادئ العامّة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسيّ (رينيه ديكارت) (1596/ 1650)، وهي دراسة المفاهيم التي تُفضي إلى الحكمة، وهي الفكر المُدرك لذاته والذي يشتغل في إدراك شموليّة الوجود.

ويُمكن القول أيضاً أنّ الفلسفة كمعنى مُبسّط هي مجموعة المشكلات والمحاولة لمعالجتها، وهذه المشكلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الكبرى، والمفاهيم الأساسيّة، وهو ما ذهب إليه (برندان ولسون 1953).

ويقول الفارابي (874/ 950م) بأنّ الفلسفة هي (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، أمّا الكنديّ (805/ 873م) فيقول أنّ الفلسفة هي: (علم الأشياء بحقائقها الكُلّيّة)، ويؤكّد أن الحقائق الكُلّيّة هي إحدى خصائص الفلسفة الجوهريّة التي تُميّزها عن غيرها من العلوم الإنسانيّة، بينما يرى ابن رُشد (1182/ 1198م) أنّ التّفكير في الموجودات يكون على اعتبار أنّها من المصنوعات، و(كلّما كانت المعرفة بالمصنوعات أتمّ كانت المعرفة بالصّانع أتمّ)، ويذهب "إيمانويل كانت" (1724 / 1804م) فيقول أنّ الفلسفة هي من المعارف التي تصدر من العقل. وبالتالي، فإنّ الفلسفة لابدَّ أن تكون من توليفات الحكمة، بل هي التّوليفة الأساس لذلك، وكُلّ العلوم تبدأ من الفلسفة وتنتهي إليها، تبدأ من نشوء الفرضيّات وتدفّق منها الإنجازات.

نعود الآن إلى كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب "سعيد ناشيد" فهو من الكتب المهمّة والمُثمرة في بابه، حيث يشتغل على توظيف الفلسفة كأسلوبٍ مهمٍّ في معالجة المشكلات الكبرى التي تتعلّق بالفرد والمجتمع، لأنّه يؤكِّد على ضرورة أن تكون الفلسفة من الأمور الأساسيّة التي يستطيع الفرد بها ومن خلالها أن يواجه أشدّ صعوبات الحياة. ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة تُرشد إلى إعمال الفكر والفهم العميق والمُعمّق للنفس الإنسانية، ويؤكّد في مقدّمة كتابه (التّداوي بالفلسفة) إلى أنّ الكتاب هو استذكار لبعض البداهات المنسيّة ومحاولة لإنصاف الفلسفة من أهلها أنفسهم. وهو أيضاً هو محاولة للدّفاع عن الفلسفة في صناعة الحياة.

ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة يُمكنها تحقيق مقوّمات الحياة الأساسية، ومن خصائصها المهمّة، وهي أن تكون حياة يعيشها الفرد بأقلّ ما يُمكن من الشّقاء والمعاناة، وأن يكون الفرد مُتصالحاً مع أقداره الخاصّة ويتقبّلها ولا يرهق نفسه بمقارنتها مع الآخرين، وأن يكون الفرد في حياته كما هو لا يكون غيره، وأن تكون حياةً يصنع الفرد فيها المتعة بأقلّ ما يُمكن.

في بداية الكتاب يتساءل "ناشيد" ما هو الدّور الذي لعبه الفلاسفة في صناعة وإنتاج الحضارة، لاسيّما في زمننا المعاصر وهل يا تُرى هل كان لهؤلاء الفلاسفة دور مهمّ فيما وصلت إليه البشريّة من منتجات حضاريّة مادّيّة؟ أم أنّ مجهودات هؤلاء المفكّرين المعرفيّة والبحثيّة لم تكن أكثر من كلام لا جدوى منه وفارغ من أيّ مضمونٍ عمليّ حقّيقيّ؟

في معرض الإجابة عن هذا السّؤال يعترف "سعيد ناشيد" بأنّ الفلسفة ليست بالضّرورة أن تكون من الشّروط الحتميّة لبناء الحضارات، وأنّ هناك مجموعة من الحضارات القديمة التي قامت وازدهرت من دون الاعتماد بشكلٍ كاملٍ على الفلسفة، ويرى أنّ ذلك بسبب طبيعة الفلسفة نفسها، ذلك عندما يقول أنّ التّفكير الفلسفيّ هو النّشاط العقليّ الأكثر هشاشة، والاستمرار في التّفلّسف جهد استثنائيّ نادر يحتاج إلى بيئةٍ حاضنةٍ لا تلزم العقل بتقديس المُسلّمات.

إلّا أنّه يؤكّد أنّ ابتداع أنساق علميّة جديدة في العلوم والمعارف الحضاريّة المادّيّة، يحتاج إلى طفراتٍ فلسفيّة جديدة، فإذا ما أردنا تقديم نظريّات مهمّة في الفيزياء الفلكيّة أو الميكروفيزياء بحيث تتخطّى ما وصل إليه كُلّ من "ألبرت أينشتين" و"ماكس بلانك" من قبل، فقد صار من اللازم علينا أن نستند إلى أطروحاتٍ فلسفيّةٍ جديدة تتجاوز المعارف الفلسفيّة المعروفة حالياً. فالفلسفة كما يراها "سعيد ناشيد" هي وحدها القادرة على نقد المفاهيم الكبرى، وعلى التّنظير لمفاهيمٍ بديلة عنها، وتلك المفاهيم تُمثّل حجر الزّاوية في مسألة الإبداع والابتكار المعرفيّ. فبواسطتها يستطيع عقل الإنسان أن يُفكّر في العالم والحياة.

وبالتّالي، يُقدّم "ناشيد" رؤيةً خاصّة للفلسفة باعتبارها السّبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله تطوير الحضارة البشريّة، والتي ظهرت آثارها في ميادين السّياسة والفنون والأخلاق، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانيّة.

كما يؤكّد "سعيد ناشيد" أنّ الفلسفة يُمكنها مساعدة الإنسان في إعادة التّفكير في أنماط التّفكير الاعتياديّة، وهو الأمر الذي يتيح الفرصة للتّخلُّص من الآلام والمشاعر السّلبيّة التي لطالما ارتبطت بأوقات الانكسار والخسارة في حياتنا. ومن أمثلة ذلك يتساءل "سعيد ناشيد" حول السّبب في الشّعور بالأسى والغضب، فيجيب بأنّ السّبب الرّئيس في ذلك هو أنّ الإنسان يتصوّر الألم وكأنّه نوع من الظّلم والاعتداء، أو أنّه احتمال لشيء ليس بعادل، هنا يأتي التّفكير الفلسفيّ كملجأٍ وملاذٍ أمن، حيث سيتيح هذا النّمط من التّفكُّر، الفرصة أمام اكتشاف حقيقة مهمّة، وهي تلك التي تعتقد بأنّ الغضب مجرَّد ردّ فعل انفعاليّ يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي الجمعيّ عندما كان الإنسان البدائيّ يرى الألم لعنة من الآلهة أو السّحرة أو الأرواح الشّريرة. وبهذا النّحو من الإدراك العقلانيّ الهادئ يمكنني أن أتحرّر من سطوة بعض الانفعالات السّلبيّة البدائيّة، لن يختفي الألم بالضّرورة لكن ستتحسن قدرتي على التّحمُّل، بل قد أجعل الألم فرصة للإبداع بدل الشّكوى، والغضب، والإحباط.

ويرى "سعيد ناشيد" أنّ هناك ثلاثة مشكلات أو عقبات رئيسة تقف في وجه الإيمان المطلق بأهمّيّة الفلسفة في الحياة، وهي:

أوّلاً: إنّ الفلاسفة عبر التّاريخ قد اهتمّوا بالعقل، وتخصّصوا في دراسة المجتمع والسّياسة والعلم والمنطق، ولم يولوا اهتماماً يذكر بالجسد، فكيف يمكن الإدّعاء أن هؤلاء يستطيعون إرشادنا على الطّريق الأمثل للعيش؟

ثانياً: إنّ معظم الفلاسفة قد عاشوا حياة كئيبة وفاشلة، فقد عانوا من الأمراض المزمنة، والإخفاق العاطفيّ، والإفلاس الماليّ، وحتّى المنفى والسّجن والإعدام، هذا بالإضافة إلى فشلهم في أغلب الوقت على صعيد الحياة الاجتماعيّة والأسريّة.

ثالثاً: إنّ تاريخ البشريّة يذكر لنا كيف أن الكثير من الحكماء الكبار مثل "بوذا" و"كونفوشيوس"، قد عاشوا حياة رائعة وقدّموا طرقاً بديعة في التّعامل وتحقيق السّعادة من دون أن يحتاجوا أبداً لدراسة الفلسفة. ويذهب "ناشيد" إلى أنّ المبدأ التي تقوم عليه فلسفات فَنّ العيش بسيط ومتّفق عليه في تاريخ الفلسفة، التّفكير هو أداة تحرير الإنسان من الانفعالات السّلبيّة والغرائز البدائيّة والتي هي العامل الأساسيّ في تعاسته وشقائه، ويؤكّد أن أغلب مشكلات الحياة تدور في فلك طريقة التّفكير في المشكلة.

الخلاصة، كتاب (التّداوي بالفلسفة) يُعالج الكثير من الأمور الحياتيّة عن طريق الفلسفة إذا ما أعدنا النّظر في مفهوم الفلسفة وتوظيفها التّوظيف الصّحيح، أيّ نعتبرها واحداً من الأساليب الحياتيّة الرّئيسة.

***

علاء البغداديّ - كاتبٌ وباحثٌ من العراق

كتيبة الأربعين هو اللقب الذي أطلقه المفكر فهمي هويدي على الكتّاب العرب شعراء وروائيين وصحافيين ومثقفين المساهمين في تحرير مقالات الكتاب الداعم للمقاومة والمندد في ذات الوقت بجرائم إسرائيل في حق المدنيين العزل.

هو كتاب صادر حديثا تزامنا مع طوفان الأقصى كانون الأول/ديسمبر 2023 عن دار الفنار بمصر في 254صفحة مواكبة لهذا الحدث الجلل وأبعاده السياسية والعسكرية والإستراتيجية، فقد كان هذا الطوفان مفاجئا لإسرائيل، وقد ظنت أنها أخمدت نفس كل انتفاضة ولهيب كل ثورة، وأنها ماضية في قضم المزيد من الأراضي، وفي بناء المستوطنات الجديدة على حساب الأراضي الفلسطينية بدعم أمريكي مكشوف، وليس على الفلسطينيين إلا الدخول في متاهة مسار التسوية أو مسار السلام وليس السلام، وليس كذلك أمام الدول العربية إلا التهافت – تهافت الفراش على النور- على مسار التطبيع من أجل رفاه اقتصادي وهدوء سياسي ودعم أوروأمريكي، أسوة بمن طبع من الدول العربية، فجاء الطوفان في السابع من تشرين ليوقف هذا المسار وليكشف في الوقت ذاته مخططات إسرائيل المضمرة والمعلنة من أجل تصفية نهائية للقضية الفلسطينية - قطب الرحى ومعقد الوجود للعالمين العربي والإسلامي- وقيام إسرائيل الكبرى بالرغم من كل الترضيات الضمنية للنخب السياسية الفاعلة.

الكتاب شارك في تدبيج مقالاته خمسة وثلاثون كاتبا وكاتبة من سبع دول عربية هي مصر ولبنان والأردن وسوريا والجزائر والمغرب والعراق ويخصص عائد الكتاب لأهل غزة دعما ومناصرة .

قدم للكتاب الكاتبان العربيان فهمي هويدي وعماد الدين خليل وقد أشار فهمي هويدي إلى أن جهد المثقفين هنا في نصرة غزة أشبه شيء بكتيبة الأربعين التي تضم كتابا ومثقفين انضموا إلى جانب أهل غزة وإلى المقاومة في إشارة إلى ضرورة تخندق المثقف العربي مع المقاوم، لأن قضيتهما واحدة وهذا هو الوقت الذي تصبح فيه الكلمة الداعمة للحق إلى جانب المواقف البطولية للمقاومة الفلسطينية، وقد كتب (ومع ذلك ينبغي أن نحمد لتلك الكتيبة من حملة الأقلام العرب حماسهم النبيل حين اختاروا أن يخترقوا جدار الصمت والحصار، ولم ينتظروا ذيوعا أو منصات للتواصل الاجتماعي، فقرروا أن يعلنوا على الملأ موقفهم، مؤكدين على أن ما هو عزيز وغال ليس فقط الدم الفلسطيني الذي تتغنى به مقاطع الأغنية ذائعة الصيت، ولكن فلسطين كلها لها مكانتها الراسخة في قلب الأمة وضميرها).

وبدوره أشاد المؤرخ والكاتب عماد الدين خليل بهذا العمل معلنا أن ما تشهده غزة الفلسطينية حالة نادرة لم يكد التاريخ البشري يشهد لها مثيلا من قبل، فهي ملحمة التاريخ كله، ومن ثمة إنه من أولويات المقاومة العربية والإسلامية الشاملة وقف مسار التطبيع، وإنها لمفارقة كما كتب أن يطرد سفراء إسرائيل في أمريكا اللاتينية بينما تظل الدول العربية متشبثة بالإبقاء على علاقاتها مع قتلة إخواننا في غزة، إن ثقافة الاستخذاء لن تؤدي إلا إلى مزيد من الهزائم ومن النزف والتداعي في كيان الأمة العربية، ولن يكون ذلك إلا على حساب الموقف الفلسطيني ومن ثمة على الأمة أن تكف عن ثقافة الغرق في عالم الأشياء والبحث عن ضمانات الأمن والاستقرار، فالدم النازف في غزة يجب أن يوقظها من السّبات فما تفتح الأبواب إلا للأيدي المضرجة، كما يكتب أن المصيدة الكبرى هي في انتظار العقاب الأخير، وهو بذلك يشير إلى عقدة الثمانين التي لازمت دولة الكيان منذ التاريخ القديم وعنها تحدث إيهود باراك ولفيف من السياسيين والمثقفين الإسرائيليين.

 إن ما تتعرض له غزة اليوم من إبادة ومذابح وتهجير ينذر بالويل ومفاتيح الخلاص لا تزال بأيدي العرب شرط أن يحسنوا التعامل معها، فمن أوكد الأولويات في دعم غزة ونصرتها ونصرة الحق الفلسطيني المشروع وقف مسار التطبيع وتكريس ثقافة المقاطعة حسب توصيفه، فالكرامة أهم من البضاعة والدم الفلسطيني النازف في غزة أغلى من كل صفقة، ويختم مقالته بالإشادة بمقالات الكتاب(إن بحوث هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه، والذي يدير كاميرته على المشهد من أطرافه كافة، إنما يعكس هذا كله، ويعكس معه الرؤية الحقيقية لا المزيفة لما تشهده الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية على السواء.. قد تنطوي هذه الرؤية على شبكة من البقع المعتمة السوداء، ولكنها تنطوي في الوقت ذاته على المساحات البيضاء التي تعد فيه بيوم سوف يقدر فيه للأمة الإسلامية أن تستيقظ من سباتها العميق).

بينما كتب منير لطفي وحاتم سلامة وأحمد المنزلاوي في التقديم الثالث للكتاب أن الكلمة سلاح والكتابة معركة تخدم المجتمع والوطن والدين، ومعركة تنتصر للحق على الباطل وللخير على الشر وللجمال على القبح ومن منطلق شرف الكلمة وأمانة الكتابة لابد للقلم الحر أن ينتفض إزاء أعدل وأشرف قضية وهي القضية الفلسطينية التي طال أمدها وبحّ صوتها وغار إلى العظم جرحها ولا مجيب!

وهكذا ومن منطلق نصرة القضية والوقوف مع أهل غزة نبتت فكرة الكتاب مادامت المقاومة تكون بالكلمة كما تكون بالسلاح، وقد كان حجم الاستجابة كبيرا وقد كتبت هذه المقالات تباعا منذ اندلاع طوفان الأقصى في 07تشرين الماضي مواكبة لأحداثه وخلفياته وتحليلا لأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته وأطماع إسرائيل المستقبلية في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والتنقيب عن الغاز في بحر غزة ومشروع قناة بن غوريون وسياسة التهجير إلى سيناء بالنسبة لسكان غزة وإلى الأردن بالنسبة لسكان الضفة الغربية وصولا إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية كما تفضح ذلك مخططاتهم الاستعمارية.

فالوعي العربي لازم والوقوف مع القضية العادلة واجب كل عربي وخاصة المثقفين باعتبارهم طليعة الأمة وواجهتها الفكرية وقوتها الناعمة وأصحاب تأثير في الرأي العام - قلّ أو كثر- خاصة ونحن نرى أحرار العالم في الغرب لا يتوانون في نصرة القضية، فالمسألة كما يقول فتحي الشقاقي (فلسطين نقطة التماس بين تمام الحق وتمام الباطل)، أو بتوصيف فهمي هويدي (قل لي ما موقفك من القضية الفلسطينية، أقل لك ما موقعك من الانتماء الوطني، بل والعربي والإسلامي).

ومن الكتّاب العرب الذين حرّروا مقالات هذا الكتاب الهام والمواكب لطوفان الأقصى: أيمن العتوم، منير لطفي، أحمد المنزلاوي، حاتم سلامة، أحمد الحاج، إبراهيم مشارة، بلال رامز بكري، محمود الحسن، محمود خليل، أميرة إبراهيم، نهى الرميسي، نور الدين قوطيط، هشام الحمامي، يحي سلامة، وليد الصراف وغيرهم.

ومن المقالات التي تضمنها الكتاب نقرأ العناوين التالية "حلّ الدولتين"، "العنصرية الصهيونية"، "غزّة والحراك الشعري"، " نهر التطبيع"، "لبيك يا كتائب العزّ"، "ثورة سجن مقلوب"، "القضية الفلسطينية في البرازيل وأمريكا اللّاتينية "، "حرب غزّة حتمية "، "طوفان الأقصى والاعتماد على الذات"، صمودهم وواجباتنا "، "التغريبة "الفلسطينية"، "ملحمة غزّة: الدلالات والرمزية"، "خذلوك فقالوا"، "رؤية لصناعة النصر"، "محاولات الاستيطان المبكرة في فلسطين"، " المسكوت عنه في العدوان على غزّة"، "الأقصى مهوى الأفئدة والعقول"...

وكما جاء في إحدى المقالات في خاتمة الكتاب فالتّطبيع لن يكون إلا مع فلسطين والقضية الفلسطينية وذلك بإعادة القضية الفلسطينية إلى بؤرة السياسة العربية وإن هذا التطبيع مع فلسطين (سلطة ومقاومة) كان أولى سياسيا وأمنيا واستراتيجيا وحتميا من التطبيع مع إسرائيل.

كتاب مهم ينضاف إلى المكتبة العربية - والفلسطينية خاصة- في دعم حق الشعب الفلسطيني والدعوة إلى سلام عادل وشامل، يقف مع غزّة شعبا ومقاومة ويفضح الجرائم الإسرائيلية التي أحرجت العالم المتمدن من فرط بربريتها وهمجيتها في مطلع القرن الجديد، ذك أن إسرائيل ظلت تقدم نفسها على أنها الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الأوحد لهذه الديمقراطية، ولكنها مع طوفان الأقصى كشفت عن حجم التناقضات والانقسامات الداخلية، وعرّت بعض السياسات الرسمية العربية التي لم تتفاعل بالحجم المطلوب فحدث الشرخ بين الموقف الشعبي العربي والموقف الرسمي، كما كشف الطوفان الإجرام والعنصرية والهمجية التي مورست في حق المدنيين العزل من النساء والشيوخ والأطفال وحتى المستشفيات لم تسلم من القصف والتخريب، والأمر كما قال الصحفي وائل الدحدوح (إنهم ينتقمون منا بقتل أطفالنا).

ومن جهة أخرى أكد كتّاب هذه المقالات على واجبات المثقف إزاء أمته وقضاياها وفي الوقوف مع الحق والدفاع عن الإنسان وإدانة العنصرية والإجرام واغتصاب الحقوق المشروعة، وسياسة العنصرية والغطرسة وعقلية الاصطفاء والاستعلاء، وهو موقف يحسب لهؤلاء الكتّاب، في حين سكت بعضهم وما سمعنا لهم صوتا، وقد ظلوا يشدخون رؤوسنا بصراخهم عن الحرية الفكرية والدولة المدنية وحقوق المرأة وقدموا أنفسهم- لنا وللغرب- على أنهم طواطم أو إيقونات مقدسة فإذا بطوفان الأقصى يكشفهم على حقيقتهم فقد فضلوا المكاسب الشخصية والسمعة والجوائز المحلية والدولية والتموقع داخل أجهزة السلطة على حساب معاناة غزة ومأساتها وعلى حساب الحق الفلسطيني المشروع وقد جاء هذا الطوفان ليكشف العورة ويعري كل نفاق وزيف.

***

إبراهيم مشارة

 

ليس أكثر مِن الحديث عن المهديين أو المُخَلِّصين، في الأديان والمذاهب، ولدى المسلمين مهديٌّ وفق الرواية السّنية، ومهديّ وفق الرواية الشّيعية، وليس موضوعنا عن المهدي بذاته، الذي سيخرج مِن بين النّاس، ومشروط بكون اسمه واسم أبيه "محمد بن عبد الله" مثلما الخبر في كتب السّنة، وعند الشِّيعة "محمد بن الحسن" مثلما هي الحال في كتبهم أيضاً. قلنا ليس هذا موضوعنا، لكن الموضوع رماه أمامنا الباحث العراقيّ شاكر شاهين وعنوان كتابه "الإمام الثَّالث عشر العامة والعِمامة في الحقل الشّيعيّ" (دار مكتبة عدنان 2022). لم يتعرض شاهين إلى ما فكر به أو تخيله باحثون وكُتاب عمّا بعد الاثني عشر إماماً، وبذلك تنتهي فكرة التوقف عند هذا العدد، مثلما ورد: "الاثنا عشر إماماً من آل محمد كلُّهم محدث من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وولد علي بن أبي طالب - عليه السلام - فرسول الله - صلى الله عليه وآله - وعلي - عليه السَّلام - هما الوالدان" (الكُليني، كتاب الكافي).

كانت الفكرة المطروحة في الكتاب المذكور أنَّ الفقيه هو الإمام الثالث عشر، فالفقهاء وضعوا أنفسهم ورثة للأنبياء، وعلى هذا الأساس، كان لهم ما كان للنبي وورثته، من الأئمة، وعليه كانت نظرية "ولاية الفقيه" العامة (الخميني، الحكومة الإسلاميَّة)، فتأسست دول على روايات مختلف عليها، فقبل ولاية الفقيه الإيرانية ظهرت على فكرة المهديّ الدَّولة العبيديّة، حيث تونس اليوم، ثم امتدادها الفاطمي في مصر، والموحديّة في المغرب، ظهر المهدي نفسه وأسس الدّولة، أمّا في الحالة الإيرانيّة الراهنة، والصّفويّة من قِبل، فجرى الأمر بالنيابة عنه.

أوضح كتاب "الإمام الثّالث عشر..." هيمنة الفقيه على العامة، فلم يبق التقليد شأناً عبادياً، في صلاة وصوم، بل تحول إلى التقديس، حتّى أخطاء الفقيه وخطاياه، أو رجل الدين، يفهمها العامة على أنها الصّواب بعينه، لأنه بمثابة الإمام الثّالث عشر، من دون نسب بالإمام أو تصريح بذلك، وقد يكون هذا الفقيه مِن آل النّبي يعتمر العمامة السّوداء أو من بقية النّاس يعتمر العمامة البيضاء. لذا كان الخلاف، إلى حد العداء، بين الفقهاء أنفسهم على هذه المنزلة، فمنهم مَن ادعى المعصوميّة، عندما يقول: "ليس للخطأ إلى كلماتي سبيل لأنني تابع للأئمة"(الإمام الثالث عشر).

الرأي بالعامة

تكون العامة، أو العوام، من الأتباع عند الفقيه كالقطيع، الذي يحتاج إلى سائس، وهو السَّائس، فمَن شبههم بالأنعام، قال: "كالأنعام على الطَّريق العام مِن شريعة الإسلام"(نفسه)، لدى الفقيه فكرة أن يبقى متميزاً بالعلو والرِّفعة عن مقلديه، ليس بدرجة العلم فحسب، بل بالمستوى الاجتماعي، فلا يكثر مجالستهم، يغيب عنهم، خلف الحاشية، كأنه يحاكي الإمام المهدي نفسه في غيابه، ولا يلتقي به إلا الأصفياء مِن الفقهاء، وعندما يُقدم المُقلدون الأموال للفقيه يكون ضمن الواجب الإلهيّ، مثل الصّلاة والصّوم، وهو صاحب الفضل بقبولها، وربّما تظاهر برفضها إذا لم تُقدم بشكل لائق بمكانته.

أمّا مَن يخرج لتوضيح الصُّورة ويحاول توعية العوام عما هم به مِن جهل وتجهيل، فلا يكون الموقف منه بأقل مِن الموقف مِن محسن الأمين(تـ: 1954)، عندما هم بتشذيب عاشوراء مما لحق المناسبة مِن خرافة ومبالغة، استُغل فيها العوام أيما استغلال، وهنا يأتي مركز رجل الدّين، خطيباً كان أو صاحب مجلس عزاء، ويُحسب المركز الاجتماعيّ بعظمة المجلس أو الموكب، وقد تمادى سياسيو، بعد 2003 في العراق، بالتباهي بالمواكب. هذا وليس عنوان "الفقهاء حُكام على الملوك" لسعد الأنصاريّ، لم يتم في عهود الدّولة الإيرانيّة منذ العهد الصّفوي إلا بعد هيمنة الفقيه المطلقة على العامة، يحركها ضد الملوك متى يشاء وباسم الأئمة، فهو وريثهم "الثّالث عشر". ليست مشكلة إذا كان التقليد الأعمى بحدود العبادة، لكنه خرج إلى السياسة، وما حصل من توجيه للانتخابات العراقية الأولى (2005) مِن قبل بيوت المراجع كان واضحاً. 

لذا بوجود هذه الهيمنة على عقول العوام، فلا معنى لانتخابات وديموقراطيَّة مِن الأساس، وخصوصاً إذا كانت لا تحقق مقولة "الفقهاء حكام على الملوك". فمَن يدقق في الروايات التي تناولت طبيعة الأئمة والثاني عشر المهدي المنتظر، لا يستغرب مِن فكرة أنَّ الفقيه هو الإمام الثّالث عشر، أو البحث عن إمام ثالث عشر، وقد بعد زمن الغياب وطال. فهذا السّيد الحِميري (تـ: 173هـ) قالها قبل ظهور فكرة غياب الثاني عشر (260هـ) بأكثر مِن مئة عام، فكيف تكون الحال بعد ألف عام. قال الحِميريّ في مهديه محمد بن الحنفيّة (تـ: 81هـ): "يا شِعب رضوى ما لمَن بك لا يُرى/وبنا إليـك مـِن الصَّبابة أولقُ/ حتَّى مـتى وإلى مـتى وكم المدى/يا ابن الوصيّ وأنت حيّ ترزقُ"(ديوان السّيد الحميريّ).

المتنبي الثالث عشر

قبل ما صرح به شاكر شاهين، مِن العثور على الإمام الثالث عشر بشخصية الفقيه، من دون أن يقولها صراحة داخل كتابه، لفت آخرون، مِن قبل، الأنظار إلى أبي الطَّيب المتنبي (اغتيل: 354هـ)، أن يكون هو الإمام الثّالث عشر لأنه ابن الإمام الغائب. فما شاع عن أبيه أنه حُسين السقاء، فهو أحمد بن الحُسين، لكن أشعاره، وبحثه عن الإمارة والمنزلة، أوهمت الشك في أن يكون أبوه مجرد بائع ماء. 

درس حياة المتنبي المحقق محمود شاكر (تـ: 1997)، وأظهر أنه علويّ النَّسب، كان ذلك في مجموعة مقالات نُشرت في مجلة المقتطف (1936-1937)، ثم نُشرت كتاباً، مع التوسعة، تحت عنوان "المتنبيّ رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا" (1977)، متهماً طه حسين بانتحال أفكاره وضمنها كتابه "مع المتنبيّ".

 التقط فكرة علوية أبي الطيب المتنبيّ الأديب والشّاعر البحريني إبراهيم العريض (تـ: 2002)، عندما أصدر كتابه "فن المتنبيّ بعد ألف عام"، وكان نشر مقالتين عن المتنبيّ في مجلة "البيان" الكويتيّة (العددان: 49 و50 السنة 1970)، فتوصل إلى أنَّ والد المتنبي هو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن، وليس أي علوي آخر، فكانت ولادته، أي المتنبيّ، السّنة 303هـ، أي خلال ما عينه إخباريو الشيعة الإمامية بالغيبة الصُّغرى (260- 329هـ)، وظل المهدي الأب متوارياً حتّى (329هـ)، حين إعلان الغيبة الكبرى، بوفاة سفيره، أو وكيله الرابع عليّ بن محمّد السّمريّ، ومن ذلك اليوم انقطعت أخبار المنتظر، إلا على الفقهاء الأصفياء، فظل الاعتقاد أنهم يلتقونه (راجع التنكابني، قصص العلماء). 

بحسب ما أورد الأديب العريض أن المتنبي سيكون الثّالث عشر، وإذا كان ما زال حياً غائباً، فماذا عن ولده؟ الذي يرى العريض أن علويين متآمرين على الأب والابن قاموا بتدبير اغتيال المتنبي في الحادثة المشهورة (354هـ).

جاء بعد محمود شاكر وإبراهيم العريض الأديب العراقيّ عبد الغني الملاح (تـ:2001)، وكتابه "المتنبي يسترد أباه" (1974)، فأغراه نسب المتنبي المجهول، وبحث الباحثين عن أبيه، فاستخرج مِن شعره، وخصوصاً قصيدته في جدته نسباً له، وإذا كان قد صرح بأبوة المهدي المنتظر له، لكن يبقى لإبراهيم العريض الفضل والسّبق في هذا التَشخيص. فلا يكون قائل: "سيعلم الجمع ممَن ضم مجلسنا/بأنني خير مَنْ تسعى بـه قدم"، أو: "ولـو لم تكـوني بنت أكرم والد/ لكان أباك الضخم كونك لي أمّاً"، إلا صاحب نسب شريف، وليس ابن سقاء. وبهذا تجاوز العريض والملاح إلى القول بالإمام الثَّالث عشر، وجعل للمنتظر وريثاً، وأمراً دنيوياً خالياً مِن الخوارق!

قد لا يبدو التفكير باستمرار نسل الأئمة الاثني عشر، مِن عقب آخرهم المهدي المنتظر، غريباً بمكان، فالأئمة عند الإسماعيليّة، المستعليّة والنزارية، مستمرون بالتناسل، ولكلّ منهم تسلسله في تولي الإمامة، كذلك مِن الشِّيعة الاثني عشرية القدماء مَن اعتقد بوجود هذا العدد مِن الأئمة، أي تجاوز الاثني عشر إلى الثَّلاثة عشر، وصاحب هذا الرأي أبو نصر هبة الله أحمد بن محمّد الكاتب (تـ 400هـ) ابن بنت أُم كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ (السّفير الثَّاني مِن سفراء المهديّ الأربعة) عن (الطوسيّ، كتاب الغيبة)، لما أدخل زيد بن عليّ بن الحسين (قُتل: 122هـ) ضمن الاثني عشر إماماً، وكان صاحب الفكرة أبو نصر معاصراً لشيخ الطَّائفة أبي جعفر الطُّوسيّ (تـ: 460هـ)، جاء في الرّواية: "وكان يتعاطى الكلام، ويحضر مجلس أبي الحسين بن الشبيه العلويّ الزيديّ المذهب، فعمل له كتاباً، وذكر أنّ الأئمة ثلاثة عشر مع زيد بن علي بن الحسين، واحتجّ بحديثٍ في كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّ الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين" (مؤسسة بصائر، بحث للشيخ إبراهيم جواد عن رجال النَجاشي. جواد علي، المهدي المنتظر).

خصوبة الفكرة

مِن العادة، أنَّ الفكرة الدِّينيّة خصبة، تنشطر بسرعة كبرى، والثًّابت فيها أنْ تُحافظ على قُدسيتها، في أذهان العوام، وفكرة المهدويّة مستمرة بالانشطار، خصوصاً بتوظيفها السياسي المباشر، فكمْ مِن مهدي خرج، وادعى قيادة ثورة أو تمرد، وقلنا ان من الحركات المهدوية من أسست دولاً، قديماً الدولة العبيدية والفاطميّة، ودولة الموحدين، جماعة المهدي محمَّد بن تومرت بن عبد الله بالمغرب (تـ: 524هـ)، وفي العصر الحديث ظهرت دولة في السودان بقيادة محمّد بن أحمد ين عبد الله المهدي (تـ: 1885)، وكانت أصلاً لظهور الديانة البابيّة والبهائيّة في القرن التّاسع عشر، عندما أعلن عليّ محمد الشّيرازي المعروف بالباب (أعدم: 1850)، أنه باب المهدي ثم المهديّ، ثم تشكلت ديانة مستقلة عرفت بالبابيّة فالبهائيّة، وقبل الجميع بما يخص الثّورات، كان محمّد بن عبد الله النَّفس الزَّكيَّة (قتل: 145هـ) مهدياً، ثم قدم أبو جعفر المنصور ولده محمَّد بن عبد الله (تـ: 169هـ) مهدياً، ليلغي به مهدية النفس الزّكيّة، فجاء الحديث عن النّبي "المهَديُّ مِنْ وَلَد العَباس عَمِّي" (كنز العمال). غير أنَّ الحديث "المَهْدِيُّ يُوَطئ اسمُهُ اسمي، واسمُ أَبيهِ اسم أَبي"(كتاب الفتن) ثابتاً اسماً لكل مَن قُدم نفسه أنه المهدي، ما عدا مهدي الاثني عشرية الاسم يواطئ اسم النبي لكن اسم الأب "الحسن". كما كثر المهديون في العراق، بعد سقوط النّظام السابق (2003)، وما زال الانشطار مستمراً، فكلما اشتد الجهل تكاثر المهديون.

كل ما تقدم، مِن المهديين، توظيف لروايات الموضوعات أو المختلقات، مِن أجل العمل السّياسيّ، كتأسيس دولة أو قيادة ثورة، لكن مِن دون أن ينطقها الفقيه، ويدعيها صراحة، تجده يمارسها، نائباً للإمام، فلا الطّيب المتنبيّ ولا زيد بن عليّ الإمام الثّالث عشر إنما هو الفقيه المرجع بعينه، وما تأسيس نظام سياسيّ على روايات مختلف عليها إلا يأس في الوعي السّياسيّ، حيث نظام "ولاية الفقيه"، الممهد لظهور الغائب المنتظر. 

لا اعتراض إذا ما ظلت عقيدة، مثلما يؤمن بها المراجع، أن ظهور المهدي يكون أمراً إلهياً، فـ"كلُّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل" (الكُليني، الكافي)، لذا وجدوا تخريجاً وقالوا بنيابة الإمام الممهدة لظهوره. فالفاجعة كلّ الفاجعة بالممهدين، واستغلال العقيدة لنيل السّلطة، كنوع مِن الحاكميّة الإلهيّة.

***

د. رشيد الخيّون

من المركزيةِ الغربية إلى مركزيةٍ إنسانيَّة تصبُّ فيها الرَّوافدِ الثَّقَافيَّة الإنسانية

أعتقدُ أنَّ الدكتور عبد الجبار الرفاعي يريدُ من خلال مؤلَّفه هذا، أن تكون له مساهمةٌ في تطوير الثقافة العربية وفكرها، فكتابُه "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتُّراث" أراده جسراً موصولاً بين فكريْن شرقيين متجانسين تاريخيا وجغرافياً: الفكر العربي، والفكر الإيراني، ولعلَّه بذلك يكون قد ربط ماضي هاتيْن الثقافتيْن بحاضرهما، فقدْ تلاقحا ماضياً، بما حقَّق تألُّق الحضارة العربية الإسلامية. يقوم الكاتب بمدِّ حبل التَّواصل بينهما باعتبارهما ثقافتيْن عريقتيْن غنيتين بمحموليْهما، لاعتقاده أوانَ تلاقيهما، لتتشاركا معاً في مصاحبة المسيرة الإنسانية العالمية إلى مصيرها.

يريدُ كتابَه صرحاً جديداً في هذا البناء الفكري العربي المعاصر، وربَّما يكون هذا العملُ حافزاً، فتتفتَّحُ ثقافاتٌ شرقيةٌ أخرى على الفكر العربي من تركية وماليزية، وإندونيسية وباكستانية وغيرها، كما يتفتَّحُ هو عليهم، لِتتوسَّع بذلك الدَّائرةُ الفكرية الشَّرقِيَّةُ، ونخرُجَ من أسار الإبْهار المُزمن لِـ "المركزية الغربية"، ونعملُ على تأسيس "المركزية الإنسانيَّة "، تصبُّ فيها جميعُ الرَّوافدِ الثَّقَافيَّة الإنسانية.

استثمر الرفاعي في مصطلح "المثقف الديني النقدي"، بإثارته في مقال له في صحيفة "الصباح" العراقية، ثمَّ دفع به إلى السَّاحة الفكرية قصد إثرائه، وعمل على إبانته، وبيان الغرض منه، وتحديد إطاره (ص32)، وذكر دوره في ولوج المناطق المعتمة، والمسكوت عنها في التراث أو الفكر الديني، متَّخذاً العقل وسيلةً وآلةً، متسلِّحاً بثقافة الموروث وثقافة الحداثة (ص26)، واشترط أن يظهر المثقفُ الديني النقدي بصورة المتكلم الجديد، أو الفقيه المجدِّد، أو المفكِّر، لا متكلم قديم، ولا فقيه أحكام، ولا داعية (ص27)،  كما أكد الكاتب على ضرورة توفر الضمير الأخلاقي اليقظ، والنزعة الإنسانية عنده (ص303)، ثم مضي بعد هذه الاستفاضة، إلى اختيار نماذج يعمل عليها، قد انتقاها من مجاليْ الفكر العربي والإيراني.

أمَّا الفكرُ العربي، فقد اختار منه نماذج مشرقيةٍ ومغربيَّةٍ، وتتمثَّلُ النَماذجُ المشرقيةُ، في شخصية ثقافية عراقية، ومن مصر اختار مفكِّريْن، وآخر سوري، ومثَّل النَّموذجَ المَغاربي مفكِّرٌ جزائري، بينما مثَّل الثقافةَ الإيرانيةَ ثلاثةُ فلاسفة. كل هذه النماذج يربطها إطار زماني واحد، فقد وُجِدُوا جميعا في النصف الأول من القرن العشرين.

اعتبر الكاتبُ الرفاعي "علي الوردي" أولَ مثقف ديني نقدي (ص21)، عرَّف به وبإنجازاته، وظروف عمله، وبأنَّه صَاحِبُ تكوينٍ أكاديمي ممتازٍ بمقاييس عصره (ص28). حرٌّ جريءٌ، له تأثيرٌ واسِعٌ على الأجيال التي نهلتْ منْ صافي معينه، جمع علي الوردي كنزاً هائلا من المعلومات التي تتعلق بالمظاهر الاجتماعية العراقية، والعادات والتقاليد، والسلوك والأخلاق، معتبراً نفسه ابن المجتمع الشعبي البسيط، يعيش وسطهم، يعرفهم عن قربٍ في معايشهم ومهنهم، وطرائق تفكيرهم وأساليب أحاديثهم.

نقل هذا الواقع نقلاً موضوعياً، ونثره تحت مشرحة طاولته دارساً محللاً، نقدَهُ نقد الحصيف، لم ينجرَّ وراء عاطفة، ولا استسلم لميلٍ ذاتي، مفضلا استخدام منهج ابن خلدون، كأفضل منهجِ تشخيصٍ لمجتمعه، وأوجد لذلك مصطلحات العمل، من مثل: صراع البداوة والحضارة، وازدواجية الشخص العراقي، والتناشز الاجتماعي (ص94).

خرج بنتائج محدَّدة دقيقة، تحفَّظَ الرفاعي على بعضها، بل كانَ له التَّحفظ من المنهج الخلدوني نفسِه معلِّلاً ومستشهداً (ص96)، ويقدِّم الكاتب نقد علي الوردي للمنطق الأرسطي الجامد، الذي يفضل عليه المقاربة السوفسطائيَّة (ص108)، القائمة على الشكِّ، وهو ما يريدُ علي الوردي تحقيقُه على السَّاحة الثقافية العراقية، كما أنَّ هذه المقاربة أيضاً تجعلُ من الإنسان معياراً، وهو مبتغى علي الوردي في الإنسان العراقي.

مع كلِّ هذه البضاعة المزجاة، يؤسفُ الكاتبَ أن يجده مفتقراً إلى ثقافة تراثية رصينة، وهذا الفقد هو إحدى هناته، لأنَّه من دونه يتكئ على عصا دون أخرى (ص28).

ثمَّ قارن الرفاعي بين المثقف الديني النقدي، والمثقف العضوي (ص44)، بين علي الوردي، وعلي شريعتي المثقف الآخر، وشرح أوجه المقارنة (ص47)، وامتاز علي الوردي بمراجعة أفكاره وقناعاته (ص52)، والإقرار بأخطائه، وله مواقف صادمة يخالفُ فيها العرفَ، وما جرى عليه الناسُ والمجتمع، من ذلك موقفه من مركزية الشعر، والفصاحة والنحو (ص68)، أقرَّ الكاتبُ الأسلوبَ المبدع الذي سَوَّقَ به علي الوردي كتاباته، وفي طريقة عرضه وتفسيره، وأسلوبه القصصي المشوِّق، وشجاعته النقدية التي مكنته بنشر ما لا يجرؤ على فعله مفكرو الزمن الحاضر.

أمَّا المثقف الديني النقدي الثاني، فهو حسن حنفي، يشيد الرفاعي بثقافته الموسوعية، وتكوينه الأكاديمي الصارم، الذي ناله من جامعة السوربون (ص121)، يشهد بأنَّه مفكر مدهش (ص139)، تجتمع فيه الموهبة الفذَّة، والذِّهنيَّة المراوغة، والإرادة العنيدة (ص186).

وقف حسن حنفي حياته كلَّها على مشروعه الفكري الذي أطلق عليه عنوان "التراث والتجديد" (ص125)، تضمَّن منهجه "اليسار الإسلامي"، استند فيه على التراث يتدارسه بأدوات عقلٍ معاصر تجديدي، عمل فيه على الجمع بين المتناقضات، يبحث عن طريقٍ ثالثٍ، يضع فيه وطنه على أرضية التقدم والازدهار.

صحيحٌ أنَّه خبير بالتُّراث، لكنَّ خبرته وضعها في خدمة منجزه الأيديولوجي، كان انتقائياً، والعمل الانتقائي يلوي عنق النص المستشهَد به، للواقعة المستشهَد لها (ص137). يصنف حسن حنفي نفسه فقيها، يجتهدُ خارج أصول الفقه، متكلماً يخرج عن مقولات الكلام، فيلسوفاً خارج العقل الفلسفي (ص129ـ130).

أمَّا منجزه الثاني، فيتمثل في تأسيس علمٍ جديدٍ أطلق عليه "علم الاستغراب"، يقومُ فيه بدراسة الغربِ بعين الشرق، كما درس الغربُ في "علم الاستشراق" الشرق بعين الغرب، لكن لم يُكتبْ لهذين المشروعيْن النجاح، فقد سقطا، ولم يجدا انتشاراً ولا صدىً إلاَّ قليلاَ.

خلع الرفاعي على حسن حنفي صفة رجل الأضداد، حتى أنَّه جعل العنوان المتصدر لاسمه هو: "الأضداد في كأس واحد" (ص119)، كان حسن حنفي مفكراً إسلامياً منغلقاً رغم أن مادته العلميَّة التي توفَّرتْ له، كانت باستطاعتها أن تجعل منه أحد أقطاب الفكر العربي البارزين، لكنَّه أغلق نفسه في حصن التراث، فبدأ منه، منتهياً إليه، من هنا كان مشروعه إحيائياً لا تجديدياً (ص177).

المثقف الديني النقدي الثالث هو محمد عمارة، تميز بارتداد مراحله الفكرية، فهي دوماً إلى حركة عكسية، ابتدأ نشاطه الفكري ماركسياً، أي بقناعة أيدولوجية، كانت صرخة العصر زمن شبابه، ذات آلياتِ مبنية على قاعدة فكرية فلسفيةٍ، تتجلَّى في مستوياتٍ سياسيةٍ، واجتماعية اقتصادية، ساحتُها تعجُّ بمختلف المناقشات مع المعادل المقابل، وهو الفكر الرأسمالي، أو في تلك الانشقاقات الإيديولوجية والاجتهادات الداخلية، فهي حركة وعيٍ لا تفترُّ.

انتقل من الماركسية إلى العقلانية الاعتزالية، وهي درجة أقلُّ، لأنَّ مساحة فاعليتها محدودة، تتعلَّقُ أكثرُ مقولاتها بالجانب التاريخي، إذْ نشأتْ منْ واقع الدفاعِ عن العقائد الإسلامية، نتيجة تناحرٍ مذهبي، ثمَّ امتدَّت في جدالات المِلل والنِّحل لأديانٍ أخرى مقابل الدين الإسلامي، ثمَّ انتقل إلى الوسطية الإسلامية، وهي درجةٌ أخرى أقلُّ، باعتبار التَّعامل يكون مع فكر إسلامي محافظ، يعتمد على الموروث النقلي.

ثم انتقل إلى مذهبية سلفية وهي درجة أخرى أقلُّ باعتبار التعامل الانتقائي مع مذهبٍ ديني دون سائر المذاهب الأخرى من نفس الدين، ورفض فتح الأبواب على ما عداها من مدارس ومناهج وأعلام آخرين، (ص318ـ319)، فتفكيرُه بحكم الطبيعة المعرفية السَّلفية يتوقف عند السطح من خلال أحكامٍ عامَّةٍ، أشبه بأحكام القضاء، فقد اتَّهم طه حسين بوقوعه تحت تأثير القسِّيس، عمِّ زوجته الفرنسية (ص321)، وكان المفكر الإسلامي الإشكالي نصر حامد أبو زيد من ضحايا تشدُّده (ص320).

ولا يخفى أنَّ لمحمَّد عمارة تأثيراً كبيراً على شريحةٍ واسعةٍ من الشَّباب، نتيجة الصَّحوة الإسلامية العامَّة، وهو صاحبُ تآليف بلغتْ 250 كتاباً، له وزنٌ معتبرٌ في الفضاء العامِّ للفكر الإسلامي، إذْ كان مستشاراً في "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" القائم على أسلمة المعرفة، تقدَّم إليه المفكِّر محمد أبو القاسم حاج حمد سنة 1991، بكتابه "المنهجية المعرفية القرآنية"، ولكنَّ محمد عمارة عارض طبعه، وبقي إلى غاية 2013، حيث نشره "مركز دراسات فلسفة الدين" ببغداد في العراق (322).

المثقف الديني النقدي الرابع، هو جودت السعيد، داعية اللاعنف، يرى أنَّ الحربَ مكتوبة على جبين الإنسانية، والعنف طبيعة إنسانية، قامتْ عليها، وانتهتْ بها حضاراتٌ، وأخطر العنفِ العنفُ الديني (ص341)، لأنَّه في اعتقاد جماعات العنف مُسَوَّغٌ بنص قدسي، وأدرك مبكراً خطره على المجتمعات، خاصّةً الإسلامية، فنشر كتابه "مذهب ابن آدم الأول: مشكل العنف في العمل الإسلامي" عام 1966، دعا فيه إلى نبذ أشكاله (ص333)، ودعا إلى التَّعامل مع الذي يخالفُنا في الفكر، أو المعتقد بوصفِهِ إنساناً، لا بصفته العرقية، أو الهوياتية، أو الدينية، لكنَّ الرفاعي يذهب إلى أنَّ العنف الديني له جذور تكلَّستْ، أسَّس لها الكلام القديم، وما انبثق منه من مدونات فقهية وفتاوى (ص335)،

ويحبِّبُ جودت السعيد إلى المسلمين قراءة القرآن الكريم، لكن بآليات القراءة التي تفتح النص على الإنسان وعلى المطلق، فيقترح أن يُقْرَأ القرآن من حيث هو عملُ الإنسان، ويُقْرَأ مَرَّةً أخرى من حيثُ هو عملُ الله، ليجد القارئ فعلاً بشرياً يتحدَّث عنه القرآنُ، كما يجده فِعلاً إلهياً يتحدَّثُ عنه (ص333).

جميلٌ ما دعا إليه جودت السعيد، لكن الأمر لا يتعلق بأمنياتٍ ورغباتٍ كما أكد الرفاعي، فموضوعا اللاعنف، وموت الحرب حين يتحَّولان إلى عملٍ فكري، يتطلبان تأسيساً نظريا، وهو ما لم يتوفّق فيه صاحبُ الفكرة، فانزوتْ إلى دعوة أخلاقيةٍ إنسانيةٍ نبيلة.

المثقف الديني النقدي الخامس، هو مالك بن نبي، يعترفُ الرفاعي بقدرته في صياغة أفكاره ضمن نسقِ نظريةٍ علمية دقيقة، وأنَّ له موهبةً في صناعة المفاهيم، وفي تركيبها، بما يشبه المعادلات الرياضية (ص347)، ثم يرى أنَّ كتاباته غذَّتها عواطفُه وغيرتُه المشتعلة على وطنه وأوطان المسلمين، يخلص من ذلك الكاتبُ إلى أنَّ الحماسَة إذا اتَّقدت أخمدت العقلَ، وتراجع التفكير النقدي، فالعواطف المتَّقدة في نظره لا تفكِّرُ، ثمَّ يعودُ، فيراه مرَّةً أخرى متميِّزاً ببنية ذهنية تتجلى في معادلاته (ص353)، واستشهد بما قدَّمه من تحليل ظاهرة "التخلُّف" في سلسلته "مشكلات الحضارة، بصياغته تعريفاً للحضارة، ومنْ أنَّها حصيلةُ اجتماع ثلاثة عناصر هي: الإنسان، والتراب، والزمن، كما رسم مراحل دورتها التي تمرُّ بها كلُّ حضارة إنسانيةٍ، وهي: مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة (354)،

ويرى الكاتبُ أنَّ مصطلح "القابلية للاستعمار" ربما يكون صدى لفكر وطرح ابن خلدون، في ولع المغلوب بالغالب (355)، ويرى أنَّ أكثر معادلاته لا تخلو من مثالية لا يمكنُها أن تتحقَّقَ في واقع المسلمين، كحلمه في محورٍ يجمع الأمة الإسلامية، سماه "محور طنجة - جاكارتا" (356)، كما تظهر في كتاباته بصمة لاهوت التحرير، إذْ يرى العنف مكّوَناً أساسياً لماهية الدين، ولاهوت التحرير نسخة من الإسلام السياسي (359).

اختار الرفاعي لتمثيل الفكر الإيراني الحديث ثلاثة فلاسفة: داريوش شايغان، وسيد حسين نصر، وأحمد فرديد، عاشوا في فترة متقاربة. أولهم داريوش شايغان، الذي ابتدأ حياته المعرفية في سن مبكرة من خلال مجالس "حلقة أصحاب التأويل"، التي ضمَّتْ العلاَّمة محمد حسين الطباطبائي وهنري كوربان، وتدارسوا فيها الفلسفة الإشراقية، وفلسفة الحكمة المتعالية، والعرفان (ص199)، ثم حاز على تكوين أكاديمي رصينٍ في جامعة السوربون، توَّجَهُ بإجازة الدكتوراه، ليقوم بعد ذلك بتدريس الفلسفة المقارنة، واللغة والآداب السنسكريتية، والتيارات الفلسفية الغربية في جامعة طهران (ص204ـ205)،

ومرَّت حياته الفكرية بثلاثة محطَّات، تأثَّر في محطَّته الأولى بالفرنسي رينيه غينون، والسويسري كارل غوستاف يونغ، والألماني مارتن هايدغر (ص207)، كان نتيجتها إنكاره المعارف الغربية في عصر الأنوار، وأنَّ الأنوار الحقيقية منبعها الشرق، فدعا إلى الرجوع إلى الذاكرة الذاتية، والهوية الثقافية والقيم الموروثة (ص208)، وكتب في هذه الفترة "الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية"، عام 1976،

وأما محطته الثانية، فتأثَّر فيها بميشال فوكو، وغاستون باشلار، ولويس ألتوسير، وهابرماس... وفيها تمكَّن من تصحيح رؤيته، فلم يعد يرى قدسيةً للذاكرة والهوية، ونادى في هذه المرحلة بتعميم "الرؤية النقدية"، التي هي إعادة تفكيك الموروث، واكتشاف خلله، ومواطن قصوره، ونشر كتابه "ما الثورة الدينية" عام 1982 (ص220)، رأى أنّ قوة الحضارة الغربية آتيةٌ من التشغيل النقدي الدائم، ثم ارتقى إلى محطته الثالثة، حيث نضجت شخصيتُه المعرفية، مضيفاً إليها مقولات جيل دولوز، وفيليكس غاتاري، تبيَّنت له حقيقةُ المجتمعَيْن الإنسانيين الغربي والشَّرقي، وأنَّهما أصلاً قائمين على أساس تناقضاتهما الداخلية، إذ أصل تكوينهما تعدُّدي، ولا يمكنُ أن يكون إلاَّ كذلك، فمن هذ التعدد يأتي التناقض،

وصاغ للتعبير عن رؤيته الجديدة مصطلحاته، من مثل:" أنطولوجيا مهشمة. تزامن الثقافات المتنوعة. العالم في هذا العصر شبحٌ. الهوية أربعين قطعة، هوية مركبة من شبكة ترابطات دقيقة، تعددية ثقافية. اختلاط قوميات. تمازج أفكار. تهجن مضطرد. تمازج لغوي وعرقي تعمل كالريزوم، تكتسبُ شكلا جذموريا ريزومياً، فينبثقُ نموذجٌ مرقع..." (ص231).

توصَّل إلى أنَّ عالمنا المعاصر ذو "هويَّة ريزوميَّة"، وهي هوياتٌ متداخلةٌ، وثقافاتٌ متمازجةٌ، وتلاقحٌ واختلاطٌ دائمان مستمران في الزمان والمكان، فلا وجود لهوية نقيَّة صافية، العالمُ ذاته سائرٌ إلى التمازج، الهويَّة الواحدة قماشٌ من أربعين قطعةً تخاطُ باستمرارٍ (ص233)، فمن هنا، فجميعُ الثقافات من الإنسان وللإنسان أُبْدِعَتْ، بل الإنسان نفسه هو للإنسان، وفي هذه المحطة اعتبر داريوش شايغان منجزات الأنوار إضافةً مهمَّةً للإنسان.

أمَّا سيد حسين نصر، فقد درس مرحلته الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصل منها على إجازاته العلمية، وحضر دروس براتراند رسل، وتأثر برينيه غينو، وشوان، وبوكهاردت، وكان هؤلاء ضمن تيار فكري أطلق عليه الكاتب عبد الجبار الرفاعي "الحكمة الخالدة" (ص255)، وهي في بحث نصر حكمةٌ جوانيةٌ ساريةٌ من الأنبياء إلى الحكماء والفلاسفة (ص257). ولا يولي الغرب هذا العلم أيَّ اهتمام، لذا يرى سيد حسين نصر الشرقَ رمزَ النور والعقل والروحانية، والغربَ رمزَ المادية والانحطاط (273)، إلاَّ أنَّ الرفاعي يرى هذا الطرح دعوةً مبهمةً غامضةً، تقومُ أساساً على رفض المنجز الغربي (ص263)، كما لم تخرج هذه الدعوة من برجها النظري أبداً، وبقي حسين نصر متمسكاً بها حياتَه كلَّها دون مراجعة (ص275)،

وأمَّا أحمد فرديد، فهو صاحب التَّأثير الواسع في الفضاء الفكري الإيراني عبر حلقته الأسبوعية المسمَّاة "الحلقة الفرديدية"، تُناقش فيها تاريخ الفلسفة الإنسانية، والفلسفة الغربية والشرقية، ولمْ يتركْ أحمد فرديد أيَّ أثرٍ مكتوبٍ، بل اكتفى بتعليمه الشفهي، لذا أُطلِقَ عليه "الفيلسوف الشفهي" (ص287). صاغ للتعبير عن رؤاه مصطلحاتٍ غامضةٍ مركَّبة مثل: "الحكمة الإنسية، علم الأسماء التاريخي، وباء الغرب، تجلي أسماء الله في التاريخ... (ص286)، وقد صاغ رؤيته لعلم الأسماء الإلهية من فلسفة هايدغر، وعرفان ابن عربي، وعلم اللغة المقارن، والفيلولوجيا واللسانيات، لكنَّ هذه الرؤية كما يحللها الرفاعي مزيجٌ غيرُ متجانسٍ (ص290)، رآهُ مجرَّدَ نَقْعٍ لغوي لا ينجلي على أيَّة نتيجةٍ ذاتِ قيمةٍ.

