قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

قراءة في كتاب أشيل مبيمبي: "الوحشية: فقدان الهوية الإنساني"

ثمة كتب لا تُقرأ بل تُرتّل. و”الوحشية” ليس نصًا يُفكّر في الإنسان، بل يُفكّك فكرة الإنسان ذاتها. ليس هذا الكتاب نزهة فكرية، بل مسيرٌ عبر دروب شائكة من الأسى الفكري والتحليل الوجودي، يمضي فيها أشيل مبيمبي وهو يستحضر أقصى طاقات اللغة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا السياسية ليصوغ لنا أحد أكثر النصوص الراديكالية صدقًا في مساءلة مصير الكائن البشري في عصر تقني متوحش.

في “الوحشية”، لا نجد فقط تأملًا في العنف، بل اكتشافًا لما بعد العنف، في لحظة انفجاره الصامت داخل جسد الحضارة، لا في أطرافها كما يظن البعض. الوحشية هنا ليست فعلاً فالتًا من سياق أخلاقي، بل هي جزء أصيل من النسق الذي يُنتج الحياة ذاتها كشيء يمكن الاستغناء عنه. وكأن الحداثة الغربية وقد بلغت ذروتها، قد بدأت تأكل نفسها، وتحيل كل ما لم يُصغَ وفق نموذجها إلى فتات لاهوِّي، مسلوب القدرة، محروم من الاندراج في خطاب الإنسان.

يتحرك مبيمبي في تضاريس هذا النص بمفاهيمه الخاصة، فتراه يبتكر “براديغمًا أنثروبولوجيًا” يعيد به التفكير في جسد الإنسان، في مساحته، في دمائه، في قيمته، في تصنيفه، وفي لحظة خروجه من إنسانيته دون ضجيج. إنه لا يكتب عن ما بعد الكولونيالية فحسب، بل عمّا بعد الكائن البشري ذاته. فمن “الإنسان الزنجي” بوصفه كائنًا معرًّى منذ لحظة الاكتشاف، إلى “الإنسان الرقمي” باعتباره نقطة عبور بيانات، يقيم مبيمبي هذا الحداد المتواصل على هوية لم يُعترف بها أصلًا، وها هي تفقد الآن حتى إمكانية المطالبة بالاعتراف.

يَشتغل النص بمقاطع لغوية تكاد تكون طقوسًا سردية، كأنها أنشودات فكرية تنبثق من نواة مشروخة، لا يُراد لها أن تندمل. هكذا نقرأ فصولًا عن “الفحولة” لا كنوعٍ بيولوجي، بل كأداة هيمنة إيكولوجية واقتصادية، وعن “الدم الصناعي” لا كابتكار طبي، بل كتحقيق لشبه-كائن لا ينتمي لا إلى الطبيعة ولا إلى الثقافة، بل إلى منطقة الفراغ الوجودي التي يحكمها الخوارزمي والسلعي والاستبعادي.

ويمتد نقد مبيمبي ليشمل “تقنيات التشفير”، “الذكاء الاصطناعي”، “الاستعمار الرقمي”، “سياسات الحدود المتنقلة”، و”الاقتصاد الحيوي للدم”، مؤطرًا كل ذلك ضمن مشروع فكري يُدين الوحشية لا بصفتها نتوءًا عارضًا، بل بوصفها نظامًا متكاملًا لإنتاج العالم وإدارة موارده الحية والميتة. إنه لا يحاكم الفاعل بل بنية الفعل ذاتها.

غير أن هذا المشروع الفلسفي لا يصدر من برج عاجي، بل من واقع إفريقي–جنوب عالمي، حيث يعيد مبيمبي بناء نظرية “الاختفاء الهادئ للإنسان” استنادًا إلى ملاحظاته الطويلة على السياسات النيوليبرالية في إفريقيا، من الكاميرون إلى جنوب إفريقيا، ومن دوائر رأس المال إلى مخيمات اللاجئين. وحين يتحدث عن “الدم المؤتمت”، أو “الخرائط البيولوجية للهيمنة”، فهو لا يصف المستقبل بل الحاضر المعاش في دول الجنوب: حيث تُختزل قيمة الفرد في قابليته للاختبار، وجسده في قابليته للتحلُّل، وحدوده في قابليته للقياس، وموته في قابليته للتسعير.

إنه عمل يُربك التصنيفات: فهو فلسفة لكنه يتجاوز نسقية فوكو، سوسيولوجيا لكن دون أدوات بوردييه، نقد كولونيالي لكنه لا يُطمئن القارئ بعزاء الهوية. إنه عمل يُفكر من داخل التهشيم، لا لينقذ بل ليُسائل إمكانية النجاة نفسها، ويكتب من موقع الغياب لا ليستعيد الغائب بل ليُعلن بأن الغياب صار طبيعة الكائن لا ظرفه.

ولعل أهم ما يميّز هذا النص، إلى جانب بنيته المفاهيمية المركبة، هو لغته التي لا تستجيب لمتطلبات العرض الأكاديمي الرتيب، بل تتوهّج في استعاراتها، وتتلوّى عبر مفاصل الجُمل، حاملةً في طيّاتها تجربة فكرية قاسية، ممتنعة على التسطيح، متعالية من دون نرجسية، وشعرية من دون استسلام لجمالية مجانية. ورغم هذا، لا تُخفي اللغة بعض التوتّر البنيوي بين نزعة مبيمبي الشعرية والتزامه التحليلي، وهي توتّرات كان يمكن للقراءة أن ترصدها كعلامة على تحوُّل المفكر من مقام المُشرّح إلى مقام المنكوب.

الهوية، كما يصوغها النص، لم تعد استحقاقًا بل مفارقة. والمكان لم يعد جغرافيا بل خوارزمية. والحياة لم تعد هبة بل مادة خام تُبرمج وتُقنَّن وتُسعَّر. وهكذا يبدو مبيمبي في هذا الكتاب كمن يؤبّن “الإنسان” وهو في ذروة حضوره، لا ليرثيه بل ليُعلن أن هذا الحضور لم يكن يومًا إنسانيًا بما يكفي.

في خضم هذا كله، لا يدعو النص إلى إصلاح، ولا إلى مقاومة بالشكل المباشر، بل يكتفي بإعادة توصيف الكارثة. تلك هي نبرته الفلسفية العالية: التشخيص بعمق، لا الوصف؛ الإدانة بالتفكيك، لا بالاستنكار؛ إعادة توزيع الضوء على الحُفر بدلًا من تقويم الطريق.

لقد كتب أشيل مبيمبي عملاً يُضاهي فوكو في “المراقبة والعقاب”، ويُزاحم فانون في “معذبو الأرض”، ويخاصم الحداثة بلغة من صميم معاجمها. وبهذا، فإن الوحشية ليست كتابًا عن الوحشية فحسب، بل وثيقة فلسفية عن نهاية مشروع الإنسان نفسه كما بشّرت به أوروبا، وبداية ما بعد الإنسان ككائنٍ خاضع للتشفير، للمسح، للحذف، ولإعادة التكوين.

وإذا كانت هذه الدراسة لا تكفي، فلأن الكتاب ذاته لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يُسكن القارئ في داخله، ليعيد تشكيله. وبهذا المعنى، فإن من يقرأ “الوحشية” لا يخرج منه كما دخل. إذ أن الذي خرج، خرج محمولًا على سؤال لم يعُد يخص غيره.

لا خاتمة لهذا النص، كما لا خلاص من الوحشية التي لم تعد قيدًا طارئًا على الجسد، بل نسيجًا دقيقًا في بنية العالم.

فمبيمبي لا يكتب ليُطمئن، بل ليخلع عن الإنسان وهم اكتماله، ويتركه على حافة المعنى، مُعلَّقًا بين أن يكون آلةً محسوبة، أو ذاكرةً مُسحوبة.

هكذا ينتهي النص كما بدأ: بلا ضمان، بلا يقين، وبسؤالٍ يظل مشرعًا كجرح مفتوح في جبين الحداثة.

***

إبراهيم برسي

 

لحظة كشف، أو قفزة إلى عمق الذات، أو انزلاق يفتح بابًا للدهشة...

 أولى العتبات: العنوان – مفارقة الفكر والشكل

منذ العتبة الأولى، أي عنوان المجموعة "أخطاء جليلة"، يباغتنا الكاتب بتوتر دلاليّ يوقظ السؤال: كيف يمكن للخطأ أن يكون جليلًا؟ هذه المفارقة بين الموصوف والصفة ليست تلاعبًا لغويًّا فحسب، بل مدخلٌ فلسفيٌّ يُؤسّس لرؤية تُقارب الإنسان من زاوية هشاشته، زلّاته، ووعيه العميق المتأخر. الخطأ في هذه المجموعة ليس مجرّد سقطة، بل لحظة كشف، أو قفزة إلى عمق الذات، أو انزلاق يفتح بابًا للدهشة... وربما للهاوية.

- الغلاف: الثقل البصريّ والرمزية الصامتة

يحمل الغلاف لونًا ترابيًا مائلًا إلى البني، يوحي بثقل التجربة، وبعمرٍ داخليّ معقّد تحمله النصوص. في بساطته، يبدو الغلاف كمرآة للمحتوى: لا يسعى إلى الإثارة البصرية، بل يمهّد لرحلة تأمّل، تُراهن على العمق لا على الزينة، وعلى الوقع لا على البهرج. وكأن الذاكرة التي كُتبت بها النصوص معتمدة على خطايا قديمة، وتجارب لم تكتمل بعد.

- عن التجربة: القصر الذي يتّسع

تأتي هذه المجموعة ضمن جنس القصة القصيرة جدًا، ذلك الشكل الأدبيّ المراوغ والمقتضب، الذي يُشبه الومضة من حيث سرعة وقوعه، لكنه كالنصل من حيث وقعه وأثره.

في مئة قصة قصيرة جدًا، يشكّل الجريدي بانوراما دقيقة للحياة في مفارقاتها، واضطراباتها، ومناطق ظلّها. لا يقدّم الحكاية الكاملة، بل يتركنا على تخومها، لنكملها نحن؛ فالقارئ في هذه المجموعة ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في التلقّي والتأويل.

- بين الكثافة والدلالة

يتقن الجريدي اقتصاد اللغة دون فقدان الكثافة، ويبرع في هندسة قصصه كأنها قنابل صغيرة، مشحونة بالتوتر الدرامي، لا تقول كلّ شيء بل تلمّح، وتُورّطنا في التفكير، لا في التسليم.

القفلات غير متوقعة، لا تسعى للإبهار الفارغ بل لكسر النمط، أو خدش التلقّي الآمن. من هنا، تأتي النصوص محمولة على مفارقة، لا تسقط في النكتة ولا في الخاطرة، بل تحتفظ بصلابتها الأدبية وشعريتها الخفية.

- الإنسان في لحظات الانكشاف

في معظم النصوص، نُصادف الإنسان العاديّ، لا في حياته اليومية، بل في لحظة انفضاحه الداخليّ. لحظة تتجلّى فيها الهوية المتكسّرة، أو القيم المهزوزة، أو الذات التي تتعرّى أمام ذاتها.

- قصة "خدعة منمّقة":

امرأة تتجمّل صباحًا لتخفي هشاشتها، ثم تنهار في المساء. الخطأ هنا هو التزييف، لكنه "جليل"، لأنه يحميها من الانهيار الكامل.

"ينطفئ سحرها ويتلاشى بريقها أمام غسق الأرواح المنكسرة التي اجتهدت في إخفائها طول النهار."

- قصة "أمّ عزباء":

الحقيبة تصبح رمزًا للهروب المؤجل، والأمومة تتحوّل إلى قدر قاسٍ لا مهرب منه:

"فتحت الحقيبة من جديد، وبعثرت كلّ ما كان فيها من أدباش، على أن تعيد ترتيب أحلام العودة، ككلّ يوم آخر."

- قصة "رسّامة":

تحوّل العجز الجسدي إلى لحظة إبداع. تولد أطفال الألوان حين يعجز الرحم، وتنتصر الفرشاة على الألم.

"باغتتها أوجاع في الظّهر تشبه آلام الولادة، فتحلّق حولها أطفال الألوان."

- البلاغة الصامتة: اقتصاد وجرح

نصوص الجريدي تمارس بلاغة الحذف لا بلاغة الزخرف. لا مجاز متكلّف، ولا رصف شعريّ، بل جمل قصيرة، مقتصدة، وموحية.

اللغة تجرح لتضيء، وتُلمّح لتفجّر الدلالة. والكاتب يتعمّد التوتّر الأسلوبي في بعض الجمل، لتُصيب القارئ كخنجر خفيف لا يُرى... لكنه لا يُنسى.

- العنوان كمفتاح، لا زينة

أغلب العناوين – مثل "خدعة منمّقة"، "أمّ عزباء"، "رسّامة" – ليست زخرفًا خارجيًا، بل بنية موازية للنصّ. هي عتبات تكثف المعنى، وتفتح المجال للتأويل.

الجريدي لا يكتب من أجل السرد، بل من أجل الإضاءة. لا يقدم أجوبة، بل أسئلة. لا يحكي الواقع، بل يُفكّكه.

- في التأصيل الجمالي والسردي

تُعدّ هذه المجموعة مساهمة جادّة في مشروع القصة القصيرة جدًا في تونس. فهي لا تقع في فخّ التجريب أو التبسيط، ولا تُراهن على المفاجآت المجانية.

إنها تقدم نصوصًا مكتملة فنيًا، متعددة الرؤى، قائمة على أثر لا على صدمة. وربما الأهم من ذلك، أنها تُقدّم "الخطأ" لا كمأساة بل كضرورة وجودية، كمرآة لنا لا عليهم.

- خاتمة: حين يُخطئ الإنسان ليُفهم

في "أخطاء جليلة"، لا يسعى الكاتب إلى إدانة أحد، بل إلى تفكيك آليات الخطأ بوصفه إنسانيًّا وضروريًا. هذه القصص ليست درسًا في الأخلاق، بل تمرينًا في الفهم.

هي سرديات موجزة، لكنها طويلة في أثرها.

هي أخطاء، نعم... لكنها جليلة بما يكفي لتُعيدنا إلى أنفسنا.

ورقة نقديّة بقلم: لطيفة الشّابي

- بطاقة العمل:

العنوان: أخطاء جليلة

النوع: مجموعة قصصيّة قصيرة جدًّا

المؤلف: عادل الجريدي

الناشر: دار الأدب الوجيز

الطبعة الأولى: 2025

***

شمس الدين العوني

قراءة د. حاتم الصگر في دفاتر الفنان غسان غائب

هذا الامتلاك القوي لأدوات التعبير عن تجربة فنان تشكيلي عراقي، إنما هو الإشارة إلى اللغة الرفيعة والتمكن من الأداء النقدي لدى الأكاديمي الدكتور حاتم الصگر  وهو يطلّ علينا من نافذة أخرى تمثل وعيه الفني وثقافته الرؤيوية الجديدة التي تنامت داخل هواء المعرفة ـ سبق أن صدر له كتاب "المرئي والمكتوب" دراسات في التشكيل العربي ـ في قراءته الجديدة لـ "دفاتر غسان غائب" الصادرة عن مطابع دار الأديب في عمّان عام 2021 بطباعة في غاية الأناقة.

يؤكد لنا الصگر دفق عواطفه المستجيبة لكل منظور جميل يثير في النفس هوى الفن، وهو في هذه القراءة يقدم شهادة امتداداً لمنهجه النقدي الرصين، بإضافات جديدة مبدعة، ملهمة.

حاتم الصگر عبر مقدمته التي تصدرت كتاب (كن شاسعاً كالهواء) يؤلف إيقاعاً ينسجم مع ذات المبدع حين يواجه زمناً تسارعياً لابد أن يتخطاه. هؤلاء الفنانون العشاق هم الذين يرفعون شعلة الفن الخالدة، وقد ترددت أسماؤهم في هذا الامتداد اللانهائي للفن، قد تحلق اليوم أوغداً بأجنحة للجمال كظاهرة تشكيلية تفردت بالموقف وأصرّت عليه.

لقد أدرك هؤلاء الفنانون منذ أول وهلة أنهم يجب أن يبدعوا صوتهم الحقيقي، وهكذا فقد نظروا إلى ما وراء الأفق، واستعاروا كثيراً من مفردات الأساليب الفنية في العالم حين لم يجدوا ضالتهم المنشودة فيما هو مطروح في ساحة الفن العراقي.. ولا ضير في ذلك، لأنهم سيجدون أنفسهم يوماً، على أية أرض يقفون، وأية من قضايا الفكر والفن هي التي تجذبهم إلى أحضانها؟

الفنان غسان غائب من مواليد بغداد 1964 تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد 1997، أقام عدة معارض شخصية في خارج العراق، كما شارك في عشرات المعارض المحلية والعربية والدولية، ونال عدة جوائز، كانت الأخيرة جائزة الإبداع عام 2000 في بغداد. تميزت مسيرة غائب الفنية بالتنوع والتجدد حيث جمع بين التجريد الهندسي والفن التركيبي، والفن المفاهيمي، معبراً عن قضايا انسانية وبيئية وفلسفية عميقة. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، انشغل بالتجريب الفني وقدّم أعمالاً تتغير فيها الصياغات الشكلية بتقنيات ومواد مختلفة، يلجأ فيها إلى الخشب والأسلاك والكرتون ليخلق أعمالاً تفاعلية تحمل رسائل فلسفية وبيئية وتثير تساؤلات عديدة.

يكشف لنا الدكتور الصگر  الممكنات التي أوصلت الفنان التشكيلي غسان غائب إلى تجاربه الأسلوبية التي تثيرها معاينة مجموعة من دفاتره الشعرية التي قام بتنفيذها في السنوات الأخيرة بأشكال خاصة، يتصدى لها الصگر بالتحليل أنها تنتمي لتقنية الكتب، وتلازم القصائد المختارة بأشكال من التعالق.

ان أبرز الممكنات التي تعد مهيمنات أسلوبية ورؤيوية معاً في أعمال غسان كما يشير اليها الدكتور حاتم هي تفاعل الفنان مع المناهج والمقترحات الحديثة في الفن التشكيلي، تعزز ذلك ثقافته المتنوعة في الأدب والثقافة والنصوص الشعرية والفلسفية لاسيما الاشراقية منها، والمتصوفة بوجه خاص، ويبدو من ذلك ان النزعة الثقافية في أعماله، تعود إلى بداياته أيضاً، فهي تربية فنية وجمالية دأب عليها، وتغذت منها منجزاته الفنية، وعقدت تلك الصحبة مع النتاج الشعري والثقافي عامة، وتطورت إلى التعالق بين الكلمة والصورة البصرية.

قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه إلى مواطن الكشف التي تمنحها بعداً زمنياً من الممارسة والتجربة والاختبار، يؤلف نسيجاً من الإضافات الذاتية الخلاقة. الحقائق التي تناولها الاستاذ الصكر تقودنا إلى النظر والتأمل في عالم مفتوح تنبسط عليه محاولة الفنان غائب التي توحي ان الفن التشكيلي بقدر ما يحمل من حرية في التعبير، فان الابتهاج الاعمق ان تصبح المحاولة الى ممارسة جمالية واعية، تؤكد الفرق بين المبدعين في الفن، وبين اللاهين بأدواته.

أعمال غائب كما يصفها الأستاذ حاتم لا تخلو من غرابة ما على مألوف التلقي البصري، ثمة إشكالات في رؤيتها معروضة كما في المعارض التقليدية، هي لاتستند إلى جدار ولا تلجأ إلى إلى فضاء متحفي، هي معروضة للمعاينة الفردية. يدمج بين الشعر والفن التشكيلي، مستلهماً نصوصاً لجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، والجواهري، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، ومحمود البريكان، ورشدي العامل. لخلق لغة بصرية تحمل رسائل جمالية وفكرية. أو كما يعبر عنها الأستاذ حاتم الصگر بحالة التماهي بين الشكل والمهمة البصرية لا التشكيلية، وهذا يفسر الأشكال المتدرجة والصفحات والدوائر وغيرها، مما يتحدى المعاينة البصرية السالفة بالخبرات التي ورثها المتلقي وتعامل بها مع المنجز الفني.       الشعر هنا يقرأ ولا يسمع البتة، وعالم اللوحة ينبثق من عنصر الصمت الذي سيطوح بنا في مجهول، ليست المصادفة خلقت هذا التعالق، إنما هناك شيئ ضائع لانعرفه، بيد أنه مختزن فينا، الفنان "غائب" هو الضوء الكاشف لأعماق المسارات العذبة الشجية التي تأتينا مع الصمت وانهمار التداعيات. ليس لأننا لا نملك القدرة على الإمساك بكل معاني تجربته بكل ما فيها من شفرات ورموز واحالات ودلالات، بل لأنه أودع فينا الرسالة التي يريد الفنان أن يوصلها لا بمفردات نصية على السطوح فحسب كتعالق مع الشعري، بل بموقف متكامل من الحياة وما يتصل بها.

***

د. جمال العتابي

 

صدر عن دار "مسامير للطباعة والنشر" بالسماوة كتاب "طريقي.. سيرة ليست شخصية" للمخرج هادي ماهود وهو الكتاب الثاني في رصيده السردي بعد أطروحته الجامعية المعنونة "الفيلم الوثائقي العراقي والهُوية الوطنية" لنيل درجة الماجستير من جامعة RMIT في أستراليا. يجمع هذا الكتاب بين السيرة الذاتية التي لا تتوقف عند حدود "الأنا" المتعالية أحيانًا وإنما تمتدّ إلى الآخرين وخاصة الشخصيات المُحببة إلى نفسه والمقرّبه إليه من دون أن يهمل الشخصيات الأخرى التي لا يحبّها مثل بعض الساسة الفاسدين، ورجال الدين المُرائين، ونزّاهي الفرص الذين يميلون حيث تميل الريح.

يتألف هذا الكتاب من 13 فصلًا يبدأ بـ "مدخل" وينتهي بـ "ببليوغرافيا". وعلى الرغم من أهمية هذه الفصول الثلاثة عشر إلّا أنّ هذه المراجعة أو القراءة النقدية على الأصحّ، ستغضّ الطرْف عن أربعة فصول وهي على التوالي:"حرب الخليج الأولى"، "انتفاضة آذار 1991"، "الهروب إلى الصحراء"و "معسكر رفحاء" ليس لأنها غير مهمة وإنما لكونها تقع خارج النسق السينمائي الذي نتحدث عنه والذي يمكن تتبّعه في الفصول السبعة المتبقيّة إذا ما استثنينا "المدخل" بوصفه عتبة للكتاب و "الببليوغرافيا" كسيرة ذاتية وعلمية مكثّفة.

الإلمام بأسرار السرد

لا يجد هادي ماهود حرجًا في القول بأنه لم يحقق الحدّ الأدنى مما رسمه لحياته الشخصية ويُلقي باللائمة على السياسيين العراقيين الذين تحكّموا بتوجيه مسارات حياته عنوة. كما يعترف متسائلًا بنبرة تهكمية ساخرة:"وهل أنا غاندي حتى أكتب مذكراتي"؟ وبما أنه مُخرج سينمائي ويمتلك بعض أسرار السرد، ويلمّ بالعديد من تقنيات البناء السينمائي المُبهر فلا غرابة أن تتسم كتابته بالسلاسة والعذوبة والتشويق، واعتماد الكلمة الشعبية في بعض الأحيان لاعتقاده "بعجز المفردة الفصيحة عن إيصال الأحاسيس"([1]). ويضيف بأنّ استعمال المفردات الشعبية قد زادَ من مصداقية شهاداته التي يعني بها مذكراته أو سيرته الذاتية التي تمردت على حدود الذات المتقوقعة وإمتدت إلى حيوات الناس الآخرين الذين عاش معهم وتلاقحَ مع آرائهم وأفكارهم وتطلعاتهم الفنية والثقافية والاجتماعية وما إلى ذلك. ويضيف ماهود في هذا المدخل بأنهُ لم يصنع لنفسه بطولات وهمية ولم يتوانَ في رصد لحظات الجبن التي مرّ بها في بعض المواقف فكان شاهدًا أمينًا في سرد إخفاقاته الشخصية وانتكاسات وهزائم وطنه الجريح وحلم أبنائه بالحياة الحرّة والعيش الكريم. وقد وجدتْ هذه الكتابات صدىً لدى بعض القرّاء الذين أُعجِبوا بكتاباته وأشادوا بمضامينها الشائقة وذكّروه ببعض ما تسرّب من ذاكرته فقَبِل بفكرة الحذف والتعديل والإضافة فكُلنا معرّضون للنسيان واختلاط المعلومات وتداخلها إلى الدرجة التي تثير الاستغراب أحيانًا.

لا يفوّت ماهود الفرصة للإشادة ببعض الأصدقاء الخُلّص الذين رافقوه في رحلة حياته الفنية والثقافية والاجتماعية وأمدّوه بطاقة لا تنضب أمثال الشاعر المُبدع والإعلامي المتميز عبدالحميد الصائح، والأكاديمي الرصين عامر موسى الشيخ، والنحّات المُرهف أحمد البحراني، ولا ينسى التنويه بمواقف زوجته المُلهِمة أسماء الحسين التي آزرتهُ في السرّاء والضرّاء، وأويقات الانفراج والشدّة. وكانت آراؤها مثل المقياس الأمين الذي يثق بدقته وحسّاسيته المُفرطة الأمر الذي ضاعف من زخم استذكارته وقوّة انثيالاته بدءًا من سنوات الطفولة والصبا، مرورًا بمرحلة اليفاعة والشباب، وانتهاءً بالوقوف على أعتاب الشيخوخة التي لا مَنجاة منها أبدًا.

يبدو الطفل هادي ماهود محظوظًا جدًا فقد تسنّى له أن يدخل صالة سينما "الشعب" بالسماوة في سن الخامسة؛ وهي السن التي تنطبع فيها الكثير من الذكريات ولا تغادرها بسهولة حيث شاهد أفلام الكاوبوي وما يصل إلى مدينته من الأفلام الهندية التي تستدر الدموع وتثير الأشجان والأحزان.

الولع المبكِّر بالفن الرابع

يؤكد هادي ماهود بأنّ علاقته بالمسرح قد بدأت في الصف الثالث الابتدائي وهي مرحلة مبكرة جدًا وحجتهُ في ذلك أنّ شقيقه الأكبر عبدالحسين ماهود كان ممثلًا في تلك العروض المسرحية التي يقدّمها على مسرح إعدادية السماوة وسوف يتأثر بأخيه المُولع بالأدب والفن إلى حد الشغف ويقتفي أثره. وقد أصبح هادي عضوًا في فرقة المسرح الريفي وهو طالب في الصف الأول المتوسط. وقد أنجز رغم حداثة سنّه بحثًا عن الحركة المسرحية بالسماوة وقد رصد فيه أولى العروض المسرحية التي قُدِّمت منذ العام 1939م.

التحق هادي ماهود بمعهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1976- 1977م وأكمل سنتهُ الأولى بقسم المسرح لكنه سرعان ما انتقل في السنة الثانية إلى قسم السينما الذي تمّ استحداثه. وقد توقّع المخرج محمد شكري جميل للطالب هادي ماهود:"أن يكون أهمّ مخرج في السينما العراقية في المستقبل"([2]).

لم تخلو حياة هادي ماهود في معهد الفنون من منغصات فعندما كتب سيناريو "راقصة الشرق الأولى" ليكون مشروعًا لأطروحة تخرّجه تعرّض للتحقيق من قِبل 15 عضو فرقة في حزب البعث مُشككين بنيّاته وتوجهاته الفكرية المناوئة للنظام حيث طلبوا منه في خاتمة المطاف أن يترك هذا السيناريو ويبحث له موضوع آخر لا يثير الجدل أو يستفز المشكلات المبطّنة التي تحتمل أكثر من تأويل. ومع ذلك فقد أكمل فيلمه الثاني "الساعة 1800" الذي كان صرخة مُدوّية ضدّ الحرب العراقية - الإيرانية التي نشبت في عامها الأول. اشترك هادي ماهود في تجسيد العديد من الأدوار المسرحية من بينها مسرحية "رجل غريب يدخل القرية القديمة" لمؤلف تونسي ومن إخراج محمد فليّح. كما اشترك في مسرحية "بكاء في ضوء القمر" لوليد إخلاصي ومن إخراج عبدالحسين ماهود. ومن يتتبع مسيرة هادي ماهود المسرحية سيكتشف من دون عناء ولعه بهذا الفن الذي سوف يرافقهُ في منفاه الأسترالي ويقدّم عددًا من المسرحيات باللغتين العربية والإنگليزية.

تخرّج هادي ماهود في معهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1982م وواصل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة، ومثّل في بعض المسرحيات والأفلام من بينها مسرحية "ذات الخمار الأسود"، وفيلم "الحُب كان السبب" للمخرج الراحل عبدالهادي مبارك. وأخرج مسرحية "شعيط في المدينة" المعرّقة عن مسرحية "شيخ المنافقين" لبن جونسون. ثم أصبح ماهود في هذه المرحلة رئيسًا لـ "نادي سينما الشباب" ووجه دعوة للفنان المصري نور الشريف وعرض في تلك الندوة فيلم "حدّوتة مصرية" للمخرج يوسف شاهين، بطولة نور الشريف ويسرا إضافة لأسماء فنية بارزة. كتب ماهود سيناريو فيلم "الغريق" ليكون أطروحة تخرّجه في أكاديمية الفنون.

يفخر المخرج هادي ماهود بأنه درّس الكثير من طلّاب مدينته باعتباره خرّيجًا لمعهد وأكاديمية الفنون الجميلة وقد أصبح بعضهم أعضاءً في الپرلمان العراقي، وتوزع الآخرون على وظائف مهمة وحسّاسة في الدولة العراقية فمنهم القاضي، والقائمقام، والطبيب، والمهندس، والعميد وما سواهم ويضيف ساخرًا:"حتى نوري السعيد كان واحدًا من طلّابي"([3]).

رسوب مُتعمّد وتأجيل الخدة الإلزامية

وبعد سنوات من الرسوب المتعمّد والتأجيل للهروب من الخدمة العسكرية تم سوقه إلى الكلية العسكرية الثالثة بـ "خان بني سعد" لكنه سيتملص منها ويعتبر هاربًا من خدمة العلم حيث يلتجئ إلى معسكر رفحاء قبل أن يجد طريقه إلى "صوت الشعب العراقي"، الإذاعة المعارضة لنظام صدام حسين؛ الدكتاتور المُغامر الذي جرّ البلاد إلى إحنٍ ومحنٍ كثيرة.

أوفدت الإذاعة العراقية المعارضة التي تبث برامجها من جدة الشاعر خالد العامري الخضري لدعوة هادي ماهود وطارق حربي وسعد الجبوري للعمل في الإذاعة التي سبقهم إليها كُتاب وشعراء وفنانون ومخرجون عراقيون أمثال عبدالحميد الصائح، ويحيى السماوي، وعودة وهيّب، والمذيعة اللبنانية هدى المهتدي الريّس، وابراهيم الزبيدي؛ مدير الإذاعة ومؤسسها الذي كان مُديرًا للإذاعة والتلفزيون في زمن الرئيس أحمد حسن البكر ، وكان زميلًا لصدّام حسين في مرحلة الدراسة الابتدائية. وحينما حرّرت القوات الأمريكية الكويت من الاحتلال العراقي وسحبت معظم قواتها من الكويت أوصت السعودية برعاية الإذاعة ودعمها ماديًا من دون أن تتدخل بتوجهاتها الفكرية والسياسية وهذا ما لمسه الكائن السيري هادي ماهود طوال مدة عمله في الإذاعة التي تحولت من "صوت العراق الحرّ" إلى "صوت الشعب العراقي" التي كانت حاضنة لجميع أطياف الشعب العراقي بتوجهاته الفسيفسائية المتنوعة. وقد اعتبر ماهود العمل في هذه الإذاعة المعارِضة تاريخًا مُشرّفًا لكل العاملين بها.

مُقاتلة الدكتاتورية عبر الأثير

يكشف هادي ماهود عن طبيعة عمله الفني في الإذاعة التي تعتبر موضعًا لمقاتلة النظام الدكتاتوري عبر الأثير. وقدر تعلّق الأمر به، وهو الفنان القادم من فضائيّ السينما والمسرح، فقد تخصص بكتابة المسامع التمثيلية التي تلاحق أحداث العراق، والمسلسلات التي تصل الواحدة منها إلى 15 حلقة يمثّلها النجوم العاملون في الإذاعة. كان هادي يسجّل النداءات التحريضية بصوته المعروف من قبيل:"يا شعبنا العراقي العظيم ثوروا على الطاغية المنبوذ الجاثم على صدوركم.. " وكانت دوائر الأمن العراقية وخاصة في محافظة السماوة  تسجّل تلك النداءات وتستعملها كوثيقة إدانة لابتزاز عائلته. فحينما يستلم شقيقه فاضل ماهود الحوالة المادية يقبضون عليه ويعرّضونه للتعذيب وهو يستمع إلى النداءات التي يُطقلها شقيقه هادي فيبتزونه بأخذ نصف مبلغ الحوالة إن لم تكن كلها في كثير من الأحيان.

يُعد هذا الكتاب توثيقًا أمينًا لغالبية العاملين في إذاعة "صوت الشعب العراقي" حيث يتعرّف القارئ على غزارة ما يكتبه الشاعر يحيى السماوي. وعلى البرامج التي يكتبها الزملاء الآخرون مثل برنامج "ها.. شنو الأخبار؟" الذي يعدّه عودة وهيّب، وبرنامج "حچاية أبو يونس" لأديب القليه چي بلهجته الموصلية المُحببة، والشاعر خالد العامري الذي يكتب العديد من الأغاني الوطنية للفنان فؤاد سالم، بينما يغرّد المذيعون بأصواتهم الاحترافية الجميلة مثل المذيع عبدالحميد الصائح، واللبنانية هدى المهتدي الريّس، وزاهد محمد زهدي  وداليا العقيدي. إضافة إلى الرسائل الصوتية التي تصلهم من صادق الصائغ بلندن، وجليل العطية من باريس ومراسلين آخرين من الإمارات وعمّان وما سواهما من عواصم عربية.

استدعت الإذاعة فرقًا فنية من معسكر رفحاء لتسجيل وبثّ أغانٍ وطنية مثل فرقة "الثوّار" وفرقة "الانتفاضة" اللتين كانت لأغانيهما وقعًا كبيرًا على الشعب في عموم المحافظات العراقية. ولكي يضفوا على البرامج الإذاعية مسحة من الفكاهة والسخرية أسندوا للشاعر خالد العامري الخضري مهمة تقليد أغنية "يا عواذل فلفلوا" بصوت صدّام حسين الذي كان يتقنهُ جيدًا وليس بصوت الفنان فريد الأطرش الذي اعتدنا عليه وأحببناه. وهذه الطُرف الخفيفة والمُحببة هي التي منحت الكتاب خفة دم كسرت إيقاع حرب الخليج المفجعة وأجواء معسكر رفحاء الموحشة.

ثمة إشادة بالمواقف الوطنية للشاعر عبدالحميد الصائح الذي ذهب سنة 1994 إلى عرفة وحينما نُقل الميكروفون إلى إذاعة وتلفزيون الجمهورية العراقية وبعد قراءة الكليشيهات المعتادة قال الصائح مخاطبًا الله جلّ في علاه:"... جئناك نتضرّع إليك يا ربنا يا ذا العزة والجلالة بانقاذنا من العصابة الحاكمة التي يقودها سفّاح دكتاتور قتل وسبى العباد" وكانت تنقل هذا الكلام 55 محطة تلفاز دولية وهذا الموقف الوطني يُحسب لمصلحة الشاعر والإعلامي عبدالحميد الصائح وبطولة تُسجّل له و"تدخل في ميزان معارضته"([4]) كما قال مؤلف الكتاب.

تمجيد اللغة البصرية

عمل هادي ماهود في أكثر من إذاعة سواء بجدة أو بسدني لكنه لا يحب هذا العمل كثيرًا ويعتبره مصدر رزق لا غير، فالسينما، من وجهة نظره، لغة صورة بينما "الإذاعة لغة صوت ولغو لا ينتهي"([5]) ومع ذلك فقد انغمس في العمل الإذاعي كتابة وإخراجًا وتمثيلًا وومونتاجًا وتقديم برامج وسوف يترك أثرًا سلبيًا في خياله كمخرج سينمائي يمجِّد الخطاب البصري، ويتعاطى مع الصورة ولا يلجأ إلى الحوار إلّا عند الضرورة القصوى.

كثيرة هي الأحلام التي كانت تدور في مخيلة هادي ماهود من بينها إنتاج الأفلام الوثائقية الثقافية بدءًا برموز الشعر العراقي، وأقطاب الرواية والقصة والمسرح، وأساطين الموسيقى والفنون بأنواعها المختلفة. فقد كان يطمح لإنجاز أفلام وثائقية عن الجواهري والبياتي، وعن السينمائيين والمسرحيين والكبار، وعن الموسيقيين والفنانين التشكيليين وهلم جرا لكن ثمة عقبات كانت تحول دون تحقيق هذه الأحلام الفنية وأولها الحاجة المادية وضيق ذات اليد. ففي جدة أراد أن يصنع فيلمًا وثائقيًا عن الشاعر زاهد محمد زهدي، صاحب الأغنية الشهيرة "هربژ ي كورد وعرب رمز النضال"([6]) التي كتبها الشاعر زاهد محمد زهدي ولحّنها وغنّاها أحمد الخليل. كما أراد أن يُنجز فيلمًا عن الفنان التشكيلي الكوردي عزيز سليم الذي كان في حينه وزير ثقافة جمهورية مهاباد لكنه فارق الحياة تاركًا حلم ماهود يتوارى في مهب الريح. ومع هذه الإحباطات كلها إلّا أنّ هادي ماهود قد نجح في وضع اللمسات الأخيرة على فيلم "تراتيل السومري" للشاعر غيلان حوشي علي الذي لامسَ رغبته الأدبية فقط ولم يتعداه إلى شاعر أو روائي أو مفكر آخر. ولعله في قادم الأيام يحقق بعض ما عجز عن تحقيقه في السنوات والعقود الماضية.

حصل هادي ماهود على الجنسية الأسترالية وعمل في أماكن متعددة مذيعًا للأخبار العربية، وحارسًا في إحدى الملاعب الأولمپية سنة 2000م. وأنجز بعض الأفلام الأسترالية التي لم يكن مقتنعًا بها تمامًا على الرغم من نجاحها الفني لأنه مفتون بالثيمات العراقية على وجه التحديد. وهذا الفيلم يحمل عنوان "الرحيل موتًا" للمخرج الأسترالي كريس هيلتون الذي يتمحور على ثلاث شخصيات؛ الأولى روسية يتم تهريبها إلى إيطاليا وقد تبنّى هذا الجزء كريس نفسه، أما الشخصية الثانية فهو صيني يتم تهريبه إلى نيويورك، والثالثة شخصية كوردية يتم تهريبها على مركب سيفيكس وقد غرقت زوجته وابنته بعد صراع مرير مع الأمواج استمر قرابة عشرين ساعة وكان ابنه الوحيد قد وصل قبله مع أجداده، وقد التقاه المخرج في المُحتجَز الأسترالي الذي يستقبل المغامرين الذين يضعون أرواحهم على كف عفريت.

البحث عن ملاذٍ آمن في القارة الأوروپية

ثمة أسباب شخصية دفعت المخرج هادي ماهود لمغادرة أستراليا والتوجّه صوب القارة الأوروپية بعد أن منحته أستراليا الملاذ الآمن، ووفّرت له العيش الكريم، وحققت له رغبته في مواصلته دراسته العليا لنيل درجة الماجستير من جامعة RMIT لكن بعض المنغِّصات الأُسرية هي التي دفعته للبحث عن مكان بديل وبعد أن تجوّل في عدد من البلدان الأوروپية مثل ألمانيا وهولندا والدول الأسكندنافية مثل النرويج وفنلندا والدنمارك والسويد التقى بها بالعديد من أصدقائه الكُتّاب والفنانين وحتى الناس العاديين الذين ينتمون بالأصل إلى مدينة السماوة ولكنه قرر في خاتمة المطاف أن يعود إلى بلده الثاني أستراليا ليكحّل عينيه برؤية ابنه الأول آدم الذي وُلد يوم 22 سبتمبر 2001م.

خلال هذه المدة تقع حادثة غرق مركب اللاجئين الذي يحمل على متنه أكثر من 400 إنسان غالبيتهم من العراقيين فيبدأ ماهود بإطلاق مناشداته للأحزاب العراقية، ورجال الدين، وقيادات المعارضة العراقية المبثوثة في إيران وسورية ولندن وأمريكا وغيرها من العواصم لكنه لم يتلقَ أي رد من هذه الأطراف. وحينما نشر رسالة مفتوحة للعراقيين جاءه رد من المواطن أحمد التميمي المقيم في كندا بأنّ لديه أصدقاء في الإمارات العربية المتحدة أعربوا عن استعدادهم لدعم هذا المشروع الإنساني. ولعل مساعدة المحامي جوليان بورسنايد، وهو من أشدّ المدافعين عن حقوق اللاجئين وزوجته الفنانة التشكيلية كيت جوليان اللذين أرسلا رسالة إلى  أعضاء مجموعتهم وفيها عنوان هادي ورقم حسابه وفوجئ بوصول مبالغ مادية تتراوح بين 50 إلى 300 دولار يوميًا وهذا ما مكنّه من السفر مع طاقم التصوير والمكوث هناك لمدة 12 يومًا لمقابلة الناجين من هذا الحادث المروّع. وتبيّن على وفق تحليل توني كيڤن، السفير الأسترالي السابق في كمبوديا أنّ الحادث مخطط له بعناية من قِبل الشرطة الفيدرالية الأسترالية التي تريد أن تحتفظ ببعض الناجين ليتحدثوا لوسائل الإعلام عن هذه الكارثة التي حلّت بهم عسى أن يعزف اللاجئون الباقون في أندونيسيا عن خوض مغامرة العبور إلى أستراليا ثانية.

يسقط نظام صدام حسين في 2003 فيحزم هادي ماهود حقائبه ويعود إلى العراق وينجز فيلم "العراق موطني" الذي ينتهي نهاية سعيدة تُتوج بالزواج من أسماء الحسين ويبدأ مرحلة جديدة تتسم بالتحريض والتنوير والاحتجاج التي خصّصنا لها مساحة واسعة من هذا الكتاب.

***

عدنان حسين

.......................

[1] - ماهود، هادي، طريقي، ط1، دار مسامير للطباعة والنشر، السماوة، 2021، ص 7.(هناك إشارة ثانية في ص3 بأنّ الكتاب قد طُبع سنة 2022).

[2] - المصدر نفسه، ص 15.

[3] - المصدر نفسه، ص 82.

[4] - المصدر نفسه، ص 167.

[5] - المصدر نفسه، ص 172.

[6] - أغنية شهيرة كتبها الشاعر والإعلامي والسياسي اليساري زاهد محمد زهدي وانتشرت انتشارًا واسعًا يقول مطلعها:"مِن تهبّ أنسام عذبة من الشمال / على ضفاف الهور تتفتّح گلوب / لو عزف بالناي راعي بالجبال / على الربابة يجاوبه راعي الجنوب"

 

غالباً ما تثير حوادث ـ مثل الحروب الدولية والإقليمية والاغتيالات والانتحارات والتفجيرات وسقوط الطائرات ـ حفيظة الناس واهتمامهم بمعرفة التفاصيل المحيطة بها، خصوصاً عندما يكون ضحايا هذه الأحداث أو المتورطين فيها عدد من المشاهير: كرؤساء دول أو سياسيين أو رجال أعمال أو فنانين أو حتى رجال عصابات.

وتلجأ أجهزة الاستخبارات في دول عدة إلى إخفاء الحقائق عن الصحافة والرأي العام وإضفاء السرية على جزء كبير من تفاصيل هذه الحوادث، لأن نتائجها قد تؤثر على سمعتها في المجتمع الدولي أو قد تترتب عليها عقوبات دولية قاسية. وبسبب شحّة المعلومات يعتمد المتابعون صياغة تفسيرات مختلفة حول هذه الأحداث عندما تنقطع بهم السُبل للوصول إلى الحقيقة، يبدؤون بنسج قصص أغلبها خيالي تستند في معظمها مثلاً، على فكرة وجود قوى ظلامية خفية تتحكم بمصائر الشعوب وتدير الأحداث في الخفاء.

" التاريخ السري للمؤامرات وعمليات إخفاء الحقائق" الكتاب الذي ترجمه مؤيد جمعة، للمؤلفين " تشارلوت كريجمايك و روثس جايلد " الصادر عن دار الكتب العلمية للنشر في بغداد عام 2023، تناول حقيقة وجود مؤامرات تحركها قوى من وراء الستار، مثل الماسونية العالمية أو مجاميع ومنظمات تعمل في الخفاء، تتلاعب بالوقائع أو تلفيقها لخداع الناس خدمة لأغراض ومصالح ذاتية.

يجيب الكتاب عن عشرات الأسئلة التي قد تتبادر إلى الذهن وفي بالنا جميعاً، مثل ملابسات موت الأميرة ديانا، واغتيال الرئيس الأمريكي كندي، وتسريبات ويكيليكس، ويستعرض تاريخ عائلة روتشيلد المصرفية وكيفية كتابة بروتوكولات حكماء صهيون، فاتحاً عدداً كبيراً من الملفّات المغلقة التي تركناها خلفنا مع أسئلتنا الحائرة.

لا ينفي مؤلفا الكتاب وجود مؤامرات حقيقية وتلفيق للمعلومات وتزييفها لصالح متنفذين في السياسة والاقتصاد كأشخاص أو كمؤسسات عل مستوى العالم، ولكنهما يهدفان ببساطة إلى تنقية أذهان القارئ من الشوائب التي علقت بها بخصوص أحداث كثيرة شهدناها، أو قرأنا عنها لنميّز ما هو حقيقي وما هو خيالي، ثم نقرر بأنفسنا إن كانت هنالك مؤامرة أم لا. المؤاخذة التي تسجّل على ترجمة الكتاب أنها لم تقدّم لنا تعريفاً وافياً بمؤلفي الكتاب ـ على الرغم من الجهد المتميز الذي قدمه المترجم في ترجمة الكتاب بعناية كبيرة ـ إذ لم تسعفنا الشبكة الالكترونية في تقديم المزيد من المعلومات عنهما.

مرّت نظرية المؤامرة في عصرها الذهبي بعد الحادي عشر من أيلول، لا يقتصر الأمر في الحاضر على الأشخاص المنعزلين الذين يقضون الكثير من الوقت على الأنترنيت في مناقشة سبب قيام وكالة الأمن القومي بجمع كل تلك المعلومات الرقمية عن كل مواطن أمريكي، أو إذا كان الروس قد ساعدوا دونالد ترامب في الانتخابات، أو يتساءلون لمعرفة ما إذا كانت " الحرب على الإرهاب " هي حقاً من أجل المزيد من النفط!

غالباً ما تكون نظرية مؤامرة الأمس هي تاريخاً معاصراً يقبله الناس، إذا كنتَ قد قلت في ذلك الوقت إن هتلر قد بدأ حريق الرايخشتاغ بنفسه لتشويه معارضته للشيوعية، لتَمّ وصفك بجنون الارتياب، ولكن هي الآن حقيقة مقبولة، وكم من الناس يعتقد اليوم حقاً أن "لي هارفي أوزوالد " اغتال الرئيس الأمريكي من دون مساعدة أحد؟

بالطبع ليست كل نظريات المؤامرة لها أساس في الواقع، فبعضها غريب، مثل النظرية القائلة بأن قادة العالم هم كائنات فضائية متخفية، أو مثل فكرة أن الحكومة تتكتم على زيارات كائنات فضائية للأرض هنا وهناك، ومع ذلك حتى الأحداث الأكثر غرابة تبدو وكأنها شبيهة بتلك التي ظهرت في أحداث مسلسل" الأكس فايل"، أو تلك التي تشير إلى حاجاتنا النفسية لإيجاد سبب لكل ما يحدث في عالمنا.

ثم هناك نظريات المؤامرة التي تبدو ترفيهية: على سبيل المثال، فكرة هبوط الإنسان على القمر تم تزويرها في استوديو لإنتاج الأفلام، وبالطبع لا تمرّ وفاة لأحد المشاهير من دون نظرية المؤامرة المصاحبة لها، هل قُتلت ديانا؟ هل كان مكتب التحقيقات الفدرالي حقاً وراء مقتل جون كندي؟ بالنسبة للبعض، تظهر هذه النظريات ببساطة ميلنا البشري لإنكار الموت والخسارة، استطاع الكتاب أن يرصد أكثر من خمسين " مؤامرة " بدءاً من تلك التي تستند على مصداقية حقيقية إلى نظريات المؤامرة غير المعقولة، من ويكيليكس، إلى انتحار مارلين مونرو، قد لا تتوفر لدى المؤلفين الإجابات، لكن لديهم بعض النظريات الجيدة.

تقدمت نظريات المؤامرة في المائة عام الماضية أو نحو ذلك بشكل لافت، ربما بسبب تناقص الاعتقاد بدور الدين، حيث كان الناس في الماضي يميلون إلى رؤية الأحداث التي لا يمكن تفسيرها على أنها من عمل الرب، بينما يتّجه الناس في أوقاتنا الأكثر علمانية إلى البحث عن اليد الآثمة للإنسان بعيداً عن التفسيرات الدينية.

وشهدت السنوات الأخيرة اهتماماً كبيراً بنظريات المؤامرة، إثر فقدان الإيمان بالدين، وفقدان الثقة بالسياسيين، وبوسائل الإعلام التي تبحث عن الإثارة في موادها، وتأثر الأفلام والروايات التي تتبنى المؤامرات، وتدخل الانترنيت كوسيلة مثالية لنشر نظريات المؤامرة. انها ليست جديدة بالطبع، لكنها تثير أسئلة عديدة عن أحداث كبيرة شهدها العالم، منها على سبيل المثال: هل كان بإمكان هتلر الهروب حقاً من مخبئه عبر نفق سري إلى القارة القطبية الجنوبية؟ ما الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مقتل الزعيم الأمريكي الأسود " مالكولم أكس" ؟ لأن العديد من نظريات المؤامرة ترتبط في أذهاننا بوجود جمعيات سرية تقف وراء تلك الأحداث.

إن أكثر التفسيرات تطرفاً تلك الشبيهة بسرديات الخيال العلمي، لقد ظهر العديد من هذه النظريات بالفعل في روايات مشهورة كرواية " شفرة دافنشي" الشهيرة جداً لـلكاتب الأمريكي " دان براون " التي تستمد موضوعها الرئيس من تقليد كامل لمؤامرات الكأس المقدسة التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام. الرواية سلسلة من الألغاز الشيقة والمثيرة التي تستدعي مراجعة التاريخ لفك ألغازه وسط مطاردة شرسة من أعضاء منظمة كاثوليكية تسعى للحصول على السر، وهي تتناول علاقة المسيح بمريم المجدلية بطريقة منافية لما ورد في الكتب المقدّسة إلى حد منعها من الدخول إلى الفاتيكان ودول أوربية أخرى.

إحدى الأحداث المثيرة التي ما تزال تشكل لغزاً في الرحلات الجوية، والتي تعرف برحلة " الاختفاء الكبير" لطائرة تعود إلى الخطوط الجوية الماليزية " رحلة 370 في 8 آذار 2014، أثار تحطمها أسئلة كثيرة ما تزال الإجابات عنها غائبة. واختفاؤها أحد أعظم الألغاز في تاريخ الطيران.

في إحدى المحاور يتصدى المؤلفان إلى مصطلح " الدولة العميقة" وحكومات الظل سرعان ما تم تطبيقه في عدد من البلدان حيث يتم التحكم في حكومة يفترض أنها ديمقراطية من قبل تحالف غامض لأحزاب وقوى وكيانات سياسية ومنظمات وميليشيات وإعلام، جميعاً تعمل لمصالح غير وطنية، وتتعارض مع مؤسسات الدولة، هذا النموذج نجد له أمثلة عديدة في دول الشرق الأوسط.

في اغتيال جون كندي عام 1963 ظلت التحقيقات جارية على مدار السنوات حتى عام 1976، عندما تم إعادة فحص الأدلة، واتضح ان هناك مسلحين وليس واحداً، وان أربع رصاصات أطلقت في آن واحد، ثلاثة من القاتل "أوزوالد" وواحدة من مسلح مجهول مختبئ في منطقة قريبة. نظرية أخرى تقول: إن قتلة كندي هم عصابات المافيا. بينما تآمر العديد من كبار رجال المافيا بمساعدة وكالة المخابرات الأمريكية لاغتيال كاسترو، وكان كندي معارضاً لهذا النهج.

كانت الاشاعات تلاحق الممثلة العالمية مارلين مونرو، وفقاً لروايات تقول إنها كانت على علاقة غرامية بكندي، تزعم بعض النظريات ان روبرت كندي شقيق جون وراء مقتلها نيابة عن أخيه خشية الفضيحة التي تهدد مستقبل الرئيس. ومن المحتمل ان تكون وفاتها نتيجة لجرعة زائدة من الأدوية المهدئة، بعد حالة انهيار اصابتها عندما قطع كندي العلاقة بها، وانتحرت كردّ فعل.

هناك الكثير من الحقائق والأسئلة التي ما تزال بحاجة إلى إجابة: حادث موت الأميرة ديانا، تشير التقارير أن جميع الأضواء انطفأت في النفق وتعطّلت الكاميرات، وأن السلطات الفرنسية رتبت عمداً لتحطيم السيارة، وما يزال الكثيرون غير مقتنعين بكل إجراءات السلطة الفرنسية في حينها. وحتى يومنا هذا، هناك من يشير إلى احتمال انضمام كبار الرتب في المؤسسة البريطانية إلى مؤامرة قتل ديانا.

استعرض الكتاب عشرات الأمثلة والأحداث المتشابكة والمعقدة، يصبح من المتعذر على مقالة محدودة الكلمات الإحاطة بها كاملة، إلا ان الإشارة إلى أهميته بالنسبة للقارئ العربي، نعتقد انها ستكون مدخلاً أولياً لقراءته بتأمل وعناية، وربما تكون المحاولة دافعاً للباحثين في دراسة وتقصي الحقائق للكثير من الأحداث، فهناك محاور وقضايا عديدة لم يكشف عنها بيقينيات ثابتة، كالصحون الطائرة والكائنات الفضائية، وتاريخ عائلة روتشيلد، ومتلازمة حرب الخليج: حقيقة أم خيال، الحرب النووية، العلاقة بين الرئيس بوش وابن لادن، الإيدز ووكالة المخابرات الأمريكية، وغيرها.

***

د. جمال العتّابي

 

عن دار لندن للطباعة والنشر صدر مؤخرا كتاب (الحداثة والتنوير) للباحث والمحقق "صادق جعفر الروزاق" وهو الكتاب العشرون في سلسلة اصدارته في البحث والتحقيق، يستعرض الروازق في القسم الأول من كتابه الجديد قراءاته في مصادر عدد من رواد الفكر التنويري متوقفا عند ابرز محطاتهم الفكرية من خلال قراءة كتبهم حيث يستهل كتابه بقراءة مسألة الحرية في مدونة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1973 الذي تولى اعلى المناصب العلمية والدينية والقضائية في تونس وله مؤلفات ناهزت العشرة كتب تناولت مسألة الحرية في الفكر الاسلامي القديم وكذلك في الفكر الحديث المعاصر، ثم يعرّج على مؤرخ العراق (ابن الفوطي 642 هـ ــ 723 هـ) الذي عُرف عنه محدّثاً ومؤرخا واخباريا وفيلسوفا وعالما في الانساب ومن أبرز مؤلفاته كتاب (درر الأصداف في غرر الاوصاف) وهو كتاب كبير جمعه ابن الفوطي من الف مصنف من التوريخ والدواوين وكتب الانساب كما كتب ابن الفوطي تاريخ دولة التتر ــ المغول وتميزت كتاباته حسب وصف الشيخ محمد رضا الشبيبي (باسلوب خاص، اسلوبا ساحرا، دقيقا في سرد لأحداث ووصف الاشخاص) وهو اول من أرّخ تاريخ العراق في الفترة المظلمة على يد المغول، ومثلما عُرف عنه مؤرخا كبيرا عرف كذلك بالتصوف حيث درس التصوف عند عدة من مشايخه، ثم يتناول الروازق بالعرض والتعليق كتاب (تطور الفكر الديني الغربي) للدكتور حسن حنفي لما يمتلكه من علوم المعرفة الكلامية وتخصصه في المجال الفلسفي الذي مكنه ان ينجز نتاجه بطريقة علمية ممنهجة حيث يبحث كتاب حنفي بالتطبيق مراحل تطور الفكر الديني الغربي عند الفلاسفة الغربيين ويختار اربعة من مفكريه وهم كانط، هيجل، فيورباخ، هوسرل  وفي فصل اخر من كتاب الروزاق نجد قراءة قي اقكار الشيخ (محمد الغزالي 1917 ــ 1996 م) باعتباره من الدعاة المعادين بشدة للتشدد والغلو في الاسلام حيث يؤكد على أهمية وقيمة العقل عند الانسان في قوله (العقول الذكية وحدها هي التي تميز الحق من الباطل) ويلقي باللوم على ما اصابنا من نكسات في تاريخنا الطويل على فساد عقول العامة وعلى فساد ضمائر القلة الحاكمة ولكن الغزالي يتطرف في رأيه حين يهاجم اصحاب الرؤية العلمانية من امثال سلامة موسى وصادق جلال العظم ويتهم موقفهم من حرية المرأة كانت (بدافع شهواتهم الغريزية المكبوتة) وان دعواتهم فيها من الاباحة والتحرر المطلق فالغزالي يلخص رؤيته عن المرأة في قوله (لا نريد ان تنتقل المرأة من عهد الحريم الى عهد الحرام) . كما يجد الباحث الروزاق في قضية الحوار في العمق من اجل التقريب الحقيقي في الجانب العقائدي لموروث المسلمين الذي نادى به الدكتور صائب عبد الحميد (ثقافة ونهضة وتطوير فكر وحركة اصلاح تبتغي تغير حقيقي امام تراكمات خطيرة من فكر ظلامي سعى بكل قوة للنيل من وحدة المسلمين)  فعبد الحميد قرأ في كتابه الخلاف التاريخي ضمن استعراضه لنتاجات الأولين والمفسرين مستهلا في تمهيده للكتاب اهمية الحوار عند الانسان الواعي الذي يمتلك عقلا باحثا عن الحقيقة، كما يعرّج الباحث على كتاب (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات) للكاتب ماجد الغرباوي فالكتاب ــ وحسب قول الباحث ــ بمجمل عناويته يبحث عن سبل العلاج لما مر بالعراق من واقع مأساوي طغت فيه ثقافة العنف مدعمة بثقافة تكفيرية وفق اجتهادات دينية مبتسرة، وفي النهاية يقدم الكتاب خارطة للعيش في وطن واحد متحاب متآخي  بين جميع مكونات افراده في اطار قيم عراقية اصيلة وطبيعة العلاقة مع الاخر المختلف دينيا . كما تضمن كتاب الروازق الحداثة والتنوير قراءة لكتاب د. ماجد موريس ابراهيم (الارهاب ... الظاهرة وأبعادها النفسية) حيث يرى الروزاق ضرورة ان تخضع ظاهرة الارهاب لقراءة موضوعية بل وتلزم الباحث بتحديد المرجعية الاخلاقية وتقييم المبرر للفعل الارهابي، حيث يتناول الكتاب وبشكل مفصل أثر الارهاب على النساء والاطفال والعدوان على الهوية الثقافية والعرقية وكذلك على المستوى الخدمي وعلى المؤسسات الأمنية والى خلق مشكلة نزوح كبير في عدد اللاجئين في الداخل والى دول الخارج، وتحظى المرأة في قراءات الروازق بالاهتمام حيث يلجأ الى عرض كتاب (المرأة .. أزمة الهوية وتحديات المستقبل) للكاتب احسان الأمين الذي يسلط فيه الضوء على واقع المرأة في عالم الشرق وعالم الغرب مستعرضا صور اضطهادها في هذين المجتمعين، ثم يدرس الامين مستقبل الاسرة في العالم واثر الحداثة الغربية في تهديد استقرارها ويضع مجموعة نقاط لوقاية الاسرة من ما يسميه بخطر الحداثة الغربية . ومن رواد النهضة الاصلاحية يختار الروازق الشيخ محمد عبده الذي يعده واحدا من ابرز رجالات النهضة والاصلاح وسعى في مقتبل عمره الى مقاومة الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي والاستعمار الديني ويقرأ سيرته ومنهجه الاصلاحي في كتاب د. عبد الرزاق عيد (محمد عبدة امام الحداثة والدستور) الذي يخلص فيه الى ان حياة عبده اتسمت بمعالم التصوف، كما تتناول قراءة الروزاق مفهوم الموضوعية في كتابات مير بصري ــ مؤرخ وشاعر عراقي زعيم الطائفة الموسوية اليهودية في العراق ــ الذي يجد انه ليس من اليسر والسهولة ان يكون الكاتب موضوعيا في ظروف العراق التي لم تحظ بالاستقرار طوال قرن من الزمان تعرضت فيه الطائفة اليهودية الى صنوف من الاضطهاد والاقصاء رغم تشبثها بحب العراق ورفض زعيمها مير بصري الهجرة الى اسرائيل واختار بلدا اخر مبررا ذلك بقوله (انني يهودي الدين، عراقي الوطن، عربي الثقافة، ويستعرض مير بصري في كتابه " الموضوعية " بعض مظاهر الحرية التي رافقت العهد الملكي في العراق مستذكرا عددا من مواقف التحدي للشعراء والصحفيين الذين واجهوا بها سياسة ذلك العهد.

ومن خلال كتاب الدكتور هشام غصيب (تجديد العقل النهضوي) يخوض الروازق في قراءة هذا الموضوع الذي يؤكد فيه غصيب على مهمة تجديد العقل النهضوي من خلال استعراضه لمفهوم العولمة والهوية القومية ومؤكدا ان الرأسمالية مشروعا قديما من اساسيات مشروع العولمة، كما يسلط الروازق الضوء على كتاب الدكتور علي فياض الموسوم (نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي) الذي يستعرض فياض فيه النظريات الشيعية الثلاث وهي : نظرية ولاية الفقيه / الامام الخميني، نظرية ولاية الأمة على نفسها / الفقيه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نظرية السلطة / محمد باقر الصدر حيث يخوض في تفاصيل كل نظرية من هذه النظريات الثلاث والفارق في نظرة اصحابها الى شكل السلطة وفي الاحكام والقوانين الاسلامية التي يجب ان تراعى وتنفذ .

يخصص الروازق في القسم الثاني من كتابه (الحداثة والتنوير) وضمن سياق الموضوع أهم الشهادات التي قيلت في كتابه (علي الوردي .. مقاربات اصلاحية في فهم الدين والذات) الصادر عام 2014 فيدرج في هذا القسم قراءات وشهادات عدد من الباحثين الذين كانت لهم وقفة مع الكتاب المذكور ومن بينهم : الباحث نبيل عبد الامير الربيعي، الشاعر قاسم شاتي، الدكتور صلاح كاظم جابر، الدكتور عدنان يوسف، الدكتور محمد عيسى الخاقاني، الأديب ثامر الحاج امين، القاص نعيم شريف، وجميعهم اجمعوا على ان صادق جعفر الروزاق باحثا مجتهدا ومهتما في شؤون التراث الاسلامي وكتابه المذكور يعد اضافة نوعية للمكتبة العراقية والعربية .

***

ثامر الحاج امين

المرحلة الانتقالية: حين تُصاغ الجغرافيا من رماد الصدمة

تمهيد: عقيدة تُصاغ من رُكام العالم

في القسم الرابع من كتاب عقيدة الصدمة، تمضي ناعومي كلاين أبعد من مجرد تحليل اقتصادي، لتكشف عن خريطة سياسية كبرى تُرسم بالدم، وتُحفر بمشرط المؤسسات المالية العالمية.

تعنون كلاين هذا القسم ـ"لقد ضعنا في المرحلة الانتقالية" والذي لا يأتي صدفة، بل كإعلان عن حالة من الفقد المتعمّد للاتجاه، تنتهزها الرأسمالية المتوحشة لفرض نظام جديد، يتغذى على انهيار القديم.

