قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

يقوم الكاتب الفرنسي فابريس تومريل. في كتابه النقد الادبي. بجولة مُثرية ومغنية في مملكة النقد الادبي. مستعرضًا العديد من المدارس النقدية وآراء النقاد والكتاب الفرنسيين خاصة. ترجم الكتاب الاستاذ الجامعي الكاتب الهادي الجطلاوي وصدر عن دار التنوير للطباعة والنشر. في تونس. عام 2017. وهو مُوجّه للطلاب الجامعيين وعامة القراء. لهذا يغلب عليه الطابع التعليمي البيدادوجي. ويقول مترجمه إنه نظرًا لطبيعته العلمية، حرص في تعريبه له على توخي التأني في العمل والوفاء بالمعنى في أدق جزئياته مُراعيًا في أداء المعنى روح التركيب العربي وخصائص الجملة العربية.

يصول مؤلف الكتاب ويجول متنقلًا بين المدارس النقدية الفرنسية وأعلامها البارزين أمثال جيرار جينيت ورولان بارت، معرّفًا بهذه المدارس وما قدّمته لعالم النقد الادبي. يزيد في قيمة تنقّله هذا أنه يقدّم في الصفحات الاخيرة من كتابه البالغ عدد صفحاته 368 صفحة من القطع المتوسط، تعريفات مباشرة وواضحة لكلٍّ من المدارس الادبية التي تحدّث عنها في كتابه.

مؤلّف الكتاب يتوقّف عند ثلاثة أصناف رئيسية من النقد ذي النفوذ في الادبي الفرنسي، في النصف الثاني من القرن العشرين خاصة. هي النقد الصحفي. النقد الجامعي ونقد الكُتاب. رائيًا أن النقد الصحفي هو الاشد تأثيرًا في الحياة الأدبية، لا سيّما وأن هناك الكثير من الجامعيين المثقفين الذين عملوا في مجال النقد الصحفي أمثال سانت بف وبرونتير وتيبودي، ويتوقّف مطولًا عند تقسيم قوتيه للنقاد إلى أربعة أصناف. أولها الصحفيون الاخلاقيون، الناطقون بالوعظ الجميل والذين لا يتردّدون في إقامة شخصية الكاتب مقام أثره الادبي، وهؤلاء يعطون بعض القيمة لكتاباتهم الفضائحية التعيسة المُرتجلة الذين يعرفون أنه لن يقرأها أحد لو لم تتضمّن إلا آراءهم الشخصية. الصنف الثاني هو الصحفيون الصالحون الذين يريدون وضع الكتاب في خدمة تطوّر البشرية. والصنف الثالث هو الصحفيون اللامبالون، وهم اولئك الذين رأوا و أرادوا وأدركوا وأحسوا كلّ ما يمكن رؤيته وإدراكه وإحساسه وسمعه. اما الصنف الرابع والاخير هم الصحفيون المنقبون، وهم اولئك الذين، بدعوى الانصاف، يرفضون كلّ اثر جديد ويلقون بالأثر الجيّد في مستقبل غير مضمون، وينقل المؤلف في هذا السياق رأي الناقد ايريك فاي وهو، انه على النقاد أن يقوموا حاليًا بدور الوساطة ما بين الكاتب والقارئ، وان يسمعوا، من وراء صخب وسائل الاعلام ذات الاستهلاك العمومي، أصواتًا ذات نبرة طريفة.

بعد هذا يتوقّف المؤلف عند الذنوب التي يتهم بها النقد الصحفي وهي، البخل والكسل، الجشع، الشبقية، الكبرياء، العصبية، السطحية، الانحياز والتنميط، وضعف الثقافة.، وفيما يتعلّق بالذنب الشبقي ينقل المؤلّف عن ميشيل بوتور قوله إن النقد الصحفي للأدب مرتبط أشد الارتباط بالأدب التجاري، إنه يعمد عرضا، إلى مراقبة الوصفة أو تركيبة المواد، مثله مثل إدارة المراقبة لإنتاج مشتقات الحليب أو الانتاج الصيدلاني. فيما يتعلق بذنب الكسل يوحي المؤلف أن النقد الصحفي عادة ما يكون صدى للقيم الثابتة للكتّاب المعروفين وللأعمال الكلاسيكية ولأحسن المبيعات، بدلا من السعي لاكتشاف المواهب الجديدة.

الصنف النقدي الثاني الذي يتوقّف عنده المؤلف هو النقد الجامعي، عن هذا الصنف يقول إنه لئن سخر رولان بارت من بطء النقد الجامعي، فان قراك يعيب عليه عيبًا أعمق هو رغبته في تفسير ما ليس قابلًا للتفسير، أما قومبرويتز فقد ندّد بالطابع العلمي المزعوم للنقد ويُحمّل الجامعة مسؤوليته. يقول للحقيقة نقول إن أساتذة الجامعة، مثل غيرهم من العلماء، يشبهون السمكة التي تخرجها من الماء، فكلّ واحد منهم، يموت حالما تُخرجه من اختصاصه، وينقل المؤلف في هذا الصدد قول برينير وهو إن الجامعيين هم أساتذة الكلام النقدي الفارغ، إنهم اولئك الذين يعذّبون اللغة الفرنسية بتغيير دلالة الالفاظ والتلاعب بها.

الصنف الثالث من النقاد الذين يتوقّف المؤلف عندهم هم الكتاب الذين دأبوا على السُخرية وحتى الهجوم على النقاد. وهنا ينقل المؤلف عددًا من الاقتباسات عن الكتاب الذين هاجموا النقاد. منهم جي دي موباسان، الذي وضع في تعبير مجازي، الخط الفاصل فصلًا قاطعًا بين المعرفة وصناعتها، وبين مَن يعرف ومَن يصنع وبين الملاحظ والمبدع. يقول، هل يكفي أن ترى قاطرة تسير حتى تمتلك معرفة الهندسة، إن الناقد يظن أنه عرف ما فيه الكفاية بمجرد أنه رأى قطارات عديدة تمر. اما قويتي كما ينقل المؤلف عنه، فإنه يقول، في هذا السياق، إن الناقد يصنع مقالات طويلة فارغة ومملّة حتى يتخلّص مِن كلّ المعرفة التي جمعها، قبل يوم، في مكتبة من المكتبات. يقول المؤلف إن الكُتّاب يلحّون بشدة على دناءة النقاد الكبرى، فيرون أن النُقّاد لا يتحمّلون مسؤولياتهم وذلك لأنهم واعون أن مقالاتهم تكتسي طابعًا زائلًا وأن أخطاءهم سرعان ما تقع طي النسيان، وهم، بالإضافة إلى ذلك، لا ينتقدون الكاتب "النبي"، بقدر ما ينتقدون الكاتب المتأخر ويمدحون الاقوياء وينتقدون المجهولين. كما قال بودلار.

***

مَن هو الناقد.. ينقل المؤلف عن جان بلمان. تعريفَه للناقد في مقال نشره عام 1995. هو أن الناقد ليس قارئًا مثلَ سائر القراء. إن الناقد هو ذلك القارئ الذي يدوّن نتائج قراءته حتى يتسنّى لغيره مِن القراء ممن يكونون متعجّلين أو غير متفرّغين تفرّغه في دراسة النص أن يجدوا فرصة لقراءته قراءة مغايرة. بعبارة أوضح، أن يقرؤوه قراءة أفضل وأثرى. إن الناقد مُعالج وهو مُبلّغ كذلك وفق مصطلح رولان بارت، وهو أشبه ما يكون بصفيحة حساسة تنفعل لكلّ ما تقرؤه، كما أنه يُعيد تقييم الاثر لمعاصريه، إنه مزوّد بقدرة كبيرة على العطاء سواء كان كاتبًا صحفيًا أو أستاذًا. أما مهمة الناقد فإنها تتمثّل في مراجعة تاريخ الادب مراجعة دائمة لتحيين النصوص الكلاسيكية، وإعادة اكتشاف الكتاب المغمورين، وذلك بإلقاء كُتاب آخرين طي النسيان، إن الناقد. يشارك من خلال المحاضرات التي يلقيها والحصص الاذاعية والتلفزية التي يشارك فيها، يشارك ويساهم في تحقيق النجاح المادي والمعنوي للأعمال الأدبية، إذ يمكنه أن يساهم في رفع حجم المبيعات وفي شهرة الكاتب كذلك، بل حتى في الاعتراف به مؤسساتيًا بمجرّد أن يكون الناقد عضوًا في أكاديمية من الاكاديميات أو لجنة من لجان الجوائز الادبية.

يؤكد المؤلّف في مطلع كتابه أن النقد يؤسّس السلاح الاقوى ضد القراءة الساذجة والاستراتيجيات التجارية وذلك لأن النقد جزء لا يتجزأ من أهم النظريات الجمالية والفلسفية ولأنه يُمنهج تعليمنا ويعلّمنا فنّ القراءة، بعبارة أخرى، لأنه يرتقى بنا إلى المعنى بأن ينقل إلينا المعارف التقنية الضرورية والقوانين والسنن الخاصة بكلّ جنس وبأن يوفّر الادوات التي تسمح لنا بتنزيل الاثر في علاقته بكاتب معيّن ومجتمع معيّن أو عصر مُعيّن.

***

يتعرض المؤلف في كتابه بشكل مركز إلى ما شهده التاريخ النقدي الادبي من تطوّرات ويرى أن النقد تطوّر منذ الكلاسيكية، التي اثرت التقعيد الادبي، إلى فضاءات حافلة بالتحرّى العبقري، كما يتحدّث عن الوضع المُقلق للكتاب في عصرنا. يقول إن الاعلام والاشهار قضيا اليوم على النقد سواء كان في صورته الحقيقية أو المقنعة، وهذا ما يفسّر إغراق السوق الادبية المتنوعة بالكتب، مضيفًا إنه بصرف النظر عن البحوث النقدية الحقيقية التي لم تعد تُنشر إلا عند بعض صغار الناشرين، فإن عددًا وفيرًا من الكتب المدرسية قد حلّ محلها متوجّهًا إلى جمهور التلامذة بل حتى الطلبة بغرض الاعداد للبكالوريا وغيرها من الامتحانات، ويشير المؤلف إلى حدث بدا مُقلقًا في هذا العصر المُناهض للثقافة، هو انسحاب الأدب تدريجيًا من وسائل الاعلام، وحينئذ ما الذي سيبقى من النقد الادبي.. إذا كانت الروح النقدية والادب قد أخذت طريقَها للاضمحلال.

***

كتب: ناجي ظاهر

BOURDIEU HOMO ACADEMICUS

(لأننا نملك القدرة على التفكير بحرية وفهم العديد من الأشياء، فسيتم إبعادنا بشكل منهجي عن طريق فيلترة النظام الاكاديمي التعليمي والمهني المحكمان للغاية. نظام يدمر الأشخاص المستقلين والذين يفكرون بأنفسهم، والذين لا يعرفون كيف يكونون خاضعين)... نعوم تشومسكي

في هذا العمل المميز لبيير بوردو، محللا النظام الاكاديمي اوالحقل الاكاديمي اذا اردنا استعمال مصطلحات بوردو الذي عرف بتطويرها،  يقدم لنا دراسة عميقة للحياة الفكرية المعاصرة. الحقل الاكاديمي ليس فقط عالم للحوار والتعلم وانما هو مجال لممارسة السلطة حيث يتم بناء السمعة الاكاديمية والمهنية ويتم الدفاع عنها كما يتم تدميرها.

يقوم  بوردو بفحص الخلفيات الاجتماعية لزملائه الاكاديميين وانشطتهم الفكرية، من فوكو، ودريدا، ولاكان، والتوسير، وديلوز، الى شخصيات اقل شهرة ولكن ليس اقل نفوذا. يقوم بوردو بتحليل خلفياتهم الاجتماعية ومناصبهم الحالية، وعدد البحوث التي نشروها، واي دار نشرتها، علاقاتهم بالمؤسسات، ظهورهم الإعلامي، وعلاقاتهم السياسية الخ.

هذا يمكن بوردو من رسم خارطة للحياة الفكرية في فرنسا، وليقوم بتحليل راس المال الثقافي والسلطة، خطوط الصراع وانماط التغيير الذي يسود الحياة الجامعية في فرنسا.

هذا الكتاب يرسم صورة واضحة وديناميكية للحياة الفكرية في فرنسا، ويطور منهج عام لدراسة الثقافة والتعليم. انه كتاب مهم لطلبة وعلماء علم الاجتماع، والتعليم، والسياسة، ولأي شخص مهتم بدور المثقفين في التعليم العالي.