يخلُصُ الرفاعي إلى أنَّ أحمد فرديد شخصية إشكالية مؤثِّرةٌ، فقد وقع في شراك غوايته مثقفون كثيرون، وإنْ كانوا قد انفضُّوا من حوله.

يتكوَّن الكتابُ من 367 صفحة، خصَّصها لعرض ثمان شخصيات. اختار لتمثيل الفكر العربي خمس شخصياتٍ، مثَّل الأولى "علي الوردي" بِـ 67 صفحةً في 13 مقالاً، والثانية "حسن حنفي" بِـ 58 صفحةً في 9 مقالاتٍ، والثالثة "محمد عمارة" بِـ 18 صفحةً في 3 مقالاتٍ، والرابعة "جودت السعيد" بِـ 17 صفحةً في 3 مقالاتٍ، والخامسة "مالك بن نبي" بِمقال واحدٍ من 11 صفحةً، الملاحظُ هو العدُّ التنازلي للمقالات وعدد الصفحات، فبين الشخصية الأولى والأخيرة فجوةٌ واسعة.

وتجلى عمل الفكر العربي في هذه الفترة من خلال هذا الكتاب على معالجة أوضاع اجتماعية كالذي ورد عند علي الوردي، أو عرض لأيديولوجية كاليسار الإسلامي، أو طرح لعلمٍ مُجْهَضٍ كما عند حسن حنفي، أو نظرة دينية منغلقة كما عند محمد عمارة، أو رؤية طوباوية في موت الحرب كما عند جودت السعيد، أو عرضاً غير مكتملٍ لطرح نظري كما عند مالك بن نبي، فليس هناك أي مبحث فلسفي، أو تأسيسي، أو فكري، لذا رأى الكاتبُ أنَّ ظاهرة الفكر العربي، تدعو للرثاء، كما لفت انتباهه فيه أنَّ له بداية متفتحة، ونهاية منغلقة (316)، ولا يمكن للعقل العربي أن يقوم بدوره، إذا لم ينهل مرتوياً من عوالم الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع (ص18).

أمَّا الفكر الإيراني، فقد مثَّله ثلاثُ شخصيات، الأولى داريوش شايغان بِست مقالات في 44 صفحةً، والثانية سيد حسين نصر بخمس مقالات في 34 صفحةً، والثالثة أحمد فرديد بسبع مقالاتٍ في 29 صفحةً، والملاحظ هو التوازن النسبي في عرض الشخصيات الثلاثة. عمل الفكر الإيراني في نفس الفترة على مبحثيْن: فكرُ الهويَّة، أو العودة إلى الذَّات، والاهتمام بالروحانيات الشَّرقيَّة، وطريقة إصلاح أو تجديد الفكر الديني على ضوء منجزات العلوم الحديثة (288).

في خلاصة القراءة، يبدو أن عنوان الكتاب له نصيبٌ من اسمه في موضوع الكتاب، فرجعُ اللفظتين "مفارقات"، و"أضداد" تتردَّد بين جنبات الموضوع، نجد الفكر العربي في توظيفه التراث والدين فكر مفارقات، ولفظة أضداد صفةٌ تصدق على الفكر الإيراني.

****

عبد اللطيف الحاج اقويدر

كاتب جزائري

...........................................

مراجعة لكتاب: د. عبد الجبار الرفاعي، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ط1، يناير كانون الثاني 2024، منشورات تكوين، الكويت، دار الرافدين، بيروت.

 

من بين كتبه التي بلغ عددها (٨٤) كتابا لم احظ الا بعدد قليل منها، في حدود عشرة إصدارات، حمل أقدمها تاريخ ٢٠١٣ واحدثها ٢٠٢٣، وفي هذا العقد من السنين، ومن خلال مطالعتي لكتب صديقي الكبير الطائي، وجدته يتحرك في خط عقلنة البحث، وأنسنة التشخيص، وعصرنة القراءة بروحية منفتحة على آفاق المعرفة في فضاء متعدد الاتجاهات. متجاوزا حدود الانتماء البيئي وضغوطات الأنا وقيود الفهم الايديولوجي للحدث وللنص والشخصية موضع الدراسة، فهو يخاطب القارئ بلغة لا لون فيها لصبغته البشرية، ولا طعم فيها لعرقه وعقيدته..

وعد ظهور الفكر المنحرف حالة طارئة يجب معالجتها لكيلا ينحرف الإنسان عن محتوى التقويم الأحسن الذي خلقه فيه الله تبارك وتعالى.. ومن ذلك وجدت الدكتور صالح الطائي يستعمل أدواته الفكرية في البحث والتنقيب والكشف بما يمكنه من الوقوف على أسباب نزوع العقل البشري الى انتهاج الانحراف الفكري، بما يترتب عليه من انحراف أخلاقي وسلوكي فجاءت (سلسلة اثر النص المقدس) لتصادق على ما ذهب اليه ميخائيل نعيمة من ضرورة توافر الكاتب على ثلاثية (الشعور والفكر والبيان) كي يحظى بلقب (كاتب) وعندما يباشر القلب الواعي نفسا نقية سيتشكل في رحم العقل فكر إيجابي ينمو بشكل تدريجي ليعيش صاحبه مخاض ولادة إبداع حقيقي، ولا اجدني أبالغ إذا قلت إنني وجدت ذلك بعد قراءتي لهذا العدد القليل من كتب العزيز د. صالح الطائي، فقد قدم من خلال كتبه وصفات فكرية تعالج (عقيدة التهجير) و (عقيدة المثلة) و(عقيدة التكفير) و .. وامتد شباب عقله ليصل بأعوامه التي تجاوزت السبعين الى شواطئ الجيل المعاصر، فلم يكتف بدور المتفرج او الناصح بل نزل معه الى ميدان الحياة، وركب أمواجها كي يشخص أدواءها حتى بعد تعرضه الى الخطف والتعذيب والتهجير ومصادرة تاريخه الشخصي والعائلي كما يصف في أحد كتبه.

***

د. عدي عدنان البلداوي

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الهادي البياض، صدر عن دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت، يتألف من بابين رئيسيين موزعيْن على عدة فصول، وهو بمثابة دراسة أكاديمية تبحث في تأثير الكوارث الطبيعية (القحوط، المجاعات، العواصف، السيول، الجراد، الحرائق، الزلازل، الأوبئة) على ذهنية وسلوك إنسان المغرب والأندلس، وما قد تفضي إليه من تحولات قيمية، وذلك في الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري، عبر مقاربة منهجية تمزج بين ما هو كمي إحصائي، فضلا عن المناهج الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، ومقاربات التحليل النفسي والسلوكي، والمنهج المقارن. كما يقر صاحب الكتاب ببعض الصعوبات المنهجية التي اعترضته من قبيل ندرة المصادر النصية التاريخية التي يمكن الاستناد إليها.

وفيما يخص الآثار المترتبة على وقوع كارثة ما، عادة ما ينجم عن ذلك عواقب ديمغرافية من حيث تناقص عدد السكان، فضلا عن بروز توزيع جغرافي جديد (هجرة القبائل الصحراوية إلى الأراضي الخصبة، إذ كان سكان المناطق الصحراوية أكثر صمودا في وجه الكوارث بفضل المناخ الصحراوي الحار ونظام التغذية المعتاد على التقشف)، بالإضافة إلى تداعيات سياسية مثل إضعاف وباء 610 ه لسلطة الموحدين، ومن ثم استفادة خصومهم المرينيين من ذلك المعطى، دون إغفال تداعيات أخرى سنعرض لها فيما يلي:

أولا: ردود فعل عدوانية

ونعني بذلك مجموعة من مظاهر السلوك المشين مثل انتشار قطاع الطرق وأعمال الغصب والسلب التي طالت موارد عيش الإنسان المنقولة أو الثابتة كالأراضي، دون إغفال الغلاء الفاحش في أسعار السلع الأساسية في الأسواق، بحيث كان المحتكرون والمضاربون يغتنمون حدوث الكوارث ويتعمدون رفع الأسعار لمضاعفة أرباحهم. وفي هذا المضمار، يذكر الكاتب بأن نجاعة مؤسسة الحسبة التي يوكل إليها مكافحة المحتكرين والمضاربين رهينة بقوة أو ضعف العصبية الحاكمة وفق تصور ابن خلدون.

ثانيا: ردود فعل استسلامية

أسفرت الكوارث الطبيعية بالمغرب والأندلس عن سلوكات استسلامية تشي بتسرب اليأس والقنوط إلى نفوس الناس، بحيث أضاء المؤلف على نماذج منها: "كما أن نساء البوادي كن يفزعن زمن المجاعات الرهيبة إلى الحواضر، ويدعين موت أزواجهن، ويطلبن الزواج على أساس انقضاء عدتهن بهدف الإحصان والستر. إن المتأمل في هذا السلوك يكشف مدى ضغط المجاعات على إنسان المرحلة المدروسة، وبروز ذهنيات التفكير في الخلاص الشخصي والتنكر للأهل والفرار عن الولد لإيجاد حل فردي لخطر المجاعة القاتل. ومن الناس من اختار مكرها بيع أبنائه أو تسليمهم لغيره، ولو من خارج دائرة العقيدة... إلخ".

ثالثا: الكوارث الطبيعية وسيادة الذهنية الخرافية

لطالما أثارت نبوءات العرافين والمنجمين بقرب حدوث كارثة طبيعية حالة من الذعر والفزع لدى العامة، في ظل الافتقار إلى عقل نقدي فاحص، إذ عرف المغرب والأندلس جملة من السلوكات التي تنم عن التشبث بالسحر والخرافة والدجل مثل نسبة بعض الكوارث كالعاصفة البحرية التي أغرقت أسطول أبي الحسن المريني إلى العين الحاسدة، بل إن تلك الممارسات كانت تجد صدى لها حتى لدى دوائر المخزن الرسمية وبعض النخب "العالمة"، فقد كانت السياسة الأمنية لبعض السلاطين والحكام متوقفة على مشورة المنجمين (التنبؤ بثورة فئة اجتماعية ما على الحكم... إلخ)، فيما كان التحليل العلمي للآفات والكوارث الطبيعية يشغل حيزا محدودا.

رابعا: الأساليب العملية لمواجهة الكوارث الطبيعية

برغم فشو جملة من السلوكات العدوانية والخرافية بالمغرب والأندلس خلال المدى الزمني للدراسة، فقد جرى الاهتداء إلى بعض الأساليب العملية المسخرة لتطويق تداعيات الكوارث الطبيعية وتحجيمها، وفي جملتها نذكر ما يلي: التنقيب عن المياه الجوفية وترشيد استعمال الماء في أوقات الجفاف، بناء الجسور والقناطر والسدود للحد من عواقب الفيضانات والسيول، جمع وطحن ثمار البراري في أوقات المجاعة لصنع الخبز.

ويعد الادخار من أبرز السلوكات الاحترازية والاستباقية التي تم اللجوء إليها للتخفيف من وقع أي جائحة أو مجاعة قد تحدث في المستقبل، مع ما يقتضيه ذلك من اقتصاد في استهلاك المواد الغذائية تحسبا لما هو أسوأ. وفي هذا الصدد، ظهرت أدبيات خاصة بأماكن ومستودعات المؤن المدخرة، بحيث يتعين مراعاة مجموعة من الاعتبارات في جملتها مدى ملاءمة المكان المخصص للادخار من الناحية الطوبوغرافية (ألا يكون عرضة للزلازل والسيول، ألا يكون معرضا للرطوبة ومن ثم ضرورة توفر شروط التهوية، تجنب المناطق ذات البيئة الملوثة) لضمان سلامة المواد الغذائية المخزنة وعدم تعرضها للتلف. وفي نفس المنحى، ثمة مناطق ومدن مغربية شهد لها المؤرخون بملاءمة بيئتها للادخار: مكناس، تازة، المناطق الجبلية... إلخ.

خامسا: التضامن والتكافل الاجتماعي

كثيرا ما أفضت الكوارث الطبيعية إلى بروز توترات اجتماعية. ففي فترات الجفاف مثلا كان ثمة خلاف على حقوق استغلال الماء، فضلا عن النزاعات الكثيرة بين الملاك والمكترين من قبيل الامتناع عن أداء واجب الكراء بدعوى وقوع جائحة أو كارثة طبيعية. ومع ذلك، لم تخل أوقات الكوارث والملمات من تضامن رسمي وشعبي، إذ كانت السلطات الحاكمة في فترات القوة لا تتوانى عن مساعدة المعوزين وتوفير القوت لهم. كما ينبه الكاتب إلى الدور التكافلي الذي نهض به الأولياء والعلماء وإسهامه في التنفيس على السلطة الحاكمة عبر الحيلولة دون وقوع اضطرابات وثورات اجتماعية تزعزع السلم الأهلي. وعطفا على ما سبق، ثمة مظاهر أخرى للتضامن الأفقي بين أفراد الرعية مثل "إخراج الأموال من الوصايا والصدقات"، وتحبيس الفئات الاجتماعية الميسورة لأراضيها لفائدة الأعمال الخيرية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

عرض مختصر لفكرة كتاب (أثريات الانتلجنسيا.. الموروث التقليدي لدى المثقف العضوي – (الهجنة الإيديولوجية) أنموذجا") للباحث ثامر عباس 

إن الفكرة المركزية التي يتمحور حولها موضوع هذه الدراسة تقوم على افتراض؛ إن ما يسمى (بالمثقف العضوي) في المجتمعات التي من النمط المتخلف القابل للتصدع والتشظي، لا يمتلك – بالضرورة - شهادة حسن سلوك تبرؤه من اتهام حيازة (الوعي التقليدي)، كما ولا تجيز له التمتع بالحصانة أو المناعة ضد ما أميل الى تسميته (الهجنة الإيديولوجية)، وبالتالي لا تعفيه من نيل حصته من النقد المعرفي والتعرية السلوكية . ولهذا فهو لا يختلف عن نظيره (المثقف التقليدي) من حيث (نوعية) الوعي الذي يضمره وإنما (بمقدار) ذلك الوعي، حيث إن كليهما ينتميان لنسق سوسيو- ثقافي واحد، ويمتحان من نسغ قيم وتصورات مشتركة، ويحتكمان إلى تراث وتاريخ وحضارة مشتركة، وهو الأمر الذي يفسّر لنا شيوع مظاهر (الازدواجية) في المواقف و(التناقض) في السلوكيات، التي غالبا"ما يقع ضحيتها المثقفين (العضويين) أنفسهم دون أن يفطنوا / يشعروا بذلك . وإذا ما أشرنا – في بعض الأحيان - إلى وجود فارق (ايجابي) بدرجة (الهجنة) الإيديولوجية وبمستوى استبطانها من لدن المثقف (العضوي)، فلأن ظروف معينة سمحت له بحيازة بعض المزايا الاعتبارية / النوعية مقارنة بنظيره (التقليدي)؛ منها، على سبيل المثال لا الحصر، انفتاح فكري أكثر مرونة على أفكار الآخر، وأفق ثقافي أوسع مدى لاستيعاب ثقافات المختلف، ورصيد معرفي أكثر غنى لتقبل  معارف المغاير .

وهكذا فقد قادتنا هذه الاستقراءات والاستنتاجات إلى ضرورة التمهل في إطلاق النعوت المزاجية وإزجاء الأوصاف العشوائية، والتريث من ثم في صياغة الأحكام القطعية والضوابط الجزافية، إزاء تحديد طبيعة الشرائح (المثقفة) وبيان أصولها السوسيولوجية / الطبقية، وإظهار خصائصها الابستمولوجية / المعرفية، والكشف عن اتجاهاتها الإيديولوجية / الفكرية، وإماطة اللثام عن مضمراتها السيكولوجية / الأخلاقية . لاسيما ما يتعلق بمسائل تصنيف أنماطهم وتوصيف أنواعهم ما بين (عضوي) و(تقليدي) بالمعنى الغرامشي الكلاسيكي، والتي أصبحت من أبرز معايير التصنيف والتوصيف الرائجة في دراسة النخب / الصفوات الثقافية في العالمين الغربي والشرقي على حدّ سواء . ولعل ما يعطي لهذا التصنيف أهميته وضرورته في نفس الآن، ليس فقط كونه يقلص من هامش الغموض والالتباس الذي يحيط بماهية هذا الفاعل فحسب، وإنما لأنه الأنسب علميا"والأجدى منهجيا"بالنسبة لمجتمعات بلدان العالم الثالث / المتخلفة، التي كانت – ولا تزال – تعاني من ضروب (نكوص) و(ارتداد) نخبها الثقافية إلى مضارب مواريثها التاريخية والاجتماعية والثقافية، على حساب ولائها الوطني وانتمائها الجمعي وارتباطها التاريخي واندماجها الحضاري، كلما شعرت إن هناك أزمة / عاصفة تلوح في الأفق السياسي، بصرف النظر – طبعا"- عن مستويات تحصيلها العلمي / الأكاديمي، أو إمكانات خزينها المعرفي / الثقافي . لا بل أنها تتصرف – في بعض الأحيان – بشكل يثير السخط والاستهجان، إزاء ضروب التعصب لجماعاتها الانثروبولوجية والتطرف لفكرياتها الأصولية . 

***

ثامر عباس

 

تعريف موجز

يدهشك هذا الكتاب بمفاجئتين، الأولى لأنه يتحدث بلغة سيكولوجية فلسفية جديدة وغريبة تخالف المألوف مع ان الكاتب ليس فيلسوفا ولا عالم نفس. والثانية ان المؤلف شاب من مواليد1984 فيما يتضمن الكتاب مفاهيما وافكارا عن الذات البشرية والآخر والحياة وكأنها لعالم نفس وصل مرحلة التنظير بعد عمر طويل.

ومع ان كتاب (فن اللامبالاة) هذا يعدّ من كتب التنمية البشرية فان مؤلفه يصف كتب التنمية البشرية بانها تبيع الوهم للناس، باستثناء كتابه هذا الذي يصدمك (مثلما تصدمك صفعة تأتيك من افضل صديق) بوصف ستيف كامب (..لكنه يحرّك التفكير الى حد هائل ولا تقرأه الا اذا كنت على استعداد لتنحية الاعذار كلها).

والكتاب بوصف ديريك سايفررز يخالف كل كتاب اخر..موجز لكنه عميق مدهش.وهو بوصف كير كوس كتاب كله افكار تخالف الحدس المعتاد.

وما يصدم علماء النفس العرب بشكل خاص هو قولهم ان التفكير الايجابي هو المفتاح الى حياة سعيدة ثرية فيما يسخر مارك من هذه الايجابية ويقول:

فلنكن صادقين..السيء سيء وعلينا ان نتعايش معه، ولا نتهرب من الحقائق ولا نغلّفها بالسكّر، بل نقولها كما هي جرعة من الحقيقة الفجّة الصادقة المنعشة التي تنقصنا في هذا الزمان.والمثير للجدل فيه ان الكتاب يتحدث عن أن الانسان لا يجب بالضرورة أن يكون إيجابياً طوال الوقت!..وقول مانسون:" سيُعلمك الكتاب كيف تخسر دون أن تُشكل الخسارة مصدر قلق عليك!".

والشاب مانسون (بكلوريوس من جامعة بوسطن)، هو واحد من أشهر صناّع المحتوى على المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تصدّر كتابه «فن اللامبالاة" قوائم المبيعات في العديد من دول العالم ومن بينها دول عربية، ونال بسببه شهرة كبيرة.

يتضمن الكتاب تسعة فصول تبدأ بفصل لا تحاول! وتنتهي بفصل..وبعد ذلك تموت!.. يقع في 270 صفحة بالترجمة العربية لـ(الحارث النبهان ) و269 صفحة باللغة الأنجليزية.

سيكولوجست ..بلغة جديدة

حين بدأت اقرأ (فن اللامبالاة) عادت بي الذاكرة الى ستينيات القرن الماضي يوم قرأت كتابين لسارتر (الغثيان ، و فلسفة الوجود والعدم)، وكتاب الأديب البريطاني كولن ولسون (اللامنتمي) الذي عالج فيه موضوع نفسية الأنسان  غير المنتمي لحزب او مبدأ او عقيدة او دين و يعيش عزلة وقلقا واغترابا.

وما احدثته تلك الكتب انها قصفت افكارا في رأسي كنت اعتبرها ثوابت أبدية، و وجهت لي تساؤلات محرجة: هل انا اعرف نفسي حقا؟ وهل انا مثقف فعلا؟ وهل ان الذين يرتادون مقهى البرازيلية بشارع الرشيد ..مثقفون ، وانهم يشكلون موجة جديدة في الثقافة العراقية كما يدّعون؟.

وما احدثه (فن اللامبالاة) أنه قصف افكارا سيكولوجية لدى أكاديميين بعلم النفس ما زالوا يعلمونها لطلبتهم بوصفها ثوابت، تأتي من شاب ليس متخصصا بعلم النفس!.2154 فن اللامبالاة

التقدير العالي للذات

يقول مانسون: (في سنوات الستينيات صار تطوير " التقدير العالي للذات ، توجها واسع الانتشار في علم النفس. وقد توصلت الابحاث الى ان الاشخاص الذين يقيّمون انفسهم عاليا يكونون عادة اصحاب اداء افضل ويسببون نسبة اقل من المشاكل. ثم نشات قناعة لدى كثير من الباحثين وصانعي السياسيات في ذلك الوقت مفادها ان تحسّن تقدير الجمهور لنفسه يمكن ان يؤدي الى منافع اجتماعية ملموسة: نسبة جريمة اقل، واداء اكاديمي افضل، ونسبة بطالة اقل، وعجز اقل في الموازنة العامة. ونتيجة ذلك بدأت ممارسات "تقدير الذات" اعتبارا من عقد السبعينيات ليست موضوعا يتعلمه الاهل ويشدد عليه المعالجون النفسيون والسياسيون والمدّرسون فقط بل صار جزءا من السياسية التعليمية ايضا). ( ص 63).

ويضيف: بعد جيل اظهرت البيانات اننا لسنا استثنائيين كلنا، واتضح ان مجرد احساسك الجيد تجاه نفسك لا يعني اي شيء في حقيقة الامر، وتبين ان المشاق والفشل امران مفيدان حقا! ، بل حتى انهما ضروريان حتى يكبر الطفل فيصير شخصا ناضجا ناجحا قوي العقل. واتضح ان تعليم الناس ان يعتقدوا انهم استثنائيون وان يكون لديهم احساس جيد تجاه انفسهم بصرف النظر عن اي شيء، لا يمكن ابدا ان ينتج مجتمعا مليئا بامثال بيل غيتس ومارت لوثر كينغ) .( ص 64)

ويخلص الى القول: (ان مشكلة حركة تقدير الذات هي انها كانت تقيسها من خلال مدى ايجابية احساس الناس تجاه انفسهم، لكن من شان المقياس الحقيقي الدقيق لتقدير المرء لذاته ان يكون معتمدا على شعور الناس تجاه الجوانب السلبية في انفسهم. (ص 64).

وللتوضيح فان تقدير الذات يعني في ادبيات علم النفس :تقييم الفرد لنفسه وشعوره بالاحترام والقيمة والكفاءة وقناعاته بخصوص نفسه، وتوكيدها على ان رؤية الفرد السلبية لنفسه هي سبب فشله في الحياة فيما رؤيته الأيجابية لها تدفعه دائما الى النجاح. وعنها تم تأليف عدد من الكتب اشهرها كتاب "ناثانيل براندن" (The Psychology of Self Esteem ).

تصنيف مارك للقيم

بخلاف الفلاسفة وعلماء النفس الذين يصنفون القيم الى ستة انواع واكثر :سياسية، اقتصادية، اجتماعية، اخلاقية، ثقافية، عائلية، انسانية، جمالية ، ترفيهية..فان مارك يصنفها الى نوعين:

قيم جيدة يحدد موصفاتها بثلاثة:مؤسسة على الواقع، بناءّة اجتماعيا ، وآنية قابلة للضبط .

وقيم سيئة يحدده بثلاثة ايضا: خرافية او خيالية ، هدامة اجتماعيا ، وليست آلية ولا يمكن ضبطها.

ويضرب مثلا بالصدق كقيمة جيدة، لأنه يمكن ضبطه والتحكم به، ولأنه يعكس الحقيقة، ومفيد للاخرين، فيما يضرب مثلا بالشعبية والشهرة كقيمة سيئة.

ويصف القيم الجيدة بأنها صحية كالصدق، التجديد، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الاخرين، احترام الذات، حب المعرفة، الاحسان، التواضع، والابداع.. فيما يضرب امثلة عن القيم السيئة غير الصحية بـ :الهيمنة من خلال العنف او التلاعب، الرضا عن النفس طيلة الوقت ، الحرص على احتلال مركز الاهتمام على الدوام، السعي الى ارضاء الجميع، والثراء من اجل الثراء.

بصلة ادراك الذات!

يقدم مارك وصفا جميلا للذات..بالبصلة! فيقول ان ادراك الذات يشبه البصلة ، فهو له طبقات كثيرة وأنك كلما قشرت هذه الطبقات واحدة بعد اخرى كلما كان من المحتمل ان تذرف الدموع في اوقات غير مناسبة.ويحدد الطبقة الاولى من بصلة ادراك الذات بفهم الفرد الاولي البسيط لمشاعره وانفعالاته،  وان هنالك اشخاصا كثيرين يفشلون حتى على هذا المستوى الاولي من ادراك الذات. ( ص 95)

ويحدد الطبقة الثانية من بصلة ادراك الذات بقدرتنا على السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحس هذه المشاعر والانفعالات بعينها، وتدفع كثيرين الى الذهاب لمعالج نفسي يشخّص لهم السبب الخفي فيصيرون قادرين على فعل شيء ما من اجل تغييره.

ويصل مارك الى المستوى الاكثر عمقا في ادراك الذات فيصفه بانه هو ما يسبب ذرف دموع اكثر من اي مستوى اخر، يحدده بمستوى قيمنا الشخصية   والمعيار الذي يحكم فيه الفردعلى نفسه ومن حوله، ويعترف بان الوصول لهذا المستوى صعب الى حد لا يصدّق!لأنه يتعلق بتشخيص مشكلات هي التي تحدد جودة الحياة.

الألم جزء من المسار

بعكس الفكرة الشائعة بأن التعرض لاحداث مؤلمة يشعرنا بالتعاسة والشكوى من الحياة ، فان مارك يورد لنا ما يناقض هذه الفكرة بادلة واقعية ، فيذكر انه في خمسينيات القرن العشرين، اجرى عالم النفس البولندي دابروفسكي دراسة على اشخاص ناجين من الحرب العالمية الثانية، وكيف تعايشوا مع التجارب الصادمه المؤذية التي مروا بها ، حيث الوضع في بولندا كان مروعا : هولوكوست وتعذيب سجناء، وقصف احال مدنا باسرها الى حطام، وحالات جوع جماعية، واغتصاب..

راقب دابروفسكي الناجين ولاحظ شيئا مفاجئا انه رأى نسبة غير قليلة منهم، جعلتهم معاناتهم للحرب اشخاصا افضل، واكثر مسؤولية، واكثر سعادة في الحياة رغم شدتها وألمها!

وقد وصف كثير منهم انهم كانوا قبل الحرب اشخاصا جاحدين تجاه من احبوهم، ولم يقدرّوهم حق قدرهم، وكانوا كسالى تستهلكهم مشكلات تافهة ، وكان لديهم شعور بانهم يستحقون كل ما ما كان يعطى لهم، وبأن لا فضل لاحد فيه. وانهم صاروا بعد الحرب اكثر ثقة، واكثر اعترافا بقضل الغير،  وصاروا اشخاصا لا تنغصّهم توافه الحياة وصغائرها المزعجة.

وينتهي باستنتاج لعالم النفس دابروفسكي ان الخوف والقلق والحزن ليست بالضرورة حالات عقلية غير مفيدة وغير مرغوب فيها على الدوام، بل غالبا ما تمثل الالم الذي لابد منه من اجل النمو النفسي الانفعالي، وليس انكار ذلك الالم الا انكارا لمقدراتنا نفسها..ومنها يخلص مارك الى القول بانه غالبا ما يجعلنا ألمنا اكثر قوة واكثر مرونة واكثر رسوخا!. واننا في حاجة الى نوع من الازمات الوجودية تجعلنا ننظر بموضوعية الى طريقة استخلاصنا مغزى حياتنا، وان علينا ان نتعلم (فن النحت في المشقات) ليمنحنا القدرة على تغيير مسارنا في الحياة.( 195ص).

وتبقى حقيقتان

الأولى:ان كتاب مانسون (فن اللامبالاة) جاء حصيلة معايشته لاشخاص متنوعين اجتماعيا بينهم اصدقاء بسطاء واخرون اصحاب شركات ورجال اعمال وفنانون وسيدات وبائعات هوى، وانه قرا الكثير مما كتب عن الحروب الكبيرة بما فيها الحربان العالميتان والحرب الامريكية اليابانية وضحايا القنابل النووية، بطريقة مغايرة تماما لما كتبه سياسيون وعلماء نفس.

الثانية: هناك علماء نفس سبقوا مارك بقصفهم افكارا ومفاهيم تعد ثوابت وكتبوا بلغة اكثر رصانة وحظوا بشهرة مستحقة بينهم عالم النفس (لينج) الذي الف في الستينيات كتابه (The Politics of Experience ) انتقد فيه الاسرة والمؤسسات السياسية، وبيع منه ملايين النسخ.

وعراقيا، اجرى كاتب هذا المقال دراسات ميدانية على سجناء في سجن ابو غريب بينهم قتلة محكومون بالاعدام ولواطيون وزناة بالمحارم، ودراسة تعد الاولى عراقيا وعربيا وعالميا شملت 270 بغيا وسمسيرة، واشرف على اطروحة دكتوراه شملت اكثر من 300 ارهابيا من جنسيات مختلفة في سجون العراق..ودراسة في مستشفى الشماعية شملت قتلة مصابون بالفصام (شيزوفرينيا).. وعايش سجناء سياسيين وعاديين، توصل فيها الى مفاهيم جديدة في علم النفس تضمنها كتابه (امراض النفس والعقل - تنظير جديد في الأسباب والمعالجات) اعتبرته شبكة العلوم التربوية والنفسية في تونس، افضل مرجع للصحة النفسية في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: نعيمة حمروني [1] في 11 ديسمبر

ترجمة : أ. مراد غريبي

***

تحت الميثاق الاجتماعي الافتراضي للفلاسفة يوجد عقد عنصري حقيقي للغاية، يبرر استغلال غير البيض على أساس الفروق الأخلاقية والمعرفية والجمالية التي لا تزال آثارها تزن حتى اليوم. هذه هي أطروحة تشارلز ميلز[2](Charles W. Mills)، التي ترجمت أخيرا إلى الفرنسية.

لطالما انتظر العالم الناطق بالفرنسية هذه الترجمة الفرنسية لكتاب العقد العنصري (Contrat racial) لتشارلز ميلز (1951-2021)، وهو فيلسوف رائد صنع حياته المهنية في الولايات المتحدة وساهم في جعل العرق والعنصرية وتاريخ عدم المساواة العرقية قضايا فلسفية خطيرة، مما أجبر على تجديد تقليد المساواة الليبيرالية في الفلسفة السياسية المعاصرة.

عمل "قصير وقوي"، مكتوب بطريقة "في متناول جمهور غير فلسفي" (ص 21)، العقد العنصري يقدم إعادة قراءة نقدية للتقاليد الفلسفية والسياسية، من الحداثة إلى يومنا هذا، وتفكيك قطعة قطعة العديد من الأساطير التي بنيت عليها: أساطير الميثاق الاجتماعي العادل، الإنسانية العالمية. إنه (يعيد) إعلامنا - دون أن يدخرنا من التفاصيل الأكثر دناءة - ما كنا نعرفه دائما بطريقة ما، لكننا رفضنا بعناد أن نرى: أن "تفوق البيض هو النظام السياسي الذي، دون أن يتم تسميته على الإطلاق، جعل العالم الحديث على ما هو عليه اليوم" (ص 31). العقد العنصري يصفع العدسات على أعيننا التي لم تعد مثالية للعلاقات العرقية اليوم، ولم تعد تتجاهل تأثير العرق على حياتنا، ولم تعد تتخيل تاريخ أجدادنا. النظارات التي يطلب منا ميلز ارتدائها عندما نتولى المهمة كفلاسفة سياسيين ومنظرين للعدالة.

بطريقة ما، قبل وبعد قراءة هذا الكتاب، والذي يجب تصنيفه بين الكلاسيكيات الأساسية للعلوم الإنسانية والاجتماعية. أزالت الترجمة الفرنسية العذر الأخير الذي كان لدينا لرفض تدريسه في العالم الناطق بالفرنسية.2149 book of Mills

ضمن العقد الاجتماعي، عقد عنصري

العقد العنصري هو أولا وقبل كل شيء استجابة مباشرة لنظرية العقد الاجتماعي، والتي يمكن العثور عليها في أشكال مختلفة من الحداثة الغربية إلى يومنا هذا، والتي تقدم المجتمع على أنه نتاج اتفاق بين الأشخاص الأحرار والمتساوين، بهدف منح أنفسهم حكومة وتوزيع حقوق وواجبات كل منهم بشكل عادل. من وجهة نظر ميلز، سواء عند هوبز ولوك وروسو وكانط أو جون راولز، فإن "استعارة العقد الاجتماعي" هي "أداة (...) مغرضة ومنحازة بشدة من الناحية النظرية" (ص 23).

بالنسبة للرجل الذي نشأ في جامايكا، البلد الذي رسمت معالمه القوى الإسبانية والبريطانية التي، بعد أن أهلكت السكان الأصليين البالغ عددهم حوالي 600000 شخص، قاتلت على الأرض لإقامة اقتصاد العبيد القائم على استيراد الأفارقة الأسرى، "الدول الغربية الليبرالية (...) التي يدعونا راولز إلى رؤيتها كمحاولة للتعاون من أجل المنفعة المتبادلة" هي في الواقع "دول تفوق البيض" (ص 17، ص 23).

وفقا لميلز، فإن نظرية العقد الاجتماعي تكتسح تحت بساط الذاكرة الجماعية أحداث الخمسمائة عام الماضية التي شكلت تقسيم العالم على طول خطوط العرق التي نعرفها اليوم. يخفي العقد الاجتماعي وجود عقد عنصري حقيقي للغاية، وهو الاتفاق الضمني (ولكن تاريخيا أيضا الصريح - لنفكر في الرموز السوداء، والقانون الهندي، وما إلى ذلك) الذي تم إبرامه بين البيض للاستيلاء على العالم واستغلال موارده وشعوبه. وهكذا يتم التقاط جوهر أطروحة العقد العنصري في هذا القول المأثور للعامية الأمريكية السوداء، المستخدمة كمنقوشة للكتاب، كما لو كانت تحدد نغمة البحث بأكمله: عندما يقول البيض "العدالة"، فإنهم يقصدون "نحن فقط".

بهذا المعنى، بالنسبة لميلز - وهذا هو نداء المؤلف لطريقة غير مثالية للنظرية في الفلسفة - من المناسب التخلي عن استعارة العقد الاجتماعي، "للعمل مع الاستعارة المنافسة والأكثر فائدة ل "عقد الهيمنة" (ص 23). ويجادل بأن هذه الاستعارة لعقد الهيمنة موجودة بالفعل لدى روسو، الذي يدين، في خطاب عدم المساواة، الاتفاق بين المالكين على حساب غير المالكين. في تأكيده على وجود عقد عنصري (غير مرئي) يقوم عليه العقد الاجتماعي، تتبع ميلز أيضا خطى سابقته النسوية كارول بيتمان [3](Carole Pateman)، التي اقترحت في كتاب يحمل نفس العنوان أن العقد الجنسي كان أساسيا لإنشاء العقد الاجتماعي بين الرجال للاستيلاء على الحياة الجنسية للمرأة واستغلال عملها المنزلي والرعاية. عقد بيتمان الجنسي هو، كما يكتب ميلز، "مصدر إلهام" لكتابه الخاص هذا (ص 37)، وباتمان نفسها، المنظر الذي يعترف له بأنه "مدين له. . . على وجه الخصوص" (شكر وتقدير). وبعد بضع سنوات، نشرا معا كتاب العقد والهيمنة (Contract & Domination)[4] (2007).

عقد إستغلال قبل كل شيء

الفكرة الرئيسية الأولى للكتاب، والتي يميل منتقدوها إلى نسيانها، هي أن العقد العنصري لا يحدث فقط على مستوى هذه الدولة القومية أو تلك، ولكن أيضا على نطاق العالم بأسره: إنه "شمولي"، كما يكتب، بمعنى عالمي. هذا العقد العنصري العالمي هو أولا وقبل كل شيء عقد استغلال، مدفوع أساسا بالربح وتراكم رأس المال والهيمنة الاقتصادية. على وجه التحديد، كتب ميلز أن العقد العنصري العالمي يعتمد على "عقود فرعية"، مصممة خصيصا للظروف المحلية وأنماط استغلال الأماكن والظروف التي تتكشف فيها. في العصر الذهبي ل "العقد العنصري بحكم القانون" (ص 123)، أي الوقت الذي تم فيه الترويج للعقد العنصري علنا من قبل الإمبراطوريات الاستعمارية ومؤسساتها والاعتراف به قانونا (تذكر مرة أخرى القوانين السوداء التي تحكم العبودية)، تم تنظيمه بشكل أساسي حول ثلاثة أنماط من الاستغلال:

1/ عقود نزع ملكية الشعوب الأصلية لأراضيها (ص 59-60)،

2/وعقود العبيد للأسرى الأفارقة والسكان الأصليين (ص 60)،

3/ والعقود الاستعمارية (ص 62).

ارتكزت عقود الاستغلال العنصري هذه على مجموعة من المذاهب القانونية والأخلاقية (عقيدة الاكتشاف، والرموز السوداء، والقوانين الهندية، وما إلى ذلك) التي "قننت رسميا الوضع الثانوي لغير البيض و(ظاهريا) نظمت معاملتهم" (ص 63). بررت هذه المذاهب أحيانا إبادة أو تشريد غير البيض، وأحيانا اخضاعهم واستعبادهم بالكامل.

يميز ميلز بين الوقت الذي تم فيه الدفاع عن العقد العنصري صراحة وتكريسه في القانون (العصر الذهبي ل "العقد العنصري بحكم القانون") والعصر المعاصر، بعد النضال من أجل الحقوق المدنية، تم الاعتراف رسميا بالمساواة بين الجميع بغض النظر عن العرق في القانون، ولكن تم استنساخ عدم المساواة العرقية بشكل خبيث وهيكليا في الممارسة العملية (تحدث عن "العقد العنصري بحكم الواقع"). على الرغم من إلغاء أنظمة امتلاك العبيد والفصل العنصري والاستعمار والاعتراف بالمساواة الرسمية أمام القانون، لا يزال العقد العنصري يبني العلاقات البين- عرقية ويؤثر على حياة الأشخاص المميزين عنصرياً.

الأسود جميل

من أجل العمل وتبرير أنفسهم أخلاقيا، كانت عقود الاستغلال مصحوبة بميتافيزيقيا العرق التي تعمل تقسيما أخلاقيا بين، البيض، المرموقين إلى وضع الأشخاص القانونيين، وغير البيض، السافلين إلى وضع أدنى كأشخاص دونيين "غير قادرين على الاستقلال الذاتي وتقرير المصير" (ص 103) وهبطوا إلى هوامش مجال الاعتبار الأخلاقي. كان هذا التقسيم الأخلاقي مدعوما بتمثيل معرفي للأشخاص المميزين عنصريا (على أنهم معدومي العقلانية) و"تطبيع جمالي" (ص 107) مصنف على أساس العرق.

من خلال "جعل الجسد الأبيض هو المعيار الجسدي" (ص 108)، النموذج الأولي للجمال، أدان العقد العنصري دائما في احتقار الذات تلك الهيئات التي، ابتعدت أمس واليوم، عن هذه القاعدة. بموجب العقد العنصري، يصبح الجسد نفسه أحد مواقع النضال ومقاومة القمع. وبالتالي، ينبغي النظر إلى حركة "العودة إلى الطبيعة" المعاصرة وشعار "الأسود جميل" في ستينيات القرن العشرين ليس فقط على أنه تعزيز لإيجابية الجسم، ولكن كحركات تشارك بشكل أساسي في "المشروع السياسي لاستعادة وضع الشخص" (ص 183) من قبل الهيئات المميزة عنصريا.

كما أن مشروع "تطبيع (الإخضاع) / الأشخاص الدونيين" قد انعكس أيضا على المساحات والأقاليم والأحياء التي يسكنها الناس المميزين عنصريا. من خلال التفسيرات الرائعة للأعمال الأدبية والتاريخية، يظهر ميلز إلى أي مدى يتم تفسير كل من الأشخاص المضطهدين والتربة التي يملكونها (التي كانت ذات يوم برية شاسعة وقارات مظلمة، هذه الأدغال الحضرية اليوم) التي ينظر إليها على أنها غير متحضرة، مقدر لها أن يتم الاستيلاء عليها وتطهيرها وتدجينها وزراعتها، وفي النهاية تحكمها إرادة الآخر. إن التمييز العنصري للبشر والأرض التي يسكنونها يعزز كل منهما الآخر ويدعم منطق السيطرة واستغلال بعضهما البعض. يمكن بالتأكيد تطوير حوار مثمر بين هذه الأطروحات الأقل شهرة لميلز والعمل المعاصر حول العنصرية البيئية وإنهاء الاستعمار.

بياض وبياض

جانب آخر من الكتاب يساء فهمه في كثير من الأحيان هو أنه يتجاوز تماما "المنطق الأبيض / الأسود الثنائي والخادع"، ويميز بوضوح بين البياض (كنظام سياسي اقتصادي مخصص لتفوق البيض) وبياض البشرة (كنمط ظاهري). بعبارة أخرى، عند ميلز لا يشارك جميع البيض بشكل منهجي في نظام الهيمنة العرقية البيضاء (أو على الأقل، قد يسعى البعض إلى رفض المشاركة على الرغم من الامتياز المتأصل في عرقهم). وعلى العكس من ذلك، يمكن للأشخاص ذوي البشرة الداكنة أيضا المشاركة في تفوق البيض دون أن يكونوا ضحايا سلبيين تماما له. نتيجة لذلك، يمثل العقد العنصري أيضا جميع التسلسلات الهرمية القائمة على العرق والتي لا تتضمن بالضرورة أشخاصا من اللون الداكن (البشرة)، أو حتى التي لا تتضمن أي شخصية شاحبة (البشرة). يمكن للمرء أن يكون مظلما ويشارك في البياض. يمكنه أن يكون أبيض البشرة ويعمل على إحباطه .

في الواقع، لأن العقد العنصري يعتمد على مفهوم بنائي للعرق، والذي يميز لون البشرة، كسمة مظهرية، عن "العرق" كوضع اجتماعي أدنى أو متفوق (مبني اجتماعيا من خلال ديناميكيات القوة غير المتكافئة)، يناقش ميلز في الكتاب التجسيدات المختلفة التي تجلى فيها العقد العنصري على مدى القرون القليلة الماضية، وهذا في أجزاء مختلفة من العالم.

عقود عرقية متعددة

بالإضافة إلى مؤسسة استعباد الأمريكيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة، والعقد العنصري الفعلي في عصر ما بعد الحقوق المدنية الذي يسميه البعض حقبة ما بعد العنصرية، يناقش ميلز على نطاق واسع الأشكال المحددة التي ربما اتخذها العقد العنصري في تاريخ العالم الحديث. على سبيل المثال، ينظر إلى الوراء في مذبحة الإبادة الجماعية لشعب التوتسي [5](Tutsis) في رواندا في عام 1994 والعقود السابقة التي أدت إليها - يذكرنا بشكل عابر بالمدى الذي "يمكن أن تقع فيه جميع الشعوب في البياض (المشاركة في توطيد تفوق البيض) في ظل الظروف المناسبة "(ص 191). كما يسعى إلى فهم اضطهاد اليابان لشعب الأينو [6](Aïnou) من منظور العقد العنصري. يكرس العديد من صفحات التحليل للهولوكوست الذي نظمته ألمانيا النازية، وللإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأمريكيتين ومنطقة البحر الكاريبي. كما أنه يتعامل مع العنصرية التي يعاني منها "الأوروبيون" الحدوديون، والبيض الذين لديهم علامة استفهام - الأيرلنديون، والسلاف، والمتوسطيين" (ص 130). إن محرري الكتاب ومعلقي البوب الذين ينسبون إليه منظورا أمريكي متمركز ومانويا ومتفرع ثنائيا ومزدوجا، يحرض البيض بلا خجل ضد السود في العالم، وبالتالي لم يفهموا بالتأكيد أي شيء - وربما قرأوا الكتاب حقا خارج عنوانه.

ابستيمولوجيا التجاهل

واحدة من أشهر أطروحات الكتاب هي أن العقد العنصري يجب أن يظل مخفيا من أجل العمل والتكيف والتكاثر. على غرار سلسلة طويلة من المفكرين السود، مثل لويس جوردون( Lewis Gordon)[7]، الذين تعاملوا مع "سوء النية البيضاء" قبله (ص 154)، وعلماء المعرفة النسويين الذين طوروا "نظرية وجهة النظر الواقعية"، صاغ ميلز مفهوم "ابستيمولوجيا التجاهل" (ص 152) وافترض أن العقد العنصري يشمل، بالإضافة إلى بنوده الأخلاقية، السياسية والاقتصادية، شرط معرفي، يتعلق بالمعرفة والمعرفة الخفية. في الواقع، فإن الاتفاق بين أعضاء المجموعة المهيمنة لإخضاع واستغلال الشعوب الداكنة في العالم يتضمن "اتفاقا على إساءة تفسير العالم" (ص 52) والاتفاق على سرد "مطهر، أبيض، فاقد للذاكرة" (ص 184). ينطوي هذا الفهم على بطولة وتضخيم التاريخ الوطني والحضاري لأحفاد الإمبراطوريات الاستعمارية، والذي "يختلف عن الواقع الحقيقي" (ص 52) من حيث أنه يخفي أحلك عناصر السرد (إخراج الإبادات الجماعية للسكان الأصليين من كتبنا المدرسية، على سبيل المثال). يشمل هذا "العمى الأبيض المتعمد" (ص 53) أيضا منصة الإعدام المعقدة، المدعومة بالإنتاج الثقافي والأدبي والعلمي، لتمثيل سلبي ملفق للشعوب غير البيضاء.

وهكذا، تدعونا تحليلات ميلز إلى اتخاذ وجهة نظر مختلفة للخطاب التقليدي حول صعود أوروبا وأمريكا الشمالية وازدهارها الاقتصادي الملحوظ ("المعجزة الأوروبية")، والتي تعلمناها منذ المدرسة المبكرة فصاعدا لاعتبارها دليلا على التفوق الحضاري. "في المقابل، يميل [الغرب] إلى التقليل من شأن دور الغزو الاستعماري واستعباد الأفارقة أو تجاهله ببساطة" في نموه (ص 73). إن أيديولوجية المعجزات الأوروبية والاستثنائية تزيد من إنكار الدّين الذي استمر الغرب في تحمله تجاه حضارات العالم الأخرى على مدى الخمسمائة عام الماضية.. الحضارات التي صنعها بشكل متناقض تنهار تحت الديون والمطالبات التعويضية التي فرضها عليها في أعقاب الاستقلال. من خلال عكس السرد، يدعونا ميلز إلى فهم أفضل لماذا "تصبح مسألة العدالة الاجتماعية مسألة عدالة تصحيحية" (ص 24) من منظور العقد العنصري.

يكتب ميلز أن ابستيمولوجيا التجاهل مع اللدغة التي تميزها، ستنتج هذه "النتيجة الساخرة حيث لن يتمكن البيض عموما من فهم العالم الذي خلقوه بأنفسهم" (ص 52)، وسيكونون في حيرة مستمرة من ظهور المفاهيم التي من شأنها أن تسمح لهم بفهمه بشكل أفضل (على سبيل المثال، مفاهيم تفوق البيض أو العنصرية النظامية). على العكس من ذلك، فإن العديد من الذين يعانون من وحشية عنصرية الشخص الأول لم يواجهوا أبدا صعوبة في رؤية "نفاق النظام السياسي العنصري" (ص 170) وتمكنوا، من خلال الشدائد، من إنشاء الكلمات لفك رموز أعماله (على سبيل المثال، ذلك الابتكار المفاهيمي القاطع "تبييض" للكاتب ريتشارد دبليو رايت (Richard W. Wright)[8] في أوائل القرن العشرين، المرجع الوارد في الصفحة 195). في الواقع، فإن الجانب الآخر من ابستيمولوجيا التجاهل بالنسبة للمهيمن هو الامتياز المعرفي الذي يتمتع به التابعون (ص 169 وما يليها)، الذين طوروا معرفة حميمة ومميزة بكل من أعمال العالم الأبيض، المستمدة من تجربتهم في القمع، وعالمهم التابع. ككتاب، يستند العقد العنصري إلى "بصيرة أجيال من" رجال ونساء من العرق "مجهولين، في أصعب الظروف، غالبا ما علموا أنفسهم بأنفسهم وحرموا من الوصول إلى التعليم الرسمي والموارد الأكاديمية (...) ومع ذلك نجحوا في صياغة المفاهيم اللازمة لتتبع معالم النظام الذي يضطهدهم" (ص 195). بعبارة أخرى، يسعى العقد العنصري إلى شرح وتوثيق ما عرفه النشطاء السود دائما بطريقة أو بأخرى.

دور للمتمردين البيض

وأختتم قراءتي بالتأكيد مجددا على أن أحد الآثار المترتبة على تجريد فئات العرق من الجوهر لدى ميلز، وبالتالي، فإن التمييز بين البياض (السياسي) و(الظاهري) هو أنه يصبح من الممكن تصور "التنصل من العقد من قبل البيض أنفسهم" (ص 166).

سيستفيد البيض دائما من شروط العقد العنصري طالما استمر. ومع ذلك، "هناك خيار حقيقي للبيض"(ص 167) وفقا لميلز، حتى لو كان من الصعب اتخاذ هذا الاختيار في الممارسة العملية. أولئك الذين يسميهم "المرتدين البيض" وغيرهم من "خونة العرق" (ص 167، ص 190) يمكنهم بالفعل أن يدركوا العقد، ويكشفوا حقيقته - ويتعهدوا بخرقه.

بالنسبة لميلز، لم يكن الأمر أبدا مسألة قتال ضد الكون، باسم الخصوصيات أو المجتمعات المنغلقة على الذات. بدلا من ذلك، باسم الكونية الحقيقية، يسعى الكتاب إلى رفع الحجاب عن خصوصية محددة للغاية تقدمت حتى الآن تحت قناع الكونية والإنسانية: الخصوصية البيضاء.

وبهذا المعنى أيضا، يسعى العقد العنصري إلى تجديد المثل الأعلى للأنوار من خلال إعادة تأسيسه على أسس مساواة حقيقية (وليس مجردة) (ص 193). لم يعتبر ميلز أبدا أن المثل العليا للمساواة والحرية التي روج لها التعاقديون "إشكالية في حد ذاتها". ومع ذلك، فهو يجادل بأن المدافعين عنهم قد "خانوهم" بشكل مؤسف (ص 193)، وأنه يجب علينا أن نبدأ بتخطي ضيق الأفق إذا أردنا أن نلزم أنفسنا بإكمال ما اعتبره هو نفسه المثل الأعلى الراديكالي للتنوير.

***

.........................

ترجمة : أ.مراد غريبي

تشارلز دبليو ميلز، العقد العنصري، ترجمة آلي ندياي، مونتريال، 2023، 197 صفحة.

الرابط: https://laviedesidees.fr/Mills-Le-contrat-racial

[1] حاصلة على كرسي أبحاث كندا في الأخلاق النسوية وأستاذة مشاركة في الفلسفة - قسم الفلسفة في جامعة كيبيك في (trois  riviéres)  تروا ريفيير.

[2] تشارلز ويد ميلز (3 يناير 1951-20 سبتمبر 2021) فيلسوف جامايكي-أمريكي، وكان أستاذا في مركز الدراسات العليا، جامعة مدينة نيويورك، وجامعة نورث وسترن. ولد ميلز في لندن، ونشأ في جامايكا وأصبح فيما بعد مواطنا أمريكيا. تلقى تعليمه في جامعة جزر الهند الغربية وجامعة تورنتو.

[3]  نسوية إنجليزية وعالمة سياسية. وأستاذة فخرية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. كأستاذة وباحثة، عملت على النظريات النسوية والنظريات السياسية.

[4] في هذا الكتاب يناقش باتمان وميلز خلافاتهما حول نظرية العقد وما إذا كان لها مستقبل مفيد، وينقبان عن عقد المستوطنين (البيض) الذي خلق مجتمعات مدنية جديدة في أمريكا الشمالية وأستراليا، ويجادلان من خلال عقد غير مثالي لتعويض الأمريكيين السود، ومواجهة مراوغات منظري العقود المعاصرين، واستكشاف تقاطعات الجنس والعرق والعقد الجنسي العرقي العالمي، والرد على منتقديهم.

[5] هم مجموعة سكانية تعيش في منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا. كل من التوتسي والهوتو (الهوتو) هم جزء من سكان بانيارواندا وباروندي، ويقيمون في رواندا وبوروندي.

[6] المعروفون أيضا باسم أوتاري، هم شعب أصلي يعيش في شمال اليابان، وخاصة في جزيرة هوكايدو، وفي الشرق الأقصى لروسيا

[7] هو فيلسوف أمريكي من أصل أفريقي. يعتبر أب ظاهراتية ما بعد الاستعمار وهو أحد الفلاسفة المعاصرين البارزين المهتمين بالفلسفة الأفريقية والوجودية السوداء.

[8] كاتب أمريكي ومناضل حقوقي من أجل المساواة بين البيض والسود

 

بالرجوع إلى معاجم اللغة نتبين أن كلمة التافه مشتقة من «تفه» و«تفه الطعام أي صار بلا طعمٍ أو ذوق».

"نظام التفاهة" كتاب للمفكر والفيلسوف الكندي" آلان دونو "صدر باللغة الفرنسية سنة 2015.  يعرف "دونو" هذا النظام بكونه "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة..."

يقول هذا المفكر الكندي أن التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة المجالات فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، واستحوذوا على مواقع القرار..صار قولهم هو القول الفصل.

يشرح "دونو" كيف طالت التفاهة كافة الميادين حتى الأكاديمي منها. هو يرى أن قطب الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية، وهي الجامعات والكليات ومراكز الأبحاث. فالمنظومة الأكاديمية، في العالم أجمع وحتى في أشهر وأرقى جامعات العالم، قد صارت رهينة التفاهة والتافهين.

في هذا تحدث "دونو" عن تنحى المثقف والحكيم والعالم، ليحل محله الخبير والاختصاصي.  بين أن المثقف (الحكيم والعالم والباحث) يعمل لإعلاء الحق. هو يزن الأمور استنادا على وازع الضمير قبل أن يصدر أحكامه وبالتالي لا يمكن لأي ترغيب أو ترهيب أن يؤثر على مواقفه. هذه المواقف يتخذها وفقا لما يقتضيه ضميره العلمي. فلا يكون للإغراءات والضغوطات أي اعتبار لديه.

في الجهة المقابلة نجد الخبير (الاختصاصي والبروفيسور والدكتور) الذي يبيع كلمته وضميره، خدمة لمصالحه الخاصة وذلك  على حساب الحق فيؤقلم الحقائق العلمية خدمة للفئات التي تحتكر النفوذ. هو بخلاف المثقف على استعداد تام لتضليل الرأي العام.