هنا، لا تكون الصدمة حدثًا عارضًا، بل عقيدة راسخة، تُديرها قوى عابرة للحدود، تلبس أقنعة المساعدات، وتأتي محمّلة بأدوات الخصخصة والقمع.

تفكيك البنية – كيف يُعاد تشكيل العالم بعد الانهيار؟

يبني هذا القسم هيكله على خمس تجارب نموذجية: بولندا، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، الصين، وروسيا. لكن ما يجمعها ليس التاريخ المشترك، بل الصدمة المشتركة التي جرى استغلالها لإجراء جراحة كبرى في جسد المجتمع.

1. بولندا: من التضامن إلى الانسحاق

بولندا ما بعد الشيوعية أرادت عدالة انتقالية، فوجدت نفسها ضحية لوصفة مستوردة من "مدرسة شيكاغو". (خطة بالسروفيتش ـ "العلاج بالصدمة")، لم تكن إصلاحًا، بل صاعقًا كهربائيًا جماعيًا مزّق الروابط الاجتماعية، فرضت تحريرًا سريعًا للأسعار، خصخصة واسعة، وتخفيضات حادة في الإنفاق العام. نتج عن ذلك ارتفاع معدلات البطالة، انخفاض الأجور الحقيقية، مما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى وتفاقم التفاوت الاجتماعي فجعل الفقراء أكثر فقرًا، وأدخل البلاد في سباق خصخصة مفرط. "

لم تكن الصدمة هنا استجابة، بل كانت الخطة الأصلية." (ص 251)

2. جنوب أفريقيا: الحرية المنقوصة

جنوب أفريقيا خرجت من حقبة الأبارتهايد، لكنها لم تخرج من قبضة السوق البيضاء. فقد تم تسليم الحكومة سياسيا فقط، ولكن مع تعطيل أدوات التغيير الاقتصادي الحقيقي، بقيت الأرض والمال والذهب والالماز خارج متناول السود، وتحول حلم العدالة إلى وهم بلا جذور. إنها حرية سياسية في قفص اقتصادي. "لقد سلموا الحكم دون أن يسلّموا المفاتيح." (ص 266)

3.  إندونيسيا: الانهيار المصمَّم

حين ضربت الأزمة الآسيوية إندونيسيا، لم يكن العلاج هو الاستقرار، بل فرض المزيد من الفوضى: رفع الدعم، خصخصة فورية، طرد الموظفين، إغلاق البنوك. نتج عن ذلك بؤس منظم استغلته الشركات الدولية لشراء كل ما يمكن بيعه. ومن أبرز نتائج هذا البؤس، انتهاء الطبقة الوسطى وبيع الكثير من العوائل اطفالها وابنائها وبناتهم لتجار الدعارة.

"كلما تعمقت الأزمة، ازدادت شهية الشركات الغربية." (ص 278)

إنها مأساة حيث الجوع يُنظَّم، واليأس يُخطَّط له.

4. الصين: الإصلاح المقترن بالقمع

رغم أن الصين بدت قصة "نجاح اقتصادي"، إلا أن ذلك النجاح لم يكن دون ثمن: قمع دموي في ساحة تيانانمن، وصعود نخب اقتصادية من رحم الحزب الشيوعي. التحول لم يكن تحررًا، بل كان استبدالًا للبيروقراطية الاشتراكية بنخبة الأوليغارشية.

5. روسيا بين رماد الإمبراطورية وصدمة السوق:

بين الديمقراطية الحُلم والديمقراطية الأداة.

في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، بدا المشهد مهيأً لولادة نظام ديمقراطي جديد. وتكشف كلاين كيف تحولت لحظة التحول الديمقراطي المنتظرة إلى كابوس نيوليبرالي محكم الصنع، لا يختلف في جوهره عما جرى في تشيلي في عهد بينوشيت. حيث أن ما جرى لم يكن سوى تفكيكًا مبرمجًا للاقتصاد السوفييتي، لصالح نخب جديدة، تم انتقاؤها ورعايتها تحت إشراف مستشاري الغرب، خاصة من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي.

"الديمقراطية لا تثمر إن زُرعت في أرض محروقة." (ص 352)

"تلقّت روسيا الجرعة الكاملة من صدمة السوق: تحرير الأسعار، إلغاء الدعم، خصخصة الشركات الكبرى، وإعادة كتابة القانون تحت الإملاء الأميركي." (ص 334)

ولان العلاج بالصدمة هي وصفتهم السحرية للفوضى، سُرِّع كل شيء دفعة واحدة: أُطلقت الأسعار، أُغلقت المصانع، وتمت خصخصة آلاف الشركات خلال أشهر قليلة، مما تسبب في انهيار شامل لمنظومة الحياة اليومية: تفكك نظام الصحة، تأخر الرواتب، تفشي الجريمة، وانتشار الجوع.

"أُقنع الروس أن المعاناة المؤقتة هي ثمن لا بد منه من أجل مستقبل مزدهر... لكن المستقبل ذاك لم يأتِ." (ص 360)

أوليغارشية لا ديمقراطية

وكانت النتيجة المباشرة، هي ظهور فئة محدودة من الأوليغارشيين الذين استولوا على الموارد الطبيعية والمالية للبلاد، فيما غرقت الغالبية في الفقر واليأس. تحوّلت روسيا من دولة عظمى إلى اقتصاد هش، مرهون بقوى السوق، فاقد لسيادته.

استطاعت كلاين ان تكشف ببراعة، ان ما حصل في روسيا مبني على ثلاث سرديات:

1. (السرد التاريخي الدقيق) يوثق الحقائق بالتسلسل.

2. (التحليل الاقتصادي المقارن) يربط بين تشيلي وروسيا.

3. (اللغة البلاغية المؤثرة) تحوّل الأرقام إلى صور دامغة.

كلاين لا تكتب كاقتصادية تقنية، بل كمفكرة إنسانية، تمزج الوقائع بالأسى، والإحصاء بالوجدان.

"لم يكن الأمر مجرد تحول اقتصادي... بل عملية اقتلاع جماعية للذاكرة، للوطن، للكرامة." (ص 377)

ان أهمية هذا الجزء تكمن في الدراسات الاقتصادية والسياسية

ففي الاقتصاد:

* يقدم هذا الجزء حالة تطبيق ميدانية قاسية لنظرية السوق الحر المتطرف.

* يكشف كيف يمكن للخصخصة أن تكون أداة نهب منظم لا أداة تنمية.

*  يُبرز فشل فكرة "الانفتاح السريع" في غياب البنية المؤسساتية.

اما في السياسة:

*  يكشف كيف تُستخدم الديمقراطية كقناع لأجندات الهيمنة الاقتصادية.

*  يُظهر التحالف الخفي بين المال والسياسة في لحظات ما بعد الصدمة.

*  يحذّر من أن الفوضى السياسية تولّد دائمًا فراغًا تملؤه قوى السوق، لا قوى الشعب.

كلاين لا تكتب كأكاديمية معزولة عن الواقع، بل كشاهدة استقصائية تكشف كيف تُستبدل الأنظمة السياسية بأخرى اقتصادية أكثر قمعًا، تحت شعار "الإصلاح".

ان هدف هذا النص هو فضح العلاقة بين الصدمة وبين سرعة التحوّل. فكلما كانت الأمة مكلومة، أصبح تمرير السياسات أسهل.

"حين تكون البلاد في حالة هلع، لا أحد يسأل عن التفاصيل." (ص 204)

الرسائل الضمنية ـ الخطر لا في الكارثة، بل فيمن يستثمرها

تُحذر كلاين من تحول الأزمات إلى أدوات هندسة اجتماعية.  فبدل علاج الشعوب من أثر الصدمة، يتم استثمار هذا الأثر لإعادة قولبتها: إعلاميًا، اقتصاديًا، وحتى نفسيًا.

وهنا تكمن عبقرية "العلاج بالصدمة": في قدرته على إخفاء الطغيان داخل عباءة "المساعدة".

محاكاة الواقع ـ من ماضٍ مُعاد إلى حاضر يُعاد تشكيله

إن ما حدث في تسعينيات القرن المنصرم يتكرر اليوم، بأدوات أكثر تطورًا:

* في غزة، تُسوّى البنية التحتية بالأرض تمهيدًا لإعادة إعمار "مشروطة".

* في أوكرانيا، تُدار الحرب كصفقة استثمار مستقبلية.

* في السودان، تُزرع الفوضى كي تُحصد الأراضي.

* في سوريا ولبنان والعراق، تستمر الخصخصة تحت رماد الفوضى والحروب.

باتت الكارثة مادة أولية، والصندوق الدولي هو الأداة، والنيوليبرالية هي المشروع.

الصدمة كأداة، والمقاومة كواجب

تكشف ناعومي كلاين في هذا القسم عن الوجه غير المرئي للأزمات: حين تُحوّل إلى منصة لتفكيك المجتمعات، لا لإصلاحها. فالعلاج بالصدمة لم يكن إلا تسمية ناعمة لانقلاب اقتصادي مقنّع، يُدار بشعار الإصلاح ويُمارس عبر أدوات الاستغلال.

إن أهمية هذا القسم، بل الكتاب كله، تكمن في دعوته إلى الوعي، إلى المقاومة، إلى رفض التسليم بأن ما يُفرض باسم الإنقاذ ليس إلا خطة سيطرة متنكرة في هيئة دواء.

***

سعاد الراعي

..................

* عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكوارث، هو كتاب للمؤلفة الكندية ناعومي كلاين صدر سنة 2009. يمكن اعتبار هذا الكتاب الموسوعي الضخم أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبري في العالم منذ ثلاثين عاما، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وإلى الآن.

* رابط القسم الأول: https://www.almothaqaf.com/readings-2/981610

*  رابط القسم الثاني: https://www.almothaqaf.com/readings-2/981659

 

الحديث عن الزعيم المصري جمال عبد الناصر فيه ثراء تأريخي كبير، هذا الرجل الذي ترك بصمة وإرثاً ثقيلاً، سواء أكان ايجابياً أم سلبياً، مع ان الشائع هو الأخير، فصورة عبد الناصر الموجودة في الساحة العربية، هي صورة الرجل الذي قام بانقلاب عسكري أطاح فيه بالنظام الملكي المصري "الدستوري البرلماني"، وأحل مكانه نظاماً سلطوياً خانقاً كان انموذجاً لأنظمة أخرى في المنطقة. وكما ذكرنا مراراً في كتاباتنا السابقة عن تاريخ العراق، فإدانة الأنظمة التي جاء بها العسكر، والبكاء على الأنظمة التي سبقتها، هو خلل منهجي كبير، وما علينا إلا أن نبحث عن الأسباب التي أدت الى سقوط تلك الأنظمة بهذا الشكل، فتهاوت كبيت من ورق بلا ناصر أم مُعين (1).

سنقف اليوم مع كتاب كبير بحجمه  "500 صفحة"، كبير بمادته التاريخية، وهو كتاب الدكتور بانايوتس جيراسيموف فاتيكيوتس (2)، والباحث أمريكي يوناني الأصل، وقد صدرت طبعة الكتاب الإنكليزية الأولى في عام 1978.

تكوّن الكتاب من:

مقدمة، خمس أقسام بعشرين فصلاً، تضمن القسم الأول "التكوين السياسي" أربع فصول: عبد الناصر قبل الثورة ـ التكوين السياسي لعبد الناصر ـ جمعية مصر الفتاة ـ جماعة الاخوان المسلمين. وتضمن القسم الثاني "الوصول الى السلطة" أربع فصول أيضاً: جذور جركة الضباط الأحرار ـ عبد الناصر وثورة الجيش ـ توطيد أركان السلطة وإزاحة الخصوم ـ انتصار عبد الناصر. وتضمن القسم الثالث " حاكم مصر" خمس فصول: الأدوات السياسية والأمنية ـ عبد الناصر والدولة ـ سياسة عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية ـ بريق القومية العربية ـ مواجهة إسرائيل. وتضمن القسم الرابع "الريّس" ثلاث فصول: جمال عبد الناصر زعيم المصريين ـ بلاغة خطابات الثورة ـ عهد الحكم المطلق. أما القسم الخامس والأخير "شخصية عبد الناصر وآثاره في مصر" فتضمن أربع فصول: عبد الناصر في المرآة ـ تركة عبد الناصر وآثاره ـ عبد الناصر ألكيبيادس العصر الحديث ـ الخاتمة. وعن مصادره فقد احتلت الصحف والمجلات حيزاً كبيراً من كتابه، إضافة للأبحاث الأجنبية والكتب العربية.

صَدّرَ فاتيكيوتس كتابه بإشارة دقيقة لكل من يريد أن يتعرّض لتاريخ عبد الناصر، فبرأيه أن أي محاولة لرسم صورة للراحل جمال عبد الناصر، لن تمرّ دون نزاع وجدال، فالمهمة عسيرة جداً لمن يريد أن يلتزم درباً وسطاً بين من يُبَجّل عبد الناصر، وبين من يبحث عن مثالبه وعيوبه (3).

يرغب فاتيكيوتس في تبيان الأثر الذي خلّفه عبد الناصر على مجريات الأمور ومسار الأحداث التي تخوضها دولته في خضم شتى العوامل الاقتصادية والاجتماعية ومحركات التاريخ، ووجّه اهتمامه لدراسة عبد الناصر بوصفه ظاهرة مصرية (4).

يشير فاتيكيوتس الى أن علاقة جمال بأبيه وإخوته كانت واهية الأواصر، والسبب هو وفاة أمه وزواج والده قبل أن ينقضي عام على ذلك، ليستعرض صورة من بحث فيكتور فولفنشتاين الباحث الأمريكي المتخصص في التحليل النفسي والعلوم السياسية، اذ قام فولفنشتاين بتطبيق نظريات فرويد على غاندي ولينين وعبد الناصر (5). ويشير فاتيكيوتس الى حرص عبد الناصر على القراءة في مرحلة مبكرة من حياته، وقد أثرت كتابات عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم فيه، ليُهدي بعد ذلك كتابه "فلسفة الثورة" الى هذين الكبيرين، وقد بقي منكباً على قراءة الصحف والمجلات الى آخر يوم في حياته (6).

يذهب فاتيكيوتس في إشارة ذكية ودقيقة الى ضرورة دراسة مرحلة "أحمد حسين" والغوص في ظاهرة الراديكالية الجديدة أو الرومانتيكية الراديكالية في التاريخ المصري الحديث على نحو ما تجسدت في "مصر الفتاة" و "الاخوان المسلمين" من أجل الوقوف على مصادر أفكار عبد الناصر وأفكار جيله وعلى منابع أحلامهم وطموحاتهم (7). فكان كتاب "إيماني" المنشور في عام 1936 لأحمد حسين "وثيقة بالغة الأهمية في الكشف عن الصعوبات التي عايشها جيل عبد الناصر" (8). وقد عَبّدَ الاخوان المسلمون طريق العمل السياسي أمام كثير من ضباط الجيش، وتعلم عبد الناصر حُسن تنظيمهم وتماسكه دروساً عديدة (9).

كانت مصر بلداً يعاني من تعاسة بالغة في نهاية عام 1951، وقد بلغ عدد الأجانب الذين يتمتعون بمزايا في المؤسسات التجارية والمالية نحو مائتي ألف (10)، وقد أظهر عبد الناصر حنكته السياسية في المحافظة على وشائج الصلة مع مختلف الجماعات والأطراف من أجل تحقيق الهدف المنشود (11)، ويندهش فاتيكيوتس من سرعة استيلاء الضباط على الحكم بعد ثلاث سنوات فقط من تشكيل تنظيمهم، ومن عدم وجود رابط أيديولوجي بينهم (12).

رجحت كفة عبد الناصر داخلياً في صراعه مع محمد نجيب (13)، اذ يشير فاتيكيوتس الى ان كفة عبد الناصر في هذا الصراع كانت راجحة بكل المقاييس (14)، ليقف عبد الناصر على رأس النظام من غير منازع.

يكتفي السطحيون بالمرور السريع على الأحداث المفصلية، إما ادانة عبد الناصر على انفراده بالحكم، أو تأييده، هكذا بعيداً عن الحفر والتنقيب، فلا يسأل "السطحي" نفسه: لماذا انفرد عبد الناصر بالحكم؟ هل توجد أسباب خفية مكّنته من ذلك؟ يرى فاتيكيوتس بأن الظروف كانت متوافرة في مصر لتسمح بصعود حاكم على شاكلة عبد الناصر، وينقل نصاً في غاية الأهمية عن أحمد حسين، ذهب فيه الى ان الشعب المصري من أسلس الشعوب انقياداً للحاكم، اذ يُغري حكامه دائماً الى الانفراد بالحكم (15).

أسهب فاتيكيوتس في الحديث عن "مصر عبد الناصر"، وقد حفل كتابه بتكرار مُمل أحياناً، ونجد في فصل "تركة عبد الناصر وآثاره"، وتحديداً في "تقييمات المفكرين المصريين لعبد الناصر" اسهاباً من فاتيكيوتس في طرح أفكاره غير مفصولة عن أفكار المفكرين المصريين ومدمجة معها (16). ولا أعرف، هل يعود ذلك الى فاتيكيوتس أم الى الترجمة؟

يُوحي تقييم فاتيكيوتس لعبد الناصر ـ في النظرة الأولى ـ والمبثوث في مواضع متفرقة من كتابه بشيء من التناقض والاضطراب:

جمعت شخصية عبد الناصر بين صفات روبن هود وخصال السندباد وطباع صلاح الدين وسمات الفتوات وشمائل الفراعنة (17).

تهالك عبد الناصر على امتلاك مقاليد السلطة هو السبب الرئيس في انزلاق البلاد الى الفوضى (18).

كانت آراؤه حول السلطة والقوة بسيطة وضحلة، وكان بعيداً كل البعد عن ترف الحياة، وهو مناور بارع ومفاوض واقعي (19).

كان مصرياً أصيلاً فاق غيره وتجاوزه، وذكياً جداً وداهية بارعاً لكنه ضحل الفكر، وأمهر خطيب وقف يتحدث للجماهير العربية في العصر الحديث وأحذق من وظّف الكلام الملفوظ للوصول الى مراميه (20).

بسط على مصر أكبر بساط من الغل، لكنه بقي مورداً يروي غليل المصريين (21)، وكان لطغيانه أسبابه المنطقية ودوافعه المعقولة (22).

هذه نماذج من أحكام فاتيكيوتس عن عبد الناصر، وهي كما أسلفنا توحي بشيء من التناقض والاضطراب، ويناقش فاتيكيوتس محمد حسنين هيكل وانكاره "ديكتاتورية عبد الناصر" (23)، ولا بُد لنا ونحن في هذا السياق الاستشهاد برأي مهم في هذا المقام:

نعتقد أن المقياس الموضوعي الوحيد للترجيح في شأن الديموقراطية هو الوقوف مع الشعب "أغلبية الشعب" والنظر الى المشكلة على ضوء معاناته، وهذا هو المقياس الموضوعي للترجيح في شأن الديموقراطية (24).

ويعترف فايتيكيوتس بأن قانون الإصلاح الزراعي هو الإنجاز الأوحد للضباط، لكنه يُشكّك في رغبتهم بتخفيف وطأة المشكلات الزراعية؟! ليجزم بأن أصل القانون سياسي (25). ونحن بدورنا نقول: لماذا لا نجمع بين الأصل السياسي للقانون والرغبة في تخفيف وطأة المشكلات الزراعية؟ خصوصاً وأن عبد الناصر قد اتصف بصفات الرجل البلدي؟ (26). والشيء نفسه سيُقال عن جزم فاتيكيوتس بأن غاية سياسة عبد الناصر الاقتصادية كانت سياسية، ولم يكن همّه امتلاك الثروة وإعادة توزيعها (27).

ويسَلّط فاتيكيوتس الضوء على مسألة في غاية الأهمية، ففكرة بناء "اشتراكية بلا اشتراكيين" فكرة ساذجة مثل بناء "ديموقراطية بلا ديموقراطيين" (28)، وفعلاً هي فكرة ساذجة.

ويشير فاتيكيوتس لفكرة القومية العربية، فهي عند عبد الناصر امتداد لسياسة محمد علي باشا وابنه إبراهيم في القرن التاسع عشر، والملك فؤاد وابنه فاروق في القرن العشرين، وأن خيار القومية العربية طريق كل قائد لمصر (29)، وعليه فعبد الناصر لم يكن بدعاً في هذا المجال.

وبشأن القضية الفلسطينية، فقد بقيت حتى أيلول 1954 لا تشغل بال عبد الناصر، وقد رفض الاعتراف بإسرائيل حتى بعد موافقته على خطة روجرز، وبقي الى آخر نفس في حياته يُناصبها العداء (30).

رغم انتقاده لسياسات عبد الناصر، يذهب فاتيكيوتس الى:

ينبغي أن لا يقودنا استنكار سلوك عبد الناصر في السلطة وانتقاد سياساته بعد وفاته الى الانكار التام لما خلّفه من أثر في المجتمع، فمن يملك أن ينكر السد العالي في أسوان، هذا الإنجاز الهائل، وها هو الاقتصاد المرتكز على القطاع العام بصرف النظر عما يعتريه من أخطاء، يقف أثراً شاهقاً من آثار السياسة القومية، ونجد علامات أوضح في الجانب السياسي، فالفئات التي كانت محرومة قبل 1952، لا تزال تشق طريقها الى الآن نحو طبقة السياسيين الحاكمة من صفوة المجتمع (31).

النتيجة التي نخلص اليها، أن كتاب فاتيكيوتس غني فعلاً وثري بالمعلومات، وقد حاول مؤلفه أن يكون متوازناً مع عبد الناصر.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان "باحث تأريخي"

......................

الهوامش:

1ـ عن سقوط النظام الملكي المصري يُنظر:

محمد حسنين هيكل: سقوط نظام! لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة؟ دار الشروق مصر ط3 2008، وعن الملك فاروق يُنظر:

لطفية محمد سالم: فاروق الأول وعرش مصر / بزوغ واعد وأفول حزين 1920 ـ 1965، سلسلة التاريخ الآخر، إعادة قراءة للتاريخ المصري، دار الشروق مصر ط2 2007، وعن تصرفاته الشخصية يُنظر:

سمير فراج: الملكة فريدة ثائرة على عرش فاروق ـ صفحات من تاريخ الملكية المصرية بالوثائق والصور النادرة، الزهراء للاعلام العربي

2ـ ب . ج . فاتيكيوتس: جمال عبد الناصر وجيله، ترجمة: أحمد نبيل اللهيب، مدارات للأبحاث والنشر مصر ط1 2025

3ـ فاتيكيوتس ص21 وقد عانينا من هذه المسألة شخصياً في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً من الذين يبحثون عن مثالبه وعيوبه

4ـ فاتيكيوتس ص23

5ـ فاتيكيوتس ص30 و 436

6ـ فاتيكيوتس ص37 و 38 ويشير الأستاذ عزيز السيد جاسم الى أن عبد الناصر قد كان عسكرياً مثقفاً، يُنظر:

عزيز السيد جاسم: مقتل جمال عبد الناصر، دار آفاق عربية بغداد ط1 1985 ص25، وتذكر الدكتورة مارلين نصر بأن عبد الناصر قد كوّن لنفسه من خلال قراءاته ركيزة ثقافية وعلمية متينة، ينظر:

مارلين نصر: التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر 1952 ـ 1970 دراسة في علم المفردات والدلالة، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 1981، دار المستقبل العربي القاهرة ط2 1983 ص96، ويذكر عبد الحميد السراج حادثة متأخرة تشير لولع عبد الناصر الثقافي، فقد كان يُعلم رجاله ـ والسراج منهم ـ ويفرض عليهم قراءة ملخصات كتب وأحياناً الكتب نفسها، يُنظر:

كمال خلف الطويل: عبد الناصر كما حكم 2 ـ زيارة جديدة لتاريخ عربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 2024 ص765

7ـ فاتيكيوتس ص87

8ـ فاتيكيوتس ص89 و 90

9ـ فاتيكيوتس ص113 و 116

10ـ فاتيكيوتس ص151 و 161

11ـ فاتيكيوتس ص141 وعليه فعبد الناصر هو الرأس المدبر للثورة، ينظر:

عبد الرحمن الرافعي: ثورة 23 يوليو سنة 1952 / تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952 ـ 1959، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، مكتبة الأسرة 2017 ص39

12ـ فاتيكيوتس ص146 وهذا لدليل على حجم التفسخ الذي أصاب نظام فاروق

13ـ عن محمد نجيب ينظر:

وفاء خالد خلف: محمد نجيب ودوره السياسي والعسكري في مصر حتى عام 1954، دار ضفاف للطباعة والنشر بغداد ط1 2013

14ـ فاتيكيوتس ص197

15ـ فاتيكيوتس ص204 و 497

16ـ فاتيكيوتس ص446 الى 474

17ـ فاتيكيوتس ص359

18ـ فاتيكيوتس ص246

19ـ فاتيكيوتس ص360 و 361 و 362

20ـ فاتيكيوتس ص366 و 372

21ـ فاتيكيوتس ص364

22ـ فاتيكيوتس ص434

23ـ فاتيكيوتس ص260

24ـ عصمت سيف الدولة: هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟ دار المسيرة بيروت ط1 1977 ص29

25ـ فاتيكيوتس ص276

26ـ فاتيكيوتس ص363

27ـ فاتيكيوتس ص290 و 291

28ـ فاتيكيوتس ص246 يقول حمروش: وُضعت الحواجز أمام الاشتراكيين الحقيقيين في مرحلة التحول نحو الاشتراكية، ينظر:

أحمد حمروش: خريف عبد الناصر 5 ـ قصة ثورة 23 يوليو، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 1978 ص73

29ـ فاتيكيوتس ص306 و 331

30ـ فاتيكيوتس ص339 و 353 وبشأن التسجيل الصوتي الذي ظهر مؤخراً لعبد الناصر واستخدامه في مهاجمة هيكل، وكأن عبد الناصر أراد ان ينهج سياسة "معتدلة" كالتي انتهجها السادات، فنرى ان الموضوع قد حُمّل الكثير، فسياسة الأمر الواقع لا تعني ما ذهب اليه البعض الآن، خصوصاً وأن التسجيل لم يأتِ بشيء جديد على العارف المدقق، يذكر حمروش بأن عبد الناصر قد تحدى ان يجدوا كلمة واحدة في خطبه وتصريحاته الى انه ينوي تدمير إسرائيل، وأكد على قناعته التامة في الاعتراف بها كدولة فرضتها الظروف، يُنظر:

حمروش: خريف عبد الناصر ص49 و 51

31ـ فاتيكيوتس ص445

حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب

القسمُ الثاني: حــالاتُ الصَّــدمــة

في هذا المنعطف من عقيدة الصدمة لا تكتفي نعومي كلاين بأن تزيح الغطاء عن اقتصاد السوق المتوحّش؛ بل تقتحم، بجرأة العالم الذي تُحاك فيه المؤامرات وراء ستار «الإصلاح» و«إعادة الإعمار». إنّنا إزاء سردٍ موثَّق يَخفق بحرارة الألم الإنساني، كأنّه شهادةٌ دامغة على العنف الذي مارسته الرأسماليّة المتطرّفة ضدّ جسد الشعوب وذاكرتها على السواء.

هنا لا نقرأ بحثًا اقتصاديًّا فحسب، بل نسمع صرخةً فكريةً وأخلاقيّةً تُعرّي طبقات القسوة المواربة خلف خطاب «الحُرّية الاقتصاديّة». تقول كلاين بعبارة حاسمة:

«كان الهدفُ محوَ التاريخ، ثمّ البدءُ من الصفر؛ فلن يتحقّق الصفاء الطهرانيّ للسوق إلاّ حين تُقمَع الذاكرةُ الجمعيّة ويُزال البناءُ القَديم من جذوره».

1. تشريحُ الصدمة: الكارثةُ فرصةٌ استثماريّة

تتمحور فصول هذا القسم حول النظرية التي ابتدَعها ميلتون فريدمان، مهندس «اقتصاد الصدمة»: الأزمات ليست نُدوبًا عابرة، بل لحظاتٌ ذهبيّة لإعادة ترتيب البُنى السياسيّة والاجتماعيّة وفق مقاسات السوق الحرّ.

فمن انقلاب بينوشيه في تشيلي إلى غزو العراق، ومن إعصار كاترينا إلى تسونامي المحيط الهندي، تلاحق كلاين خيطًا ناظمًا: كلّ كارثةٍ تُصاغُ مسبقًا بوصفها «ورشةَ عمل» لبناء نظامٍ أكثر انفتاحًا على رأس المال، وأقلّ رحمةً بالإنسان.

وليس سَرْدُها مجرّد تأريخٍ متسلسل، بل تشريحٌ دقيق لجسد النظام العالميّ الحديث؛ الإنسان فيه حقلُ تجارب، والوطن منصّةً لمدرسة شيكاغو التي لا تعرف وَجْلًا ولا شفقة. تصوغ المؤلِّفةُ هذه العملية بثلاث مفرداتٍ مُقتبسة من قاموس التعذيب النفسيّ: الصدمة – التفكيك – إعادة البناء. يكسر الأفرادُ والدولُ على السواء حتى يرضخوا لإملاءاتٍ ما كانوا ليقبلوها في حال الصحو.

«كانت الخطة دائماً هي انتظار اللحظة المناسبة، حين يكون الناس مرتبكين أو مذعورين أو عاجزين، لتمرير التغييرات الجذرية دون مقاومة».

2. من صفحات الكتاب إلى مرآة الواقع

أهمّية هذا القسم لا تكمن فقط في كشف آليّات الاستغلال، بل في طرح السؤال الحَرِج: أين ينتهي الإصلاحُ ويبدأ التدميرُ المنظَّم؟ شبح «عقيدة الصدمة» لا يزال يخيّم على كلّ بقعةٍ مضطربةٍ اليوم في العالم؛ فما إن تقع او تُفتعل أزمةٌ سياسيّةٌ أو طبيعيّةٌ حتى تُرفَع وصفةُ «التحرير» ممهورةً بتوقيع المؤسسات الماليّة العابرة للحدود. يتكرّر المشهد على نحوٍ يُكسب الكتاب طابعًا نبوئيًّا: كلّما ارتفعت رايةُ الانفتاح، تساءلنا ـ مُرغمين ـ عمّن سيتحرّر حقًّا: الأسواقُ أم المواطنين؟ رأسُ المال أم كرامةُ العيش؟

3. حين تغدو الديمقراطيّةُ ديكورًا

يحذّرنا النصُّ، بصوتٍ ساخنٍ ومتماسك، من أنّ الآلة النيوليبراليّة لا تتنفّس إلّا بالاضطرابات؛ فإذا خمدت النيرانُ افتعلتْ شرارةً أخرى لتبرير خصخصةٍ أعمق وتقليصٍ أشدّ للدور الاجتماعيّ للدولة.

«ما مِن شيءٍ يُضاهي الصدمة في جعل الناس يَقبَلون ما كان مرفوضًا قبلها».

هنا، تؤكّد كلاين، مشرِّحةً العلاقة الوطيدة بين الهلع الجمعيّ وسرعة تمرير القوانين التي تُعيد توزيع الثروة صعودًا.

4. انعكاساتٌ معاصرةٌ صارخة

هل نستطيع قراءة هذه الصفحات دون أن يتقافز إلى أذهاننا ما يحدث اليوم في فلسطين أو أوكرانيا أو السودان؟ المأساةُ تتحوّل إلى مشروعٍ استثماريّ، وقوائمُ الإعمار تُوزَّع كما تُوزَّع أسهمُ الشركات العابرة للأوطان.

«بعد كلّ كارثةٍ ثمّة «منقذون» يُعيدون البناء؛ غيرَ أنّ هؤلاء هم عينُهم مَن يستعدّون للكارثة أكثر من استعدادهم للحياة المشتركة».

إنها رؤية جذرية ومُفزعة، لكنها شديدة الواقعية. نحن نعيش عالمًا تُدار فيه الأزمات كاستراتيجيات مخططة، لا كوقائع عارضة.

5. دعوةٌ إلى المساءلة والمقاومة

يسطع هذا القسم بوصفه نداءً لإيقاظ الوعي: فالصدمة ليست قدرًا سماويًّا، ولا الحروبُ قضاءً مُنَزّلاً؛ إنّها اختياراتٌ تُتَّخذ في كواليس السلطة والمال. والوعيُ الذي تدعو إليه كلاين ليس ترفًا فكريًّا، بل شرطُ صمودٍ وحُسنِ بقاء لشعوبٍ تتعرّض لسلسلةٍ لا تنقطع من «العلاجات» الصادمة.

«لن نعرف أبدًا إلى أي مدى يمكن أن نكون أحرارًا، إذا قبلنا كل ما يُعرض علينا ونحن في لحظات ضعفنا».

القسمُ الثالث: طَبيـبُ الصَّـدْمـة ـ الأزمــةُ النّــاجعــة

يكشف هذا الجزءُ الحاسم من الكتاب أقسى أوجه النيوليبراليّة وأدْهاها؛ إذ يدرس مفهوم «الأزمة الناجعة» بصفته أداةً لتحقيق انقلابٍ جذريّ في بنية المجتمعات من دون إقناعٍ أو حوار، بل بالصدمة ـ اقتصاديّةً كانت أو سياسيّةً أو عسكريّة. فالكارثة عند مهندسي السوق ليست نكبةً تستدعي التعافي، بل سانحةً استراتيجيّة لاستحداث نظامٍ يلائم مصالح القلّة المهيمنة. وكما تكتب كلاين

«إن الكارثة، بالنسبة لهؤلاء المهندسين الاقتصاديين، هي فرصة لا تعوّض. حين تكون الشعوب في حالة صدمة، يمكن تمرير أي شيء». (ص. 192).

1. منهجيّةُ التدمير: حين يصبح العلاجُ هو الداء

ترصد كلاين الاستخدامَ المنظّم للصدمات ـ طبيعيّةً ومُصطنَعة ـ لفرض أجنداتٍ اقتصاديّةٍ متطرّفة. يشهد على ذلك المثالُ الروسيّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عُمِّمت سياسة «أكبرِ قدرٍ من التغيير في أقصرِ مدّة»، لأنّ الصدمة السريعة، في زعم المنظّرين، تُعطّل القدرةَ على المقاومة. يشبّه النصُّ تلك الوصفة بالعلاج بالصدمات الكهربائيّة: قاسٍ، متواتر، وموجَّهٌ إلى جسد مجتمعٍ مُنهَك.

2.  بنيةُ النصّ ورسائلُه المضمرَة

يتكئ القسم على ثلاثة أعمدةٍ متداخلة:

أ.   توثيقٌ دقيق لحالاتٍ عالميّةٍ شهدت العلاج بالصدمة؛

ب. تفكيكٌ بلاغيّ لخطاب النيوليبراليّة الذي يُجَمِّل الخراب باسم الإصلاح؛

ج. تحليلٌ نفسيّ جمعيّ لحالة الشعوب بعد وقوع الكارثة.

واللازمةُ التي تتردّد خافتةً ثمّ ترتفع صاخبةً: «حين يَعُمُّ الهلع، لا أحد يفتح العقود، ولا أحد يقرأ البنود.» إنّه توصيفٌ باردٌ لمناخٍ يُختطَف فيه التشريع والموازنة العامة، ويُعاد تشكيلهما على مرأى من شعبٍ مذهول.

من خلال هذه البنية، لا تنقل الكاتبة وقائع فحسب، بل ترسم خريطة ذهنية لمخططات تُحاك بدمٍ بارد، حيث تُستغل الفوضى لزرع نظام جديد، غالبًا ما يكون أكثر قسوة ولامبالاة من سابقه.

3. الانعكاسُ على حاضرنا المتشظّي

لسنا اليوم بمنأى عن منطق الصدمة؛ فالحروبُ الأخيرة، وتهاوي الأنظمةِ الصحيّة، وارتفاع الأسعار وبشكل خاص اسعار الطاقة، كلها ترسم مسارًا قديمًا جديدًا لإحلال هيمنة السوق محلَّ أيّ رؤيةٍ تضامنيّة. تتكرّر وصفة الطبيب: تحريرٌ عاجل للأسواق، تقليصٌ صارمٌ للدعم، بيعُ القطاع العام؛ لإعادة تشكيل المجتمع، للترويج للتقشف، ولتحويل الخوف إلى طاعة.

كلّ ذلك يُسوَّق بوصفه دواءً ناجعًا فيما هو تعميقٌ للنزف الاجتماعيّ.

ويكفي التذكير بما يجري في غزّة اليوم من تحويل القتل والتدمير والركام إلى «فرصة استثمار» مغلّفةٍ بخطاب إعادة الإعمار؛ لأجل تحويلها الى منتجع سياحي للنخبة "الرڤيرا" كما يريدها ترامب او محمية أمريكية على غرار المنطقة الخضراء، وبهذا تُستنسَخ تجربة «المنطقة الخضراء» في العراق على ضفاف المتوسّط.

4. بلاغةُ المأساة: حين تكون الكلمةُ مقاومةً

أبرز ما يُّميز كلاين، أنّها تحوِّل التحليل إلى فعلٍ ثقافة مُقاومة. كلُّ فقرةٍ لائحةُ اتّهام، وكلّ سطرٍ محاكمةٌ تُرسَمُ فيها خطوطُ دمٍ على دفاتر حسابات عبارتها اللاذعة:

«إنّهم لا ينتظرون الكارثة… إنّهم يصنعونها، ويُتقنون ترتيب المسرح، لأنّهم يَعلمون أنّ اللحظةَ الوحيدةَ التي يمكنهم فيها تغييرُ كلّ شيء هي لحظةُ الانهيار».

هذه اللغة ليست فقط وصفًا للواقع، بل دعوة للاستيقاظ. دعوة لرفض من يُقدّمون أنفسهم كمنقذين بينما هم حفارو قبور السيادة.

5. نحو يقظةٍ تكتُبُ مصيرَها

إنّ «طبيبَ الصدمة» ليس شخصًا بعينه؛ إنّه تجسيدٌ لشبكة السلطة حين تحتكر الحقيقة، وللإعلام حين يُجمِّل الدمار.

تأتي قيمة هذا القسم ـ بل الكتاب كلّه ـ من كونه مرآةً للحاضر يطالعنا فيها مستقبلٌ يُراد له أن يُصاغ بأيدي من لا تردعهم أخلاقٌ ولا تشدّهم وشائجُ الانتماء الانساني.

ولهذا يظلّ درس عقيدة الصدمة صارخًا: الوعيُ درعٌ لا غنى عنه، والمساءلةُ فعلُ بقاء؛ فلا ننجو من الصدمات بالتقبّل، بل بتفكيكها، وكشف مساراتها، وصياغة مسارٍ بديلٍ يُعيد للإنسان مركزيّتَه في معادلة التنمية والحياة.

ملاحظة للقارئ الكريم:

قد يُخيَّل إليك، وأنت تتوغّل في صفحات هذا الكتاب، أن الأفكار تتكرر، وأن الكاتبة تُعيد ذات المقولات بصيغ متشابهة. غير أن هذا الظنّ، وإن بدا وجيهًا في وهلة القراءة الأولى، سرعان ما يتبدّد إذا ما أنصتّ إلى الإيقاع العميق للنص، وتمعّنت في النسق البنيوي لفصوله.

فما يبدو تكرارًا ليس إلا تنقيبًا واعيًا، ونبشًا دؤوبًا في طبقات الحقيقة، حيث لا تُطرح الفكرة من باب الإعادة، بل تُضاء من زوايا متعددة، وتُروى بأمثلة نابضة، وتُفكك في سياقات متجددة، وكل ذلك في إطار محكم من البناء والتحليل، يدور حول محور جوهري لا تحيد عنه كاتبة: عقيدة الصدمة.

إن هذا التكرار الظاهري، في جوهره، منهج ترسيخ لا تكرار سرد، يهدف إلى تعميق الوعي بالفكرة، لا إغراق القارئ فيها. هو كضربات النحات على الصخر، تتوالى لتُشكّل الملامح، وتُظهر ما خفي من تعرجات الذاكرة والسياسة والاقتصاد.

فالفهم لا يُولد من الطرح المجرد، بل من المعاودة الصبورة، من طرق الفكرة من جهاتها المختلفة، حتى تستقر في الوجدان والعقل، وتُصبح عدسة نُبصر بها ما يدور حولنا، ونقرأ بها واقعنا الممزق، العام والخاص، المعلن والمضمر.

هي ليست إعادة، بل إنضاج للفكرة حتى تنضج في وعي القارئ، وتثمر فهمًا يقظًا، وموقفًا يتجاوز التلقي إلى الفعل.

***

سعاد الراعي

......................

رابط القسم الأول

https://www.almothaqaf.com/readings-2/981610

لاشكّ في أنّ القارئ لمتن نصوص وكتابات د. عبد الجبار الرفاعي يسترعي انتباهه رأساً الطّابع التّعليمي، أو إن شئنا الدّقة البُعد التربوي الذي يسم محاوراته، ويمكن إعتبار كتاب " ثناء على الجيل الجديد" من أهم الكتب التي تناولت قضايا جيل الآباء والأبناء في الخمسين سنة الماضية، بالاضافة لمناقشتها قضايا التربية والتعليم ، وهي قضايا تهم مجتمعاتنا أكثر من غيرها بمقتضى ما حصل من تطورات وتحولات في العالم الذي نعيشه اليوم.

 يقوم د. عبدالجبار، غير هيّابٍ بتفكيك نُظم التربية في عصر الآباء، الذي إنهمك في نظام أحادي لرؤيته للعالم والقيم والمعايير، فاذا به يصطدم بتطورات ضخمة ومتسارعة في عصر الأبناء؛ حيث تبدلت الموضوعات نفسها، واتخذت المفاهيم أشكالاً جديدة تتمظهر وتتجلى من خلالها، مما يعني أن جيل الأبناء تحكمه نظم متعددة محايثة لواقعه وتشبه أفقه العقلي (أفق العصر)، وقد تجاوز النظرة الأحادية التي سادت في عصر الآباء وأحدث قطيعة كبرى معها؛ مما أحدث فجوة وهوة عميقة بين الآباء والأبناء، وهو معطى القطيعة بمعناها الفلسفي.

يدافع الرفاعي عن جيل الأبناء ضد أؤلئك (الآباء)، الذين يرون في هذا الجيل أنه بلا مسؤولية، ونبع ذلك من عدم قدرة الكثيرين من جيل الآباء لرؤية التوسعات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وايقاع التغيير الذي طال كل شيء، وبالتالي اتساع الفجوة في كل شئ تقريباً من حيث نمط الحياة والرؤية للعالم، والتّعاطي مع التعقيدات ونُظم تلقي المعرفة بالنسبة لجيل الأبناء؛ ولا نفهم من هذه السياقات أن عبدالجبار الرفاعي يمارس التحريض، بل هو يمارس التفكير المواكب لمتطلبات هذا العصر ومتطلبات الأبناء. إذ لا ينسى المؤلف عرض كيفية تلقي المعرفة ونُظمها عند جيل الآباء، وما شكلته هذه النّظم والتي أحياناً شبه أحادية أو أحادية في نظرتها وتعاطيعها مع العالم وموضوعاته.1547 refaei

يشير د. الرفاعي الى عنصر مهم وفاعل في حياة جيل الأبناء، وهو تخلّصهم من الاستعباد لشخصية الأب وشخصية العالم، والتي هي رؤية الأب بالتحديد؛ وربّما تخلّصهم من القيود التي تعيق تواصلهم أو اكتسابهم لنظم جديدة تواكب التحولات التي يعيشونها؛ وهو ما أدى الى بروز ظاهرة الاغتراب في العلاقة ما بين الآباء والأبناء؛ حيث نعيش اليوم وفق نظام لا يمكن مواكبته دون التعامل مع تسارعه التقني، وقدرة الشخص على الانتقال شبه الدائم لمعالجة موضوعات شتى في فترات زمنية قصيرة؛ ضمن هذا الاطار يفكك د. الرفاعي أشكال العلاقة بين الآباء والأبناء؛ حيث يطلب جيل الآباء الطاعة والانقياد وأحياناً الرضوخ الكامل؛ وهو مايواجه بتمرد عنيف من الأبناء، ولحل الاشكال هذا يطالب المؤلف جيل الآباء بالسماح للأبناء بالانخراط في مواقع السلطة السياسية والحياة الاجتماعية والثقافية، باعتبار أن جيل الأبناء هو أثمن رأسمال للحاضر والمستقبل.

ينحاز د. عبدالجبار الرفاعي بشكل لا مواربة فيه لجيل الأبناء، ويقول أنه تعلم منهم أكثر مما تعلم من جيل الآباء؛ وهذه روح توضح حجم التحولات والتغيرات التي حدثت في عالمنا المعاصر، وخاصة في العشرين عاماً الماضية، وتبيّن ضرورة المواكبة، والا عاش الانسان في كهف ذاكرته أو كما يقول جيل الأياء في السودان: "زمننا أفضل ونتمنى أن يعود ذاك الزمان"، وقد خبرنا نحن جيل الأبناء بالاخص هذه البكائيات من جيل الآباء.

ويعتبر حقل أو علم التربية من الحقول الرئيسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ إنه يقدم إسهامات منهجية وعلمية وتطبيقية كبيرة، خلال مسيرة طويلة من العمل الرصين والإنجازات اللافتة. ومن ذلك كون كليات التربية في العالَم مصدر التموين الأساسي لوزارات التعليم والتربية، عبر الإسهام في تطوير سياسات التعليم وفلسفته، وتأمين خطوط كافية لإنتاج: المعلمين الأكفاء، وصنّاع المناهج والمقررات، وخبراء التعليم والتعلم والتقويم، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير بكليات التربية في مختلف دول العالم[1]. وتشكل نُظم التربية والتعليم وطرق اكتساب وتلقي المعرفة والتي بنيت على أساسها تاريخاً طويلاً من سلطة الآباء في بلداننا وسيطرتهم على كل شئ؛ أحد الموضوعات المهمة في فكر الرفاعي؛ وفي عالمٍ يشهد تحولات كبيرة في فضاءاته لاتزال هذه النظم تمسك بتلابيب مجتمعاتنا المتخلفة وتمنعها من الاستفادة من النظم الحديثة، لأن العقل التربوي لا يزال ماضوياً.

وحيث إن المشهد التربوي ضمن سياق التحديات والتشوهات التي يعيشها، بحاجة ماسة لمراجعة نقدية صارمة عامة للحقل التربوي ذاته. ولكي تكون هذه المراجعة مثمرة، فإنه يتوجب أن يقوم بها مفكرو التربية أنفسُهم، والذين هم بحاجة ماسة في مجتمعاتنا على وجه الخصوص بمواكبة التطورات التقنية والتحديثات التكنولوجية، وعلى أن يكون أس هذه المراجعة النقدية إبستمولوجياً، وذلك راجع إلى أن النقد الإبستمولوجي قادر على تشخيص أصل الداء في حقل التربية.

يمكن للمرء أن يلاحظ حالة الخطاب التربوي المدرسي في شعوبنا؛ والذي يكاد يبدو للناظر من الخارج أنه خطاب يجتر التاريخ ولا يبدع الحديث، بل هو بعيد من الابداع لدرجة انه غير مواكب للتطورات التي يشهدها عالمنا اليوم؛ وحيث إن نُظمنا التّعليمية تعمّق حتى الفوارق ( الطّبقية)* في المجتمع، صانعة بذلك هوة عميقة سوسيولوجياً يعاني منها غالبية الذي تعرضوا لهذا الخطاب؛ أمّا أؤلئك الذين تلقّوا تعليمهم في الخارج فأول ما يدركونه هو النظام المعرفي الذي من خلاله يتلقون تعليمهم؛ حيث يتبدى النظام المعرفي في جملة مفاهيم وقضايا معاصرة، وتحديث مستمر للمناهج وطرق التدريس نفسها، وكيفية استهلاك المعرفة...الخ. ولتوضيح هذه النقطة المتعلقة بتحديث النظم المعرفية لتواكب متطلبات العصر الراهن كتب مارك تايلور مقالا في Nature عنونه "Reform the PhD System or Close It Down” يقول فيه: " تتبع معظم برامج الدكتوراه هيكلاً يعود تاريخه إلى جامعات العصور الوسطى في أوروبا. الهدف؛ إنتاج نسخ مكررة من الأساتذة المختصين عبر استنساخهم. ولا يزال هذا النموذج الصارم قائماً حتى اليوم، رغم تغيّر سوق العمل الأكاديمي تغيّراً جذرياً. " ويواصل بالقول: " نظام الدكتوراه عند مفترق طرق حاسم: إما أن يتجدد لمواكبة متطلبات العصر الحديث، أو يُصبح بلا قيمة. بتبني التعلم متعدد التخصصات، وشراكات الصناعة، والتطورات التكنولوجية، يمكن لبرامج الدكتوراه استعادة قيمتها. أما إذا رفضت الجامعات التكيف، فستستمر في تخريج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل الحالي" . ولنا أن نتخيّل ان هذا ما يتداوله الغرب حالياً في قضايا تحديث النظم المعرفية؛ ونتساءل في اي طريق نحن؟

 في مناظرة شهيرة حول موضوعات شتى بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو في العام 1971 يطرح فوكة خطر مؤسسة ( الجامعة) بقوله: " أعتقد ان ممارسة السلطة السياسية تتم كذلك عبر عدد آخر من المؤسسات التي تتظاهر بأنها لا تملك شيئا مشتركا مع السلطة السياسية وباستقلاليتها عن الدولة, غير انها ليست كذلك.. يعلم المرء بأن الجامعة – وبصورة عامة كل الانظمة التعليمية التي تبدو وكانها ببساطة تنشر المعرفة فقط. صُنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة، ولحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى" وهي صورة أخرى لكيفية سيطرة النظم التربوية والتعليمية على حيوات الناس، عبر تدجينهم واكسابهم صفة الاستنساخ للتجارب القديمة ( جيل الآباء)، أو كما يريد ذاك الجيل ان تبقي الامور كما هي .

هل نحن في حاجة لاعادة تعريف مفهوم التربية؟

من أهم الموضوعات التي تتفرد بها التربيةُ دون غيرها؛ ما يتعلق بـ المناهج والمقررات تصميماً وتعليماً وتطبيقاً وتقويماً وتطويراً، باستخدام كافة الأساليب التربوية التقليدية والحديثة في التخصصات المختلفة. إذن، هذا حقل أصيل، بل لعله من أكثرها أصالة، بحيث لا تُنازَعُ فيه التربيُة، إذ هي الحقل الذي يمتلك “حق التشريع” إزاء هذا الموضوع المبحوث منهجياً وبحثياً وتطبيقياً، ويعد هذا أسمى أنواع الملكية للموضوعات المبحوثة.

تحتاج المؤسسات التربوية عندنا لاعادة تعريف هذا المفهوم ؛ ولوضع أسس سوسيولوجية جديدة لمهامها وأهدافها. ويشير د. الرفاعي بطريقة ما في خطاطته عن الفروقات بين جيل الآباء وجيل الأبناء إلى ما يسميه بيار بورديو بالعنف الرمزي، الذي يمارس من خلال المؤسسات التعليمية وبالاخص المدرسة، والتي تسعى بطريقة أو أخرى للمحافظة على الوضعية القائمة، (يفهم في سياق جيل الآباء) الذين يودون أن تبقى الأمور على ماهي عليه؛ وحيث يتميز العنف الرمزي في المدرسة بقدرته الكبيرة على المخادعة الأيديولوجية وبناء الأوهام التربوية على نحو طبقي، وضمن هذه الممارسة الرمزية تبدو المدرسة على أنها مؤسسة محايدة طبقيا.(2) لكن المدرسة في جوهرها ليست محايدة أبدا، وهي تمارس التطبيع الفكري والأيديولوجي للطلاب، وتقوم في الوقت نفسه بإضفاء الشرعية على الأوضاع الاجتماعية السائدة في المجتمع في اتجاه المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي القائم. وهي بفعالياتها الرمزية تقوم بتمتين وترسيخ العلاقات الطبقية القائمة في المجتمع، تحت ستار استقلال نظام التعليم وحياديته الظاهرة. ومن الطبيعي أن يعزز المجتمع هذه الاستقلالية النسبية للمدرسة، حيث يتم إنشاء هيئة من المتخصصين والمهنيين في مجال العمل التربوي والمدرسي لتقوم بتسيير النظام المدرسي وفقا للاعتبارات الوظيفية والأيديولوجية المحددة في المجتمع.

حوى الكتاب مجموعة من المفاهيم القيمية والاخلاقية ضمن تربية الانسان؛ كالحب، والصمت، وقضايا الدين، ومفهوم التراث والتجديد، وهي في صلب عملية بناء الانسان . هذا كتاب للمؤسسات التعليمية والسياسية، ويمثل رؤية لأفق العصر وما ينبغي أن يكون عليه الانسان وكيف تتم تربيته؛ آمل أن يقرأ هذا الكتاب، وان يكون ضمن مناهجنا، وقبله يجب ان يتم تدريسه للتربويين والمهتمين بمسائلها والمسائل التعليمية.

***

د. احمد يعقوب

كاتب من جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان

......................

هوامش:

1-عبد الله البريدي - نداء ابستمولوجي إلى مفكري التربية: تفحصوا حقلكم – مجلة حكمة 17-10-. .2021.

2-  بيداغوجيا الرمز والعنف الرمزي في منظور بيير بورديو – علي أسعد وطفة – مدونته الشخصية على الانترنت

* لا نستخدم الطبقة هنا بمفهومها الماركسي وانما في سياقها الاجتماعي المرتبط بالتفاوتات الطبيعية بين البشر.

 

نواصل رحلتنا في استكشاف رؤى الدكتور عبد الإله بلقزيز، ونتعمق في شخصية تمثل علامة فارقة في تاريخ ثقافتنا الحديثة: أحمد فارس الشدياق. ففي الفصل السادس من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، لا يقدم المؤلف عرض لسيرة الشدياق، بل يحلل بعمق منهجه النقدي الفريد في تعامله مع إشكالية "الأنا والآخر". إن الشدياق، في هذا التحليل، لم يكن مجرد ناقل أو منبهر، بل كان مفكراً يمتلك بصيرة نقدية ثلاثية الأبعاد، استخدمها لفحص الذات والآخر والعلاقة بينهما.

فرادة الشدياق: ما وراء الانبهار والرفض

يستهل بلقزيز بتأكيد "فرادة الشدياق" مقارنة برفاق دربه من النهضويين. فبينما اشترك معهم في الاهتمام بأوروبا ووصف مجتمعاتها، تميز عنهم بقدرته على تجاوز "الاندهاش الدراماتيكي" الذي طبع نظرة الكثيرين، بمن فيهم رفاعة الطهطاوي. يوضح بلقزيز أن الشدياق كان "أقل انبهاراً بمعطيات المدينة الغربية من الطهطاوي، وأكثر نقدية تجاهها". هذا الاستعداد النفسي والثقافي، المدعوم بتجربة معايشة أطول وأوسع في أوروبا، مكّنه من تفعيل حاسة نقدية أعمق وأكثر توازناً.

ولعل أبرز تجليات هذه الفرادة تكمن في علاقته الجدلية بالموروث الثقافي العربي. فهذا الحداثي بامتياز، لم يتردد في إظهار شغفه العميق بالتراث، خاصة اللغوي والأدبي، بل وسعى لبيان وجوه الحداثة "فيما عُدَّ تقليداً". هذا الجمع بين الاندفاع نحو الحداثة والولع بالقديم، يفسره بلقزيز ليس بازدواجية في الشخصية، بل بـ"نزعته النقدية الحادة" التي أخضع بها كل شيء، تراثاً كان أم حداثة، للتمحيص والمساءلة. وقد سمح له هذا "النقد المزدوج (للتراث والحداثة)... بإنتاج مقالة ثقافية متوازنة نَدَرَ أن كان لها نظائر في الثقافة العربية المعاصرة التي حَكَمَها التوتر بين خطابين انبهاريين غير نقديين: خطاب النرجسية الذاتية الأصالي وخطاب الانشداه الاتباعي الحداثي". ولا ننسى هنا إشارة بلقزيز إلى قدرة الشدياق اللغوية الفذة، التي جعلت مارون عبود يقول: "إن من شاء أن يؤلّف في اللغة بعد الشدياق فليستح".

النقد الثلاثي: منهج الشدياق في استجلاء الحقائق

إن جوهر مساهمة الشدياق، كما يراها بلقزيز، تتجلى في ممارسته لما يمكن أن نسميه "نقداً ثلاثي الأبعاد" في مقاربته لجدلية الأنا والآخر. هذا النقد لم يكن أحادي الاتجاه أو منطلقاً من موقف أيديولوجي مسبق، بل كان حركة دائرية تتنقل بين الذات والآخر، وتفحص كليهما من زوايا متعددة.

نقد الأنا في مرآة الآخر

لم يتورع الشدياق، وهو العاشق للغته وتراثه، عن استخدام أوروبا كمرآة تعكس مواطن الضعف والتقصير في الذات العربية. فمن خلال المقارنة الصريحة أحياناً، والضمنية أحياناً أخرى، كشف بمرارة عن حجم التخلف في مجالات كالتعليم، والأمن، ومعاملة المرأة، والقيم الاجتماعية كالأمانة والصدق واحترام الوقت والمسؤولية. لم يكن هدفه مجرد جلد الذات، بل كان هذا النقد، الصادر عن حسرة عميقة، بمثابة جرس إنذار، ودعوة لاستنهاض الهمم وتدارك ما فات. إن اعترافه الصريح بسبق الأوروبيين وتفوقهم في تنظيم الدولة والحرية والصناعة والعلم، وحتى في منظومة القيم الاجتماعية، كان جزءاً من هذه الوظيفة التنويرية التي أرادها لكتاباته.

نقد الآخر في مرآة الأنا

لم يكن الشدياق مجرد معجب سلبي بالغرب أو ناقد عدمي لذاته. بل مارس أيضاً الوجه الآخر للمقارنة، حيث انتقد جوانب من الحضارة الأوروبية، وأحياناً بمقارنتها بما يراه من قيم إيجابية في التراث العربي أو الذات الشرقية. هذه "المفاخرة" لم تكن مجرد مكابرة نهضوية ضد الاعتراف بالهزيمة، بل كانت أيضاً محاولة لتقديم صورة أكثر توازناً للغرب، وللتأكيد على أن للحضارة العربية الإسلامية إسهاماتها وقيمها التي لا يجوز طمسها. انتقد الشدياق مظاهر كالتحلل الأخلاقي في بعض المدن الأوروبية، وجهل العامة، ودور بعض المؤسسات في التجهيل، والفقر، وبعض القيم المتخلفة. يرى بلقزيز أن هدف الشدياق من هذا النقد لم يكن رفض الحداثة الأوروبية، بل "تقديم أوروبا كما هي، بتناقضاتها وبعجرِها وبجرها، من دون تبشير أو أَسْطَرَة". والأهم، كان يهدف إلى بيان أن تلك الحداثة هي ثمرة جهد إنساني عام كان للعرب فيه كبير نصيب، مما يجعل الأخذ بمعطياتها فعلاً أصيلاً ومشروعاً.

نقد الآخر في مرآة نفسه

لعل هذا هو البعد الأكثر عمقاً ودلالة على موضوعية الشدياق ونزعته النقدية الشاملة. فهو لم يكتف بمقارنة الشرق بالغرب، بل مارس نقداً داخلياً للآخر الأوروبي، بمقارنة مجتمعاته ببعضها البعض. هذا "النقد لأوروبا من داخل منظومتها"، كما يشير بلقزيز، هو ما يدحض أي اتهام للشدياق بالتحيز المسبق أو الانطلاق من عقدة المقارنة مع الذات الشرقية فقط.

فعندما يضع مالطة في ميزان المقارنة مع إنكلترا، يرتفع مقام الأخيرة ويهبط رصيد الأولى. ولكن صورة إنكلترا نفسها، رغم إعجابه بها، "سرعان ما تهتز فتصاب بالشروخ حين يقرأ ملامحها في مرآة فرنسا". فقد بدت له فرنسا أرقى وأكثر مدنية وتحضراً في معظم عناصر المقارنة، من فن الطبخ إلى الأناقة المدينية والمعمارية، ومن أدب النساء وكياسة العامة إلى الغناء، مقابل ما رآه من "بلادة" لدى الإنكليز وتقليدهم للفرنسيين في بعض الجوانب. هذا التفضيل لفرنسا لم يكن هوىً ذاتياً، بل نتيجة لتأمل مقارن، يرى فيه الشدياق النموذج الفرنسي أكثر تحقيقاً لمُثُل الحداثة.

خلاصة رؤية الشدياق: نحو وعي نقدي مركب

إن أهم ما يستحق استنتاجه من تحليل بلقزيز لتجربة الشدياق، هو أن "صورة أوروبا (الآخر) في وعي أحمد فارس الشدياق ما كانت نمطية على أي نحو من الأنحاء... كانت هذا وذاك، متعددة، مكتنزة بالتناقض وأحياناً بما يبعث على الشعور بالمفارقة". لقد تطورت رؤيته عبر تجربته المديدة، وكانت دائماً رؤية نقدية ديناميكية، تقوم على المقارنة المستمرة.

فالشدياق، من خلال هذا النقد الثلاثي الأبعاد، قدم نموذجاً للوعي النهضوي الذي يتجاوز الاستقطابات الحادة. هو لم يسقط في فخ تمجيد الذات بشكل أعمى، ولم يستسلم للانبهار المطلق بالآخر. بل استطاع، بفضل نزعته النقدية الأصيلة، أن يرى مواطن القوة والضعف في "الأنا" و"الآخر" على السواء، وأن يقدم صورة مركبة للواقع، تدعو إلى فهم أعمق وتفاعل أكثر نضجاً مع تحديات العصر. إنه يمثل، في قراءة بلقزيز، إمكانية حداثة عربية نقدية، قادرة على الانفتاح دون ذوبان، وعلى التمسك بالذات دون انغلاق، وهي الإمكانية التي ربما افتقدتها أو أهدرتها الكثير من التيارات الفكرية التي جاءت بعده.

***

مرتضى السلامي

.......................

ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (7)

حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب

* كيف تُستَغل الكوارث لتشكيل عالمنا من جديد؟

في مقدمة كتابها الجريء والمثير للجدل عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، تفتح الكاتبة الكندية نعومي كلاين نافذة عريضة على ظاهرة معاصرة شديدة التأثير: حيث تُطلّ على القارئ ببوابة فكرية مروّعة، تسرد فيها، لا بل تفضح، كيف استُغلت الكوارث، والحروب، والانهيارات الاقتصادية، لا كأزمات طارئة بل كفرص استثمارية مقصودة لإعادة تشكيل العالم وفق ملامح رأسمالية متوحشة.

تبدأ كلاين بسرد مشاهد من ساحات التعذيب والمختبرات النفسية، موضحةً كيف استُخدمت تقنيات الصدمة النفسية في تفكيك ذات الإنسان، لتُسقط بعدها هذا النموذج على المجتمعات والدول بأكملها. فحين تُصاب دولة بزلزال سياسي أو كارثة طبيعية أو انهيار اقتصادي، لا تُهرع "المنظومة النيوليبرالية" لمدّ يد العون، بل تتربّص بالحدث لتعيد هندسة الاقتصاد والسياسة بما يخدم مصالح الشركات الكبرى والنخب الحاكمة.

تُصاغ صفحات المقدمة بلغة مكثّفة تتداخل فيها الشهادات والتواريخ، لتكشف كيف كانت "عقيدة الصدمة" منهجاً متعمداً وليست سياسة طارئة، بدءاً من انقلاب بينوشيه في تشيلي بدعم أمريكي، إلى إعصار كاترينا في نيو أورلينز، إلى غزو العراق الذي لم يكن فقط استعراضاً عسكرياً، بل تجربة كاملة في "رأسمالية الكوارث".

تكمن أهمية الكتاب في كونه ليس فقط توثيقاً جريئاً لتلك الجرائم الناعمة التي ترتكب باسم الاقتصاد الحر، بل صرخة مدوية ضد تزييف الحقيقة وتدجين الرأي العام عبر بثّ الخوف واستغلال الصدمات. إنه مرآة قاتمة لما يحدث اليوم، حين تُستخدم الأوبئة، الحروب، وأزمات المناخ كأدوات للهيمنة، لا كدعوات للإصلاح أو الصحوة.