بيير بوردو(عالم اجتماع فرنسي) يجادل بان الميول السياسية للأشخاص تعتمد على وضعهم الوظيفي في المجال الاكاديمي، وليس عكس ذلك. مميزا بين ثلاث مستويات تراتبية من مجالات السلطة، فهو يضع المجال الاكاديمي في الوسط بين الحقل السياسي والحقل الاجتماعي. مفترضا تسلسلا هرميا لأعضاء هيئة التدريس، أولئك في اعلى السلم هم الاقرب الى السلطة السياسية. يدعم  بوردو حججه معتمدا على بيانات تم جمعها من مصادر عامة متاحة تم تقديمها على هيئة جداول.

أساتذة الجامعة، يجادل بوردو بانهم تابعون في مجال السلطة لمدراء الصناعة والاعمال، ولكن رغم ذلك "فهم يتميزون  مؤسسيا بامتلاكهم لراس مال ثقافي"، وبالتالي هم مهيمنون ثقافيا على فئة الكتاب والفنانين. هؤلاء الاكاديميون الذين في قمة الهرم الاجتماعي، يمثلون نسبة اعلى من مؤشرات حالات الاندماج الاجتماعي والمقبولية.

يزعم بوردو، ان هناك مبدأين متناقضين في التسلسل الهرمي الذي يسود مجال التعليم الجامعي: الهرمية الاجتماعية (Social Hierarchy )، تلك التي تعزى الى راس المال الموروث والى راس المال الاقتصادي والسياسي الذي يملكه هؤلاء، وهو ما يتعارض مع التسلسل الهرمي الثقافي المحدد في الهرمية الثقافية، المتوافقة مع مرجعية راس المال العلمي والشهرة العلمية.  

في دراسته هذه، يعرض بوردو الاكاديمي للقراء على أساس انه موضوع (Object). وذلك من اجل التأكيد على ان السلطة الاكاديمية وادعائها بالموضوعية ليس امرا متأصلا في الافراد، وانما تعود الى عملية بناء اكاديمي على محددات  معينة يتصف بها الباحث، والمرتبة التي يشغلها في الحقل الجامعي. ان الحقل الجامعي الذي يتصف بالتراتبية الهرمية، هو نتاج لمواقع السلطة، او راس المال الاكاديمي، او الوجاهة، التي يحصل عليها الباحث ويحافظ ويدافع عنها من خلال المنصب، هذا المنصب الذي يهيمن  على المناصب الأخرى. بالإضافة ان هذه السلطة الاكاديمية يتم المحافظة عليها عن طريق اختيار دقيق، وعملية تطويع مصاحبة لها. هذه العملية تتم عن طريق الاختبارات والمتطلبات المتنوعة المطلوب اجتيازاها، وكذلك كتابة اطروحات يجب ان توافق اهواء الاكاديميين المهيمنين المرتبطين بسلطة القرار.

بوردو يناقش أيضا كيف ان المجال الجامعي يعيد انتاج نفسه. الية خاصة تحافظ على نزاهة المؤسسة، بما فيها المحاباة، ووسائل الاستقطاب، والتي دائما تهدف الى اختيار الرجل "الناجح" الذي يتم اختياره بصورة مختلفة من قبل الممارسين للمهنة.

المشرفون المهمون، الذين يشرفون على تطور طلابهم، ويضمنون ان طلابهم يحترمون حقل الجامعة" قانون الخلافة" يملكون سلطة الغاء او الموافقة على العمل الاكاديمي لطلبتهم، مهنته، وسمعته كأديمي رسمي. لذلك على الطالب ليتطور في عمله الاكاديمي، وليراكم راس ماله الاكاديمي عليه احترام امر التراتبية في المجال الجامعي، وعليه ان يتكيف، ويتبنى الخصائص، او الصفات المقررة من قبل مشرفيهم و من قبل الاكاديميين في مجالهم. الخصائص التي على الاكاديمي الناشئ اتباعها تم اختصارها من قبل بوردو في مفهوم ما يسميه بالهابتس (Habitus ): " هو نظام اجتماعي مشترك وهيكل معرفي يولد الادراك والتقدير والافعال". هذا النظام ، الذي يقوم الطلبة والأساتذة بالحفاظ عليه من خلال الالتزام بالهابتس المقرر، ولارتباطه بالراس المال الاكاديمي ضمن التسلسل الهرمي في الجامعة، والذي تعزز من ديمومته هيكلة السلطة في مجال الجامعة.

هذه الأمثلة حول علاقات السلطة في مجال الجامعة ماهي سوى جزء من النمط الهيكلي. الا ان السعي نحو اختيار مشرف، والقيام بنجاح في تحقيق المتطلبات الاكاديمية، وذلك في سبيل الحصول على راس المال الاكاديمي وللاعتراف الاكاديمي الرسمي، هناك عملية معروفة ومقبولة من قبل الباحثين، والتي يجب الاخذ بها بجدية. "للقراء الذين استثمروا في الحقل الاكاديمي، وبطريقة لا واعية"، كما يجادل بوردو، فانهم اعتمدوا الهبتوس في مجال التعليم الجامعي، وانخرطوا مهنيا في المجال الاكاديمي يمكن لهم بوضوح شرح كيف ان السلطة، وعملية الامتثال، تعطي وتشرع مهنة الاكاديمي وتميز تراتبيته ضمن الجامعة. والأكثر أهمية هنا تأثرعملية انتاج المعرفة والتي هي المهمة المركزية في عملية التقصي لدى بوردو ومحاولته "لوقف عملية انتاج المعرفة من ان تكون أداة للسلطة".

ان هيكل السلطة في المجال الجامعي، وتبني الهابتوس في المجال الاكاديمي الذي انتج وشرعن امتثال الباحث سلبيا، والتي اثرت على الإنتاج المعرفي، من المحتمل ان تعيق عملية البحث العلمي، حيث ان الباحثون عليهم الحصول على راس المال الاكاديمي الذي يؤهلهم للقيام بأبحاثهم المعينة ويتمكنوا من نشر بياناتهم في المجتمع الاكاديمي. بالإضافة، ان تبني الهابتوس الاكاديمي يضعف احتمالات تطوير مناهج بحث بديلة ووجهات نظر مختلفة. حيث ان الباحثون عليهم الالتزام والامتثال للخصائص والمعايير المقررة من الهيئة الاكاديمية. ان ديناميكية السلطة في حقل الجامعة هي التي تقرر من هو الاكاديمي المعترف به، وما الذي يشكل البحث المقبول. عمل بوردو يكشف بان المعايير الموضوعية الاكاديمية والمرتبطة بالباحث وانتاجه البحثي هي غير موضوعية،  وانما تم اعدادها ذاتيا عن طريق ديناميكية القوة والامتثال الموجود في  الحقل الجامعي.

بوردو لا يزود القراء بمنهجية  للمناورة او الكيفية التي يتم بها حل ديناميكية السلطة في الجامعة. الا ان هدفه هو التخلص من "الأرواح الشريرة"، بمعنى انه يسعي الي ان يقوم الاكاديمي بالانشغال النقدي، وان يعي العالم الاكاديمي الذي يعيش ضمنه. هو يقدم للقراء فرصة ليتسألوا بوعي ما الذي يحفز أسئلة البحث، المناهج، والإستنتاجات.

ان عمل بوردو يعتبر بمثابة  مثال على "تدخل اكاديمي" ، حيث يشجع الباحثين على التفكر في وضعهم الحالي ضمن الحقل الجامعي، ومراجعة المعايير التي ترشد ابحاثهم. لذلك عمل بوردو من الممكن ان يحفز على تغيير جوهري بالنسبة للمعايير الاكاديمية في البحوث. الا ان الاكاديميين عليهم التفكر في موقعهم من السلطة، ماهي المعايير المطلوبة للبحث العلمي، من الذي من الممكن ان يشارك في عملية انتاج المعرفة، ومن هي الجهة التي يمكن لها التحقق من هذه المعرفة.

***

مراجعة علي حمدان الرئيسي

...................

المصدر:

*Bourdieu, Pierre, (1984). Homo Academicus. Peter Collier, trans.

Stanford, California: Stanford University Press.

في توقيت مناسب مع استذكار الصحفيين العراقيين ليومهم السنوي، يقدم الزميل سلام الطائي جهداً توثيقياً طيباً في كتابه الموسوم «الأوائل في تاريخ الصحافة العراقية» والذي يبدو أنه اعده وحققه ليتوافق صدوره مع هذه المناسبة، وليُذَّكِر أيضاً بالأسماء والصحف والمجلات والمجهودات التي سجلت السبق في ذلك التاريخ الطويل الذي زاد على القرن ونصف من الزمان.

وتوجز المقدمة الرائعة لكتاب الطائي التي دونها الصحفي الرائد زيد الحلي بإسلوبه الجميل المبسط حكاية ترجيح اتخاذ يوم الخامس عشر من حزيران 1869 الذي صدرت فيه صحيفة «زوراء» عيداً للصحافة العراقية، مع أن الباحث والصحفي رزوق عيسى يشير إلى أن أول صحيفة كانت «جورنال العراق» التي صدرت العام 1816 أيام الوالي داود باشا الكرخي، وطبعت بمطبعة حجرية كما يؤكد ذلك بعض الرَّحالة الأجانب في سجلاتهم، غير أن المؤرخ والموثق الكبير عبد الرزاق الحسني، صاحب موسوعة « تاريخ الوزارات العراقية « حسم الأمر حين شكك في تلك المعلومة بنفيه العثور على أية نسخة من «جورنال العراق» لا في المتحف البريطاني، ولا في المؤسسات العثمانية، وهذا ما رجح اعتماد يوم صدور « زوراء» يوماً للصحافة العراقية، وهي الصحيفة التي صدرت بعد مرور شهرين على تعيين مدحت باشا والياً على بغداد، وطبعت بمطبعة جلبها من باريس، وقد تفوقت في الترجيح لأن نسختها الأولى، فضلاً عن أعدادها اللاحقة متوفرة للباحثين، والتاريخ عادة يتم تثبيته واعتماده بالأدلة المادية والقرائن المنظورة، وهذا ما توفر لـ « زوراء» مدحت باشا، ولم يتوفر لـ «جورنال « داود باشا. والحق، فإن الكثير من رواد الصحافة العراقية، والباحثين في تاريخها، قد أبلوا بلاءً حسناً في هذا الميدان، وقدموا عدداً لا يستهان به من الكتب والبحوث الممتازة، سلطت الأضواء الكافية على بدايات العمل الصحفي والنقابي في العراق، ولا سيما بعد العام 1917، ثم في حقبة تأسيس الدولة العراقية، في عهديها الملكي والجمهوري، وما عاشته الصحافة العراقية من تحديات ومعارك وصراعات مع الحكومات المتعاقبة من أجل ديمومتها والحصول على حريتها واستقلالها. وفي مقدمتهم عوضاً عن السيد عبد الرزاق الحسني، الأديب الوزير رفائيل بطي، وولده الدكتور فائق بطي «مؤرخ الصحافة العراقية» عن جدارة، ومنير بكر التكريتي، وسجاد الغازي، واحمد فوزي عبد الجبار، والدكتور خالد حبيب الراوي، والدكتور مليح صالح شكر، والدكتور إبراهيم العلاف، وغيرهم من الأساتذة الذين قدموا بحوثاً منشورة في مجلات علمية رصينة، أو نالوا شهادات جامعية عليا في تخصصات التاريخ أو الإعلام من الجامعات العراقية، أو ربما من جامعات أخرى، مما يصعب عدهم هنا.