وقياسا على ما خلص إليه كاتب " نظام التفاهة" في المجال الأكاديمي فنحن عندما نتمعن من حولنا نجد أن كل الميادين تعج بالتافهين. أصبح الأهم لدى كل تافه هو أن "يؤدي اللعبة"، لعبة أنه الاكثر أهمية والأكثر تفانيا، لعبة إتقان فنون التملّق والتزلّف واللغة الخشبية..لعبة تجعله يؤدي دورا قد يبدو ناجعا ولكنه مفرغ من كل قيمة، كالطعام بلا ذوق. إن سيطرة هؤلاء جعلت الأكفاء ينؤون بأنفسهم عن مجالات هم الأحق بها.

صحيح أن نظام التفاهة لم يسحق الأكفاء لكنه جعلهم ينسحبون. هذه النخب تكورت على نفسها لتفسح المجال للتافهين في كافة المجالات.

ولأن عجلة التاريخ تدور فإنه وبالرغم من قلّة هذه النخب وتشرذمها أمام تكتل التافهين وتضامنهم، فهي لا تزال قادرة  على التصدي ومن ثم التغيير.

التافهون موجودون في المدرسة..في الكلية.. في الإعلام وفي الإدارة. ولئن أصبح كل تافه نجما في ميدانه في عصر أصبحت قيمة الإنسان تحدد بما يملك وما يستهلك..عصر لم يعد فيه للفكر أو المعرفة أي قيمة.. عصر يحمل فيه الأغلبية الشهائد العلمية بل ويضعونها في إطار للعرض وهم يفتقرون لأبسط أبجديات الأخلاق واللياقة واللباقة، إلا أن الكلمة، التي يختم بها "دونو" كتابه حمالة لكثير من الأمل.

 هو يقول "كن راديكاليا"..

أن تكون راديكاليا يعني أن تقاوم الرداءة والرديئين..أن تسعى إلى التغيير في العمق ومن الجذور..أن لا تمر دون أن تضع علامة ترمز إلى فعل المقاومة، وإن كره التافهون.

***

درصاف بندحر - تونس

 

البحث عن المعنى والشعور بالسعادة المعنوية من ضمن الدوافع الكبيرة التي تدفعني إلى تكرار قراءة مؤلفات د. عبد الجبار الرفاعي أكثر من مرة، فهي تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على ايقاظ ذهني. تعودت منذ فترة ان أراقب مؤشر الرضا والسعادة في عالمي الداخلي، واجتهد لإعادة منسوب السعادة بدرجة المقبول فما فوق. أسرع للبحث عما يلامس الروح ويثير الشغف ويعيد الوهج، ويجعلني أكثر تقبلا ليومي، وان أتشبع بالرضا والسكينة، وأشعر بشيء من الضوء في نفسي.

أقرأ كتب الرفاعي على الدوام، مرة أنتقي "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومرة أخرى أعرج إلى كتاب "الدين والكرامة الإنسانية"، وثالثة "مسرات القراءة ومخاض الكتابة"، وأعماله الأخرى، كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي. اليوم تجولت في "الدين والكرامة الإنسانية"، هذا الكتاب كرّس قاعدة احترام الذات في كينونتي، وفي كينونة كل شخص آخر يقرأه. كم تسحرني مقولة الرفاعي: "الكرامة مقصد مقاصد الدين وأسمى أهدافه". كما يبهرني هذا النص الآخر، وأقف بصمت رهيب أمامه: "أكثر الكتابات المتمركزة حول الإنسان تنسى الدين، وأكثر الكتابات المتمركزة حول الدين تنسى الإنسان. الدين يبدأ باكتشاف الإنسان واعادة تعريفه ليصل إلى الغيب، ولا يبدأ بالغيب ليصل إلى الإنسان".2112 الدين والكرامة الانسانية

التعريف الخاص للدين الذي وضعه الرفاعي بكتابه هذا وغيره من كتبه، يبتني على تعريفه للإنسان بأنه: "كائنٌ عاقلٌ، عاطفيٌّ، أخلاقيٌّ، دينيٌّ، جماليٌّ، اجتماعيٌّ، تاريخيٌّ. الإنسانُ كائنٌ متفرّدٌ، يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بـ: العقل، واللغة، والعواطف، والمخيّلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز.كلُّ إنسان واحدٌ في الوقت الذي هو فيه متعدّد، ومتعدّدٌ في الوقت الذي هو فيه واحد". وفي ضوء ذلك يعرف الرفاعي الدينَ بأنه: "حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويعقب على تعريفه بقوله: "هذا هو تعريفي للدين الذي اقترحته ويعرفه من يقرأ كتاباتي، وفي ضوء هذا التعريف توالدت كتاباتي، ورؤيتي لله والإنسان والعالم".

  الرفاعي هنا يرسم أبهى صورة للدين أتمعن هذا النص وأدبر كثافته وأبصر معانيه العميقة. كم يكشف أمام قلبي قيمة مشرقة سامية للإنسان يدلنا عن حاجات وجودية يساهم الدين في تجلياتها والابداع في مضمارها، انتاج معنى روحي واخلاقي وجمالي. يلفت قلوبنا وعقولنا هنا الرفاعي للجانب السامي في الإنسان، ذلك الجانب الذي يبرهن حياة الإنسان في الإنسان، الجانب المضيء العطر المثمر المتوهج. تشدني قراءة نصوص هذا الكتاب وترشدني احياناً كثيرة لدروب الحياة في الحياة. أحفظ بعض نصوصها وأرى بعض منها مادة أولية اساسية لصياغة بعض قواعد حياتي. رافد من روافد سعادتي المعنوية وأداة كبيرة لرفع منسوب السكينة والرضا، مفتاح جميل لفهم بعض طلاسم النفس البشرية التي أتلمسها في نصوص الكتاب.

 هكذا أتلذذ في قراءة مؤلفات الرفاعي ومنها هذا الكتاب، حيث لا تستوعب مقالة واحدة ايضاح قراءتي له، وتصوير روعة شعوري وانا أتمعن وأتذوق وأتزود من نصوصه. ما أجمل وأكثف عناوين موضوعاته كل عنوان يحمل من الكثافة والجمال ما يجعله منهج تربية أو علامة ترشد الحائر للطريق. المميز في هذا الكتاب لغة عباراته التي ينصت لها القلب بدفئه، ويستيقظ أمامها العقل ويقف بإجلال عند معانيه، وتحلق الروح في عالم السمو والمعنى في حضرته.

المقدمة في كتب الرفاعي لا تكفيها قراءة واحدة، ولا تناسبها مهارات القراءة السريعة، المقدمة عبارة عن سيرة ذاتية يبطن فيها الجمال والعمق والحب والحزن والألم، مرة أخرى يعلمنا الرفاعي بصورة غير مباشرة كيف للتواضع من تجليات واعترافات تبني الأنسان وتزيد من ضوء روحه فيقول: "ليس هناك كتابة مكتفية بذاتها، أعترف أن كتاباتي جهد لا يختص بي ولم أنجزه وحدي. للقراء الأذكياء دور مهم في ترصينها وإثرائها وتكاملها. إنها جهد مشترك فيه كل من يقرؤها وهي مخطوطة وبعد نشرها".

نص آخر يدلني عن الالتصاق بالذات الحقيقية والبعد عن النرجسية: "ما أكتبه يظل مفتوحا ينضج ببطء وهدوء، ولن يصل إلى نهايات مغلقة". وستلهمني ذات الاشارة في قوله: "يظل النص مفتوحا ينمو باستمرار تبعا لآفاق الكاتب، وانطباعات ونقد القارئ، تثريه المزيد من القراءة والمراجعة والتأمل، يتطور النص بالتدريج ويتكامل، وان كان لن يبلغ نهاياته ويكتفي بذاته مهما امتد عمر الكاتب".

يكرس لنا الرفاعي مفهوم النفس الواحدة في نص يحمل من الضوء والجمال لكل من يرى "ان انتهاك كرامة أي كائن بشري هو انتهاك يطال كرامة غيره من البشر أيضاً ". كثيرة هي النصوص التي يقف ضميري وعقلي امامها وتنصت روحي ولايرغب قلبي مغادرتها واني لأتسائل لماذا لا تنتخب هذه المؤلفات وأمثالها في مناهجنا الدراسية؟ لماذا لا نعلم ابنائنا وبناتنا اهم حاجاتهم الوجودية ونبين لهم ان سلوكهم وانفعالاتهم وحتى احلامهم وأهدافهم واضطراباتهم وإرهاصاتهم النفسية ماهي الاتجليات وتعبير واشارة وصرخة لعدم الالتفات لتلبية هذه الحاجات.

نص آخر التقيه كعلامة ترشد وتهدي الى طريق الارتقاء "إنسان اليوم يفتقر لتدين عقلاني اخلاقي رحماني ينقذه، لأنه يعيش في عالم يضمحل فيه معنى كل شيء في حياته، عالم تزداد فيه كآبته، ويشتد اغترابه". ثم علامة أخرى ترشدنا وتدلينا على الطريق، إذ يقول الرفاعي: "قراءة الفكرة لا تكفي وحدها لتطبيقها، ما لم تتبناها سلطة تفرض حضورها، أو تتجند لها جماعة تحشد كل طاقاتها من أجلها ".

في نص آخر أبصر أهمية الانتقاء، الانتقاء وسيلة مهمة ليقظة الإنسان داخلنا، الانتقاء عامل مهم يساهم ويساعد في انتاج معنى لأيامنا، فيقول الرفاعي وكأنه يشير لنا إلى أهمية الانتقاء، إذ يقول: "بعض الكتاب اتخذتهم جماعات يسارية وقومية وأصولية مرجعيات لها، ففرضت كتاباتهم حضورها في ضمير القراء، وان كانت هذه الكتابات سطحية هشة، تفتقر إلى اي مضمون متماسك رصين، ويدثرها ركام شعارات تذكي العواطف وتثير المشاعر".

الإيمان يتكلم لغة واحدة، أتى الرفاعي بهذه الجملة اللافتة عنوانا لأحد موضوعات كتابه، وهكذا بقية العناوين يجدها القارئ لوحة جديرة بالتذوق والتزود من الجمال الكامن فيها وبنفس الوقت تثير الشغف لمعرفة المخفي منها أي لغة يتكلم الإيمان؟

لنتذوق ونتزود ونسمو مع هذه النصوص "يسكن الإيمان الروح مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به"، و "أودع الله في كل إنسان روحا منه، إلا ان هذه الوديعة تحتجب متى احتجب الانسان عن الله"، و"الله لا ينسى الإنسان إلا عندما ينساه الإنسان"، و "يضيء الإيمان الروح لحظة تحققها به، مثلما تضيء الكهرباء المصباح المظلم لحظة وصله بها، وهذا معنى كونه حالة نتذوقها كما نتذوق الطعام الشهي والشراب العذب".

ليس لدي القدرة على الاستمرار في قراءة تامة وكتابة مراجعة لهذا الكتاب في مقالة واحدة، فنصوصه تفرض على ضميري الأخلاقي وذائقتي وقلبي وعقلي أن أجزئ مراجعتي لهذا الكتاب. أرى كل عنوان داخل مكنون هذا الكتاب الثري جدير بالوقوف بكل حب واجلال أمام نصوصه وكتابة مقال في مراجعته. لذا اضطر للتوقف عند هذه النصوص لعلي أهضم جمالها واستدل بعض الطريق بعلاماتها، وامنح عقلي وقلبي وروحي فرصة وفضاء اوسع للسياحة في معانيها،كوجبة شهية جدا نصوص هذا الكتاب أود التهامها في الوقت ذاته.

نختم بهذه النصوص: "الإيمان مستقره القلب، ومأواه الروح، انه ليس صورة ندركها، الصورة يختزنها الذهن. خلافا للفهم والمعرفة، لا يتحقق بالنيابة"، و"الإيمان وحب الله كلاهما كيمياء للروح،كلاهما ينبثقان من جوهر واحد". "في الإيمان تتناغم الاديان وتتعايش وتأتلف، بعد ان تكتشف شفرة اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلمها الإيمان". "لغة الإيمان مضيئة، لغة الإيمان عابرة للغات والمعتقدات والفرق والمذاهب".

***

د. حميدة القحطاني

دكتوراه فلسفة القانون الدولي العام.

...............................

مراجعة لكتاب الدين والكرامة الإنسانية للدكتور عبد الجبار الرفاع

 

حول: جورج شتاينميتز (George Steinmetz)[1]،

الأصول الاستعمارية للفكر الاجتماعي الحديث. علم الاجتماع الفرنسي وإمبراطورية ما وراء البحار، مطبعة جامعة برينستون[2]

بقلم جان لويس فابياني (Jean-Louis Fabiani )[3]، 26 أكتوبر2023

ترجمة: مراد غريبي

***

كان الاستعمار مصحوبا برغبة في المعرفة تستند إلى مؤسسات محددة والتي أدت، في مجال العلوم الاجتماعية، إلى ظهور إستشراق عنيد.

اللاوعي الاستعماري للعلوم الاجتماعية

2106 شتاينميتزأحدث كتاب لجورج شتاينميتز، أحد أفضل دعاة علم الاجتماع التاريخي الجديد للعلوم الاجتماعية، مدفوع بطموح كبير: تقييم أهمية المصفوفة الاستعمارية في تطوير العلوم الاجتماعية في العالم الحديث. الحالة الفرنسية متميزة، لأن التجربة الاستعمارية كانت دائما مصحوبة برغبة قوية في المعرفة، كما يتضح من المشروع المعروف باسم الاستكشاف العلمي للجزائر، الذي حشد كلا من العلماء والجنود من عام 1839م فصاعدا وأنتج كتلة كبيرة من البيانات، من الجغرافيا الطبيعية إلى الأنثروبولوجيا. أظهرت العديد من الدراسات مشاركة معظم الإداريين الاستعماريين في إنتاج المعرفة، عند تقاطع إدارة السكان المسيّطر عليهم والمعرفة الإثنولوجية الكاملة. على الرغم من أن فرنسا تظهر فقط في العنوان الفرعي، إلا أن هذا البلد على المحك، وليس التفكير الاجتماعي الحديث ككل. حيث سيكون من المثير للاهتمام أن نسأل ما إذا كانت الحالة الفرنسية نموذجية، أو ما إذا كان تفردها يكمن في خصوصية العملية الاستعمارية وارتباطها ببناء الجمهورية الثالثة.

يريد جورج شتاينميتز أن يذهب إلى أبعد من الخطاب الذي يعرف الآن بأنه "إنهاء الاستعمار": إنها مسألة تحديد آثار هذه المعرفة على الإنتاج العادي للمعرفة في علم الاجتماع، والذي يعتبر تخصصا مركزيا في الكتاب. الاستعمار وجانبه الآخر، إنهاء الاستعمار، هما بالفعل في قلب علم الاجتماع. لقد عرفنا هذا بالفعل، لكن المؤلف لا يقتصر على إدانة العلاقة بين اللحظة التأسيسية للاختصاص والمشروع الاستعماري، وهو أمر عديم الجدوى دائما طالما أنه لا يأخذ في الاعتبار العواقب المعرفية للحالة الخاصة للمعارف المعنية.

إنهاء الاستعمار (هم/أنماط تفكيرنا)

لتنفيذ مشروعه، انقاد شتاينميتز إلى تشديد التركيز تدريجيا: بدأ بمقدمة مخصصة لما أسماه بناء الموضوع. والمنهج هو في الواقع انعكاسي: يدرك المؤلف تماما أن مشروعه يقع في الأعقاب: بعد زمن المستعمرات يمكننا وصف نظام المعرفة الذي تم تأسيسه هناك وفاض على الحاضرة. وبالتالي فإن شروط إمكانية العودة الانعكاسية مرتبطة بنهاية الإمبراطورية، التي لم يتبق منها سوى عدد قليل من الجزر التابعة، ولكن العديد من الممارسات التي تعتبر أمرا مفروغا منه، بما في ذلك الجزء النظري، أكثر أو أقل وعيا وموضوعية، كما نرى في الوقت الحالي إذا لاحظنا العلاقة المعاصرة بين فرنسا ومستعمراتها الأفريقية السابقة.

مثل الأنماط المعرفية التي ولدت من الفترة الاستعمارية قد ترسبت الآن في ممارساتنا المعرفية، فإننا لم نعد على دراية بها، ويسود فقدان الذاكرة. إن إعادة هذه الأنماط إلى الذاكرة يعني إنتاج سوابق من المفترض أن تحرر المستعمرين السابقين، الذين يواصلون استخدام أطر الفكر التي تم إنتاجها إلى حد كبير ضدهم، والمستعمرين السابقين، الذين، كما كتب بورديو(Bourdieu)[4] مستوحى من هيجل (Hegel )[5]، "تهيمن عليهم هيمنتهم الخاصة"، وإلى حد ما، مقيدون بالعادات القديمة. الفكرة هنا هي أن للكل مصلحة في إنهاء استعمار الفكر، وهو أمر من الواضح أنه موضع نزاع من قبل أكثر أنصار إنهاء الاستعمار استبعادا، الذين يعتزمون الاحتفاظ بفائدة العملية لأنفسهم.

تكمن ميزة شتاينميتز في أخذه مفهوم التاريخ الدقيق حرفيا. عمله كمؤرخ يجعل من الممكن فهم أهمية علم الاجتماع الاستعماري في البناء الوعر والبطيء إلى حد ما للاختصاص في فرنسا. في حين أن علم الاجتماع ككلمة ظهر فقط في جامعة السوربون في عام 1913 خلال محاضرة دوركايم (Durkheim )[6] حول البراغماتية، ولم يتم إنشاء شهادة في علم الاجتماع حتى عام 1958، عقد المؤتمر الدولي الأول لعلم الاجتماع الاستعماري في عام 1900. إن التردد العميق للفلاسفة تجاه إضفاء الطابع المؤسسي على العلوم الاجتماعية له نتيجة متناقضة تتمثل في أن المصطلح يتم تخصيصه في المقام الأول من قبل غير الأكاديميين، الذين لا يخفون المهنة التطبيقية لهذا النوع من المعرفة: تطوير المعرفة حول السكان التي يجب أن تدار بهدف الغزو.

وهنا يطرح السؤال الأول: ما هو القاسم المشترك بين هذا الاجتماع الاستعماري المزدهر، الذي يهتم قليلا بالشهادة الجامعية ومشروع دوركايم وتلاميذه، أو حتى مشروع تارد(Tarde)[7]؟ لا يرقى الاستخدام الشائع للمصطلح إلى إنشاء مجال تأديبي موحد: فقد أمضى مؤلف قواعد المنهج الاجتماعي حياته في انتقاد الاستخدامات غير المشروعة للمصطلح من قبل الهواة أو الصحفيين عديمي الضمير. لا يمكن إنكار نجاح المصطلح في الفضاء الاستعماري، لكن هذا لا يكفي لوضع جميع علماء الاجتماع في نفس الفئة.

من أجل عدم ارتكاب خطأ، من الضروري احترام مبدأ الاستقلال النسبي للحقول: لا يزال دوركايم عضوا بارزا في المجال الفلسفي في عصره، وكان راندال كولينسا (Randall Collins)[8] محقا في توبيخ راوين كونيل (Raewyn Connell)[9]، أحد أفضل ممثلي تيار ما بعد الاستعمار، لجعله بضعة أسطر على البربر في (حول تقسيم العمل الاجتماعي) (1893) دليلا على استعمار دوركايم. من المحتمل جدا أن يكون عالم الاجتماع قد علم عن هذا الشعب من خلال حساب المستعمر، ولكن بما أنه قارنهم بالعبرانيين القدماء، فمن الصعب أن نرى ما هي الأهمية الاستعمارية لمثاله.

انتشار مؤسسات المعرفة وتمكينها التدريجي

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو اللحظة الثانية من تحليل شتاينميتز، عندما يركز العدسة على العديد من مؤسسات المعرفة التي أدت إليها اللحظة الاستعمارية. ترتبط هذه المؤسسات بشكل أساسي بالمصالح العملية النابعة مباشرة من ضرورة مشروع السيطرة على السكان وإدارتهم، وغالبا ما كانت مرتبطة بمنطقة جغرافية، أو بالمغرب العربي، أو بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو بما كان يعرف آنذاك بالهند الصينية. لذلك يتم تطوير المعرفة المتخصصة على أساس شبكة مشتركة (التخلف الثقافي، ونقص التاريخ، وأشكال الزواج، ومنطق التنمية، وما إلى ذلك). لقد تم إعطاؤهم الكثير من الوسائل المادية: المركبات (من سيارات الجيب إلى الطائرات)، التقنية (التصوير الفوتوغرافي ثم السينما) والبشر (شكل المستعمَرُون مجموعة رائعة من المخبرين والمساعدين). تحليل شتاينميتز في أفضل حالاته هنا: المعرفة في خدمة السلطة تحتاج إلى وسائل استثنائية.

يبين عالم الاجتماع جيدا كيف تساهم هذه المؤسسات في تطوير الاستشراق العلمي الذي يكون، في ظل ظروف معينة، أقرب إلى المجال الأكاديمي، خاصة لأنها غالبا ما تكون بمثابة سرير اختبار للباحثين الشباب الذين يجدون وظيفتهم الأولى هناك. يمكن إضافة نقطتين إلى التحليل: الأولى هي التجربة الغريبة، التي لا يتم فرضها على الفضاء الاستعماري المناسب والتي غالبا ما تأخذ شكل تجربة استعمارية، سواء كان الأكاديميون الفرنسيون الذين تم تأسيسهم في البرازيل (جورج دوماس(Georges Dumas)[10] وكلود ليفي شتراوس(Claude Lévi-Strauss)[11] وروجيه باستيد (Roger Bastide )[12] هم الأكثر شهرة)، في جبال الأنديز (Andes)[13] (فرانسوا بوريكو) (François Bourricaud)[14] أو علماء الآثار من المدرسة الفرنسية في أثينا، الذين أصبحت حفرياتهم ممكنة بسبب وجود موظفين رخيصين ومطيعين. وبعيدا عن المستعمرة نفسها، فإن طبيعة هذه العلاقة البدائية مع الآخر، القائمة على عدم المساواة في المعرفة والموارد، هي التي ينبغي التشكيك فيها.

في وقت مبكر جدا، كان العلماء المشاركون يميلون إلى التأثير على برنامج مؤسسات المعرفة هذه من خلال زيادة استقلاليتها. في هذه اللحظة تقريبا تقع نقطة التقاطع بين الحقل الاجتماعي الناشئ ومجال علم الاجتماع الاستعماري، الذي لا يهتم كثيرا بنظرية عامة للاجتماع. وصف شتاينميتز البحث عن الحكم الذاتي بشكل جيد و خاص، خاصة فيما يتعلق بجاك بيرك (Jacques Berque )[15] بين الحربين العالميتين: انتقل بيرك من منصب إداري مدني مسؤول عن السيطرة على القبائل المغربية إلى كرسي في كوليج دو فرانس بعنوان "التاريخ الاجتماعي لتاريخ الإسلام المعاصر". ولتحقيق ذلك، ضاعف أبحاثه المستقلة بناء على خبرته البيروقراطية وأصبح أحد أصوات مناهضة الاستعمار بعد الحرب. نحن مدينون له بالاستخدام الأول لمصطلح إنهاء الاستعمار، ما يذكرنا به شتاينميتز بشكل مفيد للغاية.حيث تعد تحليلات التمكين التدريجي لمؤسسات المعرفة الاستعمارية إحدى نقاط القوة في كتاب شتاينميتز: غالبا ما يستخدم هذا المفهوم بشكل غامض وغير صالح نهائيا. هذا هو الحال بشكل خاص في ORSTOM (مكتب البحوث العلمية والتقنية في الخارج)، حيث يتم تحويل الموارد الكبيرة الممنوحة، في منطق يسعى إلى الرغبة الإمبريالية في إنتاج المعارف بمساعدة الأجهزة التقنية المتطورة، بطريقة ما، من قبل العلماء الذين ينتجون تحليلات أصلية وغالبا ما تكون نقدية، والذين ليس بالضرورة عرضها بشكل واضح، يفعلون شيئا آخر غير ما طلب منهم.

تجربة افتتاحية

أكثر من وجود علم اجتماع استعماري موحد نسبيا، وهو أمر غير محتمل علاوة على ذلك نظرا لتنوع المسارات والتشكلات والموارد، فإن قوة العلاقة مع العالم الاستعماري داخل رواد حقل العلوم الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي التي يؤسسها تحقيق شتاينميتز الدقيق: إن تعيين منصب في الفضاء الاستعماري في بداية حياته المهنية هو ظاهرة هائلة: إن حالات فرناند بروديل (Fernand Braudel)[16]، المعين في قسنطينة بعد نجاحه في درجة الأستاذية، والحالة الأحدث لبيير نورا (Pierre Nora)[17]، المعين في وهران عشية الاستقلال، معروفة جيدا، ولكن هناك العديد من الآخرين الذين يكتشفون، بعد صرامة مسابقات التوظيف، جمال الفضاء الاستعماري، ونادرا ما يكتشفون، باستثناء العقد الأخير، بؤسه العميق.

حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين، كان لمدينة الجزائر مظهر عاصمة حقيقية، بعيدة بما فيه الكفاية عن باريس حتى لا تكون مدينة إقليمية وغريبة بما يكفي لإثارة الدوافع الاستشراقية. كانت هيئة التدريس في الجزائر العاصمة أيضا نقطة انطلاق رائعة لمهن رائعة: كان بروديل أستاذا مساعدا هناك، وبورديو مساعدا. البعض، مثل عالم الأنثروبولوجيا العظيم في اليونان القديمة، لويس جيرنيه (Louis Gernet)[18]، الذي وقع على بيان 121، وهو إعلان عن الحق في العصيان في الحرب الجزائرية، قضى معظم حياته المهنية هناك، بلا شك على حساب سمعته الأكاديمية.

بشكل عام، تعد التجربة الاستعمارية للبحث والتدريس سمة مشتركة للعديد من أساتذة العلوم الاجتماعية والباحثين المعروفين من ستينيات القرن العشرين فصاعدا. بالإضافة إلى الأسماء المذكورة أعلاه، يمكننا إضافة جان كويزينييه (Jean Cuisenier)[19]، الذي، قبل أن يصبح المعلم العظيم للإثنولوجيا الفرنسية، تم إرساله إلى تونس، جان ويليام لابيير (Jean-William Lapierre)[20]، مساعد لمدة أربع سنوات في أنتناناريفو Tananarive [21]، إريك دي دامبيير (Éric de Dampierre)[22]، الذي يرسم له شتاينميتز صورة مفصلة للغاية، في تناقض حاد مع صورة بورديو (Bourdieu)، الذي يشترك معه في الإمتداد الفيبيري، لويس فنسنت توماس( Louis-Vincent Thomas)[23]، الذي، مثل بيير فوجيرولاس ( Pierre Fougeyrollas)[24]، درس في داكار، وأخيرا أولئك الذين يمكن تعريفهم بشكل أكثر دقة على أنهم علماء أنثروبولوجيا الفضاء الاستعماري، بول مرسييه (Paul Mercier)[25]، بول باسكون (Paul Pascon)[26]، جان هنري سيرفييه (Jean-Henri Servier)[27]، جان دوفينيو (Jean Duvignaud )[28] وبول سيباج (Paul Sebag)[29]. من الواضح أن مسارات هؤلاء الأفراد متنوعة للغاية، ولا يستحق جميعهم أن يطلق عليهم علماء اجتماع استعماريون، لكن تعداد شتاينميتز يرسم بلا شك مساحة مرجعية مشتركة. لم يكن لهذا المجتمع من التجارب والأحاسيس والعلاقات مع الآخر عواقب لا لبس فيها على المواقف السياسية التي اتخذها العملاء: كان جيرنيه (Gernet Louis) ملتزما بمناهضة الاستعمار في سن مبكرة، بينما التزم جان هنري سيرفييه (Jean-Henri Servier) بالجزائر الفرنسية.

بروسوبوغرافيا متناقضة

يتناقض الجزء الأخير من الكتاب مع كل ما سبق. أربع شخصيات هي موضوع فصول موثقة بشكل مثير للإعجاب. الأول مخصص لريمون آرون (Raymond Aron) [30]. قد يفاجأ القارئ. أرفق شتاينميتز بتحقيقه سلسلة من الرسوم التوضيحية ذات الصلة التي تعرض جميع أدوات الباحث الاستعماري. ومع ذلك، من الصعب تخيل جمجمة ريموند آرون الحادة وهي ترتدي خوذة استعمارية. ماذا يفعل في معرض الصور هذا، حيث يفرك كتفيه مع جاك بيرك وجورج بالاندييه (Georges Balandier ) [31] وبيير بورديو، الذين جعلوا الفضاء الاستعماري وسيلة للتحقيق النقدي في عملية الاستعمار؟ بالتأكيد، كان آرون يعارض بشدة، ولكن بالإجراء الذي يميزه، للحرب الجزائرية: لا تزال "المأساة الجزائرية/ La tragédie algérienne" [32](1957)، التي أيد فيها آرون استقلال الجزائر، قراءة لا غنى عنها، والتي أكسبت مؤلفها عداء لا يمكن إصلاحه من اليمين الفرنسي، وعلى وجه الخصوص، من عالم آخر، هو نفسه استعماري حقا، جاك سوستيل (Jacques Soustelle)[33].

إن معارضة آرون للاستعمار هي أولا وقبل كل شيء أخلاقية: وضع المستعمر هو إهانة للضمير في جميع الظروف. ويضيف نوعا آخر من الحجج، لا علاقة له بالحجة السابقة، والتي تستند إلى ملاحظة Real Politik ( واقعية سياسية) : فرنسا إمبراطورية لاهثة، والتي نتساءل عما إذا كانت لا تزال واحدة لأنها لم تعد تملك الوسائل لتحقيق طموحاتها. إن اختيار آرون، على الرغم من أنه لا يبرره وضعه الخاص في الفضاء الاستعماري، هو تأثير الاعتبار الذي يعطيه شتاينميتز لنظرية الإمبريالية التي طورها في اتصال مع الفلسفة وعلم الاجتماع الألماني، والتي تتعارض تماما مع النظريات الماركسية لنفس الموضوع، سواء كان ذلك. نهج لينين التبسيطي إلى حد ما، أو نهج روزا لوكسمبورغ (Rosa Luxemburg)[34] الأكثر تفصيلا.

بالنسبة لآرون، الذي قرأ فيبر (Weber)[35] وكارل شميت(Carl Schmitt) [36] بعناية، فإن الأساس الاقتصادي للمغامرة الإمبراطورية ليس أبدا تصميمها النهائي. لقد رأينا هذا في وقت غزو الجزائر، عندما كانت الأوساط الاقتصادية تعارض ما اعتبرته شأنا مكلفا مع عدم وجود أي احتمال للربح في المستقبل، في حين أن أعضاء حزب المستعمرين لم يكونوا أبدا جزءا من الطبقات المالكة. يلاحظ شتاينميتز كل هذا بشكل جيد للغاية، والذي يمكن تلخيصه على أنه أولوية الأيديولوجية على العوامل المادية، والتي تتناقض مع فولجاتا[37] ما بعد الاستعمار.

جعل آرون، كما ينزع المؤلف، رائدًا لنظرية إنهاء الاستعمار يبدو جريئًا للغاية: إدانته للعنصرية أو العنف الإمبريالي هي إدانة ليبرالي مفترض بدون أوهام، يغذيه ماكس فيبر وكلاوزفيتز (Clausewitz)[38] وتوكفيل (Tocqueville)[39]. شتاينميتز محق تماما في إخراج مؤلف كتاب الجمهورية الإمبراطورية (la République impériale)[40] (1973) من الموقف الكاريكاتوري الذي حبسه فيه اليساريون في كثير من الأحيان (بما في ذلك تلاميذ بورديو الأكثر حماسة). ومع ذلك، فمن المبالغة تحريفها كثيرا على جانب إنهاء الاستعمار. علاوة على ذلك، فإن حقيقة دمج اللحظة الاستعمارية في نظرية عامة للإمبراطورية، والتي تبدو أنها مشروع آرون العظيم، لا تخلو من الصعوبة بالنسبة لمؤيدي تفرد الاستعمار الغربي، والذي سيصنفه النهج العالمي بدلا من ذلك على أنه شكل معين من أشكال الهيمنة التي يمكن توطينها تاريخيا وجغرافيا: وهكذا يتم إبطال الكثير من القوة الإيديولوجية لإنهاء الاستعمار (إلقاء اللوم على المركزية الأوروبية الاستبدادية المرتبطة، عن صواب أو خطأ، بروح التنوير).

سيكون من المفهوم أن هذا الكتاب كتاب رائع، وسوف يغفر للمؤلف بسهولة بعض الأخطاء أو المقاربات. يبقى سؤال واحد بعد قراءة كتاب من المقرر أن يصبح مرجعا لجميع الأبحاث حول علم الاجتماع الفرنسي. يتعلق الأمر بموقف المؤلف عن بعد: إذا صدقناه، فلن يتمكن عالم اجتماع فرنسي من إجراء هذا البحث طالما أن هذا التاريخ هو موضوع فقدان الذاكرة. ربما يكون على حق، بقدر ما لم يكن لدى أي شخص فكرة إجراء مثل هذا البحث المكثف حول ما نميل إلى اعتباره قطاعا مهيمنا عليه في العلوم الاجتماعية والذي هو في الواقع حاسم لتاريخ الإختصاص في فرنسا في أشكاله الأكثر شرعية. يمكننا أن نرى مفارقة لطيفة في هذا: إنه عضو في الجمهورية الإمبراطورية يرفع مرآة لزملائه الفرنسيين لإيقاظهم من فقدان الذاكرة. صحيح أنه من الأسهل التحدث عن إمبراطورية ميتة من الحديث عن إمبراطورية حية. لكن ألا يمكننا أن نختتم بالقول: "de te fabula narratur"[41] ؟ هذه القصة، جورج، هي قصتك أيضا.

***

ترجمة : أ.مراد غريبي

الرابط: https://laviedesidees.fr/Histoire-de-la-sociologie-coloniale

..............................

[1] (من مواليد 13 نوفمبر 1957) هو أستاذ تشارلز تيلي الجامعي لعلم الاجتماع واللغات والآداب الجرمانية في جامعة ميشيغان. قام بالتدريس في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، وجامعة شيكاغو، وكلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية (مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية / EHESS). وهو عالم اجتماع تاريخي للإمبراطوريات والدول والمدن، مع التركيز على ألمانيا الحديثة وفرنسا وبريطانيا ومستعمراتها. مجالات بحثه الرئيسية الأخرى هي النظرية الاجتماعية وتاريخ وفلسفة العلوم الاجتماعية.

[2] جورج شتاينميتز، الأصول الاستعمارية للفكر الاجتماعي الحديث. علم الاجتماع الفرنسي وإمبراطورية ما وراء البحار، برينستون، مطبعة جامعة برينستون، 2023، 554 ص.

[3] أستاذ علم الاجتماع في جامعة أوروبا الوسطى ومدير الدراسات المتقاعد بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الإجتماعية. يكرس عمله لعلم الاجتماع التاريخي لتكوينات المعرفة. زميلا في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون خلال العام الدراسي 2017-2018. نشر بيير بورديو. بنيوية بطولية في Le Seuil في عام 2016 وقد أكمل للتو كتابة علم اجتماع كورسيكا لمجموعة (Repéres) La Découverte)-).

[4] عالم إجتماع فرنسي يعتبر أحد أهم علماء الاجتماع في النصف الثاني من القرن العشرين. تم تصنيف كتابه "التميز" La Distinction من بين أهم عشرة أعمال في علم الاجتماع في القرن من قبل الرابطة الدولية لعلم الاجتماع

[5] فيلسوف ألماني، لاحق لإيمانويل كانط، ينتمي إلى المثالية الألمانية وكان له تأثير حاسم على الفلسفة المعاصرة بأكملها.

[6] هو عالم اجتماع فرنسي يعتبر أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.

[7] جان غابرييل تارد هو عالم اجتماع فرنسي وعالم نفس اجتماعي، أحد أوائل المفكرين في علم الإجرام الحديث.

[8] هو عالم اجتماع أمريكي. وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة بنسلفانيا ورئيس دوروثي سوين توماس. بعد حصوله على درجة الماجستير في علم النفس من جامعة ستانفورد، حصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا، بيركلي في عام 1969. قبل أن يبدأ مسيرته الأكاديمية، كان كولينز كاتبا أيضا. إحدى رواياته، قضية خاتم الفيلسوف، ظهرت في شيرلوك هولمز

[9] هي عالمة اجتماع أسترالية معروفة بعملها في موضوعات العلاقات الطبقية والجنس والتعليم والعلاقات بين الشمال والجنوب في البحث الأكاديمي.

[10] هو طبيب وطبيب نفساني فرنسي.

[11] هو عالم أنثروبولوجيا وإثنولوجي فرنسي كان له تأثير كبير على النطاق الدولي في العلوم الإنسانية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين. على وجه الخصوص، أصبح أحد الشخصيات المؤسسة للبنيوية من خمسينيات القرن العشرين فصاعدا من خلال تطوير منهجيته الخاصة، الأنثروبولوجيا البنيوية.

[12] عالم اجتماع وأنثروبولوجيا فرنسي، متخصص في علم الاجتماع والأدب البرازيلي.

[13] جبال الأنديز هي سلسلة جبلية واسعة ممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية يقارب طولها 7100 كيلومتر، وعرضها 500 كيلومتر، ومعدل ارتفاعها 4000 متر. تمتد السلسلة في سبع دول هي الأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وبيرو وتشيلي وكولومبيا وفنزويلا.

[14] عالم إجتماع فرنسي متخصص في فرنسا وتالكوت بارسونز وأمريكا اللاتينية. كان ينتقد بشدة أعمال بيير بورديو.

[15] هو عالم اجتماع وعالم أنثروبولوجيا فرنسي. حائز على كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر في كوليج دو فرانس من عام 1956 إلى عام 1981، وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ عام 1989. وهو مؤلف للعديد من الترجمات، التي تم تقديرها بشكل خاص لجودة أسلوبها، بما في ذلك ترجمته القرآن الكريم.

[16] مؤرخ فرنسي

[17] مؤرخ فرنسي

[18] عالم لغوي ومحامي و مؤرخ فرنسي، متخصص في اليونان القديمة.

[19] أستاذ الفلسفة، عالم الأعراق فرنسي، متخصص في الإثنولوجيا الفرنسية، الإثنولوجيا الأوروبية خاصة في رومانيا، الفنون والتقاليد الشعبية، وبشكل خاص العمارة الريفية.

[20] هو عالم اجتماع فرنسي، مفكر في السلطة والسياسة.

[21] العاصمة الإقتصادية و السياسية لمدغشقر

[22] عالم إثنولوجي وأكاديمي فرنسي.

[23] أكاديمي فرنسي، أنثروبولوجي متخصص في القبائل الإفريقية

[24] فيلسوف فرنسي وعالم اجتماع وعالم أنثروبولوجيا

[25] عالم أنثروبولوجيا فرنسي متخصص في شعوب افريقيا

[26] عالم اجتماع مغربي

[27] عالم إثنولوجي ومؤرخ فرنسي

[28] كاتب فرنسي وناقد مسرحي وعالم اجتماع وفيلسوف وكاتب مسرحي وكاتب مقالات وكاتب سيناريو وعالم أنثروبولوجيا.

[29] عالم اجتماع ومؤرخ فرنسي تونسي

[30] هو فيلسوف وعالم اجتماع وعالم سياسي ومؤرخ وصحفي فرنسي.

[31] هو عالم إثنولوجي وعالم اجتماع فرنسي.

[32] كتاب للمفكر الفرنسي ريمون آرون نشر في يونيو 1957 من قبل إصدارات بلون (Plon)

[33] عالم إثنولوجي وسياسي وأكاديمي فرنسي.

[34] ناشطة اشتراكية وشيوعية في الحزب الاشتراكي الألماني بدايات القرن العشرين، ومنظرة ماركسية

[35] هو اقتصادي وعالم اجتماع ألماني تكوينه الأساسي في القانون. يعتبر أحد مؤسسي علم الاجتماع، ويتساءل عن التغييرات التي حدثت في المجتمع مع دخول الحداثة. وتنسب إليه كذلك التحليلات المعقدة للرأسمالية الصناعية والبيروقراطية وعملية الترشيد في الغرب.

[36] هو محام و فيلسوف ألماني

[37] النسخة اللاتينية للإنجيل

[38] ضابط عام بروسي ومنظر عسكري في أواخر القرن التاسع عشر.

[39] هو قاضي فرنسي، وكاتب، ومؤرخ، وأكاديمي، ورحالة، وفيلسوف، وعالم سياسي، ورائد في علم الاجتماع وسياسي.

[40] هو كتاب لعالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون، نشرته إصدارات كالمان ليفي (éditions Calmann-Lévy ) عام 1973 وحصل على جائزة النقد في نفس السنة

[41] مثل لاتيني: أنت الشخص الذي تم تصويره في هذه القصة.

كتاب عبارة عن دراسة ميدانية من تأليف الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الغني منديب (أفريقيا الشرق، 2006)، إذ تتغيا فهم وتحليل وتفسير التمثلات الدينية السائدة لدى المغاربة، بحسبانها مجموع التصورات والمعتقدات التي يدعوها فيبر ب "النظرة إلى الكون"، هذا بالإضافة إلى الممارسات والطقوس الدينية المقترنة حكمًا بها، ومن ثم العمل على استخلاص دلالاتها ووظائفها الرمزية. أما بخصوص تقنيات البحث التي تَوَسلها الدارس، فهي تطاول كلا من الملاحظة والمقابلة الميدانية المعمقة للمبحوثين، والتي طبقها على مجتمع الدراسة المنصرف إلى خمسة دواوير من الوسط القروي بدكالة، بحيث في الوسع تعميم نتائجها على شتى المناطق الجغرافية بالمغرب:

التمثلات والمعتقدات الدينية للمغاربة

يُعد تصور الله ك "قوة مشاركة لا مفارقة" من أهم العناصر المشكلة للنظرة إلى الكون بالنسبة للمغاربة في نظر المؤلف، ومؤدى ذلك التمثل هو الاعتقاد في أن كل ما يجري من وقائع وأحداث دنيوية هو قطعا من صنع الإرادة والقدرة الإلهية، وهو ما يُعبر عنه في التعبير الدارج ب "المكتوب". بيد أن ما سلف ذكره لا يجمل أن يتأدى بنا – في تقدير الباحث –  إلى القول بالمطابَقة بين تصور المغاربة ل "المكتوب" (= المقدر) والنظرة الجبرية التي تبنتها بعض المذاهب الفقهية الإسلامية، ذلك أن مفهوم "المكتوب" لا يسعنا فصله، بحسب الكاتب، عن مفهوم آخر ملازم له ألا وهو "السبوب"، الذي يفيد الأخذ بالأسباب والسعي في تحسين الأحوال. ولهذا فإن "المكتوب" أو القدر الإلهي لا نملك معرفته إلا بعد العمل بمقتضيات "السبوب"، الشيء الذي يحول دون الركون إلى الأمر الواقع والرضوخ له، مما يفسر – على سبيل المثال لا الحصر – أن المصابين بالعقم لا يألون جهدا للأخذ بالأسباب للتغلب عليه، رغم يقينهم بأن الإنجابَ نعمةٌ ربانيةٌ ومرتهنٌ بالمشيئة الإلهية.

كما يدخل مفهوم "الدنيا" في عداد العناصر المكونة للتمثلات الدينية عند المغاربة، إذ يُنظَر إليها (=الدنيا) من حيث هي مجال للتفاوت الاجتماعي متولد من المشيئة الإلهية التي اقتضت تباين حظوظ الناس من الرزق والثروة، الأمر الذي يسبغ المشروعية على التفاوت في توزيع المكانة الاجتماعية بين الأفراد، دون أن يلغي ذلك، في تَمَثل المغاربة، إمكانية التحول في المكانة الاجتماعية والوضعية الاقتصادية للأفراد تبعا للقدرة الإلهية، مما يفسر بالتبعة سعي الفئات الدنيا الدائب لتحسين مكانتهم الاجتماعية، واكتساب الوجاهة والحظوة في أعين الناس.

وعليه فإن العلاقات الاجتماعية التي ينتظم في إطارها المغاربة، مثلما يلحظ المؤلف، ليست مفصولة عن تلك الاعتبارات النفعية وثقافة المحسوبية ("الدنيا بالمعارف")، وفي مقدمتها علاقة الزواج التي تلبس – في كثير من الأحيان – لبوس صفقة تجارية بمنأى عن أي اعتبارات عاطفية (مشاعر الحب... إلخ)، بيد أن ذلك لا يعني البتة أن تلك العلاقات منفلتة عن ضوابط وقيود أخلاقية يحرص المجتمع على التقيد بها (نبذ "المال الحرام" الذي مصدره السرقة والغش والتدليس... إلخ).

هذا إلى جانب "الصلاح" بما هو أحد المفاهيم التي تتنزل في صلب تمثلات مجتمع الدراسة، والذي لا ينحصر معناه في التقيد بمبادئ العبادة والأخلاق الدينية، في منظور الكاتب، بحيث تنصرف دلالته إلى حسن التدبير والقدرة على إحراز النجاح لجهة تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي (يدخل في هذا المضمار سلوكيات من قبيل ترشيد النفقات، تفادي الإسراف والتبذير... إلخ).

الطقوس الدينية في المغرب ودلالاتها

يمكن تعريف الطقس بما هو "كل سلوك فردي أو جماعي يتسم بخاصية التكرار، وهو تجسيد ملموس لتصورات وتمثلات ذات وظائف محددة، بحيث لا تقتصر الأخيرة على تأكيد وإشهار الهوية الإسلامية بالنسبة للمبحوثين، بمقدار ما تنطوي على وظائف حيوية أخرى، كما تتوزع تلك الطقوس والممارسات بين اليومي والموسمي والظرفي:

أولا: الممارسات اليومية

يشمل هذا الصنف الأول مجموعة من الطقوس، وفي طليعتها البسملة التي تؤدي وظيفتين أساسيتين، أولاهما استعطافية تيمنية تبغي نشدان العون الإلهي في الأعمال الدنيوية، وثانيتهما وقائية ترمي لاتقاء شر "الجن" و"الأرواح الشريرة"، ناهيك بالحمدلة التي يُتلفظ بها في السراء والضراء، بما يفيد الإعراب عن الشكر والامتنان للخالق، وعدم الاعتراض على المشيئة الإلهية في أحوال الضيق والشدة. وعطفا على ما سبق، يُعتبر الاستغفار والتعوذ من أبرز الطقوس اليومية، ولا سيما حين يوشك المرء أن يقع، أو يقع فعلا في إتيان ذنب ما، إذ تصدر هذه الممارسة من قناعة مؤداها أن الشيطان يتربص دوما بالناس ليوقعهم في حبائل المعاصي والآثام، مما قد يقتادهم، في هذه الحالة، إلى التنصل من المسؤولية الشخصية عن الأخطاء المرتكَبة.

كما يُعد الدعاء من أبرز وسائل التماس المعونة الإلهية داخل مجتمع قروي يتسم بقدر من الخصوصية، حيث القلق والهواجس الدائمة بفعل تَقَلب الظروف المناخية (عدم انتظام تساقط الأمطار). وصولا إلى الصلاة، التي بالرغم من أهميتها بالنسبة لمجتمع الدراسة بحيث يبعث الإحجام عن أدائها أو الانقطاع عنها على نوع من العتاب، فإن عدم إتيانها ليس مسوغا كافيا، كما يلحظ المؤلف، لتجريد الشخص المعني من الهوية الإسلامية، نظرًا لانشغال معظم الأفراد بشؤون المعيشة. وبهذا الصدد لم يذهل المؤلف عن تناول صلاة الجماعة بمجتمع الدراسة، التي وإنْ كان يُفترض أن تشكل فضاء يتساوى فيه المصلون على اختلاف مراتبهم الاجتماعية، فإن الأعيان والوجهاء يَشْغَلون فعليًا أماكن خاصة بهم في المسجد، ولعل هذا المعطى يفسر، وفقا للباحث، قلة عدد المداومين على الصلاة الجماعية، حيث يود المبحوثون تلافي المواقف التي تضعهم في منزلة دونية إزاء كبراء وسادة المجتمع.

ثانيا: الممارسات الموسمية

تطرق الباحث لجملة من الطقوس والممارسات الموسمية، ونذكر من جملتها شعيرة الحج التي يُقبل عليها في الغالب أعيان وكبراء القوم بمجتمع الدراسة، مما يجعلها عنوانا للوجاهة الاجتماعية، أما بالنسبة لباقي الفئات المعوزة، فإن ضيق ذات اليد يحول دون تَمَكنها من أداء هذه الشعيرة، الشيء الذي يتأدى بها إلى الاكتفاء بزيارة الأضرحة، منظورا إليها من حيث هي "حج مصغر". كما عرضت الدراسة، أيضًا، للتمثلات والممارسات المقترنة بعيد الأضحى أو "العيد الكبير"، ولئن كانت الأخيرة تفيض بدلالات دينية – إسلامية صارخة، فإنها لا تشذ عن القواعد الناظمة لطقوس التضحية والوظائف المنوطة بها بمختلف الثقافات تبعا للمنظور الأنثروبولوجي، إذ يذهب روني جرار إلى أن تلك الطقوس تؤدي إلى التحام وتآزر الجماعة، وتفريغ العنف المتبادل الذي يتهدد وحدتها واستمرار وجودها بواسطة تلك الطقوس.

ثالثا: الممارسات الظرفية

تحيل الطقوس الظرفية إلى الممارسات التي يرتبط إتيانها بظروف ومواقف معينة، والجامع بينها، مثلما يفيد الكاتب، هو نهوضها بوظيفة احتواء القلق الذي يعتري المقبلين عليها، ولعل أظهرها الطقوس المتصلة بزيارة الاضرحة، بما هي ممارسة ممتدة الجذور بالمجتمع المغربي رغم الخطاب الفقهي المعارض لها، وقوامها الاعتقاد في قدرة الصلحاء على التوسط لقضاء حاجات ومآرب السائلين (إبراء الأمراض، عقد المواثيق، الاستخارة وطلب المشورة... إلخ)، بفضل ما لديهم من "بركات" و"كرامات" تُعزى إلى تقربهم من الحضرة الإلهية بحسب التمثل السائد. ومن ضمن تلك الممارسات نذكر أيضا طقس الختان، الذي يُجمع باحثون كثر على أنه "طقس جنسي يهدف إلى تحسيس الختين بمسؤوليته المستقبلية كعضو من جماعة الذكور"، وباعتباره "إعدادًا لفض البكارة وتحسيسا مبكرا بأهمية النشاط الإنجابي".

رابعا: الممارسات السحرية

يذهب المؤلف إلى أن استمرار الاعتقاد في وجود ومفعول القوى اللامرئية (الجن، العين الشريرة...) يشي بهشاشة الحدود الفاصلة بين الديني والسحري، وتتوزع تلك الممارسات بين "الوقائيات" الهادفة للوقاية من تلك القوى (كحمل التمائم والتعاويذ، إحراق الأبخرة... إلخ)، و"الغيبيات" التي تشير إلى القدرة المزعومة لبعض الأشخاص على التنبؤ بالمستقبل واستطلاع الغيب، والعراف في مجتمع الدراسة كما يورد الباحث، لا يرى نفسه ساحرا بل صاحب هبة ربانية، ناهيك ب "الممارسات السحرية" التي يُراد منها التأثير على الآخرين (الحصول على إعجاب رجل ما... إلخ).

وفي الختام، يشدد المؤلف على أن قدرة التمثلات والممارسات الدينية على الفعل والاستمرار في الوجود متوقفةٌ على مدى توافقها مع الحس المشترك والتنظيم الاجتماعي السائدين، وآية ذلك أن بعض التصورات والممارسات الدينية الموصومة بالتزمت لا تلقى قبولا لدى مجتمع الدراسة، على شاكلة حملات الوعظ والإرشاد التي تنظمها جماعات دينية منظمة، والتي تروج لأفكار تتعارض وقواعد التنظيم الاجتماعي السائدة، من قبيل مناداتها بترك ما تراه "بدعًا" و"خرافات" (زيارة الأضرحة، القراءة الجماعية للقرآن... إلخ)، ولعل ذلك ما يفسر، نسبيا، فشل مشروع بعض الحركات المحسوبة على الإسلام السياسي لا في المغرب فحسب، وإنما بمجموعة من الدول العربية، باعتبار أن الممارسات موضوع الاستهجان من لدنها قد بلغت درجة كبيرة من التجذر بالنسبة لقواعد المجتمع. كما أن قدرة بعض الممارسات الدينية على الصمود رغم تطاول الزمن (كزيارة الأضرحة) تفسر كذلك، بهذه الدرجة أو تلك، بدور السلطات المركزية في المحافظة عليها وإسنادها، بحسب الكاتب، لما تؤديه من وظائف حيوية لجهة تأمين استقرار النسق.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

يعتبر الدكتور وجدي كامل من جيل المخرجين السينمائين السودانيين الذين تتعدى همومهم الفعل اليومي وتنفذ الى ما هو مستقر لتعمل على زحزحته ومسائلته يبدو ذلك ظاهراً في مقالاته السياسية ولوحاته التشكيلية ؛ ويُرى ذلك في الافلام التي أخرجها مثل " بروق الحنين" و" وباتريس لوممبا"، و"جراح الحرية"، و"الخرطوم كان ياما كان"، و"فراق الدم"، ومؤلف هذا الكتاب نال بكلاريوس وماجستير الاخراج السينمائي والتلفزيوني من معهد الدولة للسينما والتلفزيون السوفيتي والدكتوراة في نظرية ونقد الفليم في العام 1993 من معهد الدولة الروسي للسينما والتلفزيون. ومؤلف لعدد من الكتب من ضمنها هذا الكتات الصادر بالانجليزية" السينما الافريقية- ظاهرة جمالية" ترجمة الاستاذ عادل محمد عثمان عن دار العين الطبعة الثانية 2019(159ص) وكانت طبعته الاولى عن المجمع الثقافي في ابوظبي وكتاب " سامبين روائيا ومخرجا سينمائيا أفريقيا" بالاضافة لمؤلف " السينما والفوتغرافيا في النظام الثقافي المعاصر"و " السينما هرم الدولة المقلوب".يضاف لذلك اعماله الفنية في الشعر والفن التشكيلي.

(1)

يقسّم المؤلف كتابه الى قسمين رئيسيين؛ أو فصلين أساسيين بالاضافة الى المقدمة والخاتمة وملحق الصور ودليل المخرجين والافلام الافريقية المعاصرة .

في هذه القراءة النقدية أقدّم ملخصا سريعا لفصول الكتاب والافكار التي يناقشها والمضامين. جاء الفصل الاول تحت عنوان من التعبير الدعائي الى التعبير الفني وفيه يناقش الكاتب ويؤرخ لميلاد وقضايا السينما الافريقية وحالات الجدال والتعقيدات بين مسألة الهوية الوطنية والفنية عند استخدامنا للتحليل السنيمائي، وفي وقت كانت افريقيا مجرد فضاء غرائبي لمنتجي الافلام الغربيين وذلك للصور التي تذخر بها الطبيعة الإفريقية من الادغال والحيوانات والمناظر الخلابة؛ مع استبعاد وعدم تقييم الثقافة الافريقية. اذ اعتبرت موطناً للهمجية والقسوة والبربرية وكان السحر والشعوذة والرقص مادة أساسية لمعظم الافلام الغربية. والافلام التي عالجت قضايا افريقيا كانت أسيرة العقل الاوربي والتصورات والتمثلات التي وضعها العقل الاوربي في نمط محدد.