الاهداف والرسائل الضمنية لهذا العمل لا تقتصر على التحذير، بل تحث على مقاومة النسيان؛ على نبذ "الصدمة" كوسيلة للتطويع، وعلى إعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية. وفي زمننا الراهن، حيث تتكالب الصدمات وتتقاطع الأزمات، يصبح الوعي الذي تبثه نعومي كلاين ضرورة لا ترفاً، ويغدو الحديث عن "عقيدة الصدمة" مدخلاً لكسر دوائر التزييف والتغريب.

الكتاب ليس فقط تأريخًا ناقدًا لعقود من الليبرالية الجديدة، بل هو تحليل عميق لميكانيزمات السلطة والاقتصاد، وللعلاقة بين العنف والربح، بين التعذيب والمضاربة المالية، وبين الخراب والإعمار التجاري. بأسلوبها الوثائقي المدعوم بالشهادات والوقائع، تفكك كلاين ما تسميه بـ „رأسمالية الكوارث"، وتعرض كيف تحوّلت الصدمة إلى إستراتيجية ممنهجة لإعادة هندسة المجتمعات في اتجاه يخدم نخبة ضيقة ويهمّش الأغلبية.

عقيدة الصدمة هو دعوة للوعي، ولتأمل عميق في المسارات التي رسمها المال والقوة لمصائر الشعوب، وهو كتاب لا يُقرأ فقط لفهم الماضي، بل للتأهب لمستقبلٍ قد يُعاد فيه إنتاج الصدمة بوسائل جديدة.

 إنها مقدمة تُشعل الفكر، وتدق ناقوس الإنذار: إن لم نُحصّن وعينا، سنُدار كما تُدار الأسواق... بالصدمات.

القسم الأول

* حيث تتحوّل الكوارث إلى أدوات للهيمنة

في زمن اختلطت فيه الحقيقة بالوهم، وتلاشت فيه الحدود بين الإصلاح والتدمير، ينهض كتاب "عقيدة الصدمة" كمرآة صادمة تعكس وجهاً خفياً من وجوه النيوليبرالية، ذاك الوجه الذي يستغل لحظات الضعف الجماعي، ليس لغرض الشفاء، بل لتوسيع السيطرة وزراعة مصالح نُخب الاقتصاد والسياسة. في القسم الاول، تكشف ناعومي كلاين عن مختبر رهيب للسيطرة، حيث لا تُستخدم الصدمات فقط كعوارض عرضية للأزمات، بل تُصاغ وتُهندس كأدوات ممنهجة لإعادة تشكيل الواقع وفق عقيدة السوق المتوحشة.

*التحليل البنيوي والمعرفي: طبيبان اثنان للصدمة

ينفتح القسم الأول من الكتاب بعنوان "طبيبان اثنان للصدمة"، ويجري تشريحًا فكريًا في غاية الأهمية، إذ تُقدّم كلاين سرداً مزدوجاً يُقارن بين الصدمة الجسدية – كما تظهر في مختبرات التعذيب، وبين الصدمة الاقتصادية – كما تطبقها المؤسسات المالية العالمية والحكومات المتحالفة مع رأس المال العالمي.

في "مختبر التعذيب"، نستعرض تفاصيل مرعبة عن تجارب CIA في خمسينات القرن الماضي، حيث تُعزل الذات الإنسانية عن سياقها الطبيعي، وتُحوَّل إلى جسد قابل للبرمجة بعد تدمير بنيته النفسية. هذه المشاهد لا تُروى من أجل التهويل، بل لخلق ترابط عضوي بين الآلة النفسية للتعذيب، وآليات "العلاج الاقتصادي بالصدمة".

أما في "طبيب الصدمة الآخر"، فتنتقل الكاتبة إلى ميلتون فريدمان ومدرسته الاقتصادية في جامعة شيكاغو. هذا الطبيب لا يستخدم الكهرباء أو الإبر كالأول، بل يُفرغ الاقتصادات من هياكلها، ثم يعيد بناءها وفق مبادئ السوق الحرة المطلقة: خصخصة، رفع الدعم، تحطيم النقابات، وإلغاء أي دور للدولة. هذا "الدواء"، كما يدّعي أنصاره، هو الحل، لكنه في واقع الحال يعيد إنتاج البؤس لصالح قلة منتفعة.

* الرسالة الضمنية: السيطرة باسم الإنقاذ

لا تخفي كلاين نبرتها التحذيرية، لكنها تُخضعها لمنهج تحليلي قائم على المقارنة والتوثيق. تكشف كيف تتحوّل الكوارث – سواء كانت حروبًا، كوارث طبيعية، أو أزمات اقتصادية – إلى فرص ذهبية للشركات الكبرى، تُطلق فيها يدها تحت ذريعة الإصلاح. فحين يُصاب مجتمع ما بزلزال أو بانهيار اقتصادي، لا تكون الاستجابة غالباً إنسانية، بل تُدار وكأنها حملة احتلال اقتصادي عاجلة.

إن العقيدة التي تتبناها المؤسسات النيوليبرالية تقوم على مبدأ أن التغيير الحقيقي لا يحدث إلا حين يكون الناس في حالة صدمة. هذه ليست مصادفة، بل ممارسة متعمدة. في لحظة الغرق، لا يطالب الناس بالديمقراطية، بل بمن ينقذهم... وأي "منقذ" أفضل من السوق الحرة الجاهزة على الدوام؟

* من النص إلى الواقع: حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب

في عالم اليوم، تبرز ملامح "عقيدة الصدمة" بشكل صارخ. تأمل في مشهد ما بعد جائحة كورونا، حيث استُخدمت الأزمة لفرض تغييرات اقتصادية واسعة النطاق، من تراجع الحماية الاجتماعية إلى تضخم ثروات الشركات الرقمية الكبرى. أو تأمل في الحروب الدائرة، من أوكرانيا إلى غزة، حيث تُدمر البنى التحتية بشكل كامل ويُعاد إعمارها في عقود مشبوهة تذهب أرباحها لمن يملكون أدوات الصدمة والبناء معاً.

كما نجد في الحوكمة الرقمية الحديثة – بمزيجها من الرأسمالية المراقِبة وسحق الخصوصية – وجهاً جديداً من وجوه السيطرة الناعمة التي تستند إلى الصدمة النفسية لا الجسدية: الخوف من فقدان الوظيفة، من الحرب، من المرض، من العزلة، كلها أدوات تُستخدم لترسيخ الطاعة الاقتصادية والسياسية.

* بلاغة العنوان وبلاغة الهدف

العنوان ذاته "عقيدة الصدمة" يحمل شحنة دلالية كثيفة. فالعقيدة عادة ترتبط بالإيمان والثبات، لكنها هنا ترتبط بالتقويض والهدم. إن بلاغة النص في الجمع بين ما هو فكري وما هو حسي، بين التجريد الاقتصادي وصور الألم الجسدي، تجعل منه عملاً لا يُقرأ فقط بعين الباحث، بل بقلب الإنسان الذي يشعر بأن العالم يُعاد تشكيله على نحو لا يد له فيه.

كلاين لا تكتب بحثاً اقتصادياً جافاً، بل تؤلف نشيداً احتجاجياً بصوت مثقف شاهِد. نصّها ينضح بالألم، لكنه لا يستسلم. تحاول أن تزعزع يقين القارئ ببراءة السوق، وتدعوه للتفكر في دور السلطة، لا فقط في قاعات الحكم، بل في أعماق الوعي الفردي والاجتماعي.

* أهمية النص في راهنيتنا: بين الوعي والمقاومة

إن تحليل هذا القسم من الكتاب يُبرز أهميته كمصدر أساسي في فهم آليات الهيمنة الاقتصادية والسياسية الحديثة. إنه كتاب ينتمي إلى ما يمكن تسميته "أدب المقاومة الفكرية"، لأنه يُسلّح القارئ بالفهم، ويعيد تعريف مفردات اعتدنا استخدامها ببراءة: "إصلاح"، "إعمار"، "حرية السوق"، ليُظهر أنها في أحيان كثيرة مجرد أقنعة تُرتدى عند وقوع الصدمة.

ولعل أعظم ما في هذا العمل هو قدرته على إيقاظ العقل في زمن التخدير الجمعي. إنه يذكّرنا أن الأزمات لا تقع فقط لأننا ضعفاء، بل لأنها تُخطط أحيانًا، أو على الأقل تُستغل بوحشية حين تقع. وبالتالي، فإن الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. إن مواجهة الصدمة ليست فقط في تجاوزها، بل في كشف من يزرعها، ولماذا.

أرى ان كتاب عقيدة الصدمةـ وخاصة القسم الذي تناولته ـ يقف كواحد من أمهات النصوص الفكرية التي تسبر غور العلاقة بين ثلاثي، السلطة، الاقتصاد، والخوف. وقراءته اليوم، في عالم تتسارع فيه الأزمات، ليست مجرد فعل ثقافي، بل مقاومة روحية وذهنية ضد اختطاف الوعي. إنّه نداء للانتباه... قبل أن تُغلق نوافذ الوعي، وتُصادر الحقيقة، تحت وطأة الصدمة القادمة.

***

سعاد الراعي

...........................

* كتاب عقيدة الصدمة، ترجمة نادين خوري، الطبعة الثالثة، 2011، يقع الكتاب في 657 صفحة، صادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

سأواصل قراءة وتحليل هذا الكتاب القيم بشكل حلقات وبحسب اجزائه.

ش

في ذكرى مرور خمسين عاماً على هزيمة 1967، كان من المفترض أن يأتي كتاب "في تشريح الهزيمة" ليكسر الطوق المفاهيمي الذي حكم قراءتنا لهذه اللحظة الفارقة في تاريخنا المعاصر. لكن المفارقة المرة أن الكتاب وقع في فخ التسطيح ذاته الذي يدعي مقاومته، فتحول إلى مجرد إعادة إنتاج لأطروحات جاهزة، تختزل أسباب الهزيمة في "ديكتاتورية النظام" و"غياب الديمقراطية"، دون أي محاولة جادة لفهم تعقيدات اللحظة التاريخية وسياقاتها الإقليمية والدولية.

أولاً: الديمقراطية

يسخر الكاتب من المنهج التبسيطي الذي يعتبر الديمقراطية شرطاً حتمياً للنصر العسكري، فيطرح سلسلة من الأسئلة الجارحة: هل انتصر هتلر (1939-1942) لأنه كان أكثر ديمقراطية من الحلفاء؟ هل هزم بسبب تفوق الحلفاء الديمقراطي؟ هل يمكن اعتبار تشرشل وترومان (بدماء اليابانيين على أيديهم) نماذج للديمقراطية المنتصرة؟ ألم تكن إسرائيل -المنتصرة في 1967- نظاماً استيطانياً عنصرياً يحكمه العسكر؟

ويذكرنا الكاتب بأن مصر في 1948 كانت تحكم بنظام ليبرالي رأسمالي، ومع ذلك هزمت وضاعت 78% من فلسطين. فلماذا لا يطبق المعيار ذاته على تلك الهزيمة؟

ثانياً: قراءة انتقائية للوثائق وتجاهل للأدلة

يتهم الكتاب محمد حسنين هيكل بتزوير التاريخ في "الانفجار 1967" لتبرئة عبد الناصر، بينما الواقع يؤكد أن هيكل: أقر بمسئولية عبد الناصر الكاملة عن الهزيمة، نشر محاضر اجتماعاته معترفاً بأخطائه، وانتقد بنية النظام الناصرية المتناقضة، كما كشف عن تحذيرات وصلت لعبد الناصر من هوشي منه وبوتو وحتى الملك حسين.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن : لماذا تجاهل مؤلفو "تشريح الهزيمة" كتاب هيكل اللاحق "عام من الأزمات" (2002) الذي كشف الوثائق الإسرائيلية التي تثبت التخطيط المسبق للحرب؟

ثالثاً: مفارقات النظام "المهزوم" الذي أنتج النصر

هناك مفارقة تاريخية صادمة: نفس النظام الذي هزم في 1967 هو الذي قاد حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973نفس القادة العسكريين الذين هُزموا في 1967 هم من حققوا النصر في 1973 نفس البنية المؤسسية (حزب الاتحاد الاشتراكي، القطاع العام) استمرت حتى 1973

ويذكرنا بأن: جيش النصر بني على أسس التعليم المجاني الناصري وأن حائط الصواريخ (الأكبر عالمياً) بناه قطاع عام ناصري، وأن التنسيق مع سوريا كان استراتيجية ناصرية، كما أن إغلاق باب المندب تحقق بفضل سياسات ناصر في الخليج واليمن

رابعاً: أين يكمن الخلل الحقيقي؟

بدلاً من التركيز على: أخطاء القيادة العسكرية (مثل قرار الانسحاب الكارثي لعبد الحكيم عامر الذي رفع الخسائر من 294 شهيداً إلى 6811 في 48 ساعة) والتخطيط الإسرائيلي المسبق منذ 1957، وكذلك الدور الأمريكي المعروف منذ 1964، لكنه يختزل الكتاب الأسباب في "الديكتاتورية"، وكأن التاريخ مسرحية أخلاقية بسيطة!

الهزيمة تحتاج إلى تشريح حقيقي لا إعادة تدوير

الغريب أن الكتاب يقع في التناقض ذاته الذي ينتقده: يتهم النظام الناصري بالتبعية المزدوجة لأمريكا والاتحاد السوفيتي، ثم ينتقد تلقي المعونات منهما! كما أنه يربط صعود الإسلام السياسي بالناصرية رغم أن الإخوان خرجوا من السجون بصفقة ساداتية- سعودية، بالإضافة إلي أنه يتهم الناصرية بالقمع الثقافي رغم ذروة النفوذ الثقافي المصري في عهدها

ربما تكون الهزيمة الحقيقية هي عجزنا عن إنتاج خطاب نقدي يتعامل مع التاريخ بوصفه عملية معقدة، لا مجرد ساحة لتسوية الحسابات الأيديولوجية. فالهزيمة العسكرية قد تستمر أياماً، لكن هزيمة العقل تستمر عقوداً.

التاريخ بين التعقيد والتوظيف الأيديولوجي

المأزق الحقيقي الذي يعيشه الفكر العربي في تعامله مع تاريخه. فتاريخنا الحديث، منذ هزيمة 1967 وما قبلها، لم يُقرأ في معظمه كعملية معقدة تخضع لتحليل عقلاني، بل تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الأيديولوجية بين تيارات فكرية متعارضة. وهذا ما يفسر لماذا نجد أنفسنا، بعد أكثر من نصف قرن على تلك الهزيمة، ما زلنا نعيد إنتاج نفس الأسئلة، ونكرر نفس الإجابات الجاهزة، دون أن نتمكن من الخروج من هذه الحلقة المفرغة .

أولاً: إشكالية القراءة الأيديولوجية للتاريخ

لعل أبرز مظاهر "هزيمة العقل" في ثقافتنا المعاصرة هي تحويل التاريخ إلى مجرد ذريعة لتأكيد صحة الأيديولوجيات المسبقة، بدلاً من أن يكون مجالاً للبحث الموضوعي عن الحقيقة. فنجد أن: اليسار العربي يختزل هزيمة 1967 في "ديكتاتورية النظام"، متجاهلاً تعقيدات الموقف الجيوسياسي والدور الأمريكي والاستعدادات الإسرائيلية المسبقة.

 الإسلاميون يرونها عقاباً إلهياً على "ابتعاد المجتمع عن الدين"، في تجاهل تام للعوامل المادية والسياسية.

 الليبراليون يحملونها "غياب الديمقراطية"، دون أن يقدموا تفسيراً لكيفية انتصار أنظمة غير ديمقراطية في حروب عبر التاريخ.

هذه القراءات الأحادية تذكرنا بما أشار إليه د. فؤاد زكريا في نقده للفكر العربي، حين حذر من "تحويل التاريخ إلى أسطورة تخدم الأغراض السياسية الراهنة" .

ثانياً: العقل النقدي بين النخبوية والتبعية الفكرية

يعاني الخطاب النقدي العربي من مفارقة غريبة:

1. النخبوية: حيث ينحصر في دوائر ضيقة من المثقفين، دون أن يتحول إلى ثقافة جماهيرية.

2. التبعية: حيث يغرق في استيراد النظريات الغربية دون تمحيص أو تكييف مع الواقع العربي.

وهذا ما لاحظه د. محمد السيد سعيد في تحليله لأزمة الفكر العربي المعاصر، حين أشار إلى أن "المشاريع الفكرية العربية غالباً ما تكون مشدودة إلى مرجعيات غربية، دون أن تتمكن من إنتاج أدوات منهجية خاصة بها" . فبدلاً من أن يكون النقد وسيلة لفهم التعقيدات التاريخية، تحول إلى مجرد تكرار لمقولات جاهزة، سواء كانت مستوردة من الغرب أو من التراث.

ثالثاً: الهزيمة كصناعة ثقافية

الأخطر من الهزيمة العسكرية ذاتها هو تحولها إلى "صناعة ثقافية" تنتج خطاباً يعيد إنتاج التخلف بدلاً من تجاوزه. وهذا يتجلى في: ثقافة التبرير: حيث يتم اختزال الهزائم إلى مؤامرات خارجية، دون نقد ذاتي جاد. أسطورة العصر الذهبي: حيث يتم تحويل الماضي إلى نموذج مثالي يعيق التفكير في المستقبل. الخطاب الانفعالي: الذي يحل محل التحليل العقلاني، كما يظهر في كثير من الخطابات الإعلامية والسياسية.

هذه الظواهر تذكرنا بما أشار إليه جورج طرابيشي من أن "الفكر العربي غالباً ما يمارس نوعاً من النرجسية الجمعية التي تمنعه من رؤية عيوبه" .

رابعاً: نحو عقل نقدي جديد

لكسر هذه الحلقة المفرغة، نحتاج إلى:

1. التاريخ كعلم لا كأيديولوجيا: بمعنى التعامل مع الأحداث التاريخية كموضوعات للبحث العلمي الموضوعي، لا كأدوات لتأكيد صحة موقف سياسي مسبق.

2. النقد الذاتي الجريء: كما مارسته بعض التجارب التاريخية الناجحة، كاليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

3. التعددية المنهجية: باستخدام أدوات متنوعة (تاريخية، سوسيولوجية، اقتصادية) لفهم الظواهر في تعقيدها.

4. ربط النقد بالتغيير: بحيث لا يبقى النقد مجرد تمرين فكري، بل يتحول إلى أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي.

وهذا ما دعا إليه د. فؤاد زكريا حين أكد على ضرورة "المنهج العقلاني النقدي المستوعب لحصاد التجربة العالمية" .

الهزيمة كمحطة لا كنهاية

إن تعاملنا مع الهزائم التاريخية كـ"نهايات" بدلاً من اعتبارها "محطات" في مسار طويل هو أحد تجليات أزمة العقل العربي. فالتجارب العالمية تثبت أن الأمم التي استطاعت تحويل هزائمها إلى نقاط انطلاق هي التي تمكنت من بناء مستقبل أفضل.

ربما تكون مهمتنا اليوم هي تحويل "هزيمة العقل" هذه إلى فرصة لإعادة بناء خطاب نقدي قادر على فهم التاريخ في تعقيده، والتعامل مع المستقبل بإرادة التغيير .

فالهزيمة العسكرية قد تكون قد انتهت، لكن معركة العقل ما زالت مستمرة. وهي معركة لا تقل أهمية عن سابقاتها، لأنها المعركة التي ستحدد ما إذا كنا سنظل أسرى الماضي، أم سنكون قادرين على صنع مستقبل مختلف.

***

د. عبد السلام فاروق

بين بذور الأمل ومرارة الإجهاض

نصل اليوم إلى محطةٍ فارقةٍ في رحلتنا مع كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز "من الإصلاح إلى النهضة". فالفصل الخامس، المعنون "قراءة نقدية لحصيلة فكرية"، يمثل تتويجاً للقسم الثاني من الكتاب، ويقدم لنا تقييماً نقدياً شاملاً لقرنين من جهود العقلنة والتنوير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة.

مقدمات منهجية: في نقد التأريخ السائد للفكر العربي

يستهل بلقزيز هذا الفصل الهام بمقدماتٍ منهجيةٍ يهدف من خلالها إلى تفكيك إشكاليتين أساسيتين في كيفية قراءة وتأريخ الفكر العربي، معتبراً أن تصحيحهما ضروري لتقديم تقييم موضوعي للحصيلة:

إشكالية الزمن و"المعاصرة" الفكرية: ينتقد المؤلف بشدة التقسيم الزمني التقليدي للفكر العربي إلى وسيط وحديث ومعاصر، والذي يعتمد بشكل كبير على إسقاط الزمن المادي الموضوعي (زمن الأحداث والأجيال) على "زمن الأفكار". ويؤكد أن "زمن الفكر" يختلف جوهرياً؛ فهو زمن بنيوي وإبستمولوجي، وليس مجرد تعاقب كرونولوجي. المعارف والمعتقدات قد تستمر لقرون، وتتعايش أزمنة فكرية مختلفة في نفس اللحظة التاريخية. فكما أن منطق أرسطو ما زال مقبولاً ومحاورات أفلاطون تخاطب مشاكل عصرنا، كذلك يرى بلقزيز أن الإشكالية المركزية للوعي العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم هي "إشكالية النهضة أو التقدم". وبما أن هذه الإشكالية لا تزال قائمة ومستمرة، فإن فكر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين "ما زال معاصراً وراهناً بإشكالياته". "الأهم من ذلك أن الكثير منا لا يجد سبباً للشعور بعدم التوازن حين تتجاور، في وجدانه الفني والجمالي وفي فكره، قيم وأفكار القديم والجديد، فيتفاعل مع الأول بنفس تفاعله مع الثاني. وهذا هو عين ما وصفناه بالتداخل بين أزمنة الفكر والثقافة".

إشكالية تصنيف "العقلانية" و"التنوير": يرفض المؤلف الحصر الأيديولوجي لمفهومي العقلانية والتنوير في التيار الليبرالي العربي فقط، كما فعل ألبرت حوراني وهشام شرابي وغيرهم، وإخراج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرتهما. يشدد على ضرورة مراجعة هذه المعادلة الأيديولوجية وغير الموضوعية، والاعتراف بوجود عقلانية وتنوير ضمن التيارات الإصلاحية الإسلامية.

تعدد "العقلانيات العربية": تصنيف ثلاثي نقدي

بناءً على رفضه للحصر الأيديولوجي، يقدم بلقزيز تصنيفاً ثلاثياً لما يسميه "عقلانيات عربية" (بصيغة الجمع)، مؤكداً على تنوعها واختلاف مرجعياتها:

العقلانية الإصلاحية الإسلامية: تمثلت في مفكري الإصلاح بالقرن التاسع عشر والعشرين. ورغم انطلاقها من المرجعية الإسلامية، إلا أنها مارست الاجتهاد والعقلنة، وأعادت الصلة بالعقلانيين المسلمين كابن خلدون والشاطبي وابن رشد. كما أنها "تخطت ذلك إلى توطين - بل تأصيل - بعض موضوعات الفكر الليبرالي الأوروبي نفسه... تشهد بذلك عنايتها بمسألة الدولة الوطنية الحديثة، ودفاعها عن المدنية العصرية وعن وجوب الانفتاح على ثمراتها والانتهال منها، وسعيها في تقديم رؤية حديثة للإسلام تُصَالِحُ بينه وبين العصر، بين الإيمان والعلم، وتتخطى الفهم النصي الجامد لتعاليمه".ويرى بلقزيز أنها، وإن بدت "أَكْثَرَ تواضعاً" في شحنتها العقلانية مقارنة بالليبرالية، كانت "أكثر فاعلية وتأثيراً في حقل المعارف والأفكار وأوسع مدى ونطاقاً اجتماعياً من الأولى"، وذلك لقدرتها على الحفر في التربة المحلية ومقارعة اللاعقلانية من داخل السياق الإسلامي.

العقلانية الليبرالية (الحداثية): انفتحت باكراً على المرجعية الثقافية والفكرية الغربية منذ العقود الأولى للقرن التاسع عشر. دافعت بجرأة عن العقل والعلم والكونية والاقتداء بالغرب، وأدخلت تيارات الفكر الغربي الحديث إلى الفكر العربي. يرى المؤلف أنها تبدو "أعلى جرعة من العقلانية الإصلاحية الإسلامية لسببين هما تحررها من سلطة النص الديني الحاكم للعقلانية الإسلامية، واعتمادها على أصول عقلية حديثة تخلصت من الحاكمية الأرسطية وخاضت في فتوحات معرفية لم تلجها الثقافة العربية - الإسلامية". لكنها عانت من صورتها كفكرة "برانية غير ذات جذور في تربة الثقافة العربية - الإسلامية"، ومن "منزعها التبشيري الذي حَوَّلَهَا... إلى إرسالية فكرية مُبتعثة بين ظهرانينا".

العقلانية النقدية (التركيبية): وهي رؤية فكرية "التزمت سبيل النظر إلى مسائل الفكر والمجتمع من منطلق عقلاني لم يتوقف عن نقد المرجعين الغربي والإسلامي على السواء، أو قل نقد العقلين الغربي والإسلامي". وقد فعل ذلك، على تفاوت، كل من عبد الرحمن بدوي، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وعلي أومليل، وحسن حنفي، وفهمي جدعان، ومطاع صفدي، وسهيل القش، وإدوارد سعيد وغيرهم. "وقد يكون أهم الفتوحات المعرفية لهذه العقلانية النقدية وأهم تجلياتها أيضاً ما تحقق في ميدان الدراسات التراثية الإسلامية: حيث كان الباب مفتوحاً أمام بناء المسافة المزدوجة مع المرجعين والعقلين الإسلامي والغربي". يرى بلقزيز أن هذه العقلانية النقدية تبدو "أكثر تركيباً من سابقتيها. إنها عقلانية جدلية أكثر إصغاء لمطالب العقل الكوني، مع استعداد كبير للرد عليه نقدياً، وأكثر تفهماً للعقل الإسلامي، مع جاهزية لبيان أوجه قصوره ومواطن ذلك القصور".ويشير إلى أن هذه العقلانيات متمايزة ولا تقبل الإدراج ضمن نسقية واحدة لاختلاف مراجعها، وأن الأنثروبولوجيا المعاصرة سددت "ضربة موجعة لفكرة العقل الواحد المطلق المجرد، حين كشفت عن البنى العقلية الخاصة بمجتمعات «طَرْفِيَّة» لا تقبل المقاربة من داخل العقل الغربي".

تعدد "التنويرات العربية": توسيع مفهوم الوظيفة

يطبق بلقزيز نفس المنطق التعددي على مفهوم "التنوير". فبينما "العقلانية إِذْ تُحِيلُ إلى رؤية فكرية للعالم... تشير إلى فاعلية منهجية وإيبيستيمولوجية"، فإن "مفهوم التنوير، فيحيل إلى وظيفة ثقافية أو اجتماعية تقوم بها منظومة الأفكار، تلك، هي تبديد الغوامض والملتبسات، أو تبديد ما أَظْلَمَ وَعَمِيتُ فِي ظَلْمَائِهِ الأَبْصَارُ عن الإبْصَار". وكما تكون مفهوم الأنوار في أوروبا لمقارعة الكنيسة وفكرها الظلامي، كذلك تكون مفهوم التنوير في الثقافة العربية لمقاومة آثار الانحطاط والتيارات المتشبثة بالماضي.

ويرفض المؤلف حصر التنوير في التيار الليبرالي والعلماني، مؤكداً أن "العقل الإسلامي الإصلاحي - في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين - كان تنويرياً بهذا المعنى، لأنه خاض أشد الحروب الفكرية التهاباً ضد الخرافة والتقليد، وفتح وعي المسلمين على حقائق العالم الجديدة، وصالح وعيهم وإيمانهم الديني مع العلم".

ويخلص إلى أن التنوير، شأنه شأن العقلانية، نسبي ويتحدد بالموقع الفكري الذي يستعمله والمضمون الذي يُكسبه إياه. فهناك تنوير ليبرالي هدف لتحرير الوعي من "القرون الوسطى" وتعميم قيم العقلانية والعلم. وهناك تنوير إصلاحي هدف لتحرير الوعي من التقليد والخرافة والانفتاح على المعرفة الحديثة المتوافقة مع الإسلام. وهناك تنوير في خطاب العقلانية النقدية يمثل "معركة معرفية من أجل التحرر من اليقينيات والمطلقات، بما فيها يقينيات العقل الغربي".

تقييم الحصيلة النهائية: مآلات العقلانيات الثلاث

في الجزء الأخير والأكثر أهمية، يقدم بلقزيز تقييماً نقدياً لمآلات هذه التيارات العقلانية:

العقلانية الإصلاحية: مشروع رائد أُجهض: يؤكد مجدداً أنها شكلت "ثورة فكرية" في القرن التاسع عشر، تميزت بالانفتاح والعقلانية ومقارعة الاستبداد. "غير أن هذه العقلانية الإصلاحية التي حَمَلَتْ... مشروعاً ثقافياً نهضوياً لا سابق له منذ الحقبة الأندلسية، سرعان ما ستشهد عداً عكسياً سينتهي إلى إجهاض مشروعها قبل أن يكمل قرناً على انطلاقته". ويعزو هذا الإجهاض إلى ثلاثة عوامل: انهيار المشاريع السياسية الإصلاحية للدول التي كانت حاضنة لها؛ الانقلاب الداخلي عليها من قبل جيلها الأخير، وخاصة محمد رشيد رضا الذي ارتد عن فكرة الدولة الوطنية إلى فكرة الخلافة، مدمراً بذلك تراث العقلانية الإصلاحية؛ وسقوط البلاد العربية والإسلامية تحت الاحتلال الأجنبي الذي غير طبيعة الصراع نحو إشكالية الهوية، مما أدى إلى "الانتقال الفكري سريعاً من إشكالية النهضة (الترقي، التمدن) إلى إشكالية الهوية". ورغم نهايتها كحركة مهيمنة، استمرت بعض تعبيراتها جزئياً في القرن العشرين، لكنها بدت كتجذيف ضد تيار الإحيائية الإسلامية الجديد. ومع الإصلاحية، كان "الغرب منبعاً من منابع المعرفة والنور؛ أما مع الإحيائية (الصحوية)، فبات منبع شر وعدوان. ومع الإصلاحية، كان العقل سلطة معرفية تدين لها الأذهان، بينما صار النص الديني السلطة المعرفية الوحيدة لدى الإحيائية".

العقلانية الحداثية (الليبرالية): مسار آفِل: بعد فترة ازدهار وجرأة (منتصف القرن 19 - ثلاثينيات القرن 20) استفادت فيها من الحاجة العامة للمنظومة الغربية ومن حاضنة مصر وبلاد المهجر ومن مناخ الحرية النسبية بين الحربين، وفترة عنفوان وظفراوية (الخمسينيات - السبعينيات) اكتسبت فيها شرعية وطنية، دخلت هذه العقلانية طور اضمحلال وتراجع منذ نهاية السبعينيات لم تخرج منه حتى الآن. ويعزو المؤلف ذلك إلى طابعها "الدعوي التبشيري" الذي اكتفى باستعادة معطيات الفكر الغربي دون جهد تأصيلي كافٍ، مما جعل تراثها يبدو "برانياً غير ذي صلة بالتاريخية الخاصة للفكر العربي". كما أنها قدمت "تنازلات فكرية كبيرة" تحت ضغط التيارات المحافظة، والمثال الأبرز هو طه حسين وعباس محمود العقاد. ويرى بلقزيز أن "أفولها هذا قد يمتد لفترة طويلة أخرى قادمة في ضوء وقائع التراجع العام الذي يشهده العقل العربي، الذي يعبر عنه - بجلاء - اجتياح خطاب الصحوية الارتكاسي لأذهان الغالبية العظمى".

إرهاصات العقلانية التركيبية (النقدية): نشأت في سياق المضاربة الفكرية بين الإحيائية المنكفئة والعقلانية الحداثية الظفراوية (المنقطعة أحياناً عن التراث). حاولت هذه العقلانية النقدية نقد الخطابين معاً وتجاوزهما نحو رؤية جدلية. وقد حققت "فتوحات معرفية كبرى" خاصة في مجال دراسات التراث الفكري والسياسي العربي الإسلامي. لكنها، كما يرى المؤلف، لا تزال غير متجانسة وتحوي خليطاً من المساهمات الفكرية من مواقع نظرية متباينة، وتعاني أحياناً من "احتدادها في النقد إلى درجة شارفت فيها العدمية أحياناً".

ويختم بلقزيز بملاحظتين استدراكيتين، مؤكداً على المساهمات الرائدة للإصلاحية الإسلامية (في الانفتاح والتقدم والإصلاح الديني) والعقلانية الليبرالية (في ربط الفكر العربي بالإنساني وإطلاق الإبداع)، وأن نقده لهما يهدف لتدارك قصورهما وترشيد حركتهما. ويرى أن العقلانية النقدية تستأنف ما بدأته التيارات السابقة، لكنها لا تزال فرضية تحتاج للإثبات.

إن هذا الفصل يقدم تقييماً نقدياً عميقاً لمسيرة قرنين من العقلنة والتنوير، كاشفاً عن تعقيدات هذا المشروع وأزماته المستمرة، ومبرزاً المحاولات النقدية الجديدة لتجاوز الاستقطابات التقليدية، في سعي دؤوب نحو حداثة عربية أصيلة ومنفتحة.

***

مرتضى رائد عباس

....................

* ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (6)

نواصل اليوم رحلتنا في استكشاف رؤى الدكتور عبد الإله بلقزيز، ونتوقف عند الفصل الرابع من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة". هذا الفصل، المعنون "نحو كتابة تاريخ فكرة الحداثة في الوعي العربي"، لا يقدم سرداً تاريخياً تقليدياً، بل يضع بين أيدينا إطاراً منهجياً ونظرياً لكتابة هذا التاريخ، محاولاً تفكيك المسلمات الشائعة وتقديم رؤية نقدية لمسار الحداثة العربية، بما في ذلك أصولها، وآليات انتشارها، وأنماط استقبالها، ومراحل تطورها.

مداخل الحداثة إلى الثقافة العربية: الفن والفكر والفجوة بينهما

يلفت بلقزيز الانتباه إلى أن الحداثة، كممارسة وتعبير، طرقت أبواب الثقافة العربية بقوة لافتة من خلال الأدب والفن، بدءاً من منتصف الأربعينيات تقريباً. يشهد على ذلك مسرح توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وشعر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وموسيقى الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وسينما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين. هذا المدخل الفني والأدبي، كما يشير المؤلف، سمح للحداثة بأن "تنتج معها جمهورها العريض" وأن تتجاوز بسرعة نسبية حالة "النخبوية" التي ترافق بدايات أي تيار فكري جديد. لقد أصبحت رموز الحداثة الفنية والأدبية، كـ محمود درويش وأدونيس وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه ومرسيل خليفة، يمثلون مرجعيات راسخة وذات سلطان جماهيري يصعب منازعته.

لكن الصورة تبدو مختلفة حين ننتقل إلى رحاب الفكر والإنتاج النظري. فمع أن الحداثة ولدت أيضاً في هذا المجال، بل ربما كانت أسبق في بعض جوانبها على الحداثة الفنية، ومع وجود كوكبة واسعة من المفكرين العرب الذين خاضوا "مغامرات" فكرية حداثية كبيرة ومستمرة في مختلف حقول المعرفة – من طه حسين وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا وسلامة موسى، مروراً بعلي الوردي ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي وحسين مروة وطيب تيزيني ومهدي عامل وسمير أمين وصادق جلال العظم، وصولاً إلى محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وهشام جعيط ورضوان السيد وجورج قرم وغيرهم – إلا أن نصوصهم الكبيرة، كما يصفها بلقزيز، ما زالت وستظل لفترة قادمة "نُصُوص نساك معتكفين في أديرة المعرفة لن يكون لها - شأن سائر النصوص النظرية - إمكان الفشو والسيادة".

هذه الفجوة بين تجذر الحداثة الفنية وسطحيتها النسبية في المجال الفكري النظري تثير تساؤلاً محورياً: "هل مفاد ذلك أن مغامرة الحداثة انتصرت في ميدان الإبداع وأخفقت في ميدان الفكر؟" ورغم أن المؤلف يرى أنه من المبكر التسليم بوجاهة هذه المعادلة، إلا أنه يقر بأن الحداثة تعاني كرؤية فكرية من "نقصاً حاداً في القدرة على منافسة نقائضها في حقل التأليف الفكري والثقافة السياسية العمومية". بل إن الأغلب الأعم من رموز الحداثة في الفكر بات لا يملك "مُكْنَة الدفاع عن الحداثة، بل قُلْ: عن صنعته الحداثية"، وبعضهم لم يعد يجد غضاضة في المساومة عليها. هذه المعاناة، كما يخلص بلقزيز، تعود إلى عاملين متضافرين: اندفاعة "التقليد" المتجددة، المدعومة بأزمات الواقع العربي (فشل الدولة الوطنية، التهميش، إخفاق التنمية، تصدع القيم، قمع الفكر النقدي)، و"هشاشة الحداثة الفكرية نفسها"، فهي لم تخض معاركها بصلابة كافية أو بارتباط عميق بالواقع كما فعلت الحداثة الفنية.

الحداثة والتحديث: تمييز منهجي حاسم

يعود بلقزيز ليؤكد على تمييز مفاهيمي ومنهجي يعتبره حاسماً لفهم التجربة العربية، وهو التمييز بين الحداثة والتحديث. فبينما "تعني الحداثة  - في تعريفها النظري الدقيق - الرؤية الفلسفية والثقافية الجديدة للعالم"، وهي منظومة أفكار تنتجها نخب ثقافية، فإن "التحديث، فهو فاعلية سياسية واجتماعية تَرُومُ تطوير بنى المجتمع والسياسة والاقتصاد" عبر سياسات وإجراءات تخطط لها وتنفذها الدولة. مستفيداً من ملاحظة عبد الله العروي، يرى بلقزيز أن الوطن العربي غالباً ما شهد تجارب "تحديث (مادي) من دون أن يعيش تجربة الحداثة (الفكرية والثقافية)". والأخطر أن "التقليد المجافي للحداثة... قد يتعايش مع التحديث... وقد يوظفه في إعادة إنتاج نفسه كتقليد!".

في أصول الحداثة الغربية: قطيعة العقل والإنسان

لفهم طبيعة الحداثة التي يتفاعل معها العرب، يحلل المؤلف بإيجاز تكوين الحداثة في موطنها الأوروبي. فالحداثة، وإن نشأت في رحم تحولات أوروبا التاريخية، شكلت "علاقة قطع أو قطيعة بالمعنى الفُوكوي" مع النظام المعرفي للعصور الوسطى، وأسست لنظام معرفي جديد. ويحدد بلقزيز ملمحين رئيسيين يؤسسان براديغمات الحداثة هما: "تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية الوحيدة في إدراك العالم الطبيعي والاجتماعي، وتكريس الإنسان هدفاً نهائياً للتحرر والتقدم". أو بعبارة أخرى: العقلانية والإنسانوية.

فالعقلانية الحديثة، التي تختلف عن اليونانية القديمة، نشأت في صراع مرير مع لاهوت الكنيسة، واستفادت من الإصلاح الديني لكنها تجاوزته نحو مرجعية العقل وحده. أما الإنسانوية، فمثلت قطيعة مع النظرة اللاهوتية التي همشت الإنسان وجعلته "رعية"، وأحلته "محلّ المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه". وقد تطورت من فكرة الحق الطبيعي إلى العقد الاجتماعي وحقوق المواطن، وترجمت عملياً في الثورات الحديثة. فبانتصار العقلانية والإنسانوية، "فتح الباب أمام الحداثة: رؤية فلسفية ونظاماً اجتماعياً - سياسياً تمثل الديمقراطية اليوم تعبيره المادي والمؤسسي". ولكن يجب فهم هذا الميلاد في سياقه الأوروبي الخاص.

عنف الحداثة وانتشارها العالمي: عندما تأتي الأفكار على ظهور الدبابات

ثم ينتقل بلقزيز إلى تحليل الطريقة التي انتشرت بها الحداثة الأوروبية عالمياً، وهو ما يفسر جزءاً كبيراً من إشكاليات تلقيها في العالم العربي وغيره. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، بدأت الحداثة الفكرية الأوروبية تزحف خارج حدودها، ولكنها لم تقتحم العوالم الجديدة عبر الحوار الثقافي، بل "أطلت على تلك العوالم بوسائط غير ثقافية وبغير قليل من العنف الرمزي". لقد "أتت الحداثة في ركاب الحملات الاستعمارية الأوروبية... وتَعَرَّف إليها مثقفو وأدباء هذه المجتمعات كثقافة لأوروبا الغازية الظافرة وليس كمنظومة أفكار مستقلة عن الغالب الأوروبي". تم "زرع" الحداثة الثقافية، والرأسمالية، والدولة الحديثة في المستعمرات بعمليات "قيصرية" دمرت البنى التقليدية السابقة. لم تنشأ هذه المنظومات الجديدة بشكل طبيعي، بل كـ"انقلاب خارجي فرض - بالعنف المادي والرمزي - هذه المنظومات الجديدة في مجتمعات لا يُسْعِفُها تاريخها باستقبالها كتحولات طبيعية". فالحداثة "لم تقترح الحداثة نفسها - إذاً بطريقة حضارية «إقناعية» على المجتمعات والثقافات التي اقتحمت قلاعها المحروسة. بل أتتها على حين غرة متوسلة بالغزوة الاستعمارية حاملاً لها ومُحَقِّقاً". ورغم أن عنف الحداثة هذا كان كافياً لرفضها، إلا أن البعض رأى ضرورة الأخذ بها لاكتساب القوة.

أنماط الممانعة الثقافية في مواجهة الحداثة الوافدة

في مواجهة هذا الاقتحام العنيف للحداثة، أبدت المجتمعات غير الغربية، بما فيها العربية والإسلامية، أشكالاً مختلفة من "الممانعة" أو المقاومة الثقافية. يصنفها بلقزيز إلى ثلاثة أنماط رئيسية:

الممانعة الحادة والشاملة (التقليدية الأولى): وهي رد فعل دفاعي كلي ومنكفئ إلى الذات والماضي، ظهر في فترة الصدمة الأولى للاستعمار (القرن التاسع عشر). وقد شارك العرب والمسلمون في هذا النمط من الممانعة الصينيين والهنود واليابانيين قبل تحديثهم. ويتمثل الجامع بين هذه الممانعات في "الرجوع الحاد إلى الماضي والتمسك به، وإحياء تقاليده... بحسبانه عنواناً لهوية تتعرض للتبديد". وقد مثلت هذا النمط في العالم العربي والإسلامي مراكز إسلامية عريقة كالأزهر والقرويين والزيتونة والنجف وقم، والتي يرى المؤلف أنها، رغم دورها الوطني سابقاً، تبدو اليوم "عالة على العقل الإسلامي".

الممانعة المتكيفة (الإصلاحية): وهي مقاومة لا ترفض الحداثة بالكامل، بل "تتكيف مع كثير من تلك المعطيات بهدف تغذية نفسها من جديد... متوسلة ببعض معطيات الحداثة وأدواتها". وقد اتخذت هذه الممانعة شكل رد فكري متكامل وبالغ الإيجابية هو "الفكر الإصلاحي الإسلامي للقرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين". هذا التيار انصرف إلى إعادة بناء خطاب إسلامي منفتح على معطيات العصر، وغرف من الحداثة الفكرية الغربية، خاصة في جوانبها السياسية، لكنه وضع نفسه في سياق الإسلام ومشروع ثقافي يهدف لمجابهة زحف الفكر الغربي. وقد شملت خارطة انتشار هذا الفكر أهم مراكز الثقافة في البلاد العربية والإسلامية، من مصر (العطار، الطهطاوي، عبده) إلى سوريا (الكواكبي، رشيد رضا) وتونس (خير الدين) والمغرب (الحجوي) وإيران (النائيني) والهند (إقبال).

الممانعة البعدية (الإحيائية الرفضوية): وهي ممانعة متأخرة زمنياً، تعود إلى الربع الأخير من القرن العشرين، وتظهر بعد أن تكون الحداثة قد حققت انتشاراً نسبياً في تلك المجتمعات. وتكتسب هذه الممانعة شكلاً "رفضوياً حاداً لِكُلّ ما هو حديث على خلفية برانيته واقترانه بالقوى الصليبية المعادية للأمة". ويرى المؤلف أن أكثر المجتمعات العربية والإسلامية انفتاحاً على الحداثة سابقاً هي نفسها أكثرها توليداً لهذه الظاهرة (أمثلة: مصر وإيران في السبعينيات، ثم تركيا وتونس وباكستان وإندونيسيا في الثمانينيات). وتتمثل هذه الممانعة في الكتابات الإسلامية التي خرجت من رحم فكر سيد قطب، وصولاً إلى التيارات الجهادية المعاصرة، والتي تدور حول ثنائيات الفكر والإيمان والصليبية والإسلام والجهاد والعدوان، وتجتمع على نظرة إنكارية للآخر الغربي والعودة للأصول والسلف.

ويشير المؤلف إلى أن هذه الأشكال الثلاثة من الممانعة قد تتداخل وتتعايش زمنياً، وأنها جميعاً، بدرجات متفاوتة، ساهمت في التأسيس الثقافي لأيديولوجيا سياسية وطنية ضد الاحتلال، غالباً بالتركيز على العامل الخارجي وإغفال مثالب الداخل.

تحقيب مقترح للحداثة العربية الإيجابية: ميلاد، عنفوان، وأفول

مقابل هذه الممانعات، كان هناك مسار آخر من الاستقبال الإيجابي للحداثة والانفتاح عليها. يقترح المؤلف تحقيب هذا المسار في ثلاث لحظات أو أطوار، مستلهماً الدورة الخلدونية:

لحظة التأسيس والاندفاع ("اندفاعة ميلاد"): وتمتد من منتصف القرن التاسع عشر. تميزت هذه اللحظة بولادة رؤية حداثية عربية منفصلة تماماً عن الرؤية الإسلامية التجديدية، ومستمدة بشكل مباشر من الفكر الأوروبي الحديث الذي أنجز قطيعته مع اللاهوت المسيحي. وليس مصادفة، كما يرى المؤلف، أن الموضوعات الأولى التي شغلت الليبرالية الحداثية العربية اتصلت بمسائل الدين والعلم ومناهضة رجال الدين وسلطانهم السياسي. ومع الشدياق والشميل وأديب إسحق وفرح أنطون، خرجت مقالة علمانية عربية إلى الوجود، تميزت باندفاعة تجرأت على نقد كل ما بدا قرينة على الانحطاط، بما في ذلك الدين. ورغم تعرض بعض رموزها للقمع والتراجعات (مثل ما حصل لطه حسين وعباس محمود العقاد وخالد محمد خالد في الثلاثينيات وما تلاها بعد المحاكمات الفكرية)، استمرت فيها الجرأة عند آخرين مثل سلامة موسى. وقد تأخرت المقالة الحداثية السياسية قليلاً في التعبير عن نفسها مقارنة بالفلسفية، لكنها لم تكن أقل اندفاعاً، كما يظهر في ترجمة لطفي السيد لكتاب "السياسة" لأرسطو، كفعل رام القول بأن العرب لم يعودوا بحاجة لمدونتهم التقليدية لتأسيس نظرية السياسة. وكان أعلى أشكال هذه الاندفاعة ما تحقق في مجال اللغة والأدب والفن.

لحظة العنفوان والسيادة ("ظفراوية عنفوان"): وتمتد بين مطلع الخمسينيات ومنتصف السبعينيات من القرن العشرين. في هذه الفترة، بدت الحداثة العربية وكأنها زادت جرعة التعبير عن نفسها، وكانت تياراتها صاخبة والمناخ السياسي العام يسعفها. شهدنا ميلاد نظرة علموية، وداروينية اجتماعية عربية، وفلسفة وجودية، وفورة في الاشتغال بمفاهيم التحليل النفسي، وفلسفة بنيوية زاحفة. وترافق هذا العنفوان في الفكر مع عنفوان في السياسة والاقتصاد، حيث استقر اليسار قوة مستولية على السلطة أو المنابر الثقافية. وفي الاقتصاد، بدت التنمية الاشتراكية عنواناً لاندفاعة الحديث إلى حده الأقصى. الأهم في هذه المرحلة أن الحداثة لم تعد محط شبهة وطنية أو قومية، بل تعربت سياسياً واكتسبت شرعية داخلية وجمهوراً عريضاً، وآلت إليها سلطة الاتهام، فقدحت في القوى الدينية واتهمتها بالتحالف مع الرجعية والإمبريالية.

لحظة التراجع والانزواء ("تهافت التراجع"): بدأت نذر تراجع فكرة الحداثة مبكراً منذ النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، وإن استمرت بعض تعبيراتها عقداً آخر. وكان هذا التراجع في امتداد تراجع عام أطلقه انكسار المشروع القومي العربي بعد حرب 1967، وتوجته هزيمة المعسكر الاشتراكي. ورغم أن بعض الفحص النقدي بدأ مبكراً مع تنبيهات عبد الله العروي وياسين الحافظ حول عدم تطابق الحداثة مع حاجات الواقع وعمق التأخر التاريخي، إلا أن هذه الوقفة النقدية ضاعت في صخب المكابرات الأيديولوجية الحداثوية. وحينما بدأت مقاليد السلطة الثقافية تعود لقوى الإحيائية، سارع بعض بقايا الحداثيين إلى تقديم "التوبة والاعتذار" عن كل ما آمنوا به سابقاً، والتصالح مع "غرب جديد هو الغرب الأمريكي وثقافته الاستئصالية"، بل والدعوة للتحالف معه ضد "الخطر الأصولي". ويرى بلقزيز أن هذا التهافت على يد "سقط المتاع" ممن كانوا فرسان الحداثة سابقاً، يعيد الاعتبار للنظرة الخلدونية التي ترى أن الدول والأفكار تمر بأطوار ثلاثة: استواء ونهوض وأفول.

هكذا، يرسم لنا الفصل الرابع إطاراً شاملاً لتأريخ ونقد تجربة الحداثة في الفكر العربي، مبرزاً تعقيداتها منذ لحظة التلقي الأولى مروراً بمراحل مختلفة من الصعود والهبوط والمقاومة، وصولاً إلى أزمتها الراهنة.

***

مرتضى السلامي

.........................

- ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (5)

مقدمة: "الرحلة" في اكتشاف الذات والآخر وتحولات الوعي

بعد أن تتبعنا في مقالاتنا السابقة مسار خطابي الأصالة والحداثة في الفكر العربي كما حللهما الدكتور عبد الإله بلقزيز، نغوص اليوم في فصلٍ محوريٍّ من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، وهو الفصل الثالث المعنون "جدليات الآخر والأنا في الوعي العربي المعاصر". هذا الفصل يمثل، في تقديري، القلب النابض للإشكالية النظرية التي يعالجها الكتاب، حيث يقدم لنا المؤلف إطاراً مفاهيمياً لفهم كيف تشكل وعي الذات العربية (الأنا) في علاقتها المتوترة والمعقدة بالآخر (الغرب)، وكيف أثرت هذه الجدلية على مجمل الإنتاج الفكري والسياسي.

كيف أدرك الوعي العربي "الآخر" المختلف؟ يرى بلقزيز أن "الرحلة" كانت تاريخياً، في العصر الوسيط كما في العصر الحديث، هي المناسبة الأهم لاكتشاف هذا الآخر والتعرف عليه في عقر داره، لا كأقلية تعيش في كنف المجتمع الإسلامي، بل كصاحب سيادة. هذه المعاينة المباشرة هي التي ساهمت في إنتاج "مفهوم الآخر" في وعينا.

ومن اللافت هنا المقارنة التي يعقدها المؤلف بين رحالة العصر الوسيط ورحالة القرن التاسع عشر. فبينما كان "الرحالة العرب والمسلمون القدامى أقل شعوراً بالدونية تجاه الآخر من رحالة القرن التاسع عشر"، ورغم انبهارهم أحياناً، كما عند البيروني، فإن هذا الانبهار "ما بَلَغَ يوماً حد الشعور بتفوق حضارته أو ثقافته على حضارة أو ثقافة المسلمين، ولا قادهم إلى الاعتقاد بوجوب اقتدائه وتقليده". أما "رحالة القرن التاسع عشر، ومثقفو هذه الفترة عموماً، فكانوا أكثر شعوراً بالنقص تجاهه، وأكثر انبهاراً بنموذجه الحضاري والثقافي، وأبعد في التعبير عن الحاجة إلى الأخذ بما أخذ به من مبادئ ووسائل كي ينتهض ويَحْصل له السَّبْقُ والتفوق". هذا التحول في ميزان القوى النفسي-الحضاري هو مفتاح فهم التلقي الإشكالي للحداثة.

ورغم أن المعاينة المباشرة للآخر يفترض أن تبدد الصور النمطية، يرصد بلقزيز مفارقة استمرار هذه الصور في الوعي العربي الحديث، ليس فقط بسبب المركزية الذاتية، بل بسبب الإصرار على "إمكانية استعادة مجد الماضي" ورفض "الاعتراف بالهزيمة الحضارية أمام الآخر". هذه الفكرة، "فكرة الاستمرارية التاريخية"، تصبح قاسماً مشتركاً، وإن بتعبيرات مختلفة، بين تياري الأصالة والحداثة، وتجعل من "الآخر" مرآة وميزاناً تتعرف "الأنا" من خلالهما على ذاتها وتقيس بهما مقدار تأخرها أو تقدمها.

كيف يتشكل الوعي الذاتي في مواجهة "الغير"؟

كيف تدرك "الأنا" العربية ذاتها من خلال هذه العلاقة المتوترة مع "الآخر"؟ يعتمد بلقزيز على منطقٍ جدليٍّ، مستحضراً هيغل والمتنبي، ليؤكد أن "تعريف الذات والوعي الذاتي ليس فعلاً

بسيطاً يجري بالبداهة، بل فعل مركب وحاصل علاقة جدلية بين حدين متغايرين. أو قُل إن من الطبائع في حركة الواقع والوعي أن الذات لا تنتبه إلى نفسها، أو لا تكاد تعي نفسها كتغاير أو مغايرة، إلا متى اصطدمت بغيريتها، أي بآخر يدفعها إلى الشعور بإنيتها أو باختلافها وتمايزها". فالهوية ليست جوهراً ثابتاً، بل هي نتاج هذه الجدلية.

وفي حركة وعي الأنا للآخر، تتعرف على نفسها من خلال أربع كيفيات رئيسية، كما يوضح المؤلف: "...فثمة على الأقل، أربع كيفيات يحصل بها وعي الأنا لنفسها في تلك العلاقة: وعي الاختلاف في الماهية، وعي صلات التشابه أو الاشتراك مع الآخر، والشعور المفرط بالتفوق، ثم الشعور الشقي بالنقص".

وعي الاختلاف الماهوي، الذي يركز على الفواصل والحدود، وتاريخنة الصراع، يؤدي إلى الانغلاق على الذات، وهو ما يميز "خطاب الأصالة". وعي التشابه والاشتراك، الذي يبحث عن الجوامع والقيم المشتركة، قد يؤدي إلى الإعجاب بالآخر كوسيلة للإعجاب بالذات في ماضيها (كما فعل الإصلاحيون)، أو إلى التأكيد على كونية القيم والانفتاح (كما فعل الحداثيون). وهذا هو "خطاب التقدم والحداثة". الشعور المفرط بالتفوق، الناتج عن مقارنة انتقائية وأيديولوجية، هو آلية دفاعية ومكابرة، وهو أيضاً من سمات خطاب الأصالة النرجسي. الشعور الشقي بالنقص، الناتج عن مقارنة تركز على قوة الآخر وضعف الأنا، قد يكون أقرب للموضوعية، لكنه يجنح أحياناً لجلد الذات وتبني معايير الآخر بشكل مطلق، وهو ما يميز خطاب "التغربن".

ويرى بلقزيز أن خطاب الأصالة، بوجهيه (الاختلاف والتفوق)، يؤدي وظيفة "الممانعة والاستنهاض" ضد هيمنة الآخر. أما خطاب الحداثة (التشابه واللحاق)، فيؤدي وظيفة "التنوير" والسعي نحو توطين قيم المدنية الجديدة في الثقافة العربية، وهو أيضاً يحمل ملمحاً "استنهاضياً يخاطب فكرة النهضة الثاوية في الوجدان الثقافي".

نقد الجدلية البسيطة وكشف التناقضات الداخلية للأنا والآخر

وهنا يقدم بلقزيز مساهمته النظرية الأكثر عمقاً، منتقداً الفهم السائد لجدلية الأنا والآخر في الفكر العربي باعتباره فهماً تبسيطياً واختزالياً. فالخطابات العربية السائدة، أصالية كانت أم حداثية، غالباً ما تعاملت مع الأنا والآخر كـ"حدين" أو "طرفين مستقلين"، أو كـ"وحدتين عضويتين مغلقتين"، والعلاقة بينهما هي علاقة خارجية بحتة. هذه جدلية "بسيطة أو غير مركبة".

الحقيقة، كما يؤكد المؤلف، أكثر تعقيداً. فـ"الواحد من الحدين ليس بسيطاً، أي ليس وحدة متجانسة مقفلة على معنى وحيد ومطلقة، بل ينطوي في ذاته على تناقض داخلي يؤسسه". الأنا ليست "أنا" واحدة، والآخر ليس "آخر" واحداً. كلاهما كيان مركب، متعدد، وممزق داخلياً بتناقضاته. الجدلية الحقيقية ليست فقط خارجية بين الأنا والآخر، بل هي أيضاً وبالأساس جدلية داخلية في كل منهما. "ففي كل أنا آخر، وفي كل آخر أنا أو صدى للأنا". فهم الجدلية

الخارجية لا يستقيم إلا بفهم هذه الجدليات الداخلية التأسيسية.

لم يدرك الوعي العربي الآخر (الغرب) في تعدده وتناقضه الداخلي. فالأصاليون اختزلوه في صورة العدو (استعمار، صليبية، كفر...). والحداثيون اختزلوه في صورة النموذج المثالي (مدنية، أنوار، عقل...). والحقيقة أن الغرب، كما يقول بلقزيز، "هو هذا وذاك في الآن نفسه، ولا يقبل التجزئة على إدراكين أحاديين". فهو "العلم، والعقل، والحرية، والمدنية، والتنظيم، والإنتاج" في الداخل، ولكنه أيضاً "تلك الرأسمالية المتوحشة الزاحفة بجيوشها... وتلك الفكرة العنصرية... وذلك المخيال الجمعي الذي جَهَزَتْهُ روايات الحروب الصليبية... وذلك القمع البربري لشعوب المستعمرات" في الخارج. إن الذين أغلظوا في وصفه بالسوء لم يقولوا إلا نصف الحقيقة، وكذلك الذين أغدقوا عليه المديح.

وبالمثل، أنتج الفكر العربي أيضاً صورتين متناقضتين وأحاديتين للأنا. فالأصاليون يقدمون صورة نرجسية تمجد الماضي الذهبي وتتجاهل جوانبه المظلمة وحاضره المتأخر. وبعض الحداثيين يختزلون الأنا في صورة التأخر والانحطاط الحاضر. والحقيقة أن الأنا العربية الإسلامية، كما يؤكد بلقزيز، "تنطوي الأنا على ذينك البعدين الموصوفين فيها في الآن نفسه". فلم تكن فقط "الحضارة، والنهضة، والعلم، والفلسفة... وإشعاع بغداد والأندلس"، بل كانت أيضاً "بطش الخلفاء... وسبي النساء... ووأد العقل وملاحقة المتصوفة". وفي حاضرها، هي ذات مهزومة ومتأخرة، لكنها أيضاً تحمل إرثاً حضارياً رائداً تتلمذ عليه آخرون. إن "الوعي الصحيح" يجب أن يدرك هذا التناقض الداخلي، وهو ما "ذهل عنه خطاب الأصالة وخطاب الحداثة في الفكر العربي".

نحو وعي نقدي مركب يتجاوز صدمة "الآخر" ويصالح "الأنا" مع تناقضاتها

يخلص بلقزيز إلى أن العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر العربي هي علاقة مركبة تقوم على جدليات داخلية، وقد تم تناولها بشكل أيديولوجي من كلا الخطابين. وهذا التوتر الحاد والانقسام في الوعي العربي يعود بجذوره إلى الصدمة التاريخية لاكتشاف الغرب والفجوة الحضارية معه.

إن هذا الفصل دعوةٌ لتجاوز الرؤى الأحادية، وتأسيس وعي نقدي مركب، تاريخي، وجدلي، قادر على إدراك التعدد والتناقض داخل الذات وداخل الآخر، كشرط ضروري لاستئناف مشروع النهضة على أسس معرفية صلبة.

***

مرتضى السلامي

...........................

ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (4)

مقدمة: الحداثة كمسار تاريخي في الوعي العربي

بعد أن تأملنا في مقالنا السابق كيف تناول الدكتور عبد الإله بلقزيز "خطاب الأصالة" بالنقد والتفكيك، نواصل اليوم رحلتنا في الفصل الثاني من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، لنتتبع قصة "الحداثة" ذاتها في فكرنا. إن هذا الفصل، الذي يحمل عنواناً دالاً "الحداثة: من النهضة إلى النكسة"، يرسم بحد ذاته مساراً درامياً حافلاً بالأمل والانكسار.

يستهل المؤلف حديثه بالتأكيد على أن الحداثة، سواء في ديارنا أم في موطن نشأتها الغربي، ليست بناءً فكرياً مكتملاً ولد دفعة واحدة، بل هي صيرورة تاريخية تشكلت عبر الزمن. فالمفكرون العرب الذين حملوا لواء هذا التيار، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ربما لم يمتلكوا المعنى الفلسفي العميق للحداثة كما امتلكه مثقفو الغرب. بل كانت الحداثة عندهم، كما يقول بلقزيز، "ترادف الانتصار للفكر الحديث وللأدب الحديث على حساب القديم". وهذا ليس غريباً، فـ"الوعي بالحداثة وعي تاريخي، أو قل له تاريخه الذي تطور فيه قبل أن يصبح وعياً حداثياً في النصف الثاني من القرن العشرين". إنها لم تكن وحياً مفاجئاً، فالحداثة، كما يوضح، "تراكم تاريخي طويل الأمد وليست وحياً نورانياً يقذف فجأة في روع ثقافة ما"، وتحول أفكارها إلى منظومة متكاملة هو أيضاً "حصيلة تراكم ثقافي طويل".

خصوصية الحداثة العربية وجدلية "الاستيراد"

يشدد المؤلف على ضرورة فهم هذه التجربة العربية في سياقها الخاص، بعيداً عن المقارنات التي تتخذ من النموذج الغربي معياراً مطلقاً. فالحداثة العربية، وإن تأثرت بالخارج، لها نسبيتها وتاريخيتها التي لا يجوز تجاهلها. وهنا، يتصدى بلقزيز بحججٍ قويةٍ لمن يرون في نشأة الحداثة العربية المتأثرة بالغرب دليلاً على عدم أصالتها أو شرعيتها، فيقول إن من يرى الحداثة مستوردة في مجتمعاتنا لأنها لم تنبع منها، "كمن يقول إن المسيحية مستوردة في أوروبا وأمريكا لأن منبعها شرق المتوسط أو كمن يقول إن الإسلام في إندونيسيا وماليزيا والصين والهند وباكستان ومالي والسينغال مستورد لأن مصدره شبه الجزيرة العربية!". ويمضي متسائلاً: "هل تسقط من تراثنا الثقافي الوسيط علوم اللغة والنحو والمنطق والرياضة والكيمياء والفلسفة والتصوف وأصول الفقه وعلم الكلام بدعوى أنها لم تنبع من مواريث الإسلام ومن منابعه الصافية وإنما من تأثيرات خارجية دخيلة عليه ؟!". إن الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها لم تتردد في الانفتاح على ثقافات أخرى كالفارسية واليونانية. وحتى الدول التي نعتبرها اليوم منارات للحداثة كألمانيا واليابان وروسيا، لم تجد غضاضة في الانفتاح والمثاقفة. المشكلة، كما يرى المؤلف، ليست في التأثر بالخارج، بل في قدرتنا المتدنية على "التخفف من أعباء" التاريخ والتراث التي تعيق إرادة التقدم والانفتاح.