ولأن الطائي يعرف ذلك جيداً، وهو المهتم بالصحافة العراقية وتاريخها وأرشيفها، فقد حاول أن يقدم للقارئ بجهوده الفردية الخاصة - اعداداً وتحقيقاً وتصميماً وطباعة وتوزيعاً -، عملاً توثيقياً جديداً موجزاً ومختصراً، بل وممتعاً، ضمنه الأوائل في تاريخ هذه الصحافة، ابتداءً من صدور» زوراء»، ثم صحافة الانتداب البريطاني، وصحافة الأحزاب في العهد الملكي، والصحافة الكردية والتركمانية والسريانية، إلى الصحافة النسوية والرياضية، وكذلك صحافة الأطفال، وصحافة الهزل والكاريكاتير، مع صفحات للبواكير الأولى لتأسيس جمعية الصحفيين التي ترأسها كامل الجادرجي بعد الاجتماع الذي عقد في مقر جريدة «صوت الأهالي» في العام 1944، ثم تأسيس نقابة الصحفيين العراقيين في العام 1959 بنقيبها الأول محمد مهدي الجواهري وعدد أعضائها في السنة الأولى الذي لم يتجاوز 365 عضواً من الممارسين للمهنة الصحفية. معتمداً على أهم المراجع والمصادر الصحفية الموثوقة في هذا المجال، والتقط منها ما يمكن التقاطه من حقائق ووقائع مهمة، وكذلك من طرائف وغرائب الأخبار في الصحافة العراقية والتي خصص لها الصفحات الأخيرة من كتابه. ومن تلك الحقائق التي اخترناها من بين دفتي الكتاب أن أول رئيس تحرير لجريدة» زوراء» التي استمرت في الصدور لمدة 48 عاماً إلى حين انسحاب الجيش العثماني في 11 آذار يوم دخول القوات البريطانية بغداد، هو الصحفي التركي مدحت أفندي، وإن أول مطبوع يصدره عراقي خارج العراق كان مجلة «المعارف» التي أسسها في القاهرة الملا عثمان الموصلي، وصدرت في 19 حزيران العام 1897 خلال اقامته في مصر، وإن احمد باشا الزهير أصدر صحيفة « الدستور» في إسطنبول العام 1908 وكان يرغب بنقل امتيازها إلى البصرة لكونه أحد أبنائها المرشحين لعضوية مجلس المبعوثان العثماني. ويستعرض الباحث عدداً من رواد الصحافة العراقية الأوائل أمثال إبراهيم حلمي العمر، والأب انستاس الكرملي، وصادق الأزدي، ورفائيل بطي، وجواد هبة الله الشهرستاني، وإبراهيم صالح شكر، وأحمد فوزي عبد الجبار، وبولينا حسون، وغيرهم. ومن الطريف أن المس غيرترود بيل مستشارة المندوب السامي بيرسي كوكس ترأست تحرير جريدة «العرب» التي صدرت عقب الاحتلال البريطاني، وهي أول امرأة غير عراقية مارست مهنة الصحافة في العراق، قبل أن تصدر بولينا حسون مجلة» ليلى» في العام 1923، اما أول صحفية عراقية كتبت أول مقال صحفي فهي الكلدانية مريم نرمة التي أصدرت في العام 1937 صحيفة « فتاة العرب».

ومن أمتع صفحات الكتاب، تلك الأخبار التي اختارها المؤلف من بين عشرات الأخبار الطريفة والغريبة في الصحافة العراقية، وأدرجها بأخطائها اللغوية والطباعية والأسلوبية، حرصاً منه على نقل الحقيقة والخبر الصحفي كما نشر في زمانه، وبالأسلوب الحكائي القصخوني الذي كان يكتب به قبل عصر الهرم المعتدل، والهرم المتدرج، والهرم المقلوب.. والهرم المنهوب!.

***

طه جزّاع

جميع كتابات الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي أجد فيها خصوبة التنوع بسبب التنقل في معيشته مع عائلته في مناطق الفرات الأوسط، وهي رحلة صولاته وجولاته في المدن العراقية التي زادته خبرة في مجال التاريخ والتراث، ودراسة المجتمع العراقي وحقول البحث الإنساني.

والكاتب باسم عبد الحميد حمودي من مواليد 1937 في بغداد، والحاصل على شهادة قسم التاريخ في كلية التربية عام 1960م، وأحد رواد الحركة الأدبية والصحفية العراقية، فضلاً عن كونه باحثاً ومختصاً بالتراث والفولكلور، نشر أول مقالة له (الفراغ) عام 1954م في جريدة (بغداد المساء)، وهو أحد أهم أركان النقدية العراقية التي انبثقت في القرن الماضي.

أشاد بدوره الناقد الراحل الدكتور علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس، تولى رئاسة تحرير مجلة الأقلام التي تُعني بالأدب الحديث، وكذلك رئاسة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية التي تعني بالثقافة والفنون بالعالم. وعمل محرراً في مجلة التراث الشعبي ثم رئيساً لتحريرها، وسكرتيراً لتحرير مجلة الرواد التي تعني بأدب الرواد، ومسؤولاً عن صفحة التراث الشعبي في جريدة (المدى) ونشر العديد من البحوث والدراسات.

ألّف الكثير من الكتب، وخاصة في الأدب الشعبي الذي اختص به، منها "السيرة الشعبية والذات العربية" و"القضاء العرفي عند العرب: معجم المصطلحات" و"الناقد وقصة الحرب: دراسة تحليلية"، و"عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية"، والزير سالم" و"تغريبة الخفاجي عامر العراقي"، و"محمود العبطة فولكلوري عراقي يرحل"، و"أنا عاطل وقصص أخرى" و"الوجه الثالث للمرأة" وكتب عن شخصيات ودراسات في التراث الشعبي"، و"ديوان الأقلام" و"رحلة مع القصة العراقية" فضلا عن كتب "شارع الرشيد" و"في دراما قصيدة الحرب: تنويع نقدي على قصيدة الفاو" و"في تفاصيل الحدث: الهامش في التاريخ العراقي"، وكتب ودراسات في التراث الشعبي" و"حالة نصف الدائرة" و"ميريل ستريب". ورواية "الباشا وفيصل والزعيم".3365 السحر ذلك العالم الغامض

وأخيراً صدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابه الموسوم (السحر.. ذلك العالم الغامض)، والكتاب من الحجم المتوسط يقع في (128) صفحة، سلط فيه الضوء على تاريخ السحر قديماً وحديثاً من خلال المعتقد الشعبي في السحر والأوفاق والتعاويذ، وأنوزاع السحر ووقاية العلاج والرقص الآسيوي والمسرح والسحر.

عرفت الأقوام الأولى السحر والعرافة منذُ أقدم الأزمان، وما تزال بعض الأقوام تضع للسحر مكانته الروحية والاجتماعية الخاصة، باعتباره عنصراً حامياً، والساحر إنساناً مهماً وضرورياً في مجتمعه. والسحر هو العادة الذي تمثل مواقف الخوف الكبير في المجمعات البدائية. وربما كان بسبب طبيعة البنية وقسوتها وعدم وجود رادع ديني واضح يضعف من موقف السحر والسحرة، لكنني أجد أن السحر يأخذ مداه في مجتمعات الشعوب بادئاً بالتنجيم وقراءة المندل وكتابة الأوفاق. والعرب قديماً سمت السحر سحراً لأنه يزيل الصحة إلى المرض، ويقال سحرهُ أي أزالهُ عن البغض إلى الحب. والإنسان يلجأ إلى السحر والخرافة لاعتقاده منذُ القدم أن ما يصيبه من أمراض قد يكون نتيجة لعين حاسدة أو أرواح شريرة أو مسّ من الجن أو انتقام من الآلهة.

في هذا الكتاب سلط الكاتب الضوء على السحر وأنواعه وطرق ابطاله لدى الشعوب على مر التاريخ. ويظل العمل السحري نشطاً معه ما دام هناك نقاط ضعف لدى الإنسان علمياً ودينياً. وقد قضى المؤلف وقتاً طويلاً مع مجموعة من كَتبة الأدعية والتعاويذ للحصول على ما لديهم من مادة، فمنهم من رفض مساعدته ومنهم من ساعده بعد امتناع وحذر، في الوقت ذاته استعان المؤلف بعدة مؤلفات في هذا المجال لإنجاز هذا الكتاب كمادة أولية للدراسة والتحليل والاستنتاج، راجياً أن يكون قد وفق في تقديمه للقارئ الكريم. والغاية من هذا الكتاب كما يرى الكاتب هو لاظهار بعض نماذج ووسائل السحر دون الإيمان بها، ومعرفة جزء من المعتقد الشعبي الذي هو معتقد جمعي متوارث.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

بقلك: إيما لاركين

ترجمة: صالح الرزوق

***

قلت ببطء:"جورج أورويل. ج - و- ج - أ- و - ر- و- ي - ل". لكن تابع البورمي هز رأسه.

كنا نجلس في بيته في غرفة استقبال كالفرن. وكان البيت في مدينة ساحلية خاملة في بورما السفلى. والهواء بدوره ثقيل ويغلف وجودنا. سمعت صوت البعوض يطن بنفاد صبر حول رأسي. وأوشكت أن أيأس. ولكن الرجل أكاديمي معروف في بورما، وأعلم أنه يعرف أورويل. غير أنه متقدم بالعمر، وداء الماء الأبيض صبغ عينه بلون المحار الأزرق. وكانت يداه ترتعشان وهو يرتب عباءته. تساءلت هل فقد الرجل ذاكرته، ولكن بعد عدة محاولات فاشلة، وجهت له سهمي الأخير.

كررت :" جورج أورويل– مؤلف 1984". فجأة لمعت عينا الرجل المسن. ونظر لي ببريق خاطف يدل على الفهم. ولطم جبينه بسعادة وقال:"تقصد النبي".

قبل وفاة جورج أورويل بعام واحد في سنة 1950، تمت مصادرة آلته الطابعة. استلقى أورويل تحت ملاءة كهربائية في شاليه خشبي صغير في قلب كوتسوولد Cotswolds الأخضر والمبهج وهو يحتضر من السل الرئوي. وتراكمت حول سرير مرضه كتب متنوعة: مجلدات عن فظائع ستالين والألمان في الحرب العالمية الثانية، دراسة عن الشغيلة الإنكليز في القرن التاسع عشر، وعدد من روايات توماس هاردي، وبعض بواكير إفلين ووه. وأخفى تحت السرير قارورة من شراب الروم.

نصح الأطباء جورج أورويل الذين كانوا يعالجونه في المصحة أن يمتنع عن الكتابة. قالوا له: كل أنواع الكتابة ستتعبه. وما يحتاج له الراحة التامة، فكلا رئتيه أصيبتا بالطفح والبثور، وكان سعاله مدمى. وقد وصل المرض حالة حرجة، ولم يكن لدى الأطباء أمل باحتمال شفائه. وحتى لو عاش، لن يتمكن من الكتابة – أو على الأقل ليس بنفس القوة التي اعتاد عليها، لكن تابع أورويل الكتابة. خط الرسائل، وألف المقالات، وراجع الكتب، وصحح مسودات روايته الجاهزة للنشر "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون". وكان ذهنه المحموم يخطط لكتاب جديد: وهو نوفيلا بعنوان "قصة غرفة التدخين"، وسيتذكر فيها بورما، المكان الذي لم يذهب إليه منذ أيام شبابه.

عاش أورويل في بورما في العشرينات (1920) بصفة ضابط في قوة الشرطة الإمبراطورية. ولخمس سنوات ارتدى بذة الكاكي والبوط الأسود اللماع. كانت قوة الشرطة الإمبراطورية، المسلحة بالبنادق والشعور بالتفوق المعنوي، تقوم بدورياتها في الريف، لتضبط هذه الزاوية البعيدة من الإمبراطورية البريطانية وتحتفظ بها ضمن النظام. ثم فجأة ودون سابق إنذار عاد إلى إنكلترا وقدم الإخطار الذي معه. وبنفس الروح المباغتة بدأ مهنته بالكتابة، وبدل اسمه الحقيقي "إريك آرثر بلير" باسم أدبي هو "جورج أورويل". وارتدى أسمال المتشردين واقتحم ليالي لندن المعتمة ليجمع القصص من الواقع المعاش. وبنى أورويل أولى رواياته "أيام بورمية" على تجربته في الشرق الأقصى، ولكن في أعمال تالية مثل "مزرعة الحيوان" و"ألف وتسمعائة وأربعة وثمانون" تحول إلى واحد من أهم كتاب القرن العشرين وأكثرهم تبصرا وحكمة. ومن سخرية القدر أن هذه الروايات الثلاثة تروي قصة عن التاريخ المعاصر لبورما. وتبدأ العلاقة من "أيام بورمية"، والتي تسجل تاريخ البلاد في ظل الاستعمار البريطاني. وليس بعد استقلال بورما بفترة طويلة وانفصالها عن بريطانيا عام 1948، أغلق دكتاتور عسكري البلاد عن العالم الخارجي، وأطلق حملة "الطريق البورمي إلى الاشتراكية"، وحول بورما إلى واحد من أفقر البلدان في آسيا. ونفس القصة ترويها رواية "مزرعة الحيوان" لأورويل، بقالب حكاية رمزية تتابع الثورة الاشتراكية التي ذهبت بطريق خاطئ، وفيها تطرد المزارعين جماعة من الخنازير، لتحكم المزرعة حتى تتحول إلى خراب. وفي خاتمة المطاف يقدم أورويل في "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" وصفا مرعبا لدايستوبيا فاقدة للمشاعر، ويرسم فيها صورة دقيقة، تقشعر لها الأبدان، عن بورما الحالية، وتبدو بهيئة بلد تحكمه أعتى ألوان الدكتاتوريات وأفظعها.