انتعشت صناعة السينما بُعيد العام 1957 حين نالت حوالي 13 دولة افريقية استقلالها وتكونت مجموعات صغيرة من السينمائيين في كل بلد ومعظم هؤلاء تلقوا دراساتهم في السينما بموسكو وباريس ولندن وروما ؛ يشير المؤلف الا ان الافلام الاولى التي انتجها الافارقة عالجت مسائل متعلقة بوجود الافريقي في اوروبا والثقافة الاوربية وهي معضلة الاغتراب والاستلاب في آن. وفي هذا الاطار أورد الكتاب العديد من الافلام التي تناولت ظاهرة الاغتراب مثل افلام الموريتاني (ميد هيندو) والذي اخرج فيلم " العرب والزنوج هم جيران" ويشار اختصاراً بـ" جيراني" وفي السياق انتجت مجموعة من الافلام لمخرجين افارقة تحمّل أوروبا المسؤلية تجاه ماضي افريقيا وتحث على النضال من أجل الاستقلال وهي خاصية رئيسية في افلام السينما الافريقية في الستينيات والسبعينيات. وهي الفترة التي تخلصت فيه أفريقيا من كونها موضوعاً لتتجه الى رؤية ذاتها وسردياتها الخاصة بها من خلال الافلام.

ولم يكن المخرجين الاجانب في موقع يؤهلهم لمقاربة الواقع الافريقي او القدرة على تقديم الثقافة الافريقية الموغلة في القدم وطبيعتها المعقدة المتعددة الاثنيات؛ إذ ان الأفارقة وحدهم لديهم القدرة لمعالجة هذه الاشكالات ومقارباتها.

يمكن أن يؤرخ لجماعة السينما الافريقية في مرحلتين وكل مرحلة سادت فيها نزعة محددة ؛ كانت النزعة الاولى للافلام الافريقية متمركزة حول قضايا الاغتراب والافارقة في اوربا بينما سادت رؤية وتقديم الذات في النزعة الثانية ويرى المؤلف ان الفصل بين المرحلتين خطأ؛ وقد أحدث كثيراً من التناقض والخلافات ، لذلك اقترح نهجاً مسايراً وهو تعيين وتعريف الاتجاهات الرئيسية التي حكمت تطور السينما الافريقية وفي هذا المنحنى تناول بعضاً من الاعمال السينمائية مثل أعمال رائد فن السينما الافريقية السنغالي بوليين فييرا والتي يحكي فيها تجربة الاغتراب وقضايا الهوية وفقدان الثقافة وينتمي بولين لقبيلة اليوربا وهي تمتاز بغنى ثقافاتها التقليدية وعراقتها ولديه عدة أعمالfor years ago و Africa on the seine وفيلمه الوثائقي " ميلاد أمة" وكان عن الخطوات الاولى للسنغال المستقلة . ومن المخرجين الذين اهتموا بالتقاليد الشعبية " مصطفى ألسان" الذي ولد في النيجر ويعد من رواد افلام الرسوم المتحركة ومن ضمن أفلامه" المراكبي" وطاحنة الذرة" و " خاتم الملك كودا" . قدم مصطفى ألسان فيلماً يحكي عن التناقضات بين أخلاقيات المجتمع الافريقي واخلاقيات الغزو الاوربي واسماه " عودة المغامر"، وفي هذا الفلم يعود بطل القصة الى افريقيا من أمريكا ويحمل معه ملابس الكاوبوي هدية لاصدقائه؛ يلبس الشباب الملابس ويحملون البنادق ثم يغيرون على القرى المجاورة وهي محاكاة لافلام الويسترن وبصعوبة بالغة يستعيد حكماء القرية الامن ويحذرون الشباب من تكرار تلك الافعال.

أفرد المؤلف مساحة للمخرج السنغالي "عثمان سامبيين" وهو من الشخصيات الاكثر اسهاماً والاشد بريقاً في تاريخ سينما افريقيا جنوب الصحراء وهو روائي واول رواية له " عامل الميناء الاسود" وهي عن العمّال الافارقة الذين هاجروا للعمل بميناء مارسيليا؛ وروايته الثانية " وطني – شعبي الجميل" وهي عن اشكاليات الانتجلنسيا الافريقية التي تلقت تعليماً غربياً وعند العودى لبلدانها تفشل في الانسجام والتجانس مع واقعها الاصلي اذ انها مصابة بالاغتراب الثقافي وقد أصدر الكاتب كتاباً بعنوان " سامبين روائياً ومخرجاً سنمائياً افريقياً " وأفلام سامبين تناقش نقديا قضايا بنية السلطة والمجتمع السياسي الافريقي الذي خلفه الاستعمار وكذلك الانظمة الاخلاقية للمجتمعهات ويعالج ايضا في افلامه سياسات الافقار من قبل السلطات والرشوة والفساد .

(2)

افرد المؤلف القسم الاخير من كتابه بعنوان " المخرجون الجدد في مهمة تأسيس الظاهرة الجمالية" وهي مخصصة لدراسة التكوين الثقافي للمخرجين وانعكاسه في تشكيل اللغة السينمائية الخاصة بهم وكذلك التعبير عن خصوصية كل منهم ومحصلة الظاهرة الجمالية التي حققوها ويحققونها مجتمعين حتى الآن لسينما أفريقية في الشاشة السينمائية العالمية.

ويناقش المؤلف اهتمام المخرجين الجدد بالتكنيك الفني للسينما والابداع وآلية صناعة الفيلم نجد هذه الافكار في افلام " أولا بلاغون" الذي تلقى تعليمه بداكار وعمل في السفارة النيجيرية بباريس وكان يتحدث الانجليزية والفرنسية ( ساعدته في توسيع آفاقه ورؤيته) وجانب كبير من أفلامه تناولت المشاكل الثقافية وكان مهتماً بتطوير ثقافة اليوربا من خلال الافلام السينمائية. أما تناول السينما كظاهرة جمالية فقد مثلها المخرج سليمان سيسي من مالي وترك تأثيراً كبيراً على مجريات السينما في افريقيا الاستوائية واول افلامه الروائية كانت بعنوان " الفتاة الشابة" ويسعى الفيلم لالتماس الحياة اليومية ويحكي عن تزمت المجتمع واخلاقيات القبيلة وتعارضها مع مفاهيم الحياة الحديثة واهتم سيسي بالتعبير الابداعي واستبعاد الخيال ليقدم بعمق أحوال الطبقة العاملة التي كانت هي في طورها الجنيني في القارة الافريقية النامية. ظهر ذلك في فيلم " بالا ديارا" وهو شاب نزح من القرية للعمل في المدينة ويجر عربة لحمل اغراض الناس فيشاهد رجلا يطرد زوجته الحامل واطفاله من بيته فيرق قلب " بالا: ويحمل امتعة المرأة بدون مقابل .ثم يعمل مع أمرأة تاجرة ويتعرض للغش ثم يعمل في مصنع للنسيج وتحدث عدد من المشاكل المتعلقة باستغلال العمال . في هذا الفيلم تم تصوير صراع البروليتاريا الناشئة والمستغلة والمضطهدة مع البورجوازية الوطنية . اشتغل سيسي أيضاً على الاسطورة والحكاية الشعبية بجانب السحر والخرافة وكان مهتماً بالرؤى الاخراجية من قبيل التصميم الديكوري لعناصر التشكيل الفني .

مثّلت قضية الاحياء أو اليقظة الثقافية القاسم المشترك بين المخرجين الافارقة وكما نعلم فقد خلف الاستعمار تركة ثقيلة على بنية الثقافة الافريقية وكانت وسيلة لتطوير الوعي السياسي للجماهير . وكان ثمت اعتقاد بان مهمة السينما يجب أن تكون وبالدرجة الاولى ايقاظ الوعي الجمعي في سبيل تحقيق الاستقلال الثقافي..انصب الاهتمام على اعطاء الاهمية للتقنية باعتبارها مصدراً أساسياً لصناعة الفيلم .

(3)

كانت الاسئلة الرئيسية لهذا الكتاب تتلخص في" محاولة لاستجلاء حقيقة السينما الأفريقية من الزاوية الاصطلاحية توجه الكاتب بالسؤال لعدد من الوجوه والمسهمين في تطور الأفلام الأفريقية: هل توجد بالفعل سينما أفريقية؟ وهل يملك هذا المصطلح الحق في الحياة؟.وبالنظر لمحصلة الآراء والمواقف التي حصل عليها الكاتب أشارت إلى تعامل حذر أحياناً وناقص أحياناً أخرى نحو مشروعية مصطلح السينما الأفريقية. ومهما يكن من شيء في اختلاف الآراء بين وجود سينما أفريقية، أو وجود أفلام لمخرجين أفريقيين، فلأفريقيا فنها السينمائي.

بطبيعة الحالة تعاني السينما في افريقيا والتي لم تجد حتى الان سمات رئيسية او خصائص يمكّنها من اعطاء " السينما الفريقية " الاطار او الدقة لهذا المصطلح ؛ تعاني من اشكال الصناعة السينمائية ؛ وغياب الدولة عن المشاركة والانتاج في الصناعة السينمائية وخاصة ان السينما مورد يدر دخلاً على الاقتصاد الوطني وايضاً تعمل على ارسال رسائلها السياسية والاجتماعية والثقافية للجمهور بجانب التسلية وتعتبر وسيلة مهمة في نشر الوعي وتشكُّل الوعي الجمعي.بجانب انها آلية من اليات التعلم فهي أيضاً آلية للمقاومة ولنقد الظروف والحراكات اليومية في الدولة. في تقرير اعدته اليونسكو في 5 أكتوبر 2021 عن صناعة السينما في افريقيا تقول أن تعميم التّقنيات الجديدة، والكلفة المعقولة للمعدّات الرّقمية، والظهور القويّ للمنصّات الإلكترونية، مكنت هذه الاليات من بروز جيل جديد من صنّاع الأفلام الأفارقة. وقد عكس تقرير اليونسكو، بعنوان "صناعة الأفلام في إفريقيا: الاتجاهات والتحدّيات، وفرص النمو"، حيويّة السّنيما الأفريقية بفضل التّقنيات الرّقمية.

ولعلّ نولِيوُود Nollywood ـوهي التّسمية التي مُنحت إلى صناعة السّنيما النيجيرية- ترمز لوحدها إلى هذا النّموّ بإنتاجها السّنوي الذي يناهز 2500 فيلم. وهي صناعة محلّية للإنتاج والتّوزيع ظهرت إلى الوجود وأنتجت نموذجاً اقتصادياً خاصّ بها. غير أن الثّورة الرّقمية، التي بدأت منذ ما يقرب من عشرين سنة، وتسارعت وتيرتها بسبب جائحة كوفيد ـ 19، غيّرت من قواعد اللعبة.

ومع ذلك، فإن الإمكانات الاقتصادية لقطاعي السنيما والسّمعي-البصري ما زالت غير مستغلّة إلى حدّ كبير في معظم أنحاء القارة. والواقع أن هذه الصّناعة تعاني بشكل هيكلي من نقص التّمويل وتفتقر إلى التّطوير، فضلاً عن كونها لا تحظى بالمكانة التي تستحقّها كما لا تزال هناك تحدّيات في عديد المجالات من قبيل المساواة بين الجنسين، وحرية التّعبير. ووفقاً لدراسة أجرتها اليونسكو، فإن %87 يشيرون إلى وجود قيود صريحة أو رقابة ذاتية على ما يمكن عرضه أو تناوله على الشاشة.

أشار المؤلف الى صعوبة تسمية " السينما الافريقية " ولكن اذا قاربنا مفهوم الادب الافريقي حسب تنظيرات الشاعر النيجيري إتال تشينوايز في كتابه "نحو تفكيك الكولونيالية في الأدب الأفريقي"، بأنه الأدب الذي تتحقق فيه نقاط أربعة وهي: أن يكون القارئ المستهدف هو القارئ الأفريقي. أن تكون القضية التي يعرضها العمل الأدبي قضيّة أفريقية. أن تكون جنسية الكاتب أفريقية. أن تكون لغة العمل الأصلية أفريقية. فيمكن القول ان " مفهوم السينما الافريقية أو الفيلم الافريقي يجب ان يكون الفيلم الذي يستهدف جمهوراً أفريقياً ويعرض الهموم والأزمات الاجتماعيّة الأفريقية، إضافة إلى أن يكون مخرجها إفريقي المولد أو الجنسية، كما ينبغي الانتباه إلى جوهر تاريخي لا يحتمل الجدل، وهو توظيف اللغات الأفريقية المحليّة كوسيلة للتعبير الفيلمي.

استفاد الجيل الجديد من المخرجين الافارقة من التقنيات الحديثة والتطور الذي صاحب مناهج دراسة السينما في المعاهد والجامعات؛ ولكن بالطبع هناك اشكال يرتبط باالتمويل والرقابة القبلية ومنع عرض الافلام مما يعرض المخرجين لخسارة كبيرة .

الكتاب يفتح النقاش على مصراعيه خاصة في قضية التكوين الثقافي للمخرجين وأثره على السينما وصناعة الافلام فلقد كانت السينما ولا تزال سلاح الدعاية الاكبر وقد استفاد منها واستغلها هتلر بشكل كبير في مواضيع الحرب وبروباغندا تفوق الجنس الآري؛ ويمكن رؤية ذلك أيضاً بوضوح في سينما الولايات المتحدة ( هوليوود).ومابين الاصالة والحداثة تعاني السينما في افريقيا اليوم من عدة معضلات على سبيل المثال اللغة؛ فقد كانت معظم انتاجات افريقيا السوداء الفيلمية باللغة الفرنسية والانجليزية ولم تكن الصورة وحدها كافية للفهم الدقيق لسرديات الافلام للجمهور الافريقي؛ وفي قضية اللغة اثيرت نقاشات اكاديمية وقد نجحت في لفت الأنظار إلى هذه القضيّة فبدأ صنّاع الأفلام الأفارقة بتصوير أفلامهم باللغات الأصليّة وإدراج ترجمات بلغات أوروبية، وهي حركة هامة في تحديد هوية الفيلم أثارت جدلاً أكاديمياً حول هوية الأدب الأفريقي في الوسط المعرفي، بعد أن اعتبر أكاديميون أوروبيون أن الأدب الأفريقي المكتوب بلغة أوروبية هو أدب أوروبي، فلا يمكن استبعاد نتيجة مختلفة في حال تحدثنا عن هوية الفيلم الأفريقي بمعزل عن لغته الأصلية.معضلة أخرى تتمثل في عدم اهتمام السلطة بالسينما بما انها وسيلة تعليمية وثقافية في آن ومع ذلك فقد وقفت الدول ضد صناعة السنما سواء عن طريق تضييق الخناق على الموارد او منع العروض السينمائية والتضيق على حرية التعبير ...الخ وهو ما يلفت الانظار الى بنى السلطة في بلداننا التي تعاني وعلى الدوام من اضطرابات سياسية ومشاكل في ادارة تنوعها وهويّاتها.

يمكن القول ان السينما الافريقية لديها مدرستين؛ مدرسة المخرج ميد هيندو والمخرج عثمان سامبين. يسود اعتقاد لدى رواد مدرسة هيندو بأن الدعاية التي تظهر في هوليود ليست في موضوع الفيلم بل هي ممتدة سواء في سرد الاحداث والانساق الشكلية؛ وبناء عليه فان سينما افريقيا ينبغي لها ان تتبنى نهجاً فيلمياً يحمل عداءه الصريح للامبريالية من اجل مواجهة بروباغندا هوليوود. لكن رواد مدرسة المخرج سامبين يقولون بأن جمهور ما بعد الاستعمار يختلف عن غيره وينبغي للافلام ان تناسب توجهاته واذواقه ويحاججون بان هذا الجمهور متأثر بـ " سينما الالهاء" وهي سينما تعتمد على البنى الكلاسيكية في السرد وتطور الاحداث وعلى المخرج الأفريقي العودة إلى هذه الطريقة في صنع الأفلام المفهومة دون الوقوع في كليشيهات سينما هوليوود. هذا الاختلاف يعيدنا الى قضية التكوين الثقافي للمخرجين وتأثيرات ذلك على صناعة الفيلم وما ينبغي أن تقدمه السينما لتثقيف المجتمع أو تسليته اذ يحاجج بعض المشتغلين بالفن حول مهمة الفنون هل هي من اجل الحياة او الفن من أجل الفن.

***

أحمد يعقوب

صحيح أن "دفاتر فلسطينية" للشاعر والكاتب الغَّزاوي معين بسيسو تدور حول الحزب الشيوعي وتنظيماته في فلسطين ومصر والعراق ولبنان، وتحكي عذابات المعتقلين في سجون الأنظمة العربية بمختلف توجهاتهم الحزبية وميولهم السياسية، لكنها تبدو من جانب آخر أشبه بيوميات لمدينة غزة منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وبالأخص خلال الاحداث التي رافقت واعقبت يوم الأول من آذار عام 1955 الذي شهد انتفاضة قادها  بسيسو بصفته الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني وقتذاك، ضد مشروع توطين اللاجئين في شبه جزيرة سيناء المصرية فيما سمي بمشروع سيناء، فكان جواب المتظاهرين الشهير: لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان. وكانت غزة يومها تحت الإدارة المصرية.

ولد الشاعر معين بسيسو في بيت جده بحي الشجاعية في غزة يوم العاشر من تشرين الأول، أكتوبر عام 1926، ويسميه بسيسو في دفاتره الفلسطينية بحي السجاعية، بالسين لا بالشين، وكلاهما صحيح، فهو حي السجاعية مثلما نطقه جماعة من المصريين القادمين من مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية في مصر واختاروه للسكن، وهو حي الشجاعية نسبة لشجاع الدين بن عثمان الكردي الذي استشهد على ثرى غزة أثناء موقعة من مواقع الحروب الصليبية. ومن بداية الدفتر الأول حتى الدفتر الحادي عشر من دفاتر معن الفلسطينية تحضر غزة في الصورة، أو في ظلال الصورة، في صميم الذكريات، أو على خلفية اليوميات، تحضر بتاريخها وأحيائها ونضالها ورجالها، وكلمتها الحاسمة في رفض التهجير، ومقاومة مشاريع إقامة الوطن البديل للفلسطينيين، منذ حسني بلال أول شهيد في قطاع غزة يسقط رمياً بالرصاص في تظاهرات الأول من آذار، وحتى آخر شهيد يسقط في القصف الوحشي الصهيوني الذي تتعرض له منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع من دون توقف، وبدعم ومباركة من الغرب المتحضر الذي ينظر بعين واحدة لما يحدث في هذه الحرب المجنونة التي تجاوزت كل المحرمات الإنسانية والأخلاقية، وانتهكت أبسط الأعراف والمواثيق الدولية المتعلقة بحماية السكان المدنيين أثناء الحروب، فتوالت المجازر تلو المجازر بحق الأطفال والنساء والمسنين والمرضى تحت أنظار دعاة المدنية والتحضر وحقوق الإنسان، بل بتشجيعم ودعمهم الذي فاق كل التصورات.

ثمانٍ وستون عاماً تفصل ما بين زمن حسني بلال الذي سقط وهو يحتضن شعار: " كتبوا مشروع سينا بالحبر.. وسنمحو مشروع سينا بالدم" وما بين آخر طفل فلسطيني يسقط في غزة ليمحو بالدم مشاريع الإبادة والترحيل والتهجير نحو وطن بديل يرفضه كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ويرفضه أولاً وأخيراً أهل غزة الذين سُفكت دمائهم، وتقطعت أوصالهم تحت أقدام الهمجية.

***

د. طه جزاع

وددتُ لوْ يكون هذا الكتابُ جزءً أوَّلَ من سلسلةٍ تتعقَّبُ سيرةَ الكاتب الغنيَّة أحداثاً وعبراً. تتكوَّن عتبتُه من دالتيْن متساويتيْن صوتاً، متقابلتيْن دلالةً، موحيتيْن: "مسَّرات القراءة"، و"مخاض الكتابة"، وردتا مصدرين ميمييْن، يقول النحوُ: المصدر الميمي أقوى دلالةً على الحدث من المصدر الأصلي، فلفظةُ "مسرَّات" حدثٌ أوَّلٌ، ورد جمعاً، و"مخاضٌ" حدث ثانٍ، ورد مفرداً، والحدثُ الأولُ يحْكي عن تعاظم سرورٍ مصدرُه القراءة التي تبهج أكثر القراء، والثاني هلعٌ ووجعٌ مصدره الكتابة، كما يمارسها ويشعر بها الرفاعي، وكأنه لا يريد أن يتحدث عن شعور غيره، ممن لا يكابدون وجع الكتابة.

سعادةُ الكاتب تبدأ من ساعة إبحاره في عالم القراءة، شقاوتُه تبدأ من ساعة التفكير في الكتابة. القراءة عند الكاتب انعتاق وانطلاق، والكتابة معاناة وعسرٌ كعسر الولادة.

اختار الكاتبُ هذه الثنائية، يلج منها إلى أدب السِّيرة الذاتية، وهي طريقةٌ جديدةٌ، وطرحٌ غيرُ مسبوق، ولم يعتمد في إيراد سيرته على السرد الكرونولوجي لمراحل حياته، ولا احتذى بطريقة من طرق سابقيه، بل ربط سيرته بما هما توأما سيرته. القراءةُ والكتابةُ شريكتا حياته... حتَّى إنَّ المقدِّمة التي عادةً ما تكون توطئةً لموضوع الكتاب، ومدخلاً إليه، خصَّصها الكاتب لفن القراءة، فن إدارة القراءة.

يتحدث عن القراءة في طول كتابه كعاشق يعرف عن معشوقه أكثر ممَّا يعرف معشوقه عن نفسه، فهو شغوفٌ بها، لمْ يتوقَّفْ عن مغازلتها، والتودُّد إليها مدَّة حياته كلّها، فلمْ يستأنسْ، ولمْ ينفردْ إلاَّ بها، كانتْ تتعبُه ويستريحُ بها... الرفاعي ظمآنٌ قراءةً ظمأً مزمناً، ريُّهُ عينُ ظمئه، فهو غير قابلٍ للارتواء من القراءة إلا بالقراءة... عرفها من جميع نواحيها وزواياها، عرف فضاءها الحيوي قديماً في الكتاب، في لبوسه الورقي، ولمَّا ارتحل الكتاب إلى العالم الافتراضي، لمْ يشأ الكاتبُ إلاّ أنْ يرتحل معه، وهو مستعدٌّ لأنْ يصحبهُ إلى أيِّ فضاءٍ اختار... عرفه في المكتبات ومعارض الكتب، ودوَّن تواريخ شرائه وقيمة أثمانه، ولوحات أغلفته ونكهة أوراقه... (ص44)، عرض محاسن القراءة وثمراتها، ومنحنياتها وتطوراتها، ومزالقها وأعطابها، وهو واعٍ، ولم يُخفِ ذلك، بأن بعض القراءات تسبَّبت في نكْساتٍ وكوارث خطيرةٍ. هناك رواياتٌ قاتلةٌ قتلاً حقيقياً لا مجازياً (رواية يوهان غوته الألماني "آلام الشاب فارتر" أودتْ بحياة كثيرٍ من الشباب)، أمَّا القتلُ المجازي، والإعاقاتُ الذِّهنيَّة والنَّفسيَّة، فيذكر منها كتب التَّنميَّة البشريَّة مثلاً لذلك...

تضطرُّ الكاتبَ ظروفٌ خاصة، فيفرُّ من بلده العراق على وجه السُّرعة إلى البلد المجاور الكويت، يدخل البلد خائفاً مترقِّباً متوجِّساً، لكنَّه أَّول ما يفكر فيه اقتناء كتبٍ، لا تسوية وضعيةٍ (ص50)، ويقتني ذلك... وتمضي حياتُه كلُّها قراءةً، وإمعاناً في القراءة... لكنَّ القراءةَ تطوَّرتْ عنده، فلم تعُد حبيسةَ مساحة كتابٍ، ولا حبيسةَ حجمه، بالرَّغم من علاقته التَّاريخية الحميميَّة به، فقدْ أصبح بحكم التطوُّر للقراءة آفاقٌ وفضاءاتٌ، لم يصمَّ دونها أذنه، ولم يزورَّ عنها، بل جاراها، وترافَقَ في مسيرته معها.

الأفلامُ والمسرحيات واللوحات الزَّيتية، والمنحوتات قراءاتٌ، والتَّجوال والأسفار، والمهنُ والحرف، وأنواع التجارب والخبرات الإنسانية، ودهاليز النفوس البشرية الفاتحة والقاتمة، البسيطة والمعقَّدة قراءاتٌ، حتَّى السجن يصلح لأنْ يكون موضوع قراءةٍ، ولعلَّ كتاب فَرَاشَة Papillon، للكاتب الفرنسي هنري شاريار Henri Charrière، خيرُ مثالٍ، فقد صدر عام 1969، بيع منه 13 مليون نسخة في العالم، يتحدث فيه الكاتب عن تجربته القاسية في سجن جزيرة غويانا الفرنسية الرهيب، هذا السِّجنُ الذي أعِدَّ خصِّيصاً لعتاة المجرمين، وقد حُوِّلت هذه السيرة الذَّاتية إلى إنتاجٍ سينمائي ناجحٍ...

القراءة عند الرفاعي هي هذا الواقعُ كلُّه بما حمل "الواقع معلِّمٌ عظيمٌ" (59)، وقد تقاطع في ذلك مع ميخائيل نعيمة المفكر والناقد اللبناني الألمعي... لكنَّ القراءة مع أهميَّتها، وضرورتها عند الرفاعي، ليستْ هدفاً في حدِّ ذاتها، وليستْ تزجيةً للوقتِ، وهي ليستْ سيفَ مبارزةٍ في صالونات المناقشة والكلام، القراءةُ عندهُ "منتجةٌ للمعنى" (ص57).

يبدأ الكاتبُ حكايته ومغامراته في عالم الكتابة من الصفحة 62، تناول فيها محاولاته الأولى، قبل وبعد انتسابه إلى حوزة النجف الأشرف (ص64)، هي بداياتٌ أوليَّة مترنِّحة ككلِّ البدايات، ثم بدأ يتدحرج بها تدحرج كرة الثَّلج صاعداً بها إلى قمَّة الجبل، لكنْ تبيَّن له مع الأيام أنَّها مصدر آلامٍ ومعاناةٍ، ليس له بدٌّ منْ أن يحْتملها، فإذا كانتِ القراءة تمنحُه لذَّةً، فإنَّ الكتابة تمنحُه وجعاً مستديماً، "ربما هربتُ إلى حيلٍ نفسية، تنقذني من هلع الكتابة" (ص68)، كان إزاءها مشلولاً: "كنتُ أحسبُ أني مصابٌ بشلل الإرادة" (ص68)، والكتابة تعذبه "الكتابة تعذبني وتستنزفني" (ص69)، لها عنده فعلُ الإدمان، فهي قلقُه وهدوؤه "قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ" (ص70)، ومصدرُ الآلام آتٍ من كونه يتمثَّلُ كتاباته، يعيشُها، ويتماهى معها، يكتبُ نصه، ويهذبه، ويضيفُ إليه، ويرجع إليه مرة بعد أخرى، ويعيشُ في جوِّهِ، وهو ربما يكون قد فارقه لموضوعٍ أوْ نصٍّ آخر... فنصوصه مسودَّاتٌ أبداً، حتى ولو كانتْ بيد قارئه، ويأملُ أنْ يجد بعض العزاء لدى قارئه، بل مستعدٌّ أن يدفع ضريبة أخرى، هي ضريبة الصدق والإخلاص يقدِّمُها راضياً بين يديِ قارئه.

عنوان كتاباته الصَّرامةُ والجِدُّ وَالجدَّةُ، قارئه المثالي هو الرِّفاعي نفسه، قبل أن يحيلها إلى قارئه الخارجي، يرى الكتابة تشذيباً متواصلاً، فهي "فنُّ الحذف والاختزال" (ص71)، وله في ذلك نفسُ رؤية أقطاب الفكر الحداثي، كما يرى أنَّ اللغة تُخْفي أكثر ممَّا تصرح، "أكثرُ الكتابات المنشورة تُخفي أكثر ممَّا تُعلن" (ص72)، ويذهبُ إلى أنَّ جوهر الكتابةَ كامنٌ في التناصِّ، فهي عصارة جميع القراءات السَّابقة "كلُّ كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلةً من قراءة كتبٍ متنوعةٍ" (ص73)، فلا يمكنُ لكاتبٍ أن يُخْرِجَ نصاً محترماً إلاَّ إذا كانتْ حصيلتُه نصوصاً كثيفةً متراكمةً، يصهرها الفكرُ، وتلوِّنها العواطفُ، وتؤطِّرها الخبرة والتجربة، وتجوِّدُها الموهبةُ (ص102)، ويتحدث في عالم الكتابة عن عالم الترجمة، فيرى أنَّ الترجمة الصادقة هي التي تنقلُ روح الكلمات والعبارات، لا شكلها الخارجي، فلكلِّ لغةٍ منطقها الداخلي الخاص بها، الترجمة تجديدٌ للغة المنقولة إليها، تستقبلُ مصطلحات لا عهد لها بها، فتغتني وتتنوَّع وتتجدَّدُ، والترجمةُ حوارٌ بين لغتين.

ولكنَّ للكتابة عند الرفاعي جانباً آخر مهمّاً، هو جانبُ التَّجربة التي لا تتوفَّر في القراءة، فتزوِّده بخبرتها الخاصَّة، "الكاتب الصبور يتعلم من الكتابة أكثر ممَّا يتعلَّم من القراءة" (ص74)، ولأغلب الكتَّاب والشُّعراء طقوسهم الخاصَّة، وأزمنتهم عندما يباشرون الكتابة، لكنَّ الأمر عند الرفاعي يختلف، فهو لا يجدُها، ويعلن ذلك بعفويته "ليستْ لديَّ قواعدُ مُلزمة للكتابة، ولا طقوس..." (ص77)، لكنَّ أرَقَ الكتابة الحقيقية عنده، هي ما تتضمَّنُه، هي محتوى ما يكتبه، هنا مكمنُ صداعه المزمن، فهو يؤمن بأنَّ "الفرادةَ"، و "التَّميُّزَ" خاصيَّةٌ لازمةٌ لكتابةٍ ذات قيمةٍ، ذات مصداقيةٍ، يكونُ الكاتبُ فيها هو ذاته، حرّاً، لا إمَّعَةً مقلِّداً، يكون صدى غيره... لا يكون الكاتبُ عند الرفاعي "قيمةً مضافةً" إلاَّ إذا عاش ممارساً حريته الكاتب الشخصية... "يسعى الكاتبُ أن يعثر على صوته الخاص، ولغته الصَّافيَّة، وطريقه الذي لا يمرُّ عبر طريق غيره" (ص78).

يسعى الرفاعي أن تكون كتاباتُه زبدة مخاضه، لا يقدمها إلاَّ بعد تصفيتها خضَّةً بعد أخرى، فيُزيلُ كافَّة شوائبِها، فلا تكونُ إلاَّ زبدةً خالصةً "ما أكتبهُ...خلاصة تأملات عقلية، وتعبيراً عن خبرةٍ روحية وحياة أخلاقية" (ص78) ... إذَن فهو يشرَئبُّ نحو "الكتابة الإبداعيَّة"، ولا يسعى إلا نحوها.

يصارحُ قارئه بأنَّ قراءاته وكتاباته إنَّما هي حمياتٌ يتناولُها حرصاً على سلامته النفسية، وجلسات علاجية يتداوى بها من أمراض هذا العصر، أمراض الاغتراب النَّفسي، والقلق الناتج عن الحياة المركَّبة المعلَّبة، والشر الأخلاقي.

هذه الكتابة في نظره ترياقٌ لأدواء الروح والنَّفس والفكر... أدواء الطَّريق الطبيعية، التي تتحَّول مع الكتابة إلى سلالم للارتقاء والتكامل... هذه الأدواءُ هي أخطاء المسيرة الحياتية "الخطأ ضرورة لاستمرار الحياة وإثرائها وتجدُّدها" (ص84)، وهو من هذه الأخطاء، بدأ يتلمَّس طريق "الحقيقة"... الحقيقةُ هي جوهرةُ الإنسان المفقودة... لقد أدركها... "وأدركتُ أنَّ للحقيقة وجوهاً وطرقاً متنوعةً" (ص91)،

ويرى أنَّ للكتابة دوراً في ترقية الذات وتطويرها "أعيش الكتابة بوصفها أفقاً أتحقَّق فيه بطورٍ وجودي جديد" (ص76)، فكأنها حركة جوهريةٌ، إذْ يتماهى الكاتب مع قارئه، فهما معاً يتطوران أبداً... "العملية الإبداعية" عند الرفاعي تبدأ من القراءة، وتنتهي عند الكتابة النهائية... تبدأ لذَّة، وترتدُّ وجعاً، وتنتهي نشوة وسعادة.

مجموع الكتاب (23) ثلاث وعشرون مقالاً، يجمعها رباطٌ عامٌّ هو رابطةُ "السيرة الذاتية"، ورباطان خاصَّان، هما: "القراءة" و "الكتابة"، قد يتراءى لك من خلال قراءتك الكتاب، أنَّ الكاتب مهوسٌ بالقراءة، لكنَّ مع دقَّة الملاحظة، ستخرجُ بنتيجةٍ طريفةٍ، هي أنَّ الكاتب مسكونٌ بهوسِ الكتابة أكثر من هوسهِ بالقراءة... المتفحِّصُ لعناوين المقالات الثلاث والعشرين، لا يجد حضوراً للفظة "القراءة" سوى خمس مرات، مرَّةً واحدةً في فعل "يقرأ"، وأربع مرات في مصدر "القراءة"، بينما ترد لفظة "الكتابة" إحدى وعشرين مرةً: ثلاث عشرة مرَّةً مصدراً في كلمة "الكتابة"، ومرَّتين في لفظتي "الكتاب. كتابات"، ومرَّةَ واحدةً لكلِّ من ألفاظ " الكتب. مكتباتنا. مكتب. نكتب".

قد نستنتج حرصَه الدائب على "إبداعه المتميز"، والكلُّ عنده يعملُ من أجل ذلك، ومن اللطيفة أنْ تجد أنَّ ألمه بين لذَّتيْن، لذَّةٍ صغرى، وهي الحاصلة من فعل القراءة الأولى التَّراكميَّة، ثمَّ مرحلة الوجع في عملية الكتابة المخاضيَّة، حتَّى إذا استوى النصُّ بين يديه، وتكامل... دخل مرحلة الهدوء النَّفسي... مرحلة الارتخاء "قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ" (ص70)، هي مرحلة اللَّذَّة الكبرى. استنتجتُ اللذة الأولى مع القراءات المتتاليات، ثم ممارسة الكتابات المتتاليات، وفيها الألم، ثم الوصول إلى النص النهائي، أي الجديد والإبداع، وهو عين اللذة الكبرى، فهو لا يتعلق إلا بالكاتب.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر كاتب جزائري.

...................

* مراجعة لكتاب: "مسرَّات القراءة ومخاض الكتابة"، تأليف: عبد الجبار الرفاعي، 2023، دار تكوين، الكويت، ودار الرافدين، بيروت.

في الذكرى الرابعة لرحيله

فائز الزبيدي: "كي لا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!"

قد يتصور بعضُهم العنوانَ غريباً، لكنه يذكّرنا بنبش القبور والتمثيل ببقايا رفات الموتى وإعدامهم في الصراع بين الأمويين والعباسيين!

فنحن إذن أمام عمل يحاكي التاريخ ويقدم أليغوريا الصراع بين الخير والشر وسيمفونيا انتقام يعاني منها بالذات المتعصبون حتى وقتنا الحاضر، لا سيما وأنه كُتبَ في زمن سقوط الأيديولوجيا وصعود الانقسامات الطائفية والسجالات الدينية والاتهامات بين الماضويين من ذوي الولاءات المذهبية.

تكمن أهمية كتاب "حادثة إعدام الموتى" للكاتب العراقي الراحل فائز الزبيدي1935-2019 في كونه يحمل وجهة نظر أدبية جديدة حول تناول واقعة الطف من عدة زوايا. ولأن مؤلفه معروف كفنان تشكيلي نظّمَ معرضه الشخصي الأول في الخمسينات، وساهم في تطوير الصحافة العراقية من خلال اتحاد الشعب وطريق الشعب، وحصل على الدكتوراه وأصدر نتاجات في الرواية والقصة والشعر، وهو إضافة إلى كل هذا وذاك، معروف كشخصية اجتماعية بين العراقيين في الخارج.

هذا الكتاب مكرسٌ لأسرار قَتْلِ الإمام الحسين ابن علي ابن أبي طالب سبط الرسول محمد هو وأسرته. ومن المعلوم أنه كُتب عنه العديد من الإبداعات لمبدعين من مختلف الخلفيات الثقافية و"الدينية"، ففي الشعر يكفي أن نذكر قصيدة "آمنتُ بالحسين" للجواهري في العهد الملكي 1947.  مطلعها:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَع

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

وقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد التي كتبها ونشرها في زمن الحصار على العراق إبّان حكم صدام حسين 1995. لم تكن مثل هذه الأفكار محرمة رغم خطر انتشار الأحزاب المذهبية والطائفية على الدكتاتوريات "القومية والوطنية".

وقال عنه عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته (في رحاب الحسين)

قَدِمتُ .. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي

حَسيراً، أسيراً ، كسيراً، ظَمي

*

قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْ

سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ

*

فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين

مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي

ونقتبس هنا بعض النماذج الشعرية عن الحسين من مقال: "الحسين في الأدب العربي" الرائع للأستاذ محمد فايز جاد:

قال الشاعر الراحل أمل دنقل عن الحسين:

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ إن الحسين

مات من أجل شربة ماء

وكذلك الراحل نزار قباني، حيث قال في "آخر جندي يخرج من غرناطة":

ظلي معي فلربما يأتي الحسين

وفي عباءته الحمائم والمباخر والطيوب

ووراءه تمشي المآذن والربا

وجميع ثوار الجنوب

وقال السياب في قصيدته "انتصر الحسين" التي يخاطب فيها يزيدًا بن معاوية:

وأسدر بغيك يا يزيد فقد ثوى

عنك الحسين ممزق الأشلاء

ولكنه، مع هذه الظلمة يرى أن الحسين انتصر، فيخاطب يزيدًا:

قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبة

وانظر لمجدك وهو محض هباء

*

وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبل

عن ذاهب ذكرى أبي الشهداء

*

كالمشعل الوهاج إلا أنها

نور الإله يجل عن إطفاء

وفي العامية المصرية  كرّست قصائد عن الحسين، بالذات بعد ارتداد ثورة يوليو، ففي "إني رأيت اليوم"، من ديوان "المانيفيستو" للشاعر المصري مصطفى إبراهيم، بعد أحداث شارع "محمد محمود"، يقول إبراهيم:

إني رأيت اليوم.. الصورة من برّة

وقلت الحسين لسة.. حيموت كمان مرة

*

إني رأيت اليوم.. فيما يرى الثائر

إن الحسين ملموم.. فوق جثته عساكر1

وصدرت أربعة أعمال مهمة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب أصبحت من كلاسيكيات الأدب الحديث والمعاصر، مثل: "أبو الشهداء الحسين بن علي" 1945 لعباس محمود العقاد (توفي 1964)، و(ثأر الله): (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا)، 1969 –1970 لعبدالرحمن الشرقاوي (توفي 1987)، و"أبناء الرسول في كربلاء" لخالد محمد خالد (توفي 1996) أما كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين فيختلف عن الأعمال المذكورة.

انتشرت هذه الكتب في فترة صعود التيارين اليساري والقومي في البلدان العربية، ولم يفكر أحد من جيل الشباب المتنور من غير الأوساط الدينية آنذاك بالولاءات المذهبية والطائفية على عكس الواقع الحالي حيث ظهرت حركات دينية طائفية متشدّدة ومتطرفة وتكفيرية. قد تكون هي السبب في إصدار هذا الكتاب للمؤلف فائز الزبيدي، الذي نحن بصدده في هذا المقال.

عناوين هذه النتاجات تفصح عن موضوعاتها وطريقة تناولها، حيث تعبّر عن قدسية سبط النبي محمد والإقرار بثورته والتعاطف معه ومحبته، لكن دون تكفير الآخر وشتمه. الشرقاوي مثلاً تحدثَ عن حبه الكبير للحسين في إهدائه لكتابه، وذكر الكاتب اللبناني اليساري حسين مروه هذه الميزة. أما خالد محمد خالد فوصفَ واقعة الطف بقدسية يؤمن بها ملايين الناس من كل العالم: اليوم الفريد والمجيد والرهيب عالمياً كما أشار الدكتور زكي الميلاد.

وميّز محمود عباس العقاد بين الحسين الهاشمي المثالي "المبدأي" ويزيد سليل الأمويين الأصلاء العبدشمسيين (من عبد شمس). وعندما أشيرُ إلى هذه النتاجات عن الحسين فأتذكر أن بعض أفراد جيل الشباب من مختلف الانتماءات الفكرية والمذهبية في السبعينات أقبل على قرائتها، وتأثر بها وترسخت صورة الحسين "الثورية" والميثولوجية الشعبية  في القلوب قبل العقول.

ويشير الباحث السعودي زكي الميلاد (ولد عام 1965) الحائز على جائزة الثقافة والإعلام للكِتابْ السعودية عام 2017 إلى انبهاره بمسرحيتي: "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً" لمؤلفهما عبدالرحمن الشرقاوي صاحب رواية "الأرض" الواقعية المشهورة حيث يقول: "هذا هو الشرقاوي الذي حفر في وجدانه حبًّا عميقًا للحسين، فحفر في وجدان الآخرين حبًّا له"2.

ويكرر الأستاذ زكي الميلاد نفس الإعجاب  في مقاله الآخر: العقّاد وأبو الشهداء3.

أضحى الحسين شخصيةً "ثوريةً شعبيةً" يجسد استمرارَ التقاليد الشعبية الاسطورية والميثولوجيه كما يتضح في إحياء ذكرى مقتله بطريقة "التشابيه" الحية في الشوارع والساحات العراقية منذ الستينات، التي لا تختلف عن مسرح الطقوس.

ولهذا ليس من الغريب أن يكرس الفنان التشكيلي الكبير كاظم حيدر1932-1985 عدة لوحات لتمثلات الطف مثل "ملحمة الحسين" و"مصرع إنسان" التي غيّر اسمها إلى:"ثورة الحسين" وهي موجودة في قاعة الفن الحديث والتي حلّلها د. فائز الزبيدي في مقدمته لكتابه الحالي الذي نحن بصدده، ولوحته الثانية: "ملحمة الحسين. وكرّس أغلب الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار لوحاتِهم لواقعة الطف.

ومن المفيد القول هنا إن عدداً من كتّاب القصة العراقيين تناولوا في قصصهم هذه الموضوعة في بداية التسعينات، وقد أشار أيضاً بعضهم إليها في حوارات لي معهم عن أعمالهم والمسرح كطقس.

فكريًّا انحاز العقّاد إلى موقفَ الحسين واعتبره شجاعاً، بينما يزيد مناقض له ولايقارنهما بينما لم يقحم فائز الزبيدي نفسه بهذه المهمة ظاهريا مفضلاً تناولها في العمق ومابين السطور.

والاختلاف الجوهري بين تلك الأعمال أنها تناولت شخصية الحسين بقدسية لكن ليس بعيداً عن الأدبية والتاريخانية ايضاً على عكس كتاب فائز الزبيدي، إذ إنه يحمل وجهة نظر أخرى مختلفة بعيدة عن التقديس.

وهو ليس بغريب على كاتب مثل فائز الزبيدي، حيث يمكن بحسب رأيي الشخصي أن يُقال عنه، إنه لا يريد أن يكرر الآخرين، وإنما يمحّص كل ظاهرة قبل أن يكتب عنها، وبالذات إذا ما انتشرت وأثّرت على الحياة العامة.

بالنسبة لكتابه "حادثة إعدام الموتى"، فإن فائز الزبيدي لا يريد أن يكتب عنها بالأسود والأبيض ولا يصنف أبطالها بهذه الطريقة، ولا يأبلس الملائكة ولا يجعل من الشياطين ملائكة، بل أراد الغوص في أعماق شخصيتَي "الأمير" الشاعر الإنسان ثم الخليفة يزيد بن معاوية، ويسبر عالمه الداخلي ويقدّم سرديتَه من عدة جوانب.

ولا يعني ذلك أن فائز الزبيدي يبرر جريمة القتل، لكنه يريد أن يقف عند حيثياتها وأسبابها ويميز بين مغزاها التاريخي واللاتاريخي الميثيولوجي والديني والشعبي، وهذا طرح جديد جريء في تناول موضوعة الحسين، له دور كبير في الفكر العربي المعاصر.

وفائز الزبيدي لا يحب المسلمات، أو لا يقبل الأمورَ على عواهنها، ولهذا اخذ هذه الموضوعات بجدية ودراستها عن كثب، لا سيما وأنها سُيّستْ واستهلَكتْ المجتمع العربي في الوقت الحاضر، وهو كاتب اجتماعي يؤمن بدور  المسرح التوعوي فاختار نصاً مسرحياً لهذه الموضوعة، لكن ليس بدون عناصر الأنواع الأدبية الأخرى.

وأنا شخصيا أعتبرها مساهمةً كبيرةً ليتبين بأن المسلمين عموماً في الوقت الحاضر ليسوا معادين لأهل البيت كما يحاول بعضهم تصوير ذلك "للتجييش" السياسي.

‏الأمر الآخر الذي أودُّ أن اتوقف عنده وبالذات بسبب معرفتي بأسلوب الكاتب الراحل فائز الزبيدي هو اللغة فإنه أولى أهمية خاصة لفنيّتها. وأنا أتذكر أحاديثَنا الشخصية حولها منذ التقينا أول مرة في السبعينات حيث كنت في مقتبل العمر حيث ميّزنا اللغة المباشرة والتقليدية والأدبية، وكان يؤكد اهتمامَه بمستواها. لكني طبعاً لا أقصد هنا ضرورة أن تصل اللغة إلى مستويات تدخلها في متاهات قد تؤدي أحياناً إلى التعقيد والغموض كما هو الحال عند فوكنر وجويس.

قدم الشاعر الدكتور صلاح نيازي لمسرحية "حادثة إعدام الموتى" بمقدمة رائعة جداً، وهو الذي عرف فائز الزبيدي في عنفوان شبابة حيث كان يدرس معه في دار المعلمين، وحددَ نوع هذه المسرحية.

لكني أريد أن أشير أيضا إلى مقدمة يمام فائز الزبيدي الرائعة جداً المختصرة المكثفة ذات الدلالات العديدة كونها  حقّاً تصوّرُ حالةَ المؤلف الحساس والده في فترة التسعينات حتى يوم رحيله، وكان يمارس لعبة التعليق بالصمت.

وأنا أعرف فائز الزبيدي معرفة جيدة، وأدركُ ماذا يعني الصمت بالنسبة له فكان يلوذ ويجيب به على الأسئلة، إنها معاناة المثقف الملتزم الثائر الحائر.

يشرح يمام الزبيدي خلفية هذه النصوص، فهي تعود إلى أعوام 92 93 97 98 حتى 2000، وفهمتُ ان فائز الزبيدي أيضا كان مشغولاً أو يفكر في البحث عن القالب الأدبي المناسب لعمله: "حادثة إعدام الموتى"، هو يقول: ما بين النثر والشعر والمسرح والفصحى والعامية4.

هذا العمل  بالنسبة لي، خلطة هجينه جميلة من التخيّل التاريخي والسرد المسرحي والقصصي والتخيل التاريخي، تتميز بحوار بالمحكية أحيانا والفصحى، فضلاً عن الشعر الحر والعامي الشعبي والزهيريات، التي أعرف شخصيا شغفه بها، فهي تعبر عن حالة الكاتب وسارده وأبطاله وموضوعته.

وأشير إلى أنه نفسه قدم كتابه بمقدمة قد تكون في بعض المقاطع عصيّة الفهم على القارىء، لكنها أيضا قد تعبر عن حالة الكاتب في عدم وضوح بعض المواقف أو وجهات النظر ومنطلقاته لتفسير الحادثة.

‏ومن الأمور المهمة التي أشار إليها يمام الزبيدي انه يشرح او يصور حالة والده الكاتب أو عزلته عن العالم فيقول: "رحل أبي بعد مرضه روحياً وجسدياً" ...  إن ما في الملفات هذه النصوص قد يكون يحصل بها اختلافات"، وقال إن والده "كان ما بعد الحرب الثانية كأنه يستعد لها بالتمارين المستمرة على لعبة التعليق بالصمت، ابتعدَ عن الناس وامتنع عن الرد على الهاتف عن البشر".

‏أود أن أشير إلى تخطيطات (وجوه) فائز الزبيدي، إنه يعشقها، وأنا اتذكر جيداً من لقاءاتنا الأولى كان مولعاً بها يمارسها حتى اثناء جلساتنا، وأتذكر أني أعجبتُ جداً بها، وتألمَ في ذلك الوقت لأني لم أكن أعرف اسمَه كفنان.

طبعاً هو فنان تشكيلي أقامَ معرضه الشخصي في الخمسينات، لكنه مع ذلك لم يستمر في هذا المجال لظروفه الخاصة. فأصبح الفن التشكيلي بالنسبة له هوايةً وانشغَلَ في الدراسة والحياة وانكساراتها ومطبّاتها والبحث والنقاش الفكريين والكتابة، وانصرف عن عرض تخطيطاته، أو احتفظَ بها لنفسه بعيداً عن المعارِض.

لا يحب فائز الزبيدي التكرار أو الكتابة عن موضوعة بطرقٍ تقليدية:

اكد الكاتب الفاضل الصديق د. صلاح نيازي على أنه وطيلة الفترة الأولى التي تعرّف فيها إلى فائز الزبيدي لم يطلع على مذهبه، وأنا احترم جداً انطباعَه، أغلب العراقيين لم يكونوا مذهبيين (طائفيين) بالذات جيل الشباب الجامعي في الستينات والسبعينات، لكن مع ذلك أقول هنا إني عندما تعرفت إلى فائز الزبيدي، وهو كان بالنسبة لنا مثل المدرس ونحن في العشرينات من العمر بينما هو في الاربعينات كنا نستمع له، وكنا نتطرق إلى التاريخ بخاصة عن العلاقة بين الإمام علي والسيدة عائشة، وكان يقف إلى جانب الإمام علي بحماس، وينتقد السيدة عائشة وعمر بن العاص ومعاوية والخ، وكان "متحزباً" للإمام علي ، ليس بالمفهوم الديني طبعًا بل التاريخي و(الشعبي الميثولوجي بشيء من الرومانسية فيما يخص التشابيه الحسينية كطقوس).

ومقدمة الراحل فائز الزبيدي لكتابه "حادثة إعدام الموتى" مهمةٌ، للغاية، ينبغي على القارئ أن يقرأها إذا كان يهتم بفنيّة تناول الحدث ويحب أن يجد قالباً خاصاً لهذا النتاج، لكني فضلت قراءة النص قبل الاطلاع عليها، لأستمتع به وأرى طريقة تناوله لهذه الموضوعة.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌ ممتع، ولا بدّ لي هنا من الإشارة إلى بعض أفكار مقدمة الكاتب مثل فكرة التماهى مع الحسين، كما يؤكد عليها الكاتب ليست لدى الشيعة فحسب، بل السنّة أيضاً. ص 26

وأنا أرى تعلق الناس بالحسين أكثر "طقوسية" وشعبية وتراثية بالذات في مصر مثلاً، لكنه أقلّ حدة وخالية من الكاثارسيس (جلد الذات) مما هو لدى بعض أوساط الشيعة، من الذين ورثوها كتقاليد وطقوس منذ طفولتهم.

الأمر الآخر هو الدعاء والبكاء كطقوس مثلاً، فهذه كلها بعد مقتل الحسين اختلطت بالتاريخي واللاتاريخي وأصبحت اليوم من الميثولوجيا وهو سماء التعليق الجماعي على الموقف بالبكاء الطقسي فالزبيدي يعود بجذور المقاطع الحسينية إلى الذاكرة الشعبية من سهوب سومر القديمة. وهذه طبعاً تحتاج إلى إيضاح وتوثيق ودراسةٍ خاصةٍ. ص 19

يُعد المقتل الحسيني جزءًا من طقوسٍ مسرحيةٍ وأشار إلى ذلك  د. سليمان قطايه، كما يذكر فائز الزبيدي.

كذلك طغيان الخيال يجعل الراوي أقرب للشاعر الملحمي الشفاهي الجوال. ص 20

يقارن فائز الزبيدي المقتل بالميثولوجيا الدينية  البطولية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. ص 22

وأودُّ أن أذكر أن كاثارسيس تعنى التطهير والتنقية والتنفيس و"جلد الذات" هي كلمة يونانية، وكانت تُمارس كطقوس إلى وقت متأخر في بعض مناطق أوروبا. وهذا أمرٌ يحتاج إلى دراسة عن كثب وتدقيق ومقارنة.

ويحلل فائز الزبيدي عمل الفنان الكبير كاظم حيدر لوحته "مصرع إنسان" بطريقة ناقد تشكيلي، ويشيد دكتور صلاح نيازي به، ثم تحدث بالتفصيل عن عمله الثاني (لوحته): "ملحمة الحسين" الموجودة في قاعة متحف الفن الحديث. تتميز باللا تاريخية وخلودها. ص 23-25

لا يصور فائز الزبيدي في مسرحيتة الطقوسَ والميثولوجيا التاريخية بل يكرس النص الى اعادة فلسفة الحدث التاريخي بطريقةٍ أدبيةٍ، وهنا إذا قارنّا بين طرحه وما كُتب عن الإمام الحسين سابقاً، فإننا لا نقول إنه يقف على الضد، بل على الأقل يختلف من حيث تحليل الشخصيات الأدبية بمن فيهم الإمام الحسين المجاهد في حياته والثابت في إيمانه وموقفه كما يصوّره  من خلال حوارات المسرحية.

نجد في هذا النص المسرحي التحليلَ وإعادةَ فلسفةِ الأحداث والغوصَ في أعماق النفس البشرية، بالذات الخليفة والشاعر "الإبيقوري" يزيد، كما يصفه الكاتب لكن بدون إصدار الأحكام الجاهزة عليه، والحسين وعائلته، والحادث كله ليس جريمة اغتيال وإنما يصوره كما لو أنها نتيجة عمل فرقة عسكرية تابعة لسلطة الخليفة قامت به، للقضاء على تمرد أو لنقل: "ثورة أو انقلاب".

الملاحظ أن فائز الزبيدي يتدخل بنفسه اثناء السرد المسرحي وضمن المتن، يُسلّحُ القارىء بتفسيراتِ الأحداث، من ذلك مثلاً يقدم لشخصية يزيد: "دفعت حادثة قتل الحسين بيزيد إلى الطرف الآخر النقيض من منطوقه "السلبي والإيجابي"، ... فاسق ... وبحثَ ناس في جذور هذا الجانب من شخصية يزيد، كما فعل الاستاذ الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه "الإمام الحسين"". ويقول أيضا: "لقد أصبح يزيد شخصية سلبية مغلقة،... لقد بدا لي يزيد في صورته شخصيةً بلا جذور، بلا ما ضٍ، أي كأنه وجد هكذا، جاهزاً: نذلاً بلا دوافع. وهذا ما استوقفني وأنا اكتب السطور الأولى من حادثة إعدام الموتى. فسعيت إلى إعادة النظر في هذه الشخصية. لاحظ هذا مهم جداً في السعي إلى إعادة النظر في هذه الشخصية: ترى من كان حقاً ذلك ال "يزيد" المنزوي في الطرف النقيض للإيجابي في منطوقة الخير والشر؟" ص 58

فإننا، إذن هنا أمام عمل فني مسرحي "أليغوري" عميق أو "منطوقة" كما يسمّيه الكاتب، يصوّر الصراع بين الخير والشر، رمزي  وليس سرديةً تاريخيةً وعظية عن مسلّماتٍ مقدّسةٍ.

ويبرر عاشق المسرح فائز الزبيدي هنا أسلوبَه وعمله وطريقته، فهو لا يأخذ الأمور على عواهنها كما قلت سابقًاً، يقول: "وجدت أنّ الدراما الجادة يجب أن تنظر في شخصية يزيد من حيث هو شأن جيله ...  شديد التعقيد. فتراث العرب كله، الذي ظل مستقراً منذ زمن لا تُعرف بداياته تعرض وجيل الحسين ويزيد في صباه، للزلزال الذي أحدثه الإسلام، فكل شيء هو ذاته وليس هو،... الحديث عن  يزيد: إرثه العبشمي. إنه وريث عبد شمس... الثرية، المتبطرة، التاجرة، حتى في تعاملها الذرائعي البارع مع الحركة الجديدة (الإسلام)، الحسية إذا ما قورنت بهاشم. وهو لم يتغذَّ بإرث عبد شمس المكية، بل في البيت الفريد من بيوت عبد شمس المقبل على سيادة العالم: بيت معاوية بن أبي سفيان. لقد رأى يزيد بعينيه الذرائعيةَ وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار على "القيم" الجديدة باعتبارها صوراً ذهنية.