الحداثة الحقة في مواجهة "التغربن" والتقليد

ومع اعترافه بأن ظروف النشأة هذه، المرتبطة بالصدمة الاستعمارية، قد أنتجت حداثةً عربيةً "هشة" و"نخبوية"، يؤكد بلقزيز أن هذا لا يبرر رفضها، فالأفكار الكبرى غالباً ما تبدأ صعبة وهامشية. الأهم، في نظره، هو التمييز الدقيق والحاسم بين "الحداثة" كفعل إبداعٍ ومغامرةٍ فكرية، وبين ما يسميه "التغربن"، أي التبعية الفكرية والتقليد الأعمى للغرب. يقول بلقزيز: "الفارق عظيم بين الحداثة وبين التقليد الرث للغرب (التغربن). الحداثة إبداع واقتحام يجدف ببطولة ضد التيار كي يؤسس للنفس مكاناً. أما التغربن، فيرادف التبعية الفكرية والكسل المعرفي والتسول الثقافي... إنه القفى الموضوعي للسلفية، كلاهما يُؤْمِنُ بِسَلَفِهِ الصالح ويأخذ عنه بإفراط... ما أكثر الحداثيين العرب الذين لا دور لهم سوى إتيان فِعْلِ العَنْعَنَةِ... بئس تلك الحداثة حداثتهم". إن الحداثة الحقيقية، كما يراها، تجد نفسها في معركة مزدوجة: ضد خطاب "جالية ثقافية ماضوية من خارج الزمان"، وضد خطاب "جالية ثقافية حداثوية من خارج المكان"، و"من جوف هذا النقد الثقافي المزدوج سيبدأ ـ حينها - تاريخ الحداثة".

فكرة "التقدم" وتجلياتها في الخطاب الحداثي

لقد كانت فكرة "التقدم" هي المحور الذي دار حوله خطاب الحداثيين العرب في مواجهة واقع التأخر. وقد تجلت هذه الدعوة إلى الحداثة في اتجاهين رئيسيين: اتجاه ركز على "نقد القديم وإبداء الشدة في بيان علله في إنتاج حال التأخر"، كما فعل أحمد فارس الشدياق وطه حسين. واتجاه آخر ركز على "استلهام النموذج الأوروبي والتبشير والتعريف به"، ومن أبرز ممثليه شبلي الشميل وفرح أنطون وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وعباس محمود العقاد. ومن المفارقات اللافتة أن أولئك الذين انشغلوا بنقد القديم، كفرح أنطون وطه حسين والشدياق، لم يكونوا عدميين تجاهه بالضرورة، بل استطاعوا أحياناً أن يستخرجوا منه لحظاتٍ حداثيةً مضيئة. بينما أولئك الذين بهرهم المثال الأوروبي واعتبروه النموذج الأوحد، وقعوا أحياناً في فخ التقليد غير النقدي. والمفارقة الأكبر أن نقاد القديم، رغم كونهم الأكثر صلةً به ومعرفةً بشعابه، كانوا "عرضة للتشهير والمعاناة أكثر من الأولين"، فلم يتعرض شبلي الشميل أو سلامة موسى مثلاً لمحاكم التفتيش الثقافية، بينما تعرض لها طه حسين وعلي عبد الرازق!

ليل النكستين: عندما تخبو مشاعل الحداثة العربية

غير أن شمس الحداثة العربية، التي أشرقت بآمالٍ عريضةٍ في سماء الفكر العربي، لم تلبث أن واجهت غيوماً كثيفة وسحباً داكنة، كادت أن تحجب نورها تماماً. لقد "شهد خطاب الحداثة نكستين ثقافيتين في القرن العشرين وَضَعَتَاهُ في حال من التراجع والضمور والدفاع السلبي"، كما يوضح الدكتور بلقزيز. هاتان النكستان لم تكونا مجرد عثراتٍ عابرة، بل كانتا بمثابة زلزالين عنيفين هزا أركان المشروع الحداثي الوليد.

النكسة الأولى: عواصف مطلع القرن وانحسار الموجة النهضوية

تعود بنا الذاكرة إلى عشرينيات القرن العشرين، وهي حقبةٌ مفصليةٌ في تاريخ المنطقة. ففي تلك الفترة، تضافرت عوامل عدة لتشكل ما يمكن اعتباره النكسة الأولى لخطاب الحداثة. لقد

"ارتبطت النكسة الأولى بانهيار الإمبراطورية العثمانية وسقوط الخلافة". هذا الانهيار لم يكن مجرد حدثٍ سياسي، بل كان له وقعه العميق على الوعي الجمعي. فإجهاض حلم الاستقلال العربي بدولة قومية حديثة بعد وعود الثورة العربية الكبرى، وسقوط الولايات العربية تحت سنابك الاستعمار الغربي بموجب اتفاقيات سايكس-بيكو، كل ذلك جعل أوروبا الغازية تبدو في عيون قسم من النخب العربية كأنها تخون رسالتها الحضارية التنويرية. وفي الوقت نفسه، بدا ميلاد تركيا الحديثة على أنقاض الخلافة، لدى قسم آخر، وكأنه يهدد بنقل "جرثومة العلمانية" إلى سائر بلاد العرب والمسلمين.

في هذا المناخ المشحون بخيبة الأمل، وفي مواجهة هذا "الإجهاض لفكرة الحداثة"، وجد خطاب الحداثة العربي نفسه في موقفٍ حرج. لقد أطلقت هذه التحولات أربع ظواهر ثقافية رئيسية لجمت اندفاعة خطاب المعاصرة والتقدم، ومكنت لخطاب الأصالة والهوية: تراجع رموز نهضوية كالسيد محمد رشيد رضا نحو فكرة الأصالة؛ حملات قمع فكري طالت طه حسين وعلي عبد الرازق؛ عودة كثيفة إلى الماضي وميلاد فكرة الهوية الإسلامية في نصوص الشيخ حسن البنا وصعود فكر جماعة الإخوان المسلمين؛ و"توبة" ثقافية لبعض الحداثيين كطه حسين والعقاد. ومن المفارقات أن هذه النكسة الثقافية للحداثة ولدت من رحم حقبة الحداثة السياسية في مصر وسوريا، ولم تستعد الفكرة الحداثية عافيتها إلا في سنوات الخمسينيات والستينيات.

النكسة الثانية: انكسار الأحلام الكبرى وصعود خطاب الهوية

أما النكسة الثانية، فجاءت لتعمق الجراح، بعد فترة ازدهارٍ وعنفوانٍ للحداثة في الخمسينيات والستينيات، عصر الثورة والتحرر الوطني الذي شهد ثورة في السياسة والاقتصاد والفكر والأدب والفنون. هذا الصعود ترافق مع صعود المشروع الوطني والقومي التحرري وسياق دولي حافل بحركات التحرر والثورات الثقافية.

لكن هذه الصلة بين المشروع الثقافي والسياسي التقدمي سرعان ما تحولت إلى نقيضها منذ مطالع السبعينيات. هيأت محطات سياسية مفصلية لتراجع المشروع الثقافي الحديث: "هزيمة حرب العام ١٩٦٧ وانكسار المشروع القومي التحرري" كانت الشرارة الكبرى. ترافق ذلك مع هزيمة الثورة الفلسطينية في الأردن، ونجاح الثورة المضادة في مصر، وهزيمة المشروع الديمقراطي في لبنان، وترسيخ النظم التسلطية، وسقوط فكرة الثورة في الغرب.

وعلى الصعيد الفكري العالمي، تساوق هذا الجزر السياسي مع جزر ثقافي عالمي منذ مطلع السبعينيات، حيث شهدنا انحطاط الماركسية، وتصالحها مع الليبرالية، وانتهاء البنيوية كنظومة كبرى لتحل محلها حقبة المعرفة الإمبيريقية الجديدة، والانتقال من عصر المثقف الملتزم إلى عصر "المثقف الخبير".

ولأن الثقافة العربية كانت شديدة التفاعل مع الحركة الثقافية العالمية، فقد كان عليها أن تعيش نكسة تلك الثقافة العالمية كنكسة ذاتية لها أيضاً. "ثم لم تلبث ثورة إيران الإسلامية أن نجحت في إطاحة نظام الشاه والوصول إلى السلطة في العام ١٩٧٩، فانفتح أوسع مجال أمام عودة خطاب الهوية والأصالة كي يحتل موقع السيادة والسلطان في الثقافة العربية، وكي ينسحب خطاب الحداثة والتقدم إلى الخلف.. في مواقع دفاعية غير حصينة زادتْ فُرَصُ استباحتها مع الأيام فأخذت تعظم أكثر فأكثر، وخاصة منذ نهاية العقد الثمانيني الماضي".

هكذا، يرسم لنا هذا الفصل صورةً بانورامية لتاريخ الحداثة العربية، بتاريخيتها ونسبيتها، وبأصولها التي لا ينبغي أن تكون مدعاةً للشك في شرعيتها، وبتمييزها الضروري عن "التغربن" السطحي. إنه فصلٌ يضعنا أمام تجربةٍ فكريةٍ غنيةٍ بالإمكانيات، ولكنها أيضاً محفوفةٌ بالتحديات، ومثقلةٌ بالهزائم والانتكاسات.

***

مرتضى السلامي

...........................

* ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (3)

يحتوي كتاب الصديق العزيز رياض عبد الكريم أبو طيبة - الدولة الغريقة على 36 مقالة نشرها في الصحافة العراقية وفي مختلف المواقع الإعلامية، عكس فيها رأيه في كل ما حدث وجرى في العراق منذ خريف (22 تشرين الثاني) العام 2008 والى تولي محمد شياع السوداني رئاسة مجلس الوزراء في العام 2023، عارضا وملخصا المشاكل المهمة التي يمر بها الشعب العراقي. فمن مشاكل تشكيل مجلس النواب العراقي (البرلمان) التي تسبقها عملية الترشيح الى الانتخابات وشراء أصوات الناخبين وسير عملية التصويت الى تزوير النتائج وانخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات.  ومن ثم تشكيل الحكومة ونشاط حضور أعضاء مجلس النواب الضعيف، هذا من جهة وانخفاض المستوى العلمي لأعضائه وتزوير شهاداتهم الدراسية من جهة أخرى.

تعشم السيد عبد الكريم خيرا بوزير الداخلية السابق جواد البولاني حينما دعاه للتعاون والعمل معه في تيار أئتلاف وحدة العراق ومن ثم في تيار بدأنا. كتب ونشر عدة مقالات تدعمه، ولهذا كتب رياض التالي: " كما ينبغي على تيار بدأنا ان يفكر جديا في قضيتين اساسيتين، الاولى هو ان يطرح مشروعا ناضجا للإصلاح، والثانية هي ان يفكر في آلية جديدة بطبيعة التحالفات وتشكيل تكتل وطني كبير يضم كل النسيج الاجتماعي العراقي دون اية محددات او اشتراطات، وأن يلعب دورا فعالا في تفعيل العمل السياسي بالاتجاه الوطني وتفكيك كل العقد والخلافات لأنها متجهة لا محال في حالة عدم تحقيق ذلك الى الصراعات العنيفة التي يمكن ان تؤجج الارهاب والجريمة المنظمة ". ولكن مع الأسف باءت جميع الجهود بالفشل لأن القوى السياسية الأخرى لم تساند البرنامج الانتخابي في تيار بدأنا الذي شكله جواد البولاني.  ولم يستطع البولاني من إيجاد صيغة تعاون مع عمار الحكيم على الرغم من وجود كثير من القواسم المشتركة بينهما.

كثيرا ما نردد ونسمع عبارة الشعب مصدر السلطات ولكن في العراق العكس هو الصحيح أن الحكام هم الذين يفرضون ارادتهم على الشعب بواسطة أذرعهم وأحزابهم السياسية. وحاولت بعض الشخصيات المستقلة في مجلس النواب العراقي تطبيق هذا الشعار ولكنها لم تفلح في ذلك.

ولم تنجح محاولات الدكتور اياد علاوي زعيم القائمة العراقية في مشروعه لورقة الإصلاح الوطني في شهر أيلول سنة 2012 في جمع شمل الأحزاب السياسية لإيجاد صيغة حل للخروج من الركود السياسي كما ورد في مقالة العزيز رياض عن المؤتمر الصحفي للدكتور اياد علاوي.

تناول الأخ رياض في كتابه الكثير من المواضيع التي تهم العراقيين وتشغل بالهم يوميا من

الوضع الأمني الى الفساد المستشري في معظم مفاصل الدولة الى تقييم الكادر الوظيفي وإتاحة الفرص أمام الكوادر الإدارية التي تتمتع بكفاءات جيدة وتتمكن من إدارة العراق بشكل جيد.

تطرق رياض الى المواضيع التي من شأنها أن تقدم حلولا لمشاكل يعيشها العراقيون يوميا وهي محاربة البيروقراطية والروتين الإداري، والاهتمام بالإنسان الذي هو أثمن رأسمال كما قال كارل ماركس. كما أن الإصلاح الاقتصادي من المسائل التي يجب أن تهتم بها الحكومة وتعطيها أهمية خاصة ولهذا أخذ حيزا كبيرا في الورقة البيضاء في زمن حكومة مصطفى الكاظمي. كما أولى المؤلف اهتماما خاصا لمناقشة مهام وعمل الرقابة البرلمانية في مراقبة عمل الوزارات العراقية وتنفيذ برامجها للصالح العام.

وناقش رياض العديد من الافكار التي من شأنها الحد من البطالة التي تهدد مستقبل الشباب وضرورة إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال برامج وخطط خاصة لاستيعابهم في مشاريع إنتاجية وخدمية يستفاد منها العراق. وكذلك من الضروري ارجاع العمل بمراكز الشباب بشكل جدي حتى تعطي ثمارها بما يفيد المجتمع العراقي واستثمار طاقات الشباب على الوجه الصحيح كي لا يتوجهوا الى الأعمال الرذيلة وكذلك محاربة استعمال وانتشار المخدرات بين أوساط الشباب بناة المستقبل الزاهر للعراق لأن بناء الوطن يعتمد عليهم.

وبحث رياض في كتابه ظاهرة العنف الاسري من تعنيف الزوجة والبنت والولد والبنت، كونها ظاهرة سلبية تؤدي الى دمار وانهيار المجتمع العراقي ولازالت تراوح في مساحة الجدل المتناقض كما ورد في كتابه وعلى الرغم من قيام شبكات الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة بتخصيص برامج خاصة وساعات بث كثيرة لهذا الموضوع الذي يؤرق بال المتخصصين في العلاقات الأسرية.

أما النظام السياسي والمنظومة السياسية في البلد فقد أولاها المؤلف اهتماما كبيرا بسبب تأثيرها على سير العراق في ركب الدول التي تسعى نحو الحياة الحرة الكريمة لشعبها.

ولم يفت بال العزيز رياض مناقشة موضوعة عمل دور الاعلام في المجال السياسي والذي أطلق عليه: "استراتيجيات مبعثرة في فضاء اعلامي مضطرب في مجال السياسات العامة" وهل تساهم في خدمة المصلحة الوطنية؟؟؟!!! ويمكن أن نطلق عليها اسم صناعة الاعلام والتي تقام على أسس مهمة مثل الشفافية والعفة والضمير الحي وتهدف الى خلق إيجابية للحوار الواقعي بين الأطراف التي تهمها مصلحة الوطن العراقي.

صراعات من اجل البقاء، بهذه الكلمات بدأ المؤلف احدى مقالاته المهمة:

" ان الصراعات السياسية اذا استمرت دون حلول جذرية فأنها ستكون العامل الرئيسي الذي سوف ينهي كل مصالح الشعب ويشتت آمالهم ويخلق طبقة خارج حدود التنظيم الاجتماعي المعروف تندرج تحت اسم الطبقة السياسية التي ستبقى محصورة في نطاق ضيق من مساحة المجتمع العامة، تلك المساحة التي لاتزال تحتفظ بكل قيم الآخاء والمحبة والتضحية والاجماع الوطني المطلق".

ولم تنجح القوى الجديدة المستقلة في توحيد صفوفها والوقوف بوجه القوى السياسية المسيطرة على الساحة السياسية "ضمن ائتلاف انتخابي واحد يتبنى رؤى متماسكة تمكنه من خوض الانتخابات بقوة ومنافسة القوى التقليدية المسيطرة" وإنما على العكس تم كسبها من قبل القوى التقليدية بالمال والمناصب الإدارية.

"العراق الجديد.. الوهم والخديعة.. وخيال المعتقدات الجوفاء"

انتشر مصطلح العراق الجديد في أواسط العام 2003 في الكثير من الأدبيات السياسية والاقتصادية التي صدرت في تلك الحقية من الزمن وكان المروجين لهذا المصطلح الجديد من القوى السياسية التي استولت على إدارة البلد. وبعد مرور ردح من الزمن اكتشف الناس خديعة هذا المصطلح الذي لم يطعم العراقيين خبزا ولم يوفر لهم الحياة الحرة الكريمة وإنما على العكس انتشر الإرهاب والانقسام والحرب الطائفية وخصوصا في الفترة الزمنية 2005-2008.

مشاريع متلكئة

انتشر هذا المصطلح في العراق بعد العام 2003 ما يسمى بالعراق الجديد وهي المشاريع التي لم تنجز في الوقت المحدد وتتراوح نسبة التلكؤ أو عدم الإنجاز من 50-85 %. وتنتشر هذه المشاريع في مختلف مدن العراق وقصباته من بغداد الى البصرة والموصل وإقليم كردستان العراق. وأعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء، عن نسب المشاريع المتلكئة إن "فريق متابعة المشروعات المتلكئة والمتوقفة المشكل في دائرة التنسيق الحكومي وشؤون المواطنين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، يواصل الجولات الميدانية لمتابعة مراحل العمل ونسب الإنجاز المتحققة في المشروعات المدرجة ضمن الخطة، والتي تشمل القطاعات الحيوية والخدمية المهمة في جميع المحافظات". حيث أجرت الفرق الهندسية والفنية خلال الشهر الماضي، "زيارات ميدانية إلى عدد من المشروعات في محافظات (بغداد، وواسط، والبصرة) حيث اطلعت على نسب الإنجاز المتحققة ضمن مشروعات (ماء الزهور المركزي، ومشروعي العزيزية وزرباطية السكنيين، والممر الثاني لطريق الكوت – بدرة – جصّان، وماء الكوت الكبير، ومحطة حمدان للصرف الصحي، ومجمع شط العرب السكني)". كما أكد الفريق، على "ضرورة بذل الجهد ومضاعفته خلال المرحلة المقبلة، والالتزام بالتوقيتات الزمنية المعدة، ومطابقة جداول تقدم العمل المقدمة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، على أرض الواقع، مضيفاً، أن نسب الإنجاز للمشروعات المذكورة تتراوح بين 50-85 % ".   (المصدر الفرات نيوز 24/10/2023)

وهناك الكثير من المسائل المهمة التي تهم مستقبل العراق تطرق لها أبو طيبة في مقالاته الخمس والثلاثين وبالدرجة الأولى تطور قطاعات الاقتصاد الوطني العراقي من حيث استثمارات الدولة فيها وتوفير فرص عمل للشباب والمساهمة في حل مشكلة البطالة المنتشرة بينهم بنسبة تقدر بحوالي 24%.

أما من حيث الفساد وشراء المناصب الإدارية في الحكومة وإعطاء الفرص لتمادي المجرمين واللصوص والتهم الكيدية وتهريب العملة الى خارج العراق لاستثمارها في البنوك والمصارف الأجنبية بدون رقابة كلها تؤدي الى عدم استفادة العراق منها وهذا يؤثر على قيمة صرف الدينار العراقي.

أشار الأخ رياض في كتابه الدولة الغريقة الى أن الاعلام في العراق يتبع التيارات السياسية في العراق وهناك الصحف والمجلات والإذاعات وقنوات التلفاز التي تملكها الأحزاب السياسية وهي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على تفكير ووعي المواطن العراقي سلبا أو إيجابا.

ومن المواضيع التي تناولها الكتاب هي الجمعيات التعاونية بين موظفي القطاع العام بالدرجة الأولى وكذلك الأسواق المركزية التابعة للدولة والتي كانت تساهم في تقليل العبء على كاهل العوائل ذات الدخل المحدود والفقيرة والتي من الضروري إعادة العمل بهما. وهناك مسألة قانون التقاعد المعدل الذي يمس ثلاثة ملايين متقاعد وكذلك تأخير دفع وصرف المعاشات التقاعدية بعد نهاية كل شهر بثلاثة او اربعة أيام وحتى في بعض الأحيان أسبوعين.

وأخيرا وليس آخرا مسألة الحوار الوطني الصادق بين كافة أطراف العملية السياسية في العراق وفي مقدمتها الأحزاب السياسية التي يهمها بصدق مستقبل العراق وتقدمه على جميع الأصعدة. أن هذا الأمر يهم كل عراقي وطني غيور ولهذا فالشعب العراقي ينتظر من قادة هذه الأحزاب الجلوس الى طاولة الحوار والخروج بنتائج إيجابية.

أن كتاب الدولة الغريقة يستحق التقدير والثناء وسوف يأخذ مكانته في المكتبة العربية نظرا لأهميته الكبيرة.

عنوان الكتاب: الدولة الغريقة والهروب الى الأمام

المؤلف: رياض عبد الكريم

2025  

مطابع الأديب /عمان

***

البروفسور سناء مصطفى

رئيس قسم الاقتصاد والادارة المالية والمصرفية - الاكاديمية العربية في الدنمارك

"ليس المهم أن نقرأ التاريخ، بل أن نعيشه كجرح نازف في حاضرنا" - هذه العبارة التي خطرت لي وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من كتاب "جدل الدين والحداثة" لصلاح سالم، عمل لا يشبه الكتب، بل يشبه المغامرة التي تقلب موازين الوعي رأساً على عقب. إنه ليس كتاباً يُقرأ، بل تجربة تعاش، ندبة في جبين الزمن، لكنها ندبة تشع نوراً يكشف تناقضاتنا المزمنة.

 الحداثة كتأويل متطرف للدين

يفجر سالم في كتابه فكرة تقلب الطاولة على السرديات التقليدية: الحداثة الغربية لم تكن قطيعة مع الدين، بل كانت "تأويلاً متطرفاً" له! إنها محاولة لاستعادة المقدس من سطوة المؤسسات الدينية التي حولته إلى سلعة سياسية. هنا يتحول نيوتن من عدو للدين إلى متصوف جديد، يبحث عن الله ليس في نصوص الكنيسة، بل في معادلات الحركة الكونية. العلم الحديث لم يلغِ الغيب، بل نقله من سماء الأساطير إلى فضاء المنطق.

المفارقة التي يكشفها الكتاب تكاد تكون مأساوية: الغرب الذي أعلن "موت الإله" كان في الحقيقة يعيد اكتشافه في قوانين الطبيعة، بينما نحن – الذين نرفع شعار "الله أكبر" – نتعامل مع الكون كساعة توقفت منذ قرون!. لقد حوّل الغرب المسيحي الإله من حارس للتقليد إلى محرك للعقل، فصار الله عند ديكارت سؤالاً فلسفياً، وعند نيوتن معادلة رياضية، وعند كانط قيمة أخلاقية. أما نحن فما زلنا نعتقد أن الإله يسكن تفاصيل ملابسنا وطعامنا، بينما غاب عنا في كوارث الفقر والجهل والاستبداد!.

العقل الإسلامي المغدور

في فصل مزلزل يعود سالم إلى لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي: عندما تحوّل الفكر المعتزلي من منهج لتحرير العقل إلى "بدعة" يحاربها الحكام. هنا تكمن الكارثة: لقد تم اختطاف التراث الإسلامي من قبل من يخافون العقل أكثر مما يخافون الكفر!.

الكتاب يسأل أسئلةً وجودية: ماذا لو انتصر ابن رشد على الغزالي؟ ماذا لو صارت "الجدلية" طريقة لقراءة النص بدلاً من "التلقين"؟ في مكتبة قرطبة القديمة، حيث كان ابن رشد يقرأ أرسطو تحت ضوء القمر، لم يكن هناك تناقض بين العقل والوحي. لقد فهم ذلك الفيلسوف أن الحكمة هي ضالة المؤمن، أينما وجدها فهي له. لكن التراث اليوم صار كالطائر المحنط.. نضعه في صالون منازلنا لنتباهى به، بينما فقد منذ زمن قدرته على التحليق!.

العلمانية كروحانية جديدة

يقلب الكتاب الطاولة على الفهم السائد للعلمانية: ليست عدواً للدين، بل هي ابنة شرعية لروحه الأعمق! حين فصل الغرب بين الدين والدولة، لم يكن يرفض الروحانية، بل كان يحميها من تدنيس السياسة. المفارقة أن العلمانية الغربية حققت ما فشل فيه المتصوفة: جعلت الإيمان علاقة شخصية بين الإنسان والكون، بعيداً عن وسطاء السلطة.

لكن سالم لا يقدم العلمانية كحل سحري، بل يحذر من تحولها إلى دين جديد. بعض النخب العربية، بعد أن حررت نفسها من تابوهات الدين، وقعت في فخ تبجيل "الحداثة" كدين جديد، حيث يرفض أي نقد لها تحت شعار "معاداة التقدم".

النفاق الحضاري العربي

في تحليل لاذع، يكشف الكتاب عن تناقضنا المميت: نحن نستهلك iPhone بجنون، لكننا نرفض العقلية التي صنعته! نعشق الطب الغربي، لكننا نحارب المنهج العلمي الذي أفرزه. المشكلة ليست في "التغريب"، بل في "النفاق الحضاري": نأخذ ثمار الحداثة ونرمي بذورها في سلة المهملات!.

الغرب الذي نرفضه اليوم هو نفسه الذي استقى من بحر علومنا حين كنا نعرف كيف نصنع الحياة من تراب التاريخ. والشرق الذي نتباكى عليه هو نفسه الذي خان روح الإسلام عندما حول الدين إلى طقوس جوفاء. في مكتبات إسطنبول ودمشق وبغداد، تقبع مخطوطات لو قرأها الغربيون اليوم لظنوها من نتاج عصر التنوير! بينما نحن نمر عليها كالعميان، نبحث عن المستقبل في كتب لم نفتحها منذ قرون.

نحو حداثة أصيلة

صلاح سالم لا يقدم وصفة جاهزة، لكنه يطرح سؤالاً وجودياً: هل نستطيع أن نبتكر "حداثة بأصالة" كما فعل اليابانيون؟ أن نصنع توليفة بين عقلانية ابن سينا وروحانية ابن عربي؟ الخطر كل الخطر أن تتحول نهضتنا إلى مجرد "فولكلور تكنولوجي" - نلبس عباءة التراث فوق جسد مستعار من الغرب!.

الحل ليس في الاختيار بين الدين والحداثة، بل في اكتشاف الحداثة في صميم ديننا، والدين في عمق حداثتنا. النهضة تبدأ عندما نتعلم من ابن خلدون كيف نقرأ التاريخ لا كحكايات للأجداد، بل كخريطة للمستقبل. عندما نستعيد روح المعتزلة في التساؤل، وقلب المتصوفة في التسامح، وعقل العلماء المسلمين في النقد.. حينها فقط سنفهم أن الحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بل هي الابن الشرعي لأعمق تقاليدنا.

التراث ليس تابوتاً

الكتاب في النهاية ليس بحثاً أكاديمياً، بل هو "ندبة في جبين الزمن". ندبة تذكرنا أن الحضارة تُبنى بالجرأة على كسر التابوهات، لا بتكرارها. الدين الذي يخاف من العقل ليس ديناً، والحداثة التي تحتقر الروح ليست حداثة. البشر يتسابقون إلى المريخ، بينما ما زلنا نجادل: هل الأرض تدور حول الشمس أم لا؟! السؤال ليس فلكياً بل وجودياً: هل نريد أن نكون في التاريخ، أم أن نكون مجرد هامش عليه؟.

التراث ليس تابوتاً يُحمل على الأكتاف، بل هو بوصلة في يد حائر يبحث عن ذاته بين النجوم. هذا ما علمنا إياه صلاح سالم في كتابه الذي يشبه الزلزال: كفى نوستالجيا! الماضي لم يكن دائماً جميلاً، والمستقبل لن ينتظر الحائرين.

***

د. عبد السلام فاروق

 

رحلة 'الأصالة' من رحابة النهضة إلى ضيق الأيديولوجيا"

مقدمة: في معنى "الأصالة" وسياقات نشأتها النفسية والاجتماعية

نواصل إبحارنا في ثنايا كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز "من الإصلاح إلى النهضة"، ونتوقف عند فصله الأول، الذي يحمل عنواناً دالاً: "في نقد خطاب الأصالة: من الفكر إلى الأيديولوجيا". هذا الفصل ليس مجرد مدخلٍ عابر، بل هو بمثابة مشرحةٍ فكريةٍ دقيقة، يقلب فيها المؤلف واحداً من أكثر المفاهيم حضوراً وإثارةً للجدل في ثقافتنا المعاصرة.

يبدأ بلقزيز رحلته النقدية ليس بتعريفٍ جامدٍ لمفهوم "الأصالة"، بل بتشخيصٍ عميقٍ للتربة التي تنبت فيها "دعوات الأصالة". يرى أن هذه الدعوات لا تظهر في أزمنة القوة والازدهار، بل هي غالباً ما تكون صدىً لـ"حالات وهن في اشتغال الديناميات الاجتماعية - الثقافية الدافعة نحو التقدم والتراكم والصيرورة". كأنما المجتمع أو الثقافة، حين يشعران بضياع البوصلة أو بوطأة "زحف التحولات المنهمرة"، يلجآن إلى الأصالة كدرعٍ واقٍ أو ملاذٍ أخير.

وهنا، يمتزج التحليل الاجتماعي بالرؤية النفسية. فـ"الدفاع عن الذات" في هذه الحالة، كما يوضح المؤلف، قد يستحيل آليةً مكرورةً لإعادة إنتاج الماضي، لا لحيويته، بل بسبب انقطاع الصلة بطاقة الخلق والتجديد الدافعة. بل إن هذا الدفاع قد يصبح "فعلاً من أفعال التعويض النفسي"، حيث يستبدل المجتمع الإبداع الحي بالممانعة السلبية، في محاولةٍ يائسةٍ لتمديد كينونته في عالمٍ يشعر تجاهه بالغربة والنفور. ومن اللافت أن هذا الهوس بالأصالة لا يصيب إلا الثقافات "المكتنزة بالخبرة الحضارية" والتي تحمل في طياتها ميلاً "نرجسياً" نحو تراثها، أما تلك التي تفتقر إلى هذا العمق التاريخي، فتميل إلى النسيان الدفاعي لا إلى هذا التشبث المحموم بالماضي. وهكذا، تصبح الثقافة العربية المعاصرة، في نظر بلقزيز، مثقلةً بحضور التاريخ في تفاصيل يومها، إلى درجةٍ تكاد تكون مرضية.

الأصالة في مواجهة الحداثة: جدلية الثبات والتغيير

ثم ينتقل المؤلف ليحدد طبيعة "الأصالة" كمفهومٍ لا يكتسب معناه إلا في علاقته بنقيضه: "الحداثة" والتغيير والصيرورة. فالأصالة، كما يتصورها أنصارها، هي استدعاءٌ لموروثٍ يُرفع فوق مجرى الزمن، ويُعتبر "مطلقاً متعالياً" لا يأتيه الباطل. وأي محاولةٍ للانفتاح على "الحادث والطارئ"، أي على رياح الحداثة، تُعد في هذا المنظور خيانةً للجوهر، أو "بدعة" تهدد نقاء الكيان. ولكي تحافظ الأصالة على أصالتها المزعومة، يجب أن تمتنع عن التغيير، فالتغيير في عرفها "فساد"، وهي وحدها "صلاح مطلق".

ولكن، متى تزدهر هذه الدعوات إلى الأصالة بهذا المعنى المنغلق؟ ليس في أزمنة التطور الهادئ، بل "حيث تضطرب الأحوال وتنقلب الموازين"، وتهتز الثوابت بفعل هزاتٍ داخليةٍ أو خارجية.

ويستشهد بلقزيز بأمثلةٍ من تاريخنا الإسلامي الوسيط، كبعض مواقف الغزالي وابن تيمية التي دعت إلى الاعتصام بمنهج السلف، في سياقاتٍ تاريخيةٍ صعبةٍ قد تفسر، دون أن تبرر بالضرورة، هذا الميل نحو الانكفاء و"فرملة إيقاع التجديد والاجتهاد". وهنا، يؤكد المؤلف على نقطةٍ منهجيةٍ بالغة الأهمية: فهم السياق التاريخي لا يعفينا من واجب النقد، ولا يبرر "التمذهب" بتلك المواقف، بل يجب أن يدفعنا للبحث عن "الممكنات الأخرى" التي كان يمكن أن تحقق "الممانعة الإيجابية" دون أن تقودنا إلى "الانكماش والانكفاء والتشرنق على الذات".

"أصالة النهضويين" المنفتحة ونكسة التحول إلى "أيديولوجيا"

وهنا نصل إلى محطةٍ فارقةٍ في تحليل بلقزيز، وهي تمييزه لـ"أصالة النهضويين" في القرن التاسع عشر كنموذجٍ إيجابيٍّ ومغاير. فهؤلاء الرواد، وخاصة الإصلاحيين الإسلاميين منهم، حين واجهوا صدمة الحداثة الأوروبية، لم يتقهقروا إلى متاريس التراث بشكلٍ دفاعيٍّ سلبي. بل "قبلوا التحدي وطفقوا يبحثون في حداثة أوروبا عما أسس لها". لم ينكروا موروثهم، ولكنهم في الوقت ذاته لم يجعلوه حجةً لرفض الأفكار الجديدة أو قطع الصلة بها. لقد وجدوا في ثقافة أوروبا ما يمكن أن يسعفهم في الإجابة عن أسئلة التخلف والانحطاط التي كانت تؤرقهم. وكان جهازهم المفاهيمي، بمفرداته التي تدور حول العقل والاجتهاد والإصلاح والتقدم والتمدن، شاهداً على انخراطهم في معركة التغيير، وانفتاحهم على فكر الغرب ونموذجه الحضاري، دون أن يروا في ذلك بالضرورة إنكاراً للذات. لقد أعادوا بناء مفهوم الأصالة، ليس ككيانٍ جامدٍ مغلق، بل ككينونةٍ حيةٍّ تغتني بالجديد وتعيد إنتاج نفسها، فلا تكون رديفاً للماضي فحسب، بل قرينةً على الحاضر والمستقبل أيضاً.

لكن هذه اللحظة النهضوية المشرقة، كما يوضح المؤلف، لم تدم طويلاً. فالظروف السياسية القاسية، من احتلالٍ أجنبي وتجزئةٍ للمنطقة وسقوطٍ للخلافة، أدت إلى "نكسة كبرى لفكرة التغيير". وحين أصبح التغيير يُفرض من الخارج بدلاً من أن ينبع من الداخل، تصاعدت النزعة الدفاعية من جديد، ولكن هذه المرة، كما يؤكد بلقزيز، تجسدت "الأصالة" في صورة "أيديولوجيا".

تشريح "أيديولوجيا الأصالة" الإحيائية ومفارقاتها

ومع صعود التيارات "الإحيائية الإسلامية" منذ ثلاثينيات القرن العشرين، تبلورت هذه الأيديولوجيا بشكلٍ كامل. انتقل الوعي من "يقظة" النهضويين (التي كانت اكتشافاً للتخلف وسعياً نحو التقدم) إلى "صحوة" الإحيائيين (التي كانت خروجاً من "غفلة" عن الدين والتراث وعودةً إليهما كمرجعٍ مطلق وملجأ أخير). وقد صاغ رموز هذا التيار منظومةً أيديولوجيةً متكاملة، قامت على ثلاث دعائم رئيسية: الادعاء بالتفوق المطلق للإسلام كنظامٍ شامل، والتأكيد على انحطاط الغرب المادي واللاديني، والقول بعدم حاجة المسلمين للآخر بسبب الاكتفاء الذاتي المزعوم في موروثهم. هذه الأطروحات، كما يرى المؤلف، أفضت إلى رؤيةٍ نرجسيةٍ معاديةٍ للآخر، ولم تلبث أن تحولت من موقفٍ دفاعيٍّ إلى موقفٍ هجوميٍّ عدائي، يحمل في طياته بذور التكفير والعنف، ويجد بلقزيز "جراثيم" هذا التحول في نصوص الإحيائية الأولى نفسها.

ويصف المؤلف هذا الخطاب بـ"الأيديولوجيا" وليس "الفكر" لأنه، في تحليله، يفتقر إلى النسقية المعرفية، وغالباً ما يكون رد فعلٍ دفاعياً أو هجومياً، ويهدف إلى التحزب الذهني والوجداني أكثر من إنتاج المعرفة النظرية، مما سهل تسييسه وتوظيفه في مشاريع سياسية.

ثم يختم بلقزيز هذا الفصل بتفكيكٍ بارعٍ لأربع "مفارقات" رئيسية تسكن بنية هذا الخطاب الأيديولوجي للأصالة: مفارقة "اللاتاريخية" التي تجمد الماضي وتجعله مطلقاً خارج سياقه؛ ومفارقة "اختراع معنى أصولي" ينتزع "الأصيل" من حيويته التاريخية ويحنطه؛ ومفارقة "المذهبية" التي تقدم رؤية فئوية منغلقة للتراث تتجاهل تعدديته الداخلية؛ وأخيراً، مفارقة "معاداة التقدم" التي تؤدي إلى التقوقع والانسحاب من التاريخ الإنساني، وقد تتحول إلى برنامجٍ للانحطاط والتصحر العقلي.

خاتمة الفصل: نحو حداثة فكرية حقيقية

إن خلاصة هذا الفصل، كما يصرح بها المؤلف، قويةٌ وحاسمة: "لا يبدأ تاريخ التقدم والحداثة، إلا من نقد الأصالة وبيان لا أصالتها". فالنقد المعرفي الرصين لهذه "المقالة الأيديولوجية الضحلة" هو، في نظره، الشرط الضروري لولادة حداثةٍ فكريةٍ عربيةٍ حقيقية. وبهذا التشريح النقدي، يمهد بلقزيز الطريق لمناقشة أهمية وضرورة خطاب الحداثة العربي، وهو ما ستتناوله فصول الكتاب اللاحقة، في رحلةٍ فكريةٍ لا تسعى للقبول الأعمى، بل للفهم النقدي العميق.

***

مرتضى السلامي

.....................

ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (2)

حين يستهل مفكرٌ مرموقٌ كالدكتور عبد الإله بلقزيز مشروعاً فكرياً ضخماً يتناول مسيرة "العرب والحداثة"، فإن عتبات هذا المشروع، ممثلةً في مقدمات كتابه الأول "من الإصلاح إلى النهضة"، تكتسب أهميةً استثنائية. فهي لا ترسم خريطة الكتاب فحسب، بل تكشف عن رؤيةٍ عميقةٍ وموقفٍ نقديٍّ من واقع الفكر العربي وتاريخه، وتقدم مبرراتٍ قويةً لضرورة العودة إلى ينابيع الحداثة الأولى.

يستهل بلقزيز مقدمتيه، اللتين تفصل بينهما سنواتٌ سبع (2006 و2013)، بتشخيصٍ واضحٍ لمشهدٍ ثقافيٍّ عربيٍّ شهد، في العقود الأخيرة، "انحسار نفوذ أفكار الحداثة" وصعوداً موازياً لـ"دعوات الأصالة". هذا التحول، في نظره، لم يكن مجرد تبدلٍ طبيعيٍّ في التيارات الفكرية، بل صاحبه "حيف شديد وتهميش كبير" لخطاب الحداثة ورواده، غالباً من قبل مؤرخين انطلقوا من "مقدمات أيديولوجية" معادية للحداثة. من هنا، ينبع الهدف الأساسي للكتاب: "إعادة الاعتبار" لهذه المساهمة الفكرية والثقافية الجليلة، ليس كنوعٍ من الحنين إلى الماضي، بل كضرورةٍ لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.

فخطاب "الأصالة"، على ما امتلكه من "طاقة حركية هائلة" وقدرة على التعبئة والحشد، أثبت، في رأي بلقزيز، "قصوراً فكرياً" وعجزاً عن تقديم إجاباتٍ شافيةٍ لأسئلة التقدم والمستقبل. بل إنه أمعن، في بعض تجلياته، في "الانكفاء على الذات والانسحاب من العصر ومخاصمته"، ولم يرقَ حتى إلى مستوى الطموح الذي ميز الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر. في مقابل ذلك، يؤكد المؤلف أن الحداثة ليست شيئاً وراءنا، بل هي "أمامنا"، تمثل المستقبل الذي لا ينبغي أن نتردد في اقتحامه خشيةً زائفةً على الهوية.

وهنا، يفصح لنا بلقزيز عن قناعته العميقة التي تشكل قلب رؤيته ودافع مشروعه، فيقول بكلماتٍ تستحق أن تُنقش في ذاكرة كل باحثٍ عن النور: "وفي وسعي الآن أن أفصح عن سبب ثالث هو اقتناعي بأن خطاب الحداثة في الفكر العربي - وكائنةً ما كانت درجة نقدي له في الكتاب - أعمق وأرصنُ من غيره فكرياً ومنهجياً وإشكالياً، وأغنى معرفياً، و - قطعاً ـ أقل أيديولوجية وشعبية، إلى كونه أكثر اتصالاً بالمعارف الإنسانية الحديثة والمعاصرة، وأشدَّ ارتباطاً بأسئلة العالم وقضاياه، وأكثر قابلية للإصغاء إلى معطيات الفكر الإنساني، وأقل إصابة بمرض المركزية الذاتية والاعتداد النرجسي بالنفس، أي أقل إصابة بالأمراض التي تمنع الفكر من التطور. وهذه - في ما أزعم - أسباب كافية للاعتناء به، وإعادة الاعتبار إلى مساهمته الفكرية في الثقافة العربية".

إن هذا الكلام هو بمثابة شهادةٍ فكريةٍ بليغة. فالمؤلف، وهو الذي لا يتوانى عن ممارسة "النقد الحاد" لخطاب الحداثة نفسه وتناقضاته، يرى فيه مع ذلك قيمةً جوهريةً لا يمكن إنكارها. إنه "أعمق وأرصن" على الصعيد الفكري والمنهجي وقدرته على صياغة الإشكاليات، و"أغنى معرفياً" بانفتاحه على منابع المعرفة المتنوعة. كما أنه، في نظر بلقزيز، "أقل أيديولوجية وشعبوية"، مما قد يعني نقاءً فكرياً أكبر وابتعاداً عن التبسيط المخل الذي قد تتسم به الخطابات التعبوية.

وتتجلى قوة هذا الخطاب الحداثي في كونه "أكثر اتصالاً بالمعارف الإنسانية الحديثة والمعاصرة، وأشدَّ ارتباطاً بأسئلة العالم وقضاياه". هذا الانفتاح على الفكر الكوني، وهذا الاستعداد "للإصغاء إلى معطيات الفكر الإنساني"، هو ما يمنحه القدرة على التطور ويحميه من "مرض المركزية الذاتية والاعتداد النرجسي بالنفس"، تلك الأدواء التي، كما يصفها المؤلف، "تمنع الفكر من التطور".

لهذه الأسباب مجتمعة، يرى بلقزيز أن الاعتناء بهذا الإرث الحداثي ليس ترفاً، بل هو واجبٌ فكريٌّ. فالكتاب يهدف إلى تصحيح التهميش التاريخي لهذا الخطاب، ويؤكد على ضرورة أن يشمل تأريخ الفكر كل التيارات دون انتقائية، وينطلق من إيمانٍ بالعمق الفكري والمعرفي والمنهجي للحداثيين وقدرتهم على التجدد. كما يشيد المؤلف بتلك الروح النهضوية التي تحلى بها الرواد الأوائل، وغيرتهم الصادقة على تقدم أمتهم.

ولكي يقدم دراسةً منهجية، يوضح بلقزيز أن كتابه سيركز بشكلٍ أساسي على الطور "الابتدائي" لخطاب الحداثة، أي منذ نشأته وحتى منتصف القرن العشرين، وهي مرحلةٌ لم يكن فيها مفهوم "الحداثة" قد اتخذ شكله المكتمل بعد، بل كان يتجلى في مفاهيم كـ"المعاصرة" و"التقدم" و"التنوير". وينقسم الكتاب إلى أقسامٍ ثلاثة: الأول يتناول مقدماتٍ عامة حول جدل الأصالة والحداثة وإشكالية الأنا والآخر؛ والثاني يدرس تكوين فكرة الحداثة وتطورها ونقدها؛ أما الثالث فيحلل مفاهيم رئيسية (كالحرية والدستور والعقل) لدى ثلاثة مفكرين بارزين (يتبين أنهم مصريون) كدراساتٍ تطبيقيةٍ. وقد أضاف المؤلف في الطبعة الثانية فصلاً جديداً عن أحمد فارس الشدياق، ليكون نموذجاً تطبيقياً لإشكالية "الآخر" في الوعي العربي.

إن مقدمتي كتاب "من الإصلاح إلى النهضة" ليستا مجرد مدخلٍ إجرائي، بل هما بيانٌ فكريٌّ عميقٌ يضع القارئ في قلب السجال الثقافي العربي، ويكشف عن مشروعٍ يهدف إلى إنصاف الحداثة ونقدها في آنٍ واحد، مؤكداً على ضرورتها الفكرية لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، واستعادة تلك "اللحظة الفكرية النهضوية" التي يمكن أن تسهم في "تهوية" المجال الفكري العربي المعاصر الذي قد يعاني أحياناً من الاختناق.

***

مرتضى السلامي

 

جذور الانهيار الاقتصادي في لبنان

في مجموعة من المقالات التي كتبها بين العامين 2008 و2024، والتي جمعها ونشرها في كتاب "ما لم تر عين" جذور الانهيار الاقتصادي في لبنان، الصادر في طبعته الاولى في مايو/ أيار عام 2024 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، والذي يقع في 351 صفحة من الحجم الوسط، الاخراج الفني د. لينا مرهج والذي يهديه الى المناضلات والمناضلين اللبنانيين الذين يقاومون نظام التسلط والفساد ويتشبثون براية الإصلاح بوجه التحالف المالي- الميليشيوي- المصرفي المستمر في غيّه وطغيانه.

يتعمق الكاتب بشارة مرهج النائب والوزير السابق في تشخيص الازمة البنوية التي ضربت لبنان، ويحمل الهم الوطني، ويسلط الضوء على من تسبب بتلك الازمات، خصوصاً التواطؤ بين السلطة والمصرف المركزي واصحاب المصارف، بعدما أصبح القرار المالي والنقدي يتحرك ضمن دائرة شبه مغلقة، وتديره جهة واحدة، بعد ان تسلم الرئيس رفيق الحريري وزارة المالية عام 1992، وعين مساعده فؤاد السنيورة وزيردولة للشؤون المالية، وعين صديقه رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان (ص30).

يتحدث عن دمج المصارف وكلفتها، وما رافقها من فساد وتعويضات مالية دفعها المصرف المركزي لصالح قلة، وفي الصفحة 35 وتحت عنوان فرعي " الوثيقة الدامغة" ينشر معلومات مفصلة عن تلك العمليات، واسماء البنوك التي حصلت على المال العام لتامين عملية دمجها وسيمي بنك (بيروت- الرياض). وفي الصفحة 61 يلقي الضوء على عمليات دمج 23 مصرفاً وبكلفة 1200 مليون دولار تحملتها الخزينة، والتي ذهب القسم الكبير منها الى جيوب المدراء واصحاب البنوك الذين تسببوا بالأزمة، بخروجهم عن اصول العمل المصرفي، واستهتارهم بقانون النقد والتسليف، واستخدام ودائع المواطنين للمضاربة وشراء القصور واليخوت والسيارات الفارهة.

يواصل الكاتب نشر المعلومات الكثيرة وعن دور لجنة الرقابة، ويتساءل في الصفحة 70" لجنة الرقابة على المصارف من يراقب من ؟ وفي الصفحة 73 يتحدث عن حصرية الأرباح واشتراكية الخسائر، وبخصوص استقلالية البنك المركزي التي كان يتلطى وراءها رياض سلامة حاكم البنك المركزي، وبعد عرض العديد من المواد القانونية حول أستقلالية "البنك المركزي" التي تجعل تلك الاستقلالية نسبية وليست مطلقة، كم تحاول بعض الاقلام والجهات التأكيد تلميحاً او تصريحاً (ص 76-78).

وفي الصفحة 84 ينقل كيف قدمت هدايا وعطاءات عبر ما سماه الحاكم الهندسة المالية والتي كانت كلفته 10 مليارات دولار وجرت دون علم الحكومة!

في مواقع اخرى من الكتاب يتوسع في الحديث عن سعدنات رياض سلامة (ص116) وتعويضه لخسارة البنوك المستثمِرة في تركيا، السعودية، فرنسا، جنوب أفريقيا وغيرها.. وإدارته الإعلامية للأزمة وتعميق الأزمة ومفاقمتها، لانه يعتبر نفسه حاكم يسأل (بفتح الياء) ولا يسأل (بضم الياء) (ص140) وتضليله الناس بدل إطلاعهم على الحقيقة (ص248)، والتهرب من التحقيق الجنائي (ص203).

وبعتبر مرهج ان الازمة نشأت لأسباب داخلية وعوامل خارجية، تضافرت مع بعضها البعض لتحاصر الإقتصاد البناني، وتضعه في مهب الريح منها: الاحتكار، سعر الصرف، حصون الفساد، الكهرباء، ومن العوامل الخارجية يتطرق الى الازمة المالية عام 2008، الأزمة السورية والنزوح السوري، حصار واشنطن لأقتصاد اللبناني من اجل إضعاف المقاومة واغلاق الحدود البرية امام الصادرات البنانية (ص89).

رغم تركيز الكاتب على دور حاكم البنك المركزي السابق رياض سلامة في تفاقم الازمة، لكنه لا ينسى دور القضاء، ومجلس النواب، والحكومة، ورجال الدين بسبب الاستهتار والتواطؤ مع سلامة، وعدم تحمل المسؤلية التي كلفهم بها الشعب اللبناني، مما أدى الى الاهتراء السياسي، التشريعي، القضائي، المالي، والنقدي والتوحش والفساد وغياب المساءلة، وانعدام المصداقية لدى الطبقة السياسية والإدارية والمصرفية والاستعانة بالمذهبية والطاىفية لتكريس نهج التفرقة واطالة عمر المنظومة.

ويخصص الكاتب مقالات حول ذلك وبشكل رسائل الى قضاة لبنان، يحثهم فيها الى المبادرة وإنقاذ بلدهم من الحالة المأساوية التي وصل اليها، بسبب عبث السلطة وفسادها لانه لهم الحق وحدهم في إصدار الاحكام باسم الشعب اللبناني، واقسموا اليمين للحفاظ على العدالة ويذكرهم بدور قضاة إيطاليا بتخليص بلدهم من حكم المافيات والعصابات (ص105-110).

ويتوجه الى المجلس النيابي معتبراً ان مصداقيته على المحك، لان معظم القوانين التي سنها، لا يؤخذ بها، وان معظم مؤسسات الدولة لا تعمل (312) وفي الصفحة 338 يعنون "صمت القبور"… أنا أتحدث عن البرلمان اللبنانيً ويقول : ان الحاجة ماسة لعقد جلسة عامة لمناقشة الزلزال الذي ضرب لبنان والقطاع المصرفي وجيوب المواطنين، ومعرفة حقيقة ما حصل لتطبيق العدالة والبدء في إسترجاع الاموال المنهوبة من سارقيها، ويردف الكاتب أن هذا التخلف ، لا بل هذا الامتناع ، يثير التساؤل، وأكثر إنه مثير للريبة والشك، إنه بالأحرى "صمت القبور". ويتطرق الى تقاعس المجلس النيابي عن إقرار قانون الكبيتال كونترول هذا التقاعس الذي ساعد في تحويل أموال اللبنانيين للخارج، لصالح الفاسدين من اصحاب المصارف والطبقة السياسية.

وفي رسالة الى البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي لم يرق له موقف رئيس الحكومة حسان ذياب من رياض سلامة يقول: هنا اسمح لنا يا صاحب الغبطة أن نعتبر بأن الخطة يجب حكماً أن تعتمد على الحسابات والأرقام التي طلبها رئيس الحكومة مراراً وتكراراً من الحكام دون جدوى.(ص138)

لا يكتفي الكاتب بعرض وشرح أسباب الأزمة، لكنه في أكثر من مكان في الكتاب، يطرح مجموعة من الحلول التي يعتقد انها تصب في اتجاه حل ازمات لبنان واللبنانيين سواء المالية والنقدية والاقتصادية والقانونية، الثقافية والاهم السياسية، ويشدد على استراجاع الاموال وإعادتها اللى أصحابها  ويحذر من التلكؤ عن معالجة الازمة وتداعياتها المستقبلية (67).

ولا بد ان نشير الى أن الكاتب في مواقع كثيرة من الكتاب تحدث عن مخاطر المشروع الصهيوني الذي يستهدف المنطقة، لبنان البلد العربي الوحيد الذي هزم إسرائيل وأخرجها من معظم الاراضي التي احتلتها في إجتياحاتها للبنان.

يختم مرهج كتابه بمقال خاص بالصرح التعليمي الوطني، ويطالب بحماية النظام التعليمي الجامعي في لبنان، ويعنون "أرفعوا ايديكم عن الجامعة اللبنانية" التي تتحمل مسؤولية 80 الف طالب و5648 استاذاً، 4000 موظف لان الدولة تتصرف بإهمال نحوها والذي يتمثل في ميزانيتها المنخفضة التي بلغت 864 مليار ليرة، وهي مبالغ لا تؤمن رواتب الأساتذة. (ص344).

أخيراً، الكتاب يستحق القراءة لانه يطال كل مواطن لبناني مقيم أو مغترب، وغني ويزخر بكم كبير من المعلومات التي تلقي الضوء على تفاصيل كثيرة لللازمة في لبنان لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.

ومع أن الكاتب لا يفقد الأمل بنهوض لبنان ويقول: إن لبنان رغم كل ما أصابه من سهام، لا زالت حعبته غنية بالوسائل والإمكانات التي تؤمن له الحصانة الاستراتيجية، وتكفل نهوضه من بين الأشلاء والأنقاض(ص335).

وعلى الرغم من ذلك فإن الكاتب رغم الحقائق الدامغة والصادمة، لا يستخف بقدرة هذه المنظومة الفاسدة ويلفت مرهج إلى مقدرة هذه الطبقة على الافلات عبر تلفيقات تعيد إنتاجها في الانتخابات للأفلات من المحاسبة، وخداع الداخل والخارج عبر وضع قوانين انتخاب غير عصرية وعلى مقاس اهل السلطة وتعميم ثقافة الجهل وتمجيد الذات وشيطنة الآخر.

***

عباس علي مراد

 

لا يزال المتنبي، بعد أكثر من ألف عام، يشكل لغزاً أدبياً لا ينفك يثير الجدل. فهل كان عبقرياً متعالياً على عصره، أم كان نتاجاً لظروف تاريخية بالغة التعقيد؟ هذا السؤال يطرحه الناقد عمرو منير دهب في كتابه "التفتيش في قلب المتنبي" (منشورات الاختلاف، الجزائر)، لكنه لا يكتفي بالإجابة عنه بطريقة أكاديمية جافة،  ينقب في أعماق الشخصية بجرأة المؤرخ والنفاذية النقدية. 

السلطة والشعر 

يظهر عمرو منير دهب كيف أن المتنبي، رغم كل ما نعرفه عن غروره، كان في الحقيقة رهين نظام ثقافي لا يرحم. ففي العصر العباسي، لم يكن الشاعر حراً إلا بقدر ما يسمح له الحاكم. والمتنبي، الذي رفع نفسه إلى مصاف الملوك بكلماته، أدرك مبكراً أن الشعر يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين: وسيلة للبقاء، أو سببا للموت. 

لكن منير دهب لا يقع في فخ القراءة الرومانسية التي تصور المتنبي كبطل مظلوم. بل يظهره كشخصية براجماتية، تعرف كيف تلعب بورقة المديح عندما تحتاج، وتطلق سهام الهجاء عندما تستدعي الضرورة. فالمتنبي لم يكن ضحية ساذجة لنظام الحكم، بل كان لاعباً ماهراً في لعبة كان يعرف أنها قد تقتله يوماً. 

هل كان المتنبي "منافقاً عبقرياً"؟ 

 يطرح الكتاب سؤالاً مزعجاً: ألم يكن المتنبي، في بعض الأحيان، منافقاً؟ ألم يمدح سيف الدولة ثم هجاه؟ ألم يتقرب من كافور الإخشيدي ثم انقلب عليه؟ دهب لا يتجنب هذه الأسئلة، بل يواجهها بصراحة الباحث الذي يعرف أن العبقرية لا تعني القداسة. 

لكن المفارقة التي يكشفها الكتاب هي أن هذا "النفاق" كان جزءاً من صدقه! فالمتنبي لم يكن يكذب عندما يمدح، بل كان يبالغ في إعجابه حتى يصل إلى حد الهوس. وعندما يهجو، فإنه لا يكبح جماح كراهيته. فهو شاعر لا يعرف التوسط، وهذا ما جعله عظيماً، وهذا أيضاً ما قتله. 

لماذا يعود المتنبي اليوم؟ 

في عصرنا هذا، حيث السلطة والثقافة في صراع دائم، يعود المتنبي ليس كشخصية تاريخية فحسب، بل كرمز لمعضلة المثقف العربي: كيف يكتب بحرية في عالم لا يعترف إلا بلسان السلطة أو المال؟ 

كتاب عمرو منير دهب، بهذا المعنى، ليس عن الماضي، بل عن الحاضر. فهو يذكرنا بأن المعارك الأدبية القديمة ما زالت مستمرة، وإن تغيرت الأسماء والأشكال. فاليوم، كما في عصر المتنبي، يقتل الشعراء ليس بالخناجر، بل بالتجاهل أو التشويه أو الشراء. 

ما يميز عمل عمرو منير دهب هو دمجه الذكي بين التحليل التاريخي والنفسي والجمالي، دون أن يطغى أحدها على الآخر. فهو لا يقع في فخ القراءة السوسيولوجية الجافة، ولا ينجرف نحو التأويلات الذاتية المفرطة. كتابه أشبه بـ "مختبر نصي" تفحص فيه قصائد المتنبي تحت مجهر متعدد الأبعاد:  البعد السياسي: كيف تعامل المتنبي مع سلطات عصره كـ"لاعب" لا كـ"ضحية". 

جرأة الناقد

لم يخش منير دهب أن يطرح أسئلة مزعجة: هل كان المتنبي منافقاً؟ هل كان غروره استراتيجية للبقاء؟ هل يمكن فصل شعره عن سيرته الشخصية؟ هذه الأسئلة لا تنبع من رغبة في النيل من المتنبي، بل من إيمان الناقد بأن العظمة الحقيقية لا تفهم إلا بفحص تناقضاتها. 

هذا الكتاب يعتبر إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، فلغته تجمع بين العمق الأكاديمي والسلاسة الأدبية، ما يجعله في متناول القارئ المتخصص والعادي.  كما أنه يقدم المتنبي كـظاهرة ثقافية حية يمكن قراءتها بلغة العصر، علاوة علي ذلك  يعتبر محاولة لإعادة تأهيل للمتنبي كرمز لكل مثقف عربي يواجه سلطات زمانه. 

إذا كان المتنبي قد قال: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي"، فإن عمرو منير دهب هو الذي جعلنا ننظر إلى المتنبي بعين جديدة، عين لا تكتفي بالإعجاب، بل تعمل الفكر في الأسئلة التي يخفيها النص. كتابه ليس مجرد إضافة، بل إثبات أن النقد الجاد يمكن أن يكون فنّاً قائماً بذاته. 

بعد قراءة هذا الكتاب، لن تقرأ المتنبي كما كنت تقرأه من قبل. وهذا هو أعظم نجاح للناقد: أن يغير نظرتك إلى ما كنت تظنه مألوفاً. تحية لعمرو منير دهب الذي أعاد للمتنبي إنسانيته، وللنقد الأدبي روحه المغامرة!

يختم دهب كتابه بإشارة ذكية إلى أن المتنبي، رغم مصرعه الغادر، انتصر في النهاية. فقاتله لم يبقَ منه إلا اسم في هامش التاريخ، بينما بقي المتنبي شاعراً لكل العصور. 

لكن الكتاب يتركنا مع سؤال أخير: هل نقرأ المتنبي اليوم لأنه عظيم، أم لأنه يعكس مأساتنا؟ ربما الإجابة هي أن العظمة الحقيقية تكمن في أن يكون الشاعر مرآةً لعصره... وقلباً ينبض في صدر الزمن.

***

د. عبد السلام فاروق

قراءة تحليلية

يُعدّ كتاب «حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي» للدكتور علي المؤمن من أبرز الدراسات التحليلية المعمقة التي تناولت تجربة حزب الدعوة الإسلامية في العراق، من حيث النظرية والحركة والفكر والتاريخ والعلاقات والأداء. ويشكل الكتاب مرجعاً مركزياً لفهم أحد أقدم وأهم الأحزاب الإسلامية الشيعية، ويوفر للقارئ مادة غنية تربط بين الأبعاد التاريخي والسياسي والاجتماعي في مسيرة الحزب الممتدة من التأسيس وحتى مرحلة الحكم. ويضاف إلى مؤلفاته الأخرى، وخاصة «سنوات الجمر» و«صدمة التاريخ»؛ ليشكل أهم دعائم مشروع الدكتور علي المؤمن البحثي لإعادة كتابة تاريخ العراق السياسي والاجتماعي المعاصر.

يبدأ الكاتب بتأطير السياق التاريخي والاجتماعي لولادة الحزب في أواخر خمسينيات القرن العشرين، في ظل تصاعد المد الشيوعي والبعثي والقومي، وما رافق ذلك من استهداف لعقيدة وفكر الأمة، ويبرز دور المرجعية الدينية، لا سيما المرجع الإمام السيد محسن الحكيم (قدس سره) في دعم الفكرة التأسيسية ومباركة خطواتها الأولى.

ثم ينتقل إلى الحديث عن النخبة التي ساهمت في التأسيس عام 1957 في النجف الأشرف، مشيراً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين الذين بادروا إلى وضع اللبنات الأولى للحزب، ومنهم الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، والشهيد السيد محمد مهدي الحكيم، والسيد مرتضى العسكري، والشهيد عبد الصاحب دخيل، وغيرهم من الرواد الذين ساهموا بدرجات متفاوتة في التأسيس والتنظيم.

يسلط الكتاب الضوء على الفكر السياسي والديني الذي تبناه الحزب منذ انطلاقته، والذي تمحور حول فكرة الإسلام كنظام شامل للحياة، مع تأصيل لمفاهيم أساسية مثل الولاية الفقهية والسياسية، ومبدأ الشورى، والعمل السري والعلني، والعلاقة بالمرجعية، ويكشف الكاتب عن تعددية الاتجاهات داخل الحزب، من المدرسة العراقية إلى التأثر بالمدرستين اللبنانية والإيرانية، ويعرض تطور الفكر السياسي للحزب عبر مراحله المختلفة، لا سيما التحول التدريجي نحو العمل العلني ومفاهيم الدولة المدنية بعد عام 2003، مع المحافظة على الإطار العقائدي العام.

وتناول المؤلف تنظيم الحزب وهيكليته الداخلية، مستعرضاً ملامح البناء التنظيمي المتأثر بالأحزاب الإسلامية واليسارية الأخرى، مركزاً على مبدأ الشورى، وآليات اتخاذ القرار، ودور القيادة المركزية في التوجيه والتخطيط. ويتوقف الكتاب عند (العالمية) التي اتسم بها الحزب في فترة من تاريخه، مشيراً إلى تأسيس فروع له في عدد من البلدان الإسلامية والعربية، ومحللاً الخلفيات العقدية والتنظيمية لهذا الامتداد.