في بورما نكتة مفادها أن أورويل لم يكتب رواية واحدة عن البلد، لكن ثلاثا: ثلاثية تتكون من "أيام بورمية"، و"مزرعة الحيوان"، و"ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون".

وأنا أسير في شارع ماندالي المزدحم في بورما خلال أول زيارة لي عام 1955 اقترب مني رجل بورمي متعمدا وهو يلهو بمظلة سوداء. ابتسم ابتسامة ناصعة وقال :"انشري في العالم خبر حاجتنا للديمقراطية – فالشعب منهك جدا". ثم استدار وابتعد وهو يقرع الأرض. وهكذا تم الأمر: كان واحدا من الكل. ولمعت في ذهني فكرة عابرة، أنه في بورما لا شيء يبدو كما هو في الحقيقة.

خلال الأسابيع الثلاثة التي أنفقتها بالتجوال بين مشاهد تشبه صور بطاقات المعايدة، وتمثل أسواقا مبهرة، ومعابد براقة ومحطات بريطانية باهتة مقامة على مرتفعات، وجدت من الصعب أن أؤمن أنني أرحل في بلد لديه واحد من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في العالم. بالنسبة لي كان ذلك أكثر الأشياء حيرة حول بورما: أنه يمكن التستر على قهر أمة يبلغ تعدادها 50 مليون نسمة. وكانت شبكة هائلة من المخابرات العسكرية ومخبريهم تضمن أن لا يفعل أحد أو يقول شيئا يهدد النظام. والإعلام البورمي -- الكتب، والمجلات، والأفلام، والموسيقا -- تحت سيطرة لجنة رقابة صارمة وبروباغاندا حكومية لا تعمل في الصحافة والإعلام المرئي فقط، ولكن أيضا في المدارس والجامعات. وهذه الوسائل التي تتحكم بالواقع تكمن في الخفاء وتعمل بحزم، ودائما تحوم حولك مخاطر التعذيب والسجن.

بالنسبة لإنسانة غريبة مثلي، لا يمكن رؤية ما وراء السطح الذي بناه الجنرالات، ولذلك استحال علي تخيل الخوف اليومي ومحاذير الحياة في دولة من هذا النوع. وخلال جهودي لتفهم هذا الجانب من الحياة في بورما فتنني جورج أورويل. فكل رواياته تستكشف فكرة أفراد وقعوا في فخ البيئة المحلية، وأصبحوا تحت سيطرة أسرتهم، أو المجتمع الذي يحيط بهم، أو الحكومة الجائرة. ويوجد في "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" تصور آخر لمسار الفلسفة القمعية، حتى أنه قدم لنا لغة يمكننا وصفها بها. من ذلك عبارات مثل:" الأخ الأكبر"، "الغرفة 101"، "الخطاب الجديد".

وأنا أعيد قراءة روايات أورويل – ما لم أقرأه منذ أيام الدراسة – زاد فضولي حول علاقته الشخصية مع بورما. ما هو الشيء الذي جعله يتخلى عن مهنته في المستعمرات ليصبح كاتبا؟.

ولماذا، بعد الابتعاد عن بورما حوالي ربع قرن، بحث في البلد عن شيء يلهمه وهو على فراش الموت؟. بدأت أعتقد أن أورويل شاهد شيئا في بورما، وأمسك بخيط فكرة تغلغلت في كل كتاباته. نظرت في مختلف السير التي كتبت عن أورويل، ولكن بدا لي أن كتابها قللوا من أهمية بورما، كما أرى، ولم يجر أي منهم بحثا في المكان الذي عاش فيه أورويل خمس سنوات حاسمة بدلت مساره.

كانت البلدات والمدن التي خدم فيها أورويل في وسط جغرافيا البلد، وبمعنى من المعاني، كان لا يزال من الممكن أن تشعر ببورما كما عرفها أورويل – تقريبا نصف قرن من الدكتاتورية العسكرية منحتها جو بلد تجمد في الزمان. ولكن رحلة عبر بورما أورويل تقودك لطبيعة مفتوحة متميزة ومرعبة: كأنها إحياء لجو "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" حيث كوابيس أورويل تستعاد بمزيد من الوضوح المميت.

لم يسمح للكتاب والصحافيين الأجانب بالدخول إلى بورما. أحيانا أمكن لعدد قليل بالتسلل إلى البلد بصفة سياح، ولكن إذا تم اكتشاف دفاتر ملاحظاتهم وأشرطة الصور التي التقطوها، سوف تصادر ويتعرضون للطرد الفوري. أما البورميون الذين أدلوا بشهاداتهم، فتكون الإجراءات ضدهم أعظم بشكل غير محدود. تحت قانون الطوارئ لعام 1950، تقديم معلومات للأجانب، التي يعتبرها النظام حيوية، تكون العقوبة سبع سنوات في السجن. ومع أنني صحافية، نادرا ما كتبت عن بورما، وكان من الممكن أن أختلط بالسياح أو جماعة صغيرة من الوافدين التجار الحاصلين على إقامات طويلة الأمد. ولوضع كتاب أعتمد به على مشاهداتي هناك كان لا بد من تقديم التنازلات: كنت أبدل أسماء البورميين الذين أتحدث معهم، وفي بعض الحالات، أبدل أسماء أماكن سكناهم. وإذا تحليت بالحذر كان من الوارد شق طريق في بلد مغلق أمامك كما يبدو.

قبل أن أسافر إلى بورما، قمت بزيارة أرشيف جورج أورويل في لندن، لألقي نظرة على آخر مخطوطة له. حينما مات أورويل، عام 1950، كان قد بدأ مشروعه للتو، فقد خطط لـ "قصة غرفة تدخين" أن تكون نوفيلا من ثلاثين حتى أربعين ألف كلمة، وفيها يخبرنا كيف تبدل نهائيا وجه منتعش لرجل بريطاني شاب بعد أن عاش في غابات مدارية رطبة تقع في بورما المستعمرة. بكلمات منقوشة بالحبر على أول ثلاث صفحات من دفتر مغلف بورق أبيض سجل أورويل رؤوس أقلام الحكاية، ونبذة قصيرة. قلبت في بقية الدفتر ورأيت صفحات بيضاء. وأدركت أن بقية القصة تنتظرني في بورما.

*** 

...................

* مقتطفات من كتاب بعنوان "البحث عن جورج أورويل في بورما" لإيما لاركن Emma Larkin صدر عام 2004 عن دار بنغوين. لاركن صحافية أمريكية، حصلت على تعليمها في جامعة لندن - كلية الدراسات الشرقية والإفريقية. وهي مولودة في آسيا، وتعيش حاليا في تايلاند.

قراءة في: يوميات كاتب في المنفى..

مسارات الحروف وكواليس الكتابة للدكتور خير الله سعيد

يقدمها: محمد حسين النجفي، بعنوان:

المثقف مناضلاً: الدكتور خير الله سعيد أنموذجاً

***

يأخذنا التفكير والانبهار عندما نقرأ لـ "يوميات كاتب في المنفى ضمن مسلسل "مسارات الحروف وكواليس الكتابة" للدكتور خير الله سعيد، حيث انني لم أجد كاتباً وما اكثرهم، ولم أرى سياسياً، والكل يثرثر في السياسة هذه الأيام، انما تعرفتُ على طفلاً تغذى من الرزق الحلال ومن بساطة العيش، وتربى في بيئة متواضعة مادياً، غنية اخلاقياً، متفوقة على نفسها وعلى من حولها في الكد والجهد والإنجاز. رأيتُ طفلاً طموحاً ومراهقاً كادحاً وشاباً ملتزماً ورجلاً عصامياً، شق طريق حياته بأيادي عامل البناء الخشنة، وزينها برسوم زاهية مخطوطة بأنامل ريشة خطاط محترف.

حضرت العديد من ندوات الزوم وعلى عدة منصات وتعرفت فيها على الدكتور خير الله سعيد والدكتور محمد عبد الرضا شياع ومجموعة واسعة من المثقفين. لفتت انتباهي مداخلات دكتور سعيد في كل الندوات رغم اختلاف مواضيعها، وتباين مقدميها. رجل ذو معلومات واسعة وذاكرة ذكية وفطنة للتفاصيل التي تطرح امامه. مداخلاته تبدأ وتنتهي بإيجابية صادقة، مع إضافة بُعد ورؤيا ذو قيمة ودلالة للمحاضر ولموضوع المحاضرة. كنت ولا زلت انتظر ما يقوله كاتبنا "السعيد" في محاضراته ومداخلاته وفي الأسئلة التي يطرحها ويسميها "إشكاليات".

سحرتني من سيرته في مسارات الحروف بداياته، نعم تأثرتُ كثيراً بطفولة ونشأة كاتبنا، التي ميزتها قدرات غير طبيعية وصفات شخصية مكنته من الوقوف بوجه كل الصعاب وتجاوز كل المعضلات، لم يتردد لبدء اول يوم دراسي في ان يذهب للمدرسة حافي القدمين، لأنه ببساطة لا يملك حذاءً، ولم تثنيه قساوة احد معلميه، الغير طبيعية والتي أحس فيها الطفل خير الله انها لم تكن إلا لأسباب سياسية وطائفية ومناطقية، لأنه كما يقول "شروكي" ومن منطقة الشاكرية التي قاومت حركة 8 شباط عام 1963 الدموية، رغم ان "خير الله" كان طفلاً حينها وربما لحسن حظه، ولو كان شاباً، لكان مصيره مثل مصير رفاقه مقتولاً او مسجوناً أو مشردا.

كان الصبي خير الله يبحث عن حلول وعن سُلمٌ للإرتقاء، فكان يُعاني من تلعثم في الكلام خاصة في الكلمات التي تبدأ بحرف الألف، وتعرض للإهانة والضرب من معلميه بسبب ذلك، الى أن نصحه أحد المعلمين الأفاضل، بأن يحفظ الشعر المقفى ويقرأه بصوت عالي وسيتخلص من التلعثم في النطق. فبدل ان ينكسر الصبي "خير الله"، وينطوي على نفسه، حفظ المعلقات السبعة عن ظهر قلب وتخلص من عقدة اللسان.

كما قُلت كان يبحث عن سُلم للرقي، فحينما سمع أحد زملاءه يُلقي قصيدة "أبو القاسم الشابي" في الطابور الصباحي، اعجبته وصادق ذلك الطالب وجعل هذا البيت للشابي مفتاحاً مبدئاً لسيرته أخلص له طيلة حياته:

"خُلقت طليقاً كطيف النسيم

وحُراً كنور الضحى في سماه

فما بالك ترضى بذل القيود

وتحني لمن كبلوك الجباه"

وتستمر الحياة مع الصبي ليتعلم الخط العربي ويتقنه على يد أشهر خطاطي العراق "هاشم الخطاط"، الذي نصحه حينما رأه متواضعاً اكثر من اللزوم، بأن: "احفظ كبريائك على الدوام". واستمع الى الدكتور مصطفى جواد وبرنامجه الإذاعي "قل ولا تقل"، وبرنامج "الندوة الثقافية: للدكتور سالم الألوسي وضيفه الدائم د. مصطفى جواد، الذي زرع في نفسه نزعة موسوعية تركزت على تاريخ بغداد في العصر العباسي، وعلى دور "الوراقين" في نشر المعرفة، التي حققها بعد أكثر من ثلاثين عاما.

واستمر في قراءة يوميات كاتب من المنفى، وارافقه وانا اقرأ في رحلة مناضل من مناضلي ما كان يُسمى الزمن الجميل، لأكتشف معها معنى المواطنة عند ذلك الجيل وقيمة الوطن الذي يُعلى ولا يُعلى عليه، وقدرة ذلك الجيل في العطاء الذي لا حدود له، حتى لو كان بضمنها التضحية بالحياة. ان ما يتعرض له الجيل الحالي في العراق او في الوطن العربي، من ظلم واضطهاد، وهو ليس بالقليل، إلا انه لا يقارن لما تعرض له خير الله الطفل، وخير الله الصبي وخير الله الشاب وخير الله الرجل، من ضيق مادي وعوز معاشي واضطهاد طبقي وتعسف وظلم سياسي وصل لحد الحكم بالإعدام، وكلها متلازمة وفي آن واحد، ومع ذلك صمد وصمد وشق طريقه نحو العلى دون ان يذعن او يهادن او ان يساوم على حساب مبادئه. وحينما اضطر لمغادرة وطنه مُرغماً لا مخيراً، لم يأخذ معه من الزاد سوى وصية اخته الكبرى "شلتاغة" التي قالت له باختصار: "اسمع خويه، إنت طالع لديار الغربة، وبعزمك وبإرادتك، يا إما ترفع راسنا، يا إما تعود الآن"، والشواهد تقول انه ظل اميناً لوصية اخته الكبرى.