كان يزيد شاعراً أكثر منه خليفة، كان حسيّاً، أبيقورياً دونما فلسفة، لايعبأ بالصور الذهنية عن الوجود، ويستغرب أن يفتدي الناس بأرواحهم قيمة ما مجردة. باختصار كان له موقفه الخاص من العالم، وحين يلجأ الأدب إلى اختصاره الى مجرد رجل تافه، فإنه يختصر المشكلة ذاتها: قتل رجل بسبب فكرة، ... بهذا السعي إلى فهم الشخصيات التزمتُ معالجة موقف المشتركين الآخرين في حادثة القتل تلك مثل عبيد الله بن زياد والشمر بن الجوشن، أي أنهم هنا شخصيات أدبية وليست تاريخية". أنظر مقدمة المؤلف لكتابه.

لا بدّ من القول إنه من الصعب هنا التمييز بين التاريخي والأدبي في مثل هذه الواقعة التي هزت الإسلام وقسمته، وهنا تكمن الصعوبة بالذات عندما يدور الحديث عن شخصية مهمة ومقدسة لدى أغلب المسلمين.

الكاتب يتحدث هنا بنفسه عن الحدث، يحلل نصه كناقد وليس كشخص من شخصيات السرد، ليس كراوٍ هنا يمكن أن يتحدث عن نفسه ويعلق على الآخرين والأحداث، وممكن أن نجد آراءَ المؤلف في حديث الراوي.

صحيح أن المؤلف ليس شخصيةً هنا في هذا النص، ولاسارداً عليماً أو راوياً لكنه بالتأكيد يقف خلف شخصياته الأخرى. أنظر ص 59- 58

وبشكل عام، يمكن القول إن جوهرَ فكرةِ "حادثة إعدام الموتى" لا يختلف كثيراً عن محمود عباس العقاد وبعض الكتّاب الآخرين في محاولتهم لتصوير الواقعة تاريخياً وأدبياً، ليست مقدسةً دائمًا رغم ميلهم للحسين، بل كأنها "ثأرية" بين أبناء عمومه أو قبيله واحدة، بين الهاشميين "المبدأيين، المثاليين" والعبدشمسيين "الأريحيين"، لإنصاف يزيد فهو في النهاية بنظر المذاهب غير الشيعية ليس كافراً، ويظل خليفةً وشاعراً يختلف عن جنودِه الذين نفّذوا جريمةَ قتلِ الحسين، ويُشهد له بحسب رواياتٍ، غير مُتفق عليها، بأنه (يزيد العبدشمسي) "أحسن" معاملة "أبناء عمومته" أسرة الحسين وأكرمهم. تختلف الروايات هنا حول هذا الموضوع لكن المؤكد أنه سليل العبدشمسيين الذين وصلت حضارتهم الى بلاد الأندلس.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌّ مسرحيٌ يتميز بلغةٍ غنيةٍ تحتاج إلى التأمل والتفكير، يهتم بتحليل الشخصيات نفسياً قبل تصنيفها حسب مواقفها، يتضمن إيحاءات تجسدُّ استمرارَ سمفونيةِ الكراهيةِ والقتلِ وإعدامِ الموتى حتى في الزمن المعاصر، لهذا يستحق القراءة والتمعن في أفكار شخصياته المثيرة للجدل والخلافات المستمره!

إنه نتاج أدبي مهم كتبه مؤلفه الراحل فائز الزبيدي "كيلا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!" على حد تعبيره.

 ***

د. زهيرياسين شليبه

..................

المصادر:

1- أنظر بالتفصيل: محمد فايز جاد. الحسين في الأدب العربي.. رمز الثورة في وجه "يزيد"، جريدة الأهرام

10-10-2016

2- أنظر: زكي الميلاد. الحسين في الأدب المصري الحديث. شبكة النبأ 17 تشرين الأول 2019

3- زكي الميلاد. ملحق المدى. 15/09/20122

4- فائز الزبيدي. حادثة إعدام الموتى. 2022 لندن أنظر في الكتاب مقدمة يمام فائز الزبيدي، والشاعر الدكتور صلاح نيازي ومقال فائز الزبيدي عن أعمال الفنان كاظم حيدر، وشروحه ضمن متن النص المسرحي عن أحداثها.

وأشير هنا إلى أني اكتفيت بكتابة رقم الصفحة بعد كل اقتباس من كتاب "حادثة إعدام الموتى" موضوع مقالنا الحالي.2063 الفنان كاظم حيدر

ملحمة الشهيد للفنان العراقي الكبير كاظم حيدر 1932-19852064 كاظم حيدر

لوحات اخرى للفنان كاظم حيدر المكرسة لتمثلات واقعة الطف

2065 الفنان كاظم حيدر

كتاب من تأليف طه حسين (1889- 1973)، الأديب والناقد المصري الذي يعد من أبرز رموز التيار الفكري الحداثي إبان عصر اليقظة العربية. صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في سنة 1925، لتعيد مؤسسة هنداوي نشره خلال العام 2018 في طبعة جديدة. يجول بنا الكاتب في مؤلفه الشيق هذا لنتعرف أهم المحطات الفارقة في تاريخ العقل الإنساني، انتهاء برصد المآل الذي انتهى إليه الفكر حديثًا، متوسلا في ذلك بأسلوب لغوي سلس وماتع، خال من أي حشو أو إطناب.

 في البدء ينبه صاحب "الأيام" إلى أن اليونان كان لهم قصب السبق في ريادة الفكر الإنساني، ولعل مكمن الشبه بينهم وبين العرب هو أن الحياة اليونانية كانت تقوم في بداوتها وأول عهدها بالحضارة على الشعر، ولا سيما في جنسه القصصي (يروي قصص وملاحم الأبطال)، والذي شكل النواة الأولى لألوان لاحقة من الشعر (الشعر الغنائي، الشعر التمثيلي... الخ). على أن تأثير الشعر اليوناني قد جاوز حدود اليونان ليُمسي إرثا مشتركا للإنسانية تاركًا بذلك بصمته على الشعر الحديث، مثلما يذهب إلى ذلك المؤلف.

إلا أن قيادة الفكر قد انتقلت فيما بعد من الشعر إلى الفلسفة من جراء تطور وتعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية لليونان، ليبزغ نجم طائفة من الفلاسفة الأفذاذ، وفي جملتهم سقراط (399 ق.م – 470 ق.م)، والذي امتاز عن الفلاسفة المعاصرين له بكونه لم يلهث وراء مال أو شهرة، فضلا عن كَلَفه بالحقيقة خلافا للسوفسطائيين الذين أزروا بقيمتها. كما خلب صاحبنا ألباب شباب عصره، واعتمد الحوار منهجا لاستكناه الحقائق.

إن فرادة سقراط تكمن في كونه جعل من الإنسان موضوعا للفلسفة بدل الكون، إذ شدد على أن معرفة النفس البشرية والإحاطة بدواخلها هي أسمى أنواع المعرفة، كما رأى بأن السعادة الفعلية إنما مردها إلى الخير والعدل، ومن هنا الطابع الأخلاقي لفلسفته المناقض للمنزع المادي والنفعي المحض لمعاصريه من السوفسطائيين. على أن الفيلسوف اليوناني قد أثار نقمة وحنق الطبقة الأرستقراطية بطعنه في الأخلاق والعادات المتوارثة، والتي في جملتها الدين الوثني القديم. كما ألب عليه، في الوقت عينه، أنصار الديمقراطية المتطرفة، بحيث لم يُخف بغضه لذلك النظام من حيث هو وسيلة لتثبيت سيطرة الدهماء والجهلة دون اعتبار للكفاءة أو الفضيلة، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد المحنة القاسية التي انتهى إليها.

مرورا بأفلاطون (347 ق.م – 427 ق.م) الذي عاش في سياق مطبوع بالاضطرابات والحروب الدامية، مما حدا به إلى البحث عن النظام الملائم للحياة الإنسانية بعد التآكل الذي طاول النظم والعقائد الاجتماعية القديمة (الديمقراطية، الأرستقراطية... الخ). كما تعاطى صاحبنا الميتافيزيقا، فاعتبر أن العالَم المحسوس أو الظاهر إنما هو صادر عن عالم الحقائق الخالدة أو الإله من حيث هو العلة الأولى للموجودات كلها، فاتخذ بذلك كلا من الإنسان والكون موضوعا لفلسفته.

أما بالنسبة للنظرية الأخلاقية الأفلاطونية، فهي تنصرف إلى أن السبيل الأقوم إلى الفضيلة والعدل والسعادة هو التوازن بين القوى الثلاث المؤلفة للنفس البشرية: العقل، القوة الغضبية / الشجاعة، ثم اللذة والشهوة. على أن مذهبه الأخلاقي هو أس وقوام فلسفته السياسية، إذ شدد على أن النظام السياسي والاجتماعي الملائم للحياة الإنسانية هو الذي يتحقق فيه ذلك التوازن المومَأ إليه آنفا، بحيث تجسد كل طبقة من الطبقات المشكلة للجمهورية جانبا معينا من جوانب النفس البشرية. فطبقة الفلاسفة الرؤساء التي يؤول إليها الحكم تمتاز بفضيلة العقل، وطبقة الجنود المحاربين تتصف بالشجاعة والبسالة الحربية. وصولا إلى الطبقة الثالثة، طبقة المزارعين والتجار والصناعيين، والتي تُعنى أساسا بسد حاجات الجيش والحكومة. بيد أن أفلاطون نفسه قد عدل عن جوانب كثيرة من نظريته هاته بعدما استبين شططها ولاواقعيتها، وذلك في كتابه الأخير "القوانين les lois".

وصولا إلى أرسطو (322 ق.م – 384 ق.م) الذي اعتمد منهجا مختلفا عن أسلافه ينبني على البحث العلمي والدقة اللغوية، فقد كان عالما قبل كل شيء، حيث عُني بتنظيم وتقعيد العلم الإنساني وقوانين التفكير والتعبير، إذ استكشف قوانين القياس والاستقراء وغير ذلك من الآثار العلمية. كما كانت نظرته للأخلاق نسبية، فليس ثمة خير مطلق أو شر مطلق، إذ ما أراه أنا خيرًا قد يلوح للآخر شرا، ومن هنا تتغير نظرتنا للأخلاق تبعا لتغير الظروف والأفكار السائدة في المجتمع.

وفي طور لاحق، انتقلت قيادة الفكر إلى السياسة بعد خفوت بريق الفلسفة، مثلما يرى طه حسين، وذلك بفضل شخصية تاريخية استثنائية، نريد بذلك الإسكندر المقدوني، الذي أسهم في نشر حضارة اليونان على نطاق واسع بعد إخضاعه للشرق. فقد كان، بحسب الكاتب، ذا منزع كوسموبوليتي يتشوف إلى تبديد الفوارق بين الشعوب المفتوحة، ومن ثم تحقيق هدف كثيرًا ما سعى إليه الفلاسفة وهو توحيد العقل الإنساني وطرق الحكم والغايات، ناهيك بإسهامه الأكبر لجهة حفز التلاقح الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب.

ثم لم تلبث أن انتقلت قيادة الفكر من الفلسفة، فالسياسة إلى الدين طوال حقبة القرون الوسطى (المسيحية في الغرب، الإسلام في الشرق). أما السمة المميزة لعصرنا الحديث، في نظر طه حسين، تكمن في تَوَزع قيادة الفكر بين جميع تلك العناصر (الأدب، الفلسفة، العلم، السياسة، الدين) بفضل ما يعرفه العصر الحديث من ذيوع غير مسبوق لوسائل الطباعة والنشر الحديثة (منذ اختراع المطبعة)، الشيء الذي أفضى بالتبعة إلى تَعَدد الآراء والمذاهب، ومشاطرتها التأثير في نفوس وعقول الناس. كما أن قيادة الفكر كفت عن أن تكون وقفا على أمة أو حضارة بعينها، بقدر ما باتت مشتركة بين الأمم المتحضرة جميعا، فلكل منها فنونها وآدابها ونظمها الخاصة. 

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

كتاب من تأليف الباحث الاقتصادي المصري محمود عبد الفضيل، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2000، إذ انصرف موضوعه إلى تناول جملة من التجارب الآسيوية الناجحة في النهوض الاقتصادي، وتحديدا في دول سنغافورة، ماليزيا، كوريا الجنوبية، تايلاند، الصين، وذلك بغرض الوقوف على محددات النجاح التي يمكن الاسترشاد بها عربيا، فضلا عن بعض مواطن القصور في تلك التجارب، والتي يجدر بنا تلافيها عند الحديث عن أي أفق نهضوي عربي. 

أولا: مقومات نجاح تجربة التنمية الآسيوية

يذهب المؤلف إلى أن تلك التجارب الآسيوية في الإقلاع الاقتصادي استندت إلى مجموعة من المقومات والدعامات في وسعنا تحديدها كما يلي:

* الدور المحوري الذي اضطلعت به الدولة في رسم التوجهات التنموية وتحديد الأولويات الاقتصادية، من خلال سياسات التخطيط المركزي الحكومي، بالموازاة مع إعطاء حوافز للقطاع الخاص من أجل الإسهام في العملية التنموية، الأمر الذي يتنافى مع الطرح النيوليبرالي المتوحش الذاهب إلى إلغاء أي دور تدخلي للحكومة والقطاع العام باعتباره عائقا أمام التنمية، بحيث لعب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد دورا أساسيا في إنجاح تلك التجارب الناهضة، وآية ذلك استمرار السياسات التنموية رغم تبدل القيادات والنظم السياسية.

* البعد الثقافي والقيمي من حيث هو محرك للتجارب التنموية في دول شرق آسيا، إذ ليس يخفى إسهام قيم معينة مثل الإخلاص والمثابرة في العمل (قوة عمل منضبطة ومؤهلة)، وشيوع ثقافة الادخار لدى الحكومات والأسر، في النهوض التنموي لتلك التجارب، وهنا تلعب الأخلاق الكونفوشيوسية وظيفة حيوية في هذا المضمار.

* نجاح استراتيجية التصنيع كمدخل للطفرة التنموية بالدول الآسيوية، إذ يشدد الكاتب على التحول الذي عرفه الهيكل الصناعي لجهة التحول من صناعات خفيفة إلى صناعات ثقيلة، ومن صناعات تقليدية (كالنسيج) إلى صناعات حديثة ذات قيمة مضافة عالية (كالصناعات الإلكترونية). وهنا وجب التشديد على أهمية قطاع التصدير من خلال الاستثمار في الصناعات التصديرية، إذ نجحت منتجات تلك الدول في اختراق أسواق استهلاكية متقدمة (كالسوق الأمريكية) بفضل سلعها الرخيصة من حيث التكلفة، وجودتها القريبة من السلع الأصلية المقلدة.

* دور المأسسة والتنظيم، بالإضافة إلى اعتماد طرق الإدارة الحديثة في النجاح التنموي لتجارب النمور الآسيوية، فضلا عن الالتقائية والتكامل بين مختلف فروع وقطاعات ومؤسسات الاقتصاد الوطني.

* استراتيجيات التطوير التقاني (العدد الكبير من براءات الاختراع)، فقد اتسم النموذج التنموي في تلك الدول، مثلما يلحظ المؤلف، بسلوك "مسار مختلط"، إذ تميز في مراحله الأولى (1970- 1985) ب "تعبئة الموارد" (التوسع في التوظيف، الاستثمارات الكبيرة... إلخ)، ثم طفق ينحو شيئا فشيئا منذ نهاية الثمانينيات إلى الاعتماد على التراكم التقاني والمعرفي.

* نموذج اجتماعي ناجح إلى حد ما، يتصف بتحقيق حد أدنى من العدالة التوزيعية، مقارنة بتجارب أخرى فاشلة في هذا الباب كتجارب أمريكا اللاتينية.

* تراكم وتطور الرأسمال البشري بفضل نظام تعليمي متقدم، أمسى يتفوق في بعض الجوانب على النظم التعليمية في الدول الغربية.

ثانيا: الدروس المستفادة عربيا من التجربة الآسيوية

يرى صاحب الكتاب أن مسببات الفشل العربي لا تعزى إلى نقص في المدخرات المالية بل إلى "تبديدها"، ولا إلى قلة الاستثمارات بل ل "سوء توزيعها"، وليس إلى قلة رأس المال البشري وإنما إلى هجرة الكفاءات وعدم استثمارها، فضلا عن ضعف المأسسة وعدم إيلاء البحث العلمي المكانة التي يستحقها. ومن بين الدروس المستخلصة من التجربة الآسيوية أن المال لوحده لا يكفي لتحريك عجلة التنمية إذا لم يقترن بالكفاءة التنظيمية والتقدم التكنولوجي والرؤى الاستراتيجية، وذلك في معرض حديث المؤلف عن السر الكامن وراء الإسهام الفعلي للاستثمارات اليابانية في نجاح تجارب دول جنوب شرق آسيا، مقارنة بالأثر التنموي المحدود للاستثمارات الخليجية في الأقطار العربية.  

كما يبسط الباحث عوامل أخرى تقف حائلا أمام تنمية الوطن العربي، وفي جملتها النزعة الاستهلاكية الجامحة التي ترجع إلى ضعف ثقافة الادخار لدى الأسر، علاوة على دور الحروب والصراعات الكثيرة بالمنطقة في استنزاف الموارد، وصولا إلى معطى مهم يتمثل في دور "العقلية الريعية" (من بين مظاهرها الاستهلاك المفرط واللهاث وراء الربح السريع) التي فاقم منها تراكم الثروة النفطية، مقارنة بالعقلية التنموية الإنتاجية في دول آسيا الناهضة، والاعتماد على "النفس الطويل" بدل استعجال الربح والمكسب.

على أن الكاتب لا يجنح إلى العدمية والتمادي في جلد الذات، إذ يشير إلى أن مجموعة من التجارب التنموية الآسيوية (بما في ذلك اليابان) استفادت من ظروف الحرب الباردة والدعم المالي الغربي السخي، بحيث كان لدول الغرب – وفي مقدمتها – أمريكا مصلحة في قيام تجارب رأسمالية جذابة في آسيا، في ظل التهديد الشيوعي الزاحف إلى آسيا وقتئذ، والصادر من الاتحاد السوفييتي وشيوعية ماو قبل تحول الصين إلى اقتصاد السوق وفق منظورها الخاص. وبالمقابل لم تتوفر ظروف موضوعية مشجعة للنهوض التنموي بالوطن العربي، الذي طالما ظل مطمعا للقوى الإمبريالية الدولية. 

كما كرس الباحث محورا للحديث عن الأزمة المالية التي طالت بلدان جنوب شرق آسيا منذ صيف 1997 بفعل هشاشة قطاعها المالي، ومن بين مسببات تلك الأزمة: انتشار المضاربات العقارية والمالية، ارتفاع مديونية المصارف بالعملات الأجنبية، مظاهر فساد مالي من قبيل قروض المجاملة لأفراد من النخبة السياسية دون ضمانات فعلية... إلخ، مع الإشارة إلى أن تلك الأزمة لم تؤثر على القطاع العيني (الإنتاج، التصدير) الذي يشكل عضد الاقتصاد القومي لتلك البلدان، والذي يقوم على أسس وطيدة، ولذا سرعان ما استعادت اقتصادات تلك الدول توازنها تدريجيا مع حلول عام 2000 بعد التداعيات التي ألمت بها من جراء الأزمة المالية (انكماش اقتصادي، بطالة... إلخ). وعليه، فإن الدرس المستخلص هنا بالنسبة للعرب والدول النامية عموما هو وجوب ضبط حركة "الأموال الساخنة"، والتي ترمز إلى رؤوس الأموال قصيرة الأجل الباحثة عن الربح السريع، وبالتالي ضرورة الانفتاح الحذر والمحسوب على السوق العالمية، وتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، التي يجب أن تتركز على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية التصديرية.

وفيما يخص السؤال المتعلق بمدى إمكانية استنبات تلك التجارب في التربة العربية، يرى الكاتب أن تجربة "النمور الأربعة الأوائل" (كوريا الجنوبية، سنغافورة، تايوان، هونغ كونغ) يصعب استنساخها، بالنظر إلى استفادتها من ظروف الحرب الباردة كما سبق الذكر، وصغر حجمها (باستثناء كوريا) الذي ييسر لها إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، بالإضافة إلى أن تلك التجارب التنموية لم تكن نابعة من دينامية تصنيع وتطوير داخلية، إذ استفادت من إقامة الشركات دولية النشاط منصات تصدير في بلدانها، ومن ثم عمدت مباشرة إلى التصدير دون المرور بمرحلة "الإحلال محل الواردات". وبالمقابل يعتقد الباحث بأن التجارب التي في وسعنا الاقتداء بها تتمثل في: كوريا الجنوبية في طبعتها الثانية من مسار تطورها التنموي، ماليزيا، الصين، الهند، وهي التي شرعت أولا في بناء قاعدة صناعية قوية قبل أن تفلح في اختراق الأسواق العالمية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

كان العلوي قد أصدر، عبر دار الطليعة اللبنانية سنة 1973، كتابا بعنوان "في الدين والتراث" وقد عثرت مصادفة قبل أيام على نسخة رقمية منه. هذه قراءة سريعة فيه نركز فيها على موضوع مهم هو كيف كان الراحل العلوي يتعامل نقدياً وبإنصاف مع الأبحاث والمؤلفات التي يقدمها مستشرقون وباحثون غربيون. إذْ لم يكن العلوي مسكوناً بهاجس تقديس وتصنيم المستشرقين والباحثين الغربيين، هذا الهاجس الذي يحمله كثيرون من الباحثين العراقيين والعرب، وخصوصا أولئك المؤلفين الذين يفبركون عشرات الكتب والأبحاث بطريقة الخمط (النسخ واللصق) من دون التَقَيُّد بطرق التوثيق والاقتباس الأكاديمية المعروفة، ليخرجوا في النهاية بكشاكيل سمينة لا يجد فيها القارئ شيئا غير ما قرأه المؤلفُ لكُتاب آخرين. أو كما يصف الباحث والمنقب الآثاري العراقي وعالم اللغات القديمة السومرية والأكدية نائل حنون هذا النوع من المؤلفين بأنهم (يكتبون ما يقرأون لكتاب آخرين) وفضيلتهم الوحيدة أنهم يجيدون لغة أجنبية أو أكثر فيترجمون عنها ما يعثرون عليه ويجترونه بشكل لا نقدي ودون تمحيص وتدقيق. لنعد إلى العلوي وكيف قرأ نقديا أحد مؤلفات المستشرق البريطاني هاملتون جِب:

يذكر العلوي أن جِب هو من كبار المستشرقين وقد ألف كتابه (المدخل إلى الأدب العربي) لتعريف القارئ الغربي بهذا الأدب. وقد ترجمه إلى العربية كاظم سعد الدين في بغداد في السبعينات. ولم أعثر على نسخة من طبعته البغدادية الأولى، ولكن هناك ترجمة أخرى للكتاب مصحوبة بقراءة نقدية قدمها د. إبراهيم عوض سنة 2008.

ويتوقف العلوي عند ما كتبه المستشرق جب عن الشاعر المتنبي فيقول: "يصف جب المتنبي بالقول إنه ليس له مَن يضاهيه لمهارته في النظم وسلامته في التعبير وتمكنه من العبارة المنمقة". وهذا الوصف - يضيف العلوي - يصح على شعراء الغزل والخمريات والوصفيات، أولئك الشعراء المولعين بالبديع. وليس المتنبي من هذه الطبقة لأن أخص ما يمتاز به شعره هو المتانة وقوة السبك. وأن تفوق المتنبي لا يرجع إلى الخصائص الأسلوبية بل إلى خصائص مضمونية. وقد أنصف العلوي هاملتون جب بقوله (أسلوب المستشرقين الغربيين يتسم عادة بالتعالي والأحكام الفوقية المتسرعة التي تصدر على شكل قرارات حاسمة مع كثير من سوء الفهم المرتبط بالعجز عن الفهم عن تشخيص المساهمات الفعلية في حياة الفكر الإنساني، مع أن جب أظهر في هذا الحديث شيئاً من الموضوعية يحمد عليها). ثم يعود العلوي لنقد بعض آراء وتعبيرات جب في كتابه سالف الذكر ومنها مقابلته بين فهم المسلمين للقرآن باعتباره كلام الله الموحى به الى النبي ورأي الغربيين المعتبر أنه من كلام النبي؛ فيقول العلوي إن هذه المقابلة بين العقلية الإسلامية والأخرى العلمانية للمؤلف فيها الكثير من الافتعال، فأن يكون المؤلف غربياً لا يعني بالضرورة أنه يفكر تفكيراً علمانياً. ثم أن هناك شطب وعدم تفريق بين المسلم المؤمن والمسلم الزنديق أو الفاسق ...إلخ، وهذا ما يجهله الغربيون لأنهم يعتبرون المسلمين والإسلام كلا وكيانا واحدا مندمجا ومنسجما وموحَّدا وحدة صماء، لأنهم يجهلون التفريق القرآني الذي نصت عليه الآية (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). ويضيف العلوي أن اللاهوت، عدا عن السحر والشعوذة والكهانة، قد لقي ويلقى في الفكر الغربي القديم والحديث عناية إنْ لم تزد على ما عند الشرقيين فهي تضاهيه. وقد أنتج الغرب من الخرافة قدر ما أنتج من العلم. ثم يقترح العلوي تصحيح عبارة جِب على النحو التالي (إن المسلمين المتمسكين بعقيدتهم الدينية يعتقدون المسألة الفلانية ولكن الباحث العلمي يرى خلاف ذلك).

وردا على ما كتبه جب عن ابن طفيل وفيه قال إن شهرة هذا الأخير تستند إلى تهذيب الرواية الفلسفية لابن سينا الموسومة "حي بن يقظان"، يكتب العلوي "ليس بين رواية ابن طفيل ورواية ابن سينا أي وجه شبه إذا استثنينا اسم البطل. ورواية ابن سينا تقع في 11 صفحة أما رواية ابن طفيل فتقع في 75 صفحة ومن المعروف أن حجم التهذيب يكون أصغر من الحجم الأصلي أو على الأقل أن يكون مساويا له. أضف إلى ذلك أن رواية ابن سينا ليست رواية لأنها لا تعدو ان تكون حديثا يديره المؤلف مع شيخ طاعن في السن يدعى حي بن يقظان. أما مؤلف ابن طفيل فهو قصة تجمع أكثر العناصر الضرورية للبناء القصصي ... ولعل المستشرق الفاضل لم يقرأ الكتابين بإمعان وإنما اعتمد على التشابه اسميهما.

وفي رده على ما كتبه هاملتون جب عن الجاحظ وقال فيه إنه درس الفقه على يد إبراهيم النظّام وإنه كان عبدا زنجيا، وإن الحيوان يشغل مكانا ثانويا في كتابه المعنون "الحيوان". يقول العلوي مدللا على جهل المستشرق البريطاني إن النظَّام لم يكن فقيها بل كان متكلما (عالِم في الكلام. والكلام في التراث العربي هو علم المنطق والنظر والاستدلال وهو بهذا فرع من الفلسفة وبعض الباحثين يعتبرونه الفلسفة ذات المنزع العقيدي ذاتها). والجاحظ لم يكن عبدا أسود بل كان عربيا من قبيلة كنانة وجده الأعلى فزارة ولكن بشرته كانت سمراء فقال عنه الرواة إنه أسود ولكن كلمة "أسود" لدى الغربيين تعني تلقائيا وبالضرورة العبد الزنجي نتيجة ثقافتهم العنصرية الموروثة من الرومان في حين أن هناك الكثير من العرب الأحرار ذوو بشرة سمراء أو سوداء.

وأخيرا، فكلام جب عن كتاب "الحيوان" غير صحيح كما يقول العلوي، فقد كتب الجاحظ في الكتاب عن 365 نوعاً من الحيوانات، وصف شكلها الخارجي وطرق عيشها وتكاثرها ومواطن عيشها وكل ما يتصل بها إلا تشريح أجسامها فلم يفصل فيه لأن علم التشريح لم يكن قد تطور كثيرا في عصره. وبهذا فكتاب الحيوان للجاحظ كما يصفه العلوي يبقى مصدرا ثميناً غنياً بالمعلومات يعكس الجهد الذي بذله مؤلفه فيه كما يعبر عن دقة ملاحظته وأمانته العلمية. ص 89 وما بعدها.

***

علاء اللامي

..........................

*يمكنكم تحميل نسخة رقمية مجانية من كتاب العلوي عن طريق هذا الرابط:

https://www.ktobati-pdf.com/download/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-pdf

أضحى اِسم سونيا عبد اللطيف اِسمًا حاضرا في مختلف المناسبات ضمن المشهد الأدبي بتونس فقد أطلّ منذ سنوات قليلة بمجموعة شعرية بعنوان ـ اِمرأة اِستثنائية ـ تضمنّت باكورة قصائدها المتوهّجة بصدق المعاناة في أشكال شعرية تنتمي إلى حركة الشعر الجديد بما فيها من بحث عن الطرافة والاِبتكار مستفيدة من منجزات السابقين ومطوّرةً في بعض قصائدها من أسلوب الومضة ومستعملةً أحيانا فنون السرد والمسرح بما فيها من حبكة وحوار وتشويق ثم عزّزت هذه المجموعة بمجموعة ثانية ـ بجناح واحد أطير ـ جاءت على غير نسق قصائدها الأولى ممّا يؤكّد أنها أخذت المسألة الشعرية مأخذ الجدّ لتمضي في دربها إلى الأبعاد وتتجاوز عتبات البداية وولَع الهواية

ــ 2 ــ

اِنتظرنا إذن ديوانها الثالث لكنها فاجأتنا بكتاب ـ ميتروهات وهدرات ـ وهو نصوص تسجيلات يومية تتحدث فيها عن وقائع الحياة في عديد مواقفها وتفاعلاتها مبدية ملاحظاتها إذ أنها تتنقل كل يوم تقريبا على متن الميترُو فجاء كتابا طريفا يعايش الواقع في تونس ولم يَخْلُ من نقد اِجتماعي واضح وبرغم بعض الشّجون من خلال ظلال من السيرة الذاتية فإنه يُعتبر كتابَ شهادة عن واقع بما فيه من معاناة وصدق.

وإضافة إلى هذا النشر المتواصل على مدى سنوات متوالية كانت تُشرف الشاعرة والأديبة سونيا عبد اللطيف على نادي الشعر وعلى نادي الأدب بعده في جمعية اِبن عرفة وقد أشرفت كذلك على بعض الأندية في اِتحاد الكتّاب التونسيين وفي دار الثقافة السليمانية وفي مدينتها قليية حيث أسّست فيها ـ مجاس همس الموج ـ واِستقبلت في رحابه عديد الأدباء والأديبات ومختلف المبدعين من تونس ومن المغرب العربي والمشرق العربي وجعلته ينتقل أحيانا من فضاء إلى آخر فاِكتسبت الأديبة والشاعرة سونيا عبد اللطيف يفضل هذا الدأب في النشاط والنشر والمشاركات العديد في الأمسيات الأدبية والمهرجانات مصداقية أدبية جعلتها تحظى بالإشعاع والتقدير والدعوات سواء داخل تونس أو خارجها في كثير من البلدان مثل الجزائر والمغرب ومصر والأردن والعراق وفرنسا وإنقلترا وغيرها فلا عجب إذن أن تُرجمت نصوصها الشعرية إلى اللغة الإنقليزية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من كتاب خاصّ ومُشترَك أيضا.

ــ 3 ــ

ما كادت سنة 2023 تدخل في شهرها الأخير حتى أطل الديوان الثالث بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ ويضمّ نحو خمسين نصّا شعريّا متنوعة المعاني والمباني التي لا يمكن إجمال القول فيها إلا بعد قراءتها واحدًا واحدا فكل نص هو حالة بذاتها وقد نجد تشابها بين نص ونص آخر وتختلف كثير من النصوص في أسلوبها عن بعضها البعض لذلك لا يُجدي التعميم لأنه يفضي إلى التعتيم فلأجل إيلاء هذه المجموعة الشعرية ما هي جديرة به من الاِهتمام نقترح قراءة كل نص بتمعّن وتدبّر حتى نتجنب النظرة السطحية البانورامية لذلك سنقف في هذه المناسبة عند بعض العلامات الدّالة باِعتبارها شواهدَ وعيّنات فحسب فقد قيل قديما ـ يكفي القلادةَ ما أحاط بالعنق وقيل أيضا ـ ما لا يُدرك كلُّه يُؤخذ جُلّه.

ــ 4 ــ

تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من حامل القصائد وهو كتاب في طبعة جيّدة وفي نحو مائة وخمسين صفحة من القطاع المتوسط بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ

تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من أوّل ما يبدو من الكتاب أي ـ الغلاف ـ وفيه وجه اِمرأة قد حَجبت ملامحَه أو تكاد خصلاتُ شَعرها المتطاير فلم يظهر منه إلا بعض من الجبين والوجنتين والشفتين.

ونرى خلف الوجه والخصلات فضاءً مفتوحًا على أرض وسماء وفي هذا الفضاء الذي يبدو مدًى فوق مدًى نقرأ العنوان وتحته بيان النوع الأدبي بين قوسين كلمة ـ شعر ـ وهذا التنصيص على كلمة ـ شِعر ـ هو بمثابة العتبة الأولى التي يدخل القارئ منها إلى هذه النصوص لكأنه ـ عقدُ اِتفاق قراءة ـ حول نوع المقرُوء يُهيّء إلى كَوْنٍ شعري دون سواه من عوالم القراءة الأخرى.

العنوان ورد في كلمتين على سطرين متوازيين والكلمتان يفصل بينهما فراغ وثلاث نقط وكذلك واو

النّقط الثّلاثُ لها معنى ولا شكّ

وهذه الواو ماذا تُفيد ؟

وجهي…والرّياح

يمكن للواو أن تَتْبع ما سبق من معاني النّقط المخفية

يمكن أيضا أن تعود إلى وجهي فتكون واو عطف؟

ويمكن أن لا تكون بينها وبين كلمة وجهي أية صلة باِعتبار أن فصلا بينهما وأنها مكتوبة في سطر وحدها

ــ 5 ــ

للواو في العربية أسماء عديدة وتختلف بِاِختلاف معانيها وإشاراتها في سياق الكلام من بينها نذكر خاصة ـ واو العطف ـ واو الحال ـ واو المعيّة ـ واو الاِستئناف ـ واو رُبّ ـ واو الجماعة ـ واو الأسماء الخمسة ـ واو القسم ـ واو الثمانية ـ

أمّا هذه الواو في عنوان ـ وجهي...والرّياح ـ فهي غير الواوات السابقة لأننا نستشف منها غير معنى الحال ولا معنى العطف أو المعيّة ناهيك عن معنى القسم وغيره وإنّما تفيد معنى المقابلة والمواجهة كقول المتنبي ـ ذَراني والفلاةَ ـ وكذلك ـ ووجهي والهجيرَ ـ في بيته

ذَراني والفلاةَ بلا دليل * ووجهي والهجيرَ بلا لثام

هذه المقابلة والمواجهة وحتى التحدّي نجدها في غضون بعض القصائد وخاصة في القصيدة التي تحمل عنوان ـ لك أيّتها الرّيح ـ حيث تخاطبها في نبرة التحدّي وحتى اللامبالاة قائلة لك أن تمزّقي أشرعتي وأوردتي ـ وأن تفتّتي شراييني ـ وأن تسلّط عليها الأمواج فتعلو وتُزبد ـ وأن تكسّر أضلعها ـ وأن تلقي بها في اليابان والصّين ـ وحتى في أحد القطبين. رغم كل هذه التحدّيات العديدة والمهولة فإن الشاعرة ظلت ثابة متماسكة في شموخ وكبرياء وأنفة بل تقابل بالمحبة والصفاء والعطاء قائلة

أنا سنبلة المواسم في كل المراسيم

حبوبي منثورة

بآلاف الملايين

لي زهرات الآس

والقرنفل

والفل

والياسمين لك أيتها الريح

الفصل والقضاء

وأنا الصبر

والحب والعطاء ـ ص و120

ــ 6 ــ

للشاعرة سونيا عبد اللطيف مع الريح حكايات شجون وأسرار خفيّة لا يمكن كشفها لكنّها رشحت في هذا الديوان من بعض القصائد مثل قولها في ـ قصيدة الأسرار ـ.

أنا لا أثق في الرّياح

ولا أستهوي نسيج النواحي

....لكنما الرياح

منذ الخلق تصفعني...تتقاذفني

كانت عن الغواصة أسراري

وزدت في الإصرار

إذ رشقتني من كل الجوانب

حجارة الصوان

وحدي أناجيني مع أسراي

والشّمس أذرو أشعاري

أنشودة الرياح

أنشودة الرياح ـ ص60

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:

ما المقصود بالعقل الباطن؟

يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.

وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.

الكبت

إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".

الأحلام والخواطر

إن مهمة النوم من منظور علم النفس الحديث تكمن في إراحة العقل الواعي الذي سرعان ما يتعب لأنه أحدث وأقل رسوخا من العقل الباطن. والحلم الذي يتخلل النوم هو وسيلة لإشباع رغبة كبتها العقل الواعي وقت اليقظة كالجائع الذي يحلم بأنه يأكل طعاما لذيذا، لكن لا تنسج كل الأحلام على المنوال عينه، إذ قد تعكس صراعا يعيشه الشخص بين السعي لإشباع الرغبة من جهة، والامتناع عن تحقيقها، وذلك في حالة النوم الخفيف حين ينشط العقل الواعي الذي يكبت العواطف جزئيا. 

أما الخواطر أو أحلام اليقظة فيمكن اعتبارها أداة لتفسير الأحلام مثلما يرى فرويد ورفرز، ما دام أنهما معا (الخواطر والأحلام) ينحدران من أصل واحد، ألا وهو العقل الباطن. وتعد الخواطر أقل جموحا من الأحلام على نحو يجعلها لا تتجاوز حدا معينا من الإسراف، لأن العقل الواعي لا يكون نائما بالمطلق وهو لذلك يلجمها.

هل من سبيل إلى ترويض العقل الباطن؟

يذهب سلامة موسى إلى أنه في وسعنا ترويض العقل الباطن وتسخيره لصالحنا عن طريق الإيحاء بخواطر إيجابية كمن يتخيل النجاح فينجح، أو الشفاء فيشفى من المرض، ذلك أن العقل الباطن يؤثر في الجسم كما تقر بذلك الأبحاث الحديثة. ولذلك فإن طريقة إقناع العقل الباطن ليست "المنطق" بل "الإيحاء"، فالعقل الباطن لا يدرك المعاني المجردة للكلمات (الموت، الشهامة... إلخ) إذا لم تقترن برموز ملموسة كما في الأحلام.

وبالإضافة إلى الإيحاء الذي يحضر بكثافة في التنويم المغناطيسي، نجد أيضا أسلوب التحليل النفسي الذي يعتمد على سؤال الطبيب وجواب المريض الذي يفصح عن الخواطر التي تنتابه حول كابوس مزعج تعرض له مثلا، وذلك بغية الوقوف على أصل ومصدر ذلك الكابوس أو العلة النفسية على وجه العموم (حادثة قديمة وقعت أثناء الطفولة، مشاغل راهنة)، ومن ثم فالتحليل أنجع من التنويم لأنه ينفذ إلى أصل العلة. 

مرض الهستيريا

تصنف الهستيريا إلى نوعين: نوع يصيب النساء والرجال معا، وهو الذي ينتج عن الإصابة بالرعب والذعر، فيؤدي إلى عوارض مثل الخرس أو جمود أحد أعضاء الجسم، وهذا النوع عادة ما يصيب النساء ولا سيما في أوقات السلم لأنهن أكثر تعرضا للخطر (الولادة، الاعتداء... إلخ)، فيما ينتشر في وسط الرجال خلال أوقات الحرب. أما النوع الثاني فهو يصيب النساء حصرا لصلته بحياتهن الجنسية، لأن الفتاة تجد مشقة كبيرة في كبت غريزتها الجنسية على نحو يفوق ما يجده الشاب من عنت باعتبار القيود الاجتماعية المفروضة عليها، فلا تجد سبيلا للتنفيس عنها: "لذلك فإن عقلها الباطن يطغى أحيانا على عقلها الواعي ويُحدث لها في يقظتها تلك الحركات أو التشنجات"، والهستيريا مرض نفسي في الجوهر ولا تخفى علاقته بالعقل الباطن.

أصل الأخلاق والعقائد

إن العقل الباطن لا ينس حوادث الطفولة وما يلقاه الطفل والصبي من العقائد، لذا تلعب الطفولة دورا أساسيا في تحديد أخلاق المرء المستقبلية ومنهجه في الحياة. ولما كان الطفل في سنواته الأولى لا يملك القدرة على التمييز وينزع إلى المحاكاة والتقليد، فإن أنجع طريق لتربيته هو الإيحاء وإعطاء القدوة له بنهج السلوك الحسن، أما الأوامر والنواهي فهي لا تولد إلا الكبت الذي لا يدوم مفعوله طويلا: "والأخلاق والأذواق تحدث من العقائد، وهذه العقائد تتسرب إلى العقل الباطن أيام الطفولة الأولى، ولذلك فإن مكان التربية الحقيقي هو البيت لا المدرسة، فشأن المدرسة أن تعلم، أي تغرس في العقل الواعي مجموعة من المعارف لا العقائد".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

مفهوم الإيديولوجيا كتاب من تأليف المفكر المغربي عبد الله العروي، صدرت طبعته الثامنة عن المركز الثقافي العربي في العام 2012. يتناول الكاتب بالدرس والتحليل مفهوم الأيديولوجيا، وقد توسل العروي بالمنهج التاريخي في هذه الدراسة، إذ ذهب إلى أن مفهوم الأيديولوجيا نشأ في عصر الحداثة (القرن 19)، وبالتالي لا يسعنا فصله عن الفكر النقدي المتصف بالنسبية. كما تحيل الأيديولوجيا في معناها اللغوي الأصلي (الفرنسي) إلى علم الأفكار، الذي يدرس آلية تكوين الأفكار في الذهن الإنساني، إلا أن الألمان ما لبثوا أن استعاروا المفهوم وضمنوه معنى آخر، لذا يعتبر الكاتب أن الأيديولوجيا هي كلمة دخيلة على مختلف اللغات الحية، الشيء الذي يفسر صعوبة ترجمتها إلى اللسان العربي، ولهذا اقترح تعريبها مستخدما لفظ "أدلوجة".  

أولا: تعريف الأيديولوجيا كقناع

يضيء صاحب الكتاب على التحول الذي طرأ على استعمال المفهوم في مراحل نشأته الأولى، عبر الانتقال من التحديد الأصلي (علم الأفكار) إلى نظرة قدحية للأيديولوجيا بحسبانها جملة الأوهام التي تمنع العقل من إدراك الحقيقة. ولعل الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818- 1883) هو النموذج الصارخ لهذا التمثل الفكري، إذ نظر إلى الأيديولوجيا من حيث هي وعي زائف ومضلل، مركزا نقده على الأيديولوجيا الليبرالية باعتبارها محض ستار يُخفي بين طياته مصالح الطبقة المهيمنة (الطبقة البرجوازية).

كما يذهب فريدريك نيتشه (1844 – 1900) إلى أن الأفكار تعبر في جوهرها عن مصالح لا عن حقائق، فالغريزة هي التي تسوس الفكر لا العقل المجرد، وأن الأيديولوجيا بمثابة قناع يخفي وراءه حقد وغل المستضعفين على السادة المتفوقين. وصولا إلى الاجتماعيين الألمان الذين استعاروا طرح ماركس مع توسيع نطاقه ليشمل نقد الماركسية ذاتها، إذ اعتبروا أن جميع الأيديولوجيات تعبر عن مصالح طبقة أو فئة اجتماعية معينة.

ثانيا: الأيديولوجيا كذهنية أو نظرة كونية

يرمز مفهوم الأيديولوجيا وفقا لهذا التصور إلى مجموعة من التصورات والأفكار التي تؤلف النظرة إلى الكون. ويشرح العروي هذا الطرح قائلا: ""الفرد الذي يرث أدلوجة كعضو في طبقة (بعد تفسخها وانهيار منظومة المصالح الموحدة بين أعضائها) أو كإنسان مثقف يكون أول ضحية من ضحاياها... ليست الأدلوجة بالنسبة للفرد قناعا (يخفي مصالح) بقدر ما هي أفقه الذهني... الأدلوجة قناع لمصالح فئوية إذا نظرنا إليها في إطار مجتمع آني، وهي نظرة إلى العالم والكون إذا نظرنا إليها في إطار التسلسل التاريخي".

ومن نفس المنطلق، يرى هيغل (1770 – 1831) أنه لا يمكن فهم الآثار المادية لحقبة تاريخية ما (قوانين، دساتير، كتب، عمران... إلخ) دون استحضار روح العصر الذي يمثل الذهنية والثقافة السائدة حينئذ. كما يعتبر ماكس فيبر (1864- 1920) أن لكل مفكر وباحث نظرته الخاصة إلى الكون تبعا لنموذجه الذهني، فالقيمة أو الحقيقة لا تنجلي بوضوح في الواقع، بل هي كامنة في الأحداث المتلاحقة غير المرتبة، ومن ثم فهي في حاجة إلى عملية تنظيم وتركيب، وبالتالي لا وجود لقيمة أو حقيقة مطلقة، بل هي نسبية واحتمالية. أما بالنسبة لكارل مانهايم (1893 – 1947) ليست النظرة إلى الكون قاصرة على فرد محدد مثلما يظن فيبر، بل تشير إلى تصور جماعي يسم حقبة زمنية أو مجتمعا بأكمله أو فئة اجتماعية، إنها الأفق الذي يحدد المفكر فيه واللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه إذا ما استعرنا تعبير محمد أركون.

ثالثا: الأيديولوجيا بحسبانها علم الظواهر

يعتقد كارل ماركس أن الأيديولوجيا تكتفي بوصف سطحي لظواهر المجتمع، ومن ثم فهي لا تنفذ إلى باطن وكنه الأشياء: "إن المفاهيم الاقتصادية (العمل، القيمة، الإنتاج، الاستهلاك...) إذا أخذناها كحقائق دائمة (أي أدرجناها في خانة المطلق والأزلي، ولم نربطها بظروف نشأتها التاريخية المرتبطة بظهور النظام الرأسمالي) نقيس عليها الأنظمة الإنتاجية اللارأسمالية، كانت أدلوجة، وإذا حللناها كنتائج تطور تاريخي، قادتنا إلى إدراك واقع التاريخ، إلى العلم".

وهكذا، تبنى ماركس المادية التاريخية كمنهج للتحليل الواقعي للاقتصاد، أما العلوم الاجتماعية الأخرى (بما في ذلك علم الاقتصاد)، فهو (= ماركس) بالقدر الذي لا يخلع عنها صفة العلم ولا يقرر عدم نفعها، فإنها لا تتعدى – في تقديره - نطاق العلم بالظواهر، وبالتالي تقدم لنا معرفة جزئية فقط. فالعلم الصحيح هو علم التاريخ، الذي يخول لنا الوصول إلى معرفة باطنية يقينية موثوقة. 

رابعا: الاستعمال المعاصر للأيديولوجيا: تحليل مقارن

أضاء العروي في الفصل الختامي من الكتاب على الاستخدامات المعاصرة لمفهوم الأيديولوجيا في الغرب استنادا إلى النماذج الفكرية المحددة أعلاه: "مفهوم الأدلوجة/قناع يوظف في المناظرة السياسية (كالسجالات بين الأحزاب السياسية ذات المشارب الفكرية المتباينة)، ومفهوم الأدلوجة/ رؤية كونية في اجتماعيات الثقافة، ومفهوم الأدلوجة/ علم الظاهر في نظرية المعرفة ونظرية الكائن". وفي المقابل، ينتهي العروي إلى أن معظم الكتاب العرب المعاصرين يستعملون المفهوم كعقيدة دوغمائية مطلقة، فيما يوجد قلة من المفكرين في الوطن العربي ممن يستخدمونه كأداة تحليلية نقدية.

وعليه، عرف الكاتب الأيديولوجيا في مؤلفه السابق الأيديولوجية العربية المعاصرة بأنها "الفكر غير المطابق للواقع"، فالأيديولوجيا العربية السائدة، إذ هي تستوحي مادتها من الغرب، لا تمت بصلة إلى الواقع العربي، كما أن سبب فشل سياسات النخب الإصلاحية في الوطن العربي هو تجزئتها للتراث الغربي وتعاملها الانتقائي معه، ومن هنا حكمه على "السلفية والليبرالية والتقنوقراطية بالسطحية وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه". وفي الختام يدعو المؤلف إلى التعاطي الحذر مع مفهوم الأيديولوجيا وتجنب استخدامه دون قيد أو شرط بالنظر إلى طابعه الإشكالي، ولأنه يخفي في جعبته مصالح واختيارات فكرية معينة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

قراءة في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي / د.عبد الجبار الرفاعي

لكي نقبل هذا العالم يجب أن نرفض هذا العالم، فالوجود أستُهلك إلى درجة الأضمحلال، وهناك تناقض فعلي بين تأمل العالم وبين تحويل العالم، ومن هنا تبرز ضرورة توظيف فهماً حقيقيا ً للدين لمواجهة الظمأ الأنطولوجي ..

من منظور اجتماعي، تتضمن أنطولوجيا الدين دراسة طبيعة الكيانات والتجارب والظواهر الدينية في إطار الهياكل والمؤسسات والتفاعلات الاجتماعية. يدرس علماء الاجتماع كيف يشكل الدين المجتمع ويهكله، وينظرون إلى البناء الاجتماعي للواقع الديني، ومن أهم القراءات السوسيولوجية للدين قراءة  إميل دوركهايم، عالم اجتماع رائد، تناول دراسة الدين من منظور وجودي، لا سيما في عمله الأساسي "الأشكال الأولية للحياة الدينية" الذي نشر عام 1912، كان دوركهايم مهتمًا بفهم الطبيعة الأساسية وجوهر الدين داخل المجتمعات البشرية.

كما قدم ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، مساهمات كبيرة في الفهم الاجتماعي للدين من خلال كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية "، بينما ركز إميل دوركهايم على التكامل الاجتماعي والجوانب الجماعية للدين، كان نهج فيبر أكثر دقة وشمل استكشاف تجربة الفرد الذاتية وتأثير الأفكار الدينية على التغيير الاقتصادي والاجتماعي، حيث وظف مفهوم (الفهم)، كان نهج فيبر في فهم الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الدين، يرتكز على مفهوم "Verstehen"، وهو ما يعني الفهم باللغة الألمانية،  وشدد على أهمية فهم المعاني الذاتية التي يعلقها الأفراد على أفعالهم ومعتقداتهم وتجاربهم، وفي دراسة الدين كان هذا يعني الاهتمام بالتجارب الحياتية للأفراد والمعاني التي ينسبونها إلى الممارسات الدينية.

وبغض النظر عن السياقات التاريخية التي ميزت بداية وجهات النظر الحداثية وتأثيرها الدائم، فضلاً عن الظهور اللاحق لأتجاهات ما بعد الحداثة التي كشفت عن نقاط الضعف في العديد من الأيديولوجيات الحداثية، أو من زاوية مختلفة، النظر في إعادة تشكيل المشهد الفكري عالميًا إن الحاجة ملحة إلى فهم جديد، خاصة في العصر الحالي بعد تراجع الهيمنة الأيديولوجية للفكر الغربي، أصبح من الضروري بالنسبة لنا أن نفهم فهمًا جديدًا لواقعنا.

وهذا الفهم يبدأ من تشخيص دقيق لأزمة التدين حيث يبين د.عبد الجبار الرفاعي " ان ماوضع الدين اليوم في مأزق تأريخي، هو ترحيله من مجاله الأنطولوجي الى المجال الأيديولوجي هذا من جهة، ومن جهة أخرى أزدراء بعض النخب للدين وأحتقارهم للتدين، أثر الفهم الساذج المبتذل لحقيقة الدين في فهمهم، والصور في أحكامهم من نمط التدين الأيديولوجي الشائع "

وفي رحلة عميقة من الذات ينتقل بنا د. الرفاعي الى الوجود الأنساني، حيث يعتبر "الأيمان  تجربة ذاتية خلافاً للفهم والمعرفة لايتحقق بالنيابة "، تنبعث من الداخل فهي صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجودي يرتوي به الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري .

من يقرأ الفصول الأولى للكتاب ومابعدها يفهم  هذا النص بتجلياته، يبدأ بنسيان الذات  ومن ثم نسيان الأنسان ليصل الى التجربة الدينية وأزمة الظمأ الأنطولوجي وبعدها يقف على الأحتكار الأيديلوجي لأنتاج المعنى الديني ويخرجنا من هذه الأزمات الى تجديد الفكر الديني من  (أنا قارئ قبل كل شيء) .....  مما يؤدي في النهاية إلى استكشاف التجارب الدينية والتعطش الوجودي للمعنى، فهو يدقق في أزمة الشوق الوجودي، ويواجه احتكار الأيديولوجيات لإنتاج المعنى الديني، ترشدنا هذه الرحلة إلى الخروج من هذه التحديات الوجودية، وتسهل تجديد الفكر الديني.

وفي تنمية هذا الفهم والانغماس في الأعماق الروحية لهذه المعاني، هناك تجنب متعمد للابتعاد والازدراء تجاه الذات أو نقيضها وبدلا من ذلك، يبدأ الاستكشاف من الذات، ويمتد نحو الوجود، ويرسم صورة متكاملة للوجود الإنساني.

***

د. فاطمة الثابت

العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي" لمؤلفه محمد عابد الجابري

كتاب صدرت طبعته السادسة في العام 1994 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، من تأليف محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، الفيلسوف والمفكر المغربي، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، والذي تناول في مؤلفه هذا النتاج الفكري لأحد أهم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، ألا وهو ابن خلدون (1332 – 1406)، المؤرخ ومؤسس "علم العمران".ويضيء الجابري في الصفحات الأولى من مؤلفه على الحقبة التاريخية التي عايشها صاحب كتاب "المقدمة" في القرن الرابع عشر (م)، والموسوم ببداية أفول شمس الحضارة الإسلامية (من مظاهر ذلك الانحطاط يمكن أن نشير إلى الاضطرابات السياسية، والجمود الفكري، فضلا عن انتشار التفكير الخرافي... إلخ)، حيث انكب ابن خلدون على سبر أغوار وخلفيات ذلك التقهقر الحضاري انطلاقًا من منهجه التاريخي المميز، والذي لا يقتصر على رصد ظاهر الأحداث، بمقدار ما ينصرف إلى التنقيب في بواطنها، ومن ثم الكشف عن العوامل المستترة والخفية التي تؤثر في تعاقب الدول وأحوال العمران، طبقا لنظريته الشهيرة حول "العصبية". فما الذي يعنيه ابن خلدون بمفهوم العصبية؟ وكيف يفسر تعاقب الدول وتطورها استنادا إلى تصوره لذلك المفهوم؟

مفهوم العصبية من منظور ابن خلدون

إن العصبية كلفظ كان شائعا ومتداولا قبل أن يبدع ابن خلدون نظريته الشهيرة، لا سيما في أعقاب مجيء الإسلام، والذي أضفى عليها معنى خاصا، إذ أضحت تحيل إلى "الفرقة والتنازع والاعتداد المفرط بالأنساب" (وهو ما تجسمه أقوال مأثورة في الثقافة الشعبية، مثل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، أو "أنا وأخي على ابن عمي...").                         