في محور العلاقات الخارجية، يناقش الكتاب علاقة الحزب بالحركات الإسلامية الأخرى، مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا، موضحاً طبيعة التوترات والتحالفات وحدود التفاهم الفقهي والسياسي التي حكمت هذه العلاقات.

كما يبحث الكاتب علاقة الحزب بولاية الفقيه والعمل الجهادي في الجمهورية الإسلامية في إيران، مشيراً إلى أوجه التباين والتقاطع بين التجارب المختلفة.

يشكل التصادم مع نظام الطاغية صدام محطة مركزية في الكتاب، حيث يستعرض أبرز محطات المواجهة بين الحزب والنظام البعثي الكافر، لا سيما انتفاضة صفر عام 1977، ومحاولة اغتيال الطاغية عام 1982، ودور الحزب في الانتفاضة الشعبانية عام 1991. ويبين الكاتب كيف لعب الحزب دوراً قيادياً في المعارضة المسلحة والسياسية في المنفى، مع احتفاظه بهيكله التنظيمي رغم الضربات القاسية التي تلقاها.

أما مرحلة ما بعد عام 2003 فاستعرضها الكاتب بوصفها نقطة تحول مفصلية، إذ انتقل الحزب من العمل السري إلى المشاركة في السلطة، ما ولّد تحديات كبيرة تمثلت في التوفيق بين الهوية العقائدية ومتطلبات الحكم. وهنا يناقش الكاتب تراجع الزخم الفكري والتنظيمي في الحزب، وبروز صراعات داخلية بين أنصار الدولة الإسلامية العقائدية وبين الواقعيين المؤيدين للانخراط في النظام الديمقراطي الجديد. كما يرصد مظاهر أزمة الهوية بين الحزب الدعوي من جهة، والحزب الحاكم من جهة أخرى. ويشير المؤلف الدكتور علي المؤمن إلى أن حزب الدعوة الإسلامية كان في صراع دائم بين الانتماء العقائدي ومتطلبات الواقع السياسي، وهو صراع لم يُحسم بعد رغم مضي أكثر من ستة عقود على التأسيس. ومن خلال فصول الكتاب، تتضح هذه الجدليات التي يستعرضها الكاتب بتسلسل منطقي يعكس تطور الحزب، وتداخله مع المرجعية، وتفاعله مع المجتمع والدولة، فضلاً عن علاقاته الإقليمية والدولية.

يحمل الكتاب قيمة استثنائية؛ فقد اعتمد المؤلف على مصادر داخلية نادرة، مثل الوثائق والبيانات الحزبية غير المنشورة، كما يتميز بالتحليل النقدي الذاتي الذي يقدمه باعتباره باحثاً مطلعاً ومقرّباً من التجربة، ويجمع في أُسلوبه بين السرد التأريخي والتحليل السوسيولوجي والسياسي، ما يجعل الكتاب وثيقة فكرية لا غنى عنها لفهم التداخل المعقد بين الدعوة الدينية والعمل السياسي في التجربة الإسلامية الشيعية المعاصرة. ويُعد الكتاب مرجعاً مهماً للباحثين والمهتمين بالحركات الإسلامية عموماً، وبالتجربة العراقية خصوصاً، لما يتضمنه من توثيق وتحليل وتأريخ فكري وتنظيمي شامل؛ لأنه يمثل قراءة تحليلية معمقة في فكر حزب الدعوة الإسلامية ومساره السياسي، ويوفر إطاراً مهماً لفهم تحديات الاجتماع الديني والسياسي في بيئة مثل العراق، حيث تتشابك الانتماءات الطائفية والدينية مع المشاريع السياسية.

***

أنور فرج الله

(أديب وباحث من العراق)

العبودية والإقطاع صنعت بنصوص الشريعة خلاف الشريعة

بدأت فكرة منح الإقطاعيات في عهد النبي "ص" وكانت تنطلق من نوايا سليمة تصب في الصالح العام، وتستهدف إحياء الأراضي الموات وتنشيط الزراعة، وتشجيع الاستقرار، فقال النبي "ص": "مَن أحيا أرضًا مواتًا فهي له"، والنبي في حياته أقطع بلالًا من الحارث المزني أرضًا ظهرت فيها بعض المعادن، وأقطع الزبير أرضًا بخيبر فيها نخل وشجر، وأقطع فرات بن حيان أرضًا باليمامة، وعلي بن أبي طالب أربع أرضين، وأقطع أبو بكر الزبير وادٍ يأتي من الطائف ويصب في أحد، وأقطع عمر العقيق ما بين أعلاه إلى أسفله لنفر من الصحابة، أما في عهد عثمان فقد كثر الإقطاع بشكل كبير، وقد نسب خليج بنات نائلة إلى زوجته.

في البصرة أقطع عمر بن الخطاب إلى أبي بكرة ونافع بن الحارث، وأقطع عثمان فيها عمران بن حصين وابن عامر وحمران مولى عثمان، وعثمان بن أبي العاص الذي أعطي القطيعة المعروفة بشط عثمان قبالة الأبله.

وفي العصر الأموي، وفي عهد عبد الملك خصوصًا ازداد الإقطاع بشكل واسع، ومن أصحاب الإقطاعات الواسعة في العصر الأموي زياد بن أبيه، ومكحول بن عبيد الله الأصمعي، وحفص بن العاص، وأبو أميه بن أبي العاص، والمغيرة بن العاص ...وغيرهم كثيرون.

وبعد قيام الحكم العباسي أصبحت أراضي البصرة وقراها مقسمة بين عدد من الملاكين الكبار في مقدمتهم الخلفاء الذين أخرجوا لأنفسهم ضياعًا في البطيحه.

الشريعة الإسلامية لا تقر اغتصاب الأرض لكن الرغبة في إعمار الأراضي التي كانت تعود للملك الفارسي أو تلك التي هجرها أصحابها بعد الفتح، فقد تمّ منحها لمن يحييها وإحياء الأرض.

على أنْ يدفعوا مقابل ذلك لبيت المال خراجًا وهو العشر، وتمّ تنظيم ذلك بأحكام من بينها:

أنّ الأرض الموات التي يقوم الأشخاص باستصلاحها يمكن أنْ تورث، في حين أنّ التي تمنح لرجال الجيش تستغل ولكن لا تورث.

وحكم الشريعة يقول بعدم السماح باستغلال الأرض إلا من خلال صاحبها أو عن طرائق المؤاجرة مقابل مال أو طعام، والشريعة لا تعترف في حالة الأراضي التي تسقى ديمًا "بالمطر وحده"، بخضوعها لصيغة العقود التي تنص على أنّ الأرض تبذر من جانب صاحبها ثم تعهد للفلاح بالمزارعة، أو تبذر وتحصد من جانب الفلاح وهذه هي المخابرة.

لكن المسلمين وبمجرد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى بات البعض منهم يملك ثروات طائلة حتى أنْ البعض بات يملك آلاف الخيول والبعض الآخر لديه الذهب يكسر بالفؤوس...

أمر آخر حصل فإنّ حكام المسلمين باتوا يهبون الإقطاعات إلى حواشيهم بمجرد أنْ يحفر بئرًا فيها أو يشق قناة، وهذه القضية مع تكدس الثروات لدى بعضهم باتت سهلة ومتيسرة، والحكام المسلمون باتوا يشقون الأنهار من بيت مال المسلمين، ويمنحون الأراضي المحيطة بها إلى الأقارب والمتنفذين، سارع الموسرون والأثرياء من المتنفذين بالاستيلاء على الأراضي لمجرد أنهم حفروا بها بئرًا أو شقوا فيها قناة وعندها لا يترتب عليهم سوى العشر، وهذا النوع من الإقطاع يخوّل صاحبه أنْ يزرعه ويزارعه ويؤجره بل إنه يورثه، ولا يستطيع أنْ ينتزعه أحد منه ... ولم تراعى أي من أحكام الشريعة في ذلك.

وببلوغ الأمر إلى العباسيين تطور الاقتصاد بشكل لافت، فانتقال المجتمع من الزراعة الضيقة إلى الواسعة والتجارة الرابحة أدى ذلك إلى قيام طبقة من الأثرياء وأصحاب الأراضي الواسعة، وباتوا يحتاجون إلى أعداد هائلة من المستخدمين.

فوجد الملاك الزراعيين الحل بتوسيع تجارة الرقيق فابتدعوا طريقة جديدة لا تقرها الشريعة وهي النخاسة، فازدهرت تجارة الرقيق، وقد تطور هذا النوع من التجارة حتى ابتنى المسلمون مدنًا شملت معظم الساحل الشرقي لأفريقيا لغرض شراء العبيد من آسريهم وشيوخ عشائرهم، يجلبونها لغرض العمل في زراعة الأراضي المملوكة للإقطاعيين من أثرياء وأقارب وحواشي السلطة.

والنخاسة هو نوع من الرق لم تقرّه الشريعة التي اشترطت أنْ يستعبد الأسرى في الحروب ولكن في هذه المرة وجد الأثرياء الحاجة إلى مستخدمين وبأعداد هائلة، فازدهرت تجارة الرق، وكان المصدر الأساس لها هو الرقيق الأسود الذي جلبه النخاسون.

البصرة بالذات، وبسبب تكرار الفيضانات فيها تحولت إلى ملحية يلزمها قشع السبخ من على وجهها بصورة مستمرة، وهكذا صار العمل الرئيس الذي استخدم فيه الزنوج في البصرة هو إزالة الطبقة الملحية "السباخ" التي تغطي التربة لإظهار التربة الخصبة الصالحة للزراعة، وكانت أكوام الملح معروفة في البصرة تبدو كالجبال.

وكانت أراضي المستنقعات التي تسمى البطيحة، والتي تمتد من البصرة إلى واسط وكذلك الأهواز، مغطاة بالبردي والقصب، وتشكل بؤرة للأوبئة والأمراض.

وكان الزنوج يشتغلون في مجموعات بلغ عدد إحداها 15 ألف شخص، وقد جردوا من جميع الحقوق وباتوا ملكًا صرفًا لسيدهم، له الحق بالتصرف بهم كيفما شاء بوصفهم جزءًا من ثروته، ولا يتم دفع أية أجور لهم بالمرّه .  

وهم لا يعيشون في البيوت بل في العراء، وكان التعامل معهم يتم على وفق مبدأ يقول: "العبد إذا جاع نام وإذا شبع زنى".

فقامت طبقة ثرية إلى جانب طبقة من المعدمين الفقراء.

ومن جراء التعامل معهم بقسوة وإذلال وسوء المعاملة، فقد بدأت ثوراتهم مبكرة في العراق ضد مستعبديهم في البصرة أيام مصعب بن الزبير.

وبهذا، فإنّ الثورة مختمرة في أذهان العبيد لا بسبب لون بشرتهم بل بسبب التعامل معهم، وثورتهم ليست عنصرية بل طبقية، وهم بانتظار مَن يقودهم.

في تلك الفترة ظهر علي بن محمد، والذي عرف لاحقًا بـ صاحب الزنج، بعضهم زعم أنه فارسي، ومنهم مَن يرد نسبه إلى أصل عربي، أما هو فقد زعم أنه علوي، وأنّ نسبه ينتهي إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

وأعلن عن نفسه محررًا للعبيد، ومصلحًا للدين، ومواجهًا للفساد على منهج علي والحسين "ع"، لكن الوقائع تدحض تلك الادعاءات لأنَّ:

فهل كان برنامج صاحب الزنج يهدف إلى إصلاح شامل للنظام الاجتماعي القائم أم مجرد حركة ترمي إلى تحسين أحوال طبقة اجتماعية معينة...؟

وهل كان شيعيًا أم أنه ادعى النسب العلوي لنفسه ليضفي على حركته سندًا شرعيًا عند العامة ...؟ ذلك أنّ الناس اعتقدوا في ذلك الزمان أنّ التغيير للأنظمة القائمة سياسيًا أو اجتماعيًا لن يقوم إلا على أيدي يد علوية تتصل بأهل البيت، ففي عام 260 شهد العالم الإسلامي غيبة الإمام المهدي، وهو الإمام المنتظر عند الشيعة الأمامية، وهم ينتظرون عودته ليملأ الأرض عدلًا بعد أنْ ملئت جورًا... وفي ذلك الوقت بالذات كانت الدعوة الشيعية في أوج انتشارها، فالدولة الفاطمية للشيعة الإسماعيلية في شمال أفريقيا، والصفارون يؤدون دورًا مهمًا في تقوية المذهب الشيعي في بلاد فارس وفي طبرستان الممتدة بين جبال البزر وساحل بحر قزوين الجنوبي تحت حكم الحسن بن زيد العلوي، والقرامطة يبثون مبادئهم بين العامة.

في الوقت نفسه، فإنَّ كل حركة قامت في العالم الإسلامي مهما كان نصيبها من الحق والصواب وصمت من قبل الحكم ووعاظ السلاطين وأتباعهم بأنها زيغ وزندقة وخروج على الدين والدولة.. وكل حركة إصلاحية لكي تحظى بقبول العامة ينبغي أنْ تستند إلى حجة دينية شرعية تبرر قيامها ضد النظام القائم ..

ولذلك؛ فإنّ جميع الحركات الاجتماعية التي سبقت ثورة الزنج أو تلتها طوال العصور الوسطى اتخذت الدين ستارًا لها يحجب أهدافها الاجتماعية والسياسية.

فالمنحى الأساس في ثورة الزنج أنها دعت إلى تحسين أحوال العبيد ومعاملتهم –كما أمر الله ورسوله- بالرفق والحسنى، والعمل على تحريرهم بأي وسيلة كانت، فخاطب صاحب الزنج ملّاك العبيد وأسيادهم قائلًا: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون لهؤلاء الغلمان –يعني الزنج- الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم أنْ تفعلوه بهم وجعلتم عليهم ما لا يطيقون ...

كانت ثورة الزنج حربًا اجتماعية ذات طابع طبقي؛ أي: أنها ثورة العبيد وأنصاف العبيد ضد الملاكين من أصحاب الأراضي، وهي لا تختلف عمّا شهدته روما من ثورة للرقيق قبل الميلاد، وفي العصر الحديث الحركة التي تزعمها توسين لوفيرتور في هاييتي، والعصيان الذي أثاره العمال الهنود في الناثال بزعامة غاندي ...

لكن برنامج صاحب الزنج السياسي لم يكن تقويض العبودية وهدمها كليةً بل إلى تحرير الزنج أنفسهم فحسب، ووعد أتباعه من الزنج أنْ يملكهم العبيد والإماء وفعل ذلك في الميدان في حروبه، واسترق أعداءه وعاملهم معاملة العبيد سواء بسواء، وعندما حاول ملاك العبيد أنْ يغروا صاحب الزنج بالمال ليطلق سراح عبيدهم أمر ببطح الملاك أو وكلاءهم ودعا غلمانهم لضربهم بجريد النخل فانتقم العبيد ولأول مرة من سادتهم الذين طالما اضطهدوهم وأهانوهم.

وعندما انتهت ثورة الزنج وجدوا في سجون مدينة المختارة التي أسسها صاحب الزنج آلاف الأسرى.

ومن ناحية المعتقد، فقد اعتنق صاحب الزنج مذهب الخوارج الأزارقة، وهو مذهب يبيح استرقاق أعدائهم من المسلمين، وقتل أطفالهم ونسائهم بوصفهم كفارًا مارقين ...

وبعد احتلال الزنج لمدن عبادان والأبله والأهواز أطبق حصاره على البصرة وقطع المواصلات عنها، وعزلها عن المناطق المجاورة لها عزلًا تامًا، وراح يحشد الأعراب ضدها في حين كان الخليفة العباسي الذي ابتنى مدينته الموفقية قبالة المختارة مدينة صاحب الزنج على الضفة الأخرى من شط العرب قد انشغل بإيصال الميرة إلى المدينة التي عضّها الجوع وأضرّ بأهلها، وشنّ هجومه عليها في يوم الجمعة 17 من شوال عام 257 "7 أيلول من عام 871"، فدخلها قادة جيوشه من ثلاث جهات، وأعملوا فيها القتل والحرق طوال يومي الجمعة والسبت، وألحقوهما بيوم الاثنين، وأعملوا وهم المتعطشون للثأر سيوفهم في جموع أهل البصرة وتحت صيحات: الله أكبر، قتل أهل الزنج كل مَن رأوه من أهل الثراء وأخذوا ماله، ولم تسلم النساء منهم وهم الذين عانوا من الحرمان الجنسي مذ حرموا من التجوال وممارسة الحب البريء ونصف البريء في مرابع صباهم في غابات أفريقيا وأحراشها ، وهكذا أحدقت النيران في المدينة من كل جانب، فالتهمت كل شيء مرّت به من إنسان أو بهيمة أو متاع...

لقد كان عدد القتلى في تلك المجزرة 300 ألف شخص على أقل تقدير، وكانت تمثل كارثة مؤلمة للخلافة، فالبصرة كانت عين العراق ميناه النهري الوحيد السيطرة عليه، تعني السيطرة على التجارة العباسية الصادرة والواردة، وقد أسهبت المراجع في وصف المآسي التي لحقت بالبصرة حتى ليبدو أنها تخربت وفقدت معالمها العمرانية في ذلك اليوم، ومازال السائر "بعد خراب البصرة " حيًا في ذاكرة البصريين.

ومنذ ذلك اليوم المؤلم في حياة البصرة والبصريين ظهر مصطلح جديد في لغة الناطقين بالضاد من المحيط إلى الخليج في نكاتهم ومناقشاتهم الجادة، في كتبهم أو مسلسلاتهم التلفزيونية، في أسواقهم أو جلسات مجالس حكمهم ..ذلك هو: بعد خراب البصرة...

هذا ما تقوله المراجع واستخلصه دكتور فيصل السامر في مؤلفه "ثورة الزنج"، أما عني فأقول:

العبودية والإقطاع ممارستان عامتان عرفتهما البشرية منذ أقدم العصور ...لكنهما في عالمنا الإسلامي طبختا في مطبخ الشريعة الإسلامية، وتمّ تأكيدهما بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وبدأت ممارستهما على عهد النبي، ولكن تلك البدايات منها مَن ارتبط بوصايا قرآنية ونبوية للمسلمين بتخفيف الوطأة إلى أدنى حد ممكن، سواء بعديد الحالات التي رسمت لعتق العبيد أو الإحسان إليهم، واعتبار ذلك من أعمال الإحسان التي يُثاب المرء عليها أو بحصر الرقيق كنتيجة للحروب وحدها ... لكن المسلمين بفسادهم المبكر وأتباع الديانة الإسلامية قد ضربوا تلك الوصايا بعرض الحائط، وبالغوا في غيّهم وفسادهم يقودهم في تلك الدروب قادتهم وخلفاءهم وحكامهم فاستنبطوا طرائق غير مطروقة في استعباد الناس عندما راحوا يمارسون حرب التجارة بالبشر ضد الأقوام التي دخلت في دينهم، فجهزوا السفن وأقاموا المدن لشراء مجاميع بشرية بالتواطؤ مع حكام تلك المناطق وشيوخ العشائر فيها من أجل جلب أعداد هائلة من الرقيق تحت مسمى نخاسة، وهو غير معترف به في الشريعة الإسلامية التي تشترط أنْ يكون الرقيق من أسرى الحروب ضد الكفار، وهؤلاء ليسوا أسرى حروب ولا كفارًا...

من ناحية أخرى، فإن الإقطاع أيضًا ممارسة إسلامية نشأت في مطبخ الشريعة وبدأت ممارستها على عهد النبي، ولكن الغاية منها كانت غير النتيجة التي آلت إليها لاحقًا – وأيضًا بسبب الفساد- من استيلاء على أثمن ما تمتلكه الشعوب أراضيها ومصدر معيشتها إلى جانب قوة عملها واقتسامه بين المتنفذين من أثرياء وملّاك وحواشي السلطان ومحظياته وأزلامه...

وتداخلت الظاهرتان معًا العبودية والإقطاع في سفاح لينجبا حالة تركز الثروة عند نفر منهم مقابل أغلبية ساحقة يلفها البؤس والحرمان والفقر والظلم والقسوة، حتى إذا نضجت الثورة في ضمائر المغلوبين تصدى لها مَن يحاول خطفها وتجييرها لدوافعه في بلوغ السلطة والحكم، وأضفى على نفسه صفات الإصلاح والتقوى والقداسة مستغلًا ظروفهم الملجئة للثورة والجهل المتفشي بينهم، تفشي الجوع والحرمان ليفرض رؤى لا تختلف عن تلك التي ثاروا ضدها فيستبدل العبودية بعبودية أخرى، ويتيح الحرمان المتبادل والقهر المتبادل والاستغلال المتبادل للإنسان.

يحضرني أنَّ روزخونًا "قارئ منبر" كان يمارس مهمته ليلًا في إحدى قرى الجنوب، وكان مجلسه كبيرًا، بحيث ضم كل رجال القرية دون استثناء، لكنه لاحظ همهمة بينهم، وأنهم لا ينتبهون لما يقوله... فأصاخ السمع فتبيّن أنّ السركال دفع لهم سعرًا لمحصولهم من الذرة في تلك السنة بواقع 14 دينارًا للحمل أو الطغار، وأنهم يتململون لأنّ التاجر في القرية الأخرى عرض على زملائهم 16 دينارًا للحمل، فانتبه الروزخون المحتال ليستغل موضع اهتمامهم، فأطلق عقيرته وهو يصيح:

 تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

فكانت مثل صافرة الإنذار عند مستمعيه، فتعالت أصواتهم: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

حسروا ثيابهم عن صدورهم وبدأوا مع الهتاف يلطمون الصدور: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

 خرجوا من المجلس باتجاه السركال ثائرون يهتفون: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

 وهكذا كان فلم يتمكن الروزخون من قيادة القوم فحسب؛ بل خرجوا عن سيطرته وباتت تحكمهم إرادتهم؛ لأنه لامس مشكلتهم، وكانت حصيلته أنْ عمّت سمعته الآفاق، وبات يتقاضى عن ليلته ضعف ما كان يتقاضاه سابقًا.

وهكذا استغل صاحب الزنج زنوجه، فقد لامس محنتهم وقادهم مستعينًا بجهلهم.

وهذا ما يعرفه الروزخون وصاحب الزنج أكثر من بعض الأحزاب الثورية والمنظرون الذين تشغلهم المصطلحات الفكرية، ويغرقون بها فيشيح عنهم الناس، ويشبعون نومًا عمّا يقولون ...!

وحتى لو ظهر مصلح أو ثائر يعمل على تقويض الإقطاع والعبودية تحاربه المؤسسة الدنية ذاتها باستخدام أحكام الشريعة مظهريًا وجوهريًا بتوظيف الجهل فتشيع. إنَّ إلغاء الإقطاع مخالف للشريعة، وإنّ الأراضي التي رُفعت عنها يد حفنة الإقطاعيين وأعيد توزيعها على الفلاحين تعدها شريعة المؤسسة الدينية مغتصبة وتحرم الصلاة فيها فيخشى الناس على ما يأملونه في الحياة الآخرة بعد أنْ تمّ سلبهم مقومات الحياة الدنيا، فيخور وعيهم وإرادتهم ويتحولون إلى جيوش ظلام ضد المصلح ومجابهته، وهو ما حصل لعبد الكريم قاسم رئيس دكتورنا العزيز فيصل السامر رغم أنّ: شعار قانون الإصلاح الزراعي ومئالاته هي ذاتها التي قال بها النبي "ص":

فالنبي قال: "مَن أحيا أرضًا مواتًا فهي له".

وقانون الإصلاح الزراعي كان شعاره: "الأرض لمن يزرعها".

مَن هو فيصل السامر وما حكايته مع نوري سعيد ...؟

رغم أني طلبت من صديقتي العزيزة المهندسة المعمارية التي تحمل ثغرًا كثغر البصرة قبل خرابها الذي عرفت به بوصفها ثغر العراق الباسم أنْ تحكي لي عن نشأة والدها، وعن قريته في المدينة إحدى نواحي البصرة ...هل كانت في قريته خيولًا أم حميرًا...؟ لأحدد نمط حياته في مراحلها الأولى، أين تقع قريته ...في عمق الريف أم قريبًا من الحضر...؟ كي أحدد نوع الحجل أو الخلخال الذي تتباهى به جميلات القرية ...؟ وتحديد صلتهن بأهزوجة زميلاتهن في قريتي الأم القائلة:

البين طكَها وطكَ رجلها ..سكاربيل يطكَ حجلها ...؟

إلا أنّ السيدة ياسمين فيصل السامر -كريمة أستاذي العتيد- راحت تنشغل في بيان نسب والدها السامر من فخد كذا وعشيرة كذا ...وقبيلة كذا وبطن ذاك ...؟

حتى أني همهمت قائلًا: يمعوده ...ما شأني بالعشائر والبطون وأنتم العراقيون وإن انتسبتم لبطون العرب سواء منها البائدة أو التي تلت فإنّ مضغة دم واحدة منكم ترسل لغرض فحص الدي أن أي تظهر أنّ 70% من جيناتكم من القفقاس ...

فإذا كانت الرمادي جمجمة العراق وبوابتها الغربية ومستودع جيناتها اليعربية، وموطن البئر الذي فيه دفن الحبل السري لجدهم الأقدم، والتي إنْ تكلم أهلوها قالوا: ابن العم ولا يستخدمون مفردة ابن الخال أو بنت الخالة، مثلما يجري على ألسنة الجنوبيين من العراق، الرمادي أظهر مشروع العراق الجيني في حزيران 2017 أنّ نسبة الجينات العربية فيها تقتصر على 30% بمعنى أنها عربية بنسبة 30% فقط أما بقية الجينات فـ: شي قوقازي، وشي تتر، وشي بربر، وشي من التبت، وشي من الفايكنغ ...فكيف الحال في البصرة أو موطن حمولتكم في المدينة، هل تطمحين بنسبة أعلى من 4% ...؟ فَعلام تدققين بالنسب إذن...؟

عن نفسي، فقد حصل وأنْ كنت في زيارة تفتيشية رسمية في دوائر الحكومة في عقد الثمانينيات...وكان يرافقني أحد زملائي الذي كان يقوم بمهمة مثيلة، ولكن كل منا مكلف بعدد من الدوائر، وحصل أنْ زرنا دائرة من ضمن الدوائر المكلف بها زميلي ولست أنا. استقبلنا فيها موظف مرموق صافحته واقتصر سلامي على المصافحة، فاستغرب زميلي قائلًا: كيف تكتفي بمصافحته وهو ابن مدينتك...؟ استغربت لأنّ الرجل أشقر بعيون خضراء ...؟ قلت: هل حقًا أنت من السماوة..؟! قال: بل من الرميثة التابعة للسماوة، قلت: قل ذلك ...فنعم الرميثة دخلها الإنكَليز ، لكن الرجل اكتسى وجهه بالارتباك والخجل، فسارعت كي أهدأ من روعه إلى القول بأنّ السماوة دخلها الكَركَة، وهم جنود الإنكَليز من الهنود الذين شكلوا النسبة الأعظم من جيوش بريطانيا يوم احتلت العراق يا صديقي فلم تعرف أجيالنا الشعر الأشقر وزرقة العيون...

ومن غريب الصدف أنه وبعد 25 عامًا على تلك المقابلة، وقد ترقى ابن الرميثة فصار مديرًا عامًا لإحدى الدوائر في وزارته في حين أنا رأست هيئة النزاهة، دخل مكتبي أحد موظفي المكتب وهو يقول: إنّ شخصًا عندي يرجو مقابلتك وناولني قصاصة الورقة فقرأت اسم الرجل وكان صاحبي الرميثي الأشقر سليل أبو ناجي، دخل الرجل وبعد استقباله من قبلي بود راح يحكي مظلوميته بعينين زائغتين من خلف نظارته السميكة، وهو مرتبك ويكاد يخرج من هدومه، فهمت منه أنه صادر بحقه أمر بالقبض بتهمة فساد، وفي حين كنت أنظر إليه مبتسمًا كنت أخفي ضحكة كبرى تكاد تنفجر، وعندما انتهى من كلامه قلت: هل أنت فلان الفلاني كنت بتاريخ كذا موظفًا في دائرة كذا وزارة كذا ...؟ كاد أنْ يغمى على الرجل لأني أعرف تاريخه الوظيفي وسيواجه بكل لفتة فساد، وما أكثرها قد اقترفها خلال عمره الوظيفي. وبعد تردد وتمتمة قال: نعم ...قلت: هل تتذكر السيد فلان الفلاني من دائرة كذا المشرف عليك "زميلي" قال: نعم ...قلت: هل تتذكر أنه في اليوم كذا من العام كذا زارك يرافقه زميله، وزميله وصمك بصلتك بالإنكَليز ...؟ قال: نعم. وإنّ زميله ربما له صلة قربى بالكَركَه ...؟ قال نعم ...قلت أنا هو، الفتى القادم من السماوة ومعظم جيناته ربما جذورها تنتهي بالكَركَه...! تضاحك الرجل بخفوت واصطناع؛ لأنّ فكره مشغول بأمر القبض عليه بتهمة فساد...

أنا وبطريقتي الخاصّة تمكّنت من قراءة جينات دكتور فيصل السامر من واقع حادثة رواها الأستاذ الدكتور ...الأعرجي سأعرضها بلهجتي وإخراجي:

حكاية دكتور فيصل السامر وصلاح خالص مع نوري سعيد:

دكتور فيصل السامر ودكتور صلاح خالص كلاهما من البصرة، وكلاهما يعملان بصفة أستاذ في كلية الآداب بجامعة بغداد، وكلاهما يساري التوجه تقدمي الثقافة، لا توجد دلائل بانتماء السامر إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، في حين توجد دلائل على انتماء دكتور صلاح خالص للحزب، وطبعًا صفة اليساري أشمل من الشيوعي، فاليسار يشمل بالإضافة إلى الشيوعيين اليسار الوسط والمعتدل والمتطرف ولكن الشيوعي يكون عندما ينتظم المرء رسميًا إلى الحزب الشيوعي ويدفع اشتراكات ويحضر اجتماعات أما التوجه والثقافة فهي ذاتها...

مارس السامر النشاط السياسي، وفي عام 1954 أصبح مرشح الجبهة الوطنية الانتخابية عن البصرة إلى البرلمان، لكن موقفه المناهض للحكم الملكي ونوري سعيد أدى إلى فصله من الوظيفة الحكومية، بل إنّ نوري سعيد لم يكتفِ بذلك فألحقه وزملاءه بالخدمة العسكرية الإلزامية وأدخل دورة ضباط الاحتياط العاشرة التي خصصت للمفصولين سنة 1955.

لكن فيصل السامر وزميله الدكتور صلاح خالص، وكلاهما كانا من أساتذة جامعة بغداد رجعا من معسكر السعدية وافتتحا مطعم كباب في شارع الرشيد، وعلقا على واجهته لافتة مكتوب عليها:

 مطعم كباب الجامعة... لصاحبيه: الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر.

وطبعاً كانا يحتفظان بهيئتهما الوقورة والمهندمة كأستاذين ولا يلبسان طاقية عمال المطاعم الطويلة، ويعتنيان بشعر الرأس باستخدام زيوت هندية تجعله لامعًا وأملسًا على غرار شعر راجي وشامي كابور... ويحرصان على لبس المريولة أو وزرة العمل بلهجة العراقيين، دكتور صلاح على الدخل ودكتور فيصل يوزع الطلبات على الزبائن، واختارا شيفًا يعمل الكباب بأنظف وأفضل صورة...

دكتور فيصل يحمل الكباب ويتلاعب بالمواعين مثل توم سوير في القصة المشهورة عندما يكلفه جده بصبغ جدار البيت الخارجي فيغوي أقرانه من الأطفال بحركات بهلاوانية مع الفرشاة والصبغ حتى استدرجهم وجعلهم يقومون بالمهمة عوضًا عنه، وفوق ذلك أنقدوه ما بحوزتهم من سنتات كانت معهم ليسمح لهم بالتمتع بالتعامل مع الفراشي والصبغ ... فقد كان دكتور فيصل السامر يصيح بصوته الجنوبي الرخيم: دكتور صلاح عيني نفر كباب وياه طماطه شوي وداريها لخوك الأستاذ...يجاوبه دكتور صلاح خالص من مكانه: يتدلل الأستاذ خويه دكتور فيصل من بطن عيني...! وهكذا جرت الأمور، وكان من نتيجة ذلك أنْ تجمهر خلق كثير على مطعم كباب الجامعة لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر، وانتشرت الحكاية انتشار النار بالهشيم، دكاترة، أساتذة بجامعة بغداد يشتغلون كببچيه ... ليش ...؟ لأنّ رئيس الوزراء نوري سعيد فاصلهم من الوظيفة..؟ اشتغلت تقارير الشرطة السرية ووصلت إلى مكتب نوري سعيد رئيس الحكومة "سري وشخصي لاطلاع الباشا شخصيًا" وبعضها يقول: لو حصلت انتخابات وترشحا فيها الدكتوران صلاح خالص وفيصل السامر لركلا نوري سعيد والوصي عبد الإله كلاهما وحلْلّا بدلًا عنهما في حكم العراق.

تضايق نوري، حوصر نوري، شعر نوري بالاختناق...

ولم تمضِ غير أيام حتى وقف الشرطي في باب المطعم ووجه كلامه إلى دكتور صلاح خالص قائلًا: الباشا "يقصد نوري سعيد" يريدك.

 سأله صلاح: شوكت ...؟ رد الشرطي: هسا...

ذهب معه فأدخله على مكتب نوري سعيد ولم يطل انتظاره في غرفة مدير المكتب فأدخلوه على نوري سعيد ودار بينهما حوارًا من بين ما جاء فيه:

نوري سعيد: شنو معنى هذا المطعم...؟

صلاح خالص: باشا نريد نعيش خوب ما نموت من الجوع...!

نوري سعيد: يعني ما لكيتوا له اسم غير مطعم الجامعة...؟

صلاح خالص: اشبيها باشا، إحنا أساتذة بالجامعة ونحب شغلنا.

نوري سعيد: يعني كان لازم تكتبون لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر...!؟

صلاح خالص: باشا هذا لقب أنا أخذته بجهدي من فرنسا، وفيصل أخذه من القاهرة.

نوري سعيد: أوهوه ...أنت صدكَ دوختني...؟ ليش ما تترك الشيوعية وتخلصنا...؟

صلاح خالص: وأنت ليش ما تترك بريطانيا باشا...؟

نوري سعيد: لأني أشوف مصلحة العراق ويَه بريطانيا.

صلاح خالص: وأنا أشوف مصلحة العراق بالشيوعية.

نوري سعيد: صلاح، هسا انت عرّضتها وطوّلتها...؟ تنطيني كلام متسوي أنت وصاحبك الطلاب شيوعيين...؟

صلاح خالص: باشا. إحنه بالكلية أساتذة مو غير شي.

اتصل نوري السعيد بوزير المعارف يأمره بإرجاع صلاح والسامر إلى وظيفتهما في الجامعة.

رجعا للمطعم وكتبا على اللافتة "مغلق لعدم التفرغ، معروض للإيجار أسبوعيًا".

دكتور فيصل السامر قال لصاحبه: ليش ما نغلقه نهائيًا ...؟

رد عليه دكتور صلاح خالص: لا يابه ...الميت ميتي واعرف شلون مشعول صفحه، اسبوع أسبوعين وهمين يرد يفصلنا...! وردد أغنية:

اليمشي بدربنا شيشوف...يابو علي ...؟ لو موت لو ساده ...يابو علي

واحنا دربنا معروف يابو علي...والوفا عدنا عاده ...يابو علي

هيه يالله...هيه يالله...هيه يالله ...

***

د. موسى فرج

هل كتب صفي الدين الحلي شعرا شعبيا عراقيا قبل سبعة قرون؟

واحد من الكتب المهمة الذي قرأته عدة مرات ولكني للأسف لم أنتبه لأهميته وعلاقته باللهجة العراقية حين عكفت على تأليف معجمي "معجم اللهجة العراقية: الجذور العربية الفصحى والرواسب الرافدانية"، هو كتاب الباحث ماجد شبر " الأدب الشعبي العراقي".

وقد تأكدت من هذه الحقيقة حين تصفحت قبل أيام نسخة قديمة بحوزتي من الكاتب وهو في مكتبتي الشخصية منذ أكثر من عشرين عام - الكتاب صدر سنة 1995 – وكنت قد كتبت عنه شيئا متعلقا بأنواع المواويل العراقي وأصل تسميتها من قبل.

تفاجأت هذه المرة، وكأنني أقرأ الكتاب للمرة الأولى، بقول الأستاذ شبر  في المقدمة: "لقد لاحظت خلال دراستي للأدب الشعبي، أن اللغة العامية المستعملة هي في غالبيتها عربية فصحى لدرجة لا تصدق، حتى أنني أصبحت على يقين أن معظم الكلمات العامية هي فصحى أساساً إلا ما احتوت على أعجمية أو ما خلا ذلك ... لقد عاش العراق تحت نير الاستعمار المباشر مدة تزيد عن 700 عام، وقد ساهمت هذه الفترة في دخول الكلمات التركية والفارسية والهندية والإنكليزية والمغولية على خط اللغة العربية... أما الريف العراقي فقد ظل متمسكاً بالكلمات العربية ولم تستطع الكلمات الأجنبية التغلغل داخل مفردات كلامه. ص 12". كما استشهد المؤلف وهو فراتي المنشأ والبيئة بمقولة للباحث د. مصطفى جواد وجعلها ترويسة لمقدمة كتابه قال فيها جواد: "إن الشعر العامي العراقي قديم قدم اللغة العربية".

وهذه هي الفرضية التي انطلقت فيها في تأليف معجمي السجالي للرد على من حاول أن يُخْرِجَ من اللهجة العراقية ألف كلمة تقريبا ويزج فيها في معجمية أخرى هي معجمية اللهجة المندائية من اللغة الآرامية الشقيقة للعربية. إذن، هو "الحافر على الحافر" كما قال العرب القدماء في وصف هكذا مواقع للتطابق.

المفاجأة الثانية بالنسبة لي شخصيا في هذا الكتاب فهي نموذج من الشعر الشعبي العراقي أورده المؤلف وكان لشاعر الفصحى الشهير صفي الدين الحلي -أبي المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن نصر الطائى (1277 – 1339 م) -  صاحب القصيدة الشهيرة والتي استُمِدَت منها وفق بعض التفسيرات ألوان علم الثورة العربية ضد العثمانيين والذي أصبح لاحقا علما رسميا لعدة دول عربية وهي القصيدة المعنونة "سَلي الرماح العوالي" وفيها قال:

سَلي الرِماحَ العَوالي عَن مَعالينا

وَاِستَشهِدي البيضَ هَل خابَ الرَجا فينا

*

بيضٌ صَنائِعُنا سودٌ وَقائِعُنا         

خُضرٌ مَرابِعُنا حُمرٌ مَواضينا

إن معنى أن يوثق المؤلف شعرا شعبيا للحلي من القرن الثالث عشر الميلادي أي قبل أكثر من سبعة قرون هو أن هذا الشعر ليس ابن يومه وليلته بل هو عريق وله تراث عميق الجذور في التربة الاجتماعية والثقافية العراقية. وفي تأصيله لبدايات هذا الشعر وخاصة من نوع الموال يعود المؤلف به إلى عصر الخليفة العباسي الرشيد مستشهدا بما قاله المؤرخ القديم السيوطي في كتابه "شرح الموشح". فبعد أن بطش الرشيد بوزرائه العجم البرامكة أصر على أن يرثي وزيره جعفر فرثته جارية له بشعر عرف فيما بعد المواليا ومنه جاءت كلمة "موال".

نعود لواحد من المواويل الذي كتبه الحلي وأورده المؤلف شبر لنجد أنه كتب بلهجة هي وسط بين الفصحى والعامية بل هو إلى الفصحى المقولة بالنحو الساكن أقرب، ربما باستثناء تخفيف الهمز وجعله ياء أو مدا طويلا (رأيت – ريت) وكتابة الكاف بشنشة ربيعة جيما ثلاثية (چ)، ولفظ القاف حميرية أو جيما قاهرية (گ). قال:

قالت وقد طاولت أمر وبان القدر

وجه لها من الدجى يخجل بنوره البدر

ماريت ملاح مثلك حاز هذا الفخر

تجدف بخن السفينة وأنت فوگ الصدر

*والخن هو باطن السفينة، وماتزال هذه الكلمة العربية الفصحى مستعملة كما يقول المؤلف في الفرات الوسط والجنوب العراقي. وأضيف أن هذا الموال كان من النوع البسيط وأقرب إلى الرباعي وقبل أن يتطور الموال العراقي ويتنوع إلى الرباعي والأعرج والنعماني والزهيري....إلخ،  وهذا الأخير –الزهيري - هو أشهر وأجمل وأعقد الأنواع. ومن أشهر ما قيل فيه موالان الأول لعبد النبي العماري المجراوي والموال الجواب/الرد لابنه الشاعر مطشر العماري المجراوي.

قال عبد النبي العماري المجراوي:

يا صاح جرح الگلب حاير أنه بلحمته

وْثوب التهاني رِگد مبتوت من لحمته

غم الرجل لو رجه نوالات من لحمته

يا صاحب الروح بعنان الصبر عِنها

ولبيوت الاجواد لا تلزم رسن عنها

لاجن بدت مسأله وارد اسالك عنها

لو يسمن الكلب، گل لي تنوكل لحمته؟

وفي رواية أخرى للبيت: گل لي الچلب لو سمن هم تنوكل لحمته

فأجاب مطشر المجراوي على موال والده، قال:

رْداي ثوب الصبر وعلى النوايب جَلد

وْللي نخاني أطيحن دوم جلد وْجِلد

أطعن گلوب العِدا وبالروس أجلد جَلد

واعتني الزينات في سابع سمه لو سمن

ولر گاب الأنذال أنه مشتري لو سمن

يل گلت لحم الچلب من ياكله لوسمن

هل يوم أكو أنذال تاكل لحمته والجلد

وقد أخذت الموال الثاني من مصادر أخرى وأوردت أحد الأبيات من الأول بصيغتها الأشهر.

*خاتمة: اليوم أيضا، وفي كل مرة أتصفح فيها هذا الكتاب الثمين وأصل إلى الصفحة 147، أشعر بتأثر عاطفي عميق حين أقرأ الحوار الشعري بين الشاعرة فْطيمة آل علي الظالمية وأخيها. والقصة باختصار؛ إن أخاها ذهب الى القتال مع ابنها في معركة جسر السوير ضد العدو البريطاني في ثورة العشرين 1920، ولكن الخال عاد ولم يعد معه ابن اخته فطيمة وحين سألته عن ابنها قال لها شعرا:

* چن لا هزيتِ وْلوليتِ.

أي: وكأنك لم تهزي مهده وناغيتيه طفلاً أي إنه قد استشهد في المعركة!

فردت الشاعرة عليه قائلة: هزيت ولوليت لهذا!

وبعد، ما الذي فعله ساسة الطوائف والعرقيات الفاسدون من حلفاء الاحتلال الأميركي بمجتمعنا حين دفعوا به إلى دهاليز التخلف والظلام والوحشية التخندق الطائفي، حتى لم يعد الكثيرون يهتمون بانتهاك سيادة بلادهم واستقلاله ولسرقة ثرواتهم نهارا جهارا؟!

***

علاء اللامي

بين دفتي هذا الكتاب مجموعة من النصوص المتنوعة، والتي تتحدث في قسم منها عن العديد من الشخصيات التي كنت قد التقيتها في أزمنة وأماكن مختلفة ومتباعدة، وأقمت وإياها أطور العلاقات وأجملها بل وأكثرها حميمية. وكان من بينها مَنْ رافقني مرحلتي الطفولة والصبا وحتى المراهقة. أو كنت وإياها قد إشتركنا فيما بعد بذات الهَمِّ والإنتماء السياسي، والتي على أثرها بتنا على تناغم وتوافق كبيرين في العديد من القضايا، كتقارب الأفكار ووجهات النظر وقراءة الأحداث كذلك، وبقينا على هذا النحو ولفترة زمنية ليست بالقصيرة. ولولا بعض المنعطفات والمتغيرات الخطرة التي فُرضَت علينا من قبل مَنْ يتحكم بزمام الأمور في بلادنا ويبسط سيطرته عليها آنذاك ومن خلال إتباعه لسياسة البطش الشديدة القسوة، والحديث هنا عن حقبة السبعينات السيئة الصيت والسمعة، والتي تسببت في إغترابنا وتشتتنا المبكر وعلى مختلف بقاع الأرض. ولولا رحيل البعض منّا أيضاً الى العالم الآخر، لكنّا حتى اللحظة وعلى ما أكاد أجزمُ على وفاق وتواصل دائمين.

 فهي إذن (أي هذه الشخصيات) وإذا كان لنا من إشارة أو تذكير بها أو تلميح عنها، فهي وبشكل من الأشكال وبحسب ما خَرجتُ به من إنطباعات وتصورات، وبعد توقف ليس بالقصير عند بعض تفاصيلها، ولعلي سأكون منصفا لها في تقييمي هذا أو آملاً ذلك، أقول وبثقة عالية، قد نَجَحَت في أن تترك وراءها أثراً وإرثاً بيناً ومشرفاً ولعديد الأسباب، ربما يكون من بينها ما أنتجته عقولهم وأياديهن من أعمال أدبية وفنية رائعة، أو لمواقفها السياسية المشهود بها أيضاً، وفي ظل ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد، أو كذلك لدعابتها وطرافتها، أو لعفويتها وطيبة فطرتها.

 وإذا ما أردنا الغوص أكثر في التفاصيل فسنجد من بين هذه الباقة والتي أفضل أن أصفها بالعطرة، الرسام والشاعر والسياسي والمثقف الشامل والنوعي، وكذلك الشخصية الإجتماعية المؤثرة في وسطها. لذا ولكل هذه الأسباب، ولأنها لاقت من الرضا والإستحسان ما يشار اليه ويشاد به من قبل مَنْ كان برفقتها وعايشها، أو كان قد سمع بها أو إطّلع على منجزها في فترات لاحقة، سيؤدي كل ذلك وبالنتيجة الى أن يُفتح الباب واسعاً رحباً لمن سيأتي من بعدها، لتكون هذه الشخصيات وما خرجَت به من أعمال، نموذجا مشرفاً وقدوةً حسنة، يمكن الإحتذاء بها والسير على خطاها.

 وكي لا يفوتني، فلا باس من الإشارة هنا الى أنَّ هناك من بين هذه الشخصيات، والتي ورد ذكرها في هذا الكتاب، قد إستطاعت التسلل من بين بعض الأعمال الروائية التي كنت قد أصدرتها في أوقات سابقة، وَنجَحَتْ في أن تشق لها طريقاً مستقلاً وبدرجة ما، ولتتمكن بالتالي من إثبات حضورها. ولأعترف هنا وبصراحة القول وتعليقا على ذلك، فقد وجدت نفسي عاجزاً وفي بعض المنعطفات عن اللحاق بها أو الحدِّ من جموحها وألقها. لكننا وفي نهاية الأمر وفي مبادرة من كلينا فقد إرتأينا الجلوس سوية وفتح باب التفاهم مشرعاً فيما بيننا، وذلك نزولا عند إشتراطات السرد، وهذا ما تحقق فعلاً، وليخرج النص على النحو الذي سيستجيب ويتناغم والسياقات المرسومة له.

 ومن بين ما ضمَّ هذا الكتاب أيضاً عددا من الأماكن التي كنت قد مررت بها خلال مسيرة حياتي، وبشكل خاص أثناء سنوات الغربة، والتي بلغت مستوى زادت فيه عن تلك الفترة التي كنت قد قضيتها بين جناحي وطني الأم. وإذا كان لي من رأي ومن ملاحظات، كنت قد خرجت به وكحصيلة لذلك السفر الإضطراري، فيمكن القول بأن بعض محطات هذا الإغتراب، كانت بمثابة ما يمكن تسميته بأماكن إستراحة وفاتحة لإعادة النظر في العديد من القضايا والمواقف وعلى مختلف المستويات، والتي سيأتي في مقدمتها الشقَّين، السياسي والفكري، والتي كنّا نعتبرها والى الأمس القريب ثوابتاً لا يمكن المساس بها بل ولا حتى الإقتراب منها وبأي شكل من الأشكال، ففي ذلك ما يعدّه البعض مروقا وخروجا عن بيت الطاعة والملة، والتي قد تؤدي الى غضب الآلهة والباب العالي من بعده.

 وكي لا تذهبوا بعيدا أو تسيؤا الظن، وفي ضوء وعلى وفق ما تعلمناها من كبار القوم وما كنّا نردده أيام الصبا والسنوات الأولى لإنتماءتنا السياسية المختلفة: فإنَّ شجرة الحياة دائمة الخضرة، وبها من العطاء ما يستلزم الإنتباه اليها والأخذ بدروسها وعِبرها. أمّا النظرية، ولا زال القول لمطلقها، فهي رمادية اللون يا صاحبي. لنأخذ إذاً بتلك الوصايا والتي وعلى ما أجزم لا زالت صالحة للتعاطي، على الرغم من مرور عقود عديدة على إطلاقها وربما بلغت المائة عام أو تجاوزته ببضع سنين.

 أخيرا وإذا كان لي من إشارة أحسبها على أهمية كبيرة في هذا الكتاب، فأقول بأن خير مفتتح له وبداية، هي تلك المقالة التي حَمَلَت العنوان التالي: سفرة إفتراضية الى زمان ومكان، كانا قد قضيا قسراً، والتي كنت قد كتبتها ونشرتها في العديد من المواقع الألكترونية، وكذلك في إحدى الصحف السويدية الناطقة بالعربية، وذلك قبل سنوات بعيدة خلت، وهي تتحدث عن مدينتي التي أحببتها ولا زلت. ولا بأس من التذكير أيضاً بأن هذا الكتاب الذي بين أيديكم، قد ضم بعضا من رموز مدينتي ودرابينها ومقاهيها ونهريها الخالدين، والتي ستظل عالقة في ذاكرتي ما حييت وأينما يَممتُ وجهي وطالت غربتي، فإليها أهدي هذا الجهد المتواضع، وسلام لها ولأهليها، والرحمة والغفران لمن غادرها وعزَّ علي لقاءها قبل الرحيل الى عالم الأبدية.

***

حاتم جعفر

السويد ـــ مالمو

.......................

* "في حاضرة النص" هو عنوان الكتاب الذي أصدرناه مؤخراً، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات، تتحدث عن الصحبة والمكان والحنين الى الماضي، وتعريفاً بالكتاب للقارئ الكريم فها نحن ننشر ما جاء في مقدمته. 

 

عندما أكتب عن "ثورة الزنج" أو غيره في حال دعتني نفسي الأمّارة... فأنا لا أكتب نقدًا للكتاب، فلست مختصًا في هذا المجال، وأدواتي قاصرة عن القيام بهذه المهمة، وفي الوقت نفسه فأنا لا أقدم تلخيصًا للكتاب أو ما يعرف بـ عرض الكتب، فغروري لا يسمح لي بذلك، إنما أعرض قراءتي الشخصية للكتاب، وكيف فهمت مغازيه، ومدى تأثيره في قناعاتي ووعيي، بالتالي فإنَّ الملام عن الشطط هو أنا وليس المؤلف...

 الكتاب هو بالأصل رسالة تقدّم بها الدكتور فيصل السامر للحصول على درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1950، والتي حصل منها على شهادة الدكتوراة لاحقًا، وكان بعنوان "حركة الزنج".

عن العبودية ومحنة الإسلام الأخلاقية:

بعد أنْ استعرض عمنا السامر تاريخ نشأة الرق والعبودية، وبيّن أنها ظاهرة عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور، فقد كان القوي في روما القديمة يلزم الأضعف منه بالعمل لمصلحته ولحسابه، والمنتصر في الحروب يسترق الأسرى لينتفع بهم.

وعندما ظهر الإسلام في بلاد العرب، كانت الحروب هي المصدر الأساس للرقيق، فإذا انتصر المسلمون على جيش معادٍ أو فتحوا بلدًا من البلدان عنوةً بعد مقاومة عمدوا إلى استرقاق الأسرى بصفتهم غنائم حرب، فالقرآن قد جوّز لهم ضرب رقاب الكفار أو استرقاقهم أو مفاداتهم أو المن عليهم بحريتهم.

وكانوا بأعداد كبيرة حتى بيع الواحد منهم بدرهم، وكان يتم توزيعهم على الجند بعد خصم الخمس حصة الدولة، وهذا يسنده نص قرآني ...

ومن ثم ظهر مصدر آخر عدا العمليات الحربية للرقيق، وهو ما تسدده الدول المغلوبة من ضرائب للمسلمين، وفي هذه الحالة يستخدم العبيد بدلًا من العملة في تسوية تلك الديون، أما المصدر الأخير فهو شراء العبيد من قبل الأفراد.

علمًا أنّ الرقيق لم ينحصر بذوي البشرة السوداء بل البيض أيضًا.

ومن جرّاء التطور الاقتصادي في العالم الإسلامي، ظهر شكل آخر من الرقيق اسمه النخاسة، وهو مخالف للشريعة الإسلامية بوضوح وصراحة، ففي هذه المرة قام الأثرياء بشراء أعداد هائلة سخروا للعمل في إقطاعيات الأثرياء والمتنفذين الزراعية.

ولم ينحصر الأمر بجواز استرقاق البشر ورسم طريقة توزيعهم كغنائم؛ بل إنّ الشريعة الإسلامية ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقالت إنَّ العبد جزء من متاع سيده أو ثروته سواء كان قد آل إليه بالشراء أو الإرث أو الهبة، وبإمكانه أنْ ينقل العبد بوصفه جزءًا من ثروته إلى غيره بالوسائل ذاتها، فيمكن أنْ يبيعه أو يرهنه أو يهبه أو يوصي به كجزء من تركته. والعبد إذا أذنب يضرب بنصف ما يضرب به الحر، والعبد يمكن أنْ يتزوج أمَه، والأمه بإمكانها الزواج برجل حر أو عبد لكن أولادها يكونون عبيدًا لسيدها. وحتى في حالة عتق السيد لعبده، فإنَّ السيد يبقى هو الوصي الطبيعي على عبده وذريته، وللسيد أنْ يأخذ ما تركه عبده المعتق من ثروة في حال عدم وجود وارث له.

تلك النصوص تقابلها قيم أخرى زخر بها القرآن وتوصيات النبي –صلى الله عليه وسلم-من بينها:

إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس متساوون كأسنان المشط، وقيمة ‏كل امرئ ما يحسنه فأعلاهم قيمة وأرفعهم منزلة في نفوس ‏الناس أعظمهم كمالًا...‏

وفيه من الحث على الإحسان بالعبيد نصوص كثيرة، فقد حثّ القرآن على تحرير العبيد والإحسان إليهم كعمل من أعمال التقوى يثاب عليها المرء، وأوصى النبي –صلى الله عليه وسلم-بالعبيد خيرًا في مواضع كثيرة حتى إنه قال: "ولقد أوصاني حبيبي جبرائيل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أنَّ الناس لا تستعبد ولا تستخدم".

ولكن القرآن لم يحرم العبودية ...! مثلما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ...

وهذا نصف بيت القصيد.

 أما النصف الآخر، ففساد المسلمين، فهم لم يأبهوا بوصايا القرآن ولا بوصايا النبي في موقفهم من العبودية والعبيد، فبدلًا من الإحسان إليهم وتحريرهم طوعًا وقربة لله أوغلوا في قسوتهم معهم وراحوا يبتكرون صيغًا للعبودية أشد وأنكى، ورغم أفول عصر العبودية فإنَّ الازدواجية في ثقافة العراقيين والمسلمين عمومًا في قضية العبودية مبكية مضحكة، وإلى يومنا هذا، وتتراوح بين رفض العبودة والتمسك بها وبين بين "وهذه البين بين أنهم عندما يذكرون ذي البشرة السوداء يسمونه عبدًا إلا أنهم يردفون ذلك بقولهم: كلنا عبيد لله، وهم في هذا يحاولون أنْ يجبوا تجاوزهم على الإنسان بذكر حالة معروفة ومقرّه من قبل غالبية الناس وهي إقرار العبودية لله...! وسأسوق لذلك أمثلة من الزمن القريب:

- يذكر أحد التربويين المتقاعدين في البصرة أنه وفي أواخر الخمسينيات وكان حديث عهد بوظيفته مُعلمًا، زار أحد الإقطاعيين المتنفذين مديرية التربية في المحافظة التابعة لوزارة المعارف، وعرض على مديرها أنْ تؤسس الحكومة في قريته مدرسة، ويقوم المدير بتخصيص معلم أو عدد منهم للتدريس فيها، مقابل أنْ يقوم الشيخ الإقطاعي بتحمل تكاليف بناء المدرسة من القصب والبواري "مفردها بارية تحاك من سعف النخيل"، إلى جانب قيامه باستضافة المعلمين في مضيفه والتكفل بما يلزمهم من الأكل والشرب والسكن فيه.

وافق مدير المعارف، وتمّ نقل أحد المعلمين إلى المدرسة المذكورة وتكليفه بفتح الصف الأول فيها، على أنْ يعزز بآخرين بحلول العام القادم عندما يحين قبول تلاميذ جدد وفتح صف لهم إلى جانب زملائهم القدامى الذين يتحولون إلى المرحلة الثانية...وهكذا كان.

تمّ تسجيل ابن الإقطاعي بوصفه التسلسل رقم واحد، وسجلوا معه طفلًا مماثلًا له بالعمر، لكن بشرته سوداء، تبيّن أنه ابن العبد الذي كان يستخدمه الإقطاعي لخدمته، إلا أنه ومن مجريات الأمور تبيّن لاحقًا أنَّ ابن الشيخ الإقطاعي كان غبيًا ولا يحفظ الدرس على خلاف زميله الزنجي ذي البشرة السوداء، وهو العبد "الزغيّر"، وكعادة المعلمين في حينه عمد الأستاذ إلى خيزرانته وأشبع التلميذ الكسول ابن الشيخ الإقطاعي ضربًا، في حين كتب تقييمًا جميلًا في دفتر الزنجي الصغير عبد التلميذ الكسول، ووضع له علامة 10% مع عبارة أحسنت يا بطل...! وانتهى الدوام وعاد التلاميذ إلى أهاليهم وبينهم ابن الشيخ مولولًا باكيًا. وحكى الحكاية لأمه حرم الشيخ الإقطاعي فشق عليها ذلك، فما كان منها إلا وتندفع في صولة عزوم باتجاه المضيف قاصدة المعلم... وهي المصون المحجبة الخدر التي لا يرى الجن طولها، ووقفت في باب المضيف تعنف المعلم: كيف تجرؤ لتضرب ابني... !؟

قال لها: ابنك كسول وأثول وما يحضر ولا يقرا دروسه ...

قالت: ولماذا لا تضرب العبيد الزغيرون بدلًا منه، چا احنا المن مودينه ويّاه...؟!

هل تقصدين أنه يتعين عليَّ معاقبة التلميذ الأسود الشاطر عوضًا عن ضرب ابنك الأثول الكسلان...؟ قال المعلم ذلك مستغربًا.

قالت: نعم، فهو عبده وأبوه عبد المحفوظ وأمه عبدتي...

قال: قسمًا لأهريّن جلد ابنك الأثول ما لم يحضر دروسه، والتفت على الشيخ قائلًا: أمش ورا المبچيك ولا تمشي ورا المضحكك...! فهز الشيخ الحكيم رأسه موافقًا وهو يقول بصوت خفيض: عقل كل 40 مرة بچعب دجاجه...!

مرّت السنون وانتهى الحال بابن الشيخ شيخًا إقطاعيًا جلف، في حين تسنم عبده الزغيرون ابن عبد أبيه وعبدة أمه إدارة كَمارك المنطقة الجنوبية، وصار ممن يشار إليهم بالبنان.

- أما أم خلف وهي أم شيخ وأرملة شيخ وعمرها بلغ التسعين لكنها لا تصلي، وهي فوق ذلك تدخن الغرشه "الناركَيله"... فقيل لها يومًا: يا أم خلف ...قولي بربك كيف ترجين الجنة، وقد بلغ العمر بك عتيًا وأنت لا تصلين...؟! ألا تخشين أنّ الملائكة لا يسمحون لك بدخولها...؟

ردت عليهم بتأفف: هع... والله أروح أنصب غرشتي بالجنة وأكَعد ...وأريد أشوف من يمنعني، آنا أم خلف والله، لهناه وصلت...؟!

- أما عن أخونا أبو حسن وهو ابن قريبنا الثري صاحب الأغنام الذي اشترى لعروسته سكاربيل بيوم عرسها، فأنجبت له غلامًا وكبر فصار السركال أبو حسن الذي يجتمع في مضيفه وجوه قومه، فقد حصل يومًا أنْ كان في مضيفه يحيط به ربعه وجيرانه، وكان يومها منزعجًا متكدرًا بعد أنْ بلغه أنّ أحدهم تقدم لخطبة إحدى قريباته فرد عليه أبوها قائلًا: الله كريم، مما يعني أنه موافق عليه مبدئيًا في حين تبيّن أنّ الخاطب حايّچ...! "يعني كان عمله حائكًا...!".

بعد إحجام أبو حسن عن الكلام صاح متبرمًا: احنا ما عدنا نسوان ننطيهم للحيّاچ...! واللي ينطي بنته لحايچ نكسر العصا وياه وننفيه وننعل أمه وأبوه ... واستمر أبو حسن في ثورته ينكل بالحيّاچ ونزل عليهم دوسه...ولكن في هذه الأثناء همس بأذنه جاره الجنب في المجلس الذي يجلس بجواره قائلًا: أبو حسن ترا جارنا أبو عباس الكَاعد كَبالك همين حايّچ وفشله منه أنت نزلت على الحيّاچ حدره...! تفاجأ أبو حسن وأحس بالإحراج فأطرق برأسه هنيهة ثم رفعه، وقال بصوت مسموع: كلنا حيّاچ لله...!!!

أرأيتم ...؟

تلك هي آثار المحنة الأخلاقية التي خلفها تناقض الثقافة الدينية في قضية العبودية... فهم من ناحية يروون أنَّ لونه الأسود يجعل من الإنسان ليس أدنى منهم فقط؛ بل عبدًا يؤنف منه، ومن ناحية أخرى يتذكرون قضية كلكم من آدم وآدم من تراب، وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم... فعالجوا الأمر من خلال تسميته عبد وفي اللحظة ذاتها يجب على مَن ينطق ذلك أنْ يضيف لها ويردد معه السامعون: كلنا عبيد لله ... لتتوسع الصفة لتشمل حيّاچ الله وعملاء الله وفاشينستات الله... وغير ذلك من الصفات يحسبون أنهم بمجرد أنْ يخرجوا الحالة من الاستثناء إلى التعميم يذهب الله عنها الرجس فتكون مقبولة ... لكن شتان بين أنْ يكون المرء عبدًا لله، وبين أنْ يكون عبدًا لجنسه من البشر وهي قسمة ضيزى إذن...