لذا انني حينما فتشتُ في كواليس ودهاليز الكتابة للدكتور خير الله سعيد لم اجد كاتباً او سياسياً او اكاديمياً او باحثاً، انما وجدتُ مناضلاً، ليس بالمفهوم السياسي فقط وانما مناضلاً سياسياً ذو مبادئ حافظ عليها واعتبرها اعلى من الانتماءات الحزبية، ومناضلاً في سبيل لقمة العيش منذ الطفولة وربما لحد يومنا هذا، ومناضلاً في سبيل الثقافة وبالأخص ما يهم وطنه وتراثه وبغداده التي يُعلّي من شأنها دائماً في بحوثه واستنتاجاته العلمية المرتكزة على مصادر نادرة، اقتناها بالدراهم الأولى حينما عمل كل يوم جمعة عامل بناء، وحينما اشترى مجموعة "مُعجم الأدباء- لياقوت الحموي-20 مجلداً"، اشتراها بكل ما لديه 1500 ليرة سورية بدل ان يدفع ايجار سكنه، غير مبالياً من نتائج عدم دفع الإيجار.

ناضل في سبيل مبادئ آمن بها ودافع عنها وتعرض لاحتمال ان يُعدم كما أعدم صديقه، والعديد من رفاقه، إلا انه لم يساوم لا مع خصومه ولا حتى مع رفاقه الذين اختلف واختلفوا معه في المسيرة رغم الإيمان بقضية واحدة.

الدكتور خير الله سعيد حياته زاخرة في السعي والجهد المتواصل في القراءة والبحث، كان من المواظبين يومياً ولمدة عشر سنوات للجلوس والقراءة والبحث في مكتبة الظاهرية في شارع سينما الحمرا بدمشق، ليجلس مساءاً منفرداً في صومعته للكتابة في مواضيع أفنى حياته في دراستها، التراث والفلكلور العراقي خاصة في العهد العباسي.

علاقاته الثقافية والسياسية واسعة جداً: يعتبر نفسه تلميذاً للراحل هادي العلوي، ومستمعاً جيداً لمصطفى جواد، ومتدرباً على الخط العربي تحت اشراف الخطاط هاشم البغدادي. تعرف شخصياً على النقابي العمالي العراقي النشط في ستينات وسبعينات القرن المنصرم "هاشم علي محسن" الذي كان ايضاً رئيساً لتحرير الجريدة الأسبوعية الناطقة باسم نقابات العمال العراقية والتي منح فيها فرصة لليساريين للكتابة فيها، وكنت انا احد قراءها، ومن الشعراء الفلسطينيين التقدميين محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، ومن المثقفين السوريين توفيق سلوم وميشيل كيلو وناجي علوش، ومن القادة السياسيين نايف حواتمة وجورج حبش، ومن الشعراء العراقيين شاكر السماوي وعزيز السماوي وعريان السيد خلف ومظفر النواب، وما هذه إلا امثلة قليلة من العلاقات التي اثرت عليه وأثر عليها.

أقول للدكتور خير الله سعيد: أيها المثقف الموسوعي الكبير، إن امكانياتي الأدبية المتواضعة لا يمكنها ان تعطيك حقك في التقدير والثناء، ولكني أرى مشتركات بيننا غير مقصودة رغم انني أكبر منك عمراً، ففي الوقت الذي كنت تتعرض لاضطهاد لأنك من الشاكرية، كان صاحُبك "المناضل الصغير"، على الجانب الآخر من نهر دجلة، معتقلٌ يُحقَق معه في دهاليز وبيوت غير مُعلمة للحرس القومي للتحقيق معه، وكنا نسمع وقع وصدى رصاص المقاومين ببطولة للانقلاب الفاشي عبر اثير نهر دجلة، من محلة الكريمات ومنطقة الشاكرية المناضلتين.  

وحينما اشتريت كتاب للشاعر النجفي "حسين القسام"، كنت انا قد حضرت استعراض مسرحي في أحد الأعراس النجفية، يُقدمها المنلوجست النجفي الرائع "صادق القندرجي" ومُعظم مواد الاستعراض كانت للشاعر والناقد الاجتماعي "حسين القسام"، وكان الإثنين يكملون بعضهما.

اما تسوقك من مكتبة التحرير في الباب الشرقي، فكانت مصدري لشراء الكتب ايضاً، إلا إنك رغم عُسر اليد اشتريت كتابين مرة واحدة، وانا مع يسر اليد كنت بخيلاً لا اشتري عادةً أكثر من كتاب واحد.

قصيدة رمدة الشمس وصلت الينا نهاية الستينات، على أثر انتكاسة حركة الأهوار ومجزرة "الغموكه"، مكتوبة بحبر بخط اليد على ورق خفيف لصنع الطائرات الورقية، وقيل لنا عند الضرورة والمداهمة يمكنكم بلعها. نعم قُدمت الينا باعتبارها للراحل مُظفر النواب ولا لأحد غيره، والتي علمنا لاحقاً انها للشاعر جودت التميمي، ومطلعها:

رمدة الشمس ومعصبات 

   إعيونها بغيم الكِدر

ردْ للسَلف، خبُر زلمنـــــا

   الما وصل منهم خبر

في الختام أقول للدكتور خير الله سعيد: ان تجاربك واسعة في الحياة، قراءاتك لا حدود منظورة لها، بساطتك وسلاستك ومحبتك للآخرين ونتاجاتهم مُشجعة ومحفزة دائماً. إنك موسوعي وناقد وشاعر وباحث من طراز خاص، ميزتك إنك تكتب للمثقفين فتبهرهم، وتكتب للعامة فتثقفهم وتُسليهم، وهي ازدواجية صعبة الاحتواء، فمعظم الكتاب يسعون إما للوصول للقارئ المثقف، او للمواطن العادي الذي يقرأ للاطلاع والاستمتاع.

ومع ذلك، وللأسف أقول مع ذلك فإن الدكتور خير الله سعيد لم ينل حقه في التقدير والتكريم او التقييم او الأسناد او النشر سواء من الجهات الرسمية الحكومية مثل وزارة الثقافة او من الجامعات ومراكز البحوث ذات الاختصاص او من المراكز المهنية مثل اتحاد الأدباء او غيره، على مدى الحكومات والظروف المتعاقبة، وان هناك من الأدباء من نال الدعم وحصل على الشهرة، لا لإنجاز قدموه ولا لتضحية مشهودة لهم، وانما لوصوليتهم وانتهازيتهم كونهم جلساء السلاطين ومداحي المتنفذين. الدكتور خير الله سعيد مشروع ثقافي وطني لا بد من تعضيده للوصول الى نتائج مضاعفة لهذا الجيل والأجيال المقبلة، وللأسف نكتشف في قراءتنا لـ "مسارات الحروف وكواليس الكتابة" ان هناك مجموعة كبيرة من نتاجه مكتملة وباقية على شكل مخطوطات، بانتظار من يطبعها، وهذه امثلة لبعضها:

* عريان السيد خلف - الشاعرية المتكاملة.

* حكايا شهرزاد.

* قراءات في أوراق شيوعية.

* أحمد المختار بين الموسيقى والحياة.

* مماحكات فكرية في الأدب الشعبي.

استاذنا خير الله سعيد، إني سعيد بمعرفتك وسأقرأ لك أكثر وأكثر، فإنك كريم في غزارة نتاجاتك، ونحن بخلاء في متابعة كتاباتك وإنجازاتك الإبداعية خاصة ما يخص التراث والفلكلور العراقي. 

***

محمد حسين النجفي

15 حزيران 2023

"مطالعة أوليّة في كتابه "العقل الفقهي بين الإطلاق والتاريخية"

بعض المفكرين وأنت تشتغل في دراساتهم وتطالع مشاريعهم المعرفية لابد أنّ تكون يقظًا وحذرًا، ومنهم السيد كمال الحيدري، فهو – ولا سيَّما في الآونة الأخيرة- من الذين يتطلبون قراء حاذقين وأذكياء أيضًا. فأنت تقف معه بسلسلة من التحديثات والنقد الذي طال المنظومة الدينيّة بكاملها، وحاكمها بصرامة مستعينا بكل أدوات التفكير الحديث. وهنا نسال: هل نحن بحاجة إلى قراءات الحيدري وإثارته بعيدًا عن الإيمان بها أو عدمه؟ وهل حقًا إذا أراد الإسلام أن  يطرح مشروعه الحضاري مرة أخرى، كما يقول ستيفن شومكو: " فعليه أن يجابه بكل حزم وشفافية الجوانب المحيرة (على الأقل بالنسبة للعقليّة المعاصرة) في شخصية مؤسسه وفي تاريخ أصوله وذلك على غرار ما اضطرت للقيام به المسيحية واليهودية وديانات أخرى حتّى تمكنت من انتقالها نحو الحداثة ومرورها اليوم إلى مرحلة ما بعد الحداثة."؟ وهل يساهم الحيدري بهذا الدور من خلال أدواته الاجتهادية، ومعرفته بالعلوم الحديثة، ولو مؤخرًا؟

قبل أن نقارب السيد الحيدري لا بد أن نعرض بشكل موجز لتأريخ التحديث الدينيّ لنعرف أين يقف الرجل في طابور القراءات التراكمية في تصويب الأفكار ونضجها، وزحزحت التالف منها.

مع بداية عصر "النهضة العربية" في مطلع القرن العشرين حصلت تحولات معرفية كبيرة طالت العقل السني ودفعته إلى الإمام بخطوات جريئة، استهدفت بلورة فهم جديد للدين يواكب الحياة ويعيد نمط التدين إلى الحاضر من دون مفارقات أخلاقية وروحية وتشريعية، إِلَّا أن هذه المحاولة فشلت في اعتماد وتحديد إطار فلسفي خاص يتناسب مع متطلبات المرحلة على الرغم من الإرهاصات والمخاضات التي مرت بها، فلم تجري مسحًا كاملًا ونقديًّا لمجمل التراث الدينيّ وتفكك عناصره القاتلة أو الميتة، وهذا ما يفسر لنا صعود الأصولية الارتدادية بعد هزيمة حزيران 1967م، بعد أن فقدت الأخيرة إيمانها بالعمل السياسي بعيد الأمد، فرفضت منجزات العلوم الحديثة بكل قوة وعنف، فاهتز العالم الإسلامي بفوضى جوّالة منذ سبعينيات القرن الماضي ابتدءًا من مصر وأفغانستان والجزائر، مرورًا بسوريا، ووصولًا إلى العراق وليبيا.

أما العقل الشيعي وتحديثه المعاصر فنستطيع أن نؤرّخ له بالدعوة إلى الدستور، وهو ما يعبر عنها بقضية المستبدة والمشروطة، وانعكاساتها في التفكير الفقهي بالدولة ونظمها، وإعادة النظر فيها. فالاستعادة التاريخية لطبيعة العلاقة بين النص والسياسة، أو الدعوة والدولة، أو الفقيه والسلطان، في بعض مراحلها تحكي عن فهمهم ووعيهم للنص (القرآن + تفاسيره) في أفق التلقي والإنتاج. ليعقبها دخول فقهاء الشيعة في ثورة العشرين ومشاركتهم الفاعلة فيها، وصولًا إلى اعتماد بعضهم التنظيمات الحزبية (من خلال حزب الدعوة)، أو حركة المحرومين في لبنان، ولكن الذي دفع العقل الشيعي إلى التحديث بشكل فاعل هو الثورة الإسلاميَّة في إيران، ووصول الفقيه لأول مرة إلى مركز القرار، مع الدعوة لتوظيف الفقه ومدوناته في بناء النظم في مجالات الإدارة، والسياسة، والاقتصاد، والمال، والحقوق، والجنايات، وو.

هنا حصلت تحولات تاريخية مفصلية في العقل الدينيّ، لم تكن من قناعاته التقليدية المتعارفة تاريخيًا، ومن بين هذه التحولات دخول العقل الديني -أكثر بكثير مما كان الحال عليه قبل ذلك-في دائرة المتغيّر، دائرة السياسة والاقتصاد وتحديات الحداثة المادية والفكرية التي تشكلت بمنأى عنه ودون أن تتاح له الفرصة بالمساهمة فيها.