وفي رأي صاحب "المقدمة"، فإن العصبية تتعرف أساسًا في كونها "رابطة دفاع"، إذ لا يَبرز دورها إلا حين يتعرض أهل البدو خصوصًا لعدوان خارجي، فتنتصب كمحرك أساسي لرد ومدافعة ذلك الهجوم، على عكس العدوان الذي يتعرض له أهل المدن والحواضر، بحيث تتكفل الدولة بصده بما تحوزه من قوة عسكرية (أسوار، حامية... إلخ)، مما جعل ابن خلدون يخلص إلى أن العصبية ظاهرة بدوية قَبَلية بامتياز، وأن العمران البدوي هو أساس العمران الحضري.

وفي تقدير مكتشف علم العمران، تقوم العصبية على جملة من الأسس والمرتكزات الضرورية، والتي لا تشمل النسب فحسب، نظرًا إلى ما قد يشوبه من مخالطة لاستحالة وجود نسب نقي وخالص، بقدر ما تنهض على مقومات أخرى من أبرزها الملازَمة وطول الصحبة والعشرة. غير أن الأساس الحقيقي لأي عصبية، وفقا لنظرية ابن خلدون، يظل هو المصلحة الدائمة المشتركة التي تؤلف بين أعضائها، ذلك أن العصبية هي بمنزلة رابطة معنوية يغلب فيها الأنا العصبي للجماعة على الأنا الشخصي للأعضاء المنتسبين إليها.

أما فيما يخص العوامل التي تفسر سعي العصبيات للحصول على السلطة السياسية عن طريق الثورة على العصبية الحاكمة والإطاحة بها، فيبرز العامل الاقتصادي كمعطى ضروري في التفسير، ولا سيما العصبيات البدوية، التي تعتمد على الزراعة من حيث هي مصدر أساسي لعيشها، الشيء الذي يملي نوعا من التكاتف والتعاون بين أعضائها، كنتيجة طبيعية لنمط الإنتاج الجماعي، الذي تنعدم فيه الملكية الخاصة. وهكذا فإن الباعث الأساسي على السعي وراء السلطة عند هذا الصنف الأول، هو ما قد تواجهه من قساوة الطبيعة (موجات قحط وجفاف... إلخ)، بخاصة إذا تَرافق ذلك مع فرض الضرائب والمغارم الثقيلة من لدن السلطة المركزية، مما يضطرها، بالتالي، إلى الطمع في الحكم وما يستتبعه من رخاء وسَعة في العيش. 

غير أن العامل الاقتصادي لا يكفي وحده لتفسير سعي العصبيات إلى السلطة، إذ نصادف اعتبارات موضوعية أخرى لعل أهمها الدعوة الدينية، لا سيما إذا تعلق الأمر بأهل البدو الرحل من "العرب وما شابههم"، فهم قوم، بحسب ابن خلدون، لا تستهويهم رفاهية المدن وحياة الترف، لفرط ما ألفوا قساوة الطبيعة وشظف العيش. وعليه فإن ظهور دعوة دينية هو العامل القمين بتوحيد عصبياتهم ولم شملهم، الأمر الذي يستحثهم على طلب السلطة السياسية. ومثلما تتغذى العصبية من الدين، فإن الدعوة الدينية من دون عصبية قوية تسندها لا تجد سبيلها إلى النجاح.

الدولة وتطورها في علاقة بالعصبية

إن الدولة، وفقا لنظرية ابن خلدون، تحيل إلى "الفترة الزمنية التي يمتد فيها حكم عصبية ما". فهو يعتبر بأن الدولة، كما الأشخاص، تمر بمرحلة الطفولة (طور التأسيس)، ثم الشباب (طور القوة والعظمة)، فالكهولة والشيخوخة (طور الهرم). وتبعا لذلك، فإن العصبية هي سر نشأة وقوة وضَعف الدول، والمقصود هنا بقوة العصبية ليس كثرتها من حيث العدد، بل مدى تلاحمها وانسجام العناصر المكونة لها.

وفيما يخص الطور الأول للدولة، أي مرحلة النشأة والتأسيس، وبالنظر إلى قرب عهد العصبية الحاكمة من حياة البداوة، فهو يتسم بتغليب المصلحة العامة للعصبة الحاكمة على المصالح الخاصة، إذ لا تفرط العصبية في وحدتها وتماسكها، ويَعد الحاكم نفسه مجرد خادم لها. كما تتميز السياسة المالية للدولة - في هذا الطور - بالاقتصاد في النفقات وعدم مجاوزة الحد المعقول في فرض الضرائب والتكاليف المالية على الرعية، مما ينجم عنه كسب رضى الرعية وتوافر المال في خزينة الدولة بفعل عدم الإسراف في النفقات.

وكنتيجة لذلك، تدخل الدولة في طورها الثاني، طور القوة والعظمة، بحيث تلوح بوادر حياة الرفاهية لدى مختلف الفئات الحاكمة والمحكومة، فتسود رقة الحضارة ونعيمها بدلا من خشونة البداوة وبساطتها، والاستبداد بالحكم والمجد من لدن الحاكم وبطانته عوضا عن مشاركة مجموع العصبية، إذ يلجأ الحاكم إلى الاستعانة بالموالي والمرتزقة لتثبيت سلطته، فتعظم بذلك الحاجة إلى الإنفاق نتيجة للإكثار من الاعتماد على الجند، ناهيك بحياة البذخ والترف لدى الخاصة، بما يفضي إلى الزيادة في المغارم والتكاليف المالية على الرعية من عامة الناس وفلاحين وتجار (ضرائب، مكوس...)، مما يولد لديهم الشعور بالنقمة على حكامهم، فتدخل الدولة طورها الثالث، طور الهرم والشيخوخة، والذي يؤذن بزوال وتفسخ العصبية الحاكمة.

وبما أن العصبية والمال هما قوام الدولة (بالمفهوم الخلدوني)، فإن الأخيرة تهرم وتتداعى حين تفسد إحدى تينك الدعامتين، وهنا يبرز تأثير العامل الاقتصادي في بلوغ الدولة طورها الأخير، حين تقع في ضائقة اقتصادية خانقة ناتجة عن زيادة النفقات مقارنة بالمداخيل، فتعجز الدولة ماليًا عن تغطية الحاجات المتعاظمة المتولدة عن حياة الترف والرفاهية، كما تَفسد العصبية الحاكمة بفقدانها لتلاحمها بما هو سر قوتها. وهنا ينتهي ابن خلدون إلى أن الحضارة مفسدة للعمران (يعني بذلك عمران العصبية الحاكمة على وجه الخصوص)، في حين يَقصد بلفظ "حضارة" ذلك النمط من العيش والاستهلاك، القائم على البذخ والترف لدى الفئة الأرستقراطية الحاكمة ومن يدور في فلكها من الموالي والموظفين.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

قراءة في كتاب "آخر المشوار..65عاما صحافةً"

التنقيب والإنتاج والتسويق عمليات كلاسيكية نمطها الإعلام لأبرز نشاطات وزارة النفط  ورسخها في الأذهان، لكن في مشهد تكسرت فيه قيود هذا التنميط بالحضور اللافت لإعلام الصحافة والثقافة العراقية في جناح وزارة النفط في معرض بغداد الدولي للكتاب في دورته الثانية في كانون الأول 2021، في حفل توقيع كتاب "آخر المشوار.. 65 عاماً صحافة" لرائد الصحافة العراقية الأستاذ محسن حسين، أثر تبني  وزارة النفط العراقية نفقات طبع وإصدار الكتاب في دار آنيا للفنون المرئية والطباعية والنشر في لبنان بواقع 208 صفحة من القطع المتوسط .

قبل تقديم قراءتنا وعرضنا للكتاب لابد من الإشارة إلى الدوافع الموضوعية التي دفعتنا لهذا الاستهلال لما أشرنا من نشاط لافت لوزارة النفط في معارض الكتاب الدولية على مستوى الدعم والمشاركة الفعالة دعماً منها للحركة الثقافية والكتاب العراقي. وما هذا الكتاب" آخر المشوار" إلا واحدة من سلسلة المبادرات التي اطلقتها الوزارة بعد عام 2003، والتي شملت رعاية القامات الوطنية (ثروة العراق) في فروع الأدب والتشكيل والموسيقى والسينما والإعلام، وغيرها من مجالات المعرفة ولن يكون كتاب آخر المشوار آخر العهد من الدعم والرعاية، بل سيكون بداية المشوار من أجل غد افضل، هذا ما قد ورد بقلم مدير الإعلام في الوزارة الأستاذ عاصم جهاد في غلاف الكتاب الداخلي.

وبالإضافة غلى تبني الوزارة إصدار الكتاب الذي تزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على تأسيس منظمة الأقطار العربية  المصدرة للنفط "أوبك" وجهت الوزارة الدعوة الرسمية للمؤلف بحضور الاحتفال الرسمي على اعتبار أنه الصحفي الشاهد على جميع الاجتماعات التي سبقت تأسيس المنظمة عام 1960.

قدمت أولى العتبات النصية للكتاب (الغلاف الأمامي) إشارات انطباعية تحاكي مضمونه، أذ يسيطر العنوان الأيقوني  البصري بورتريه كاريكاتيرية لصورة المؤلف بريشة الرسام علي الصميخ، وقد ضخمت مكونات الوجه وبدت عليها ملامح الشيخوخة والهدوء والتركيز في إشارة إلى أنها شخصية جادة شاخت في مشوارها الصحفي ومازالت مراقبة وتنصت باهتمام، وقد تربع فوق الصورة اسم المؤلف والعنوان الرئيسي "آخر المشوار" ودناها من الأسفل العنوان الفرعي "65 عاماً صحافة".

ساح المؤلف في رفوف ذاكرته الصحفية فاستحضر بانتقائية ما استودعت بها من أحداث تركت بصمتها التاريخية على مدار الخمسة وستون عاماً من العمل الصحفي، تفاعل معها ونضدها في كتاب ضم مقالات متنوعة تتسم بالسلاسة اللغوية وجمال الأسلوب الذي يقترب من الوقائع والأحداث والشخصيات بموضوعية تامة.

 يستهل الكتاب بمقال "أحببتها ولو عاد بي الزمن لما اخترت غيرها" يستحضر الكاتب فيها ذاكرته منتشياً من النجاح الذي حققه بعد نيله أول تذكرة ركوب قطار الصحافة الذي انطلق في 14 تشرين الثاني 1956 من محطة صحيفة الشعب إحدى أهم الصحف في العهد الملكي، وعمل فيها إلى جانب الشاعر بدر شاكر السياب كما تعرف إلى كتاب بارزين أمثال الدكتور علي الوردي، ثم انضم إلى أسرة تحرير صحيفة الجمهورية بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالعهد الملكي وأسست النظام الجمهوري، قبل تكليف الزعيم عبدالكريم  قاسم له ولزميله حميد رشيد تشكيل النواة الأولى لوكالة الأنباء العراقية( واع) التي قضى فيها 17 عاماً مديراً للأخبار ومعاوناً لمديرها العام، ومديراً لمكتب القاهرة، وبعد إحالة نفسه إلى التقاعد ألتحق بالعمل في أسرة تحرير المجلة العريقة ألف باء لمدة ربع قرن(25 عاماً) حتى أغلاقها بقرار أمريكي بعد احتلال العراق عام 2003. وبعد هذا الاستهلال ينقلنا الكاتب إلى "100 عام على تأسيس الدولة العراقية" منطلقاً من يوم 23 آب 1921 يوم تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ليوثق بها معلومات عن لحظة تحول العراق إلى النظام الملكي، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بالإضافة إلى ما رافقها من أحداث تشكيل المجلس التأسيسي من زعماء العراق أمثال نوري سعيد ورشيد عالي الكيلاني، وانتخاب السيد عبدالرحمن النقيب أول رئيس وزراء في العهد الملكي.

رغم خلو الكتاب من مقدمة توضح طبيعته، لكن بإمكاننا القول أن هذا المنجز لم يكن مجرد استعراض عابر لثمة أحداث ووقائع، إنما مقالات ستكتسب أهميتها التاريخية مستقبلاً في محتواها الوثائقي لجملة من الوقائع السياسية والثقافية، وشهادات حية على أحداث وشخصيات كانت لها صداها في تاريخ العراق والوطن العربي، وهي أشبه بالمذكرات الصحفية كتوصيف تجنيسي لها، سردت بضمير المتكلم وبضمير الغائب أحياناً لأحداث خاضها خلال مشواره الصحفي، وقد حدد بها تاريخ ومكان الحدث وشحنها بشيء من العاطفة والحوارات ومعززاً سرده بالصور التي غالباً ما وثقت الحدث.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مقاله الموسوم "14 أيلول يوم تاريخي يفخر به العراقيون" والذي وثق فيه دور العراق في تأسيس منظمة أوبك (في يوم 14 أيلول 1960 كان اليوم الختامي لاجتماعات عقدتها خمس دول دامت خمسة أيام في بهو الأمانة في باب المعظم قرب مبنى وزارة الدفاع وقد حضرت جميع تلك الاجتماعات كصحفي في وكالة الأنباء العراقية.. ويعود الفضل في تأسيس أوبك إلى رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت الزعيم عبد الكريم قاسم الذي خاض مفاوضات صعبة ومعقدة مع شركات النفط ..ص31). ويروي محسن حسين في ص43 على شكل حكايات ذكرياته الصحفية عن الرئيس عبدالسلام عارف خلال مرافقته إياه في معظم جولاته الداخلية والخارجية، قبل أن ينتقل في مقاله الموسوم " عبدالرحمن عارف أيام النزاهة والشرف" ليوثق وضع العراق المتمثل بنزاهة الحاكم، والهدوء والأمن مقارنة مع عهود من الاضطرابات التي تلت ذلك الزمان حتى يومنا هذا (عرفت بحكم عملي الصحفي  عبدالرحمن عارف منذ الأيام الأولى لثورة 1958 وكنت أقف جواره لحظة انتخابه رئيساً للجهورية في 16 نيسان 1966 ورافقته خلال فترة رئاسته.. واستطيع القول أنه مثال للإنسان النزيه لم يستغل منصبه ولم يسمح لأفراد عائلته بالحصول على ما لا يحق لهم ..ص52)، كما لم يغفل الكاتب في مذكراته توثيق أحداث 17 تموز 1968 يوم ألقي القبض على رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف وسيطرة حزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر على السلطة وأقصاء الرئيس عبدالرحمن عارف.

وتتسربل اغلب مقالات الكتاب بسربال المقالات السردية والوصفية التي حاول فيها الكاتب تزويد القارئ بتفاصيل أشخاص أو مواقف أو أحداث تاريخية دونها بأسلوب واضح وموجز ومكتنز بالوصف قريب إلى الأسلوب القصصي حتى في الحبكة أحياناً، وقد تجلى ذلك بوضوح في مقال "العشاء الملكي الأخير- بغداد ليلة 14 تموز" الذي سرد فيه ما حدث في القصر الملكي ليلة ثورة 14 تموز 1958(كان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الأخيرة لسفره إلى إسطنبول ثم لندن.. ودخل جناحه الخاص للأشراف  على إعداد حقائب السفر، وبرغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئاً من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات، وبخاصة الأميرتان عابدية  وبديعة.. وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك إليها تطلع إليها ملياً وقد اكتسى وجهه بالوجوم وحاول إخفاء ارتباكه أمام الأميرات..ص21).

ويعرج الكاتب بذاكرته بعيداً عن المحلية إلى لقاءاته المتعددة مع الرئيس اليمني عبدالله السلال ويوثق فيها لقاءه به يوم 14 أيار 1964 في افتتاح السد العالي بحضور الرئيس السوفيتي " نيكيتا خروشوف" والرئيس الجزائري أحمد بن بلا، بالإضافة إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أخذ هو الآخر نصيباً من ذاكراته الصحفية  عنما شغل منصب مدير مكتب القاهرة في وكالة الأنباء العراقية، ويكشف الكاتب في مذكراته للقارئ عن محاولاته التي اصطدمت بالمنع في التعرف كصحفي على تحية محمد كاظم زوجة الزعيم جمال عبدالناصر.

وتنعرج مسارات المقالات عن سياقها بعد أن شدت إلى مسارات التوثيق إلى سياق الطرافة والغرابة في الأيام الدولية العجيبة والغريبة التي يحتفل بها العالم فيما يسمونه باليوم العالمي للـ ( للشاي، والنوم، والمرحاض، الحمار، والعُسر)، بالإضافة إلى مقالاته المبوبة بـ (سؤال بريء) التي تناول بها وضع العراق المعاصر في ظل شبهات  الفساد التي يشهدها في مختلف  مرافق الدولة ويثير فيها الكاتب ما يسميها أسئلة بريئة لكنها تندرج ضمن سياقات التهكم السقراطي القائم على السخرية مع التظاهر بالجهل بطرح أسئلة من شأنها دفع الآخرين في البحث عن الحقيقة.

ثم ما تلبث أن تعود عجلة المقالات إلى مسارات التوثيق عبر توثيق ذاكرته الفنية والثقافية منطلقة من محطة فنانة الشعب فخرية كريم الذي ذكر فيها اللقاء الأول الذي جمعهم ، ويكشف للقارئ بها عن رسالتها إلى الفنان يوسف العاني والتي عبرت فيها عن رغبتها في التمثيل والانضمام إلى فرقة المسرح الحديث وموضحة العقبات التي تواجهها . وفي المحطة الثانية توقف عند الفنانة السينمائية والمسرحية ناهدة الرماحي ووثق فيها  لحظة فقدانها البصر على خشبة المسرح في 10 كانون الثاني 1976 في مسرحية القربان الذي أعدها الناقد الكبير ياسين النصير، ثم يعرج  بذاكرته بلقاءات جمعته بيوسف العاني وسليم البصري قبل أن يختم مقالاته في لقاءه بالفنان جواد سليم قبل عامين من بدء العمل في نصب الحرية موثقاً  شيئاً من سيرته، وإجابته عن المدرسة الفنية التي ينتمي إليها ولحظة وفاته قبل إتمام مشروع النصب.

والى يومنا هذا لم يشيخ رائد الصحافة العراقية  الأستاذ محسن حسين فما زال يواصل مشواره ويمارس الكتابة ويمتع القراء في صحيفة الزمان العراقية والدولية أو عبر صفحته الخاصة  على الفيس بوك، وقد أضاف بكتابه هذا منجزاً إبداعياً رابعاً إلى جانب (ذكريات صحفية، من أوراق صحفي عراقي، صورمن الماضي البعيد) وثق فيها شذرات من تجربته الصحفية الطويلة وما رافقها من مواقف وأحداث على مدار 65عاماً بأسوب وئيد، ونبرة متواضعة ممتزجة  بسماته الشخصية من غير استطرادات طويلة ومملة غالباً ما يقع بها كتاب السيرة الذاتية عند الحديث عن الذات. 

***

صفاء الصالحي

 

كتاب عبارة عن دراسة علمية رصينة من إنجاز الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2011، يتضمن ثمانية فصول موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية (222 صفحة). يذهب الكاتب إلى أن قلة من الباحثين – سواء العرب أو الغربيين – من ركز على البعد السياسي من المشروع النبوي، إذ استأثر الجانب الديني والدعوي بالقسط الأوفر من اهتمامهم، ذلك أن النبي (ص) كان أيضا قائدا سياسيا (ما يميزه عن مجموعة من الرسل) تَوَسل بوسائل السياسة والقوة المادية للتمكين لرسالة الإسلام، وكانت تصدر منه تقديرات واجتهادات سياسية لا تخلو من فطنة وبعد نظر. وهكذا يتحدد موضوع البحث في "تكوين المجال السياسي الإسلامي والموقع التأسيسي للمشروع النبوي فيه". وفي هذا الصدد، لا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بالمشروع السياسي النبوي وعظمة قائده محمد (ص).

وعليه، فقد شغلت المسألة السياسية مكانة مركزية في الإسلام منذ صدره الأول لحاجة الرسالة الدينية إلى سلطان سياسي يرسخ دعائمها، ويوسع من رقعة انتشارها، ويضمن بذلك استمراراها ومنعتها. فما هي مظاهر وتجليات حضور مشروع سياسي نبوي؟

أولا: الوظيفة السياسية للحرب

رغم تشديد البعض على المضمون الديني الصرف للحرب، فإنها تنطوي أيضا على وظيفة سياسية تكتيكية ضرورية لخدمة الهدف الاستراتيجي الديني، مثل إضعاف شوكة العدو (قريش) اقتصاديا وتجاريا لحمله على الدخول في الإسلام، إذ ليس يخفى وجود اعتبارات "سياسية" و"اقتصادية" تفسر تعنت قريش ورفضهم لدعوة الإسلام، تتمثل في الخوف من تضرر مصالحها المادية والتجارية التي تدرها عليها الأصنام والأوثان (القوافل التجارية الكي كانت تفد إلى موسم الحج بمكة... إلخ)، فضلا عن حاجة المسلمين الماسة إلى خوض الحروب من أجل توفير الموارد الاقتصادية الضرورية عن طريق تحصيل الغنائم، باعتبار ضعف اقتصاد المدينة الفقير حينئذ مقارنة بمكة التي كانت تعد قوة تجارية كبرى. ولما كانت "الحرب خدعة" بتعبير النبي (ص)، جرى الحرص على نسف تحالفات العدو إبان الحرب عبر نشر الأخبار الكاذبة المضللة.

ثانيا: التحالفات والمعاهدات

من بين الأمثلة على المعاهدات التي عقدها النبي (ص) التحالف مع القبائل اليهودية بيثرب بعيد الهجرة والتعهد بالذود عن حمى المدينة في مواجهة العدو المشترك، وذلك قبل أن يحدث الصدام المسلح بينهما. هذا بالإضافة إلى ما عُرف ب "صلح الحديبية" مع قريش في السنة السادسة للهجرة. فبرغم معارضة فريق من الصحابة والتابعين لذلك الصلح، إذ رأوا فيه تنازلا دينيا غير مبرر، فإنه حقق مصلحة استراتيجية للمسلمين، الذين كانوا في حاجة إلى هدنة لإعادة تنظيم صفوفهم، وتجهيز جيشهم لتحقيق الغاية الكبرى (النصر النهائي ضد قريش)، بدليل أن النبي (ص) نقضه بعد حوالي سنتين من إبرامه بعد تغير ميزان القوى لصالح الجماعة الإسلامية على نحو لا يخلو من دهاء سياسي وبعد نظر.

ثالثا: وسائل بناء الجماعة السياسية الموحدة

وفي جملتها توحيد القبائل العربية في إطار رابطة دينية جامعة (الإسلام)، دون أن يعني ذلك إلغاء روابط الاجتماع الأهلي التقليدية بشكل مطلق، فقد وظفت الدعوة المحمدية البنى القبلية التقليدية في خدمة الرسالة الدينية (طمأنة سادة قريش على مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم المادية في حال دخولهم الإسلام، المصاهرة كزواج النبي من بنت أبي سفيان رغم أنه كان مشركا قبل إسلامه... إلخ)، لأن دخول قريش الإسلام هو شرط ضروري لإسلام باقي قبائل العرب لما تملكه من نفوذ عليها، الشيء الذي تَأَكد بعد فتح مكة (السنة الثامنة للهجرة).

رابعا: التنظيم السياسي والإداري لدولة المدينة

انبثق نوع من التنظيم السياسي – الإداري "أتى يمثل مشهدا جديدا على عرب لم يألفوا معنى الدولة أو الانقياد لسلطة مركزية في تاريخهم"، بحيث اضطلع بجملة من الوظائف الحيوية للدولة بقيادة النبي (ص) تُسنده طبقة سياسية مثلها كبار الصحابة:

"إن قيادة الرسول لحروب المسلمين، وتكوين جيش مدرب، وإبرام الاتفاقات والمعاهدات، وإحداث المسؤوليات المدنية (قضاة، عمال على الأقاليم... إلخ)، والأمنية (جهاز تجسس غير نظامي)، والسياسية (مجلس الصحابة "المستشارين")... إلخ، مما يقطع بأن نواة نظام سياسي كانت تنشأ في تجربة الإسلام الأول بقيادة النبي"، بالإضافة إلى مظاهر سياسة خارجية مارسها الرسول محمد (ص)، ويستدل الكاتب على ذلك بمراسلات النبي للملوك والأباطرة النصارى والقبائل غير المسلمة.

خامسا: استنتاجات

لعل الكاتب - في تقديري الشخصي - من خلال بحثه المتميز هذا، الذي عززه بدراسة أخرى مكملة له (جزء ثان) سنخصص مراجعة لها لاحقا، يلتمس – ضمنيا – الشرعية للدولة المدنية، فيما يرفض، بالمقابل، نموذج الحكم القائم على الدولة الثيوقراطية التي تدعو إليها تيارات الإسلام السياسي. فالمؤلف ينطلق من حقيقة مفادها غياب تشريع قرآني ملزم بشأن المسألة السياسية، بحيث تُرك المجال للنبي (ص) وخلفائه من بعده للاجتهاد في المسائل السياسية التي تعرض لهم طبقا لما تمليه مصالح الأمة وأحوال العمران. وهكذا ينتهي الكاتب إلى طرح مؤداه أن "مجال السياسة في الإسلام نشأ بعيدا عن أية قداسة دينية مفترضة، لأنه بُني على اجتهاد"، كما يستدل الباحث على موقفه بما ذهب إليه الفقه السني حول الدولة: "الدولة التي أنتجها الإسلام ليست دولة دينية (ثيوقراطية) لأنها – عند أهل السنة "على الأقل" – تقوم على مواضعات مدنية. فالدولة من الفروع لا من الأصول، أي أنها ليست ركنا من أركان الدين".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

تتسلسل الأحداث التي يوثقها محمد السعدي ضمن الحدث الذي وقع، ولكن عندما تتابع مذكراته تصيبك الرهبة للمواقف التي مرَّ بها، والعناصر المندسة التي ساهمت بتغييب الكثير من الرفاق ممن نزل للعمل التنظيمي داخل الوطن؛ أمثال (فالح حسن "أبو بهاء"، وعدنان الطالقاني "أبو هيمن"، وشهاب العميل المزدوج)، ثم ينقلك إلى عمله بعد انفراط عقد الجبهة في منظمة (الصدى)، وأن كان كل توقعي أن هناك منظمة في الفرات الأوسط الوحيد التي استمرت حتى عام 1994م هي (منظمة الحقيقة)، إلا أن منظمة (الصدى) كما سلط الضوء عليها في مذكراته كانت تعمل وفق منهجية و(اشراف آشتي شيخ عطا ابن مدير بلدية كفري وابن أخ مكرم الطالباني، الوزير الشيوعي في فترة الجبهة مع البعثيين ووسيط المفاوضات) ص50، الصدى التي أسست عام 1978-1979 في بغداد، في الأوساط الطلابية في جامعات (المستنصرية وبغداد والتكنولوجية)، وكان عنصر الاتصال مام صالح، وكانت تستنسخ يدوياً بيانات الحزب وتوزع على محافظات العراق وفق منهجية (60 نسخة في كركوك، و250 نسخة في البصرة، و50 نسخة في الحلة) ص87، وكان هذا أول نشاط للمنظمة في شباط 1979م، ونشاط اعضائها بالتحرك باتجاه الشيوعيين المقطوعين الصلة بالتنظيم.

ثم ينقلنا السعدي عبر سياحته في الذكريات ودراسته الجامعية وعلاقاته الرفاقية، ونشره الفكر الشيوعي في الوسط الطلابي، أبان الحرب العراقية الإيرانية، ثم يلقي نظرة على الواقع المعيشي للفرد العراقي وفق عمليات التهجير القسري لما يسمى (بالتبعية الإيرانية) في صفحات مذكراته ص63-74.

في مذكرات السعدي زخم من الأحداث حقبة ثمانيات القرن الماضي، وقد سلط الضوء على عمله الأنصاري مع رفاقه في أكثر من مكان. والمذكرات تتضمن أكثر من (60) محطة، ينقلك من عالم إلى عالم، من عالم قرية الهويدير إلى عالم العاصمة بغداد والحياة الجامعية والبيوت السرية للعمل الحزبي، ثم الانتقال إلى الجبل في السليمانية ورحلة النضال، ومعارك الحركة الأنصارية في قرداغ ودربندخان، ورحلة العذاب في الشعبة الخامسة في بغداد، ثم العودة إلى الجبل، والهجرة إلى إيران ومن ثم التوجه إلى دمشق والاستقرار في مملكة السويد.

أجد محمد السعدي في مذكراته شجاعاً وجريئاً في طرح الآراء والأفكار، وتسليط الضوء على اخطاءه أبان الحركة الأنصارية وندمه كما ذكر ذلك في ص188 قائلاً: (وهنا اسجل نقداً ذاتياً وندماً شخصياً لمشاركتي في استخدام القوة عندما كان أبو زكي (حميد بخش) يحقق مع (أبو بهاء) في وادي (كلي زيوه)، وأنا المكلف بالحماية أثناء جلسات التحقيق اليومية).

فكانت مذكرات الأخ أبو بيدر محطات مهمة في سرد التفاصيل، ولفتات ذكية ومواقف في النقد والنقد الذاتي لأخطاء القيادة، وقد تناول المؤتمر الرابع 1985م بكل تعقيداته وملابساته وانقسامات اعضاء اللجنة المركزية حينما قال السكرتير (اجتمعنا ليُلغي نصفنا النصف الآخر). وقد شخص السعدي من خلال مسيرته النضالية العيوب والثغرات الأمنية التي عانى منها؛ لكنها فتحت أمامه آفاقاً جديدة.

من خلال هذه القراءة البسيطة لمذكرات السعدي أجده استدرج إلى مملكته حروف ابجديته الماركسية من خلال الصبر والتحدي والمطاولة. ومن خلال اطلاعي على ثلاث كتب قدمها للقارئ هي (1-سجين الشعبة الخامسة، 2-أوراق صفراء من الصندوق الأسود، 3-بيني وبين نفسي)، أجد نفسي يخيل لي أني أسمع صوته الخفي المرموز من وراء الصوت الظاهري، وصيحة الحبور في مواقف تصدى لها في سجن الشعبة الخامسة وعلى جبال كردستان، وهو الذي يجبرنا على الاطلاع على تجربته النضالية قائلاً (هاكم اقرأوا تجربتي)، أنه صوته الذي يبادلك الحبور من خلال انجاز تجربته مع الثوار وفي الداخل وفي الاغتراب السويدي، لا لحاجة سوى لنقل تجربته.

أجد نفسي أشعر بالأسى لأني لم اتعرف عليه شخصياً قبل اطلاعي على تجربته النضالية، ومن خلال حروف كلماته تعيد بيَّ ذاكرتي إلى الوراء كوني عايشت حقبة الجبهة وانفراط عقدها عام 1978م، ثم الاعتقال في دائرة أمن بلدة الديوانية، والمراقبة اليومية حتى انتقالي للسكن في مدينة الحلة والهجرة إلى الدنمارك.

شهادة للتاريخ وجدت السعدي من خلال مذكراته ناقداً لكثير من الظواهر والتحالفات التي شهدها الحزب الشيوعي العراقي (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، جود، جوقد)، لكنه لا يفصل عن ما جرى منذ انعقاد عقد الجبهة وحتى انتقاله للمنفى عن السياق التاريخي، والظروف التي أحاطت به، ليس تسويغاً لها وإنما لشرح أولياتها وإيضاح أسبابها حرصاً على حزبه وتاريخه، فهو من النوع الذي لا يجامل في الصح والخطأ، ولديه الشجاعة في قول ما يراه صائباً وفعله، حتى لو خالف اعرافاً كانت سائدة في المسيرة النضالية وربما حاكمة.

لذلك أجد أن الكتابة في قراءة المذكرات الخاصة بالسعدي تحتاج إلى تركيز كبير ودقة، وبخاصة أولئك الذين مروا بمراحل نضالية مختلفة، لذلك اقول أني احترم هذا الرجل حقاً لتاريخه ونبل أخلاقه وعلو مكانته.

أما ملاحظاتي حوله المذكرات، اسجلها بنقاط في حالة الرغبة في طباعتها مرة أخرى:

أولاً: ادراج تأريخ قرية الهويدر.

ثانياً: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقرية.

ثالثاً: العائلة والنشأة والولادة.

رابعاً: التأكد من صحة بعض المعلومات البسيطة في بعض الصفحات وتلافي الأخطاء الطباعية.

خامساً: الابتعاد عن تكرار الأحداث.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

يتحدث ابن الهويدر محمد السعدي عن حياته ونشأته في مذكراته الموسومة (بيني وبين نفسي.. حكايات من أرشيف الحركة الشيوعية العراقية) الصادر عن دار الرافدين في بيروت عام 2021، (397) صفحة من القطع المتوسط. وكان الإهداء إلى شريكة حياته جنان، وتقديم الدكتور عبد الحسين شعبان.

يتطرق السعدي عن تاريخ منظمة الهويدر للحزب الشيوعي العراقي أبان التحالف الجبهوي مع حزب السلطة (1973-1978م)، مسلطاً الضوء على دقائق الأمور والحركة الانصارية في كردستان العراق، من خلال اطلاعي على المذكرات وجدتها وثيقة تأريخية مهمة لحقبة زمنية وثقها السعدي في كتابه هذا.

فمنذ أول الطفولة كان مدققاً في اختيار أصدقائه، حتى أن حدساً ما يسبق الوعي وراء هذا الأختيار، فضلاً عن طبيعته الشخصية وما نشأ عليه من أعراف اجتماعية، تجعل من علاقاته في مرحلة الشباب واطلاعه على الفكر الماركسي ذات طبيعة قد دفعته إلى المطالعة والتثقيف الذاتي.

يؤكد في ص25 من كتابه بأن (الطفولة هي التي تحدد مصير الفرد، وفقاً إلى سيجموند فرويد، فقد ولدت وعشت وترعرعت في عائلة فقيرة مكونة من أحد عشر فرداً، في بيت طيني سقفه لا يقي من الأمطار ولا الأنواء)، فمن خلال ترعرعه في هذه العائلة الطيبة التي خلقت منه إنساناً طيباً محباً للفقراء والمحتاجين، مضحياً من أجل شعبُ حرُ يعيش بأمان وسلام، ربما كانت لبؤس الحياة قد خلقت منه إنساناً حالماً بعراقٍ جميل.

المذكرات عبارة عن موسوعة تاريخية فلسفية أدبية توثق تاريخ ادباء ومثقفي قريته، ومن خلالها يسلط الضوء على المصادر الأدبية والفلسفية التي أثرت على مسيرته الأدبية والثقافية والنضالية، كما يذكر في ص27-28 من ذكرياته قائلاً: (تأثرت بكتابات الرائد الاشتراكي سلامة موسى، ثم جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي، ولكن كان أكثر من ترك أثراً في حياتي آنذاك، هو سلمان الفارسي أحد أصحاب النبي محمد... وهنا شخصية أخرى تركت أثراً في نفسي وفي ذاكرة كل من تمعن في خصالها، إنه أبو ذر الغفاري، لشجاعته وزهده ومواقفه وخصاله الحميدة).

من خلال المذكرات وجدته صادقاً مع مشاعره ومع نفسه في طرح افكاره أو اعترافه بطريقة اعتناقه للشيوعية قائلاً في ص28: (منذ بداية طريقي في الإيمان بالشيوعية، كنت أجهل أركانها الفلسفية والاقتصادية والفكرية، لكنني تأثرت بها عاطفياً، واعتقدت بمثلها الاجتماعية من خلال مناقب الشيوعيين ومآثرهم في قرية الهويدر وما يحملون من مُثل وأخلاق وشجاعة طيبة).

يحمل السعدي من خلال مذكراته اسلوباً أدبياً راقياً، يشد القارئ الكريم في متابعة حروف كلماته، فهو يسيح بالقارئ من خلال اسلوبه الجميل عبر بساتين الهويدر وشاطئها الجميل، ثم ينقلك في ص31 إلى قصص وحكايات القراء الحسينيين أمثال وطن وحمزة الزغير وقصيدته الموالية لحزب السلطة (يا حسين انهضت من أجل العدالة)، ومديحه للبعث وبكر وصدام، لكن في ص32 من مذكراته يذكر معلومة قد غابت عن ذاكرته بنسب أم كلثوم ورقية بنات النبي محمد إلى ابن عمه علي. ثم ينقلنا إلى بداية الوعي والانتماء السياسي ولقاءاته مع المناضل باقر إبراهيم وحديثهم عن متطلبات المرحلة مطلع سبعينيات القرن الماضي ودور الاتحاد السوفياتي في الضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي لعقد التحالف الجبهوي مع حزب السلطة، فيذكر في ص35 رأي إبراهيم بالتحالف قائلاً: (إنها إنجاز وطني وقومي إذ لا بد من التضحية وتقديم التنازلات على حساب المواقف والمبادئ)، لكن بعد تقديم التنازلات ماذا كانت نتيجة التحالف غير إبادة الشيوعيين كما تمت إبادة قياداتهم والقاعدة عام 1963، فقد ذكر في ص36 اعترافات إبراهيم علاوي في كتابه (المقايضة) قائلاً كان (حجم الضغط على الشيوعيين من جانب المركز الأحمر "الاتحاد السوفيتي"، وللأسف لم يؤخذ رأي القاعدة الحزبية في المفاصل الأساسية مثل عقد الجبهة أو الدخول إلى مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال كما حصل عام 2003م).

وفي ص41-42 ينقلنا السعدي إلى عام 1978م والهجمة على القاعدة الحزبية بعد فتح مجال للقيادة للخروج من العراق عبر مطار بغداد وبعلم السلطة، وحينما يسأل السعدي القيادي باقر إبراهيم الموسوي (أبو خولة) حول موقفه من الجبهة: (هل أنت نادم على مشروع الجبهة مع البعثيين؟ أجابني: لم أندم عليها قطّ، بل بقيت عالقة وراسخة في ذاكرتي... لو كانت الجبهة موجودة في عراق معافى سياسياً، لما تعرض شعبنا إلى تلك الحروب والويلات والحصار والطائفية والاحتلال، فضلاً عن أنها عززت من قوتنا جماهيرياً ووسعت رقعة تنظيماتنا. وليس الخلل على مبدأ التحالفات في تاريخ الشيوعيين، بل إن الخلل كان في قادة تلك التحالفات وموضوع الاستراتيجية وجدلية التكتيك)، هذا التفاؤل كان لموقف المناضل باقر إبراهيم الموسوي، لكن السؤال هو هل كانت القيادة تأخذ برأي القاعدة في مثل هكذا قرار استراتيجي مهم قد عرض الحزب إلى انتكاسات متلاحقة؟ علماً أن قيادة البعث كان هدفها من وراء التحالف القضاء على أكبر قاعدة جماهيرية وطنية تمثل الشيوعيين العراقيين.

تتنوع مذكرات الصديق محمد السعدي تنوعاً شديداً في انشغالاته لتوثيق حقبة زمنية مهمة من مسيرة الحركة الشيوعية العراقية، من خلال الفضاءات التي تمتد وتتسع إلى حدٍ كبير لتشمل جانباً شاسعاً من حياته بعد الانتقال إلى الجبل مع الثوار، ليحمل بندقيته ويشارك تجربته في القتال، فينتقل إلى تجربة شديدة الامتداد من تفاصيل الشأن العام السياسي والفكري، فكانت سعة تجربته في الجبل قد تغلغلت عميقاً في وجدانه.

هناك قراءة وملاحظات أخرى مهمة تفيد القارئ الكريم وصاحب المذكرات ستنشر في حلقات قادمة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

حلة 5/12/2023

قرأت كتاب "مسرات القراءة ومخاض الكتابة" للدكتور عبد الجبار الرفاعي فقرأني،كأن نصوصه كتبت لي، هكذا حالي كلما اقرأ نصا فيه. أتذوقه بشهية كبيرة، أتأمله وأتدبره وأتحسس كيفية قراءة وكتابة مؤلفه. أقف عنده، لا أود مغادرة أية صفحة أقرأها، على الرغم من شعوري أن القادم ربما يكون أجمل. هذا كتاب يقرأ القارئ نفسه من خلال سيرة كاتبه. استوقفني في المقدمة رأي للكاتب يقول فيه: "لو فرضت عليّ الأقدار أن اختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب"، يالها من ومضة تلامس الوجدان، وتبهج القلب لفرط عمقها وجمالها. الكتب خاصة ما يكتبه الكاتب بحبر روحه، ويرسم فيها تجربته الثرية،كتب تخاطب العقل مرة، وتلتفت للوجدان مرات، ثم تعرج على الروح لتبث فيها السكينة، وتشبع القلب بالضوء والجمال، هكذا أقرأ كتاب "مسرات القراءة ومخاض الكتابة".

 كيف لي ان أغادر الصفحة الاولى، وكل كلمة وعبارة تسحرني، فترحل بي إلى عالم المعنى. أقف بإجلال هنا أمام هذه العبارة: "أنا كائن لا أطيق العيش بلا منبع للمعنى في حياتي". يالهول الحياة،كل زخرفتها وزركشتها ومتعها وملذاتها تقف حائرة امام الحاجة لإشباع ظمأ الإنسان للمعنى. ما أدق هذه الكلمات، ما زلت بالصفحة الاولى فرأيت الرفاعي يقول: "بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئ كاتبا، غير أن القراءة مازالت تلازمه وتفرض حضورها كأولية على الكتابة". إن هذا النوع من الكتب نحتاج نقرأها عدة مرات لا مرة واحدة.2004 مسرات القراءة

عدد صفحات الكتاب ١٨٢ إلا أن كل صفحة منه تسقي عطش ذاتي، وتروي روحي، وتغذّي قلبي، وتنقلني إلى عالم الضوء والجمال. مكاسب القراءة والكتابة كما يوجزها الرفاعي: "بالقراءة والكتابة استطعت أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كل رؤية عقلانية".كلوحة فنية تفجر ذائقة الجمال الكامنة في عمق روحي وتثير انبهاري، كما رأيت في هذا النص: "تعلمت من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدق من القراءة، استطعت أن أصنع من كلمات مبعثرة معاني ملهمة لحياتي، تعلمت من الكتابة الوضوح، ورسم الحدود بين الأشياء، واكتشاف جغرافيا المفاهيم وخرائطها"، ويضيف الرفاعي: "صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همه المضي في رحلة اكتشاف، صار الطريق فيها غايته لا المحطة". وهو يكتب يعلمنا الكاتب دروسا ملهمة، إذ يقول: "لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينة الروح، ولا بطمأنينة القلب".

كم أود ألا أطيل وأختصر، لكن الجمال الذي تنثره كلمات الرفاعي في نفسي يشدني للوقوف بإجلال واحترام وتقدير لهذه التجربة الغنية، يدلنا الكاتب على طريق الكتابة النوعية بقوله: "الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبة، وشخصية صبورة، مضافا إلى قراءات نوعية متواصلة، وتفكير هادئ، وجلَد على تكرار تمارين الكتابة المملة، وعدم التعجل بالنشر، والتضحية بكثير من متع الحياة الحسية الآنية"، ويضيف: "إذا ازداد علم الإنسان أدرك ان مجهولاته لا حصر لها، وتوالدت تبعا لذلك أسئلته المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباته".

 أخبروني ان هذا الكتاب بإمكاني قراءته بليلة واحدة، قرأت مقدمته فقط، مقدمة بست صفحات، كل عبارة تفتح بعقلي وقلبي وروحي وضميري نوافذ للإلهام، وابوابا لتذوق الجمال الكامن فيها، وللدروس البليغة الحكيمة. احتجت بعد هذه المقدمة وقت لهضم المعاني الكبيرة التي ملأت عقل وتشبع بها قلبي، وتفاعلت في ذهني ثم عاودت لأكمل القراءة.

"يكتب الرفاعي بلغة الشذرات" هكذا وصف كتابته الناقد المعروف الدكتور ناظم عودة في مقالته عن كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، وانا عندما اقرأ كتابات الرفاعي أشعر كأني اقرأ قصيدة نثر. هكذا يركب الرفاعي الكلمات المبعثرة، ليهبنا عبارات ساحرة، وعلامات ترشدنا في درب الحياة للجميل والجمال. ذكرتني هذه النصوص بكلام زميل لي أيام دراستي الدكتوراه في فلسفة القانون العام "كلية الحقوق بجامعة النهرين ببغداد" قبل سنوات عندما كان يقرأ كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي للرفاعي، إذ قال لي: انا أقرأ صفحة كل ليلة، ليس لضيق الوقت، لكن أخشى إن أنهيت قراءتي للكتاب من وحشة فراق عبق نصوصه التي تحلق بي في عالم المعنى، وتروي ظمأ روحي، وتغدق على قلبي الجمال، لكل ذلك لا أود مفارقة هذا الكتاب". هكذا هو حالي مع كتاب "مسرات القراءة ومخاض الكتابة"، لشدة ملامسته لروحي، والتصاقه بشغاف قلبي، وتلقي ذهني لبذوره الممتلئة، اتنقل بين صفحاته بفرح غامر، ووجل خشية أن ينتهي الكتاب، أتقدم بصفحاته وأنا مشتاقة لما مضى منها.

"الوقوع في اسر الكتب، القراءة العشوائية، تبذير العمر بقراءة كتابات تفقر العقل، أن نكتب يعني أن نختلف" وغير ذلك، هي عناوين فصول اشتملها الكتاب، وانضوت تحتها كلمات نسجها الرفاعي من خلاصة تجربته الثرية، وقدمها على طبق من ذهب لقرائه، ليتزودا وينهلوا من معانيها أشهى غذاء. لنقف هنا مع كلماته: "العمر قصير، استنزافه بكتب رديئة يثير الأسى والحسرات حين نستيقظ لاحقا... الكتاب الذي يستلب الوعي يثير الحزن، ويطفئ بداخل القارئ شغف القراءة ومتعتها.كتابات قليلة، وربما نادرة توقظ العقل، وتحدث وعيا علميا بالطبيعة الإنسانية، ورؤية عميقة للعالم". يهبنا الرفاعي خبرته فينسج كلماته ليصنع هذه اللوحة المضيئة في فصل: "الكتابة بوصفها تجربة وجود" العنوان الذي انضوت تحته عبارات مكثفة، منها: "من يعيش الكتابة ويتذوقها بوصفها تجربة وجود تتحقق ذاته بفعل الكتابة بطور أعمق، الصدق في التعبير عن الذات هو البداية الحقيقية للكتابة".

 كأني مع هذا الكتاب أفتح خزانة جواهر، كلما وقعت عيني على ما بداخلها جذب طرفها الآخر ناظر قلبي لأقف باندهاش ونشوة. لأقرأ بتمعن وتأمل ما صاغه الرفاعي عنوانا لافتا في فصل: "غواية الكتابة" كلمات يحذرنا فيها من الكتّاب الزائفين، ممن يؤذون القراء، يهدرون الوقت والعمر في كتابات بائسة، ويزحفون ليحتلون مواقع الكتّاب المحترفين ويصادرونها في كل المنصات. يقول الرفاعي محذرا من هذه الظاهرة الكثيرة اليوم: "صار الهوس بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوين أكاديمي". حين أتنقل بين صفحات الكتاب تارة أتلمس الحس الاخلاقي ودروسه، وتارة أخرى أتلمس الحس الروحي والجمالي فأنتشي بخطابه، وتارة ثالثة يحرك عقلي فيثير المكنون من الأسئلة المطمورة.

"الكتابة بوصفها امتحانا للضمير الاخلاقي" شذرات تختزل دروسا أخلاقية تدعو لضرورة حضور الضمير الأخلاقي للكاتب حالة الكتابة. عنوان آخر يشي بتواضع الكاتب: "أنا مدين لمن يقرأ كتاباتي ". أشعر كقارئه انني مدينة لهذا الجمال والنور والمعنى الذي تتزوده روحي وعقلي وقلبي من هذا الكتاب.

"لا نتعلم الكتابة إلا بالكتابة" يقدم لنا هنا الرفاعي بهذه العبارة التي سطرت كعنوان ضمني وسط صفحة في الكتاب وصفة تغني عن أي دورة لتعلم الكتابة. يختم كتابه بألم الكتابة وجروحها، في فصل بعنوان: "مواجع الكتابة"، وكيف تعرض هو لمرات متعددة من "الأعداء المتطوعين" حسب تعبيره، فيقول: "اتخذت قرارا منذ سنوات طويلة،كان اتخاذه شديدا على نفسي، أن أمزق رسائل الأذى وكتابات الازدراء والهجاء الورقية لحظة تصلني، وأمحو كل ما يزعجني من رسائل إلكترونية.كل شيء يمكن ان يورث كراهية أتخلص منه عاجلا". قراءة هذا الكتاب علاوة على أنها ممتعة، أراها ضرورية للقارئ والكاتب.كتاب "مسرات القراءة ومخاض الكتابة" كأنه لوحة بديعة لفنان معروف، تحكي سيرة قارئ متمرس وكاتب شهير، أوقف حياته للكتابة وقراءة الكتب.

***

د. حميدة القحطاني

  دكتوراه فلسفة القانون الدولي العام

......................

* قراءة لكتاب عبد الجبار الرفاعي: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة".

على سبيل التقديم: لقد كان، وما يزال، هاجس الدكتور سعيد يقطين في كتاب "الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي" هو بناء تصور نظري متكامل للسرد العربي القديم، بحيث يشمل جميع أجناسه وأنواعه وأنماطه المختلفة، وذلك من منطلق "السرديات" التي يعرفها بالقول: "إنها الاختصاص الذي أسعى إلى استنباته وبلورته بالاشتغال بالنص السردي العربي قديمه وحديثه"(1) لذلك ارتأى أن نقطة الانطلاق في تدشين أرض لا تزال بكرا رغم الجهود المبذولة من قبل الباحثين، ستكون هي السيرة الشعبية، واختيار هذه الأخيرة لم يأت بمحض الصدفة، وإنما لكونها ذات خصوصية؛ إذ نصها "تجسيد لمختلف التمثلات الوجودية والذهنية العربية، للذات والآخر"(2). فهي نص ينتمي إلى "قطاع واسع من الإنتاج الثقافي العربي الذي ظل مهمشا، ومغيبا من دائرة البحث والاهتمام"(3). هذا، علاوة على كونه نصا متفاعلا مع المجتمع العربي تفاعلا يوميا وتاريخيا، كما أنه نص منفتح على روافد أخرى للثقافة العربية.

أما فرضية الاشتغال على السرد العربي القديم متمثلا في السيرة الشعبية، فقد حصرها في فرضين؛ أولهما يتعلق بكونها "نوع(ا) سردي(ا) عربي(ا) له خصوصيته المميزة، وثانيهما كونها نصا ثقافيا متفاعلا مع انشغالات وهموم وتطلعات الإنسان العربي، ومن ثم نفي كونها " ملحمة، قصة بطولية...".

وهكذا، سنقف عند أهم القضايا التي تناولها الدارس في هذا الكتاب منطلقين من:

- تأطير: من أجل تصور متكامل لدراسة السرد العربي

ينطلق الدارس من القول "إننا، كما نفكر في ذواتنا نفكر في تراثنا وتاريخنا الحضاري والثقافي. وكما نقرأ ماضينا "نقرأ" مستقبلنا. وكما نفهم ذاتنا نفهم الآخرين حولنا"(4)، ليربط التفكير في التراث بالتفكير في أوضاع الذات العربية الراهنة والمستقبلية في علاقتها بهويتها وبالآخر. وأن هذا العكوف على دراسة التراث لا بد أن يبدأ "مما هو كائن بالقوة والفعل في واقع الحال"(5). كما أن التعامل مع هذا الكائن، أي تراث الماضي، لا ينبغي أن يكون من منطلق "التقديس واتخاذ موقع المدافع، أو على العكس من ذلك: عدم المبالاة أو الرفض"(6). فالتراث، في نظره، مثل ألبوم صور العائلة؛ إذ لكل فرد من أفرادها تصور وتأويل ونظرة لتلك الصور، وهكذا موقف دارسي التراث أمامه، فمنهم مقدس، ومنهم رافض له، ومنهم طرف ثالث يتخذ بين ذلك سبيلا...وهذا ما دعا الدارسَ إلى "اتجاه التفكير في إعادة النظر في تلك الصورة-التراث"(7). بيد أن هذه العودة للنظر في التراث "تنطلق من الأسس العلمية"(8). لكن ما مؤاخذات الدارسِ على التصورات السابقة؟ وبم تمتاز دراسته عن سابقاتها؟

يرى الدارس أن التصورات السابقة لم تتسلح بترسانة علمية تمكنها من تفكيك بنيات التراث العربي، كما أنها لم تكن مرتبطة ووثيقة الصلة بتطلعات الإنسان العربي المستقبلية. ومن ثم فإن الجواب عن السؤال الثاني نلمسه في قوله "نسعى إلى قراءة التراث بأدوات جديدة، وبأسئلة جديدة، وبوعي جديد، ولغايات جديدة"(9). فهذه القراءة تسعى إلى البحث في البعد السردي في التراث العربي، فما السرد من منظور يقطين؟ وما حده؟

ينطلق يقطين في تعريف السرد باعتباره "فعلا لا حدود له" من تصور رولان بارت له، فهو من منظور بارت موجود في كل مكان، في كل الأشكال التعبيرية المختلفة عبر العصور المتعاقبة. أما هدفه من دراسة السرد العربي فهو: دراسة السيرة الشعبية باعتبارها جزءا بغية الوصول إلى معرفة أعمق وأشمل بالتراث العربي من جهة، ومن ثم ستمكننا دراسة الجزء من ملامسة الكل الذي ينتمي إليه ملامسة حقيقية بسبب نوع الوشائج التي تربطه بذلك الجزء المدروس"(10) من جهة ثانية. وبالتالي؛ نتساءل: هل دراسة "سرديةِ" السيرة الشعبية كفيلة بأن تقدم لنا تصورا شاملا لهذا الكل "السرد العربي"؟ ما المقومات التي تجعل من السيرة الشعبية نموذجا مسعفا في تقديم إدراك حقيقي وعميق للكل؟ وما محل مقولة الاختلاف في المأثورات "السردية" العربية من تصور سعيد يقطين النظري؟

يقول موضحا أهمية دراسة الجزء "وبانطلاقنا من الجزء (النوع) تفصيلا وتحليلا، فإننا ننشد الكل (الجنس)، ونريد أن نلامس العام (التراث)"(11). وخصوصية السيرة الشعبية، حسبه، تكمن في كونها خطابا سرديا له مميزاته إن على المستوى الصرفي أو النحوي أو الدلالي. كما أنها نوع سردي يحوي مختلف الأنواع والأجناس التعبيرية (كالرواية التي تحفل بهذا التعدد الأجناسي والأنواعي والنمطي)، علاوة على كونها متعالية عليها.

وهكذا، سنجد الدارس يستلهم مفاهيم وتصورات السرديات الحصرية لجنيت؛ إذ يتجاوز الوقوف عند البنية النصية، وإنما ينتقل إلى التعالقات النصية داخل الجنس الواحد، فضلا عن التعالقات الأجناسية والخطابية المختلفة التي يتعالق معها النص السير شعبي. وفي هذا تتحرك دراسته بين البنيوية والسرديات المفتوحة. ولعل هذا الاختيار يعزى إلى طبيعة الموضوع الذي حدد المنهج. ومن ثم، فإن طبيعة موضوع الدراسة الكمية (عدد الصفحات التي يشغلها كل نص سير شعبي) دفعت الدارس إلى حسبانها ميزة للسيرة الشعبية تميزها عن باقي الأنواع السردية وغير السردية؛ ما دامت السرديات منفتحة" على السرد حيثما وجد، بسبب نوعية الترابط الحاصل"(12). لذلك يشير إلى مرجعيته النظرية التي تكونت لديه من خلال متابعته ومواكبته لكل ما استجد من اجتهادات في الأدبيات الأجنبية.

يُطرح، بهذا الصدد، تساؤل مفاده: هل سيتعامل الدارس مع هذه التصورات الأجنبية تعاملا حرفيا؟ وهل خصوصية الموضوع المدروس البنيوية والثقافية تستوعبها الاجتهادات الأجنبية؟ أم أن الباحث المغربي يتصرف في هذه التصورات: نقدا، وتفكيكا، وتحليلا وتثويرا وتعديلا، حتى تتلاءم مع طبيعة الموضوع وخصوصياته وسياقاته التاريخية والحضارية؟

يبدو جليا أن هناك اختلافا في تعامل يقطين مع التصورات الأجنبية؛ فلئن كانت السرديات البنيوية لا تبرح بنية النص، فإن تصوره لها يجعلها متفاعلة مع "نظريات النص" و"جماليات التلقي"، ومن ثم يضيف إلى تقسيمه إياها إلى: السرديات الحصرية (سرديات الخطاب)، والسرديات التوسيعية (سرديات النص)، تقسيما آخر من نوع "سرديات التفاعل النصي" و"سرديات التلقي"، ويتسع مجال الاشتغال في هذا الاختصاص ليشمل "السرديات الاجتماعية" أو "السرديات الأنتروبولوجية" أو "السرديات النفسية".