ولكن عندما تتفاعل الأركان الثلاثة: الكاتب الجيد، والكتاب الجيد، والقارئ الجيد تكون المحصلة قراءة مختلفة، ووعي مختلف عبّرتُ عنه شخصيًا قبل 5 سنوات بانتقادي لرئيس الحكومة فكتبت:

 القيم نوعان: منها أصيلة ومنها طارئة، الأصيلة هي التي ‏تمكث في الأرض، أما الطارئة فتذهب جفاءً...‏

في رأس قائمة القيم الأصيلة أنّ العبودية لله وحده، وفي ‏رأس قائمة القيم الطارئة التي تذهب جفاءً قضية السيد ‏والعبد؛ لأنها لا تشكل فقط عدوانًا على الإنسان إنما شرك ‏بالله وعدوانًا عليه، وسلب لصفة اختصّ بها لنفسه...‏

وإذا كان البعض يدعي أنّ الشرك والتوحيد قضية بين ‏الإنسان وبين ربه، فإنّ الإنسان الحر لن يتنازل عن ‏كينونته للآخرين ويقر لهم بالعبودية... وكل ادعاء بتسيّد ‏الإنسان على الإنسان تحت أي مبرر أو حجة باطل سواء ‏كان تحت لافتة الحسب أو تحت لافتة النسب، فلا دم نقي ‏ودم وسخ، فكل الدماء قوامها أربع: كريات حمراء وأخرى بيضاء، وأقراص دموية، وهيموغلوبين... بدلًا من ذلك يوجد الاحترام، فمن الناس ‏محترمون، ومنهم غير محترمين، والمصدر الوحيد لهاته أو ‏تلك هو العمل والسلوك الشخصي... وليس غير ذلك وإليكم ‏الحجج: إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس متساوون كأسنان المشط، وقيمة ‏كل امرئ ما يحسنه فأعلاهم قيمة وأرفعهم منزلة في نفوس ‏الناس أعظمهم كمالًا...‏ وحتى الأيديولوجيات لا دخل لها فلا يقيّم ‏المرء على وفق أيديولوجيته وإنما بسلوكه... وأيضًا لا ‏بصلاتهم وصيامهم وتهجدهم بالليل والأسحار وإنما بصدق ‏الحديث وأداء الأمانة...‏

أخونا "....."من جماعة القيم الطارئة الذين ‏تسيدوا على الناس في حقبة الإقطاع ولأنها قيم طارئة ‏سحقتها ثورة 14 تموز 1958، وسعيًا منه وأترابه لاستعادتها ‏سارعوا ليكونوا في رأس نفيضة البعثيين، وفي أوسخ المواقع، ‏وهي الحرس القومي، بعد ذلك صار ماويًّا ومن ثم إسلاميًا ‏لكن العبرة ليست بالأيدولوجيات إنما بالسلوك، فعندما ‏سنحت نسى حقوق الناس ونسى موجبات وظيفته، ‏وتمسّك بالسعي لمحاولة استعادة القيم الطارئة، فأساء في ‏أكثر من مرة لمن خرج عليها... وسعى لتأسيس الإقليم ‏الشيعي، وسكت عن قتل المتظاهرين في وقت كانت أوامر ‏قتلهم تصدر من مكتبه كما قال ذلك رفيق كفاحه "....."، وبدلًا من أنْ يضع طروحاته النظرية في مجال ‏الاقتصاد موضع التنفيذ وضع نفط الشعب وأموال الشعب ‏عربونًا لكسب الرضا تارة لشريكه المحاصصي، وأخرى للأردن...‏

أمس تابعت لقاء العراقية مع د. عبد الحسين شعبان الرجل ‏النجفي الشيوعي سابقًا واليساري حاليًا، وقد عدد بالأسماء ‏عوائل النجف، فقال: إنّ عائلة آل الحكيم عدد كبير منهم ‏كانوا شيوعيين، ومنهم حتى نسوان، عائلة الرفيعي "كيلدارية ‏الحضره" آل سميسم آل بحر العلوم ...آل، آل...‏

بعض هذه العوائل ما زال الطابع العام الذي يطبع أغلب ‏أفرادها هو نفسه، وبعضها تخلت عن ذلك وبات بعض ‏أفرادها يرون في كشفه فضيحة...لا أيها السادة، فالمتبنيات ‏والأيديولوجيات لا تعيب المرء، وهم كرام ما داموا يحترمون ‏القيم الأصيلة في سلوكهم، ولكن العيب كل العيب هو في ‏التمسك بما يذهب جفاءً من القيم، وإذا كنا لا ندري نوع ‏العقوبة التي يعاقب الله عزّ وجل بها المتطاولين على ‏ربوبيته والساعين لاستعباد الإنسان تحت مسميات شتى، ‏فنحن نعرف العقوبة في الدنيا وأكثرها قسوة ليس الموت أو ‏القتل أو السحل فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ كما أنبأتنا بذلك خالتنا أسماء بنت أبي بكر، إنما الازدراء في دار ‏الدنيا...نعم الازدراء في الدنيا أقسى من الموت ‏والسحل...وهذا ما أكدته سورية حسين في أغنيتها التي ‏تقول: "حزن اليموت أسبوع وحزن العدل دوم...‏يا ماخذات الولف وليفي وأريد وياه...ما أنام ليل الشتا...ولا أكَدر على فركَاه."

أنا هكذا أقرأ الكتب وكتاب ثورة الزنج لحبيبنا الدكتور فيصل السّامر بالذات، وما سطرته من قناعات في هذه السطور إنما يتعلق بالقضية الأولى التي ناقشها في كتابه ثورة الزنج -وهناك قضايا أخر -كما تعامل معها وعيي وكما أثرت فيه ليوظفها في معركته الثقافية، وليس أنْ أستغرق في الأبواب والفصول والحواشي والمصادر فأنا رجل قد خلفت العليجة المصنوعة من شعر الماعز في بطن فخذيه ندوبًا...

 ***

د. موسى فرج

 

للكاتب المسرحي تنيسي وليامز

ترجمة: محمد سهيل احمد

***

* إلى أي مدى يمكن للكاتب ان يقترب من شخوصه التي يبتكرها ومن ثم يقذف بها إلى أضواء المسرح شديدة السطوع ؟ لكي نخترق قشرة هذا الأثر المسرحي الفذ الذي كتبه تنيسي وليامز؛لابد من الاتكاء على أكثر من مرجعية أولها طبيعة الحياة التي عاشها الكاتب المسرحي العالمي تنيسي وليامز مرغما أو باختياره الشخصي. ودرجة تأثيرها عليه حياتيا وإبداعيا، وثانيهما نمط المخزون الإبداعي للكاتب فقد كان وليامز شاعرا وكاتبا قصصيا له اكثر من مجموعة في كلا الحقلين قبل ان يصبح كاتبا. ان (سيباستيان) الشخصية المحورية في مسرحية تنيسي وليامز (فجأة في الصيف الماضي) التي انجزها كتابيا عام 1957 هي واحدة من اكثر الشخصيات اقترابا من الكاتب، ومن هنا تبدو الإحاطة بطبيعة حياة تنيسي وليامز المبكرة ذات أهمية بالغة في فهم مجرياتها التي شغلت ما يزيد عن التسعين صفحة من القطع المتوسط عبرمشهد وحيد مؤلف من أربعة فصول طويلة متعاقبة.

لقد عرضت مسرحية (فجأة في الصيف الماضي Suddenly Last Summer) جنبا الى جنب مسرحية (المسكوت عنه Something Unspoken) تحت عنوان جمعهما معا هو(جاردن دستركتGarden District) على مسرح نيويورك الكائن في الجادة الاولى بنيويورك في السابع من يناير 1958. كما ان صيت تنيسي وليامز قد ذاع خاصة بعد ان قدم للمسرح الأمريكي والعالمي في آن معا وبالذات في حقبة الأربعينيات عددا من الأعمال المسرحية الخالدة مثل (عربة اسمها الرغبة) وغيرها، ما حدا بهوليوود للتعاقد معه أكثر من مرة، وهكذا تحول نص (فجأة في الصيف الماضي) الى فيلم سينمائي من إخراج (جوزيف.ل.مانكويتز) ومن بطولة كل من اليزابيث تايلور وكاترين هيبورن ومونتغمري كليفت.

البواكير

ولد توماس لانييه وليامز   Thomas Lanier Wliliams في السادس من آذار 1911في مدينة كولومبس احدى المدن المطلة على المسيسيبي. وترعرع في كنف جده لأمه وكان رجل دين كنسيا متحدرا من اصول ويلزية (نسبة إلى ويلز بانجلترا). اما أبوه كورنيليوس وليامز فقد عمل بائعا متجولا وكان معروفا عنه نهمه الشديد للكحول. وكان الأب في الحقيقة يميل لـ (داكن) شقيق توماس الاصغر بسبب هشاشة تكوين توماس الروحي الذي غلب عليه الجانب الأنثوي. وسيكون لذلك (الاختلال) السايكولوجي آثاره الباهظة على حياة توماس وبالتالي على كتاباته الابداعية مسرحا وشعرا وسردا قصصيا؛ سلبا وإيجابا. وكانت والدته وشقيقته،كلتاهما، تعانيان من نوبات من الهستيريا قادتهما إلى المصحات العقلية.

هذه التشابكات حدت بتوماس إلى اتخاذ الكتابة ملاذا يهرب اليه من مشاكله الأسرية المتفاقمة. وفي السادسة عشرة من عمره نال وليامز، اثر انتقال الأسرة إلى المدينة الجامعية في (ميسوري)، جائزة قدرها خمسة دولارات نظير مقالة كتبها آنذاك حملت عنوان (أيمكن لزوجة صالحة ان تصبح رياضية صالحة؟). عبر تلك المحاولة انتقل إلى عالم الكتابة حتى آخر لحظات حياته. وفي تلك الفترة اتخذ توماس لنفسه اسما آخر هو (تنيسي وليامز Tennnessee Williams) الذي عرف به فيما بعد. وكانت مسرحيته الاولى (عاصفة الربيع) بداية رحلة طويلة شاقة في عالم المسرح قدم بعدها للمسرح الامريكي والعالمي مسرحيات ستفضي به لأن يصبح واحدا من رواد المسرح العالمي وواحدا من أضلاع مربع أثرت المسرح الأمريكي المعاصر هم (يوجين أونيل)، (آرثر ميلر)،(نورمان ميلر) و(تنيسي وليامز) الذي اثرى المشهد المسرحي العالمي بنصوص مثل (هبوط اورفيوس)، (عربة اسمها الرغبة)، (قطة على سطح صفيح ساخن)، (وشم الوردة)، (ليلة الاغوانا)، و(فجأة في الصيف الماضي) وغيرها.

سيباستيان

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا اختار وليامز اسم سيباستيان لشخصية المسرحية المحورية الغائبة الحاضرة في نصه المسرحي الذي يقطر بكل ما هو غنائي وشاعري ومفزع؟

في الأساطير الرومانية ولد سيباستيان في كنف اسرة ثرية اعتنقت المذهب المسيحي ابان القرن الثالث. وكان سيباستيان الفتى الجميل من المفضلين لدى الامبراطور الروماني (ديوكليتيان) حتى انه عينه قائدا للحرس الامبراطوري في الجيش الروماني غير ان اعتناقه الدين المسيحي سرا ألّب عليه الوسط الذي كان يعيش فيه فقدم للمحاكمة وحكم عليه بأن يقتل بسهام الجنود بعد توثيقه إلى جذع شجرة. وشأنه شأن جان دارك ــ مع الفارق طبعا ــ يتحول سيباستيان إلى قديس. وسرعان ما يسطع اسمه ابان عصر النهضة فما من رسام لم يرسم ولو لوحة واحدة للقديس سيباستيان.

وجنبا إلى جنب ذلك التأثير العرفاني الايقوني لفكرة القداسة، يروى ايضا ان الامبراطور ديوكليتيان اتخذ من سيباستيان معشوقا له. ومن تلك الحكاية اقترن اسم سيباستيان بالشذوذ الجنسي، وهو تأثير سيظل طاغيا حتى عصرنا الحديث ليمسي اسم سيباستيان معبود الرسامين المثليين. والواقع ان اختيار وليامز لهذا الاسم ينم عن براعة تقنية. ان عددا كبيرا من اللوحات تصور السهام المغروزة في جسد سيباستيان كرمز للأعضاء الجنسية المسددة نحو جسد سيباستيان الانثوي المترف، وهو توظيف يعكس وعي الكاتب العالي بأدواته البلاغية. ويمكن القول ايضا ان جرعات الشعر يمكن ملاحظتها كأغزر ما تكون في مسرحيتي وليامز (هبوط اورفيوس) و(فجأة في الصيف الماضي) ؛ ما يعكس روحا متوهجة بالغنائية والإيقاع والشاعرية وهي سمات غير منتشرة في عموم الأدب الامريكي. قد نجدها في فوكنر مثلا الذي بدأ حياته شاعرا عبر ديوانه المبكر (آله الحقول الرخامي) لكننا قلما نعثر على الغنائية لدى همنغواي او شتاينبك او آخرين.

لا يتجادل اثنان في درجة التشابه السايكولوجي الكائنة بين شخصية الكاتب تنيسي وليامز وسيباستيان. لا ننسى في هذا المضمار العلاقة الشاذة بين الكاتب وفرانك ميرلو، وهو شخص صقلي الأصل عمل في البحرية الامريكية ردحا من الزمن وكان واحدا من أصدقاء الكاتب. في مذكراته التي بدأ وليامز بكتابتها بين عامي 1972 و1975 يكرر وليامز جملة " ان المسرحيات تتحدث عن نفسها ". ويقول ايضا " ان كل العلاقات الحميمة تتحول لاحقا إلى قصائد جميلة ". ولو عدنا إلى الصفحة 12 من (فجأة في الصيف الماضي) سنلتقي بالحوار التالي للسيدة (فينبل) أم سيباستيان:

" كلا.. ما زلت لا تفهم شيئا، ولكن قبل ان انتهي ستفهم.. سيباستيان كان شاعرا ! ما قصدته بقولي ان حياته كانت مهنته ذلك لأن مهنة الشاعر هي حياة الشاعر.. "

افكار من هذه؟ السيدة فينبل ام تينيسي وليامز؟

لا يبدو الفارق شديد الأهمية. فقد تختلف الأوعية لكن المحتويات تتشابه. لقد سئل وليامز ذات مرة عن معنى ان يكون المرء كاتبا فأجاب قائلا:

" أنْ تكون كاتبا يعني ان تكون حرا.. وان تكون حرا يعني ان تنجز حياتك ".

رحل تنيسي وليامز في الرابع والعشرين من شباط 1983 حين غص بغطاء لقطرة عين انحشر في قصبته الهوائية، وتقول رواية اخرى استنادا على تقرير الشرطة انه مات بسبب ادمانه على الممنوعات. وثمة رواية ثالثة تحدثت عن اصابته بسرطان الثدي، وهو داء قلما اصيب به الذكور !

لكن هل يموت الكاتب حقا ؟ الاجابة تكمن في ما تركه من أرث ابداعي سيظل يترك بصمته على جمهور المتلقين والمشاهدين لأجيال، وربما لقرون.

***

 

- دراسة تأريخ الأفكار والآراء، تشكّل القاعدة الأولية الضرورية لتحرير العقل

- (ليس صعباً أن تأتي بأفكار جديدة، بل الصعب هو أن تتخلص من الأفكار القديمة)... جون مينرد كنز

(كل تطور أو ابتكار يبدأ مع فكرة. والفكرة قد تكون أو لا تكون! ولكن حين تبدأ الفكرة صغيرة ينبغي أن تلقى الرعاية والتنمية، وربما التعديل أو التحوير ثم التنفيذ والاختبار وإعادة التنفيذ والاختبار لحين أن تصبح قابلة للتطبيق وجاهزة لأن تعطي ثمارها وتثبت قيمتها)... جون ألان روبنسن

***

لم تأت النظرية، أية نظرية، من الفراغ. انما تجد مبررات وجودها في الواقع المعاش، فتنشأ وتتطور في صلبه. فهي وليدة الحاجة للتعامل مع متطلبات العلم والموارد الاقتصادية والمتغيرات الاجتماعية، في غمرة كفاح الانسان الدائب من اجل البقاء والسعي نحو العيش الأفضل. ولأن النظرية عبارة عن مجموعة أفكار وفرضيات خاضعة للاختبار والتطبيق، فان نتائجها في الواقع ستخضع لا محالة الى التغيير والتنقيح والتعديل من أجل الوصول الى الموائمة الأمثل بينها وبين الواقع الملموس. وبالتأكيد فإنها ستتعرض الى الانتقاد، وربما الرفض. وقد تقاوم وتحيا، او تذوي وتموت. وهذا النوع من الصراع الفكري، الصامت في اغلب الأحيان، هو الذي يبرر استمرارها ويضمن تطورها ويؤدي الى تعدد الفلسفات والتوجهات التي تقود المشتغلين بها. فلا بد، إذاً، ان يستجيب تطور النظرية الاقتصادية لتأثير الاهتمامات، الفردية والجمعية، بحاجات المجتمع. كما يستجيب غالبا للمنافع الاقتصادية لمن يمتلك اليد العليا في صياغة قوانين السياسة الاقتصادية وإقرارها، فيما إذا كانت تلك اليد المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا تشير الى طبقات اجتماعية ام أحزاب سياسية أم مجموعات تكنوقراطية لها نفوذ عال في أروقة الحكومة.

من نافلة القول، ان الأفكار التي تؤلف النظريات لا تأتي بوحي من السماء! بل هي بنات العقول. والعقول بنات الظروف والاحداث والتجارب الشخصية. ومن هنا يتجسد ارتباط الِسيَر الذاتية للمفكرين بطبيعة المساهمات ونوعيتها، التي يجودون بها في حقول الفكر الخاصة بهم. فتاريخ الفكر عموما وتاريخ النظرية بشكل خاص عبارة عن تراكم للأفكار الفردية والجماعية وتطورها بمرور الزمن بمواكبة الاحداث والظروف المختلفة، وبالتالي تحولها الى تراث فكري واضح المعالم يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والحقب الزمنية. دراسة دينامية تطور البحث، ليس في الاقتصاد فحسب انما في كل العلوم، من شأنه ان يعزز تجارب البحث الجارية والمستقبلية ويجعل من صياغة النظرية واثباتها وتطبيقها واختبارها وتعديلها اعلى كفاءة وأكثر نفعا.

وإذا كانت النظرية عبارة عن انعكاس للواقع بمتغيراته المختلفة فان هذا يستلزم استبعاد النظرة الفوقية التهكمية للنظرية باعتبارها ترف فكري وممارسة تجريدية منسلخة عن الواقع. ان ارتباطها بالواقع يتجسد عبر دورها في تزويدنا بالإطار العام لكيفية التعامل مع احداث الحياة ومتغيراتها المؤثرة الكثيرة. وهذا هو ما يساعدنا على تنمية الامكانية لغربلة البدائل وتقييمها واتخاذ القرارات الاصلح لحل المشاكل المختلفة التي تواجهنا كأفراد، وعوائل، ومؤسسات، وحكومات. سيبدو ذلك جليا حين نتأمل عددا من تلك المؤثرات في حياتنا مثل التطور العلمي والتقدم التكنولوجي، تغير الأسواق وحدوث الدورات الاقتصادية وفشل نظام السوق الحرة في تحقيق التوازن الاوتوماتيكي، انقلاب الأنظمة السياسية وتغير السلطات الحاكمة واتساع او انكماش حجم التدخل الحكومي والسيطرة على الموارد الاقتصادية، تغير ذوق المستهلك ودوره في النشاط الاقتصادي، تطور الوعي الجمعي وانبثاق حركات التحرر والاستقلال سواء على المستوى الجماهيري او مستوى الفرد والعائلة، دخول المرأة لميدان العمل وتحررها اجتماعيا وثقافيا، ازدياد تداخل الفروع العلمية فيما بينها وولادة فروع وحقول جديدة، تطوير المعالجات التكنيكية ونشوء بناء النماذج الرياضية، وأخيرا انفجار إمكانات الكومپیوتر والذكاء الاصطناعي. كل تلك المتغيرات في واقع الحياة تؤثر وتتأثر بالنظرية وتطورها في دورة مستمرة لا نهاية لها.

من خلال تجربتي الطويلة في التدريس لاحظت ان طلاب الاقتصاد قد يسمعون بأسماء كثيرة في عالم التنظير الاقتصادي وهي تتدفق في سياق دروس النظرية وتاريخ الفكر الاقتصادي ودروس اخرى. لكنني أدركت ان الفرصة نادرا ما تسنح لهم لامتلاك المعرفة الكافية التي تمكنهم من الربط في الأفكار والوقوف على تطورها عبر الزمن، وهي موثقة مع تلك الأسماء بشكل واضح ومتسلسل. ولأن الفكرة الأساسية من هذا الكتاب هي تتبع مسيرة الكيفية التي توالت عبرها الأفكار وتطورت فيها النظرية الى ماهي عليه اليوم، فإنني آثرت ان يكون تسلسل الاقتصاديين ومساهماتهم عبر نسق متتابع زمنيا Chronological. وبذلك فقد تم ادراج أسماء تلك المجموعة المختارة منهم وفقا لتسلسل تواريخ ميلادهم. وبهذا نستطيع ان نرى بشكل واضح التغييرات وحالات التشابه والاختلافات في الأفكار الاقتصادية عبر الزمن، وخلال أربعة قرون، من القرن الثامن عشر والى القرن الواحد والعشرين. لقد آثر بعض كتّاب تاريخ الفكر الاقتصادي ان يتجه الى تقسيم ذلك التاريخ الفكري بموجب المدارس الاقتصادية. نرى ذلك مثلا عند الأستاذ نيهانز Niehans الذي بدأ بالمدرسة الكلاسيكية باعتبارها تشمل كل ما كان قبل 1830، ثم المدرسة الحدية من 1830 الى 1930، تليها مدرسة بناة النماذج الاقتصادية الممتدة الى ما بعد 1930. هناك تقسيم آخر يضع كارل ماركس كآخر الاقتصاديين في المدرسة الكلاسيكية، ثم المدرسة الحدية متمثلة بشكل متميز في ڤلراس وجڤنز ومنگر، يليهم النيوكلاسيكيون والرياضيون. وأخيرا المعاصرون ابتداءً من سامولسن. شخصياً، لم أجد في مثل هذه التقسيمات غير الغموض والتشويش وغياب المعيار الواضح، مما يضع القارئ في لعبة تخمين المدارس وحقبها الزمنية، ومن ينتمي الى هذه المدرسة، ومن ينتمي الى تلك؟ ولذلك فقد فضلت ان نتناول الأشخاص ومساهماتهم بغض النظر عن الانتماء وعن تسميات المدارس وتحديد حقبها الزمنية.

تطورت فكرة الكتاب في البدء عن مقالات تعريفية قصيرة اعددتها للقارئ الاعتيادي من اجل ان تُنشر في صحف النت. كانت تلك المقالات حول مجموعة مختارة من مشاهير الاقتصاديين الذين تركوا آثارا بليغة في الفكر الاقتصادي وما تبعها من تأثيرات في الواقع الاقتصادي للأفراد والشركات والدول. فمع العدد الهائل للاقتصاديين المؤثرين عبر التاريخ يصبح من المتعذر ان يلم أي كتاب بهم جميعا او حتى بأغلبيتهم. ولذا فإنني أرى ان حسنة الكتاب هي ليست بتقديم الجمع الغفير منهم، انما بحسن الاختيار وفقا لمساهماتهم الأساسية، ووفقا لما أصبح كإجماع بين الاقتصاديين تقريبا. وبذا اطمح ان يفضي هذا الاختيار الى اقل ما يمكن من اعتراضات القارئ المتوقعة مثل لماذا وضعت هذا واستبعدت ذاك؟

من المتوقع أن يتساءل البعض عن كيفية اختيار هؤلاء الاقتصاديين، ولماذا تحدد عددهم بأربعين فقط؟ الجواب السريع المطمئِن على هذا السؤال هو ان الاختيار لم يتم عشوائيا، بل جاء بشكل رئيسي لثلاثة أسباب:

- السبب الأول، هو اننا لو نظرنا الى الأفق الواسع لتطور الفكر الاقتصادي على مدى قرون، فلابد لنا ان نقف عند حدٍ ما لتأشير البداية والنهاية، اذ لا يمكن عمليا مناقشة كل التأريخ على امتداده. البداية هنا كانت مع آدم سمث باعتباره الاقتصادي الذي نال، وربما بالإجماع، لقب "أبو الاقتصاد"، رغم وجود أفكار اقتصادية قبله، لكنها لم تتشكل بمنظومة وسياق لتكوين حقل فكري واضح كما كان الحال مع ظهور كتاب سمث الموسوم "ثروة الأمم" المنشور عام 1776. أما النهاية فلم يكن تحديدها سهلا! وكان بالإمكان ان تبقى من الناحية النظرية مفتوحة، لكنني آثرت ان أنهي سلسلة اختياري عند جوزف ستگلتز، حيث يعتبره البعض آخر النيوكلاسيكيين اللامعين الذي لا يزال على قيد الحياة. وبالتأكيد فان هذا الخيار شخصي، وطبيعي ان يختلف معه أي مؤلف آخر.

- السبب الثاني هو المتعلق بالجانب التكنيكي او اللوجستي الذي يتلخص بالرغبة في انتاج كتاب يكون من ناحية شاملا بشكل معقول، ومن ناحية أخرى يكون بحجم مناسب لتتسنى تغطية مواده خلال فصل دراسي واحد. كانت النية في البداية اختيار خمسين اقتصاديا، وقد تقلص العدد فيما بعد الى أربعين لاعتبارات الحجم هذه.

- السبب الثالث هو ما وجدته يشير الى الاجماع او شبه الاجماع في الادب الاقتصادي على تلك المجموعة المختارة من الاقتصاديين الذين تمثل مساهماتهم محطات أساسية في مسيرة تطور النظرية الاقتصادية. أستطيع ان أقول اننا لو ألقينا نظرة على الكتب الاقتصادية ذات العلاقة بهذا الكتاب ككتب النظرية والفكر الاقتصادي وتاريخ الاقتصاد وكذلك الدراسات والمقالات المنفردة حول سِيَر بعض الاقتصاديين ومساهماتهم الفكرية لوجدنا انها جميعا او لنقل الغالبية العظمى منها يدرج هذه المجموعة من الاقتصاديين الذين تم اختيارهم هنا باعتبارهم مَن أرسى الدعائم الأولى للنظرية الاقتصادية.

أعتقد بانه لا مناص من وجود الميل والرأي الشخصي في كتاباتنا، مهما حاولنا ان نلتزم بأقصى درجات الموضوعية لان ملامح الانحياز أو تلميحات النفور الطفيفة قد تظهر على السطح رغما عنا. لكنني أرى نفسي محظوظا هنا لأنني أسرد سيَرَ الاقتصاديين ومساهماتهم التي ليس فيها مجال لإبداء الذاتية إلا نادرا. وبذلك فقد حرصت كل الحرص ان ابقي ميولي وآرائي خارج تلك الحلبة.

على ان مادة الكتاب لا تنتمي لصنف المواد التي قد يقرأها القارئ مرة واحدة او يدرسها وينتهي منها، انما تنتمي لصنف المراجع التي تستعرض التاريخ وتتابع تطور الطروحات الفكرية من مفكر الى آخر. ولهذا فمن المتوقع ان يعود لها طالب الاقتصاد مرات عديدة لاستكشاف المساهمات النظرية المختلفة وضبط الأسماء والتواريخ والحوادث وملاحظة التسلسل الفكري الذي قد يربط تلك المساهمات بخيط طويل واحد. وهنا لا بد من التأكيد بأنه على الرغم من ان مواد الكتاب الأربعين قد تُقرأ كمواد مستقلة بذاتها لكن الترابط الفكري للموضوع العام وتسلسل المعالجات الفردية عبر الزمن يضيف لها العمود الفقري الذي يجعل من هذا الكتاب يبدو وكأنه قطار واحد موصول العربات.

يحتوي هذا الكتاب على مادة أراها ضرورية وواجبة لطلاب الاقتصاد من اجل وضع مواد الدروس الأخرى المطلوبة في مناهجهم في مسارها المنطقي وسياقها التاريخي، كمن يضع النقاط على الحروف لإكمال الجملة. وضرورتها تتجلى في هدفها لاستكمال خارطة المعرفة الاقتصادية في المرحلة الجامعية.

لا أستطيع أن أدّعي بأن الكتاب يعوّض عن كورس شامل ومركّز في تاريخ الفكر الاقتصادي، بل انني أرى أهميته كمادة مساندة لمواد ذلك الكورس، من شأنها ان تتناول مسيرة تطور الفكر الاقتصادي من زاوية مختلفة. زاوية يمتزج فيها الذاتي والموضوعي، ويصبح موضوع الابداع الفكري مثل سباق التتابع (البريد) الذي يأخذ فيه المفكّر الاقتصادي العصا ممن قبله، ويعدو بها بجد وحماسة، ليناولها الى المفكّر الذي يليه. وهكذا يتواصل طريق التقدم الفكري في ميدان أبدي. على انني أرى ان التوقيت المثالي لدراسة هذا الكتاب هو السنة الأخيرة من البكالوريوس والسنة الأولى من الدراسة العليا. وبهذا يكون الطلاب المتهيئون لدراسة هذا الكتاب قد استوعبوا من قبل المعلومات الكافية خلال دروسهم السابقة لتكوين الخلفية الضرورية لربط تلك المعلومات الأولية سوية واستنتاج المعنى الأمثل منها في الاجراء المنهجي الذي نسميه Capstone project. في هذا المجال أشعر انني مدين لدراستي وتجربتي الطويلة مع الاقتصاد كطالب أولا، وكأستاذ وباحث ومشرف لاحقا. هذه التجربة التي لها الفضل الكبير في اعانتي على الالمام بهذا التاريخ الطويل من التطور في الفكر الاقتصادي. على انني لا أزعم خلو هذا الكتاب من الهنات والاخطاء، وربما مواضع من سوء الفهم والتقدير أحيانا. فكل ما يرد فيه من هذا القبيل هو مسؤوليتي الشخصية ومن صنيعي وحدي، وهذا ما اعتذر عنه مقدما.

 في الختام لابد من القول بأنني مدين أيضا بالشكر الجزيل والامتنان لأخي وصديقي الدكتور محمد الأزرقي، الأستاذ المتمرس في كلية ماونت هوليوك، الذي واكب مشروع الكتاب من البداية وحرص على حثي وتشجيعي للاستمرار خلال الفترات التي انقطعت فيها عن العمل به. وهو الذي قرأ مسودة الكتاب من الغلاف الى الغلاف وشاركني في مناقشة بعض المواد، وجاد بملاحظات قيمة، إضافة الى تكرمه بكتابة التعريف المختصر الذي يظهر على غلاف الكتاب الخلفي.

أود ان أقدم الشكر الجزيل لصديقي الاثير وزميل دراستي في بغداد الدكتور صلاح حزام، الخبير الاقتصادي في المجلس الأعلى للتخطيط في سلطنة عمان. الصديق الذي لم ينقطع عن التواصل معي ومشاركتي هموم المهنة واخبارها خلال الأربعة عقود الماضية، رغم البحار التي تفصل بيننا. وهو الذي تكرم أيضا بقراءة مسودة الكتاب كاملة وتفضل بكتابة التقديم للكتاب والتعريف به.

في عودة الى بدايات دراستي في قسم الاقتصاد بجامعة بغداد، يقتضي مني واجب الوفاء أن استعيد بآيات من المحبة والعرفان ذكرى استاذي الفاضل الدكتور إبراهيم كبة الذي درست على يده مادة تاريخ الفكر الاقتصادي وتعرفت خلال محاضراته الثرة على أسماء اغلب الاقتصاديين المذكورين وأدوارهم هنا. فلروحه الطيبة الطمأنينة والسلام الابدي.

***

مصدق الحبيب

Granby, Massachusetts

November 17, 2024

قراءة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث

يطرح كتاب "تاريخ الشرق الأوسط الحديث" لـِ وليام كليفلاند ومارتن بنتون، والمترجم ببراعة بدر الرفاعي، سؤالًا جوهريا عن كيفية تشكيل السرديات التاريخية لوعينا بالمنطقة. لا يكتفي الكتاب بسرد الأحداث، بل يحولها إلى بانوراما حكائية تدمج السياسي بالاجتماعي والديني، متخذة من الزمان والمكان خيطًا ناظمًا يمتد من القرن الثامن عشر حتى الحادي والعشرين، ومن مصر إلى إيران. هنا، يتحول التاريخ من سلسلة أحداث إلى نسيج سردي معقد، يذكرنا بأسلوب المؤرخين العرب القدامى الذين جمعوا بين الإخباري والحكائي، لكن بمنهجية حديثة تستحضر "الرؤية الغيرية" للآخر الغربي.

السرد التاريخي بين التوثيق والتأويل

يميز الكتاب، الصادر حديثا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة ، تركيبه السردي الذي يحول الوقائع إلى حكاية متصلة، حيث تقرأ تحولات المنطقة عبر مفاصل زمنية مترابطة، كأنها فصول رواية. هذا النهج يذكر بتحليلات النقد السردي الذي يعيد بناء الوقائع عبر منظور المؤلفين، حيث تقدم الشخصيات (الدول، الزعماء، الحركات) كأبطال ذوي دوافع متضاربة، تتقاطع مصائرهم بفعل العولمة والاستعمار. لكن هل يعكس هذا النهج "الرواية الغربية" للمنطقة، أم يحاول تجاوزها؟ هنا تكمن إشكالية "الاستشراق" التي نبه إليها إدوارد سعيد، فالكتاب - كمنتج غربي– قد يعيد إنتاج صورة الشرق كـ"آخر" مرصود من الخارج، حتى وإن حاول الموضوعية.

لا تنحصر أهمية الترجمة في نقل النص إلى العربية، بل في فتح حوار مع الرؤية الغربية. المركز القومي للترجمة، باختياره هذا العمل، يدفع القارئ العربي لمواجهة سؤال: "كيف يرانا الآخر؟"، ليس للتلقي السلبي، بل لتفكيك الخطاب الاستشراقي وإعادة بناء الذات عبر مرآة الغير. الترجمة هنا فعل مقاومة ثقافي، يحول النص إلى جسر لنقد الذات والآخر معًا. فكما أن التاريخ يكتب بمنظور متعدد، فإن الترجمة تعيد كتابته بوعي نقدي.

يبرز الكتاب تناقضين رئيسيين في تاريخ المنطقة: تشظي الحدود السياسية مقابل وحدة الثقافة، وصراع الهويات مقابل التمازج الحضاري. بتحليله المقارن لدول مثل مصر وتركيا وإيران، يكشف كيف تنتج الحقبة الواحدة وقائعَ متباينة بفعل التفاعل مع الاستعمار أو الحداثة. لكن هل يخفي هذا المنهج التكاملي اختلافاتٍ جوهرية في تكوين كل مجتمع؟ هنا، قد يقع السرد الشمولي في فخ التعميم، مهملًا خصوصيات المحلي، كأن يروى تاريخ المنطقة بلغة "المركزية الغربية" التي تعامل الشرق ككتلة واحدة.

يلمح الكتاب إلى مستقبل المنطقة، خاصة في علاقتها بالغرب والسلام، مما يطرح سؤالًا عن دور المؤرخ في استشراف المستقبل. هذا الانزياح من السرد التاريخي إلى التنبؤي يعيدنا إلى الجدل العربي حول العلاقة بين التراث والحداثة. فكما حاول رواد النهضة قراءة الماضي لاستلهام المستقبل، يحاول الكتاب ربط التحولات التاريخية بالتحديات المعاصرة، لكن بمنظور خارجي قد يغيب عنه الألم اليومي للإنسان العربي.

نحو سردية عربية جديدة

لا يكفي أن نقرأ كيف يروي الآخر تاريخنا، بل يجب أن نسائل آليات تشكيل سردياتنا الخاصة. كتاب كليفلاند وبنتون، بترجمته النقدية، يذكرنا بأن التاريخ ساحة صراع سردي قبل أن يكون مجموعة وقائع. فالمواجهة الحقيقية ليست مع "الرؤية الغيرية"، بل مع قدرتنا على إنتاج رواية عربية تجمع بين النقد الذاتي والانفتاح على العالم، دون اغتراب أو انكفاء. هنا، تصبح الترجمة فعلًا تنويريا، يحرر التاريخ من أحادية الرواية، ويحوله إلى حوار دائم بين الأنا والآخر.

التشكيل الثقافي والهوية في ظل الاستعمار

يثير الكتاب إشكالية تشكيل الهوية في الشرق الأوسط تحت وطأة الاستعمار، حيث تحولت الثقافة المحلية إلى ساحة صراع بين التقاليد المتوارثة والنماذج الغربية المُستوردة. فمن خلال تحليل سياسات التحديث في تركيا العثمانية أو مصر محمد علي، يتجلى كيف تم تفكيك النسيج الاجتماعي لصالح بناء دولة مركزية على النمط الأوروبي، مما أدى إلى انقسام الهوية بين "التراث" كرمز للانتماء، و"الحداثة" كشرط للبقاء. هذا الانقسام يذكر بنظرية هومي بابا حول "التمازج الثقافي" (Hybridity)، حيث تخلق هويات هجينة لا تنتمي كليًّا إلى الماضي ولا إلى الحاضر المستورد، بل تُنتج واقعًا جديدًا مليئًا بالتناقضات.

يعيد الكتاب طرح السؤال القديم-الجديد: كيف يمكن فهم الدين كعامل توحيد أو تفكيك في المجتمعات العربية والإسلامية؟ من خلال تتبع دور الأزهر في مصر، أو الثورة الإسلامية في إيران، يظهر الإسلام كإطار مرجعي يحرك الجماهير ويشكل وعيها السياسي. لكن النظرة الغربية غالبًا ما تختزله إلى "أيديولوجيا صراع"، متجاهلةً تعقيداته كنسق ثقافي يحمل أبعادًا روحية واجتماعية واقتصادية. هنا، يبرز تناقض الخطاب الاستشراقي الذي يعالج الدين كـ"مشكلة" يجب حلها، بدلًا من رؤيته كجزء عضوي من تشكيل الذات الجماعية.

يلامس الكتاب - ولو بشكل غير مباشر– دور المرأة والطبقات المهمشة في صناعة التاريخ، لكنه يبقى أسير المنظور الذكوري والبيروقراطي الذي يهتم بـ"الحدث الكبير" (الحروب، المعاهدات، الزعماء). هذا الإغفال يعيد إنتاج صورة المجتمع الشرقي ككيان ثابت، بينما تُخفي الوقائع التاريخية تحركات نسائية مبكرة، مثل مشاركة المرأة في ثورة 1919 المصرية، أو نضال العمال في مدن النفط. إن اختزال التاريخ في سردية النخب يمحو دور "التاريخ من أسفل" (كما سماه المؤرخ إريك هوبسباوم )، مما يعكس تحيزًا غربيًّا يركز على السلطة الرسمية دون قوى التغيير الشعبي.

النفط والتحولات الطبقية

يعتبر اكتشاف النفط في الخليج مثالًا صارخًا على كيفية تحويل الثروة الطبيعية إلى أداة تشويه للبنية الاجتماعية. فمن مجتمعات بدوية تعتمد على التضامن القبلي، تحوَّلت المنطقة إلى فضاء للاستهلاك المفرط والتبعية الاقتصادية للغرب. الكتاب يسلط الضوء على هذه التحولات، لكنه قد يفشل في ربطها بالاستعمار الجديد (Neocolonialism) الذي يحول الدول النفطية إلى "دول ريعية" تدار بإملاءات خارجية. هنا، تصبح الرأسمالية العالمية هي الوجه الآخر للاستعمار القديم، تعيد إنتاج التبعية تحت شعارات التحديث.

عند مناقشة الربيع العربي، يقع الكتاب في فخ السردية الغربية التي تصور الثورات كـ"فوضى عابرة" دون تعمق في جذورها الاجتماعية. فالثورات لم تكن مجرد رد فعل على الفساد، بل انفجار لتراكمات تاريخية من القمع واللامساواة الطبقية. إن اختزالها في "أزمة حكم" يتجاهل حقيقة أنها حركات ثقافية عميقة، عبرت عن رفض الشباب للهويات الجاهزة، سواءً تلك المفرَضة من الأنظمة أو المصدرة من الغرب.

لا يكفي نقد الرؤية الغربية للشرق الأوسط؛ فالمطلوب هو بناء منهجية عربية في قراءة التاريخ والثقافة، تعتمد على أنثروبولوجيا الذات، تدرس المجتمع ليس كـ"موضوع" للفحص، بل كفاعل في إنتاج معرفته. هذا يتطلب تفكيك الثنائيات المستهلكة (تقليد/حداثة، دين/علمانية، شرق/غرب)، واستعادة التعقيد الإنساني للمنطقة. فالشرق الأوسط ليس مجرد "مسرح أحداث"، بل نص ثقافي مفتوح، يعيد كتابة نفسه كل يوم بلغة الدم والأمل.

كلمة أخيرة

في زمن تتصارع فيه الروايات، يكون التاريخ حكاية نرويها بأنفسنا، أو نروى بها. وهذا الكتاب، بكل إشكالياته، دعوة لإعادة كتابة الحكاية.

***

د. عبد السلام فاروق

"الدين حياةٌ في أفق المعنى، تفرضه حاجة الكائن البشري الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية" هذا هو تعريف الدكتور عبد الجبّار الرفاعي للدين. وفي مقدّمة الطبعة الثانية من كتابه "الدّين والكرامة الإنسانيّة"، يقول الرفاعي: إن أكثر الكتابات المتمركزة حول الإنسان تنسى الدين، وأكثر الكتابات المتمركزة حول الدين تنسى الإنسان. الدين يبدأ باكتشاف الإنسان وإعادة تعريفه ليصل إلى الغيب، ولا يبدأ بالغيب ليصل إلى الإنسان. يحاول الدين اكتشاف الإنسان أوّلاً، في ضوء معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف البشرية المتنوّعة والمتجدّدة، ليحدّد ما هو ماديّ من احتياجاته، وما هو عقلي، وما هو عاطفي، وما هو روحي.

هذا كتاب ينطلق من الإنسان إلى الدين؛ ومفتاح فهمه للدين ونصوصه هو الكرامة الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين. فالإنسان يولد مُكرّماً، والكرامة توجد بوجود الإنسان وتلبث معه أبداً حيثما كان. الكرامة رديفة الاستخلاف؛ خليفة الله في الأرض جعله قيّماً وحافظاً ووكيلاً ونائباً عنه في الأرض. وعليه، يرى المؤلّف أن تجديد فهم الدين يتطلّب: إعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وإعادة قراءة نصوصه في أفق العصر ومناهج التفسير الحديثة، وإعادة تحديد وظيفة الدين في الحياة، والكشف عمّا يمكن أن يقدّمه الدين للإنسان من احتياجات روحية وأخلاقية وجمالية.

 يعتقد الدكتور الرفاعي أن الدين يتغلغل في كلّ شيء في حياتنا بصورة ظاهرة وخفيّة؛ وكلّ محاولة لإعادة البناء التربوي والتعليمي والثقافي، وإعادة بناء المجتمع، لا تبدأ بإعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وبناء فهم جديد لنصوصه، وإعادة تجديد فهم الدين وحدود وظيفته في الحياة، تموت لحظة ولادتها. قراءة هذه النصوص يجب أن تتم ضمن رؤية تنتمي إلى عالمنا كي تنتج المعنى الديني المتناغم مع إيقاع حياتنا ومتغيراتها المتواصلة. ويضيف: لقد أخفقت مشاريع ودعوات القطع الجذري مع التراث، ولم توصلنا إلى أية محطة لبناء الفرد والمجتمع والدولة. الطريق الصحيح هو دراسة التراث دراسة علمية معمّقة، والتوغل في اكتشاف بنيته التحتية ورؤيته للعالم، في ضوء منطق العلوم والمعارف الحديثة، ومغادرة ما استنفد غرضه فيه، ولم يعد صالحاً لغير زمانه. ويذكر المؤلّف في أكثر من موضع في كتابه أن الإنسان غاية الدين؛ وكلّ دين لا تكون غايته الإنسان ليس إنسانياً؛ فجوهر إنسانية الدين حماية الكرامة، ورفض كل أشكال التمييز بين الناس. والإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين.

ويوضح الرفاعي أن الكرامة ضرورة للفرد وكذلك للأمّة؛ تبدأ بكرامة الفرد لتنتهي بكرامة الأمّة. وكلّ مجتمع تكون كرامة الأفراد الشخصية فيه مُستلبة هو مجتمع مُستلب الكرامة، مشيراً إلى أن الإنسانية هي قيمة كونية عابرة للأعراق والثقافات والأديان، والكرامة هي الإطار الأخلاقي الذي تتوحّد فيه قيمة الإنسان ومكانته، وتقديره لذاته وتقدير الغير له. إن المعيار الكليّ لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتلّه الكرامة في منظومة القِيم لديه. وإنسانية الدين تلخّصها نظرته للكرامة بوصفها القيمة التي تستحضر كلّ قيمة، وتتّسع لكلّ الحقوق الأساسية، وتضع الحريّة غاية تتطلع لاستردادها على الدوام كاملة غير منقوصة.

يؤكد المؤلّف أن احترام الكرامة الإنسانية هو مقصدُ مقاصد الدين وأسمى أهدافه؛ وذلك يفرض أن يُعاد تفسير كلّ نص ديني بما لا ينقض الكرامة أو ينتقص منها. إن كل نصّ يتعارض مع هذا المقصد الكلي، ويقوم على التمييز بين البشر، سواء كان آية أو رواية، مثل تشريع الرقّ وما يماثله، يُطرح وينتهي العمل بأحكامه، لأنه ينتمي إلى التاريخ ويعكس ظروف مجتمع عصر البعثة الشريفة. وفي هذا السياق يشرح الرفاعي المفتاح المنهجي الذي اعتمده في تفسيره للقرآن الكريم وفهم الأحاديث والروايات، وكيفية التمييز بين ما هو ثابت من القِيم الروحية والأخلاقية الأبدية، وما هو متغيّر من أحكام تنتمي إلى ظروف وأحوال مجتمع عصر النزول. ويتوقف عند مسألة القِيم كضرورة لأنسنة الإنسان، والتي يتحوّل بدونها إلى كائن متوحش مخيف.

إن الكرامة والكونيّة هما المعيار الذي تتحدد على أساسه القِيم الأخلاقية؛ بمعنى أن هذه القِيم شاملة، وأنها قانون كليّ يصلح للتعميم لكلّ الناس الذين تتوحّد مصائرهم في الأرض. فمهما كان الإنسان يحتاج إلى الكرامة، لأن الكرامة تتحقق بها إنسانيته، وهو يحتاجها بوصفه إنساناً، بغضّ النظر عن دينه وإثنيّته وثقافته وعصره. كما يحتاج الإنسان مهما كان، إلى الصدق والمساواة والحريّة والعدالة والأمانة؛ وكلّها تكرّس الكرامة وتحميها من الانتهاك. وفي ذلك، يقول المؤلّف إن منظومة الأخلاق المعروفة بالآداب الشرعية في الإسلام لم تعد كافية لتأمين القِيم الأخلاقية المشتركة للحياة في فضاء التحديات العالمية، وما يفرضه على المسلم واقع جديد أصبحت مشكلاته الكبرى وتحدياته العظمى شاملة لكلّ الإنسانية، مثل: تلوّث البيئة، والتغيّر المناخي، والاحتباس الحراري العالمي، والانفجار السكّاني؛ وما تعِد به هندسة الجينات، والذكاء الاصطناعي، من مكاسب متنوعة ومثيرة، ما زالت تُثري الحياة وتمكّن الإنسان من توفير احتياجاته وحلّ مشكلاته، وما يمكن أن ينتج عنهما من آثار غامضة مريبة في الغد. فالذكاء الاصطناعي مثلاً يمكن أن ينتهي في المستقبل إلى الإفلات من قبضة الإنسان، فيحدث صدام الروبوتات فيُربك حياة الإنسان ويهشّم أمنه ويغرقه في أحداث مباغتة لم تكن في الحسبان.

في العصر الراهن أضحى الإنسان ضحيّة استبداد السلطات السياسية والاقتصادية في مختلف البلدان، كل منها بطريقتها الخاصة في إدارة السلطة والثروة؛ كما هي حال الصين وأكثر المجتمعات الشرقية والولايات المتحدة وأكثر المجتمعات الغربية، حيث أمست كرامة الإنسان وحريّاته وحقوقه قرباناً لإيديولوجيات السلطات الحاكمة؛ ولم يعد الإنسان هو الغاية. بل تحوّل إلى وسيلة لمراكمة الإنتاج المادي والتوسع في الاستهلاك، ونُسيت احتياجات الإنسان الروحية والأخلاقية والجمالية. وعلى مستوى مجتمعاتنا، تتجذّر تقاليد الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، والمشتقّة من قِيم البداوة والتقاليد القبلية، ومن نمط تديّن كلامي فقهي راسخ، يضمحل فيه حضور مقاصد الشريعة وقِيمها المركزية، ومن استبداد مقيم، متجذر ومتراكم عبر تاريخنا البعيد والقريب، والذي لا ينجز أهدافه إلاّ بمحو الفردية. في إطار البنية الكلامية للأخلاق.

 يحلّل المؤلّف قضية التكفير كمأزق جوهري للأديان. ويصف التكفير بأنه ضرب من العنف؛ فهو عنف لفظي يتضمن قذفاً وتشهيراً وترهيباً، وهو حكم إقصائي يغترب المكفَّر بسببه عن مجتمعه، عندما يحاصره التكفير ويجتثّه من عالمه. والتكفير لم يقتصر على تكفير غير المسلم فقط، بل اتّسع ليستوعب المسلم المختلف في عقيدته الكلامية ومذهبه الفقهي. وعندما نعود إلى آثار المتكلّمين والفقهاء لا نجد فرقة واحدة تنفرد بتكفير المسلم، بل نجده متغلغلاً في أكثر مؤلّفات الفرق، حيث نرى ابن تيميّة وغيره يكفّرون كلّ مسلم يختلف عنهم في معتقده، إذ يكفّر ابن تيميّة من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوّفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية؛ وهكذا فعل غيره. ولذا، يدعو الرفاعي إلى أن تكون الكرامة الإنسانية بمثابة المعيار أو المرجعية أو المقصد، كما يُقال في مقاصد الشريعة. الكرامة هي مقصد من مقاصد الشريعة، ولا يجوز أن نقرأ نصاً دينياً ينتقص من هذه الكرامة؛ ولا بدّ أن نحتفظ للجميع بهذه الكرامة. وفي السياق، يقترح المؤلّف إعادة قراءة فكرة البراء والولاء. فكلّ طائفة من الطوائف تقدّم البراء من الطوائف الأخرى والولاء لطائفتها؛ وهذا يُفسد الأخلاق والكرامة، لأنك حين تتبرّأ من الآخرين فأنت تتبرّأ من الكرامة أيضاً، وتعتبر أن لا كرامة لهم، وأن ليس هناك معيار ومرجعية إنسانية تُلزمك في التعامل معهم؛ فهم منتهَكون وتحلّ لك دماؤهم وأعراضهم، ويحلّ لك كل شيء مُصان لديهم، في حين أن الكرامة الإنسانية تحفظ الوجود الإنساني. فهي حصن، وهي وقاية وتحصين. والدين يعطي التحصين للإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض.

 لقد اشتغل مبدأ الولاء والبراء في تراثنا الإسلامي بطريقةٍ ولّدت العنف وأفسدت الأخلاق وجعلتها محصورة بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد. من هنا يصبح ضمير الفرد ضميراً غير أخلاقي لأنه انتهك الكرامة. وعندما يُبنى الضمير الديني على الضمير الأخلاقي يكون هو ذاته الضمير الأخلاقي؛ الضمير الأخلاقي يتعامل مع الإنسان على أنه واحدٌ متساوٍ. الضمير الأخلاقي يكون ضميراً دينياً، والضمير الديني يكون أخلاقياً إذا بنيناه بهذه الطريقة. أما إذا كان الضمير الأخلاقي مشروطاً بالبراء والولاء، بالجماعة، بالطائفة، فإنه يكون ضميراً فاسداً لأنه يكون مقيّداً بشيء، بمصالح معيّنة، بجماعة معيّنة؛ والأخلاق والضمير لا يقبلان التقييد. التقييد يُفسد شروط الولاء والبراء ويُفسد الضمير الأخلاقي؛ وبالتالي لا يكون ضميرك الأخلاقي مساوياً، أو لا يكون ضميرك الديني مبنياً على الضمير الأخلاقي؛ إنما يكون ضميرك الديني مبنياً على تعصّبك وولائك وانحيازك إلى جماعتك وإهدارك لكرامة الآخرين. ويخلص المؤلّف في هذا الجانب إلى أنه لا يمكن بناء حياة روحية وأخلاقية أصيلة في مجتمع تتفشّى فيه ثقافة يحضر فيها التكفير وإلزام المسلم بمقاطعة الغير؛ ولا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلف في المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالم، وعقلٌ ينهكه التشاؤم والاغتراب والارتياب من الآخر، أن يؤسّس لحياة روحية وأخلاقية حقيقية، تشفق على المعذّبين، وتتضامن مع الضحايا، بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وإثنيّاتهم، وتتصالح مع العقل والحق والخير والسلام والجمال في الحياة.

 إن الدين هو حياةٌ في أفق المعنى، تفرضه حاجة الكائن البشري الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية، كما يفسره الرفاعي. الدين يعبّر عن هشاشة الكائن البشري، وقلقه الوجودي وألمه، وطبيعته بوصفها ملتقى الأضداد، وحاجة وجوده الفقير للاتصال بوجود الحقّ الغنيّ بذاته. وفي ضوء هذا التفسير يتحدّد ما ينشده الدين في حياة الفرد والجماعة؛ إنه تفسيرٌ يحضر فيه عالَم الغيب كما يصوّره القرآن الكريم مثلما يحضر عالَم الشهادة، ويكشف عن حاجة الإنسان العميقة للإيمان بالله للخلاص من الاغتراب الوجودي.

يقول المؤلّف إنه اعتمد الفهم المعنوي للدين، والتفسير الرحماني الأخلاقي للقرآن الكريم، واستخلاص المضمون الإنساني الأخلاقي في الأحاديث والأخبار والتراث؛ وإنسان اليوم يفتقر إلى تديّن عقلاني وأخلاقي رحماني ينقذه، لأنه يعيش في عالَم يضمحلّ فيه معنى كلّ شيء في حياته؛ عالَمٌ تزداد فيه كآبته ويشتدّ اغترابه.

 لكن قوّة الفكرة (الأفكار) لا تكفي وحدها لتطبيقها، ما لم تتبنَّها سلطة تفرض حضورها، أو تتجنّد لها جماعة تحشد كلّ طاقاتها من أجلها. فقد ظهرت أفكار منطقية ذكية في مختلف العصور، لكنها أخفقت في أن تطبع بصمتها في التاريخ، لافتقارها إلى جماعة تتبنّاها، وسلطة تحميها. وفي الخلاصة، فإن التجديد في الدين لا يحقّق وعوده من دون أن تتبنّاه المؤسسة الدينية، ويجد حاضنة مجتمعية يلوذ بها، أو تفرضه السلطة السياسية. وذلك لن يتحقق قريباً، كما يتوقع المؤلّف؛ وسيظل التجديد في الدين غريباً، ولن يجد من يرعاه، ما دام يتحدث لغة لا تشبه لغة الجماعات الدينية، ولا تدعمه سلطة سياسية، أو تحتضنه مرجعية دينية، ولا يتناغم ورؤية التراث للعالَم.

***

حسين صعب – كاتب لبناني

.................

* مراجعة لكتاب: الدّين والكرامة الإنسانيّة، تأليف: د. عبد الجبار الرفاعي.

يحرصُ عبد الجبار الرفاعي في كلِّ فرصة سانحةٍ على بيان أهمية الفلسفة وضرورتها، وتبايُن مجالها عن مجالَيْ العلم والدين، وانفرادِها بخصائص تفكيرها من خلال تجرُّدها وموضوعيتها، وتوليدها الأسئلة التي بها تتنوَّع وتغتني وتتطوَّرُ الرؤى والآراء، وغايتُها الحقيقةُ من حيث هي الحقيقةُ فقط. وهي ابنة عصرها وبيئتها وظروفها، لذا فاهتماماتها وإشكالياتُها وبناء أفُقِها من صميمِهمْ، وتتماهى المعرفة الإنسانية بها في حالتيْ بسطِها وقبضها، وكلُّ محاولةٍ لتدجينها آيلةٌ بصفة حتميةٍ إلى الفشل،

وفرَّق الرفاعي بينها وبين علم الكلام الذي يُصدِر به البعضُ كتاباته مسوِّقاً إياها تحاليلَ فلسفيةً، ثمَّ انتقل إلى بيان حالِ الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، فذكرَ أنَّه لم يكن في ماضي العصور على وفاقٍ مع الدرس الفقهي، فقد كان للأخير حضورٌ متسيِّدٌ جعل الكلَّ يتودد إليه، والكلُّ يريدُ الحصول على أكبر نصيب منه، كان أسداً بين الدروس يصول بكل أريحية، فإذا ما أطلَّ الدرسُ الفلسفي لوَّحَ به بعيداً مُخرجاً إياه من دائرةِ الاهتمام، فيلجأ الدرسُ الفلسفي إلى التقيَّة والتخفِّي منتظراً أن تتهيَّأ له ظروفٌ أفضل وشروط أحسن، كان الدرس الفلسفي بين ظهورٍ محتشمٍ وتخفٍّ مُتَحَيِّنٍ، لكنَّ العجيبَ أنَّه مع كلِّ هذا التضييق والازدراء أدَّى ـ في فترات استرخاء الدرس الأصولي ـ دورَه في تحصين العقول وبناء التفكير المنطقي، وإرساء آلة السؤال، نجح في تكوين أصوليين فلاسفة آحادٍ من كلِّ جيلٍ، شهد لهم أقرانُهم بعمق ما يطرحون، وجودة ما يقدمون، وحلَّ العصر الحديث، وحلَّتْ معه آلياتُه الجديدة وتحدياتُه غير المسبوقة، وأسئلتُه المربكة، وأصابتْ ألسِنةُ لهبِه اللافحةُ أروقة الدرس الحوزوي، الذي بدا عليه الإحراجُ، فلم يكن له بدٌّ من الاستعانة بالآلية الفلسفية. أدركت المدرسة الدينية أنَّ الدرس الفلسفي هو وحده المخوَّلُ له مثل هذه المواجهات، فلم تلبث أن اعترفتْ له بقيمته، وبوَّأتْهُ مكانته.

وفي فترة التحول هذه كان الرفاعي يدرجُ أولى خطواته في نهْل دروس الحوزة، فاغترف منها ما شاء له الاغترافُ، ونال من علوم الأصول وسائر العلوم ما جعله فارساً فيها، ونال مثلها من الدرس الفلسفي، ونالَ منه الأوَّلُ حظَّ التَّأليفِ فيه، واستغرَقهُ الثاني تدريساً ومناقشةً حواليْ أربعين عاماً، وترجم له كتباً إلى العربية ككتاب "شرح المنظومة المبسوط" في أربعة أجزاء، و"محاضرات في الفلسفة الإسلامية" ص47.

وبحكم المعرفة ومراكمة الخبرة والتجربة، عرف مكامن القوة والضعف في كلٍّ من الدرسيْن: درس الأصول ودرس الفلسفة، ووفاءً منه لحوزته، واعترافاً بمقامها، وحرصاً على جودة معارفها، وردّاً لبعض أفضالها استقلَّ بالدَّرس الفلسفي، يدرسُه من جميع زواياه، مخضعاً إياه لعملية الجَرْح والتعديل على طاولة النقد بمنهجية الباحث الموضوعي المتجرد، بدأ بالدرس القديم، فأشار إلى أنَّ منهجه المُعدَّ للتدريس مرهِقٌ معقَّدٌ يستنزف جهداً عقلياً مضنياً ووقتاً يُعدُّ بالسنوات، بسبب اعتماده المتونَ الشعرية، التي يُطلق عليها اسمُ "المنظومات"، وهي ملغزة الاصطلاحات متشعبة المقولات ص31، أو كتبٍ نثرية كَالأسفار الأربعة لصاحب "مدرسة الحكمة المتعالية" ص35.

أمَّا بالنسبة للدرس الفلسفي الجديد، فأشار الرفاعي إلى أنه وإنْ تخلص من المنظومات لكنه لم يتمكن من الاستغناء عن "الأسفار الأربعة" وهي مع علُوِّ شأوِها وعمق معارفها، ما زالتْ تستنزفُ العمر لاستيعابها، وهو ما لا يسمحُ به العصر الحديثُ، كما تنتمي بعض مقولاتها وأسلوب صياغتها لزمانٍ آخر غير هذا الزمن، ولفَت النظرَ إلى تغييبٍ غيرِ مبرَّرٍ لأعمال فلاسفةٍ مسلمين من أمثال الكندي والفارابي وابن باجة وابن رشد ص49.

وهالَه افتقارُ أساتذة الدرس الفلسفي للغات الأجنبية، وبالتالي جهلهم لفلسفاتها ومفاهيمها، ومقولاتها ومناهجها، ومقارباتها وطرق تحاليلها واختلاف زوايا نظرها. جهلُهُم هذا جعلهم ينكفئون على اجترار مقولاتٍ تاريخية قديمةٍ ضئيلة الفائدة، أوْ على ترجماتٍ هاويةٍ متفاوتةٍ، قدْ لا تفي بالغرض، أو قد يختلطُ سمينُها بغثِّها، كما أَشارَ إلى غيابِ الحاسَّة النقدية ـ آلةِ الفلسفة ـ التي تُصاحبُ الدَّرسَ مصاحبة الظلِّ، مع إضفاءِ حالة تعظيمٍ مبالَغ فيها للفلسفة الصدرائية ص69. شدَّد على ضرورة تحلِّي دارس الفلسفة بحاسَّة النقد التي هي صنوُ الفهم والتجديد والإبداع، ولكيْ لا تكون ملاحظتُه حبيسة إطارٍ نظري، تقدَّم بمثال عن رؤيته النقدية إزاء كتاب الأسفار الأربعة، فأبدى تأييده لبعض مقولاته، وتحَفَّظَ عن مقولات أخرى، وبيَّنَ السَّقطاتِ التي وقع فيها كاتبُها ص128، وقام بنقدِ رؤى وأفكار هنري كوربان التي طرحها في حلقة الطباطبائي الفلسفية في طهران ص130، مع أن الطباطبائي نفسه كان معجباً بها، وتناول أيضاً بالدَّرسِ والنَّقد كتاباً ذائع الصيت، وهو "فلسفتنا" لمحمد باقر الصدر معلِّلاً ومستدلاًّ ص 58. ص129.

ثم عرج على مدرسة النجف العريقة، صنيعةِ الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري، والمتجدِّدة على يد السيد حيدر الآملي في القرن الثامن الهجري. هذه المدرسة العصيَّةُ على الدرس الفلسفي، لم تكنْ تحملُ له أيَّ ودٍّ، لذا اضطرَّ العالمُ العارف حسين قلي الهمداني صاحب المدرسة السلوكية إلى مزجه بالدرس العرفاني ص167، لكنَّهُ لمَّا كان التشدُّدُ أجذرَ وأقوى اضطرَّ المشتغلون به إلى الهجرة.

وأفرد له الرفاعي فصلاً مبيِّناً ريادة العلامة الطباطبائي للفلسفة الشرقية منتصف القرن العشرين، ترعرعت ملَكَتُهُ العلمية في النجف وأكملها في قم. أحبَّ الفلسفة ونبغ فيها، وأينعتْ ثمارُها فيه، وعمل على جنْيِ قطوفها في مدرسة قم، ونجح في الذَّبِّ عن حياضها ورفْع الحواجز ومجاوزة المصدَّات، وأحدث في تدريسها ثورةً في مناهجها التعليمية وبيداغوجية إيصالها.

اعتبر محور "المعرفة" أولى وأسبقُ في الاهتمام من محور "الوجود"، وألَّف للطلبة منهجاً دراسياً جديداً، يتمثل في كتاب "بداية الحكمة" بديلاً عن منظومة السبزواري المعقدة، وكتاب "نهاية الحكمة" بديلاً عن أسفار ملا صدرا الشيرازي الأربعة. وأسَّس في قم "حلقة قم الفلسفية" رشَّح لها خِيَرَةَ طلبته، يعقدون أسبوعياً تحت إشرافه لقاءيْن مستغرَقَيْن مناقشةً وحواراً في إشكاليات يختارُها الطباطبائي، أسفرتْ عن إنجاز سَفْرِ "أصول الفلسفة والمذهب الواقعي" في خمسة أجزاء ص126. 127، وتخرَّج على يديْه جيلٌ فلسفي رائدٌ بنى الصَّرحَ الفلسفي المعاصر في حوزات وجامعات إيران.