وكان من المفترض أن تنخرط شريحة كبيرة من المفكرين والفقهاء في الانفتاح على منجزات العلوم الإنسانية، وما قدمته من دراسات وأدوات ومحاكاة في تحقيب الأفكار وتصويبها، غير أنّ الأعم الأغلب بقي تفكيره مطوقًا في داخل المدونات الدينية ومفاهيمها، نعم خرج بعضهم وروض نفسه بجراءة على النقد العلمي الصارم، متحملًا لأبواب الصراخ والعويل التي فتحت عليه، ومن هؤلاء السيد كمال الحيدري.3326 العقل الفقهي بين الاطلاع والتاريخية

قبل أن أتناوله بمقاربة بسيطة دعوني أوضح أمرين: الأول: تطور التفكير لديه أو تنقله بين مسالك التفكير الشيعي، فالرجل في بداية حياته العلمية لم يخرج عن مدونات الحديث ومعطياتها، فانغمس في "بحار الأنوار" إلى قاعه، ثم عبر بتفكيره، إلى الفلسفة والعرفان، وكان مخلصًا لهذا الاتجاه، وبارعًا في شرحها، ثم تصدى ودخل بحوارات كلامية مع السلفية، صفق لها الجمهور الشيعي بحرارة منقطعة النظير، حتى أني أتذكر أن احد الأساتيذ في كليتي كان يسجل جميع محاوراته في قناة الكوثر.

المحطة الحاسمة في حياة الحيدري هي اطلاعه على منجزات العلوم الحديثة وإيمانه بها، وقناعته أنّها لا تصطدم مع الدين، بل تغنيه وتغذيه وترمم الحياة إذا ما تم التعامل معها بدقة ومعرفة سليمة. ان هذه التنّقلات في التفكير والمعالجة قد يراها بعضهم منقصة عليه ومثلبة، لأنها تخبر عن عدم ارتكاز وإتقان مستوفي لمضامين المباني، فالرجل لم يكن إِلَّا شارحًا للمتون بارعًا في شرحه، فالحيدري حكاية أخرى عن المجتمع العربي الذي يستهلك كل شيء بإسراف حتى في الأفكار، وبلا حدود أو ذاكرة. إلَّا أن التفكير العلمي يحسبها ضربًا من التنقيح، والتأمل الحر، والتنقل في التجارب المنحازة إلى التحديث والعقلانية.

الأمر الثاني: وهو المتعلق بعنوان المقالة " داخل الفكر الديني والخروج عليه". يروى عن ابن قيم الجوزية (ت751هـ) أنه سئل: من يدرك الحقيقة؟ من كان داخل الدين أو من كان خارجه؟ فقال: يدركها من كان داخل الدين ثم خرج منه ونظر إليه." إن هذه العبارة تلخص فلسفة البحث العلمي بأدق تفاصيله.

لقد كتبت الكثير من المشاريع المعرفية التي عالجت أزمات العقل الديني ونقده، ومناهج التفكير لديه، وتنوعت أغراضها ومنطلقاتها ودقة الإصابة فيها، ودعت إلى إصلاح الإسلام من الداخل، بل حتى "تفجير" تراثه من الداخل، أو بتعبير أمين الخولي" قتل الماضي بحثًا". ولكن ما يسجل على أغلبها أنها طبقت مناهج المعرفة الحديثة من دون معرفة تامة وحقيقية بالتراث وتراكماته، وحركة التعويض فيه، فلم يستوفوا منهجيات التراث ويمشوا بأزقته بأقدام حافية. ويقف في قبال هؤلاء من ينغمس في التراث ومدوناته ليعيد إظهارها من جديد، من دون أن يسمح لنفسه باختبار قدرتها على الوفاء بمتطلبات الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في سياقات الحاضر واشتراطاته.

ومن ثَّم، فان اشتراطات المفكر الحديث أن يستوعب الإنتاج الداخلي، والخارجي. فيمارس اجتهاده الداخلي بمتابعة ما هندسه القدماء من نظريات واصطلاحات ومناهج ومسالك وو. واجتهاد خارجي يتتبع فيه الإنتاج الهائل من العلوم من ألسُنية وانثروبولوجية وسوسيولوجية وعلم النفس والنقد الأدبي والتاريخ وو. وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بـ "الخروج عن الدين والنظر إليه". فالمنغمس في التراث لا يرى سواه، والناظر من الخارج، لا يدرك مذاقاته.. من يدرك حقيقته هو من عاش وصنف وحقق في التراث، ثم أعاد النظر بمضامين الأدلة وفقًا لمكتسبات عصره.

وهنا نسال ألا يمكن أن نصنف الحيدري بأنه مثال للمفكر الذي خرج من التراث وأعاد النظر فيه ومارس النقد ونقد النقد، وعاش الانفصال والاتصال مرة أخرى؟ فهو ابن التراث محققًا له، ومدققًا فيه، وفي الوقت نفسه مطلعًا على ما أنجزه الآخر، ومؤمنًا بأنّ هذا الاطلاع ضرورة دينية وأخلاقية.

ولكي ندلل على فكرتنا، لا بد أن نلمح إلى بعض دراساته، مع عدم غفلتنا أن قراءاته فيها ما هو قابل للنقد والرد والمحاكمة العلمية.

لقد صدر قبل أيام قليلة كتابه "العقل الفقهي بين الإطلاق والتاريخية- نقد قاعدة الاشتراك" ويعدّ نموذجًا متقدمًا من فكره وقناعته واجتهاده، مع إدراكي أنه من الصعب على الباحث في فكر الحيدري أن يتوقف عند أحد جوانبه، دون أن يجد نفسه منغمسًا في تحليل الجوانب الأخرى من إنتاجه ومشروعه، إلَّا أني سأركز على كتابه هذا وبقراءة أولية، لا أزعم فيها الاستيعاب التام للمضامين.

إن هذا الكتاب (المتكون من 688صحيفة) يشتغل على أهم قضية لا زال العقل الفقهيّ يتعامل معها بخجل أو حرج، وهي تاريخية النصّ الدينيّ في الاستنباط بخلاف بقية الدلالات، مع أن فهم الواقع الذي نبت فيه النص قرينة مهمة في الاستنباط.

قبل أن نقرأ الكتاب لا بأس أن نشير إلى ما يميزه على الصعيد المنهجي، وهي أمور:

الأول: التوصيفات والإيضاحات، فقبل الدخول في أي معالجة يوضح المفاهيم ومواطن النزاع والاختلاف فيها حتى لا يقع القارئ في اللبس والإبهام في النزاعات اللفظية، فتجده مثًلا يشرح المفهوم لغة واصطلاحًا، كالتاريخية، والزمن، والحكم، وو. فقد يشتبه الأمر على الباحث فيعتقد أن المفهوم المستخدم في عصرين مثلًا يدل على مؤدّى واحد فيما الأمر بخلاف ذلك. كما هو الحال مع التاريخية، يقول: " فلا يقصد بالتاريخية هنا، المعنى المصطلح للتاريخ، الذي يوحي بأنّ للسنة-مثلًا- تاريخ صلاحية معيّنا، وأن دورها قد انتهى بانتهاء ذلك التاريخ، بل المقصود منها، الظروف الفكرية والثقافية والسياسية والعادات وو التي تحيط بالنصّ(1)."

فتأتي التاريخية قبال قاعدة الاشتراك، التي يحرص على بيانها في مقدمة الكتاب، والتي تجعل من الحكم الشرعي الوارد في النص يشمل جميع المكلفين بلا مراعاة لسياقات الواقع سواء الخاص بالتنزيل، أو العام.

الثاني: أنه يهتم كثيرًا بتاريخ العلوم والمفاهيم ومفاعيل التشكل والصيرورة فيها، فيشرع بالتحقيب التاريخي- مثلًا- لتقسيم القضايا إلى حقيقية وتاريخية، وما أصل التسمية فيها، ومتى دخلت في علم الأصول، مع بيان دواعي هذا الدخول. وهو بذلك يكشف لك عن مدى ترابط العلوم وتداخلها مع بعضها، وأسباب نجاحها أو إخفاقها في بعض المراحل، فتنكشف المناطق المستبعدة من التفكير أو المجهولة، أو المهملة نظرًا لصراعات أو تجارب أو غير ذلك.

الثالث: يَلمح القارئ أن منهجه، وقيمة بحثه العلمي هو في تطبيقه واستعانته بأكثر من منهج في فهم التراث الدينيّ، فتبدو حالة التفهم لقيمة العلوم الحديثة والمعارف الإنسانية واضحة لديه، فتارة تلمح الانثروبولوجيا، وتارة تاريخ علم النفس الديني، وو. وهي سمة طبعت تفكيره، وشاهد ذلك هو معالجته لأحكام المرأة، وإحياء الأرض الموات، وارتكاز المتشرعة، وو، وهذه العلوم تلعب دورًا أساسيًا في تحديد موضوعات الحكم الشرعي وطبيعته بوصفها أمورًا اعتباريةً مقومةً له، فإذا تغيَّرت استوجبت تغيَّر الحكم الشرعي، فالحكم يدور مع الموضوع، ويتحرك معه(2).

أما الفكرة الأصيلة في هذا الكتاب أنها تقوم على تجاوز الماضي بأسئلته وأدواته، بعد أن لبت هذه الأدوات والمنهجيات حاجات عصرها، فلا بد من اختبارها بتساؤلات العصر لنعلم مدى قدرتها على الوفاء بوعودها وعهودها. مع إيمان الحيدري أن الشريعة " تتسم بجملة من العناصر تؤهّلها لتطويع الواقع لها والاستجابة للتحديات المستجدة، أيًّا كان شكلها ومضمونها(3)."

وبذلك يرى في الدين ضرورة لاعتبارات مختلفة إِلَّا أنّه يدرك أن الدين وقع في التباسات التاريخ واللغة والفكر والتجربة، وتفاعل معها، فانصهرت فيه الآفاق المعرفية والأزمان معًا على حد تعبير غادامير. ليشتغل على ترجمة لغة التراث ومنهجياته ومدوناته إلى لغة المرء الخاصة أو لغة الواقع الخاص. فيميل إلى إحياء التراث بلغة ثانية ومنهج مختلف، فيختار التأليف النقدي مستخرجًا من ملفات التاريخ ووثائقه الأسس الفكرية والنظريات والأصول والمسالك ويخضعها للبحث الدلالي وللتحقيب التاريخي لفك جدلية النص والواقع فيها. لتكون مساحة اللامفكر فيه عنده ضيقه، والمستحيل التفكير فيه محدودة.

أما إسهام هذا الكتاب في تطوير الاجتهاد الفقهي، الذي يستبد بالحيدري فيمكن إرجاعها إلى ثلاثة مباني معتمدة لديه:

الأول: مبنى تنوع الفهم وتكثره، إن الرؤية التي ينطلق منها لفهم النص الدينيّ وتحليله تقوم على تعدد الاجتهادات، وعدم تطويق الحقيقة في قراءة واحدة، وقد ألحت الدراسات الحديثة على هذا المبنى، فشاركهم به. ومرتكز هذا المبنى أفضل من أوضحه الدكتور عبد الكريم سروش، يقول: " ففهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءٌ بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة(4)."

الثاني: ضرورة التمييز بين القاعدة وتطبيقاتها، من أركان قراءته المختارة في التحليل والاجتهاد هو التمييز بين الأصول والقواعد، وبين تطبيقاتها، والتي عبر عنها في دراساته السابقة بوحدة المفهوم وتعدد المصداق. فنظام العقوبات أقره الإسلام، ولكن تطبيقاته متبدلة من زمان لآخر، وكذلك نظام الضرائب وتأمين البعد المادي للمجتمع، فهو أصل ثابت. أما تطبيقاته فهي متغيرة بحسب الظروف. فقد تكون في ظرف على الأعيان التسعة في باب الزكاة، وفي ظرف آخر قد تكون على غيرها. والمشكلة كما يشخصها الحيدري تكمن أن العقل المدرسي عدّ هذه التطبيقات ثوابت للشريعة وفق قاعدة الاشتراك، فاصطدموا مع الواقع اضطرادًا عندما أرادوا تطبيقها(5).