- الفصل الأول: النص واللانص في الثقافة العربية

يستهل الدارس هذا الفصل بمناقشة غموض مفهوم "التراث" مستبدلا إياه بمفهوم "النص"، ومرد ذلك، حسبه، إلى كون "النصية" خاصية جوهرية في النص ثابتة"(13)، كما أنها، من بين ما تتميز به، متعالية على الزمان وأن ما يتغير هو تجلياتها ومظاهرها المتفاعلة مع عنصر الزمان. وهنا نتساءل قائلين: التراث، من منظور الدارس، عام وشامل، ويضم كل ما هو مكتوب ومحكي، وقد يضم المعمار وغيره، ومن هنا طبيعته الفضفاضة بله ما يتحكم فيه من أدلوجات متباينة، ولكن هل استبداله ب"النص" يعني أن هذا الأخير يضاهيه في السعة والشمول؟ هل يمكن، مثلا، أن نقول "نص المعمار"، ونقصد بالمعمار هنا معناه المتداول، و"نص الآثار" و...؟

إن هذا الاستبدال بين المفهومين يحيل إلى محاولة تضييق التراث في بعده النصي الكلامي (مكتوب وغير مكتوب)؛ أفلا يخالف هذا ما ذهب إليه الباحث من أن النص "أقل إيحاء إلى البعد الزمني"(14)؟ وهل بمقدورنا عزل النص ونصيته وتجلياتها عن الزمن؟ هل "النصية" فعلا متعالية عن التغيير؟ أم أن تغييرها يكون عبر طفرات؟ عبر تحولات خفية لا تكاد تبين إلا وتختفي؟

ومن جهة أخرى، يضع الدارس مفهوم "الكلام" محل مفهوم "النص" نظرا لكون الأول واضحا وشبه محدد في الثقافة العربية النقدية القديمة. فما طبيعة هذا الكلام الذي يقصده الدارس؟ وما مدى إجرائيته؟ موضوعيته؟ وما حدوده وضوابطه؟

تتحكم في "النصية" التي تميز النص عن اللانص اعتبارات جمالية وثقافية اجتماعية، مما يشير إلى أن البعد الجمالي الفني في النصية لا ينفصل عن شروط وضوابط الثقافي الاجتماعي. وفي هذا السياق، تطرق الدارس إلى فرضية تحول اللانص إلى النص، لكنه لم يوضح، بشكل بين، عملية تحول "اللانص" إلى "النص"، ولا بأي مستوى تتم: هل على مستوى الشكل (التعبير) أم على مستوى المحتوى (المضمون)؟ ولئن كانت شروط النصية مرتبطة بالقيم الجمالية والثقافية السائدة في فترة ما، ومعنى هذا أن معايير النصية(15) تختلف في كل حقبة زمنية، فهل يمكن أن نعد ما كان نصا في القرون الهجرية الأولى "لا نصا" في حالنا الراهنة؟ بمفهوم النص المتداول في لسانيات النص؛ ومرد ذلك إلى التغيير الذي حدث في الفكر والذوق والثقافة والمجتمع في العالم العربي.

لكن "النص" في الثقافة العربية يكاد ينحصر في القرآن الكريم، باعتباره نصا نموذجا في المنظور العربي، قديما وحديثا، وهذا ما جعل المفكر المعاصر المصري، حامد نصر أبو زيد، في كتابه "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" يقرُّ أن الحضارة العربية حضارةُ نص، وذلك يعزى لمركزيته في الأدبيات الثقافية العربية والإسلامية.

- الفصل الثاني: السيرة الشعبية والبحث المحجوز

بدأ الدارس هذا الفصل بمناقشة أسباب ثلاثة مركزية أدت إلى إعادة النظر في السيرة الشعبية واتخاذها موضوعا للدراسة والبحث، ومن ثم تحولها من "اللانص" الذي قضى ردحا طويلا في الهامش المنسي إلى "النص" الذي يستأهل الاهتمام والبحث. لكن ما نلاحظه على هذه الأسباب المعروضة أنها ذات بعد أدلوجي (الرد على تهم المستشرقين للعرب) وسياسي (التحرر القومي، وبروز مفهوم "الشعب" مع ظهور الأحزاب...)، ولم تكن الأسباب فنية جمالية محضة، وإنما تظهر الأدبية على هامش اهتمامات الدارسين للسيرة الشعبية العربية للأسباب التي وقف عندها الدارس.

وفي سياق تحديد ماهية ونوعية السيرة الشعبية كما تعامل معها الدارسون العرب، أقر الدارس أن سبب الاضطراب والخلط في التسمية يعود إلى سياق التعامل مع السيرة، وهذا قد أكده من خلال الشواهد التي قدمها، لكنا نرى إلى أن هناك عاملا آخر قد ساهم بدوره في هذا التعدد إلى درجة الاضطراب في ماهية السيرة ونوعيتها هو عامل المثاقفة مع الغرب، فهذا الأخير لم تربطنا به علاقة الصراع وحدها، بل إن كل مستجد ظهر في الغرب، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، يدفع باحثينا ومثقفينا إلى التقوقع والانكماش على الذات والعودة إلى التراث بحسبانه، من منظورهم، ذلك المخزون الذي يضم كل ما قيل وما سيقال، لذلك نلفيهم كلما ظهر جنس أدبي حديث في الغرب عادوا إلى التراث ينبشون ليثبتوا أن العرب قد عرفوا هذا الجنس أو النوع أو النمط قديما، لذلك نجدهم يطلقون تسمياتٍ متعددةً على المدونات الأدبية العربية في كل مرحلة اصطدموا بالآخر (الغرب) ثقافيا. وهذا ما نجد الباحث قد خلص إليه: "لقد استخدمت السيرة الشعبية للبرهنة على أن التراث العربي "متكامل" يستوعب مختلف الأجناس الموجودة عند الغربيين، من جهة، وأن "الخيال" العربي لا يتضاءل عطاؤه أمام ما هو موجود في التراث الغربي"(16).

- الفصل الثالث: تساؤلات حول الكلام العربي

يقترح الدارس مفهوم "السرد العربي" بحسبانه "جنسا" تنضوي تحته الأنواع السردية التي أنتجها العرب قديما وحديثا.  أما فيما يخص مفهوم "الأدب" فإنه يقر على أنه لم يكن مستعملا عند العرب باعتباره جنسا أكبر، وإنما كانوا يعدون "الكلام" جنسا جامعا لكل "الممارسات اللفظية الفنية"(17)؛ "من الخبر إلى السيرة الشعبية"(18). وبعد وقوف الدارس على نماذجَ من المؤلفات النقدية البلاغية والمصنفات الجامعة اللتين تعرضان إلى "الكلام" و"أقسامه" و"صفاته" يخلص إلى أن بناء تصور متكامل للكلام العربي لا مناص له من الاستفادة من هذين النوعين من المؤلفات فضلا عن التركيز على النصوص.

- الفصل الرابع: الجنس والنوع في الكلام العربي

يبسط الدارسُ، في هذا الفصل، تصوره النظري للإحاطة بالأجناس عامة، والكلام العربي خاصة، في شموليتها وفي بعدها الكوني. وذلك من خلال تصوره الثلاثي المفاهيم: "المبادئ"،"المقولات"، "التجليات". ف"المبادئ" عنده "هي الكليات العامة المجردة والمتعالية عن الزمان والمكان"(19).

يحصرها في ثلاثة مبادئ هي: أ. مبدأ الثبات الذي يعين على تحديد "العناصر الجوهرية"(20) في الشيء؛ ب: مبدأ التحول، ما يلحق "الصفات البنيوية للشيء"[1] التي تتحول "بفعل الشروط المحيطة بها"[2]؛ ج. مبدأ التغير، وهذا يتصل بطبيعة التغيرات التي تخضع لها الأشياء والظواهر في حقبة زمنية معينة فضلا عن تفاعله مع غيره من النصوص. ثم "المقولات" وهي "كليات من درجة ثانية ومتحولة. وأقصد بها مختلف التصورات أو المفاهيم التي نستعملها لرصد الظواهر ووصفها" (23).

وهذه المقولات الثلاث هي: أ.الثابتة (مبدأ الثبات)، ب.المتحولة (مبدأ التحول)، ج.المتغيرة (مبدأ التغير). وهكذا تكون الأولى مرتبطة ب"الجنس"، والثانية ب"النوع"، والثالثة ب"النمط". وبعد ذلك يتدرج ليربط هذه المبادئ والمقولات ب"التجليات" النصية، أو التحققات النصية، لتنقسم بدورها إلى:أ- تجليات ثابتة، والتي يحددها بما أسماه جنيت ب"معمارية النص" هذه المعمارية التي تتعالى عن الزمان والمكان وتحدد نوع النصوص المتفاعل معها، ومن ثم جنسيتها. ب- تجليات متحولة، وهي التي يحصرها في "التناص" بمختلف أشكاله، ومن خلال التفاعل النصي يحصل النص على "نصيته"، ما "يمكننا من خلال اعتماد قراءة تاريخية من خلال هذا التجلي النصي أن ننظر في التحولات النصية، وبالأخص على صعيد النوع"(24). ج- تجليات متغيرة، ويدخل فيها أنماط التفاعل النصي التي حددها جنيت: "المناص" ويتصل ب"المناصات الخارجية" (العنوان، الجنس...) مرتبطة ب"معمارية النص"، والتعلق النصي بين نصين أحدهما سابق والآخر لاحق، و"الميتانص" وهو المتعلق بالنص النقدي الواصف للنص الإبداعي، أو اللغة النصية الواصفة، وهذه التجليات "تأتي لاتخاذ موقف من النص بصورة من الصور"(25)، والتي يدرج ضمنها "المحاكاة"، و"التحويل"، و"المعارضة".

كانت للنقاد العرب القدماء اجتهاداتٌ في هذا الصدد في ظل ما سموه السرقات الشعرية بشتى أنواعها وتجلياتها في القصائد الشعرية لم يتطرق إليها الدارس.

فعن طريق هذه "المبادئ" و"المقولات" و"التجليات" يربط الدارس "الكلام العربي" بالتغير(النمط)، و"اللسان العربي" بالثبات (الجنس)، و"اللغة العربية" بالتحول (النوع). لكن لا ننس أن "الكلام" يتكون من"الجنس" و"النوع" و"النمط". وباستعمال مفهوم "الصيغة" (mode) الإجرائي كما وظفه جنيت يخلص الدارس إلى أن ل"الكلام العربي" صيغتين هما: القول والإخبار، وهما صيغتان مرتبطتان بزمن الكلام. وبما أن الدارس يرى إلى نسبية نظرية الأجناس، فإن تداخل النصوص العربية بأجناسها الثلاثة: الشعر، الحديث، الخبر، يمكن الحسم في جنسية كل نص وتصنيفه من خلال "اعتماد مبدأ الهيمنة، واشتغال الصيغتين (القول والإخبار)"(26).

وفي مساق الحديث عن "السرد العربي" باعتباره جنسا يضم أنواعا وأنماطا، ينطلق الدارس من "القصة" بحسبانها، في الخبر، متصلة بالثبات، والتحول يرتبط ب"الخطاب" بصفته طريقة تقديم القصة، وهذا التقديم يختلف باختلاف الأنواع. والتغير يتحدد ب"النص" ويقصد به الغايات والأغراض التي يتغياها مرسل الخطاب السردي.

- منهج الدراسة:

ونصل إلى الحديث عن المنهج المعتمد في هذه الدراسة، والذي يشير الباحث إلى أنه يتبنى "المواءمة العلمية" la partinene sientifique  بين الذات والموضوع كما حددها كارل بوبر، ومن ثم نقضه "المواءمة الاجتماعية" التي يتحكم فيها البعد الأدلوجي وأبعاد أخرى. وهكذا يمكننا القول إن منهج الدراسة منهجٌ حجاجيٌّ يقوم على التحليل والنقد والمناقشة فالتركيب من خلال استخلاص النتائج التي يلمح إليها اختصارا في البدء.

- على سبيل الختم:

من خلال قراءتنا للدراسة نخلص إلى:

- نقد التصورات والدراسات السابقة التي اتخذت التراث العربي موضوعا لها؛

-توسيع مجال السرديات لتنتقل من طبيعة الخطاب "في ذاته" إلى النص بحسبانه متفاعلا مع نصوص أخرى، أدبية وغير أدبية؛

- فإلى جانب السرديات الحصرية والسرديات التوسيعية، هناك سرديات خاصة مرتبطة بالخطاب من حيث نوعيتُه وتاريخيتُه، وسرديات مقارنة "تسعى إلى البحث في التجارب السردية المختلفة باختلاف التجارب الإنسانية"(27). وأخرى عامة وهي المرتبطة بالنص، إلى جانب "سرديات التفاعل النصي" و"سرديات التلقي" و"سرديات اجتماعية، وأنتربولوجية ونفسية". وفي هذا المساق يوضح أن"تصور السرديات بهذا الشكل أملاه علي واقع النص السردي العربي، فهو من الغنى والتنوع بحيث لا يمكن لاختصاص واحد أن يقاربه في مختلف تجلياته"(28)؛

- أشار جنيت في مقدمة كتابه"الحكاية: خطاب في المنهج" إلى أنه سيجعل العام (النظرية) في خدمة الخاص (الرواية البروستية) مع إقراره بأن العام يكمن في الخاص، فضلا عن صعوبة الفصل بين هذين المستويين من التحليل. ولعل يقطين قد خالف هذا التصور في دراسته هذه؛ إذ إنه حاول، من خلال توسيعه لاختصاص السرديات، أن يجعل العام (التصور النظري) خادما ومطاوعا لطبيعة الخاص (السيرة الشعبية)، ويعزى هذا إلى كون إسقاط النظري على التطبيقي بمثابة اشتغال حرفي من جهة، وإلى كون الهم النظري والتنظيري محوريا لدى يقطين(29) من جهة ثانية؛

- اعتبار النص العربي "نصا أكبر، فهو كل متكامل"(30). وما يمكن وجوده من نصوص عربية فهي تجليات له، وأجزاء ليس بمقدورها منفردة أن تحدد هذا الكل. وبكونه كلا (غير قابل للتقسيم إلى "نص" ولا نص) يعطي للدارس مشروعية دراسة ما عدَّ مهمشا ومغيبا في التقاليد الأدبية النقدية والثقافية؛

- مناقشة المنهجية المتبعة في الدراسات والبحوث الجامعية وغير الجامعية العربية، واعتبارها غير متجاوزة لبنية تقليدية في البحث العلمي، كما أنها لم تخلُ من الطبيعة السجالية في دراستها للسيرة الشعبية؛

- التدرج في تشغيل المفاهيم الإجرائية: من "التراث" إلى "النص"، ومن "النص" إلى "الكلام" ومن "الكلام" إلى "الكتاب" ومن "الكتاب" إلى "المجلس" ومن "المجلس إلى "النص"؛

- حصر الكلام العربي في ثلاثة أجناس كبرى: الشعر، الحديث، الخبر؛ لأنها " تستوعب كل كلام العرب، وتبعا لذلك تغدو متعالية على الزمان والمكان"(31)، فضلا عن الوقوف عند "أنواع الخبر" و"أنماطه" ضمن المقولات والمبادئ.

***

محمد الورداشي

....................

- الإحالات والهوامش:

1- سعيد يقطين: الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي، المركز الثقافي العربي، ط1: 1997، ص22.

2- نفسه، ص9

3- نفسه ص8

4- نفسه ص15

5- نفسه ص16

6- نفسه ص 16.

7 - نفسه ص17.

8 - نفسه ص17.

9 - نفسه ص18

10 - نفسه ص20

11 - نفسه ص20.

12 - نفسه ص24.

13 - نفسه ص49.

14 - نفسه، ص48.

15- نجد معايير النصية لدى يقطين تختلف، بشكل من الأشكال، عن معايير النصية لدى المشتغلين بلسانيات النص"هاليداي ورقية حسن: الاتساق في اللغة الإنجليزية"، "فان ديك: النص والسياق"، "دي بوغراند: النص، الخطاب، الإجراء.. وفي هذا الكتاب حدد معايير النصية في سبعة معايير: الاتساق، الانسجام، المقامية، المقبولية..إلخ.

16 - الكلام والخبر، ص122

17 - نفسه، ص133.

18 - نفسه، ص136.

19 - نفسه، ص181

20 - نفسه، ص181

21 - نفسه ص181

22 - نفسه ص181

23 - نفسه ص182

24 - نفسه ص186

25 - نفسه، الصفحتان: 186-187

26 - نفسه ص193

27 - نفسه ص26

28 - نفسه ص32

29 - يُنظر الصفحة 33.

30 - نفسه ص65.

31 - نفسه ص194

حول كتاب: ميشيل بوردو[2]، نهاية اليوتوبيا الليبرالية. مدخل نقدي لفكر فريدريك هايك[3]،

بقلم: منير زكريتي[4] في 23 نوفمبر

ترجمة: أ. مراد غريبي

***

قدم حايك دائما إعادة تأسيسه لليبرالية كفكرة فاضلة، تستند إلى فكرة نظام اجتماعي عفوي وذاتي التنظيم، ضد أوهام العدالة الاجتماعية.

إن نهاية اليوتوبيا الليبرالية لها ميزة في فهم هايك، مساره وعمله من زاوية أصلية وشاملة وداخلية، باتباع فكر هايك خطوة بخطوة. لا يمكن تعريف هايك على أنه اقتصادي بسيط، ولا حتى منظر بسيط لليبرالية: فهو في الوقت نفسه مفكر نظري ولكنه أيضا مناضل لا يمكن فهم عمله دون الأخذ في الاعتبار عداء فريديريش هايك للاشتراكية والتخطيط الاقتصادي، وكذلك للمفهوم المرتبط بهما.  وهي العدالة الاجتماعية.

كان هايك أيضا فاعلا في التاريخ وناشطا ساهم في تجديد الأسس النظرية والمعرفية لليبرالية، مما ساعد على صياغة مصفوفة ما يسميه العلماء اليوم "النيوليبرالية". من ندوة ليبمان (Lippman ) إلى لجنة الفكر الاجتماعي في شيكاغو(Committee for Social Thought à Chicago ) ثم جمعية مونت بيليرين (Société du Mont-Pèlerin). يقترح الكتاب مقاربة عمل وفكر فريديريش هايك من خلال تقديم المفاهيم الأساسية التي تجعل من الممكن إعادة تشكيل القواعد النظرية والإطار المعرفي لليبرالية الكلاسيكية من خلال جدول بانورامي متماسك، مع مفهوم التقسيم الاجتماعي للمعرفة والجهل كتعريف للفردية والتعقيد وقبل كل شيء النظام العفوي الذاتي المولد  المعروف على أنه "نظام منظم معقد"، من خلال ذكر العلاقة بين النظام التلقائي والتطور على وجه التحديد، والتي ستكون أفكارا "توأم" أو موازية. في الواقع، يتتبع ميشيل بوردو، ليس بدون سعة الاطلاع، نشأة وهيكل الليبرالية التقليدية والتطورية الهايكية من النصوص التأسيسية الأولى مثل الاقتصاد و المعرفة (Économie et Connaissance 1937)، إلى كتاب الحق، التشريع والحرية  Droit,Législation et Liberté 1973-1979))، إنه تأليه لعمل سياسي حقا، وإن كان متعدد الأبعاد.

هايك ضد الليبراليات

إذا كان الكتاب يقدم تقنية معينة ضرورية لتدقيق الموضوع، فإن جميع المفاهيم تم تعريفها وشرحها، ثم  المخاطبة  بطريقة مقروءة لجمهور واسع، مع صعوبة رئيسية تتمثل في الكثافة المفاهيمية الكبيرة. ومع ذلك، فإن التمرين ناجح لأنه ليس فقط "مقدمة نقدية" لفكر هايك الذي يقدمه، ولكنه أيضا ملخص للمفاهيم الرئيسية ودليل للقراءة. ثم يؤكد الكتاب على اليوتوبيا كإستراتيجية وكفلسفة سياسية في أعمال ف. هايك من عام 1947 فصاعدا ونشر نص المثقفين والاشتراكية:

من أجل مواجهة الاشتراكية وهزيمتها وفقا لهايك، من الضروري اللجوء إلى المثقفين، هؤلاء "مقاولي الأفكار"، أو رواد الأفكار، ونشر الأفكار النيوليبرالية، أو بالأحرى الأفكار "الليبرالية الأصيلة"، في شكل يوتوبيا لإقناع الجماهير التي تعتبر مرنة، ثم الحكومات لوضع "قواعد السلوك العادل" اللازمة لظهور "catallaxis"[5] وحسن سير عملها.  أو النظام الاقتصادي، الذي يجب أن يكون نموذجا و منظومة للمجتمع ككل، مما يدل على الاقتصاد الشامل الهايكي.

هذه كلها أجهزة من المحتمل أن تخلق "المجتمع العظيم"، مدعية أنها في تقليد آدم سميث وكارل بوبر، وبالتالي إعادة إنشاء فلسفة التاريخ بأفق غائي، دون أن يكون من الممكن دائما التمييز بين الطابع الوصفي أو الإيجابي، والطابع المعياري أو التوجيهي: إذا كان النظام التلقائي "مرادفا" للتطور أو إذا كان نتاجه، وإذا كان "عفويا"، فلماذا تأسيس جمعية مونت بيليرين؟  وكتابة كتاب مع الدعوة لإدخال قواعد السلوك الصحيح والقانون لتعزيز ظهور "المجتمع العظيم"؟

وهكذا، في نص عام 1949 المثقفون والاشتراكية، يمكننا أن نرى أن هايك يعتبر الليبرالية يوتوبيا، كإستراتيجية سياسية وكعقيدة أيديولوجية. من خلال كتاب ميشيل بوردو، ندخل مباشرة في فكر هايك بطريقة نقدية، من خلال تزويد أنفسنا بالأدوات التي تسمح لنا بفك رموز العالم السياسي والاقتصادي المعاصر، ولاسيما الأطروحات الأوروبية، وكان تأثير أفكار هايك واسعا جدا في الدوائر الليبرالية وخارجها. يذكرنا ميشيل بوردو بالتمييز الضروري بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية. شكلان أو بعدان من الليبرالية متميزان ولكنهما مرتبطان. تسبق الليبرالية السياسية الليبرالية الاقتصادية كفكر وأيديولوجية، وكانت الليبرالية السياسية تدور حول الحد من السلطة السياسية وإنهاء إساءة استخدام السلطة من خلال تعزيز حقوق الأفراد. و مع ذلك، فإن الليبرالية الاقتصادية لها أهمية سياسية فورية: ينظر إلى أي إجراء من قبل الحكومة على أنه تدخل غير ضروري أو حتى ضار. لكن اليمينيين (Whigs )  في القرن الثامن عشر كانوا حمائيين، ونحن نعلم أن الليبرالية الاقتصادية تكيفت بشكل جيد للغاية مع الديكتاتوريات العسكرية. لذلك من المهم التأكيد على أن هايك يدافع قبل كل شيء عن الليبرالية الاقتصادية، التي تتخذ من اقتصاد السوق نموذجا للحياة في المجتمع مع التعبير عن "مراقبة السوق للدولة وليس الدولة التي تراقب السوق". يعرف هايك نفسه بأنه ليبرالي وليس نيوليبرالية للإشارة إلى التقاليد الليبرالية التي يقدمها على أنها أصيلة من أجل "الاستفادة من المكانة المرتبطة بها".

هذا هو أحد الأبعاد التقليدية للهايك، بصرف النظر عن حقيقة أن قواعد السلوك الصحيح هي نتاج التقاليد التي يجب تعديلها بشكل هامشي فقط باسم الحفاظ على آليات النظام التلقائي التي تم إنشاؤها ذاتيا. تجدر الإشارة إلى أن هايك وأتباعه ينخرطون في شكل من أشكال "إعادة كتابة تاريخ الليبرالية التي تتجاهل الصراعات بين الأشقاء التي ربما خاضها مختلف أعضاء العائلة الليبرالية العظيمة" (ص 17).

وبالتالي، سيكون من الحكمة ملاحظة أنه بينما شن هايك علنا معركة سياسية ومعرفية وأيديولوجية ضد الاشتراكية والتخطيط بجميع أشكالهما، كان يشن أيضا صراعا ضد كينز، الذي هيمنت نظريته العامة إلى حد كبير على دوائر الاقتصاديين والمثقفين في كامبريدج. ومع ذلك، أطلق كينز على نفسه أيضا اسم ليبرالي ويمكن اعتباره كذلك في العائلة العظيمة من المفكرين الليبراليين.كما أعلن ف. هايك شكلا من أشكال الحرمان ضد جون. ستيوارت. ميل، وهو أيضا مفكر واقتصادي ليبرالي، بسبب "نفعيته" و "تجاوزاته الاشتراكية".

هايك منظر و ناشط : حملة ضد الاشتراكية والاشتراكيين

يتمتع الكتاب أيضا بميزة التأكيد على "التأثير الهائل" الذي أحدثه عمل هايك خارج دوائر الاقتصاديين والأوساط الأكاديمية. ربما يكون أحد الاقتصاديين القلائل الذين تمكنوا من إنتاج أكثر الكتب مبيعًا مثل الطريق إلى العبودية (La Route de la servitude). يمكن العثور على آثار فكر هايك في كل من جيمي ويلز، مؤسس ويكيبيديا، وفي مارغريت تاتشر، التي ادعت صراحة أنها عضو في دستور الحرية La Constitution de la liberté  (1960)، الذي يقال إنها لوحت به في اجتماع لحزب المحافظين البريطاني، معلنة "هذا ما نؤمن به". يحتل هايك أيضا "موقعا فريدا" بسبب التزامه السياسي بقضية. يتمتع هايك أيضا بخصوصية إعادة تعريف الليبرالية للقرن العشرين بطريقة منهجية، أي من خلال اقتراح نظام من المفاهيم المرتبطة ببعضها البعض بنطاق معياري وإلزامي، يزعم أحيانا، وأحيانا ضمنيا.

وهكذا، بالنسبة لهايك، لا تصبح الحرية فقط "غياب الإكراه" من خلال سلطة تعسفية من شأنها أن تعيق حرية حركة البضائع والأشخاص، ولكن أيضا القدرة على استخدام "معرفة المرء لتحقيق الغايات التي حددها المرء لنفسه"، وتصبح الليبرالية يوتوبيا يجب تنفيذها، في جميع التناقضات التي يثيرها.  حيث ف. هايك يرفض التدخل والبنائية بينما يدعو إلى دستور بشكل جديد من التشريع والمجتمع. في الواقع، بالنسبة لأصدقائه الليبراليين، اليوتوبيين، هم اشتراكيون. ومع ذلك، يسعى هايك إلى التأكيد على أن "الأفكار هي التي تحكم العالم"، مدعيا إرث هيوم. وبهذا المعنى، علاوة على ذلك، فإن "اليد الخفية" التي أعاد النظر فيها بموجب القانون وقواعد السلوك العادل تعمل ك "علمنة للثيوديسيا (Theodicy)[6]" (ص 21).

الأسس النظرية والمعرفية ل "المجتمع العظيم"

بمجرد أن نقبل فكرة أن إحدى أصالة فكر هايك هي طرح ليبراليته وتقديمها على أنها يوتوبيا، فإن الأمر يتعلق بفهم أسسها ومفاهيمها الأساسية من أجل الكشف عنها وتفسيرها، لأنه، تماما كما هو الحال بالنسبة لهيجل في هذه النقطة، فإن يوتوبيا النيوليبرالية  الهايكية هي "نظام" يطرح ويدعو إلى "شجاعة اليوتوبيا".  الاعتراف بحقيقة أن الاشتراكية لم تكن لتنتشر، كرؤية للعالم وكبرنامج سياسي، دون مساعدة ودعم "المثقفين". للدخول في الفكر الهايكي، يجب على المرء أن يبدأ بتأثير الذاتية الذي قد كان على هايك.

وهكذا، يتم تسليط الضوء على البعد المعرفي، وحتى الإستعرافي ((cognetiviste، من نظرية المعرفة الهايكية في الفصل الأول من خلال قراءة المقال الأساسي الاقتصاد والمعرفة (Économie et Connaissance) (1937).

في الواقع، يتم تعريف الفردية من حقيقة أن كل فرد لديه "خريطة ذهنية" تسمح له بفهم العالم من خلال التمثيلات وأجزاء المعلومات. وبالتالي فإن الهدف من السوق أو (catallaxis) هو السماح للأفراد بالتفاعل وفقا لتمثيلاتهم أو تصوراتهم الذاتية بحرية كاملة، دون عوائق، ضمن إطار القانون وقواعد السلوك العادل.

إن "التقسيم الاجتماعي للجهل" يجعل من الممكن التوفيق بين مفهوم الفردية وفكرة الذاتية التي بموجبها لدينا تمثيلات جزئية فقط، ومن هنا تأتي الحاجة إلى نظام يسمح بتبادل المعلومات والاتصالات من خلال إشارات هي الأسعار: هذا النظام هو اقتصاد السوق الذي يفهم على أنه نظام عفوي ذاتي التوليد والتنظيم الذاتي لا ينبغي لنا التدخل فيه لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تحيز قنوات الإتصال و تداول المعلومات وتعديل التوقعات الفردية، وهي نظرية حقيقية للتوازن في إرث كارل منجر[7]، بدلا من النظرية الكلاسيكية الجديدة للتوازن المستوحاة من العرض والطلب. وبالتالي يتم النظر إلى السوق كمكان لتبادل المعلومات والأسعار كإشارات. هذا المنطق يؤدي على وجه التحديد إلى رفض أي شكل من أشكال التخطيط المركزي وأي شكل من أشكال التدخل في السوق لأنه يمكن أن يعيق ليس فقط "الحريات الفردية" ولكن قبل كل شيء الأسعار، وبالتالي التدفق السليم للمعلومات. وهكذا يقدم السيد بوردو أساس نظرية المعرفة الهايكية في شكل ثلاث مفاهيم: التعقيد والنظام التلقائي والتطور، وكلها مرتبطة ارتباطا وثيقا في تعريفها، لأن التعقيد يجعل من الممكن فهم النظام التلقائي ورفض العلموية أو على الأقل "العقلانية البنائية"، والتطور غير الدارويني يجعل من الممكن تبرير رؤية مفهوم النظام التلقائي مع رفض علم الأحياء الاجتماعي و "الداروينية الاجتماعية". وهكذا تصبح نظرية التطور والتطور الثقافي فلسفات للتاريخ، ومن المفارقات، حيث هايك يدعو إلى "التدخل" من خلال "القواعد السلبية" لمنع أي "تدخل" في "catallaxy"، بينما يعلن  عن الطابع العفوي والذاتي للسوق.

"المجتمع المفتوح العظيم" كأفق غائي وكسرد

تستند يوتوبيا هايك الليبرالية إلى روايتين كبيرتين، "المجتمع العظيم" ثم "السوق العالمية" التي من شأنها أن تجعل من الممكن تجاوز السيادات الوطنية من خلال إنشاء "نظام قانوني دولي". من أجل تحقيق هذا "المجتمع العظيم"، سيكون من الضروري القيام ب "حملة حقيقية ضد العدالة الاجتماعية" التي تعتبر بمثابة كابح لظهور هذه اليوتوبيا، والتي ترقى في النهاية إلى ما يسميه هايك "البنائية". من خلال إعادة تعريف الفردية على أنها "تواضع فيما يتعلق بالعملية الاجتماعية" (ص 115)، يجعلها هايك واحدة من ركائز هذا المجتمع العظيم الذي سيكون تعدديا، بسبب تعدد وجهات النظر الفردية. وهكذا، فإن النضال من أجل تحقيقه (المجتمع العظيم) ينطوي على النضال ضد كل ما يمكن أن يعيقه، مع التأكيد على أن هذا المجتمع العظيم لا يحتاج فقط إلى السوق ليعمل، ولكنه يأخذ السوق كنموذج له. لكن ما يبدو أنه الشاغل الرئيسي للاقتصادي النمساوي هو تشويه سمعة ودحض "التعويذة غير الكفؤة" (ص 131) ل "العدالة الاجتماعية"، وهي الصورة الرمزية الأخيرة لما تبقى من الاشتراكية بمجرد رفض التخطيط الاقتصادي و التوجيه المركزي. علاوة على ذلك، يؤسس هايك استمرارية قابلة للإنتقاد  بين العدالة الاجتماعية و"العبودية"، حيث لا يوجد شيء "عادل" بشأن العدالة الاجتماعية، بل إنها تتعارض مع القانون لأنها لا تحترم المساواة الرسمية أو الشكلية.

وبعيدا عن هذه الاعتبارات، يُظهر العداء للعدالة الاجتماعية رؤية معينة للعلاقة بين السياسي والاقتصادي، حيث يجب فصل المجال السياسي عن المجال الاقتصادي، وبالتالي "إزاحة" السياسة ورفض أي شكل من أشكال تدخل الدولة الذي يعتبر تدخلا غير مشروع. وهكذا، بالنسبة لهايك، فإن مفهوم "العدالة الاجتماعية" ذاته سيكون "وهما" وهراء من جميع وجهات النظر. كما يتميز الكتاب بتقديم بديل لفكر هايك حول مفهوم العدالة الاجتماعية، من خلال الدفاع عن مبدأ التضامن مع فكرة "المسؤولية المشتركة" والحقوق الاجتماعية البحتة، مما يفتح النقاش حول طبيعة ومعنى "المجتمع المفتوح"، وهو مفهوم كان من الممكن أن يختطفه هايك.

هل يمكننا الخروج من اليوتوبيا النيوليبرالية؟

يختتم الكتاب بفكرة أن اليوتوبيا الليبرالية هي الآن صفحة من التاريخ السياسي، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية الليبرالية كعائلة فكرية كبيرة. علاوة على ذلك، أليست هذه هي اليوتوبيا "نيوليبرالية" التي يجب التحدث عنها؟ إن التنبؤ بتطور الأنظمة السياسية في ما يسمى بالمجتمعات المتقدمة سيكون ممارسة محفوفة بالمخاطر. علاوة على ذلك، غالبا ما تكون أنماط الحكم مزيجا من عدة تيارات فكرية، في الواقع، ربما تكون سياسات الحكومة الحالية في فرنسا مزيجا من الليبرالية المتطرفة والليبرالية الاستبدادية والليبرالية الجديدة ذات الإلهام التطوري وأخيرا الإدارة التكنوقراطية الجديدة مع وجود عناصر شعبوية. لا توجد حكومة "نقية كيميائيا" لتكون ليبرالية أو نيوليبرالية فقط، مع العلم أن هذه المصطلحات يمكن أن تشير إلى حقائق متنوعة، أو حتى مؤلفين وتيارات فكرية ذات أفكار متباينة، على الرغم من وجود أسس مشتركة، مثل الفردية. لم ينته النقاش حول ما بعد النيوليبرالية، تماما كما أن النقاش حول طبيعة النيوليبرالية نفسها مفتوح بحكم تعريفه.

***

.....................

* الرابط: https://laviedesidees.fr/Bourdeau-La-fin-de-l-utopie-liberale

[1]  فريدريش فون هايك اقتصادي نمساوي ولد في فيينا 1899، وحصل على الدكتوراه في القانون والسياسة في 1920ـ1921، وعلى دكتوراه في الاقتصاد السياسي 1923. أبوه كان طبيبا، وعاش حياة مريحة بسبب ثراء جده لأمه، لم يكن اقتصاديا فحسب، لكن عرف بطرحه الفلسفي والسياسي والاجتماعي امتدادا للمدرسة النمساوية التي بدأها ميسس الذي يبدو أنه أثر فيه فكريا بعد الاستماع لعديد من محاضراته، وساعده بعد رحلة إلى أمريكا ليصبح مدير معهد بحثي لدورات الأعمال في فيينا. تظهر أهمية هايك أيضا في الجدل بينه وبين كينز كأهم معاصر له. تزوج في سنة 1950 و انتقل إلى جامعة شيكاغو ليكون عضوا في لجنة الفكر الاجتماعي واستمر أستاذا إلى 1962، حيث انتقل إلى جامعة فرايبورغ الألمانية واستمر إلى أن تقاعد في 1968. وفي 1974 حصل على جائزة نوبل للاقتصاد مناصفة مع السويدي قونار ميردال الذي لا يتفق معه في الطرح الاقتصادي. منح الجائزة لمساهمته في دور النقود في التذبذب الاقتصادي وطرحه في التداخل والتحليل المؤسساتي بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة. عمليا ربما تنبع أهمية هايك في كونه أسس لاحقا توجهات ملتون فريدمان كاقتصادي المرحلة الليبرالية الجديد. خلف طفلين وتوفي في ألمانيا سنة 1992.

[2]  حاصل على شهادة في الفلسفة وهو طالب سابق في المدرسة العليا للمعلمين  بباريس، وعضو في معهد تاريخ وفلسفة العلوم والتكنولوجيا (المركز الوطني للبحث العلمي –المدرسة الوطنية للعلوم – باريس 1)

[3]  صدر في 22-02-2023 عن إصدرات Hermann  عدد الصفحات 232.

[4]  طالب دكتوراه ومحاضر في الفلسفة السياسية والاقتصاد السياسي في جامعة بوردو مونتين (l’Université Bordeaux Montaigne). كان طالبا سابقا في المدرسة العليا للمعلمين في باريس، يحضر أطروحة عن ف. هايك واليوتوبيا النيوليبرالية تحت إشراف باربرا ستيجلر (Barbara Stigler) فيلسوف فرنسي متخصص في فكر نيتشه والفلسفة السياسية و أستاذ محاضر يجامعة بوردو.

[5]  مفهوم مستعار من هيرودوت ويعني إنشاء موطن حيث يتم استيفاء شروط التبادل العادل.

[6]  عِلْمُ تَبْرِير العَدالَةِ الإلهِيَّة أو إثْبات العَدالَةِ الإلهِيَّة فرع محدد من الثيولوجيا والفلسفة يهتم بحل مشكلة الشر، و علمنة الثيوديسيا هي نفسها فكرة آدم سميث

[7]  ولد كارل منجر عام 1840 بالقرب من كراكوف (بولندا) وتوفي عام 1921 في فيينا (النمسا)، وكان اقتصاديا نمساويا، وأحد مؤسسي التيار الكلاسيكي الجديد ولكن أيضا المدرسة النمساوية. بل ليس فقط مؤسس المدرسة النمساوية للاقتصاد، ولكنه أيضا أحد رواد الاقتصاد الحديث

لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول السيرة الشخصية للكاتب، وهي في الوقت ذاته من أصدق الاعترافات، وأكثرها اثارة ومتعة وفائدة، إن كان كاتبها يحترم عقل القراء، ويؤمن بأن تجربته الخاصة لابد وأن تكون متاحة امامهم بكل جوانبها، بما فيها من أخطاء لا ينجو منها أي كاتب مهما كانت موهبته ومنزلته.

في كتابه “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة .. فصل من سيرة كاتب” الذي صدر مؤخراً عن منشورات تكوين، ينقل لنا عبد الجبار الرفاعي جانباً مهماً من جوانب سيرته ككاتب، وحكاياته المثيرة مع الكتب والمكتبات، والكتابة التي من شروطها الأساسية عنده أن تعتمد العقل، “ولا قيمة لكتابة لا تعتمد العقل، العقلُ لا غير هو ما يحمي الانسانَ من الانزلاق في متاهات الخرافات والأوهام والجهالات”. وقد فوجئ منذ سنة 1971 بوجود مكتبة عامة قرب مدرسته الثانوية في مدينة الشطرة، وفيها تعرف على الجزء الأول من كتاب “ لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث” لعلي الوردي الذي فرض حضوره عليه، وبعد سنة يطلع على كتاب “ معالم في الطريق” لسيد قطب الذي فرض حضوره عليه أيضاً قبل ان يستفيق عقله ليكتشف أن كتابات قطب لا تقول شيئاً نافعاً، وانها وغيرها من كتب الجماعات الدينية غيبته عن الواقع بعدما اغرقته بأحلام رومانسية وأوهام ووعود خلاصية. كذلك اكتشف وجود مكتبة صغيرة لبيع الصحف والمجلات عند “حميد أبو الجرايد”، وسرعان ما تراكمت لديه مبالغ بسيطة، تمكن أن يشتري بها بعض المطبوعات، ومنها مجلة العربي، ومازال يذكر افتتاحية ذلك العدد التي كتبها الدكتور احمد زكي في رثاء جمال عبد الناصر.3982 مسرات القراءة

ولأن وجود الكتاب يشعره بالأمن النفسي، ويؤنسه حين يشعر بوحشة الوجود، وفق تعبيره، فأنه حاول باستمرار أن يؤسس لمكتبة شخصية على الرغم من ظروف تنقله الاضطرارية بين النجف والكويت وقم وبيروت، قبل عودته النهائية إلى بغداد ليكون بالتدريج مكتبة تملأ اليوم كل غرف البيت، وتجمع مكتباته “ نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية” فهو يتعامل مع الكتب على أنها” كائناتٍ حيّة تتغلغل في العاطفة، ويبهج حضورُها العقل”، وفي ذلك يكتب عبارة جميلة يقول فيها: “وجودُ الكتب في كلّ بيت أسكنه يخفضُ الشعورَ بالاغترابِ الوجودي وقلق الموت”. ولذلك فانه يتحسر على كتب لم يحصل عليها في وقتها وقد يكون السبب أنه لم يكن يملك ما يكفي من المال لشرائها، ومنها دائرة معارف البستاني في اول زيارة له لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كان طالباً في بغداد.

بمقدمة وثلاث وعشرون مقالاً يسرد الرفاعي سيرته منذ محطات القراءة المبكرة، والوقوع في أسر الكتب، وكلما احترقت مكتبة انطفأ شيءٌ من نور العالم، إلى الكتابة في عصر الانترنت ومواجع الكتابة، وعلى الرغم من تجربته الطويلة في الكتابة والتأليف الديني والفكري والفلسفي، إلّا أنه يقول بتواضع شديد في أول سطر من كتابه “ أنا قارىٌ قبل كلَّ شيء وبعد كلَّ شيء. لم تمنحني القراءةُ إجازةً ليومٍ واحد في حياتي”.

في بداية شهر نيسان 1980 وهو في الكويت التي وصلها مغامراً بالفرار من النجف في متاهات الصحراء ليلاً، ورطه شغف الكتب بموقف محرج كاد يودي بحياته، فقد دخل في مخزن واسع للكتب تحت الأرض بمكتبة للقرطاسية واللوازم المدرسية، ولم ينتبه “ إلا بعد مضي نحو خمس ساعات من الأُنس بمعاشرة الكتب”، وعندما خرج من المخزن ليغادر وجد المكتبة مقفلة، وهو من دون جواز سفر، وليس لديه أية وثيقة تثبت اقامته القانونية في البلد. وعليك أن تعرف ما حدث بعد ذلك، وكيف تخلص الرفاعي من هذا الموقف المحرج والخطير، وغيرها من الحوادث والمواقف والحكايات، بالعودة إلى كتاب “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة” لتتذوق متعتها من دون ايجاز يغفل الكثير من نوادر القراءة والكتابة التي عاشها الرفاعي خلال مراحل مسيرته الطويلة.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

حول: فانسنت سيتو[1]  Vincent Citot، تاريخ عالمي للفلسفة، تاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات.

بقلم ألفيو نازارينو ريزو[2] Alfio Nazareno Rizzo, 27/10/2022

ترجمة: ا. مراد غريبي

***

في عمل طموح وعلمي وسهل المنال، يقارن فنسنت سيتو فلسفات ثماني حضارات مختلفة لتحديد الثوابت الدورية، بين المرحلة الدينية والعصر العلمي.

مسألة أصول الفكر الفلسفي هي واحدة من المشاكل التي ميزت تاريخ الفلسفة. الإجابة الأكثر شهرة والأكثر شيوعا لهذه المشكلة هي أيضا السبب الرئيسي لواحدة من أصعب التحيزات التي يجب القضاء عليها: يقال إن الفلسفة نشأت في اليونان وأصولها هيلينية بحتة. من هيجل إلى هوسرل، يوجد الفلاسفة اللامعين الذين تبنوا هذا النموذج. و لكن منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أعيد تقويم النقاش إلى رؤية –أقل تمركزا أوروبيا-، وأحيانا تذهب إلى الطرف المعاكس، حيث البحث عن التقارب وأحيانا أوجه التشابه الخيالية بين الفلسفات التي تنتمي إلى عصور وعوالم مختلفة.

أحد أسباب النموذج الهيليني المتمركز حول أصول الفلسفة يتعلق بالمعايير التي تحدد الفكر على أنه فلسفي. لقد كانت منذ فترة طويلة إرث الإغريق القدماء: منذ البداية، كان المفكرون اليونانيون مهتمين بالعالم الحقيقي وسعوا إلى فهمه وتفسيره من خلال الأدوات التي يوفرها العقل. وهكذا كان الفكر الفلسفي يعتبر دائما تفكيرا مفاهيميا قائما على التفكير والمنطق. النصوص والأدب من نفس النوع. ومع ذلك، هناك أشكال أخرى من التفكير والكتابة، مما يعني إعادة تعريف ما يمكن اعتباره فكرا فلسفيا.

في منظور أوسع، مثل ذلك الذي قدمه كتاب فنسنت سيتو، فإن إعادة التعريف هذه ممكنة. إذا كان العنوان قد يوحي بتسلسل زمني أكثر أو أقل شمولا لتاريخ الفلسفة على نطاق كوكبي، فإن العنوان الفرعي يحدد أيضا هدف المؤلف: يتم تقديم تاريخ الفلسفة كتاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات . يمثل هذا الكتاب خاتمة مسار بحث طموح يطبق فيه سيتو طريقة، تم تنظيرها بالفعل في عدة مقالات، والتي يهدف من خلالها إلى فهم العنصر العالمي لتاريخ الفلسفة من خلال إظهار ما جلبته كل حضارة إلى الطاولة. والنتيجة هي سرد حضاري وفكري ودوري ومقارن في آن واحد.3981 vincent citot

من اليونان إلى اليابان عبر الصين

لاختيار الحضارات الثماني المعروضة في الكتاب، فإن المعايير التي استخدمها سيتو هي معايير الاستمرارية والكمية. “لقد أنتجت ثقافات كثيرة الفلسفة، لكن القليل منها قام بذلك بطريقة هائلة لفترة طويلة وبالكتابة، حتى يمكن كتابة تاريخها” (ص 15). كما أن وصول النصوص إلى عصرنا هو شرط ضروري، مما يقلل بشكل كبير من عدد الحضارات التي يمكن توثيق تطور فكرها الفلسفي. وبالتالي، لم يتبق سوى ثماني مناطق ثقافية، وهي: اليونان، روما، الإسلام، أوروبا، روسيا، الهند، الصين واليابان،، وبالتالي يتم تقديمها بهذا الترتيب، وهو ليس ترتيبا زمنيا (الحضارة والفلسفة الصينية والهندية أقدم من الحضارة والفلسفة اليونانية).

وتبدو هذه المعايير مقيدة إلى حد ما وتستبعد حضارات قارات نصف الكرة الجنوبي، وخاصة الحضارات الأفريقية وحضارات أمريكا اللاتينية. وهذا ليس خطأ بالضرورة، خاصة وأن سيتو يبرر اختياراته في المقدمة، لكنه يبقى موضوعا للنقاش، لسببين على الأقل: أولا، بحكم أنه في هذه الأجزاء من العالم هناك تقاليد فلسفية ملتزمة حول المشاكل التاريخية والاجتماعية والجغرافية الإقليمية ذات الأهمية لدرجة أن اليونسكو مهتمة بالتراث الفكري في هذه المناطق الجنوبية من العالم؛ ثانيًا، توجد كتب وأعمال عن تاريخ الفلسفة الإقليمية تتعلق بالفكر الفلسفي لأمريكا اللاتينية وأفريقيا. إذا كانت المعايير المحتفظ بها تبرر اختيارات سيتو من وجهة نظر تاريخية، فإن غياب جزء من الحضارات في تاريخ الفلسفة هذا قد يمثل موضوعًا للنقاش.

التاريخ الحضاري والفكر الفلسفي

لتجاوز نموذج الفكر المنطقي العقلاني للمصفوفة الهيلينية، يقترح سيتو هذا التعريف: الفكر الفلسفي "هو الفكر الذي يسعى إلى تبرير نفسه بوسائل مختلفة يتم تنفيذها بمثابرة" (ص 14). وبما أن عمل الفلاسفة، كتفرد، هو جزء من حركة أكبر تتعلق بالثقافة وتعبيراتها الفكرية، فإن الفلسفة ليست معزولة عن الثقافة والحياة الفكرية للحضارة. لأن التفلسف ليس الطريقة الوحيدة التي يفكر بها الإنسان: إلى جانب الفلسفة، الدين والعلم هما أيضا طريقان أخريان للتفكير يؤسسان الإنسانية. حيث يتجلى الطابع العالمي للفكر الإنساني في ثلاث طرق لطرح سؤال الحقيقة: الدين يبحث عن الحقيقة من خلال خطابات السلطة الشرعية اجتماعيا. الفلسفة تصل إلى الحقيقة من خلال التفكير والنشاط النقدي. يقوم العلم بإضفاء الطابع الرسمي على التجارب والتفكير لدرجة جعلها نماذج. من الدين إلى العلم، يتوافق كل نهج مع جهد إضافي من اللامركزية عن الوجود: من الدين إلى العلم، عبر الفلسفة، يتم إدراك الواقع أكثر من خلال تجاوز وجهات نظر معينة (ص 17).

تمر كل حضارة بهذه الأساليب الثلاثة، والتي تتوافق مع ثلاث لحظات متتالية في تاريخ الفكر: فترة ما قبل الكلاسيكية، التي تتميز بالفكر الديني. الفترة الكلاسيكية، التي تمثل تحرير الفلسفة من الدين ؛ فترة ما بعد الكلاسيكية، التي همش خلالها العلم أشكالا أخرى من الفكر. ميزة تجميع التعبيرات المختلفة للفكر الإنساني في ثلاث فئات هي أنه يسمح بفهم أفضل لتطوره. وهذا يبرر الاختيار التاريخي لتمثيل تاريخ الحضارات الثمانية من خلال دوراتها الفكرية. على طريقة العلم الجديد عند  فيكو[3] Scienza nuova [4] (ولكن قبله طور ابن خلدون فكرة الدورة التاريخية)، يبني سيتو سردا دوريا للتاريخ الفكري للحضارات المختلفة من خلال إظهار تطور العلاقة بين الدين والفلسفة والثقافة.

لحظات التفكير الثلاث مثل حالات كونت الثلاث؟

يشير نموذج الدورة ثلاثية المراحل إلى قانون أوغست كونت للحالات الثلاث[5]. وفي رواية سيتو، “يصف تاريخ الفلسفة دورة ما قبل الكلاسيكية – الكلاسيكية – ما بعد الكلاسيكية، والتي تتكون من إعادة تركيب متتالية لطرق التفكير الثلاث الرئيسية حول الوصول إلى الحقيقة” (ص 21). وكما هو الحال في قوانين الحالات الثلاث، كذلك في هذا التاريخ المقارن للفلسفة، يتميز التعاقب بين المراحل الثلاث بوجود أشكال فكرية دينية وفلسفية وعلمية. ومن ناحية أخرى، إذا كان أساس هاتين الفكرتين واحدا، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي الخاص بتطور الفكر الإنساني، فإن هناك فرقا جوهريا بين الوضعية الكونتية والنموذج الذي اقترحه سيتو.

في قانون كونت للحالات الثلاث، الحالة الميتافيزيقية، التي تتوافق مع العصر الفلسفي للحضارة أو الفرد، هي حالة انتقال بين خيال الحالة اللاهوتية ويقين الحالة العلمية. الحالة الأخيرة فقط هي التي تنتج اليقينيات، في حين أن الأولين غير منتجين ويقتصر دورهما على تمهيد الأرضية للمراحل المتعاقبة. رؤية كونت الوضعية هي أساس فكرة التقدم وينتهي بها الأمر إلى إسناد طابع رجعي للدين والفلسفة فيما يتعلق بالعلم.

من ناحية أخرى، يظهر نموذج سيتو أن الفلسفة لا تتوقف عن الوجود حتى لو لم تكن دائما ذات سيادة في البحث عن الحقيقة. من الواضح، لأن "المرء لا يتفلسف بنفس الطريقة عندما تهيمن الحياة الفكرية على الدين، أو يأخذها الفلاسفة، أو يستقطبها العلماء" (ص 21). من ناحية أخرى، لا يمثل العلم اللحظة الأخيرة للحضارة، بل على العكس، يمكن أن يعاني هو نفسه من نفس مصير الدين والفلسفة ويأخذ مقعدا خلفيا. وفي هذا الصدد، تبين أمثلة الفكر الصيني واليوناني أن تطور الفكر يسير على قدم وساق وليس بطريقة خطية: فالفكر الصيني له تاريخ متعدد آلاف السنين لا يختفي في أي وقت، ولكنه يتميز بتعاقب ثلاث دورات من الألفية (ص 350)؛  من ناحية أخرى، اختفى الفكر اليوناني وأدى إلى ظهور الفكر الروماني ثم الأوروبي.

أخيرا، إذا كان سيتو، مثل كونت، لا يستطيع مقاومة إغراء هيكلة تفكيره على أساس ثالوث هيغلي، فيجب أن نعطي الفضل لعمله لأنه أعطى الكرامة لجميع أشكال الفكر دون حبس نفسه في مفهوم وضعي  يقدم رؤية للحظات دينية وفلسفية متحيزة بواسطة النظارات المشوهة لفكرة التقدم.

تاريخ علمي ولكن عامي

يستهدف كتاب سيتو تاريخ عالمي للفلسفة جميع أصناف القراء، من المتخصص الذي يمكنه وضع معرفته وأبحاثه في سياقات أوسع، إلى الهواة، الذين يمكنهم أيضا الاستفادة من الببليوغرافيات في نهاية كل فصل لتعميق معرفتهم. إنه عمل يمكن أن يساهم أيضا في مسألة أصول الفلسفة، حتى لولم يكن السرد زمنيا، ولكنه يسمح لنا بإلقاء نظرة على بعض مخلفات المركزية الأوروبية. على وجه الخصوص، في ترتيب العرض الذي من اليونان إلى اليابان عبر الحضارات الرومانية والإسلامية والروسية والأوروبية والهندية والصينية. بهذا الترتيب، يتم وضع الحضارة الصينية فقط بعد الحضارات الغربية، ربما لأن سيتو أراد أن يبدأ تاريخه العالمي مما هو أقرب إلى القارئ الفرنسي والأوروبي.

في الختام، هذا كتاب مكتوب ومقدم بأمانة، لأن مؤلفه يدرك جيدا القيود التي يمكن أن تميز مثل هذا العمل من حيث الاكتمال والعمق. والنتيجة هي تاريخ مقارن يقصد به أن يكون إعلاميا وتربويا وأن يكون كذلك، لا يتغافل عن خطر المركزية العرقية، خاصة عندما يلجأ المؤلف إلى المقارنة بين الفيلسوف الشرقي والفيلسوف الغربي، حتى لو ولد الأخير في وقت لاحق. على سبيل المثال: الفيلسوف الهندي كاوتيليا[6] (حوالي  360 - 275) ق.م "يكتب أرثا كاسترا الذي أكسبه روح الإيجابية -القائمة على العقلانية الدنيوية- وواقعيته السياسية الخالية من الاعتبار الأخلاقي مقارنات بأمير مكيافيلي" (ص 311) ؛ يتم تقديم المفكر الصيني وانغ تشونغ[7] (27-100) على أنه روح حرة ومتشككة "تشتم الأرثوذكسية والتقليدية والخرافات في عصره - مما يكسبه مقارنات مع لُقيانوس اليوناني من سميساط[8]" (ص 372). يمكننا أن نجعل هذا الامتياز للمؤلف، الذي يبرره الاهتمام بجعل مبدأ المفكر مفهوما والذي ينتمي إلى صور أخرى من الفكر،لكننا ندعو القارئ إلى عدم البحث بأي ثمن عن أوجه التشابه والتماثلات بين الأفكار التي تظل بعيدة في الزمان والمكان..