ويقوم نهجه الفلسفي على: اعتماد البرهان، وفصل الإدراكات الحقيقة عن الاعتبارية، ومنهجة المسائل الفلسفية وإيضاحها وإيجازها، وتجاوز المنهج الطبيعي الكلاسيكي الفلسفي، واستلهام الحكمة الإلهية من الكتاب والسنة، واعتماد المنهج المقارن، ومن آرائه الفلسفية التي أبدعها وارتبطتْ به: تقرير برهان الصديقين، وإيجاد الفرق بين الإدراك الحقيقي والاعتباري، واستخلص ثمرات نظرية الحركة الجوهرية التي لم يستطعْ مكتشفُها جني ثمراتها، فقال بالبعد الرابع، والحدوث الزماني لعالم المادة والطبيعة ص131، وأشار الرفاعي إلى تميُّزه "عن معظم رجال الدين بنزعته الإنسانية المعنوية الأخلاقية" وتمتُّعه "بحرية عقلية رحبة في التفكير" ص144.

فإذا كان الدرسُ الفلسفي المضَيَّقُ عليه والمطاردُ قد استطاع إنجاز مدرسة متكاملة الأركان، مدرسة "الحكمة المتعالية"، ومذهبٍ فلسفي تجاوز به محمد باقر الصدر في كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" المذهبيْن العقلي والتجريبي ص36، واستطاع صناعة فلاسفةٍ بقياسات عالمية، فما الذي سينجزه هذا الدرسُ في هذه المدرسة إذا أتيح له الحرية والانعتاق وحسن التقدير والاحترام؟ أعتقدُ أنَّ هذه هي رسالةُ الرفاعي التي نستشفها من بين ثنايا هذا الكتاب.

***

عبد اللطيف حاج قويدر - كاتب جزائري.

......................

* مراجعة  كتاب الدرس الفلسفي في المدارس الدينية. الواقع وآفاق الانتظار. تأليف:  د. عبد الجبار الرفاعي. منشورات تكوين الكويت. ط1 يوليو 2024.

تأملات في كتاب قوس النصر لكنعان مكيّة

ما المقصود بالشمولية؟ وأين يمكننا أن نتخيل ابتداءً وجود مثل هذا المصطلح؟ وكيف تولّد عنه فنٌ سُمّي الفن الشمولي؟

الشمولية وصفٌ يُراد به التعبير عن منظورٍ فكري عام (سياسي، وفلسفي، واقتصادي، وجمالي).. هذا المنظور يحتكره نظامٌ سياسيٌ ما، وتنفذه إرادةٌ سياسيةٌ يقودها فردٌ أو حزب.

والشمولية (كرؤية أيديولوجية) توضع هُنا في مقابلةٍ حدّيةٍ مع حقيقة التعدّد والتنوع التي يحملها مجتمعٌ مُعيّن، فتمارس تمثيلاً طباقياً على المجتمع المُتعدد والمُتنوع بالضرورة، أي تحاول الجمعَ ما بين فكرة الشيء وضده، ما بين فكرة الاختزال والثراء، فيكون المجتمعُ - تحت تأثير هذه العلاقة - نتاجَ الرؤيةِ الشمولية التي تدّعي تمثيله.

فيكون وصف المجتمع هو وصف النظام السياسي له، وصورته هي الصورة المنعكسة للنظام السياسي فيه. فالشمولية - التي يتمثلها نظام سياسي ما - تسيطر على كُل جوانب الحياة الاجتماعية بما فيها جانب الفن.

يقول المؤرخ الروسي (كولمستوك) مهما يكن من وصف يُمكن أن يقال عن الفن الذي انتجته العهود الشمولية، فأنه يعد صنفاً من صنوف الفنون التشكيلية، أي أنه ظاهرةٌ في ذاتها، تمتلكُ فكرتها ونظرتَها الجمالية وأسلوبَها الفني الخاص.. ولها ذائقة ذهنية تدّعي الإحاطة بما هو جمالي، بما لهذا الجمالي من مهام تعمل على توجيه الكُل الوجهة المنشودة.

وما علاقة الفن الذي عُرف عنه أشياء ثرية ورحبة بذلك "الفن" الذي تصدره نسخةٌ سياسية توجيهية؟ وما الذي يجعل ما ليس فناً فناً شمولياً؟

ما هو بديهي إن البلدان التي خضعت للشمولية لم تكن واحدةً موحدةً في نسيجها الاجتماعي والثقافي والفلسفي والتاريخي، بل كان لكُل بلد منها تقاليده الثقافية الخاصة التي تختلف عن غيرها، إلا أن [هذه البلدان] تماثلت في انتاج خطابٍ واقعي شمولي واحدي عن تمجيدِ الذات وعبادةِ الشخصية وتبرير العنف الذي تمارسه نظمها السياسية.. لقد تماثلت مثل هذه النظم حول ما يُطلق عليه - في وقته - "الواقعية الشاملة"، التي يتوجب على شريحة الفنانين في كُل بلد العمل في ضوئها.1349 makiya

يقول الروسي كولمستوك عن هذا التماثل: "في أعماق النظام الشمولي الكثير من أوجه الشبه ما بين فنّ السوفيات والنازيين رغم العداء الأيديولوجي بينهم". فمعظم الفنانين كانوا يضعون على عاتقهم اظهار المضمونٍ الأسطوري لصور الحزب والقائد وانجازاتهما.

لم يرد الفنانون السوفيات تصوير ستالين كما هو في الواقع: قصير القامة، مجدور الوجه، أوقس الساقين، إنما عملوا على تقديمه مثالياً كما قدمه (شوربين) في لوحة the morning of our motherland..  والنازيون كذلك عملوا على اظهار هتلر مهيباً بالطريقة التي اظهرته الكاتبة والمخرجة (ليني ريفنشتال) عبر كاميرتها السينمائية - مُتعالياً وهو يقف على منصة فارهة يلوح بيده الممدودة فوق المسيرات الجماهيرية المتصاغرة في فيلم triumph of the will ... ورضي البعثيون برؤية الرئيس صدام حسين للفن حين جعل من نفسه فناناً يزاحم الفنانين على رؤاهم، خاصة عندما جعل نسخة مصبوبة من ذراعيه ضمن هيكل قوس فولاذي عملاق اسماه قوس النصر.. تعبيراً فنياً حياً للشمولية المتجسدة في هذا القوس.

يورد كنعان مكية في كتابه (قوس النصر) اقتباساً للروائي التشيكي (ميلان كونديرا) بخصوص ما أسماه الأخير بـ الكذب الحلو؛ كان (كونديرا) يُسمي ما تقوم به النظم الشمولية (قيادة وجموعاً وفاعليات بشرية متظافرة) بـ "الكذب الحلو"؛ يسميه بذلك عندما لا يصيب هذا النوع من التوجه الحقائق الحياتية المُعاشة كما هي في الواقع، أو يتفحص الوثائق، ويستحضر الشهود بروحية تدرك حقيقة ما تنطوي عليه طبيعة الأشياء.

الشمولية لدى هذه النظم لها منطقُها الخاص الذي يستند إلى هذا الكذب وحسب، الكذبُ الذي يتجاوز مرارة الواقع وتعقيداته، ليصير أمراً مفروضاً على العاملين بالفن أينما كانوا ووجدوا، ما يخلق تماثلات فجة وسخيفة، مكشوفة وسطحية ما بين الثقافات المختلفة؛ في ضمن ما أسماه (كولمستوك) "عالمية آليات الثقافة الشمولية."

يناقش مكية في (قوس النصر) مقولة (كونديرا) من خلال السؤال: ما كُلفة مجموع "الأكاذيب الحلوة التي تتجذر في بنية مجتمع ما؟ فيجيب عن ذلك بالقول: "إن كذبة يعيشها الناس زمنا طويلاً من حياتهم، على المستوى الشخصي أو الجمعي تكبلهم في النهاية بدَين للحقيقة، هذا الدَين عليهم دفعه، مهما كان باهظاً ومراً، يدفعونه لقاء قبولهم كم الأكاذيب المنتجة في حقبة من الحقب، ومن هذه الأكاذيب كذبة الهيكلٌ العملاق لقوس النصر، قوسٌ لنصر وهمي مُشاد في ساحة يُطلق عليها إلى اليوم ساحة الاحتفالات."

لقد أعد صدّام حسين نفسه في هذه الجزئية تحديداً فناناً، وبالطبع لم يكن فناناً بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، لكنّه تدخّل في العمل بوصفه فناناً لاسيما عندما تخيل فكرة النصب لأول مرة، ورسمها بنفسه.

يقول مكيّة قوس النصر عمل قبيح للغاية ولا يمكن إيجاد ذرة جمال فيه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، كما أنه منحطٌ اخلاقياً من حيث البشاعة والفحش المغرِق: يكفي تشخيص عمق الانحطاط الأخلاقي فيه من خلال:

أولاً: استعمال خمسة الاف خوذة إيرانية حقيقية مأخوذة من ساحات القتال بثقوب الرصاص التي هشمت رؤوس الرجال، وملطخة بدماء الذين كانوا يرتدونها.

ثانياً: الذراعان ليستا مثاليتين استناد إلى خيال الفنان، وإذا ما قيست بمعايير النحت الكلاسيكي اليوناني، بل هما ذراعا صدّام الحقيقيتان بعد أن صبتا بالجبس وضخمتا بشكل هائل لتشكلا قاعدة القوس.

ثالثاً: المعدن المستخدم في صب السيفين هو المعدن المصنوع من الأسلحة العراقية المنصهرة فحسب، لتتحول إلى مادة خام جديدة.

قوة الاثارة في ما يسميه مكيّة بـ فن قوس النصر تكمن في ان صدّام حسين "الفنان"، اذ لجأ إلى أسلوب صب ذراعيه في قوالب واستخدام خوذات إيرانية حقيقية وصهر أسلحة القتلى من الجنود العراقيين فقط ليبرهن حقيقة أنه القائد السياسي وصانع الدولة العراقية بعد العام 1968.

يقول مكية من الضروري مواجهة هذا النصب نقدياً من خلال تأمل طبيعة العقل الذي أنشأه وليس مواجهته من خلال ازالته.. أساسُ الفكرة إن العراقيين يحتاجون إلى أن يتعلموا من تاريخهم كي لا يتكرر، وهذا لن يحدث بمحو بعض ذلك التاريخ عبر التدمير العشوائي لرموزه.

مواجهة النصب عمليةُ استذكارٍ تقابلها عمليةُ نسيانٍ؛ ولكنّ، النسيان لا يأتي بتدمير رموز أنظمة الماضي، ففي اللحظة التي يختارُ فيها العراقيون ان يتحول هذا النصب إلى رمز لاستذكار قسوة النظام السابق، ينقلب معناه الأصل الذي أراده صدّام إلى عكسه تماماً.. لن يعود رمزاً يمجد الاستبداد، بل يصبح شاهداً على ذلك الاستبداد نفسه.

***

د. محمد عطوان

يكتب جون ستيوارت ميل في سيرته الذاتية: "بقراءتي كتاب توكفيل، بدأ التغير في نموذجي السياسي من الديمقراطية الخالصة كما يشيع فهمها بواسطة مناصريها، إلى الشكل المعدل منها". ويؤكد ميل أن توكفيل قدم تناولاً أكثر إقناعا عن مميزات الديمقراطية، لأنه على الرغم من قبوله لحتميتها، فإنه أشار إلى كيفية علاجها، وقد حاول توكفيل أن يحمي الديمقراطية من الشكل الاستبدادي للحكم، وهو الحكم المطلق لرئيس السلطة التنفيذية، فهو يرى أن ذلك يشكل خطراً حقيقياً في المجتمعات الحديثة.

ولد ألكسي دي توكفيل، بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية لأسرة غنية، وعاش من 29 تموز عام 1805 وحتى 16 نيسان عام 1859، وقد كان مرتبطاً بالنظام القديم بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية، وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا وتنبأ بأنها ستنتشر في جميع أنحاء العالم، نجا والده من مقصلة الثورة الفرنسية، وصودرت أموال أسرته من قبل الثوار مما أصاب والدته بالكأبة، وكان مستقبل الكسي مجهولاً بسبب الثورة التي طاردته أشباحها وهو في سن الشباب ونراه يتساءل: لماذا قامت الثورة؟ وما الذي جاءت به؟ وما هي بالضبط آثارها الباقية على الحياة الفرنسية؟ كانت هذه التساؤلات من أبرز الموضوعات التي اهتم بها توكفيل في كتاباته..

كان الكسي محباً للقراءة. ولم يكن تلميذاً نابهاً فقط، وإنما كان عميق التفكير قال عنه الأديب الفرنسي الشهير سانت بوف، إن توكفيل من ذوي العقول التي تفكر قبل أن تتعلم، ولأن توكفيل ينتمي الى أسرة ارستقراطية كانت التقاليد تقضي بان يشغل وظيفة عسكرية كما فعل أخواه الأكبران، غير أن والده كان يحلم بان يشتغل ابنه الصغير في وظيفة سياسية، وفي ذلك الوقت كان الابن يدرس القانون، ويطمح أن يقضي بالقانون على بعض الأعمال الخاطئة، ومنها قضية المبارزة التي كانت تعتبر من الأعراف القومية، حيث طالب بان يحل الناس خلافاتهم بطرق بعيدة عن العنف فكتب: "أعد صنع الإنسان قبل أن تعيد صنع المواطن.. حينها سيصبح لديك قوانين فعالة". عام 1827 أصبح توكفيل قاضياً تحت الاختبار، بعد ذلك كان عليه أن يترشح الى منصب رسمي، لكنه لم يستمر طويلاً في عمله حيث تم إيفاده الى أميركا للقيام بدراسات عن النظام الإصلاحي عند الأميركان. ففي العاشر من أيار عام 1830 نزل على شاطئ نيويورك شابان فرنسيان، هما الكسي دي توكفيل وغوستاف دو بومون. كان توكفيل في الخامسة والعشرين من عمره، ما يزال قاضياً متدرباً، لكنه يشعر في قرارة نفسه بأنه خُلِق لمهنة أخرى غير مهنة القضاء، ولهذا ظل يبحث عن مخرج لارائه السياسية، حيث لم تؤد الثورة في فرنسا مهامها بشكل صحيح، مما زادت في رغبته لدخول حقل جديد من العمل تتحقق فيه الأفكار، والفرضيات، والآمال. وما أن وطأت قدماه الولايات المتحدة الأميركية، حتى فكر في هذا المجتمع الجديد، ووجد فيه حلاً ناجحاً لمشكلتي الحرية والمساواة التي ماتزال بلاده فرنسا منذ عام 1789 تتخبط فيهما. بعد عام من الإقامة قرر أن يكتب عن الديمقراطية في أميركا، وأن يقدم للفرنسيين مفهوم الديمقراطية دون زيادة أو نقصان، ولعل العامين الذين ألف فيهما توكفيل القسم الأول من كتابه الضخم "الديمقراطية في أميركا" كانت أسعد الاعوام في حياته مثلما يخبرنا في يومياته. فقد كان يهب نفسه بأكملها لعمله، وكان يحبس نفسه طول النهار لينتهي من تأليف كتابه، وخلال هذه الفترة قرر الاستقالة من القضاء، وانشغل بمراجعة الكتب السياسية المهمة وهام شغفاً بمونتسكيو وكتابه روح الشرائع، وبعد عامين سيصدر الجزء الأول من " الديمقراطية في اميركا " ليكتب صديقه القاضي بومون: "ربما كان لا يسعنا أن نقارن به أي شخص آخر في ايامنا"، وفجأة يصبح مشهوراً وتكتب الصحافة إن هذا الكتاب لرجل عمره أقل من ثلاثين عاماً صار مشهوراً في لحظة مثل البرق، وانقسم المجتمع الفرنسي حوله، ففي أوساط اليمين كان ينظر إليه على أنه عمل لرجل ارستقراطي فاشل، ويوصف بأوساط اليسار بأنه شخص ديمقراطي، فيما تُرجِم الكتاب الى جميع اللغات، واعتبره الأمير كان أيقونة في السياسة الحديثة، فالشاب الذي لم يقم في بلادهم سوى عام واحد استطاع أن يدرك روح مؤسساتهم ودوافعها إدراكا بالغ الروعة، ووصفها وصفاً دقيقاً الى حد إنه تمكن من كشفها لهم، وقد تعرف الإنكليز في شخص توكفيل على سلالة مونتسكيو الفكرية والاجتماعية، فغمروه بالمديح، وعندما قرر مجلس العموم الانكليزي التحقق من ضمانات التصويت في الانتخابات، لجأ الى شهادة توكفيل باعتباره أكثر المفكرين قدرة في مجال الحرية السياسية.

بعد خمسة أعوام سينشر القسم الجزء الثاني من الكتاب والذي يلخص فيه الأثر الذي مارسته الأفكار والعواطف الديمقراطية في المجتمع السياسي.

وليست أميركا هي التي يقدمها لنا توكفيل في الكتاب، فهي مجرد إطار لموضوع أكبر هو الديمقراطية بشكل عام. وضع توكفيل، كتاب الديمقراطية في أميركا، عندما كانت أميركا لاتزال أمة شبه مجهولة في العالم، تبحث عن هويتها ومكانتها،، وقد رأى بتحليله العلمي، ما لم يره المفكرون الآخرون، حيث وضع منذ البداية لنفسه مهمة هي اكتشاف اميركا ونظامها الجديد، وعنصر المساواة الذي يشكل محور سياساتها وحياة مواطنيها. وفي طريقه كان لا بد للكاتب من أن يقيم مقارنات مع ما هو حادث في القارة الأوروبية، مبشراً بوصول الديموقراطية الأميركية إلى العالم، باعتبارها تحمل أول نظام مساواة وتكافؤ للفرص حقيقي في تاريخ البشرية.

في رسالة بعث بها عام 1835، أي يوم بدأ بإصدار كتابه "عن الديموقراطية في أميركا"، كتب دي توكفيل إلى احد اصدقائه، رسالة جاء فيها: " ان عالما جديدا تمام الجدة ينشأ امام اعيننا، لابد له من علم سياسة جديد ".

ان المجتمع الارستقراطي، مجتمع الامس، قد مات. لقد كان قائما على اساس التفاوت. ولهذا لابد من وجود مجتمع ديمقراطي، ينتصر في النهاية على انقاض النظام القديم، ويكون قادرا – بشرط ان يحسن تكزينه وتوجيهه نحو العمل الهاديء – على ان يؤمن للبشر سعادة أسمى.

كان توكفيل قد كتب الى والده وهو في اميركا: " فكرت كثيرا فيما يمكن ان اكتبه عن اميركا. إن محاولة تقديم صورة كاملة عن هذا الاتحاد لهي مشروه غير ممكن على الاطلاق ان يقوم بها رجل لم يقض سوى عام في هذا البلد الكبير. وانا اؤمن ان هذا العمل سيكون مملاً وغير ذي قيكة ثقافية، ومن ناحية اخرى قد استطيع بواسطة انتقاء الموضوعات، ان اطرح فقط الموضوعات التي ترتبط ارتباطا مباشراً إلى حد ما باحوالنا الاجتماعية والسياسية ".

قسم دي توكفيل كتابه قسمين، قدم لنا في الجزء الاول تحليل للعالم السياسي للولايات المتحدة الاميركية، وفي الجزء الثاني وصف للقارئ التشريعات والحياة العامة في هذه الولايات، وقد حدّد توكفيل المساواة باعتبارها العنصر الرئيس للحياة في أميركا، وقاعدة الدستور فيها، وبصفتها أيضاً نمط حياة اجتماعية ودينية. وكانت كلمة المساواة هي المدخل لدراسة الديمقراطية في اميركا، وهو يشير الى ان نظام الحرية الفردية، على رغم من بعض أخطاءة فانه يلعب دورا في التطور السياسي والإقتصادي، ويساعد على التقدم والنمو،، لكن توكفيل ينبهنا الى ان هذه الصورة الوردية التي يقدمها لا تخلو من مصدر للقلق والخوف على هذه التجربة، وهذا الخوف يتأتى من خطر المركزية المتزايدة التي قد يكون من شأنها إن تفاقمت أن تستعبد البلد كله لحساب أكثرية ما- اكثرية غنية مثلا.. او شركات احتكارية - أما نقاط الضعف الأساسية في هذه التجربة فتكمن في ترجيح كفة التصنيع دائماً على حساب الزراعة، وعدم وجود تماسك حقيقي في العائلة، فقد كان توكفيل يرى أن التماسك العائلي والتعاون الاجتماعي هما الوحيدان القادران على إعطاء اي مجتمع نوع من الصلابة. وفي غيابهما، لن يكون من المستحيل تحوّل الديموقراطية إلى طغيان.

حقق الكتاب حال صدوره في شهر كانون الثاني من عام 1835 نجاحا ثقافيا وتجاريا. وكانت المفاجاة التي تنتظر الناشر الذي اصر على طبع 500 نسخة من الكتاب، ان هذه النسخ نفذت في الايام الاولى، لتتواصل طبعات الكتاب وبكميات كبيرة، حيث صدرت سبع طبعات في سنته الاولى. ظل توكفيل يمسك براية الديمقراطية التي يرى انها تواجه شبح استبداد من نوع جديد، ففي كانون الثاني من عام 1848 القى خطبه في مجلس النواب، اخبر فيها بكل شجاعة النواب بانهم لايهتمون بشيء خارج نطاق مصلحتهم الشخصية، وانهم لايتمتعون بحب المصلحة العامة، ولا يساحقون ان يحتلوا مواقع القيادة بأي حال من الاحوال. واخبر توكفيل النواب انهم نائمون على بركان، وان العمال سيخرجون في موجات من الغضب قريبا، وهذا ما حدث بعد اشهر، وكان توكفيل يرى ان الحكومة ليست المتسبب الوحيد في ذلك، وإنما الطبقة الحاكمة باسرها: " إن السبب الأساسي والفعال وراء سقوط الناس من على كراسي السلطة هو كونهم غير جديرين بها ".

في سنواته الاخيرة عاني توكفيل من الامراض، حيث اصيب بمرض رئوي، وقبل وفاته بايام يكتب: ط حياتي كلها صراع من اجل اشياء لن استطيع أن احصل على أي منها كاملاً". وقد توفي توكفيل في السادس عشر من نيسان عام 1859 قبل ان يبلغ الرابعة والخمسين من عمره، وقد قال لزوجته وهو على فراش الموت: " لا تحدثيني عن الاعتراف أبداً، أبداً، أبداً، فلن يستطيع احد ان يجعلني اكذب على نفسي وأدعي الايمان وانا غير مؤمن. اريد ان اظل توكفيل، ولا أقع في الكذب ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

قراءة في كتاب: (المُفكر والأمير) للدكتور علي عباس مُراد

ينطلق كتاب (المُفكر والأمير) للمؤلف الأكاديمي الدكتور علي عباس مُراد من فكرةٍ منهجيّة مفادها أنّ تحوّلاً نظريّاً جوهرياُ عصف ببنيان العقل الكنّسي الذي ساد أوروبا زمناً طويلاً، قاده فلاسفةُ الإصلاح الديني في بدايات القرن السادس عشر؛ عندما قلبوا من خلاله المنظور الفلسفي والسياسي للعالم رأساً على عقب؛ فحوّلوا المنظور السياسي اللاهوتي للسُلطة إلى منظور سياسي دنيوي من صناعة الإنسان ومخرجات ونتائج ذِهنه.

لقد أخذت نظريّة الأصل الدنيوي للسُلطة في الحُقبة المُمتدة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر (1500 – 1800)، وبحسب مُخطط المؤلف، مساراً تطوّريّاً تصاعديّاً، بدأ بوضع لبنات السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة، والدولة الوطنيّة الموحدة القويّة (عند ماكيافيلي).. تلاه البحث في موضوعة السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة ذات السيادة (عند بودان)، ثم تطوير السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُطلقة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة (عند هوبز)، ثم تقيّيد السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة الليبراليّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحماية المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة، وصون الحريّات الشخصيّة (عند جون لوك)، ثم التنظير للسُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُقيدة الليبراليّة الديمقراطيّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة وضمان الحريّات الشخصيّة (عند باروخ سبينوزا).

كما هو معلوم، سبق ذلك استهداف الرأسمال الرمزي السابق الذي اشتغلت عليه الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة زمناً طويلاً، بتقويضه من داخل الكنيسة نفسها، لمّا خرج الفقهاء الإصلاحيّون أنفسهم يوجهّون سهام النقد لرجالات الكنيسة ويتهمونهم بالفساد وخداع الناس.. يشير الدكتور مُراد في هذا الشأن إلى عبارة أسقف ميندي غليوم أو وليم دوران Guillaume Durand, or William Durand  وهو ينتقد سلوك كنيسة روما أمام مجلس فيينا، مفادها: "لا يتحققُ الإصلاح إلا بتطهير كنيسة روما نفسها من قياداتها الروحيّة السيئة" [ص150].

مثّلَ هذا النقد تقويضاً عمليّاً لشرعيّة البابا، وتجريداً لسُلطاته الروحيّة والزمنيّة، وسط غياب كُل ما يُمكن أن يُساءل ويُحاسب المؤسسات الدينيّة عن أعمالها. لقد أحدث [هذا النقد] انقساماً بين أفكار الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة السائدة والكنّائس البروتستانتيّة الصاعدة كـ اللوثريّة والكالفينيّة والأنغليكانيّة، ما عَبّدَ الطريق لظهور بشائر عصر نهضوي جديد أشاع معه روح التفكير النقدي، وقيم الفرديّة التي أثّرت بشكلٍ كبير على علاقة الناس بالكنيسة؛ الجهة الوسيطة الواصلة بين الله والإنسان.

ـ حول أسباب الإصلاح الديني والسياسي

يعرض كتاب (المُفكر والأمير) في الفصل الرابع منه (مُقدمات التحوّل في الفكر السياسي الغربي الحديث) لمسألة التحوّل في المسار الإصلاحي الديني/السياسي منذ القرن الثاني عشر (1200-1100) في فرنسا، بفعل ظهور حركات دينيّة – اجتماعيّة كـ الألبيجيّين Albigeois، والكاثاريّين catharsis، والوالدانيّين Waldensians، وهذه الحركات جوبهت، معظمها، لحظة طرح فرضياتها الإصلاحيّة، بأولى حَملات التصفيّة الصليبيّة التي شنّها بابوات الكنيسة الكاثوليكيّة عليها، بغيّة تفنيدها واستئصال شأفتها.. بالطبع لم تتوقف مُحاولات الإصلاح عند هذا الحد، بل استمرت طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر (1200 - 1400) بالتشكّل على يد مُفكرين من قبيل: دانتي إليغري Dante Alighieri (1265 - 1321)، ومارسيلو بادواMarsile de Padoue  (1275 -1342) وجون الجندواني John Of Jandun (1275 -1325)، وجون هَسJohn Hus (1369 - 1415).

وكذلك، لم يتوقف الإصلاح عند هذه الحدود (التي جابه فيها دعاته حُماةَ الكنيسة بأدواتٍ متواضعة)، بل استمر يتشكل في مراحله المُتأخرة أيضاً؛ عندما بدأ الألماني مارتن لوثر Marin Luther (1483 – 1546)، في العقد الثاني من القرن السادس عشر، وهو الذي كتب ما يربو على الـ (95) أطروحة احتجاجيّة، وعلّقها على باب كنيسة فيتمبرغ Wittenberg في ولايّة ساكسونيا علناً، بالاعتراض على ما كان يُطلق عليه بيع صكوك الغفران، وهو التصور الشائع لشراء الخلاص من الخطايا. فكان أن دعا ومن معه من الإصلاحيّين إلى أهميّة العمل بالإنجيل والعودة إلى المسيح كمرجعيتين تأسيسيتين، وإلى إطلاق العبارة الشهيرة في حينها: "المسيح أولاً والإنجيل أولاً" [ص153].

أسّس هذا المُعطى إلى نشأة حركة الإصلاح الاحتجاجيّة/ البروتستانتيّة، التي شارك في تأسيسها ونشرها كُل من مارتن لوثر Marin Luther ومعاصره القس الكاثوليكي واللاهوتي السويسري أولدريخ زوينغلي ) Ulrich Zwingli1484 – 1531)، وخلَفه القس الكاثوليكي واللاهوتي الفرنسي جون كالفن John Calvin (1509 – 1564). وهؤلاء ساعدوا، رغم التباين في أطروحاتهم، في تأسيس نظريّة الأصل الإنساني للسُلطة مُقابل تواري نظريّة الحق الإلهي السابقة، عبر: نفي مزاعم الكنيسة عن حقها في السيطرة على الحُكام والحُكومات والتحكم بإرادتهم، والدعوة إلى استقلال السُلطة السياسيّة عن سُلطة الكنيسة والبابوات، والفصل الوظيفي ما بين الديني والسياسي [ص161].

لقد بدت هذه التحوّلات عنيفة للوهلة الأولى، على الرغم من أنّ الإصلاحيّين الذين مثّلوا تلك الحُقبة لم يكونوا إنسانيّين فعّالين (Christian humanists) لكنّ منظورهم العقائدي عن الإيمان، بوصفه مسألة فرديّة، ووصفهم للعلاقة التعبديّة المباشرة بالخالق، منحهم دوراً مؤثراً في الحركتين الفكريّتين الإنسانيّة والاجتماعيّة/السياسيّة [ص154].

وعقب العمل بثنائيّة (القديس والقيصر) التي عبّرت عن حُقبة تبشيريّة دار الصراعُ والتعاونُ فيها ما بين السُلطتين الدينيّة والزمنيّة، وحيث الدين كان الأساس للشرعيّة السياسيّة فيها، وهو ما عبّر عنه الباحث الدكتور علي عباس مُراد في كتابه السابق (القديس والقيصر - دار قناديل/ 2020، بدأ العمل بثنائيّة (المُفكر والأمير)، وهي الثنائيّة التي حملها عنوان كتابه الجديد - الصادر عن معهد العلمين/ 2025.. ولقد مثّل هذا التحوّل ظهور حقبة زمنيّة صار فيها العقل الإنساني أساساً للشرعيّة.. فلعب المُفكرون فيها أدوارَ رئيسة في صوغ الأفكار الإنسانويّة التي حدّدت نطاق السياسة العمليّة داخل المُجتمع.. وبدأ مُفكرون مثل نيقولا ماكيافيلي، وجان بودان، وتوماس هوبز وجون لوك يقدمون أفكارهم الدنيويّة بشأن السُلطة والحُكم وتحقيق القيم الفرديّة.

ـ ماكيافيلي والواقعيّة السياسيّة:

في الفصل الخامس المعنون: (ماكيافيلي والتأسيس للدولة الوطنيّة الحديثة) حاول ماكيافيلي Niccolò Machiavelli تحديد القواعد العمليّة في السياسة التي يتوجب على الأمير إتباعها إذا ما أراد إقامة دولة وطنيّة موحدة، ومستقرة وقويّة، حتى لو خالفت قواعدها الدينَ والأخلاقَ والقوانين، لأنّها قواعدٌ تصنعُ دينَها وأخلاقَها وقوانينَها عن نفسها بنفسها).. كانت أفكار ماكيافيلي في كتابه (الأمير) تمثلُ الضوء المُوجّه نحو العتمة، نحو "أمةٍ مات قديمها، ولم يولد جديدها بعد" [ص288].. فكان الدكتور مُراد يشير - عبر تضمين هذه الأفكار - إلى قراءة ماكيافيلي للمشهد السياسي في إيطاليا؛ قراءته كما هو في الواقع التاريخي المادي، لا كما في سياقه الميتافيزيقي المُتمنى.

لقد حاول الدكتور مُراد اظهار ماكيافيلي ليس بصورته السلبيّة التي صوّرها له مناهضوه ومنتقدوه، الذين وصفوه بـ اللامبدئيّة والخداع والكذب والتدليس، وحُكم المصالح المحضة، ليبخسوه حقه، ويُنكروا عليه دوره الحاسم في تأسيس فلسفة واقعيّة عمليّة. بل قدّمه باحثاً عن فكرة العمل السياسي وفن إدارته كما هي، لا كما نُحب أن تكون [ص288]. هذا القلب للفكرة السياسيّة في أن تكون واقعيّة تاريخيّة، مهّد لمناهضة نظريّة الأصل الإلهي للسُلطة، مقابل ظهور نظريّة الأصل الإنساني لها. بذلك امتازت مؤلفاته – من وجهة نظر شُراحه - بالدقة والأسلوب الجلي، والتأسيس للسياسة الواقعيّة والعمليّة في عموم أوربا.

ـ جان بودان ومفهوم السيادة

ما كان يرومه جان بودان Jean Bodin في كتاباته الفلسفيّة هو التوصل إلى حل توفيقي للجماعات المُختلفة داخل الدولة الواحدة؛ وهذا الحلُ يتحقق في ظل وجود سُلطةٍ مركزيّة مُطلقة سائدة، لا يُنازعها على سُلطانها أي سُلطان آخر داخلها وخارجها، لا سُلطان إقطاعي ولا سياسي ولا حتى ديني. فأظهر بودان مفهوماً جديداً داخل السُلطة أُطلِق عليه مفهوم السيادة، وهو مفهوم لم يكن مقدوراً التعبير عنه بوضوح في العصور الوسطى. لقد ألهم بودان المُفكرين الإنسانيّين الدنيويّين بأهميّة المُحافظة على الوحدة والسلام والاستقرار داخل المُجتمع.. ذلك ما كان يتطلب من الدولة أن تكون مُتعاليّة على الخلافات الدينيّة والمذهبيّة، ومالكة للسُلطة والقوة والإرادة، ما يجعلها قادرة على، وراغبة في منع الجدل الديني الباعث على الشقاق والنزاع. كما تلزم الأطراف المُتعارضة بأن يكون الجدل سلميّاً بينها، والإقناع والاقتناع سبيلاً لبلوغ التوافق الذي يُجنبها الصراعات الدينيّة والمذهبيّة.

لقد ركّز بودان على فكرة الاعتراف بالتعدديّة الدينيّة (بصورة عامّة)، والمذهبيّة (بصورة خاصة) والتمسك بالوحدة الوطنيّة، خياراً وحيداً لحل مُشكلة الانقسام والصراع المذهبي في فرنسا. كان بودان – بتعبير الدكتور مُراد - يخشى من نتائج الخلافات والصراعات المذهبيّة، وما تسببه من حروبٍ أهليّة داميّة، فحاول أن يتلمسَ، وسطها، طريقه إلى الأمن والهدوء والاستقرار، فسبق بذلك الإنكليزي توماس هوبز بحوالى نصف قرن إلى التأسيس للسُلطة المُطلقة، فِراراً من فوضى ومخاطر الحروب الأهليّة المذهبيّة - السياسيّة التي عاشتها فرنسا بين الأعوام (1550 – 1580)، وهدّدت بتمزيقها [ص343].

ـ توماس هوبز والسُلطة المُطلقة

في المبحث الخاص بـ (الدين والدولة) جعل توماس هوبزThomas Hobbes  الدين نزعةً خاصة بالإنسان، وليس شيئاً بعيداً عنه، فقال: "لا توجد علامات وثمار للدين إلا في الإنسان وحده، لأن بذرة الدين موجودة في الإنسان أصلاً"، بخاصة عندما يقف ذلك الإنسان عارياً أمام غوائل الطبيعة. فالدين عند هوبز مبعثه خوف الإنسان من الأشياء التي يجهلها، الأشياء غيّر المرئيّة.. والدين (وهذا هو المُهم) هو البذرة الطبيعيّة المودعة في تربة ذلك الإنسان [ص400]. لقد نمت هذه البذرة باختلاف تخيّلات وأحكام وأهواء الناس عن الدين، ليُصبح الدينُ طقوساً ومنظوماتٍ فقهيّة تقف بإزاء طقوسٍ ومنظوماتٍ فقهيّة شتى، تتبناها الجماعاتُ المُختلفة فتتصارع فيما بينها لتدافع عن فكرة الايمان المُتبناة. هذه البذور التي صارت أديان تقاسمها نوعان من البشر: النوع الأول الذين غذّوها ورتبوها تبعاً لما ابتكروه منها بأنفسهم، فعبّروا عن علاقتهم بالعالم الروحي الذي يَصنعونه لأنفسهم. والنوع الآخر من الدين هو المُعبَّر عنه بالأوامر والتوجيهات الإلهيّة. وكلتا الفرضيتين تُعبر عن غرضٍ محوري رئيس: جعل الأتباع أكثر استعداداً للطاعة واحترام القوانين، وأميّل للسلام والرحمة، وأدعى لقبول فكرة المُجتمع المدني.

بهذا المعنى نجد أنّ هوبز نفى الأصل الإلهي عن السُلطة السياسيّة، بل زاد على ذلك أن جعل الحاكمَ باسطاً يده على حياة ودين شعبه معاً.. كان يرى أنّ التطرفَ في فهم الدين وتطبيقه قوة مُدمرة للمُجتمع. بذلك لم يكن اهتمامه بالمسألة الدينيّة ودور المُعتقدات في الحياة الإنسانيّة دينيّاً، بل كان اجتماعيّاً وسياسيّاً، لأجل الأمن والسلام، بعد تفاقم وتفجر الصراع في انكلترا وأوروبا الغربيّة بين المذاهب الدينيّة نفسها، وبينها على اختلافها والمؤسسة السياسيّة (الحُكام الدنيويّون) منذ أوائل القرن السادس عشر.

لقد ركز الدكتور مُراد على أنّ الفكرة المركزيّة لدى هوبز في دمج الطبيعيتين الدينيّة والسياسيّة أن يضع الناس في مواجهة مُعضلة التعايش الزماني والمكاني، والتفاعل والتكامل الوظيفي بينهما، سعياً لإدارة شؤون الحياة الاجتماعيّة، والسيطرة عليها، والتحكم فيها، مما كان ذلك يتسبب في تنافسهما وجوديّاً، وهو تنافس غالباً ما كان يتسع ويتعمّق ويتفاقم ليصبح صراعاً، ومن ثم صداماً حتميّاً للظفر بالسُلطة والانفراد بها.. فكانت مُحاولاته لحل إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسة أو الكنيسة والدولة، لا تتم بإلغاء إحدى هاتين المؤسستين وإبقاء الأخرى، بل بإبقائهما بحُكم ضرورتيهما الحيويتين الفكريّة والعمليّة للحياة الإنسانيّة [ص404].

ـ جون لوك والسُلطة المُقيّدة

في الجزئيّة المُتعلقة بأفكار جون لوك John Locke حول (القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي) [ص453]، لم يجد لوك تقاطعاً بين القانون الطبيعي والوحي، بخاصة عندما يلعب الإله دوراً في الحُجة التي يستند إليها القانون الطبيعي، طالما إنّ الجوانب ذات الصلة بشخصيّة الإله يُمكن اكتشافها بالعقل وحده. حيث يتسق القانونُ الإلهي والقانونُ الطبيعي، ويُمكن أن يتشابها في المحتوى، رغم عدم تطابقهما بالتمام.. وهُنا يركز الدكتور مراد على ما أشار إليه لوك في عدم وجود مُشكلة في "أن يأمر الكتاب المُقدّس بقانونٍ أخلاقي أكثر صرامة من القانون الأخلاقي الذي يأمر به القانونُ الطبيعي، ولكنّ المُشكلة تكمن في أن يأمر الكتابُ المُقدّس بما يُخالف القانون الطبيعي". لأن الأداة التصالحيّة للتفسير الصحيح للكتاب المُقدّس هي التوافق مع القانون الطبيعي. أما ما يتعلق بمفهوم العقد لدى لوك فقد أعاد صياغة ما جاء به هوبز من قبل، فقال: "الناسُ قليلون في حالة الطبيعة، مع وفرة هائلة في الخيرات، فكانت حياتهم هانئة، لم يعانوا فيها التميّيز ولا التفاوت في التمتع بالخيرات، ولا الصراع عليها، ولا واجهوا المخاطرَ ولا قاسوا المشقات، وكانت هُناك شيوعيّة بدائيّة أو ملكيّة عامّة مشتركة للخيرات [ص456].

وإنّ المُشكلة التي أوجبت العقد هي الزيادة في أعداد الناس، وتناقص الخيرات، حيث بدأ سعي الكُل لحيازة المِلكيّة وتحريمها على الغير، وبظهور المِلكيّة ظهرت النقود التي تسمح بالادخار، فبدأ الخلاف يدب فيما بينهم بفعل تكالبهم على الحيازة وجمع الثروات واحتكار الخيرات، فتسبب ذلك في تحوِّل حالة الطبيعة التي كانوا عليها من حالة الأمن والسلام إلى حالة النزاع والحرب. بسبب هذه التحوِّلات، ولأجل تجنب التصارع الاجتماعي لجأ الناس إلى العقد، والعقد عند لوك كما يورده الدكتور مُراد يمثل الاتفاق على الاحتفاظ ببعض الحقوق، وتفويض بعضها الآخر (عبر التفويض وليس التنازل) إلى سُلطة حاكمة: فرد، أو نخبة، وتخويلها صلاحيّة حُكمهم، لتمنع بعضهم من إيذاء البعض ماديّاً ونفسيّاً، على أن يكون (صاحب السيادة) المفوض نائباً عنهم وطرفاً في العقد الذي يتفقون عليه، وملزماً نحوهم بتحقيق الأمن والسلام، وبخلافه يُجرّد من أهليّة التمتع بالسيادة ومُمارسة السُلطة، ويُسمح للناس بعدم طاعته [ص457].

أما عن التسامح فلم يكن لوك يرغب في تأيّيد هذه المقولة ابتداءً، وكان يؤيد سُلطة الحاكم المدني المُطلقة على أفعال الناس في المُجتمع، مُنكراً بذلك مطالب ودعوات حريّة الضمير والاعتقاد، ومُحذراً من منح هذه الحريّات للشعب، لأنّها ستسوقه وتنتهي به إلى فوضى لا حدود لها، مؤكداً أنّ التسامح من شأنه أن يفتح باباً على العصيان والفوضى وتهديد الوحدة المُجتمعيّة الوطنيّة. وفي الوقت ذاته، نراه أيضاً لا يتعاطف مع التطرف الديني، وكان يرى إلى أنّ الكنيسة المسيحيّة مُلزمة بدعم السلوك القويم والخلق الكريم دعماً شاملاً، وكان أول همّه "وضع المقايّيس والحدود بين العقيدة والعقل" [ص467].

مع ذلك تطوّر فهم لوك عن التسامح في كتابه: (رسالة في التسامح الديني)، بوصفه تسامحاً مشروطاً، عندما أشار إلى الكيفيّة التي يوظف فيها الحاكم تقديره الخاص، وحريّة تصرفه.. لماذا؟ لأنّ إيمان الإنسان لا يخضع لمطالب السُلطة، ولا يوجد سبب وجيه يُجبر ذلك الإنسان على التخلي عن معتقداته الدينيّة بأمر من إنسان آخر، فالناس سواسيّة، والكُل يتحمل المسؤوليّة الكاملة عن معتقداته التي سيتعين عليه الإقرار بها أمام الإله يوم القيامة [ص465].

ـ سبينوزا والسُلطة الديمقراطيّة

إنّ واحدة من الاقتباسات المُهمة التي يُمكن العثور عليها في الفصل المُتعلق بقراءات باروخ سبينوزا Baruch Spinoza التاريخيّة للنص المُقدّس هي ما اقتبسه الدكتور علي عباس مراد من سبينوزا نفسه عندما يقول: "من يبحث عن العنصر الإلهي في الأنبياء، يجب ألاّ يبحث عنه في نبوءاتهم والطقوس والشعائر الشكليّة المُرهِقة، بل يبحث عنه في حياتهم الفاضلة، ودعواتهم لتجسيد الدين في تعاملاتهم اليوميّة القويمة". هكذا، اعتقد سبينوزا أنّ كلمةَ الله تتجسدُ في الكتاب المُقدّس الذي يحتوي على قانونٍ أخلاقي يربطُ الناسَ بالفضيلة، لكنّه يتضمّنُ أشياءَ كثيرة تُحرك فيهم نزعةَ الشر أيضاً، أو تهيئُ لهم سبلَ تَحرِّكها.. ويقتبسُ مُراد فكرة أخرى: "إنّ قصصَ الكتاب المُقدّس ضروريّةٌ لغالبيّة الناس المُنشغلين بهموم حياتهم اليوميّة، ولا يجدون فراغاً أو قدرةً على تنميّة عقولهم، لأنّ هذه القصص، تمثلُ خيرَ عونٍ لهم على تحمل الهموم والتمسك بالأخلاق الفاضلة".

لذلك، كان هدف الدين – من منظوره – تقويم السلوك أكثر من تمثّل العقيدة التي يكفي أن تقتصر على "الإيمان بوجود الله، كعنوان أسمى يُحب العدلَ والإحسان"[ص510]. وأن خيرَ عبادة تؤدى لله، هي حب الآخر ومعاملته بالعدل والإنصاف ولا شيء غير ذلك، فضلاً عن تحرّر الفكر، لأن الله جعل الكتاب المُقدّس أصدق وأشمل تعبيراً عن الوحي الإلهي، ولم يجعله كتاباً مدرسيّاً للفلسفة أو التاريخ أو العلوم الطبيعيّة التي تمثل صوت الله [ص506]. إذن الكتابُ المُقدّس، من وجهة نظر سبينوزا، لا يُلقِّنُ معارفَ عقليّة ولا معانيَ فلسفيّة، بل يكتفي بالدعوة للإيمان بالله وطاعة أوامره فحسب، لأنّ الطاعة وليس المعرفة هي ما يطلبه الدينُ الحق.

أما ما يتعلق بالسياسة فقد قسّم سبينوزا عنوان كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى محورين: ضمّ المحور الأول منه عشرين فصلاً لـ اللاهوت، أما المحور الثاني فضمّ خمسة فصول للسياسة، والتي لم تكن سياسيّة خالصة، بل تضمنت الكثير من التفاصيل اللاهوتيّة. ركّز سبينوزا فيه على النقد التاريخي للكتاب المُقدّس، للكشف عن حقائق الدين، وتفنيد وإبطال كُل مزاعم السُلطات الدينيّة في مُمارسة السُلطة السياسيّة في الدول الحديثة، ومن ثم الدفاع عن الدولة الديمقراطيّة العَلمانيّة [ص514]. لذلك عندما حاول سبينوزا التوسّع والتعمّق في مسألة الفصل بين الدين والسياسة، منح لكُلٍ من الدين والسياسة مجاله الخاص والمُستقل، فهيأ للدولة حق الإشراف في نطاقها السياسي على كُل شيء، بما في ذلك الدين، وأن تكون مصالحُها هي العُليا. فكان للموظفين الحُكوميين فرضَ طاعة القوانين، وللدولة والفرد الحق في حمايّة ذاتيهما.. لكنّه رأى: أنّ الأمر بالنسبة للدين يختلفُ اختلافاً كبيراً عن القانون والسُلطة العامّة لأنه يقف خارج نطاقهما، باعتبار أنّ حُسنَ الخُلُقِ والصِدقَ في الدين، وهذه السجايا لا تنتجها قيود القوانين ولا سُلطة الدولة، ولا يُمكن لأي فرد في العالم أن يتنعم بالسعادة الروحيّة رغماً عنه، ولا أن تُسَن القوانين لإجباره على التنعم بها [ص517].

وعن تفضيله للنظام الديمقراطي فقد كان سبينوزا أولَ مُفكرٍ قدّم في كتابه (رسالة في السياسة)، الأشكال التقليديّة الثلاثة لأنظمة الحُكم في التراث الفكري الإغريقي - الروماني (المَلكي الفردي، الارستقراطي النخبوي، الديمقراطي الشعبي)، والتي قال إنّها لا تختلف عن أشكالها في الدولة الحديثة، ولأجل تحديد شكل النظام السياسي للدولة، لابد من معرفة الهدف الذي وجدت لأجله حالة الاجتماع، والذي هو بلوغ السلام والحياة الآمنة [ص540]. وبالطبع لم يُصرِّح سبينوزا بتفضيله لنظام حُكم مُعيّن، لكنّه جعل قراءه يستنتجون تفضيله لـ (النظام الديمقراطي)، لأنّه حدّد مواصفات هذا النظام بأنّه: النظام الذي يتحقق فيه الأمن والسلام والاستقرار، ويجعل الأفراد مواطنين إذا ما منحهم سُلطة سن القوانين بأنفسهم ولأنفسهم، وفرض طاعتها على أنفسهم ذاتيّاً، وتطبيقهم لها طوعيّاً. وأنّه يجعلهم رعايا إذا ما حرمهم سُلطة سنِّ القوانين ومنحها للحكام المُستبدين، الذين يفرضون على الناس طاعتها قسريّاً، ويرغمونهم على تطبيقها قهريّاً.

وفي سياق مُفاضلة سبينوزا في (رسالة في السياسة) ما بين أنظمة الحُكم (المَلكي، الارستقراطي، الديمقراطي)، شرح عيوب ومزايا النظامين المَلكي والارستقراطي، لكنّه صرحَ بكرهه للنظام المَلكي الاستبدادي المُطلق، وكرس في (الفصل السابع من رسالة في السياسة)، دعوته إلى وجود مجلس استشاري كبير إلى جانب الملك، بما يجعل النظام المَلكي شبه ديمقراطي، بضمان استماع الملك إلى صوت العقل.

***

د. محمد عطوان

تسلمت نصَّ "ليليات" من الأستاذ عبدِ الإله بلقزيز بمدرج الكلية، وما غادرت المكان حتى أنهيت "صباح الليل" الذي رسمته ريشة الفنان المبدع مرسيل خليفة؛ وأنا أتنقل بين فقرات هذا الاستهلال وكأنّي أحصي حبات عقد فريد، نُظِمت قِطَعُه زخْرفةً؛ انقذفت إلى ذاكرتي مقطوعة "جدل". جَدَلٌ جادل فيه "مرسيل خليفة" "روحانا شربل"، كل بعوده على مقام حجاز الأصيل، وبين الاستهلال والإقفال، مسافة إستتيقية، ترنّح فيها المقام بين الحجاز والكرد، بين الصبا والراست ثم العجم؛ كما ترنح ليل الكاتب تحت غسق يمتد مع شمس العشي ليطال ألوان الطيف كي يستقر بين ذراعي الجدّة وهي تؤثث له جسراً للحكايا حتى يعبر إلى صباح الليل، "لك آخر المساء كله جسراً كي تعبرَ إلى بداية يومك" ص 27. هذا التّرنُّحُ أعطى المعزوفة رونقها وحسنها، يأخذك نبعها الأصيل في استضافة إلى زمن "الموصلي وزرياب"، بل إلى زمن حداة القوافل والقوافي، زمن "امرؤ القيس" الذي يستدعيه الكاتب من البحر الطويل ليحدثَه عن ليله البهيم، يحكيه شُجونَه وهُمومَه، حين يرخي سدوله فتنجلي البلايا، ويشْخَص البصر في الحلكة الدامسة بحثا عن جِذْوَةِ نار يسْتَضِيءُ بها أو قَبس يستدفِئُ به من صِرّ الرزايا والنكبات التي تعترضه وهو يشق الطريق إلى الغد الآتي.

ذاك استهلال جامع يُطوِّقُ الليليات بين دفَّتَيْن رماديتين. ما إن تُدِير الدّفَّة الأولى حتى يشمخ أمامك مرسيل خليفة وهو ينقر على أوتار عوده معزوفةً ويُداعب بريشته فصولا مُكثَّفة من حياة صاحبنا؛ نُطفةً غيرَ طائشةٍ كان، أو طفلاً يحلو له أن يشاغب على طريقته وينتهي إلى حضن الجدة الحامية لهذا الشغب، تستهويه روائح المكان التي تعبَق في كل الجنان ومن كل الزوايا المُحصّنة بأبي العباس السبتي وأصحابه الستة، أو الأهوية  والأنسام الموصدة بباب دكالة وأخواتها؛ ثم يافعًا طموحًا مُتخطِّيًا القَطيعَ، فاسحًا المجال للمُخَيِّلة والأحلام، راكبًا صِراعَ كلِّ حِراك، مُتحدِّيًا السكون والخوف، فازعًا إلى استنساخ المحذور وقتَها، حاملاً للهموم والممنوع.

وكتب مرسيل خليفة عن بلقزيز وله بأسلوب جِدِّ مكَثَّف، ضَمَّ فيه الزمنَ ضَمًّا حتى تقلصت المسافة وتراكمت الأحداث في مقاطِعَ مرصوفة كخَرَزِ العقيق، يقول مرسيل: "وإنِّي لسَعيدٌ بكتابة هذه المُقدمةِ عنك، ولك، وأنا أجُوبُ آفاقًا بعيدةً، أُقَلِّبُ المُدنَ صفحةً صفحة وبذلك بلغت بابَك، من خلال نصِّك الجديدِ." ليليات صفحة 22. وكأنه وضع صاحبه تحت مجهر بمختبر الزمن؛ أو قل أسقط أناه على غيره، إذ يرى مرسيل ذاته في بلقزيز، فهما صِنْوان في الهمِّ، رفيقان في الوحدة، غريبان في الوطن، يَتَسارَّان ويتقاسمان لواعِجَ الإنسان والمكان العربيين.1337 BALGHLEZ

هنيهة أمام محتويات نص "ليليات"، تجد أنها تَسْنُد إلى أربعة أركان: التفْسرة، صَهيلُ الذاكرة، سِفْر التّأوين، ثم دُخول الخروج. وفي محاولة منّي لأتعرف مدى صلابتها وشموخها حتى تُكَوِّنَ أساسَ بناءِ نَصٍّ رصينٍ يصطف إلى مصاف روائع الأدب الكلاسيكي كما ورد على لسان الكاتب نفسه في لقاء بكلية بنمسيك: "لكِنّني أيضا، من المُتمسِّكين بهندسةٍ للرواية لازال يسكُنُها نموذج الروايات الكلاسيكية الكبرى. أنا لا أُخْفيكم أنني حتى الآن، لا أزال أتحرك في إيصَاغ نموذج بالزاك، وزولا، وفلوبير..."

قلت حاولت الوقوف على أركان هذا البناء الإبداعي، فوجدتني أمام صرح متين تمتد جذوره إلى ماضٍ تالِدٍ ويستشرف مُستقبَلًا حالما، لا يتذوق حلاوته إلا من عبَّأَ حواسه، وأعمل العين، واللسان، أو التاج، والقاموس؛ بل إن بلوغ لذة التذوق هاته، لا تحصل عند الكلام على علم الأدب إلا بالاستِرْشاد بما ذكر عبد الرحمن بن خلدون : " وسمعنا من شُيوخِنا في مجالس التعليم أن أصولَ هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتَبَعٌ لها وفروع عنها".

أقِفُ قُبالةَ أول الأركان "التَّفْسِرَة"، حيثُ يذكر صاحب اللسان أن التفْسِرة والفَسْر شيءٌ واحدٌ وهو نظر الطبيب في الماء لاسْتِجْلاء إشارَةٍ على عِلَّةٍ بصاحبه، كما أن كلَّ شيءٍ يُعْرَف به تفسير الشيء ومعناه، فهو تفسرة.

 وأول ما يَنْتَابُ القارئَ وهو يلامِسُ "التفسرة" ضمير المُخَاطَب، مَن يخاطب السّارد؟ إنه ثالث الأساليب الأدبية التي ينتصب الراوي فيه مخاطبًا القارئَ، وهو أسلوب طال الليليات بأكملها، أسلوب أدبي وظَّفَه العرب القدماء في فن الرسائل، وفي خطب أسفارهم كخطبة كِتاب "الحيوان" لأبي عثمان، أسلوب رصين، ومعجم لغوي يرمي شِباكَه في كل البوادي العربية، لا تحُدُّهُ الكثبان الرملية أو تُقيِّدُه أوتاد الخيام الوبرية.

ويسارَ التفسرة، "صهيل الذاكرة": الذاكرة أنثى تتقن الغواية، ماهرة تتقن الرقص على الجرح وهو يتعافى إلى البُرْءِ، "وَحمُها سيء"، تطلبها فتتمنع، وتقبِلُ لمّا أنت تُعرضُ، تناور وتلك حرفتها، صامتة إلا من همهمات لا تكاد تبين، ومهمهات بغير زجر، تُثِيرك وتَسْتَفزك، وتصهل في وجهك: أنت الذي بعثرني، ومن مشربية أندلسية سهامها مرسلة.

كم هو عظيم هذا الصهيل، آسر للنداء، عالق بأصوله، نبيل هو حين ينطلق من ذاكرة جمعية، حاولت التحرر بقبضة المنجل أو بمعصم مطرقة، وهي تلوِّحُ بكوفية تأمل الحرية، تتطلَّع إلى الثُّرَيا لا يهُمُّها إن حدَّثَتْهم عن السُهَى وحدَّثُوها عن القمر؛ في كبد الليل ينطلق الصهيل، يُحْدِث رَتْقاً يمِضُ من خلاله سَنَا برْقٍ يضيءُ الخيمة ويهزُّ الأوتاد ليدق الوتد على رشف البن العربي. صهيل يعرج بك لتعانقَ المرأة المسلسلة في عليائها، وأنت في كل ذلك تسْبَحُ ثَمِلاً على نغمات وتراتيل بديعة، من جِناسٍ وطِباقٍ، أو سَجْعٍ واستعاراتٍ، ومحسِّنات أخرى، تعطي النصَّ إيقاعًا موسيقيًا جميلاً، إذ للإيقاع علاقة حميمية بحركة الجسم، في الرقص والتعبير ونبضات القلب، تتشكل نغمةٌ رئيسةٌ في سُلّمِ المقام مبدؤُهَا "آخر المساء أحمرُ. لعلَّه برتقالي..."ص27. وقُفْلها " آخر المساء أحمرُ. لعلَّه برتقالي..."ص35. وفي هذه الجولة تُحسُّ الحسرةَ والخيْبَةَ على رجْع صَدَى الصَّهيل في الآفاقِ وفي النفس وكأنك "ركِبْتَ المتاهةَ كمن يركب البحر على صهوة موجةٍ لا عنان لها" ص41. أو كالذي قلتَ فيه "ولِدْتَ في الحمراء والْتَحَيْتَ في البطحاء، وانتَحيْتَ ركناً، من بين أهلك والرفاق، لتُمارسَ طقْسَ الإصغاءِ للحرف". ص65.

 صهيل الذاكرة تأوينٌ يستوْقِفك ويستنهضُ فيك الهمّة لتمارس الكتابة باسمك؛ لا لذكريات ولدت في زمن ما، ونحتَتْ سيولاً غير منتظمةٍ تشكَّلتْ على شاكلتها تضاريسك، تصوَّرْت "أنّ العالم سيخرج من مطارق العمال ومناجل الفلاحين"، فما كان صندوق الاقتراع عذريًّا، وما بقيت النَّخْوة تُرْتجى ليلةَ الدّخْلة، وما ميزت بين الخوف والسياسة، أو حكايا "دادا" وشهرزاد، حتى عفوْتَ بعدما غفوتَ "لتحفظ لك الحياد الضّروريَّ أمام كائنيْن أهوجين لا يُسْلِسان القياد". ص105. فتُمْسي أغرب الغرباءِ في وطنه "إذا ذَكرَ الحقَّ هُجِر، وإذا دعا إلى الحق زُجِر." الإشارات الإلهية ص13.

التّأوينُ إحياءٌ وبعثٌ وتذكّرٌ، لا يقتصر على تَكرار أقوالٍ وأفعالٍ، أو تذكّر ما عُمِل وتُعُلّمَ، بل تأوين كل ذلك من خلال احتفالٍ طقوسي (ليتورجي) تحصل فيه الدّعَة والسّكينة، وتعمّ النعمة والقوة، ومعهما القدرة على السمو. وأيام العيد أيام وفاء وتأوين، تلتحم الجموع وتتماسك كما الأغصان بالكرمة تلْتَصِق. والتأوين تحديثٌ للمكان والزمان والأحداث، ولو أفرشْتَ "للخيال بساطه الكُحلي، ولم تُسْرج للجماليِّ حصانه؛ فما كان الحسد ليدقَّ إسْفينا بين صورة من القريحة وفكرة من وجَع التّأمل". ص109. فهو تحديث للشخوص وامتطاء للمركوب السهل في غير جموح وتذكر للمربط الأول، استدعاء لذاكرة تصهل واستجابة لنداء وجب أن يوقظ من الغَفْوة والسِّنَة والنِّسْيان.

التأوين أسلوبٌ أدبيٌّ يَدْرمجُّ القارئَ في النصّ ليشارك الشخصيات في جولات مشرعة بين ثنايا الفقرات والفصول، مستشعِراً آهات اللّفْظ والعبارةِ وأنَّاتِ لافِظِها وعابِرِها، يشاركُه متعة القراءة والسّؤال، لحظةَ النّزْوة والرّعشة، مُنْتَشِيًّا بالكلمة العذبة، دارِجةً على الألْسن أم مُنزويةً في طيِّ النّسيان. "يا هذا: ارحم غُرْبَتَ(كَ) في هذه اللغة العجماء، بين هذه الدهماء العثْراء!" الإشارات الإلهية، ص 93.

التأوين استذكار، واسترجاع، واستحضار؛ تحديث للموقف من السياسة والشعر، حنين للديار والأهل، يعمُرُهُ الأمل ويغمُره، ويَردُ من التاريخ وعليه ليستقْرِئَ فصولا من حياة أمّةٍ تعيش على قضية؛ العودةُ قصدُها، و "الرّاحل عائدٌ، والعود إلى الأصل أصلٌ، أما الذهاب فاسم آخر لوصف المعنى من خارجه". ص155. والتأوين تمسُّك بالأمل وبحث عنه بين "أزقة القلب (ال)مفتوحةِ لعبور الماضي، ولا يُقْفلها سوى النسيان، أو سهرة طارئة على وتر الانتباه." ص146.

دخول الخروج؛ "منذ الأزل، يكرر الزمان دورته؛ يبدأ من حيث ينتهي، ويعيد سيرته، وحُكمَه، وحِكمتَه، بلا ملل." ص163. وأنت خرجْتَ من الجدث وما تبوّأتَهُ وقد أخْطأك الموت مرّتين، انبطحت متبرِّما من عناقيد الغضب إلى تفاهم نِيسَانَ، اكتسبتِ المقاومةُ منَعَةً، وصمدت لتُحَوِّل عناقيدَ غضبهم إلى باقاتِ زُهُور ونَياشِينَ على صدور من تلثَّمَ بكوفية الفداء والكرامة. في بيروت تبرَّمْتَ من الراجمات وما تبرَّمْتَ من عناقيد "شتاينبك" أو رواية ألف وتسعمائة وأربعةٍ وثمانين لأورويل، حيث يُصادَرُ الحكيُ ويُحرَّقُ، أو يُمنعُ التنبُّؤُ وقراءة الفنجان، لولا هشاشةُ الحدود وانسياب تجارة التهريب. "في بيروت، تحيا وتموت، وتكتبُ فُصولَ الإقامة والرّحيل، وتمتشِقُ الحسام." ص172. عناقيد الغضب كشْفٌ للوجه الآخر المتواري خلف الحرية وحق الإنسان في الحياة، ساعة ما يصير القتل حرفةً تُمتَهن والوأدُ مفخرةً تُشْهر.

 في بيروت "تعلّمت بعدما وفَّرك الموت، من تذكِرته كيف تهتمّ بما تبقى لك من فسحة قبل النهاية،" ص178. فتحاورُ أنَاكَ وتنظرُ إلى مِرآتك لتكتشفَ أنّك اثنان في واحدٍ، القسمة بينهما ضيزى، تتمسّكُ بِثَانِيكَ، فأنت به كائنٌ، وبدونه يعتَريك النقصُ إن لم تتشرّد: "فأنا من دونك ناقصٌ، أو عدمٌ مجرَّدٌ لا يملأُ فراغَه شيء أو أحد، وأنا في غيابك مُهيّأ للتشرُّد." ص188.

في دخول الخروج، عدوْتَ ولهوتَ وسابَقْتَ أناكَ بين الفصول الأربعة، وما كانت لك الرغبة في مغادرة الربيع، غَمَر أنفكَ عبق الريحان والأرز والياسمين، وغضَضْت طرْفَك عن جارتك حتى توارَتْ خلف الستار، لتَفْسح الرُّكْحَ لراقصة غجرية أرهقها التّرْحال، تشُدُّ عالياً كوفيةً توضع على الهامات والأكتاف، في لباس أبيض للحِداد مشوبٍ بسواد. خلَطْت الألوان فكُنْت "كمن يُغامر بالواضح من أجل المضمر" في زقاق الضّاحية، أو البطحاء، أو الحمراء، ترقب زرقة المحيط أو المتوسّطِ من شرفة التاريخ.