وبهذا المبنى أراد الحيدري أن يفرق بين جعل النصّ الديني بنفسه تاريخًا، فتكون هويته تاريخية، فلا يمكن سحبه لعالم اليوم، وهو ما يعبر عنه باستحالة الثبات أو استحالة التأبيد والامتداد الزمني، وبين نقول أنه متعال لكنه يرتدي جلباب التاريخية ويتلحف بها، وهذا معناه أن ثمة مفهوم وحضور ديني ثابت ولكنه رمي في التاريخ والتباساته، ومهمة الباحث هو كشف هذا الالتباس وتعريته للوصول إلى الإطلاق الزماني. ومن هنا يذهب الدكتور مصطفى ملكيان إلى أن(6) التبدلات التاريخية التي تجري في الأمم والثقافات لا تعيق ثبات واستقرار بعض النصوص والأحكام، كما هو الحال مع نصوص لكونفوشيوس ما تزال متدفقة بالحياة والحضور الفاعل في بناء الوعي(7).

الثالث: نقد القراءة الرسمية للدين، إن امتياز الحيدري في هذا المبنى في دعوته إلى مسح الطاولة- بتعبير بيكون- والتخلي عن أوهام الفهم الرسمي وتخيلاته، فلا اعتبار لأي فهم لديه لا يأخذ بنظر الاعتبار تاريخية النصوصّ. وهو بذلك يتوسع الاجتهاد لديه ليشمل العلوم والمعارف التي تدخل في التحليل، يقول في هذا المعنى: " ونحن نعتقد أن الإحاطة بالظروف الزمانية والمكانية للنص هي من شرائط الفقاهة بالمعنى الأعم، فلا يكون الفقيه فقيهًا إلَّا إذا عرف زمان صدور النص؛ بمعنى أنه يأخذ الظروف الزمانية والمكانية المحيطة بعين الاعتبار في عملية الاستنباط." وهو بهذا دفع المجتهد التقليدي إلى زاوية ميتة ما لم يحدد منهجه وموقفه من تاريخية النصوص.

ويعلل اختياره نقد القراءة الرسمية ويرجعها إلى أمرين: الأول: إن فهم العلماء جهد بشري قابل للخطأ والصواب. الثاني: إن المفسر للنصّ، إنّما كان يعيش ضمن ظروفه، فيكون فهمه متأثرًا بالظروف التي يعيشها. ولازم هذه القراءة عنده هو عدم اعتبار حجية الاجماعات، والشهرات، والضرورات، والمسلمات، فإن كانت موافقة للأصول والقواعد التي حددها، فلا مانع من قبولها أما أن تكون بنفسها حجة فلا اعتبار لها، وان استوجب من ذلك تأسيس فقه جديد.

والملاحظ أنّه يستثني من التاريخية النصّ القرآن الكريم فقط، ليلتحق باستثنائه هذا بالشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ يوسف الصانعي، الذين أعملوا التاريخية وعزلوها عن القرآن الكريم. يقول الحيدري: "أن آراء صحابة النبي وأصحاب الأئمة، واجتهادات الأعلام، هي تاريخية إِلَّا إذا ثبت العكس. نعم، النص القرآني إلهي مطلق يتجاوز الزمان والمكان(8)."

وربما يتساءل بعضهم: إن استحضار دلالات الواقع التاريخي كان حاضرًا عند أغلب الفقهاء، كما يتضح ذلك في ظل ملاحظتهم لبعض الحالات من أن الحكم الوارد في بعض الوقائع لا يمكن تعميمه فيقال: "حكم في واقعة" أو "قضية في واقعة"، بل انك لا تكاد تجد فقيهًا (9) لم يفهم بعض الروايات فهمًا بلحاظ نسقها وظروفها، فهذا الشيخ الصدوق (ت380هـ)-مثلًا- فهم نصوص الطب النبوي بلحاظ واقعها (10) ومن ثَّم، ما مزية الحيدري واختلافه عن هؤلاء الفقهاء؟

يبدو لي في المجمل أن الأمر يرجع إلى الاختلاف في مساحة التاريخية في الاجتهاد والتحليل، فالفقهاء مع إيمانهم بتاريخية بعض الوقائع إلَّا أنّ مساحتها بقيت محدودة جدًا، زيادة على أن الحيدري- كما مر معنا- جعل التاريخية من صلب الاجتهاد ومقوماته، بوصفها قرينةً مهمةً في تقييد الاطلاق، وتخصيص العموم اللفظي. ومن هنا فان أهمية بحثه تكمن في المساحة الواسعة التي يمنحها للتاريخية.

وفي ختام هذا المرور المستعجل والذي استفزني فيه علميًا كتابه الأخير، اعتقد أن الرجل جدير بأن تبحث منطلقات التجديد المنهجية لديه وتحلل وتقوم وتنقد أيضًا. وهذا الأمر متروك لشبابنا من طلبة الماجستير والدكتوراه.

***

أ.م.د حيدر شوكان سعيد

رئيس قسم الفقه وأصوله- جامعة بابل.

.......................

الهوامش

(1) العقل الفقهي بين الإطلاق والتاريخية- نقد قاعدة الاشتراك، بقلم: حيدر اليعقوبي، الناشر: مؤسسة: مؤمنون بلا حدود- الإمارات- الطبعة الأولى 2023هـ، 17.

(2) ينظر: 74- 76.

(3) المصدر نفسه، 28.

(4) الصراطات المستقيمة، الناشر: دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى -2009م، 17. وينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33.

(5) ينظر: العقل الفقهي بين الإطلاق والتاريخية- نقد قاعدة الاشتراك، 19.

(6) المصدر نفسه، 30.

(7)ينظر: مصطفى ملكيان، حوار حول (توقعات الإنسان من الدين) مجلة نقد ونظر، 6/ 63-64.

(8) المصدر نفسه، 20.

(9) ينظر: السيد الخميني وموقفه من مصطلح "النواصب"، إذ يرى أن هذا المصطلح لا يطلق على كل من نصب العداء والبغض لأهل البيت (عليهم السلام)، بل يطلق على فئة خاصة كان لها وجود تاريخي آنذاك. لذا، لا آثار لهذا المصطلح في الوقت المعاصر. ينظر:كتاب الطهارة، 3/ 457. والسيد محمد حسين فضل الله وموقفه من روايات حلق اللحية، إذ فهم ان الحلق في ظل ظروف نصوص التحريم كان نوعًا من المثلة التي توجب آثار السخرية واستهزاء الناس، لهذا كان تحريمها وإلَّا فالحلق غير حرام بنفسه .ينظر: الندوة، 1/ 615-616. والشيخ يوسف صانعي الذي رأى ان حرمة الربا الواردة في القران والسنة، وطبقًا للظروف التاريخية هي مختصة بالربا الاستهلاكي لا الربا الإنتاجي. ينظر: الربا الاستثماري، نقد نظرية حرمة الفائدة البنكية، ترجمة حيدر حب الله، مجلة نصوص معاصرة، بيروت – 2005م،3/32. وإبراهيم الجناتي الذي يرى أن مواقيت الحج المكانية، جاءت لأنها كانت تقع في مسير الحجاج . وعليه، يمكن لنا ان نضع ميقاتًا من الجهة التي يمر منها الحجاج من غير المواقيت الخمسة .ينظر: مجموعة أعمال مؤتمر الزمان والمكان، 14/ 143.

(9) الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق: عصام عبد السيد، الطبعة: الثانية - 1414، 115.

(10) الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق: عصام عبد السيد، الطبعة: الثانية - 1414، 115.

صدر عن منشورات فرانتز فانون، تيزي وزو، الجزائر. في 2018. والكِتاب من حجم صغير، يتكون من عشر مقالات وملحق تعقيبات موزعة عبر 128 صفحة.

"إنَّ عُقدة المُستعمَر لا يُمكن شفائها، فهي عُصابٌ مُزمن لا دواء له". - فرانتز فانون .

"إنَّ المستعمَر يَشعُر باليُتم بعد خروج المُستعمِر مِن البِلاد". - فرانتز فانون .

"كُلَّ ثورة تقتل نفسها بسرعة، بعد نجاحها، وكُلّ ثورة تقتل أبناءها، كذلك!". ص 96. - رشيد بوجدرة.

"القضية بالنسبة لي هي قضية مرضية اسمها الاستلاب السِّياسي والأخلاقي والنَّفسي، وهي كذلك تجرُّ من ورائها الانحطاط الاجتماعي والشُّذوذ الوطني." ص 126. - رشيد بوجدرة.

في الصَّفحة 107؛ يذكر رشيد بوجدرة السَّبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكِتاب الهجائي (زُناة التَّاريخ)؛ قائلاً: "لقد قررتُ كتابة هذا (الهجاء) بعد فضيحة (فريال فورون) من سُلالة قبيلة بن ڨانة وهي (تُؤَلِّه) سلفها عبد العزيز بن ڨانة (ملك الزّيبان) على حسب قولها، إرادةً مِنِّي في تنقية التَّاريخ الوطني الذي لطَّخته الأيادي القذرة، وما كتبه (بوعلام صنصال) و(علي بومهدي) و(سليم باشي) و(كمال داود) و(ياسمينة خضرة) و(وسيلة طمزالي) وغيرهم، وقد أرادوا أن يجعلوا من (ألبير كامو) جزائرياً أكثر جزأرة من الجزائريين وهو الذي نشر روايته الأولى (الغريب) بِرُخصة القيستابو، سنة 1942. أي في الفترة النَّازية التي كانت تُسيطر على مدينة باريس، وذلك في خضم الاحتلال الألماني. فحاولتُ أن أُبرهن أن هؤلاء الأشخاص يُعانون من مرض عضال سمَّاه (فرانتز فانون) بِعُقدة كراهية الذَّات. كتبتُ هذا (الهجاء) أمام صمت أغلبية الصَّحافة الوطنية وأمام جُبن بعض المُثقفين الذين أداروا رؤوسهم أمام هذه (الخبائث المُخبَّأة) وبقوا في أماكنهم راضخين ورابضين وأمواتاً!

صنَّفتُ هذا الكتاب لِمُحاربة الرَّقابة التي يُسلِّطُها علينا بعض الصَّحفيين ومثال ذلك أنَّني مُنِعتُ من الكتابة من طرف شخص يُسمى أمزيان فرحاني وهو المُشرِف على المُلحق الثَّقافي لجريدة الوطن النَّاطقة بالفرنسية والَّذي محى اسمي بطرقة خبيثة وذلك منذ عشر سنوات بأكملها! ولا يزال يُسَلِّط رقابته عليَّ. صنَّفتُ هذا الكتاب للدِّفاع عن وطن أصبح هشاً ونخاف عليه." ص 107. 108.

- في المقال الأول من هذا الكتاب (زُناة التَّاريخ)؛ يُهاجم رشيد بوجدرة؛ (الطَّائفة الملعونة) كما أطلق عليها؛ والتي هي صنيعة الاستعمار، وهي فئة من المُثقفين والكُتَّاب والفنانين.. لها نفوذ كبير في جميع المستويات، إذ يقول: "إن المجتمع الجزائري بأكمله هُوجِمَ من طرف بعض الفنانين والمبدعين والمؤرخين والاجتماعيين والمتسيِّسين.. القلائل ولكنّهُم كانوا يملكون نُفوذاً كبيراً على كُلِّ المُستويات (الدّولة، النِّظام، الجامعة، المُجتمع، الثَّقافة، الإبداع، إلخ) وسبب هذا النَّجاح هو صمت "الأغلبية السَّاحقة" فلماذا - إذن - هذا الصَّمت، واللّامُبالاة، والاستهزاء والجُبن؟ " ص 15. ويُضيف: "أن الوطنية الجزائرية كانت تُضرب من أطرافٍ مُختلفة ونافذة وقوية تتواجد داخل المُجتمع الجزائري نفسه.. فئة مريضة يَعشقها الاستعمار الأجنبي.. ركَّبت هذه الفئة المهجرية، عُقدة المُستعمَر وعُقدة الآخر وعُقدة الحنين للفترة الاستعمارية.. وقد (تسلَّلتْ) هذه النَّظرية المرضية والعصبية شيئاً فشيئاً داخل الثَّقافة الجزائرية وكادت أن تتوغل فيها نهائياً." ص 14. مُضيفاً: "صحيح أن تلفيق التّاريخ الجزائري، خاصة من طرف المُستعمِر وأذياله، قد حُورِب من طرف بعض المؤرخين القلائل، أمثال مُحمّد ساحلي ومصطفى لشرف ومُحمّد حربي وغيرهم من الوطنيين لكن هؤلاء المؤرخين لم يهتموا أبداً بتلك الأقلية الجزائرية التي عاثت فساداً في تشويه وتحريف تاريخنا المجيد. وحسب هذه الطّائفة الملعونة والتي انصبّتْ منذ الاستقلال على (فبركة) تاريخاً مزيفاً يَجعل من الفترة الاستعمارية فترة السّعادة المُطلقة والتّعايش السّلمي والرّغيد بين فئة الأقدام السُّود والشّعب الجزائري بأكمله. وهكذا فلقد (نسج) المُوالون لأسيادهم خُرافة التّعايش السّلمي بين المُستعمِر والمُستعمَرين، فجعلت مِن الجلّاد صديقاً حميماً للمُعذّبين الجزائريين." ص 10.