فنسنت سيتو،التاريخ العالمي للفلسفة، تاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات، باريس، بوف PUF، 2022، 516 ص.

***

ترجمة : أ.مراد غريبي

......................

https://laviedesidees.fr/Citot-Histoire-mondiale-de-la-philosophie

[1]  فنسنت سيتو، أستاذ مشارك ودكتوراه في الفلسفة، يدرس في المعهد الوطني العالي للتعليم والتربية، باريس - جامعة السوربون. يركز تفكيره بشكل أساسي على طبيعة ومتطلبات الفكر الفلسفي.

[2]  أستاذ الفلسفة، عضو في معهد الدراسات الفلسفية بجامعة ليون، و وحاصل  على دكتوراه في الفلسفة بأطروحة حول فكر جورجيو كولي في التعبير. تركز أبحاثه الحالية على فلسفة التاريخ وفلسفات الحدث وتاريخ الفلسفة الإيطالية والمتوسطية.

[3]  جيوفان باتيستا أو جيامباتيستا فيكو (23 يونيو 1668 - 23 يناير 1744) فيلسوف سياسي وخطيب إيطالي

[4]  "العلم الجديد" هو العمل الرئيسي للفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو. تم نشره لأول مرة في عام 1725م  دون نجاح يذكر، لكنه استمر في كونه يحظى بتقدير كبير ومؤثر في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.

[5]   قانون الحالات الثلاثة: 1. المرحلة اللاهوتية.2. المرحلة الميتافيزقية.3. المرحلة الوضعية

[6]   يعتبر من أهم  حكماء الهند و مفكري السياسة الهندية في ذلك العصر (تعتبر أفكاره هي أفكار ميكافييلي، ولكن في السياسة الهندية). مؤلفه المشهور (آرثاكاسترا  ARTHACASTRA)

[7]  مفكر صيني  يعرف أنه مؤلف غير تقليدي، ومناهض للكونفوشيوسية (27-100) م

[8] كاتب يوناني من أصل سوري، ولد بسميساط السورية على نهر الفرات، عاش في القرن 2 الميلادي

أُتابع باهتمام كتابات الدكتور عبد الجبار الرفاعي مُنذ عامين وربما أكثر، قرأتُ لهُ مما يُنشر على حساباته وبعض كُتبه أيضاً، ولطالما انتابني الفضولُ لمعرفة رحلته مع القراءة والكتابة. حريٌّ بي وبغيري ممن يعرف الدكتور الرفاعي أن ينتابه هذا الفضول، فمثل هذه القامة الفكرية الفذة تُعدّ كنزاً معرفياً لنا نحنُ الجيل الجديد. أتممتُ قراءةَ كتابه الصادر مؤخراً عن داري "منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين في بيروت": "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" هذا العنوان الذي أراه وصفًا دقيقًا لرحلة القارئ مع القراءة وبَهجتها وملذاتِها، والكتابة وآلامها.

يكتب لنا الدكتورُ الرفاعي رحلتهُ - الثرية معرفيًا - مع القراءة، هذه الرحلة بكل مسرّاتها ومشاقّها ألهمتني وأسرتني، واستني ومنحتني دفقةً معنوية كبيرة لرحلتي أيضًا في عالم القراءة والكتابة. يذكر الرفاعي في سيرته كيف للقراءة الحقيقية والجادّة أن تصنع المعنى لحياة الفرد القارئ، هذا المعنى الذي لا يكون واحدًا مُطلقًا للجميع بطبيعة الحال، فلكلّ واحدٍ منا معناه الذي صنعته رحلتُه وتجرِبتُه. يكتب بلغةٍ كما قال عنها قُرّاؤه، وأقولها أنا أيضًا، إنها: "لغةٌ شهية" تجعلك تتلذذ ببلاغة كلماته، وتسكن النفس لمُلامستها القلب والروح بحُسن معانيها وصدقها، ومخاطبتها لما يعتملُ داخل النفس الإنسانية من تساؤلاتٍ وتطلعات وآمال. يصف الرفاعي رحلتَه مع القراءة في تقديمه لكتابه بقوله: "أنا قارئٌ قبل كلِّ شيء وبعد كلِّ شيء. لم تمنحني القراءةُ إجازةً ليومٍ واحدٍ في حياتي، لم أجد نفسي خارجَ أسرِ القراءة، وأظن أني لن أتوقفَ مادمتُ حيًا. أنفقتُ من سنوات عمري معها أكثرَ بكثيرٍ مما أنفقتُ برفقة البشر. بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئُ كاتبًا، غير أن القراءةَ مازالت تلازمه وتفرض حضورَها كأولويةٍ على الكتابة، لا تصمد مواعيدُ الكتابة وجداولها الزمنية لحظة يتّقد شغفُ القراءة. حين أضجر من الكتابةِ أستريحُ بالقراءة، وحين أفقدُ التركيزَ بعد ساعاتٍ من القراءة، لا يستفيق وعيي مجددًا إلا بالقراءة".

محطات القراءة المبكرة في حياة الرفاعي لها أثرٌ بالغُ الأهمية فيما هو عليه الآن، منذ كان طفلاً وحتى بدايات الشباب لم يتوانَ عن قراءة كلّ ما يقع بين يديه من الكراسات وغيرها، كان مُستمعًا جيدا لصوت الفضول في داخله لاكتشاف العالم من حوله، نما هذا الفضولُ المُحبب لديه، وهكذا كبُر على هذا المنوال في درب القراءة كمن يلتمسُ فيها غذاءَ روحه وعقله، فلا يستطيعُ عنها انفكاكًا.

يحدّثنا مؤلف "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" أيضاً عن أهمية أن تكون لدى القارئ منهجيةٌ واعية فيما يقرأ، ذلك لأن القراءةَ قبل كلّ شيء متعلقةٌ بالمنهجية والتوجيه، أن تكون قارئًا فهذا لا يُحتّم عليك قراءةَ كلّ كتابٍ مهما كان، المنهجية تُشكّل نظامَك المعرفي بدقة ورسوخ، أما القراءة العشوائية فليست إلا حائلا أمام تطورك المعرفي، ولا تضيف لك إلا التشتت والضياع.

"المكتبةُ متحفٌ يكتنزُ أثمنَ ما يمتلكه الكاتبُ بحياته" هكذا يصفها الرفاعي، وأجد أن هذا أدقّ وصفٍ لمكتبة القارئ الفذّ، القارئ الذي حُرِرَ عقله بمكتبته، مكتبته التي تحمل نجاَته المعنوية من أغلال الوجود وعذابات تساؤلاته، يرى القارئُ في هذه الكتب والأوراق حياةً غير الحياة، فيها وصفٌ لشخوصه وتطلعاته وسير نموه المعرفي. ويوجز عبد الجبار الرفاعي نمطَ حياته في فضاء الكتب بقوله: "يعرف مَن يعيش في فضاء الكتب ما تتحدث إليه لوحاتُ أغلفتِها وألوانها وأشكالها، وما تحكيه خطوطُ عناوينها، وإخراجُ صفحاتها وحروفُ كلماتها، وما تبثّه روائحُها ونكهةُ أوراقها. المولعون بالكتب يشعرون بالهدوء والأنس لحظةَ تحدّثهم وينصتون إليها بعيدًا عن أيّ شيء سواها".

ولأجل ألا نحصر سُبل المعرفة بالقراءة فقط على الرغم من كونها من أعمق و أهمّ السُبل، إلا أن مصادر المعرفة تنوعت و تعدّدت في هذا العصر كما يرى الرفاعي، فاليوم تُستقى شتى أنواع المعارف من خلال المسارح والأفلام ووسائل التواصل، وما تحمله من رسائل للمتلقي في طياتها، بل وخوض التجارب باختلافها، و الترحال في الميادين المتنوعة، كما أن الواقع مدرسةٌ تعلمك ما لا يمكن للكتب أن تعلمك إياه، يجبرك على خوض ما لم تتوقع، إن هذا التنوع في تلقي المعارف يمنحك إحساسًا جليلاً بالتوسع والحرية في كيفية بناء وعيك بتنوع مصادر هذا البناء. يتحدث لنا المؤلف عن أهمية الواقع بقوله: "تجارب الحياة علّمتني أن بعضَ الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب؛ يعرفون الإنسانَ جيدًا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة، رأيتُهم أكثرَ قدرةً على التكيّفِ مع الواقع، وبناءِ علاقات وثيقة بغيرهم، منا معشر الكتّاب والمثقفين".

أما عن الكتابة عند الرفاعي؛ فهي كما يصفها تجرِبةُ وجود، وتحقيقٌ للذات بطورٍ أعمق، هي خلاصةٌ لكونك لا يمكن أن تكون كاتبًا عميقًا ما لم تكن قارئًا حاذقًا، تواصل مِران الكتابة وتنغمس فيها حتى تخرج كتاباتُك في أبهى تجلياتها، وأعمق معانيها، الكتابة اِختبارٌ أخلاقيٌ لضمير الكاتب. يقول مؤلف "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة": "أعيشُ الكتابةَ بوصفها أُفقًا أتحَقّق فيه بطور وجودي جديد. الصدقُ في التعبير عن الذات هو البدايةُ الحقيقية للكتابة. أنا مشغول بالذات وأنماطِ تحقّقها، وليس في إصدار الأحكام على الناس والخوض في شؤونهم وخصوصياتِهم".كتاباته تمنحك من الشجاعة ما يكفي لتُنصت لصوت تساؤلاتك، ألا تخافها ولا تقمعها، تحثّك على التفكير الهادئ، ومراجعة القناعات وسبر أغوار النفس. في الحديث عن القارئ والكاتب نرى الرفاعي يتناول حالاتهما السيكولوجية بمهارة مَن يعرف أعماقَ النفس الإنسانية وتذبذباتها وقلقها وحالاتها المتقلبة، يشرح لنا كيف تكون القراءةُ أفراحا ومسرات وابتهاجا، وكيف تولد الكتابة بمشقة تكاد تزهق روحَ الكاتب المبدع بمكابدتها أحيانًا.

سيرة الرفاعي في القراءة والكتابة باهرةٌ زاهرة، تستحق التأمل، والإنصات لما بين السطور، هي بستانٌ وارف تنهل منه ولا تكتفي، أقترح على مَن يهمّه التعرّف على تجارب القراء والكتّاب بقراءة كتاب: "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" ليتعرف على فصلٍ شيّق من سيرة كاتب كّرس كلَّ حياته لقراءة الكتب، وخاض مشقةَ الكتابة بشجاعة، واستنزفته تمارينُها المنهكة. وأخيرًا أقترح قراءةَ مؤلفات الرفاعي الأخرى، التي لا تقلّ ثراءً عن هذا الكتاب القيّم. أقول ذلك عن تجربة قراءة متوالية لها، وقد أعانتي في التغلّب على متاعب حياتية متنوعة، وأيقظتْ وعيي، وعملتْ على إثارة عقلي بأسئلةٍ عميقة وإجابات مبتكرة.

***

غفران سعد – كاتبة عراقية

لو كنت أستطيع أن أروي القصة بالكلمات، لما استعنت بالكاميرا.. انني أفضّل الصور الفوتوغرافية على كل لوحة رسم، مهما كانت رائعة وبديعة.. (المصور الفوتوغرافي يحرر المحتوى الانساني من الأشياء الجامدة وعديمة الروح، انه يضفي الإنسانية على العالم اللإنساني الذي يحيط به).3979 فاضل عباس هادي

تلك عبارات لشعراء ومصورين عالميين تصدرت كتاب الشاعر والمترجم فاضل عباس هادي (ولا تنس بأن السيدة لايكا تنتظرك بالبيت) الصادر عن دار (برستوب) في لندن، عام 2010، بعدد من الصفحات تجاوزت الألف بأكثر من مئة صفحة. تضمنت ما يقارب 300 عنواناً، مع شهادة للشاعر عبد الوهاب البياتي، ومقابلات أجراها عبد الحسين الهنداوي. وجاء الإهداء موجهاً إلى أمّه التي ماتت في العراق، وهو يتقلب على فراش من المسامير في بلاد الأوباش، كما جاء في النص، فالكاتب فاضل عباس أصدر عدة كتب، منها (ورّاق فرنسي الهوى) وهي تحمل حنينه الجارف الى فرنسا التي عاش فيها بضع سنوات، رغم اقامته الطويلة في بلاد (الاوباش)، يتحدث بلغتهم، ويترجم عنها، ويقول انها لغة لا تعرف الحياء ولا العواطف الانسانية.

عرفت فاضل عباس هادي لأول مرة من خلال نص شعري نشره في مجلة (الشعر 69)، العدد الثاني، عنوانه:

قدح من الدموع المجففة إلى أوديت

يقول فيه:

أصمتْ، أصمتْ، ما أنت إلا أنت، وماهي إلا هي

الملائكة تمر مسرعة، الملائكة تعدو شاحبة

وفي يد كل واحد منهم باقة من الكرفس الاصطناعي

قدّم هادي نفسه من خلال هذا النص كأحد أبناء عقد قال عنه فاضل العزاوي، انه عقد متميز في تطور الوعي بزمن زاخر بالأحداث التي أنضجت وعي الحداثة الجديد في ستينات القرن الماضي، وشكّل منطلقها الابداعي.

القصيدة ذاتها دعت الشاعر سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة) أن يعدّها مثلاً لحركة التجديد عند ذلك الجيل، الذي تأثر بنصوص شعرية، كانت تنشرها مجلتا (شعر) و(حوار)، فيقول: ان منهم من راح يبحث عن مبتغاه من القادرين على القراءة باللغة الانگليزية، ومن هؤلاء من كتب قصائد ميكانيكية، (في اشارة لفاضل العزاوي)، وصرنا نقرأ شعراً يصنع فيه التلاميذ الكرفس الاصطناعي. المفارقة ان فاضل يعتقد، ان جيل الستينات كان هبّة عفوية، لم يكن جيلاً منظماً، أو تجمعاً واعياً.

يشير بوضوح الى موقفه من الحداثة بالقول:

اللغط القائم حول الحداثة سمّم بدني تماماً، لانني ما أزال أقرأ لحسين مردان، ولالياس ابو شبكة، ومارون عبود، أو عمر أبو ريشة، واعتبر السياب شاعراً عظيماً يجب أن لايمسّه الآخرون عمالقة كانوا، أم أقزاماً، الاموات وحدهم الذين يقولون بموت الشعر.

ضمن تلك الأجواء ظهر أسم فاضل كصوت ينتمي لجيله، وهو الشاعر والمترجم، والمثقف، ابن الناصرية التي رحل عنها الى دمشق وبيروت وباريس، ثم لندن، عاش العزلة منذ صباه، كان يذهب الى بغداد ليشتري كتباً رخيصة تباع بالوزن، لانها باللغة الانگليزية، فيجد بينها روايات لكتاب عالميين كبار، وتعرّف من خلالها على أشهر الرسامين في العالم، ومدارسهم واساليبهم في الفن التشكيلي.

يختار فاضل (الفرار) من بلد ينطفئ فيه الحلم، تلوح في سمائه نذر الخوف والموت. والرصاص يطوق أسوار مدينته، بعد أحداث الهور واختطاف صديقه الشاعر خالد الأمين، فيقرر السفر عام 1971، وفي رأسه كابوس أول (حفل) لاعدام وجبة من البشر في ساحة التحرير عام 1969. لتبدأ رحلة العذابات، والخيبات.

انصرف فاضل في اهتماماته الابداعية الى حقل الفوتوغراف، وكتب أول مقالة فيه عام 1987، وكانت مقارنة بين الكاميرات الألمانية، والكاميرات اليابانية، وهو عصر الفوتوغراف الذهبي، قبل استفحال موجة التصوير الرقمي، حيث كانت الكاميرات تجمع بين الوظيفة والجمال، والفلم المصنوع من سائل مستحلب تشكل حبيبات الفضة مادته الأساسية، وأخر مقال في الكتاب يحمل عنوان الكتاب، كتبه عام، 2009 وبين التاريخين اهتمام مكثف في التصوير من ناحيتي النظرية والتطبيقية. وكلا المقالين يشيران الى (المانيا)، المنتجة لكاميرة (لايكا) منذ أكثر من قرن.

من الصعب على اجيال نشأت على كاميرات افلام العصر الذهبي، استساغة أو قبول كاميرات قبيحة الشكل كما يصفها هادي، تشبه الى حدٍ ما رجلاً فقد أحدَ كتفيه، أجيال لا تريد ان تستسلم الى الأرقام والبرامج الاختزالية، أجيال ترى الضوء في الغرفة المظلمة أكثر مما تراه على شاشة كومبيوتر مهما كانت مضيئة. هذا الكتاب لا يؤمن صاحبه بالتطور العلمي والتقني، انه متحيز بطبيعته، يقول عن الموضوعية انها تصلح في أروقة الجامعات.

الا ان فاضل عباس هادي يواجه اشكالية مؤلمة أمام هذا الاجتياح الرقمي، وهو غير قادر أن يوقفه، بل يظل يتساءل: ماذا أفعل بعدتي الفوتوغرافية بما في ذلك جهاز التظهير والطبع، والى متى أحتفظ بهما، ومتى أقبل بالتصوير الرقمي؟؟ المتفائلون يرون ان الطريقة التقليدية ستبقى حية جنباً الى جنب مع الطريقة الجديدة، لقد قيل سابقاً أن الفوتو سيقضي على الرسم، الا ان الرسم ما زال حياً.

تحول عباس هادي نحو الصورة يمثل انعطافة مهمة في البحث عن واسطة بصرية، والكاميرا وسيلته في الحديث والتواصل، لانه لا يستطيع الكلام أصلاً، اذ يعاني بعي في اللسان، وقصور في ايصال الفكرة، لذا يقول: عيوني أكبر من فمي ولساني لا يستطيع أن يلحق بقلبي، الصورة التي أعمل من أجلها هي (ايقونة)، لوحة من مواصفات العمل الكلاسيكي، والتصوير بهجتي وجسر تنهداتي.

عندما قرر فاضل أن يلجم فمه، واستعمل عيونه فقط، كان التصوير المعادل لموقفه من العالم، انه لغة أخرى تأصل في نفسه بعد أن شعر بفشل الحوارات، كما انه الحيلة التي يتّقي بها ضد التطفل، السور الذي يحتمي به، توجهه نحو التصوير جاء بسبب احساسه بعقم الكلام المكتوب. التصوير الفوتوغرافي هو البحث عن الجميل في الحياة، شكلاً ومحتوى، انه يبحث عن بشر من بلور، كما كتب فاضل ذات يوم،

يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي: صحبتي اليومية مع فاضل الشاعر في تونس تمخضت عن ألبوم صور، أعتقد انها كانت يمكن أن تكون قصائد، وقد سبقني فاضل بتصويرها قبل كتابتها.

في لقاء مع مجلة عربية، يسأله المحرر، عن معنى الكاميرا، وأين تكون مكانتها بين الشعر والكتابة، فيجيب.:

يقال عن مصور هندي أنه أوصى بأن تدفن الكاميرا معه، تعلقي بالتصوير، لا يقل عن المصور الهندي، التصوير هو مزاولة الشعر بأداة أخرى.

***

د.  جمال العتّابي

نوعيّة الكتب المُصنّفة بخبرة عالية هى في الغالب تفرض نفسها على أنظار القرّاء والنّقدة والمُحلّليين، وتعطي من الوهلة الأولى أقدار كُتّابها: من حيث المنهجيّة، ومن حيث الأصالة المعرفيّة، ومن حيث الإسهام في النهضة العامة، تُحسن به النوايا وتصلح التوجُّهات.

فأمّا الحيثية الأولى؛ فتظهر في ذلك الترابط المنهجي وفي الاتساق النظري إن في القضايا وإن في الشخصيات، ولا يظهر الترابط وهو في منأى عن القضايا المطروحة، ولا الاتساق النظري معزولاً عن الغايات الهادفة.

وأمّا الحيثية الثانية؛ فإنّ الأصالة المعرفيّة فيها تتأسس عليها الرؤى والأفكار التي يطرحها الكاتب في ظل ما يحكمه ويعتمد عليه ممّا يدور بخلده ويتأمل فيه، من حيث ما يتعامل مع المستويات الكامنة والعميقة في الخطاب الإنساني وتوظيفها توظيفاً يتناسب مع الطرح المُعاصر.

وأمّا الحيثية الثالثة؛ فلا تبدو واضحة جليّة إلاّ كمقصد أسمى يحمله قلم المؤلف حيث أهدى كتابه قيمةً باقيةً ودلالةً ثابتةً بمثل هذه العبارات قائلاً :”إلى الأذهان الواعية، والسّرائر النقيّة، والأذواق الراقية. إلى السواعد القويّة الفاعلة، والعقول المستنيرة الناقدة، والأقلام الحرّة الثائرة. إلى كل من عشق الوطن وأخلص في محبّته ودافع عن أمته، وإلى كل من أدرك الحق وجعله قبلته أُهدى هذا الكتاب”.

ولا ريب عندي في أن هذا الإهداء نفسه ليعكس حرفياً في ذاته شخصية الكاتب، ويُجمل تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً بالإسهام في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد.

كتابُ الدكتور “عصمت نصّار” (خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة) دراسات تجمع قراءات تحليلية في الثقافة العربية المعاصرة .. فيها الرأي والرؤية والأصالة والتأصيل خلال شخصيات بارزة. “قامات” أفرزت بالتكأةٍ على نقد العقل العملي “مقامات” انفردت بها، وتفرّدت. ثم دلّت من قريب على امتياز الثقافة العربية المعاصرة في حُقب زمنية أصيلة ليس من السّهل الاستغناء عنها بحال.

تظهر فيه جليّاً نوعيّة الكتابة التي ينهجها الأستاذ الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة والمفكر العربي المعروف، كونها “إبداعيّة تأصيليّة”، فهي عندي ليست كتابة إبداعيّة فقط تجئ كسائر الكتابات التي تتراءى لنا صباح مساء بغير مرجعية ولا تأسيس، ولكنها إبداعيّة تأصيليّة في آن. ويغلب على الثانية فيها الوقوف على الآراء النقديّة ذات المسحة الفلسفية، والرجوع بها إلى أصولها الأولى وعيونها التليدة، تماماً كما يغلب على الأولى خلق الفكرة بالموازنة والمقارنة في إطار التأصيل ثم توظيفها توظيفاً فلسفياً على اختلاف عطايا الأبعاد الفلسفية؛ غير أنه توظيف يتعدّى الإنشاء النظري إلى حيث الوقوف على الأصول المعرفية العمليّة في الخطابات المُراد تحليلها لأشخاص مؤثرة يقوم المؤلف بدراستها.

الدلالةُ لا شك فاعلة جداً في ضوء المناقشة لآراء المفكرين المعاصرين في ثقافتنا العربية، وفي ظل منجزات الفلاسفة الذين ألبسهم المؤلف الثياب الأدبية وكشف توجُّهاتهم، واستنطق من نصوصهم الملامح الفلسفية والأبعاد الإصلاحيّة والدلالات العلميّة والتطبيقية. غير أنهم لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنهم كانوا أدباء ذوي نزعات إصلاحيّة وخطابات فلسفية. ولأجل هذا سأبدأ بفرضين في عرض الكتاب – وأنا واحدٌ من بين كثيرين ممّن تابعتُ أكثر موضوعاته وناقشتها وعلقتُ عليها وكتبتُ عنها في حينها – وأنتهي بخاتمة.

فإنّ حوار المثاقفة مع شيوخ الأدب العربي ليظهرنا (أولاً) على توظيف الأنساق الفلسفيّة على أفكار قادة الرأي في الفكر العربي وإسقاط مراحل تقسيم الفكر الغربي المعاصر على نظيره العربي وهو ما تعنيه بالتوظيف الفلسفي، الأمر الذي تميّزت به كتابات عصمت نصار وخطاباته الفلسفية.

ويظهرنا (ثانياً) على نقد الأبنية الأدبيّة في الخطابات الفلسفية نقداً يقوم على التقدير والتقويم، واستطلاع آثارها التطبيقية في الواقع العملي مع القطع بفشل هذه الجزئية الأخيرة في الخطابات الحداثية الغربية.

أمّا الخاتمة؛ فنرجئها لحين الانتهاء من إعطاء صحّة اختبار هذين الفرضين في ضوء موضوعات الكتاب. وليس من فصل في النهاية بين هذين الفرضين سواء من جهة التوظيف الفلسفي أو من جهة النقد الذي يأتي خادماً بالتقييم والتقدير لمثل هذا التوظيف، لأنه لو كان ثمّة فصل فلا ريب سيكون فصلاً تعسفياً غير مقبول عقلاً ولا منهجاً، وسيؤدي إلى خلل غير مرجوّ النفع أو مرجوّ الفائدة، فضلاً عن الربكة والشتات.

يندرج الرأي الذي يراه “عصمت نصار” في مقدّمة كتابه تحت ضرب المراجعات النقديّة، ولعلّه هو نفسه – في حدود علمي – أوّل من نزع إلى تأصيل مصطلح المراجعات النقديّة تأصيلاً فلسفياً بالرجوع إلى المفاهيم الفلسفية سواء لدى النهضويين المجددين بداية من “هرقليطس” إلى “جاك دريدا” ومروراً بالتجريبين بدايةً من جابر بن حيان وابن الهيثم وإخوان الصفا، ثم فرنسيس بيكون وديكارت، وحيث تكون المراجعة تعني الشرح؛ فشروح ابن النفيس لكتب ابن سينا وشروح ابن رشد لكتب أرسطو وإسهامات الرازي وابن الهيثم تؤكد ذلك. وإذا كانت تعني التأويل فبالنظر في كتابات فيلون السّكندري تلتمس مراجعاته لنصوص التوراة ومحاولاته حلّ العديد من المشكلات اللاهوتية عن طريق التأويل الرمزي، وكتابات “هيدجر” عن التأويل للوصول إلى معنى الفهم ووضع المعايير للفهم الصحيح للألفاظ والمعاني والدلالات في ضوء الواقع الفعلي.

أقول إن “عصمت نصار” هو من أوائل الذين أصّلوا للمراجعة تأصيلاً فلسفياً بما صدقاته الاصطلاحية ودلالاتها الواقعية – وإن كنّا لا نعدم في ثقافتنا العربية وجود عناوين تحمل اسم “المراجعات”، ولكنها وإن تكن فلا تنحو هذا المنحى الفلسفي من جهة التأصيل – وذلك في كتابه الموسوم (مُراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث)، إيماناً منه بأن العقلية الناقدة المُبدعة هى وحدها القادرة على المراجعة، وأن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته المحيطة على المراجعة الحرّة بمعزلٍ عن السلطات السابقة التي حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجّهت القراءات. ولم تكن قاعدة المُراجعة فيما أشار إليه “ديكارت” في كتاباته، كمقال في المنهج والتأملات، سوى هاته الملكة الناقدة القادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى حقائق متّسقة الأجزاء تكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقنع فيها بفعل السلطات السائدة أو بأنشطة المعارف الزائفة.

وعليه؛ تصبح المراجعة مصطلحاً يمسُّ صميم المنهجيّة، إذ إنها بمثابة الركن الرئيس لإثبات صحّة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللّبس من الذهن والغموض من المفهوم، إذا ما توافر فيها ثلاث خصائص : الأناة والرّويّة، الشمول والإحاطة، النظام والترتيب (ص 13 وما بعدها).

من هنا، تجئ رؤية الكاتب مستندة دائماً إلى مراجعاته النقديّة. وقد كان لا بدّ لهذه المراجعات أن تتحدّد بمقياس الصبغة التي تصطبغ بها الثقافة العربية، والفترة التي يسودها الطابع المُميّز لها. وبما أن الفكر العربي يُقاس بنظيره الغربي على أقلّ الفروض في معرض المقارنة، فقد جاز له أن يقول: ” إنّ من يُراجع البنية الفلسفيّة للفكر العربي الحديث بكل قضاياه واتجاهاته ونجاحاته وإخفاقاته وخطاباته ومشروعاته، سوف يدرك أنه كان أكثر واقعيّة وأقرب إلى المسحة العمليّة من تفلسف الغربيين والشرقيين المعاصرين للحقبة التي شهدت فجر نهضته الحديثة، أي منذ أخريات القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، وهى تلك الفترة التي يمكن أن نطلق عليها عصر الحداثة العربية التي انتصر فيها قادة الرأي للعلم والتجربة العمليّة والعقل المنهجي الذي اتخذ من النقد سبيلاً للإبداع وقراءة الحاضر والتخطيط للمستقبل”.

ولم يكن بُعد التفكير العربي في تلك الفترة عن الإنشاء النظري المُجرد إلا لعلّة تخدم الغرض الإصلاحي ترجوه الأمة ويرتقبه المجموع وتتوافر عليه جهود المُصلحين. ولم يكن زعماء الإصلاح يُوالون النقد الدائم إلا ليكون سبيلاً للتخطيط المستقبلي والتقدّم المأمول.

وإذا كانت هذه الفترة الزمنية السابقة يُطلق عليها عصر الحداثة العربية من منظور عصمت نصار، فإن الفترة التالية عليها والممتدة من العقد الأول حتى العقد السادس من القرن العشرين فهى أيضاً من منظوره أقربُ إلى بنية ما بعد الحداثة من حيث ثراء الأفكار وتباينها ونقد كل أشكال التبعيّة والانفتاح على الآخر ومقاومة السلطات لتغليب روح الثورة على الاستسلام أو المهادنة كما قال، وهذا لا يصدق على مصر فحسب ولكنه يصدق كذلك على معظم المدارس المنتجة للخطاب الفلسفي أو الخطاب الثقافي العربي الحديث بوجه عام (مصر، والشام، والعراق وتونس، والجزائر، واليمن)، ولا يصدق هذا التحليل على كل منابر الفكر العربي إلا بنسب متفاوتة تبعاً لقوة الخطابات وأصالة المشروعات.

لم يشأ المؤلف أن يعمّم أحكامه جزافاً على مراحل الفكر العربي المعاصر بغير تحديد ولا تقويم، ولم يكن ليخلط بين فتراته الزمنية أو ليتغافل عن تمييز خصائصها، ولكنه في هذا التقسيم شاء أن يصبغه بالصيغة المنهجية الناقدة، وهى في نفس الوقت صبغة ذات نظرة داعمة للتوظيف الفلسفي أو إن شئت قلت مؤسسة عليه، وهو الذي سبقت إليه الإشارة فيما كنا افترضناه؛ فلئن صحّ مثل هذا الفرض وتحقق الغرضُ منه، فلا أقلّ من أن يكون في تقسيم المراحل على هذا النحو قناعة النظر المُنصف المُجرّد عن الأهواء العقليّة.

ولكي يُبقي الغاية سليمة من وراء تلك النظرة الهادفة يتضمّنها كتابه وفق قراءاته النقدية، راح يسدّ كل ذريعة تتطرّق إليها الدعوى أو ينالها التعطيل، وقد حدّد الغاية وأصاب الهدف وأخضع الخطاب الأدبي المتفلسف، لمن كان قد أختارهم من قادة الرأي، تحت مشارط التحليل؛ فقال: “وحسبي أن أشير إلى أن الخطابات الفلسفية في مرحلة الحداثة أو في مرحلة ما بعد الحداثة (في الفكر العربي وفق هذا التقسيم) لم تتخذ من الخطاب المُرسل المُفعم بالتنظير أو النُصح أو الوعظ سبيلاً لها، بل انتهجت نهوجاً غير تقليديّة لإعادة بناء شبيبة الطبقة الوسطى والتواصل معهم، ولعلّ أشهر تلك النُّهوج هو الخطاب الأدبي المتفلسف، وأعني به قالب المقامة والقصّة الذي سكب فيه المُصلحون جلّ آراءهم وانتقاداتهم ومشروعاتهم في التجديد والتحديث والتنوير، أضف إلى ذلك الحوارات الخيالية المختلفة التي كان يُجريها المُجدّدون المحدثون مع الفلاسفة القدماء والمعاصرين لهم؛ بأسلوب نقدي ساخر من أجل تقريب الأفكار والتصورات إلى الأذهان”.

ولم ينس بالإضافة إلى الخطاب الأدبي المتفلسف، دور الشعر والرواية والقصص القصيرة والملاحم الشعبية وفن الموال والفولكلور والمسرح والغناء والتصوير الفني، فجميعُ هذه القوالب الفنيّة من وجهة نظر المؤلف قد حوت بين طياتها خطابات فلسفية توجيهيّة، لأنها فيما يظهر اعتمدت دعائم التفكير الناقد بغية الإصلاح، وآثرت خطاب الرأي العام التابع وخطاب الرأي العام القائد سواء بالنقد المباشر أو غير المباشر فيما لو كانت السلطة غاشمة، ولا بدّ أن تكون، ثم نهضت بالمجموع كيما ينهض فيستقيم.

وبما أن مظاهر التصوير الفني قاطبة على اختلاف أنواعها إن هى الا خطابات فلسفيّة توجيهيّة إصلاحية تجديديّة، فقد علق المؤلف أمله الكبير على شباب الباحثين المجتهدين أن يطلعوا بالكشف عن تلك الخطابات الرائدة التي أصطنعها قادة الرأي وأبتدعها المجدّدون فيهم؛ لتثقيف الرأي العام وتقويم وإصلاح ما في أخلاقه وعوائده عن طريق هاتيك الخطابات غير التقليديّة. ولم يكن الأمل الكبير بمعزلٍ عن تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً في مطلع المقال؛ كونها إسهاماً فاعلاً في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد؛ وذلك في سياق هادف بنّاء يخضع لمنظومة قيم لا يملُّ المؤلف من التأكيد عليها وهى أن خلاصنا ممّا نعانيه من مشكلات وأزمات وأوضاع في واقعنا المعيش إن هى إلا أصداء وانعكاسات لغياب الوعي في ثقافتنا العربية؛ فنحن فيها غُرباء لا نعدو كوننا موجودات هامشيّة، لم تستطع البرهنة على وجودها في أعين السادة المهيمنين المبتكرين الفاعلين.

أنا شخصياًّ اتفق تماماً مع ما يقوله المؤلف ويؤكد عليه، من أن الحق الذي لا مرية فيه هو أنه لم يعد أمام شبيبتنا سوى خيار واحد، ألا وهو إعادة بناء الذات قبل التطلع لتحقيق الرغبات وبلوغ الأماني، من أجل ذلك جاء تقديره لتلك الخطابات الفلسفية في ثيابها الأدبية فتحاً جديداً مقروناً بتأصيل القيم وتفعيل الثوابت الوجودية؛ ليقظة الوعي في ثقافتنا العربية المعاصرة، وهو ما كان قرّره في معظم مؤلفاته.

***

وتأسيساً على اختبار صحّة الفروض التي افترضناها من قبل سواء من جهة المنهجية النقديّة، أو من ناحية التأصيل الفلسفي، ليس يمكن غض الطرف عن أقسام الكتاب الثلاثة، إذ يبرز القسم الأول (قامات ومقامات) ليتناول فن المقامة والحوار الجدلي الفلسفي؛ فإذا أمامنا في الصدر الأول ابن المقفع في كتابه “كليلة ودمنة” والخطاب المسكوت عنه، غير أن اختياره لابن المقفع لم يكن آتياً كيفما أتفق؛ بل باعتباره المصدر الذي استوحي منه المجدّدون طرائقهم في النقد والتعميّة والتورية والترميز. وبما أن ابن المقفع كان المصدر المُلهم لخطابات المستنيرين الأُوّل، فلقد جاءت أقرب إلى فلسفة المقاومة منها إلى النقد الثوري.

ولأجل هذه النقطة وحدها يصبح قصد المؤلف ذا دلالة في اختياره لشخصيةٍ رائدةٍ تمثل معطيات الحوار الجدلي الفلسفي، ولم يكن قصداً مجرّداً عن الدلالة أو عن النظر والتحقيق.

وفي ذات القسم يعرض لخطاب الاستنارة الذي صاغه رفاعة الطهطاوي في كتاب أدّعى أنه قصّة مترجمة عن الفرنسية كيما يتخذ منها ستاراً للبوح بأفكاره ونقداته السياسية والاجتماعية، فإذا خطاب الاستنارة يكمن خلف ستائر الحكايات. أمّا الفصل الثالث؛ فيخصصه المؤلف لمسامرات على مبارك التي انتحلت القالب القصصي الروائي ووضع اللبنات الأولى لمشروعه الإصلاحي ومناقشة قضايا عصره؛ لتكون فصلاً بعنوان “نهوج الإصلاح وقصة الباشا الفلاح”.

وفي الفصل الرابع من القسم الأول، يتناول المؤلف المقامة الفكرية لعبد الله باشا فكري تحت عنوان “إبداعات معلّم وحكايات الفيلسوف الناقد”، ليجلي جوانب موهبته في تصور الأحداث والمواقف في عالم خيالي أكثر إثارة ممّا يشاهد الآن في الأعمال المُحاكية، بالإضافة إلى إبراز قدراته في التخفي والرمزيّة. ثم ينتقل في الفصل الخامس إلى خطاب صحفي ناضج مستنير لمصلح ذي قلم رصين، ثائر وغيور على مصلحة بلاده، برزت في نقداته الرؤى الفلسفية هو محمد المويلحي في مقامات “حديث عيسى بن هشام” وهى التي تعدُّ في رأي “عصمت نصار” أرفع درجات التفكير الناقد في القرن التاسع عشر غير مُنازع.

ثم يأتي القسم الثاني من الكتاب، تحت عنوان رئيس “محاورات ومساجلات”؛ ليشمل مصاولات ومناظرات متوهّمة، بين شبيبة هذا العصر وأكابر الفلاسفة والمصلحين الذين وجهوا خطاباتهم إلى الشباب في فترات زمنية متباينة. قصد المؤلف في هذا القسم من عقد تلك المحاورات إثبات قيمة، وتفعيل فضيلة، وترقية خصال، وتربية طباع، بتعلق علوي قلّ أن نلمسه اليوم بين الكاتبين وهو : أن القيم العاقلة والمبادئ الراقية لا تختلف من جيل إلى جيل ما دام عنصر الأصالة فيها متوافراً غير مجهول ولا منكور. يثبت هذا مع مراعاة أذواق العصور واختلاف الأجيال وتطورات الأزمنة؛ إذ كان عمق المبادئ المستنبطة من دُربة الفلاسفة ومعرفتهم ودرايتهم بأحوال الشباب وطبيعة أذهانهم وطرائق تفكيرهم وخصالهم النفسية والذهنية والذوقية ممّا يؤيد ذلك كله.

ومن أجل هذا؛ ناقش علاقة الشباب بالشيّاب، وتمرُّد الفريق الأوُّل على نصائح الآباء والأجداد بحجّة أن حكمتهم الموروثة كانت تناسب الثقافة التي كانوا يعيشونها، وأنّ من حق الشباب التمرُّد عليها واتخاذهم من ثمّ نهجاً جديداً يعكس نجاحاتهم وإخفاقاتهم ورغباتهم وانتقاداتهم. جاءت تلك الحوارات المتخيلة رهينة في البدء بحكماء مصر ومحاولاتهم الرائدة لمخاطبة الشباب والتحاور معهم. ومن حكماء مصر إلى البحث في الثقافة الهنديّة حيث محاورات بوذا مع تلاميذه، ثم إلى الفلسفة الصينية ومثاقفات كونفوشيوس مع رفقائه، ثم لقمان الحكيم ونصائحه، وحجة الإسلام الغزالي وحواره مع ولده.

يستوثق من هذا كله في إطار منظومةٍ من القيم الثوابت أرادها المؤلف بمثل ما يريدها كل أصيل بحّاثة ولا يقدر على تحقيقها في الواقع الفعلي، يكفيه أن يتمنّاها، لكن أن يحقّقها دراسة وبحثاً كما فعل عصمت نصار ثم ولاءً للقيم العلويّة؛ فقلّ وندر.

ولا جَرَمَ في أن الثوابت من القيم – هكذا تكلّم المؤلف – والأصيل من الأخلاق هى في تقديره لا ينالها التبديل والتغيير. ومن أجل ذلك، وقف على كتابات جان جاك رسو الفيلسوف الفرنسي إلى ولده، واختتم سلسلة المحاورات بثلاثة أعلام من الفكر العربي أولهما أقرب إلى الاتجاه المحافظ المستنير وهو توفيق الحكيم. والثاني أقربُ إلى الاتجاه العلماني المستغرب وهو سلامة موسى. والثالث أدنى إلى اتجاه المحافظين المجدّدين وهو ذكريا إبراهيم.

حقيقةً يُحسب للدكتور عصمت نصار هذه اللفتة الإبداعية الأصيلة الواعية، وهو المعلم بالطبع والعادة، يصرف جهده الذهني نحو الشباب، إذ كانوا الأمل؛ لتوعيتهم وتثقيفهم وترقية غاياتهم وتعلقهم الدائم بالأسمى والأرقى في كل حال، يُحسب له تخريجها من ركام هائل من تراث الفلاسفة عبر العصور، والكشف عن أصولها ومباحثها ووضعها أمام عقول الطالبين؛ لتكون قيمة باقيّة لا مناص من تمثلها للقادرين عليها في كل جيل. وهو مع ذلك ينبّه القارئ إلى أنه لم يكن ليفتعل الأحداث، أو لينتحل المتون، أو ليطوع النصوص كيما تتفق مع الأسلوب الحواري تجاه الشباب. لا لم يكن ليفعل هذا في جميع ما جاء به من كتابات الفلاسفة والمتفلسفين، ولكنه يشدّد على أن ما أورده في سياقاته المعنيّة، كان الفلاسفة ولا شك قد كتبوه بأسلوب حواري جامع بين النصح والإلزام والتوجيه الرامي إلى خلق الالتزام بداخلهم.

هذا، وبالانتقال إلى القسم الثالث من الكتاب، لوحظ أنه مجموع من مقالات متباينة في وجهتها وموضوعها، عنونها بـ “نظرات وتأملات”، غير أنها تحمل في ذاتها أطياف الحسّ الأدبي وأنداء الخيال الرمزي من جهة والرؤية الواعية من جهة أخرى.

تحدّث المؤلف عن تجربة ابن طفيل القصصيّة في فصل بعنوان ابن طفيل بين الفلسفة والأدب؛ لتجيء قصة “حي بن يقظان” التي وضع فيها كل فلسفته تثبت ألا فصام بين المعقول والمنقول، ولا صدام بين الفلسفة والدين إلا من حيث النهج والمنهج.

أمّا الفصل الثاني من القسم الثالث؛ فكان عن الروحيّة الحديثة، وهو فصلٌ مجعول خصيصاً لإثبات أن الفكر الشرقي القديم لم ينتج الخرافة كما يتوهم البعض ولم يصطنعها من عندياته؛ بل إن التصورات الميتافيزيقية والقصص المفعمة بالغيبيات قد شغلت المفكرين في الغرب والشرق على السواء، وربما بالغ الغربيون بالولع بهذا اللون من ألوان الخيال والحديث عن العالم الآخر، وكان حظهم منه أكثر من غيرهم. ثم جاء الفصل الثالث ليشمل التفكير الناقد وحاجتنا الماسة إليه؛ وليعطي صورة وافية عن مستقبل ثقافتنا العربية.

***

يبقى في خاتمة كتاب “خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة” لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، والصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع بالقاهرة، والذي ينتظم هو وأخيه “مراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث” في عقد واحد وتوجُّه واحد ومنظومة فكريّة واحدة، يبقى أن نقول إن عنصر الأصالة في ثقافتنا العربية يميزه عن غيره شديد التميز مثل هذه الدراسات، ويحيى فيها من جديد يقظة الوعي بالاطلاع على المصنّفات التنويريّة، وإن كنا نرى – وأعتقد أن ما نراه لم يغب عن اعتبار الدكتور عصمت نصار بوجه من الوجوه – إعادة النظر في استخدام مصطلح الاستنارة والتنوير، فيما لو قصد به الإشارة إلى كتابات بعض الكتّاب العقلانيين أمثال : سلامة موسى، وشبل شميل، وأحمد لطفى السيد، ويعقوب صرّوف وفرح أفندي أنطون، وغيرهم من طلائع النهضة العامة في الفكر العربي ممّن نقلوا عن الغرب دون إبداع كبير، يحفظ الهُويّة العربية ويحتفظ بالخصائص الحضاريّة والسمات الأصيلة؛ الأمر الذي يقدح تماماً في الخلط بين التنوير في التفكير العربي ونفس المصطلح في الثقافة الغربية؛ فالتنوير في ثقافتنا العربية ليس هو التنوير في التفكير الغربي لا لشيء إلا لاختلاف الخصائص والسّمات التي تعكس منظور الثقافة التي ينتمي إليها من يأخذ هذا المصطلح أو ذاك ليطبقه عنوة على الثقافة العربية.

وما يقالُ عن التنوير يُقال بنفس التقدير عن الحداثة وما بعد الحداثة؛ فما بعد الحداثة، فكرٌ تقويضيٌ معادٍ للعقلانية والشمولية والثبات، مصادم للكليات سواء كانت دينية أم كانت مادية. وبما أنه فكر يحاول الهرب من الميتافيزيقا، ومن الحقيقة والمركزيّة والثبات؛ فلا شك في كونه يظل غارقاً حتى الثمالة في الصيرورة التي تنقض القيم العلويّة وتقوض الدعائم الخلقية ومرتكزات الهُويّة الحضارية تتأسس عليها ثقافتنا العربية. ومن هنا كانت الخاتمة التي قصدنا فنقول بادي الرأي :

أصول ثقافتنا العربية عربية عربية؛ الأمر الذي يدعم فكرة تأصيل الهويّة العربية والبقاء عليها نقيّة مُعافة من لوثة الأغيار الخارجية. غير أنه عندي هو أملُ المفكرين لا واقع القائمين، ومع كونه هو الأمل المرجوٍّ إلا أن نسبة التحقيق فيه تبدو ضعيفة في ظل كدورات الحياة اليوميّة، وفي إطار وصمة العار التي تلاحق أوطاننا من جرّاء التفرقة والانقسام ثم التشرذم والانقراض ما لم يقم فينا رابطُ من التوحيد وطيد.

***

د‌. مجدي إبراهيم

 

على سبيل التقديم:

يندرج الكتاب ضمن النقد الأدبي المعاصر، وقد صدر عن جامعة المبدعين المغاربة في طبعته الأولى 2021، من الحجم المتوسط في 130 صفحة. وموضوعه مقاربة السرد المغربي المعاصر خلال بداية الألفية الثانية، في إطار مساءلة المناهج النقدية التي وظفها النقد المغربي منذ مرحلة ثمانينات القرن العشرين. وقد أشار في مقدمة دراسته إلى أنه اعتمد منهجا موضوعيا متكاملا "تمثل في المقاربة الشاملة للرواية، فتحددت الدراسة مع (الانطباعية والموضوعية ونظرية التلقي)، كمحاولة للانفتاح على المناهج النقدية الغربية الحديثة"(1).

وهكذا، جاءت قضايا الكتاب وفق الآتي:

استهل الباحث دراسته بتحديدات منهجية تطرق فيها إلى الرواية والتعدد المنهجي والخلط المفاهيمي؛ إذ أرجع التعدد المفاهيمي والخلط المنهجي إلى الترجمات المتعددة دون أن يشير إلى اختلاف مرجعيات المترجمين اللغوية والمعرفية..إلخ، ثم إلى عدم فهم الرؤية المنهجية على حد قوله، فيما "تكمن مشكلة الرواية في أنه يتداخل فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي"(2).

ومن هنا، حديثه عن مناهج الدراسة الأدبية بين التكامل والتعارض، حيث أشار إلى أن توظيف مناهج مختلفة لدراسة أثر أدبي يترتب عنه "تعارض المناهج"(3)، ومن ثم اختلاف في النتائج المتوصل إليها. وفي هذا السياق، يغفل الباحث الأسس المعرفية للمنهج المتكامل الذي لا يعني، بالضرورة، تكديس وتنضيد مناهج نقدية مختلفة دون إيجاد وخلق العلائق والروابط الإبستيمولوجية التي تجمع وتفرق بينها في الآن. فضلا عن كونه يناقض كلامه في المقدمة حيث إن "كتاب الرواية باحثون أيضا في علم التاريخ والمجتمع والنفس وغيرها من المجالات"(4)؛ لأن تعدد مصادر وروافد الروائيين ينتج عنه تعدد في المناهج والمنظورات النقدية تليقا ونقدا.

كما أنه عرض لمحة تاريخية مختزلة لبداية السرد التاريخي والروائي في المغرب، علاوة على الشروط الموضوعية للتجربة الروائية بالمغرب، والتي حددها في: شرط الذات، وشرط البيئة، وشرط الحرية، وشرط تطور الأفكار والتأثر بالغرب ، وشرط الخيال. ثم بعده، حاول تقديم قراءة في التجربة النقدية لسعيد يقطين، مركزا على كتبه التالية: "تحليل الخطاب الروائي (الزمن- السرد- التبئير)"، و"قال الراوي"، و"القراءة والتجربة"، و"انفتاح النص الروائي: النص والسياق".

ومن ثم نصل إلى فصول الدراسة...

فأما الفصل الأول المعنون ب "الانطباعية في السرد المغربي المعاصر"، فقد أشار فيه إلى ما يَصطلح عليه ب" المنهج الموضوعي المتكامل"، وقد سبق له أن حدد منهج قراءاته "ضمن ما يصطلح عليه بالنقد الانطباعي"(5) الذي يجازف الباحث في القول إنه المنهج "الوحيد الذي سلم من العيوب والانتقادات"(6)، وهذا الحكم محط نقاش وجدال مستمرين؛ ذلك لكون المنهج الانطباعي قد أُخذَ ب:

- "محاربة القواعد العلمية والمعايير النقدية الأكاديمية، والانتصار للذوق الذاتي الذي يشكل مركز الدائرة النقدية الانطباعية،

- الإفراط في استحسان النصوص أو استهجانها، على السواء، أي ما يسميه جابر عصفور بثنائية (الحب والكره) التي يتوسل بها الناقد الانطباعي جاعلا من حالاته المزاجية معيارا نقديا متقلبا... الذوبان في النصوص المعجب بها والتماهي في أصحابها،

- العدول عن النصوص المدروسة إلى أجواء نائية من الهوامش والخواطر والذكريات الذاتية، والتطويح بالقارئ في هذه الفضاءات القصية؛ إذ غالبا ما تحمل الناقد موجة تأثراته الذاتية بعيدا عن النص، لتلقي به في لجة عواطفه الخاصة،

- الإسراف في استعمال اللغة الإنشائية الشاعرية التي يطغى عليها ضمير المفرد المتكلم (أنا)، وصيغة (أفعل التفضيل) وسائر الأساليب الانفعالية"(7). بيد أن الباحث لم يتطرق إلى هذه السمات التي تعد نقطة ضعف في النقد الانطباعي الذي وجد له مدافعين منافحين في النقد الغربي (سانت بوف على سبيل المثال لا الحصر) والنقد العربي (محمد مندور على سبيل التمثيل). كما أن الباحث يشير إلى تجربته الشخصية في تطبيق المنهج الانطباعي على "روايات ومجاميع قصصية أرخت بظلها على عصرنا الحالي"(8)، ذاهبا إلى كون "المنهج التأثري هو السبيل الوحيد لدراستها والتعريف بها"(9)، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الدافع وراء هذه الوثوقية؟ ما المعايير الفنية والدلالية التي استند عليها في إقراره هذا؟ أم أن المتن لم يكتب إلا ليدرس انطباعا وحسب؟

وفي مساق حديثه عن التجريب في رواية "عين الفرس" للميلودي شغموم، لم يتطرق الباحث إلى التجريب في الكتابة الفنية الروائية، وإنما ركز على المحتوى وما يتضمنه من موضوعات اجتماعية (الجوع، الاستبداد، الهجرة...) دون تركيز واهتمام بالتجريب في الشكل الروائي.

كما أننا نسجل تناقضا آخر في الدراسة؛ إذ أشار في الصفحة 31 إلى أن النقد الانطباعي هو الوحيد الذي سلم من العيوب والانتقادات، ليخلص فيما بعد إلى القول "بأن الدراسة الانطباعية لم تحقق أي جديد"(10)، وفي الإحالة رقم 49، يقول "وبهذا نساير رأي الأستاذ سعيد يقطين بأن الدراسة الانطباعية تسيء للعمل الأدبي"(11)، وهنا يبرز تناقض الباحث مع نفسه، الشيء الذي ترتب عنه خلط في المعلومات يوحي بانعدام أرضية معرفية صلبة ينطلق منها الباحث؛ لأن لكل منهج أسسَه ومصادرَه المعرفية، ومفاهيمَه وأدواتِه الإجرائيةَ.

أما الفصل الثاني المتعلق بالسرد المغربي ورهانات الكتابة، فإن ثمة مؤاخذة نسجلها على الباحث؛ حيث أشار في الإحالة 52 من الصفحة 52 إلى كون مصطفى حجازي باحثا مصريا في علوم الاجتماع، وهنا خطأ معرفي؛ لأن حجازي عالم نفساني لبناني.

وفي هذا الفصل، تناول الباحث الموضوعاتية في السرد المغربي، وذلك من خلال قراءاته في أعمال إبداعية مختلفة، نلاحظ فيها تركيزا مفرطا على المحتوى وموضوعاته الاجتماعية أكثر من الاهتمام بالمستوى الفني الجمالية؛ فهو يقدم انطباعات تعد انعكاسا لنفسيته كما تفاعلت مع المقروء، وهذه قراءة انطباعية، لكن إشارته، في المقدمة، للمنهج الموضوعي المتكامل تبين غياب هذا المنهج الذي طغت عليه القراءة الانطباعية التيماتية.

على أن الفصل الثالث المعنون ب" جمالية التلقي في السرد المغربي المعاصر" انصب على تجربة عبد الكريم الجويطي وطارق بكاري، ليختم دراسته بخلاصات حول ما توصل إليه في دراسته وتحليله للمتن الذي حدده في المغرب جغرافيا، وفي بداية الألفية الثانية زمانيا.

على سبيل الختم:

نخلص من قراءتنا للدراسة إلى:

- عدم تطرق الباحث إلى الأصول والجذور المعرفية للمناهج التي قال بالاعتماد عليها، لا عند الغربيين ولا العرب، نستثني من ذلك إشارةً طفيفةً ترجع نظرية التلقي إلى ياوس وآيزر، فضلا عن عدم نقد هذه المناهج نقدا علميا شاملا وعميقا لجذورها ومفاهيمها وأدواتها الإجرائية قبل إصدار حكم نقدي حوله لا يستند لأي دلائل وبراهين صلبة ومدعمة بالأمثلة والشواهد،

- إغفال مآزق المنهج المتكامل المعرفية والإجرائية،

- الارتكان إلى بعض المراجع دون محاولة نقدها وتطويرها (مراجع سعيد يقطين خاصة)،

- غياب إشكالية محددة ومؤطرة للدراسة، فلم يشر الباحث إلى الإشكالية والتساؤلات المنطلق منها،

- اعتماد التعابير الذاتية بكثرة، ونمثل لذلك ب: "وقد جمعتها بحسب اهتماماتي وتصوري المنهجي"، و" بعد كتابي"، و"أقر، و"ما لامسته شخصيا" و"فإنني لا أعلم أين أبدأ وأين أنتهي"، و"وقد ارتأيت استحضار"..إلخ.

***

محمد الورداشي

.....................

- الإحالات والهوامش:

(1) الحسين أيت باها: سرديات معاصرة، جامعة المبدعين المغاربة، ط1: 2021، ص9

(2) ن م ص12.

(3) ن م ص13

(4) ن م ص 12

(5) ن م ص31

(6)  ن م ص31

(7) عبد الحميد هيمة: الخطاب النقدي بين النقل والتأصيل من خلال كتاب: حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله الفيفي"، مجلد مقاليد العدد الثاني، ديسمبر 2012، ص43

(8) سرديات معاصرة ص32

(9) ن م ص32

(10) ن م ص47

(11)  ن م ص47

 

الصفحة 2 من 6

في المثقف اليوم