***

د. محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 9 أبريل 2025

مَرَّ قرنٌّ على صدور «الإسلام وأُصول الحكم»، للشّيخ علي عبد الرَّازق(ت: 1966)، (أبريل 1925). مع ذلك، مازالت المواجهة بين مَن يريدها «حاكمية إلهيَّة»، مفسراً «الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(ثلاث مرات في القرآن) بالسّلطة السّياسيَّة، ومَن يراها مدنيَّة، فالآية قصدت القضاء الشّرعيّ، وقضاء الله وقدره(ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة)، وهنا لا حاكمية إلهيَّة سُنيَّة، ولا ولاية فقيه شيعيّة. أُعيد نشر الكتاب بكثافة، سنوات عنفوان الصّحوة الديّنية، من القرن المنصرم، للاحتجاج به عليها، لِما فيه مِن حِججٍ ضد مروجها الإسلام السّياسي، تجدد قرَّظ الكتاب، كما تكاثر نقَضه، مع أنَّ الردود عليه ليست قليلة، حال صدوره(1925). مِن الرّدود الحديثة، كتب محمَّد عمارة(ت: 2020)، بعد تحوله إلى نصرة الصَّحوة، مقالات في مجلة «الدَّوحة»(1986)، بعنوان «الإسلام وأُصول الحكم لعليّ عبد الرَّازق دراسة ووثائق»، ثم جمعها في كتاب صدر(2000)، صحيح أنه وثق لقضية الكتاب، لكنَّ جوهر ما ورد كان للنقض، ومحاولة لتسفية عِلم مؤلفه. ربّما كان آخر النَّقائض المعاصرة، ما أعده عبد المعبود إسماعيل «كتاب الإسلام وأُصول الحكم للشيخ عليّ عبد الرَّازق دراسة وصفية نقدية»، المنشور في مجلة جامعة الأزهر كلية أُصول الدِّين بالمنوفية(العدد 35/2016)، كتبه، على ما يبدو، لدعم الدَّعوة للخلافة، وكتاب الشّيخ أحبط حلم دعاتها.

جعل الكاتب، بعيداً عن الموضوعيّة، أسرة آل عبد الرّازق مِن أعوان الاستعمار، الذي «خطط لفصل المسلمين عن الإسلام»، وخدم به، حسب معد المقال، «أتاتورك اليهوديّ مِن فِرقة الدّونمة»، ولا يذكر مصدر هذا النّسب؟ أَما النّقائض التي زامنت صدور الكتاب، فلم تمض السَّنة(1926) إلا و«المكتبة السّلفية» بالقاهرة تنشر ثلاثة كتب، يرد فيها أصحابها على «الإسلام وأُصول الحكم»: «حقيقة الإسلام وأُصول الحُكم» لمفتي الدِّيار المصريَّة الشّيخ محمد بخيت المطيعيّ(ت: 1935)، و«نقض الإسلام وأُصول الحكم» للشيخ محمَّد الخضر حِسين التّونسي(ت: 1958)، - أصبح شيخ الأزهر بعدها- و«نقد علميّ لكتاب الإسلام وأُصول الحُكم» لمفتي الدّيار التُّونسيَّة، وصاحب التّفسير «التّحرير والتّنوير»، الشّيخ محمَّد الطّاهر ابن عاشور(ت:1973).

غير أنَّ أكثر مَن سَل السّيوف، على صاحب الكتاب، أبوالإسلام السياسيّ الشَّيخ محمد رشيد رضا(ت: 1935)، في مجلته «المنار»، فقد اعتبره هادماً للإسلام، ومفرق الجامعة الدِّينية، وهي الخلافة، مطالباً بتكفيره وتضليله. كتب في العدد الثّالث(21/6/1925)، بعد نشر الكتاب بشهرين، أنّ الشّيخ عبد الرّازق في كتابه نطق بـ «تحليل الحرام، وتحريم الحلال، ومنع الحكم بما أنزل الله، وإباحة حُكم الطّاغوت». هذا، وبالمقابل، دافع عن مؤلف الكتاب وقرَّظه كُتابٌ وأدباءٌ كبار، مِن أهل التّنوير والمدنيَّة، مثل: طه حسين(ت: 1973)، ومحمد حسين هيكل(ت: 1956)، وغيرهما. لم يسمع الأزهر لتحريض صاحب «المنار»، تقيداً بالعقيدة الأشعريّة التي لا تُكفر، واكتفى بفصل عبد الرّازق من القضاء، وإخراجه مِن هيئة العلماء. بعدها أُعيد له الاعتبار في إمامة أخيه مصطفى عبد الرّازق(ت:1947) للأزهر(1946)، ثم توزر للأوقاف(1948)(الإسلام وأُصول الحكم طبعة 2012 المقدمة). على أيّ حال، حرك الكتاب المياه الرّاكدة، والرّجل يريده ديناً لا سياسة، مستنداً إلى نصوص مِن القرآن، والأحاديث وأقوال الخلفاء وأفعالهم، ولأنَّ فيه الحِجّة، فما زال يثير الجدل، خصوصاً ومؤلفه مِن داخل المؤسسة الدينيَّة.

مرَّت مئة عام والحديث فيه وعنه جديد متجدد، مَن اعتبره كتاب الضّلال، ومَن جعله فاتحة التّنوير. مع أنَّ أحمد شوقيّ(ت: 1932)، كان نصيراً للعثمانيين، لكنه لم يعصم السّياسة بالدّين ولا العكس، خلاف العاصمين الدّين بالسّياسة، قال: «مضت الخلافة والإمام، فهل مضى/ما كان بين الله والعبّادِ/ والله ما نسى الشَّهادة/حاضرٌ في المسلمين ولا تردّد بادي»(الدّيوان)، فمِن دعاية الحزب الدّيني في الكسب عامةً، عِصمة الدّين بالسّياسة، وهو ما نقضه، وفنده الشّيخ عبد الرّزاق قبل مئة عام.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

يتميز كتاب الخيار الآخر لمؤلفه مازن الحسوني بأنه كتاب عن موضوع مهم في الوقت الحاضر ألا وهو موضوع السير العائلية، إذ قلما تجد كتاب من هذا النوع يتحدث بصدق عن سيرة لعائلة مرت بظروف صعبة منذ بداية تأسيسها وارتباط الزوجين برباط عائلي قائم على الحب والتفاهم والثقة المتبادلة التي تشكل الحجر الأساس لبناء أسرة سعيدة وقوية تقف بوجه عاديات الزمن التي لا يمكن التنبؤ بها منذ نعومة أظافر هذا الحب إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. فنظرة الاعجاب الأولى لا تكفي لإثبات صدق هذا الحب وحتى المواعيد الغرامية لا يمكنها أن تبرهن على صدق العاطفة ولكن الوقوف بوجه الظروف الصعبة التي تواجه المحبين والثبات على صدق العلاقة وتطورها بشكل إيجابي هو الدليل القوي على نضج المحبين. وهذا الذي نجده في سيرة حياة باسم وليلى وما لاقوه وتعرضا له من مصاعب أثبتوا أن الحب الأول لابد أن ينجح ويتكلل ببناء عش الزوجية، وعلى الرغم من أنه توجد إحصائية قديمة في ستينيات القرن الماضي ملخصها أن الحب الأول يفشل بنسبة 60% ولا ينجح في مواجهة المصاعب التي يمر بها المحبين حتى وإن كانوا مخطوبين لبعض وباتفاق عائلتي الطرفين، وبالنتيجة فسخ الخطوبة وكل منهما يذهب في طريقه. كما يتميز الكتاب بأسلوب سلس ولا يوجد فيه اطناب وهذا ما اضفى عليه مسحة جميلة وحيوية التنقل من فكرة الى اخرى. باسم هو أحد أبطال هذه السيرة عمل في مفرزة الطريق من ضمن تشكيلات حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في كوردستان العراق: وكانوا " مسؤولين عن تمرير شحنات الأسلحة والملتحقين عبر الحدود وبطرق خاصة يعاونهم عليها بعض الأكراد من كوردستان تركيا، بوصفهم أدلاء مؤتمنين. ص 41".

كان باسم يسكن في بيت مع رفاق آخرين يؤدون نفس المهمة وهم يسكنون في مدينة صغيرة بعيدة عن العاصمة دمشق وكثيرا ما تتبدل الوجوه ولكن بطل الرواية مع قليل من الرفاق لا يتبدلون في هذه السرية الأنصارية. وعلى الرغم من ظروف العمل السرية وقع باسم في حب بنت الجيران. وتمكن من الزواج منها، زواج رسمي في المحكمة في العاصمة دمشق ولكن بوثائق لا يوجد فيها دليل على شخصيته الحقيقية. جواز سفر يمني جنوبي و بإسم بهجت جواد حسين (ص65). وكذلك "وكيل العروس الذي هو صديق باسم وهو رجل مسيحي بإسم محمد ويحمل كذلك وثيقة يمنية وزوج اختها الأكبر منها" ص 65.

بعد الاحتفال الصغير بزواج باسم وليلى في بيت محمد المسيحي الذي كان غنيا ودسما بكرم ونبل الزوجين اللذين وجد فرحتهما تفوق فرحتهم كما يصفه باسم في صفحة 66 من الكتاب. أجمل عبارات وجمل وجدتها في الصفحة 67 تعكس درجة وعي باسم وحبه الحقيقي لزوجته ليلى التي تحملت معظم وخطورة أوزار هذه الخطوة الجريئة أمام عائلتها المتمسكة بالتقاليد الإسلامية والعربية:" قضينا يوم عسل، إنما بلا اختراق الحاجز الأخير الفارق بين البنت والزوجة. أردته زواجا صوريا ليتحول بعد إجبار الأب على الموافقة الى عرس حقيقي"(ص67).

ونقرأ في نفس الصفحة العبارة التالية التي تعكس لهفة باسم ليكون أحد أعضاء عائلة الحاج أبو ليلى.: " متى يفتح لي هذا الباب بحب بدل الخوف ".

 والطريف في الأمر أن كلا العروسين باسم وليلى لا يعرفان ولا يتوقعان سير الإجراءات الرسمية بعد عقد القران في دائرة الأحوال الشخصية والنفوس التي يجب أن تجرى بعد إجراءات الزواج. انكشف امرهما وعلمت عائلة ليلى بذلك بعد ثلاثة أيام من الحدث السعيد. تم اشعار بلدة القامشلي بذلك وذلك بعد استلامها نسخة من عقد الزواج لأجل تغيير قيد نفوس ليلى من عازبة الى متزوجة (ص 68). وصل الخبر الى عائلة ليلى بواسطة جارهم الذي يعمل في دائرة نفوس القامشلي. قرر باسم أن يذهب الى أهل ليلى ويتحدث معهم حول علاقته بليلى وخصوصا مع والدها. طرق الباب فخرج له الحاج أبو ليلى مكفهر الوجه ولا تعلو وجهه ابتسامة ترحاب ولم يرد على تحية باسم. " قال باسم أنا بهجت اليمني، هل تريد أن نتحدث أمام الباب...؟ قال كمن أسقط في يده: تفضل " (ص 70). وبعد الجواب على أسئلة الحجي المختلفة، قال باسم حجي..! قبل أن أقول لك أي شيِء... بنتك ما زالت بنت. سحب له نفساً (يعني تنفس الصعداء)" (ص71).

وبعد نقاش طويل طلب الحجي من باسم أن يطلق ليلى. رفض باسم هذا الحل وغادر المكان. تعرضت ليلى لضغوط عائلية كبيرة وفي مقدمتهم الأب وتعرضت للضرب المبرح عدة مرات وحتى التهديد بالقتل إن أصرت على رفض الطلاق ولكنها صمدت ولا فائدة من التهديد والوعيد. بعد مرور وقت طويل تكلم معها والدها في الغرفة المحجوزة فيها وتحدث معها بصوت مبحوح: دعه يطلقك أولا ومن ثم يأتي ليخطبك مني أمام الناس.. أعدك أني سأوافق عليه (ص72).

قابل باسم ليلى في بيتهم بطلب من والدها وعلم بخطة والدها وشعر بأن والدها سوف لا يبر بوعده وهذا الذي حصل بعد الطلاق. دخلت ليلى في الإقامة الجبرية المشددة، بما فيها عدم الذهاب الى دمشق لتكملة دراستها الجامعية. ولهذا لم يتمكن باسم من رؤيتها لا على سطح البيت ولا في خارج الدار. وكذلك بعد انتشار خبر العلاقة بين زواج وطلاق اعتبر شخصا غير مرغوب به من قبل الحزب وأرسل الى دمشق بانتظار حصوله على زمالة دراسية لإكمال دراسته الجامعية.

تمكن باسم من الحصول على عمل بتخصصه الهندسي في دمشق بانتظار الزمالة الدراسية. انقطعت وسائل الاتصال مع ليلى لعدة شهور الى ان حصلت على سماح من أهلها لمواصلة دراستها في العاصمة دمشق (74). تمكن باسم من لقاء ليلى في دمشق واخبرته بأن والدها وافق على قدومه الى القامشلي وخطبتها بشكل اصولي حسب الأعراف والتقاليد.

 بعد مرور فترة من الزمن وقدوم أخيه الأكبر من المغرب سافرا معا الى القامشلي، وهناك تمكن بمساعدة عدد من الأصدقاء السوريين من وجوه المدينة المعروفين بتشكيل وفد والذهاب الى بيت أهل ليلى. كان في استقبالهم أخ ليلى الكبير الذي قال لهم بأن الحجي مريض ولا يتمكن من مقابلتهم. لم يفي الحجي بوعده وهذا الذي توقعه باسم. طلب أخوها الكبير شروطا تعجيزية من باسم ولهذا لم يوفق باسم من خطبة ليلى (ص76).

تمكن أهل ليلى من اقناعها بالسفر الى بلغاريا حيث يدرس أحد اخوانها على أمل أن تحصل على منحة دراسية هناك لتكملة دراستها. فرح باسم بهذا الخبر وقال لها هو موعود أيضا من قبل الحزب بمنحة دراسية ويتمنى أن تكون في بلغاريا أيضا حيث يمكنهم من الزواج هناك ولن يستطيع أحد من يوقفهم. فرحت ليلى بهذه الخطة (ص 76). ولكن كما يقول المثل العربي: تهب الرياح بما لا تشتهي السفن، وهذا الذي حدث: لم تتمكن ليلى من الحصول على المنحة الدراسية، وكل الذي حصلت عليه هي سنة لدراسة اللغة البلغارية في صيف العام 1987. أما باسم فقد حصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي في صيف العام 1988، وبهذا انقطعت اخبارهم عن بعض لمدة سنة كاملة (ص77).

تمكن باسم من العثور على رقم هاتف السكن الطلابي حيث يقيم صديقه القديم محمود مع زوجته وبعد جهد كبير بسبب صعوبة الاتصال تمكن من الحديث معه ورجاه بأن يبحثا هو وزوجته عن ليلى. تكللت جهودهما بالنجاح وعثر محمود على ليلى. وبعد فاصل طويل من المزاح من قبل محمود أخبره الأخير بأن ليلى متزوجة وزوجها معها هنا (ص80). أ صاب باسم الذهول ولكن محمود أخبره بأن ليلى لا زالت تحبه وفرحت كثيرا بوجوده. اتفق باسم مع محمود على التواصل مع ليلى كما حدد موعد لمكالمة هاتفية معها.

ظل باسم يفكر كثيرا في السبب الذي دعا ليلى الى الزواج من شخص آخر إلى حين حلول موعد المكالمة الهاتفية. " كانت أول جملة قالتها ليلى حتى قبل التحية: حبيبي باسم..أهلي فرضوه عليً..وظروفي فرضته... لا أطيقه... ولم أكن أعرف شيئاً عنك...أنت الانسان الوحيد الذي يجعلني أتنفس....أرجوك افعل شيئا...! لا أريد العودة الى سوريا...افعل شيئا أرجوك " (ص81). "هددوها بالعودة الى سوريا. ولما رفضت قالوا ليكن زواجا على الورق لمجرد الحصول على الإقامة "(ص82). حصلت ليلى على إقامة لمدة سنة حتى تتمكن من دراسة اللغة البلغارية بعد أن تزوجت شخص من معارف العائلة مقيم في بلغاريا ويتودد لها كثيرا، لعلها تنسى العراقي الذي (لا نعرف قرعة أبوه من وين)(ص83)، وهذا هو الزواج الثاني اتفق الاثنان باسم وليلى على ان يأتي الى بلغاريا في العطلة الصيفية لأنه حسب الأنظمة الدراسية في الاتحاد السوفيتي وقتذاك لا يحق للطالب الأجنبي أن يسافر خارج الاتحاد السوفيتي إلا في العطلة الصيفية والشتوية.

كان شرط باسم هو أن تتطلق من زوجها وهذا الذي حصل حسب القانون البلغاري إذ يحق لأي من الزوجين التقدم للمحكمة للطلاق أو الاثنان. قدمت هي الطلب ولم يحضر الزوج رغم تبليغه فحصلت على الطلاق وهذا هو الطلاق الثاني لهذه البنت دون أن تتذوق حلاوة الزواج أصلا (ص84). تمكنت ليلى من الحصول على منحة دراسية في كلية التمريض بمساعدة الأصدقاء بعد اكمالها سنة دراسة اللغة البلغارية. استمرت زيارات باسم الى بلغاريا في جميع العطل الدراسية بالشتاء وبالصيف. ويذكر باسم في الصفحة 86 من الكتاب ما يلي: " كنت معها العاشق الولهان الجائع الذي لا يشبع مهما قدم له من لذائذ الحب. أيام عسل قليلة نقضيها معاً، يعقبها فراق وشوق والتياع نخفف من وطأته باتصالات متقطعة بين حين وآخر".

بعد ثلاثة سنوات أنهت ليلى دراستها في كلية التمريض عمل لها باسم دعوة رسمية لزيارة الاتحاد السوفيتي وسافر هو الى هناك لاصطحابها معه الى موسكو. كان في توديعهم ئاشتي صديق باسم من أيام العمل في كردستان الذي أهدى لهم ساعته اليدوية ويعتبرها باسم أغلى هدية على قلوبهم (ص 87). بعد وصولهم الى موسكو قاما بتسجيل زواجهم في الجامع بحضور شهود وبأسمائهم الحقيقية. احتفل العروسان مع الأصدقاء المقربون بهذا الحدث السعيد وقاموا بتسجيل الحفل في فيلم فيديوساعدهم فيما بعد بتثبيت زواجهم وفق الأصول في المؤسسات السويدية وكذلك عند أهل ليلى(ص88).

بدأت مرحلة جديدة في حياة باسم وليلى ابتداء من الفصل السادس: التبني.

بدأوا بمراجعة المؤسسات السويدية الحكومية وغير الحكومية للتزود بالمعلومات القانونية وما تحتاجه عملية التبني من شروط فيما إذا كانت متوفرة فيهم أو غير متوفرة. وعليهم تقديم أنفسهم من حيث مكان عملهم وخبرتهم ورغبتهم في تبني طفلا بغض النظر عن العرق واللون والدين والجنس. وكذلك عمر الطفل،" كلما كان صغيرا كان أفضل لأجل التأقلم وبناء العلاقة بشكل سريع وأقوى معه" (ص92)..في جوابهم على أسئلة مالين الموظفة في مؤسسة الرعاية الاجتماعية.

وبعد فترة قصيرة اتصلت مالين بليلى وأخبرتها بالحصول على الموافقة الأولية للمؤسسة لطلب التبني. مع سؤالها : " هل سنتدبر بأنفسنا عملية التبني ضمن الضوابط القانونية السويدية أو لنترك الأمر للمؤسسة بتولي هذه القضية من صلاتها مع العديد من الدول التي تعتبر مصدرا للأطفال المعروضين للتبني؟" (ص 93).

بعد تشاور ليلى مع باسم اتفقوا على أن يتبنوا طفلا من سوريا. وكان عليهم حضور جلسات مع عوائل أخرى ترغب في التبني حتى تساعدهم على الاستعداد بشكل أفضل وهذا ما فعلوه (ص94).

 وفي دمشق اتضح لهم بأنه لا يمكنهم تبني طفل سوري لأن تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية السورية تنص على ان يكون الزوجين الراغبين بالتبني أن يكونا من حاملي الجنسية السورية ولا يكفي أن تكون الزوجة سورية " (ص102). وبسبب هذا الشرط لم يتمكنا من تبني طفل سوري لأن باسم عراقي وليلى سورية.

ان تجربة تبني طفل عراقي اسمه أحمد موجود في السويد باءت بالفشل على الرغم من تهيئة كافة الظروف المناسبة له في البيت من غرفة وملابس وأدوات رياضية وبإشراف كارين من مؤسسة الرعاية الاجتماعية لأن والد أحمد طلب أن يلتحق به في دولة أخرى كما أن عمره ليس 11 سنة كما هو موجود في الوثائق الرسمية السويدية وإنما تبين لهم من خلال تصرفاته وصوته أن عمرة 15 سنة. (ص 103-126).

في الفصل الثامن (ص 127-145) يتوجه باسم الى النشاط الاجتماعي الذي يأخذ جل وقت فراغه بعد عمله معلم رياضة في احدى المدارس السويدية، ينشط في مجال فضح النظام السياسي في العراق من خلال إقامة الندوات والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية وكذلك المشاركة في الندوات التي تقيمها الأحزاب اليسارية السويدية وخصوصا قبل العدوان الأمريكي الأوروبي على العراق في ربيع العام 2003. كل هذا ساهم في اصابته بوعكة صحية خطيرة أدت الى اجراء فحوصات طبية عديدة للدماغ والرأس " مع هذه التطورات السريعة داخلني إحساس مزدوج، كازدواج أوجاع رأسي بين الشقيقة وتصلب عضلات الدماغ، يلح بالسؤال المهمل من سنين طويلة، يا ترى ما هو مشروعي الشخصي والبلد قد فتح على آخره، لم تعد هناك حدود ولا سدود، لا حراس حدود ولا حتى حراس سيطرات الطرق الداخلية "(ص139). قرر باسم السفر الى العراق في نهاية شهر تموز 2003. وقع الخبر كالصاعقة على ليلى.

" - الى العراق.. وأنت مريض؟

- أشعر أن السفر سيساعدني على الأقل نفسياً

- ما زالت عندك علاجات ومواعيد مع الأطباء؟

- لا يهم" (ص141). لم تستطع ليلى من ثني باسم عن قراره بالسفر الى العراق على الرغم من عدم وجود خطوط طيران الى هناك. جاوبها سأدبر حالي. ثم بادرها بالسؤال : " ألا تريدين طفل زغيرون...هيك قد الكمشة تضعينه في حضنك تناغيه ويخرمش خدودك..؟ "(ص142). اقتنعت ليلى بحجج باسم بعد حوار طويل.

الفصل التاسع: " العودة الى الجذور" (ص146) اسم له وقع وتأثير عاطفي على أي انسان وخصوصا الذي غادر الوطن مرغما لفترة طويلة ومتلهف لزيارة مرابع الطفولة والصبا والشباب. شد باسم الرحال الى العراق عبر سوريا، أولا دمشق ومن ثم مدينة الذكريات الأليمة والسعيدة القامشلي.

" لي في المدينة في كل شارع وزاوية ذكرى، علامة، حكاية. حتى الهواء فيها يبدو لي مختلفا عن كل المدن الأخرى التي مررت وعشت فيها. إنها المكان الذي عرفت فيه ليلى زوجتي:. في هذا المكان نبض ولأول مرة عدادي العاطفي. العداد الذي حسبته لسنين أن تروسه قد صدئت ولم تعد قادرة على الدوران. في هذه المدينة النائية بالنسبة للعاصمة دمشق، هي بالنسبة لي، الخارج من بلده بلا أمل العودة، تتساوى الأمكنة بين النائي والقريب، كلها نائية "(ص153).

بعد مناقشة أمر خطورة سفر باسم الى العراق في شهر تموز العام 2003 مع الحاج أبو ليلى

بوصوله سالما الى أهله في مدينة البصرة ثغر العراق الباسم.

في صباح اليوم الثالث من وصول باسم الى القامشلي خرج الى مرأب السيارات المتوجهة الى مدينة اليعربية على الحدود السورية العراقية. استقل سيارة من النوع الذي يسع عشرة نفرات. كان ركاب السيارة سوريين وعراقي واحد. فضل باسم عدم الحديث معهم قدر الإمكان ولكن الظرف وأسئلة السوريين الملحة اضطرته الى الإجابة على أسئلتهم باختصار

وعرف أن من بينهم من كان في العراق مشاركا ضمن (المتطوعين العرب) الذين كانت الفضائيات العالمية تنشر أفلاما عن تدريباتهم واستعدادهم للدفاع عن العراق. أما العراقي فكان كما بدا له من تجار الشنطة كما يقول المصريون، يعني تجار ما خف وزنه وغلى ثمنه.

" وصلنا الحدود السورية، تبعت العراقي الى المخفر السوري المتكون من بناية حجرية متهالكة بطابق واحد تتوفر بداخلها غرفتان واسعتان، كل غرفة مقسمة الى كابينات بشبابيك زجاجية. والشيء نفسه ينطبق على النقطة الأخرى العراقية غير البعيدة عنها "(ص163).

تجاوز باسم المخفر بسهولة بسبب التنظيم والمسافرون ملتزمون بالنظام. أما المخفر العراقي

فحدث ولا حرج من حيث عدم التنظيم والالتزام بالطابور على الرغم من وجود العسكريين الأمريكان في هذه النقطة الحدودية. بعد تفتيش الحقائب عبر سقيفة بالهواء الطلق وتحت اشعة شمس شهر تموز اللاهبة (تموز اللي ينشف المي في الكوز كما يقول العراقيون) فالوضع المزري وتصبب العرق على وجه الموظفين وتذمرهم واصل الى مدياته القصوى مصحوبا بالشتائم الثقيلة العيار وعدم التزام المسافرين بالطابور تسبب في إطالة وقت الانتظار(ص164).

بعد التي واللتا كما يقول العراقيون والتكلم مع العسكري الأمريكي بالإنكليزي حينما شاهد الجواز السويدي والى أين هو ذاهب.. الى البصرة، تمكن باسم من الحصول على ختم جواز السفر وتأشيرة الدخول (ص170).

ومن عنوان الفصل العاشر " البصرة تلوح لي " نفهم أنه سوف يبدأ فصل جديد في حياة باسم حيث قطع طريقا طويلا من اليعربية الى الموصل ومن ثم الى بغداد. كان حذرا جدا من الكلام مع المسافرين اللذين كانوا معه في وسائط النقل حتى وصل الى بغداد حيث قضى ليلة واحدة في فندق يقع في الكرادة. وفي صباح اليوم التالي توجه الى ساحة النهضة حيث ركب في سيارة (ج ام سي) الامريكية التي تسع سبعة ركاب متوجهة الى البصرة. أول منظر لفت انتباهه بعد وصوله الى مرأب سعد في البصرة هو " يغلب على الناس ما يشبه الزي الموحد، دشاديش متسخة ولحى طويلة غير مشذبة مع سمنة ظاهرة. أما النساء فلا تشاهد غير كائنات سائرة على قدمين ملفوفة بالسواد الحائل لونه الى الأملح لكثرة القدم. المباني لا تختلف عن حال ساكنيها مبنية من البلوك، الطين، صفائح معدنية، تشكو العوز والفقر وما خلفته سياسات الحصار الخارجي منها والداخلي. طرق السير للعجلات وللناس عشوائية، الأزبال في كل مكان ولا أحد يهتم بها " (ص197).

لم يود باسم أن يخبر أهله بموعد وصوله الى البصرة حتى لا يقلقون في حالة تأخره عن الموعد. اعتمد على ذاكرته لعنوان بيتهم في شارع مقابل شركة النفط، ولما وصل وجد هناك عدة فروع مقابل شركة النفط. سأل أحد المارة عن بيتهم باسم أبيه الذي توفى قبل عدة سنوات فلم يعرف الاسم ولكن يعرف بيت شخص آخر بنفس الاسم وهو بيت أبو سامر، قال نعم أنه أخي الصغير.

بدأ البيت يستقبل الأهل والأقارب اللذين سمعوا بقدوم باسم وهم غير مصدقين بوجوده بينهم. انتهى الأسبوع الأول وباسم سجين البيت وسجين حكايات الحاجة أمه عن كل ما حصل لهم.

" – حجية خليني هسه أشبع من شوفتكم وأريد أشوف المدينة بعدين "(ص204).

بعد القيام بجولة في سيارة أخيه أبو سامر في مدينة البصرة واطلاعه ومشاهدة ما حل بها.

فاتح أهله حول الغرض من زيارته في اليوم السابع من مكوثه بينهم، حيث صدمهم برغبته المشتعلة في تبني طفلا من البصرة، طفلا يكون له تذكارا لمدينة يحبها ومستعد للتضحية بنفسه من أجلها ( ص 207-208).

بعد مداولة موضوع التبني بإسهاب اقتنع الأهل بالفكرة وبدأ باسم مع أخيه أبو سامر بالبحث عن طفل رضيع بأيامه الأولى للتبني في المستشفى. بعد أخذ المعلومات من طبيب قسم الولادات عن وجود طفل يمكن أن يتبناه باسم. اصطدم باسم بشرط حضور الزوجين عند تقديم طلب التبني وهو مهم جدا مع توفر عقد زواج رسمي للعائلة المتبنية بالإضافة الى أن تكون العائلة أو فقط الأب عراقيا، جودة الحالة الاجتماعية للزوجين، عدم محكومية، وثائق رسمية تثبت هوية العائلة، الحالة المادية الجيدة (ص214). هاتف باسم في نفس اليوم زوجته ليلى في السويد وشرح لها الموضوع، وهكذا تم تأجيل تبني طفل الى السنة القادمة.

يتذكر باسم في الفصل الثاني عشر - "آخرون أيضاً يبحثون عن طفل"، "في نهاية السبعينات جمعتني مع علي رفقة النضال في بعض معسكرات التدريب الفلسطينية، قرر حينها الحزب الشيوعي العراقي اللجوء الى الكفاح المسلح في التعامل مع نظام صدام حسين، باتخاذ الإمكانيات المتوفرة في المناطق الجبلية من كوردستان العراق. قدمت بعض الفصائل الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية) و (الجبهة الشعبية)، (فتح) بعض المساعدة في هذا الأمر(ص228). " دخلت الى العراق مع آخرين عبر مدينة القامشلي. جرى اختيارنا أنا وعلي مع آخرين للعمل في تلك المحطة اللوجستية التي تتكفل بنقل السلاح والملتحقين من سوريا وتركيا وباقي المنافي الى داخل العراق. أما سعاد فالتحقت في منتصف الثمانينات قادمة من الخارج بعد إكمال دراستها هناك. التقيا وتعارفا في القامشلي، ثم قررا الزواج" (ص229).

لم يتمكنا سعاد وعلي من إنجاب أطفال لأسباب قاهرة، ولهذا فهما يبحثان عن طفل يتبنوه. بدأ الجميع بالتخطيط للمشروع بجدية وهم يعرفون الى اين هم ذاهبون، ولهذا كانت الخطوة الأولى هو الطلب من المؤسسة المسؤولة عن التبني منحهم الموافقة للتبني من العراق، وهذا الذي حصل، على الرغم من استغراب المسؤولة السويدية التي ساعدتهم في هذا الطلب (ص234).

يضم الفصل الثالث عشر مفاجئات لم يتوقعها باسم وهي إلى البصرة من جديد.. الزواج الثالث. قرر الأربعة (باسم وليلى وعلي وسعاد) السفر الى العراق في شهر كانون الأول لأسباب تتعلق بالعمل وصعوبة الحصول على إجازة ليس أكثر من ثلاثة أسابيع وخصوصا بالنسبة الى ليلى (ص235).

 سافر علي وسعاد بواسطة الطائرة من ستوكهولم الى عمان ومن هناك بالسيارة الى بغداد. أما باسم و ليلى فكان لابد من زيارة أهل ليلى في القامشلي. ولهذا السبب سوف يمرون الى العراق عبر معبر ربيعة. كان عبورهم المنطقة الحدودية سلسا بفضل وبمساعدة أحد أقارب ليلى لمعارفه الكثيرين في المخفر السوري وحتى العراقي ولأنه يعمل في التجارة عبر الحدود(ص237). وصل الاثنين بسلام الى بغداد في نفس اليوم ولكنهم منهكين لكثرة تبديل وسائط النقل. قضوا ليلتهم في أحد فنادق العاصمة وفي اليوم التالي توجهوا بالسيارة الى البصرة.

نجحت ليلى خلال اليومين الاولين بعد وصولهم الى البصرة في رسم صورة جميلة بعلاقتها مع الجميع وبالأخص مع والدة باسم وأنستها سؤالها الأزلي حول من هو السبب في عدم الانجاب ابنها أم ليلي. (ص243).

على مدى ثلاثة أيام توزع فريق البحث العائلي بين مستشفى الولادة ومستشفيات أخرى وعدد من المساجد، ولكن دون جدوى(ص247). في اليوم الرابع اتصلت سعاد على هاتف بيت أهل باسم وأخبرتهم بأنهم نجحوا في الحصول على طفل في الناصرية. بعد يوم اتصلت سعاد على هاتف باسم " وكانت مستبشرة:

- باسم... الحق بسرعة...! أنا الآن في المستشفى مع بنتي وهي مريضة – تقمصت سعاد دور الأم سريعا – إلى جانبي امرأة ستلد بعد يومين أخبرتني أنها لا ترغب في أخذ الطفل ستتركه بالمستشفى لأجل التبني...! جاوبها باسم:

- سعاد نريد هذا الطفل..أرجوك أعلمي المستشفى أننا قادمون وسنقوم بإعداد كل الأوراق اللازمة" (ص250-251).

ملأ الفرح قلبي باسم وليلى وحضنوا بعضيهما لفترة طويلة من الزمن وأم باسم وأخته الصغرى وأخوه أبو سامر وزوجته والأطفال يتفرجون عليهم ويضحكون كما لو أنهم يشاهدون فيلم مصري من أيام زمان.... نزلت دموع ليلى..قبلها باسم من عيونها ووجهها(ص251).

ومن أجل إتمام تبني الطفل لابد من تسجيل زواج باسم وليلى في المحاكم العراقية عليهما ترجمة عقد زواجهما من اللغة السويدية الى العربية ومن ثم تصديقه....الخ وهذا يحتاج وقتا طويلا. أحسن حل هو أن يعقد باسم على ليلى من جديد، وهذا هو أحسن وأسرع حل لقضيتهما.

قاما بالفعل بعقد الزواج الثالث في نفس اليوم وبـأسرع وقت ممكن بمساعدة عماد معقب معاملات في المحكمة. ومن ثم قاما بتسجيل عقد الزواج واستنساخه. كما قاما بتسجيل عقد الزواج بنفس تاريخ زواجهم لدى السلطات السويدية حتى لا يتعارض مع اوراقهم السويدية الأخرى. وهذا الذي حصل وبمبلغ بسيط دفعه للموظف. وهكذا أصبحت كل الأوراق جاهزة وأصبحا زوجان حسب القانون العراقي والشرع الإسلامي. ولم ينس باسم من اكرام الصديق عماد بمبلغ جيد على الخدمة التي قدمها لهم، إذ لولاه لما تمكنا من إتمام تلك التفاصيل بتلك السرعة (ص257).

في الفصل الرابع عشر ولد ابننا...! تبدأ مرحلة أخرى من عملية التبني وليست بتلك السهولة لاسيما وأن الوقت ضايق باسم وليلى بسبب قرب انتهاء الاجازة وضرورة السفر الى السويد لأنه لا يمكن تمديد الاجازة ولا تغيير تاريخ تذكرة السفر الى ستوكهولم. كما أنه يجب استلام وثيقة رسمية من المستشفى مكتوب فيها ان الطفل مجهول النسب ويمكن تبنيه بعد اصدار الأوراق اللازمة. تمكنت سعاد من الحصول على هذه الوثيقة وارسلتها الى باسم بواسطة الهاتف على الشبكة السويدية لافتقار العراق الى شبكة انترنيت وقتذاك. في اليوم التالي توجه باسم مع أخيه أبو سامر الى المحكمة حيث كانا على موعد مع احد المحامين.

طلب المحامي احضار بطاقات الهوية، عقد الزواج، بيان ولادة الطفل، ورقة المستشفى، ورقة لا محكومية، بطاقة السكن، بطاقة التموين,, وغيرها الكثير من الوثائق التي كان بعضها معهم والبعض الأخر يجب تجهيزه. استمارة تبني طفل كانت تباع عند كتاب الطاولات المنتشرين خارج بناية المحكمة. بدأ الركض بين غرف بناية المحكمة الكبيرة من الساعة الثامنة والنصف صباحا الى الواحدة ظهرا (ص266). وصلنا برفقة المحامي الى غرفة نائبة القاضية التي كتبت نص قرار المحكمة الابتدائي كي يعرض على القاضية مسؤولة محكمة الاحداث لتوقعه. أخذ باسم وليلى القرار ودخلوا على القاضية التي كانت غرفتها مكتضة بالمحامين وهي نفسها التي رفضت طلب باسم لعدم وجود زوجته ليلى. " تذكرت القاضية باسم وقالت الى المحامين الجالسين :

- هذا الرجل جاءني بشهر تموز... هو يعيش في السويد ويريد أن يتبنى طفل من العراق، لم تكن زوجته معه لهذا رفضت طلبه. استمرت القاضية بالحديث حيث قالت رجعت الى بيتي وظلت قضيته عالقة في بالي لغرابتها بالنسبة لي. حكيتها لبنتي وهي بعمر 14 سنة.. تصوروا ماذا قالت اللعينة...؟ قالت: ماما ليش ما تحاولين تخلينه يتبناني وأروح وياه للسويد..!

التفت لي: بعدك مصرً على التبني من العراق..؟ "(ص268-269).

أجاب باسم بنعم بعد أن شرح لها الأسباب حتى أن أحد المحامين الجالسين سأل باسم:

- أستاذ تسمحلي أسألك...

أنت شيوعي..؟

تدخلت القاضية: رجاء بلا سياسة. جيب أوراقك عيني..!

وقبل ان تهمش القاضية على الأوراق وجهت سؤال الى ليلى: هل أنت سورية؟ أجابت ليلى بنعم، قالت القاضية: أهلا وسهلا بك.. العراق بلدك كذلك. همشت القاضية على الورقة الأخيرة. ثم قالت مبروكين " (ص269-270).

خرج باسم وليلى وهم فرحين بهذا الانتصار، وفجأة رن هاتف باسم وإذا مكالمة هاتفية من السويد من لينا مديرة المدرسة التي يعمل فيها باسم حين قالت قلقون عليهم والدوام سيبدأ بعد أيام قليلة. جاوبها باسم: لينا...لقد نجحنا..نجحنا.. حصلنا على طفل.

الفصل الخامس عشر وليد الناصرية..

كان خبر الحصول على وثيقة الموافقة مفرح لجميع أعضاء العائلة وفي مقدمتهم ام باسم على الرغم من معارضتها للفكرة في البداية. " يقولون: إن الفرحة الأكبر للأب والأم بقدوم الأحفاد تتفوق على فرحتهم الأولى بقدوم الأبناء والبنات "(ص 276).

" وصلنا انا وليلى الى الناصرية بخير وسلام والتقينا بكريم أخ سعاد الذي اقترح الذهاب الى بيتهم للراحة وتناول الطعام. قالت ام كريم اثناء شرب الشاي بعد تناول الاكل سوف أتوجه معكم الى المستشفى" ولكن قبل ذلك عليكم شراء بطانية طفل مع بعض لوازمه من رضاعة وحليب وتأتي معي ليلى فقط لأنهم لا يسمحون في المستشفى بدخول الرجال "(ص286).

" خرجت ليلى من باب المستشفى أولا، كما لو انها تركض، تلحقها عن بعد الحجية أم كريم، ابتسمت ابتسامتها الجميلة، كان وجهها كله مشعاً بالفرح. تحضن الطفل بحنان ودموعها تسيل على وجنتيها"(ص289).

أخذ باسم الطفل وبدأ يقبله بحذر وهو فخور به وسعيد الى حد لا يصدق، ولكنه في نفس الوقت يخاف العدوى في الجو الملوث بالغبار، لأن جسمه صغير ومناعته ضعيفة لا تساعده على مقاومة الفايروسات. طول الطريق من المستشفى الى بيت كريم وليلى وباسم ينظران الى الطفل بزهو وفخر. وما ان وصلوا البيت حتى سمعوا زغاريد خرجت من احدى زوجتي أشقاء كريم.

وهكذا عم الفرح في بيت الحجية أم كريم اللذين قدموا المساعدة في احتضان العائلة الجديدة، عائلة باسم وليلى ورامي الطفل الذي تبنوه قبل يومين. قدم الاثنان الشكر الجزيل لأهل بيت كريم لكرم ضيافتهم وما تحملوه من مشقات وأتعاب معهم. قام كريم بإيصالهم الى مرآب سيارات البصرة. ركبوا في حافلة صغيرة متوجهة الى ثغر العراق الباسم البصرة الفيحاء. نام الطفل طوال الطريق ولم يستيقظ الإ على أصوات عائلة باسم وتحوله الى ما يشبه الفرجة (ص296).

الفصل السادس عشر.. رامي

بعد ابتهاج الجميع بوصول الطفل المتبني الى أهل باسم، بدأ التفكير باختيار اسم له. تمت موافقة الجميع على اسم رامي بناء على اقتراح من قبل ليلى التي قالت أن رامي اسم مناسب خال من كل ما يرمز لأي شيء وسيكون مقبولا في السويد، خفيف اللفظ وقليل الحروف(ص300).

ان اصدار وثيقة سفر لرامي يجب ان يكون معهم بيان الولادة الذي فاتهم في خضم الفرحة أن يحصلون عليه من المستشفى في الناصرية. ولهذا تم الاتفاق على أن يسافر أبو سامر الى الناصرية لجلب بيان الولادة بمساعدة بيت أم كريم. تم تصوير رامي بالموبايل ومن ثم استنساخ الصورة في المكاتب التي يتوفر فيها كومبيوتر وهذا الذي قاموا به في اليوم التالي (ص301).

تعقدت مسألة اصدار وثيقة سفر لرامي بسبب أن باسم لا يوجد عنده جواز سفر عراقي ولا تكفي الهوية المدنية العراقية وحينما أخرج جواز السفر السويدي للموظف تعقد الأمر أكثر.

" وعلى الرغم من موافقة مدير الجنسية بعد أن راجعه باسم وكتب على وثيقة الطلب " تسهيل الأمر للحالة الإنسانية "، لكن الموظف صاحب الشأن لم يأخذ بأمر المدير وظل مصرا على الرفض.

انتحى بباسم وبأبو سامر موظف آخر كان يراقب الحالة من مكانه ويعرفه أبو سامر جيدا قال لهم: أخي هذا الموظف مسنود لا يهمه المدير"، في حين طلب موظف آخر 500 دولار أمريكي بعد أن قال لباسم أن توجد عنده كل الأختام اللازمة(ص306-307).

بعد إصرار باسم على عدم تقديم رشوة، قال لهم الموظف يوجد في السوق مكتب هندسي، تحدثوا مع صاحب المكتب وأخبروه بأنكم من طرفي وهو سوف يقوم باللازم وبمبلغ بسيط.

لا شيء يدل على انه مكتب هندسي باستثناء كمبيوتر وجهاز طبع (برنتر) على طاولة بسيطة وكرسيان. رحب بهم صاحب المكتب وقال لهم تعالوا بعد ساعة وسوف تكون وثيقة السفر جاهزة. وبعد ساعة من الزمن كانت الوثيقة جاهزة ومسحوبة على الكومبيوتر وليست مكتوبة باليد كما هي العادة في دوائر الدولة. طلب صاحب المكتب مبلغ 50 ألف دينار عراقي وهو أقل من ثلاثين دولاراً !!!. (ص310).

وكذلك قام باسم بمساعدة سعاد وعلي بعمل وثيقة سفر لابنتهم وأرسلوها مع كريم الذي جاء الى البصرة. كذلك قام باسم بترجمة كتاب موافقة المحكمة للتبني الى اللغة الإنكليزية لكي يسهل عملية موافقة السلطات السويدية في سوريا في منح رامي وثيقة السفر السويدية (ص316).

بدأت صحة رامي تتحسن، اختفت ألوان الأزرق والأصفر من وجهه، بدأ لونه ينكشف، يفتح عينيه ليتعرف على عالمه الجديد، يحرك يديه ورجليه ما إن يتخلص من القماط، يرضع جيدا وقل بكاؤه (ص317).

الفصل السابع عشر انفجار قرب الفندق

سبع ساعات هي مسافة الطريق من البصرة الى بغداد لم يشعر باسم وليلى بثقلها وطولها كونهم كانوا فرحين بوجود رامي بين احضانهم على الرغم كون الطريق غير مريح بسبب تهشم الاسفلت ومطاعم وسخة وحيوانات سائبة على طول الطريق، محطات استراحة تفتقر لأبسط

وسائل الراحة، أما المرافق الصحية وهي لا تنتمي للصحة بشيء يصدم الداخل لها مشهد طوفان مجرى الفضلات والروائح العطنة. بعد وصولهم الى بغداد ذهبوا الى نفس الفندق الذي نزلوا فيه في السابق، فندق المفتشين الدوليين قبل الاحتلال (ص323).

خابرت ليلى كارين في السويد وطلبت مساعدتها في مسألة منح رامي إقامة المعيشة في السويد.

قامت ليلى بإرسال الطلب الى دائرة الهجرة بواسطة البريد الالكتروني مع صورة لقرار المحكمة العراقية الخاص بالتبني باللغتين العربية والإنكليزية مع قرار دائرة التبني السويدية الخاص بالموافقة على السماح بالتبني من العراق.

وفي صباح اليوم التالي لوجودهما في غرفتهما بالفندق وحينما كانت ليلى تتحدث بالهاتف مع كارين حدث انفجار قوي قرب الفندق وحتى كارين سمعت صوت الانفجار بالهاتف وأرادت التحدث مع باسم للاطمئنان عليه. خرج باسم لمعرفة آثار الانفجار ومساعدة الجرحى والمصابين والتقليل من هلع الناس. رجع باسم الى الفندق وجسمه وملابسه ملطخات بالدم. ٍاتصلت كارين مرة أخرى للاطمئنان عليهم (ص332). تمكن الثلاثة من عبور الحدود العراقية السورية بسلام بعد مناقشات حادة مع شرطة الحدود في البلدين (ص339-340).

وصل الثلاثة الى بيت أهل ليلى في القامشلي. فتح الأب الباب وإمارات الفرح على محياه وهو يسمع صوت ليلى، كانوا قلقين طيلة وجودهم في العراق. قام الأب بخطف رامي من حضن ليلى وذهب به الى داخل البيت، انزوى على مقعد في ممر البيت ثم بدأ يكبر في اذن رامي مباشرة وهذه تقاليد إسلامية لابد منها (ص341). أصبح باسم بعد زواجه من ليلى ولحبه الشديد لها يشار له بالبنان وموضع احترام وتقدير من قبل الحاج أبو ليلى واعتزازه به.

سافر باسم الى دمشق لمراجعة السفارة السويدية للحصول على تأشيرة دخول لرامي الى السويد. وعلى الرغم من شدة القلق عند باسم ولكنه كان مطمئنا في قرارة نفسي بالحصول على سمة الدخول لرامي الى السويد وبمساعدة من كارين التي بذلت قصارى جهدها في مساعدتهم وهذا الذي حصل (ص345-352). سافر الثلاثة باسم وليلى ورامي بالطائرة من مطار دمشق الدولي وعلى الرغم من بيروقراطية وفساد شرطة المطار تمكنوا من حل العراقيل والطيران الى ستوكهولم (ص355-358).

الفصل الثامن عشر: حضانة الأب

في اليوم الثاني من وصول ليلى وباسم الى ستوكهولم بدأوا بتحضير غرفة رامي الصغير من شراء سرير نوم وملابس متنوعة ولعب أطفال وحفاضات وحليب أطفال. كما أرسلوا باقة ورد الى مسؤولة ملف رامي في دائرة الهجرة بادرة شكر وامتنان لما أقدمت عليه من مخاطرة بوظيفتها وكذلك باقة ورد الى كارين صديقتهم العزيزة التي كانت الساعد لأيمن لهم في تذليل الروتين الإداري(ص361).

وصلت هيلين اخت ليلى من الدنمارك لتعلم باسم على حضانة ورعاية رامي وبقيت في ضيافتهم لمدة أسبوعين. تعلم باسم الكثير من هيلين ونجح في الامتحان كما أكدت ليلى(ص363-365).

" كبر رامي وأصبحنا نشعر بأن لا خوف عليه من عواقب الزمن، لا من قضية صحته ولا حالته النفسية، بل وجدناه منسجما مع نفسه ومع الذين حواليه، ويشعر بمقدار الحب والمودة التي يكنها له الجميع، سواء نحن أو الأقارب والأصدقاء مما ساعده على الخطو بشكل جيد في حياته "(ص387).

الفصل التاسع عشر: رونيا ابنة الجامع

"حادثة في السويد هي الأولى من نوعها منذ خمسينيات القرن الماضي، امرأة تترك رضيعة بعمرعدة أيام في جامع بمدينة ستوكهولم..! الشرطة بدورها تتسلم الرضيعة وتسلمها الى مؤسسة الرعاية الاجتماعية للعناية بها، بعد أن جرى فحصها في المستشفى. قالوا أن الرضيعة بخير ولا تعاني من حالة مرضية معينة، لكنهم يطلبون المساعدة من كل من يعرف شيئا عن هذه الحادثة، من تكون الأم ولماذا وكيف ومتى"(ص389-390).

عرف باسم بالخبر وهاتف ليلى حتى يخبرها بالحدث الذي اهتزت له ستوكهولم، جاوبته ليلى بأنها تعرف القضية وحتى هاتفت مؤسسة الرعاية الاجتماعية لتستطلع معلومات أكثر وتحدثت معهم كعائلة تريد تبني الرضيعة وتركت معلومات لديهم. وهنا حدس وشعر باسم بأن ليلى كانت تفكر مثله واتفق الاثنان على تبني الرضيعة التي سيصبح اسمها رونيا في المستقبل.

وبعد مراجعة الدوائر الرسمية المختصة بالتبني وخوض الموضوع من مقابلات عديدة مع مؤسسة الرعاية الاجتماعية وإعطاء معلومات كاملة عن وضع العائلة الاجتماعي والمادي

 وإمكانية تبنيهم للطفلة وكذلك مكان السكن والى آخره من المعلومات المهمة وافقت الجهة المختصة على تبنيهم للطفلة. وهكذا أصبحت رونيا أخت رامي (ص427).

 الفصل العشرين: رامي...رونيا..

" طفلان في بيت كان خاليا من مرح الطفولة وضجيجها، لابد أن يكون لهذا التغيير من آثار.

بدأت التغييرات في البيت من تأثيث غرفهم بما يجعلها مكانا صالحا ليس للنوم فقط، وإنما للعب والمرح، ثم معالجة مخاطر السلالم داخل البيت، جرى غلق فتحاتها بحواجز خشبية تقفل. هذا غير رفع كل ما هو قابل للكسر إلى رفوف أعلى من استطاعة أيديهم على الوصول"(ص428).

"سارت أيام وسنوات الأخوين بشكل جميل. اضطلع رامي ومنذ تعرفه على رونيا الى المهرج الجاهز لإضحاكها. دور كان يسعده بدلالة أنه يقوم بتكرار تلك الحركات المصحوبة بموسيقى إحدى اللعبات التي تختارها هي (ص429)". لم يشعر بالغيرة من وجودها، على العكس بدا سعيدا بظهورها في حياته التي ما زالت في بداياتها. أضطلع رامي بدور الحامي لرونيا في الروضة وفي داخل البيت. وهي كذلك بدأت تدرك بعض التفاصيل الحياتية، تهتم بشؤونه الصغيرة الخاصة مثل حذاءه، كفوف اليد في الشتاء وملابسه أيضا. وهكذا تمر الأيام والسنين ويتخرج رامي من المرحلة الثانوية، أقامت العائلة حفلة صغيرة لرامي حضرها عدد من أصدقائه، كانت رونيا تتصرف كما لو أن الحفل هو حفلها (ص430). وتمت الفرحة بعد أن حصلت رونيا على الرقم الشخصي الحكومي الذي يحمل اسم عائلة باسم وليلى(ص431).

أشياء كثيرة بدأت بالظهور على سلوكهما، كانت تفرح باسم وليلى وتجعلهم يطمئنون عليهم وأن ما زرعوه بدواخلهم من حب وحنان ومودة، وجدت أثارها الإيجابية عندهم(ص450).

يعيش اليوم باسم وليلى مع رامي ورونيا كعائلة متحابة فيما بينهم وهذا نتيجة لوجود الأطفال معهم الذين أضافوا طعما لذيذا لهذه العلاقة وكذلك حجم المسؤولية التي شعروا بها بوجودهم وكانوا مستعدين لأجلها منذ اللحظة الأولى التي اقتنعوا فيها بفكرة التبني.

وفي نهاية هذه المقالة عن كتاب الخيار الآخر للصديق العزيز مازن الحسوني أنصح بقراءتها من قبل الناس الذين يؤمنون بأن الجهد المبذول لتبني وتربية أطفال ولدوا ليس من نفس الأب والام هو عمل إنساني حقيقي ويستحق الإشادة والتقدير العالي.

***

اسم الكتاب: الخيار الآخر.

المؤلف: مازن الحسوني

الناشر: مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع العراق – محافظة بابل – الحلة – شارع أربعين جوال: 009647831010190

ISBN:978-9922-736-31-0.

الطبعة الأولى 2024

 البريد الالكتروني: [email protected]

عدد الصفحات: 454 صفحة

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

كقارئ عربي ولدت في زمن يزداد تعقيدا، وجدت في هذا الكتاب مرشدا لفهم جذور الصراعات التي نعيشها اليوم، سواء في السياسة أو الدين أو الهوية.

لقد كان كتاب المفكر العربي علي الوردي "مهزلة العقل البشري" صدمة كهربائية توقظ العقل من سباته. ومرآة كاشفة تظهر تناقضاتنا بأبشع صورها: مجتمعات تقدس التراث وتحارب الحداثة، وعقول تنادي بالحرية وهي مكبلة بسلاسل التقاليد.

الوردي، بعين عالم الاجتماع الثاقبة، اخترق طبقات التاريخ والثقافة ليرينا جذور الأزمات التي تعيق تقدمنا: من صراع الهوية إلى أزمة المرأة، ومن عقدة التفوق المزعوم إلى هوسنا بتمجيد الماضي.

هنا، في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق الكتاب، نكشف أسئلته المحرضة، ونواجه معًا تابوهات ظلت مقدسة لقرون. هل أنت مستعد لهز يقينياتك؟

 قراءة كتاب "مهزلة العقل البشري" رحلة داخل أعماق العقل العربي، حيث التناقضات تتكشف، والمسلمات تنهزم، والمنطق القديم يواجه بأسئلة حديثة جريئة.

علي الوردي، العالم العراقي الذي درس المجتمع بعين عالم اجتماع وأنثروبولوجي، لم يكتف بوصف الظواهر، بل حفر عميقا في جذورها. يشبه منهجه في الكتاب تفكيكا لـ"القوقعة البشرية" التي تحبس العقل في أطر جامدة. ففي فصول مثل "منطق المتعصبين" و"التاريخ والتدافع الاجتماعي"، ينتقد الوردي بلا مواربة ثقافة التقديس الأعمى للتراث، ويربط بين الصراعات التاريخية – كالخلاف على الخلافة الإسلامية – وبين انعكاساتها على العقلية العربية المعاصرة.

لكن ما أدهشني هو كيف استطاع الوردي، منذ خمسينيات القرن الماضي، أن يتنبأ بأزماتنا الحالية. فهو يرى أن العالم الإسلامي يعيش "مرحلة انتقال قاسية" بين عقلية القرون الوسطى وضرورات الحداثة، مما يخلق صراعا بين الأجيال: جيل يتشبث بـ"منظار القرن العاشر"، وآخر يحمل "منظار القرن العشرين". هذا الصدام لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا، سواء في الجدل حول دور المرأة أو في الصراع بين التقاليد والابتكار.

أبرز ما يطرحه الكتاب هو فكرة "الازدواجية" في الشخصية العربية، التي تجمع بين قيم البداوة وقيم الحضارة. يشرح الوردي كيف أن هذه الازدواجية تنتج تناقضات اجتماعية وسياسية، مثل الدعوة للديمقراطية مع التمسك بالاستبداد، أو التغني بالوحدة العربية مع تعزيز الانقسامات الطائفية. هذه الفكرة تجعل القارئ يتساءل: أليس هذا الوصف ينطبق على واقعنا اليوم؟

في فصل بعنوان "ما هي السفسطة"، ينتقد الوردي استخدام المنطق المغلف بالعاطفة لتبرير الموروث. كمثال على ذلك، يشير إلى أن بعض المفكرين يبررون حجر المرأة بحجة "نقص عقلها"، متناسين أن هذا النقص نتج أصلا عن الحجر نفسه. هذا التحليل يدفع القارئ لإعادة النظر في خطابنا الديني والاجتماعي، ويسائل: هل نستخدم المنطق لفهم الواقع، أم لنصبه ساترا عن عيوبنا؟

الكتاب لا يخلو من إثارة الجدل. ففصوله التي تحلل أحداثا تاريخية حساسة – مثل مقتل عثمان بن عفان أو الخلاف بين علي ومعاوية – تتعارض مع الروايات التقليدية، مما أثار حفيظة بعض التيارات الدينية والقومية. لكن هذا بالضبط ما يجعل الكتاب ضروريا: إنه يجبرنا على مواجهة "المسكوت عنه" في تاريخنا، ويفتح الباب أمام قراءة نقدية ترفض التمجيد الأعمى.

حتى في نقدي الشخصي للكتاب، وجدتني أتساءل: هل بالغ الوردي في تحميل العقل البشري مسؤولية الأزمات؟ أم أننا نرفض رؤية أنفسنا في مرآته الصادقة؟ الإجابة ربما تكمن في اقتباسه الشهير: "الإنسان مجبول أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكرا لا يخلو من مبالغة".

كما يقول الوردي، الكتاب موجه لمن "يفهمون ما يقرؤون"، لا لمن يقرؤون ما هو "مسطور في أدمغتهم". هذه العبارة تلخص رسالتي كقارئ: اقرأ هذا الكتاب لا كحقيقة مطلقة، بل كمنظار جديد يوسع آفاقك. قد ترفض بعض أفكاره، أو تصاب بالغضب من جرأتها، لكنك حتما ستخرج بأسئلة تغير طريقة نظرتك إلى التاريخ والمجتمع والذات.

رغم مرور عقود على تأليفه، يبقى "مهزلة العقل البشري" عملا نادرا في ثقافتنا العربية، ليس بسبب قلة طبعاته، بل لأن أفكاره تشكل تحديا للعقلية السائدة. إنه كتاب يذكرنا بأن النقد الاجتماعي ليس خيانة للتراث، إنما محاولة لفهمه بعمق أكبر. وكما يقول الوردي: "الحقيقة بنت البحث والمناقشة". فهل نجرؤ على خوض هذه المناقشة؟  

التابوهات المقدسة:

هل يمكن للعقل العربي أن يتحرر من عباءة الأسلاف؟ ما يزال سؤال التحرر من سطوة الماضي يلاحقنا كشبح في كل منعطف فكري. الوردي، بوصفه مفكرا منشقا عن السرديات الكبرى، يضعنا أمام مرآة مربكة: نحن أمة تقدس الماضي لدرجة التماهي معه، حتى صرنا نعيش حاضرنا بأعين أمواتنا. يروي في فصل "عبقرية اللغة العربية" كيف تحولت اللغة من أداة تواصل إلى كيان مقدس يستخدم لترسيخ الهيمنة الثقافية، فصار النحو سلطة وقواعد الإعراب حدودا للتفكير. هذا التحليل يذكرني بجدليات معاصرة حول "عقدة الفصحى" وصراع اللهجات، وكيف يستخدم الاختلاف اللغوي كسلاح لهوية هشة.

لكن الوردي لا يكتفي بكشف التناقضات، بل يدفع القارئ إلى سؤال وجودي: هل يمكن بناء حداثتنا دون تمرد على "التابوهات المجمدة"؟ الإجابة عنده تبدو مركبة؛ فهو يؤمن بأن التقدم لا يعني القطيعة مع التراث، بل إعادة قراءته بمنطق الواقع لا الأسطورة. هنا أتساءل: أليس هذا ما نحتاجه اليوم في مواجهة خطابات التكفير والتخوين التي تمارس باسم الدفاع عن التراث؟

في قراءتي للكتاب، استوقفني غياب المرأة كفاعل في تحليلات الوردي الاجتماعية، رغم أنها الحلقة الأضعف في معادلة الازدواجية. لكنه يلمح إلى ذلك حين يربط اضطهادها بسيادة "عقلية البداوة" التي تتعامل مع المرأة كوعاء للشرف القبلي. هذا التوصيف يجسد معاناة المرأة العربية التي تحاصر بين خطابين: خطاب ديني يقدس دورها كأم، وآخر حداثي يحملها عبء إثبات كفاءتها خارج الإطار التقليدي.

اليوم، وفي ظل موجات التحرر النسوي، يبدو كتاب الوردي كأنه نبوءة لم تكتمل. فالصراع بين "الحجاب" و"السفور" – كمثال – ليس مجرد جدل حول زي، بل هو تعبير عن أزمة الهوية التي تتلاعب بها العقلية الازدواجية. هل نستطيع كمجتمعات أن نعترف بأن تحرير المرأة ليس تهديدا للقيم، بل فرصة لتحرير الرجل أولا من أوهام السيادة؟

قد يتهم الوردي بـ"التبعية الفكرية" لاستخدامه مناهج غربية في التحليل، لكنه في الحقيقة يرفض التقليد الأعمى للشرق والغرب معا. في فصل "صراع الحضارات"، يسخر من العرب الذين يتنكرون لتراثهم ويقلدون الغرب كالببغاوات، وفي الوقت نفسه يهاجم المتمسكين بالتراث كأنه محنط في متحف. هذه الرؤية تدفعني إلى مقارنتها بظاهرة "الاستلاب الثقافي" التي نعيشها اليوم: شباب يعيشون على وهم "الانفتاح" عبر شاشات السوشيال ميديا، بينما يكررون خطابات الأجداد بعقلية رعوية.

الوردي هنا يصرخ: كفانا هروبا! إما أن نصنع حداثتنا بانتماء واع، أو نستسلم للتبعية بوعي مغيب.

الحق أن قراءة "مهزلة العقل البشري" أشبه بتشريح ذاتي دون بنج. الكتاب يؤلم، لأنه لا يمنحك براءة الضحية، بل يجعلك شريكا في صناعة الأزمة. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على تأليفه، ما يزال السؤال الذي يطرحه الوردي ملحا: هل نريد فعلا أن نصحو من "الهزيمة النفسية" التي جعلتنا نعيش على أمجاد الماضي، أم نكتفي بترديد شعارات التحرر بينما عقلنا مكبل بسلاسل التقليد؟

في زمن الانقسامات والصراعات الدموية، يحتاج العقل العربي إلى جرعة من "المرارة الوردية"، فالنقد المؤلم أولى من الوهم المريح. وكما قال الكاتب: «إن الأمم الحية هي التي تخرج ماضيها إلى حاضرها لتحاكمه، لا لتمجده». ربما آن الأوان لنجرب المحاكمة.

أخيرًا.. لا تبحث عن أبطال في كتاب الوردي، ولا عن خطب منمقة تدفعك للافتخار بانتمائك. الكتاب مرآة قد تظهر لك وجها شاحبا، لكنها أيضا تمنحك فرصة لترميم ما تشوه. اقرأه كما لو أنك تصلح بيتا قديما: احتفظ بالأساسات القوية، واهدم الجدران التي تسقط فوق رؤوسنا منذ قرون.

***

د. عبد السلام فاروق

الصفحة 1 من 7

في المثقف اليوم