و"منذ البداية ظهرت المقالات والرِّوايات والأفلام والبُحوث والمنتوجات الإيديولوجية، التي كانت تَصبّ أغلبيتها في مجال التَّحريف والكذب وتفكيك واقع التَّاريخ وتلفيق كُلَّ ما هو جزائري والتَّعبير بطريقة علنية على الحنين للفترة الاستعمارية والنَّدم على خروج فرنسا من الجزائر بعد حربٍ طويلة ودامية شرَّدتْ الملايين وأزهقتْ أرواح الملايين كذلك. إن هذه الشّلَّة أصبحت تُعبِّر صراحةً عن استيائها لفقدانها (فرنسيتها) والتَّحصيل على الجنسية الجزائرية رغم أنفها. فبرز هكذا ما يُسمى ب (حزب فرنسا)" ص 15. ثم يُضيف؛ أيضاً: "غير أن هذه المواقف وهذه الرُّدود النَّفسية والسِّياسيّة. في آنٍ، هي معروفة منذ بداية التَّاريخ وعند كُلّ الشُّعوب. فيقول فرانتز فانون في هذا المجال: "إن عُقدة المُستعمَر لا يُمكن شفائها، فهي عصاب مُزمِن لا دواء له". ويُقارن فرانتز فانون هذه العُقدة بِعُقدة العبد الذي يرفض حريته ومُفارقة سيِّده." ص 16.

ويُنبه رشيد بوجدرة إلى أن هذا الكِتاب الهجائي (زُناة التَّاريخ)؛ هو مُحاولة للكشف عن حقيقة هذا الورم الخبيث (حزب فرنسا)؛ فيقول: "أن اللاوعي عند المُستعمَر هو عبارة عن هوة لا قاع لها ولا صاغ. فيؤدي هذا اللاوعي بالشَّخصِ الّذي يعيشه إلى فوضى نفسية لا مناص منها. فيكره نفسه ويكره مُحيطه ويكره مواطنيه ويكره دولته ويكره حتى نفسه وذاته ويكره وطنه ويكره كذلك الآخر إلى حدِّ أنه يعيش كابوساً كبيراً تتكون عنده صدمات نفسية تجعله يعيش كالتَّائه في مناخ يُكن له الكراهية التي لا رجعة فيها. أنا لا أُريد أن أحكم على هؤلاء النَّاس ولا أُطالب بمُحاكمتهم ولا بِمُعاقبتهم، بل أُريد أن أُعبِّر عن المأساة التي نعيشها وأبحث في طيّات الذَّاكرة وطيَّات اللاوعي الجماعي وأسباب هذا المنطق الرَّجعي وهذا المرض المُزمِن؛ وذلك حتى أُزيل الغطاء على المسكوت عنه وعلى اللامقول في هذا المجال الوعر. فلعلّنا نُفلح في معرفة أنفسنا وفي فضح المكنون فيُصبح هذا الكِتاب عبارة عن مُحاولة، لا أكثر، للتصوير بالأشعة، حقيقة هذا الورم الخبيث." ص 18.

- وفي المقال الثَّاني من (زُناة التَّاريخ)؛ يعرض رشيد بوجدرة موقفه النَّاقد لكتاب (سي بوعزيز بن ڨانة، آخر ملوك الزِّيبان Si Bouaziz Bengana, dernier roi des Ziban) الذي كتبته حفيدته (فريال فورون Férial Furon) وصدر سنة 2015. قائلاً: "لم ينل هذا الكتاب أي اهتمام في فرنسا ولكن سُرعان ما وصلت هذه (الممسخة) إلى الجزائر بطرقٍ مُلّتوية، فرُوِّج لها واحتفل بها في المكتبات وفي التلفزيونات الوطنية وحتّى في عقر البرلمان". ص 22. وفضح رشيد بوجدرة الجرائم التي ارتكبها الخائن الإقطاعي الدَّموي الباشاغا بوعزيز بن ڨانة ضد مناضلي الحركة الوطنية "وقد عُرف (سي بوعزيز بن ڨانة) كالمُعذِّب المجنون الذي عذب بطريقة وحشية وبشعة آلاف المواطنين وقتل منهم المئات بفرح مرَضِي وسَادِي." ص 24.  وحاولت حفيدته تبييض صفحته وتصوِّيره بالرَّجُل الوطني الصَّالح.

وإذا كان صدور كتاب فريال فورون الذي تمجد فيه جدها بن ڨانة؛ هو ما حرّك الوجدان الوطني عند رشيد بوجدرة ودفعه لكتابة هذا الهجاء (زُناة التَّاريخ)، فيذكر أن هناك أيضاً كُتاب آخرون لا يَقلُّ دورهم في فاحشة الزِّنى بالتَّاريخ الوطني ويذكر منهم (كمال داود)  فقد "كان المُخربون يَزنون في التَّاريخ الوطني زِناءً ويُحاولون تشويهه وطمسه ولم يفعلوا ذلك مجاناً! إذ أنّهُم كانوا يَكتبون كُتُبهم ويُخرجون أفلامهم لإعطاء مصداقيّة جديدة للاستعمار الفرنسي الجديد ولتبرئة هذا الاستعمار الغاشم ولتوبيخ الإنسان الجزائري لأنه (جاهل وقذر ومهوس جنسياً!).كما يُردده كمال داود في عدّة مقالاته التي صدرت في جريدة Le Quotidien d'Oron سنة 2017. وذلك لا لشيء ما وإنّما لانتهازيتهم المطلقة التي جعلوا منها مهنة وصنعة ولقمة خبزٍ تُساوي ذهباً خالصاً. فكان هذا القسط من الجزائريين يُريد - بفعله هذا - الوصول إلى الشُّهرة وإلى أرضاء فرنسا وإلى نيل الجوائز الفرنسية وحتّى الدُّخول في الإدارة الفرنسية التي تعرض عليهم تسيير بعض المؤسسات الثَّقافية." ص 26.

- وفي المقال الثَّالث؛ يعود رشيد بوجدرة إلى فترة العشرية الدَّموية السَّوداء مُنتقداً موقف المُثقفين الذين التزموا الصَّمت إلَّا القليل مِنهم والذين دفعوا أرواحهم ثمناً لذلك، مُندداً بجدلية (مَن يَقتُل مَن؟) التي تبناها الإعلام الفرنسي على وجه الخصوص.

ويذكر رشيد بوجدرة أن هذا المناخ الضَّروس والمُتعفن والوعر، قد ساعد على بروز (زُناة التَّاريخ) : "ومِن بين (الزُّناة) الأوائل: بوعلام صنصال الذي اشتغل مناصب على أعلى مستويات الدَّولة كموظف سامي وأمين علم ومدير ديوان لعدة وزارات منذ تخرجه الجامعي حتى سِنّ التَّقاعد". ص 35. وينتقد رشيد بوجدرة روايات بوعلام صنصال خاصةً منها رواية (قَسَم البرابرة - Le serment des barbares, 1999.)، ورواية (القرية الألمانية - Le village de l'Allemand, 2008.) هذه الأخيرة التي "دافع صنصال فيها عن أطروحته مفادها أن جيش التَّحرير الوطني كان جيشاً نازياً" ص 38. ويصف رشيد بوجدرة رِّوايات بوعلام صنصال بأنها ذات "فلسفة رجعية مملوءة بالكراهية الذَّاتية وموَّجهة إلى الآخر أي الفرنسي" ص 37. ويُضيف بأنها روايات "تحمل طابع الاستعمار الجديد والحنين تجاه الاستعمار القديم وكراهية الذَّات وخرافات التَّعايش (العشقي) بين المجتمع الجزائري ومجتمع الكولون." ص 38.

- وفي المقال الرابع؛ يذكر رشيد بوجدرة أن بوعلام صنصالBoualem Sansal  أصبح أيقونة الصَّه / يونية العالمية، ويذكر من بين الشَّخصيات الفرنسية ذات التَّوجه الصَّه / يوني؛ بيرنارهنري ليفي Bernard Henri Lévy، ألان فنكييلكروت Alain Finkielkraut، باسكال بروكنرPascal Bruckner، إيريك زمورEric Zemmour، ميشال ويلباكMichel Houellebecq .

وفيه؛ يعود رشيد بوجدرة للحديث عن رواية (القرية الألمانية) التي كتبها صنصال؛ قائلاً أنه "من خلال التُّهمة التي وجهها ضد جيش التَّحرير بأنه جيش نازي فقد أراد تبييض الجريمة الفرنسية الكبرى وفسخ انهزام الجيش الفرنسي أمام جيش التَّحرير. أما الحقيقة فهي تختلف تماماً عن افتراءات الكاتب، إذ أن جيش التَّحرير الوطني استعان، حقيقةً، أثناء الحرب الضَّروس (1954 - 1962) بكوادر ألمانيا الشَّرقية (RDA) (المستقلة آنذاك) الشّيوعية." ص 50. "وقد كان الجيش الجزائري في حاجة إلى اختصاصيين تقنيين ومهندسين قادرين على تحطيم الحواجز الكهربائية موريس وشال الموجودة، آنذاك، على الحدود المغربية والحدود التُّونسية." ص 51. "وهكذا قلب (صنصال) الصُّورة رأساً على عقب وجعل من المناضلين الشّيوعيين الألمان، ومن المناضلين التَّقدميين الذين جاءوا من كُلِّ أقطار العالم لمساعدة الجزائر في محنتها." ص 54. ومنه؛ فإن رشيد بوجدرة، يُجزم أن بوعلام صنصال قد عاث في تاريخنا المقدس فساداً ودجلاً وكذباً.

- وفي المقال الخامس؛ فيقول رشيد بوجدرة أن: "قصة فريال فانون، فهي تُشبه قصة بوعلام صنصال لأنها كانت تُؤسس إلى التَّزوير والتَّلفيق، إذ جعلت من عبد العزيز بن ڨانة الخائن السَّفَّاح؛ رجُلاً طيّباً وغيوراً." ص 57. ويذكر رشيد بوجدرة أيضاً؛ أنه "من بين الكُتاب الذين زنوا في التَّاريخ وعاثوا فيه فساداً يسمينة خضرة" ص 58. وينتقد روايته (ما يفرضه النَّهار على اللَّيل - Ce que le jour doit à la nuit, 2008)، يقول: "تصب هذه الرِّواية في نهر الاستيهامات التي تنفي ضمير بعض الأشخاص الذين لا زالوا يُكنون حنيناً كبيراً للقوة الاستعمارية الغاشمة التي أرهقت الشَّعب الجزائري وأدت إلى المقبرة والمجاعة والمشنقة." ص 59. ويضيف: "وعندما نُشاهد بعض الرِّوايات وبعض الأفلام تُغيِّر الحقيقة التَّاريخية رأساً على عقب، نفهم عندها أنّ مرض الاستعمار وعُقده المختلفة تؤدي بالكثير إلى نوعٍ من الانطواء الانتحاري واختيار الآخر الغاشم ضدَّ المواطن الغيور مهما كان أصله ودينه. ذلك أنَّ كراهية الذَّات كما يُسمِّيها فرانتز فانون تؤدي إلى كراهية الآخر وتكوِّن نوع من العُنصُرية الذَّاتية والموضوعيّة وبكلمة أخرى وشعبية فإنّه (ما يُنكر أصله إلّا الكلب). وبعبارة أخرى كذلك (مَن يَفقد هويته فقد يَفقد عقله)." ص 63.

- وفي المقال السَّادس؛ يتحدث رشيد بوجدرة عن (وسيلة طمزالي - Wassyla Tamzali) وروايتها (تربية جزائرية -Une éducation algérienne. De la révolution à la décennie noire, 2007)، "حيث قدمت أطروحة غير منطقية وكاذبة، ذلك أنها زعمتْ (في الرِّواية) أنَّ أباها أُعدم خطأً - من جبهة التَّحرير الوطني في بجاية - وأنَّ عائلتها استلمتْ رسالة اعتذار وندم مِن (أعميروش) القائد البطل الذي كان مسؤولاً على الولاية الثَّالثة، في تلك الفترة. لكنها زعمتْ، كذلك، أنَّ الرِّسالة قد ضُيِّعتْ في ظُروفٍ غامضة!.. ومرةً أخرى شاهدنا النِّفاق الاجتماعي وطمس التَّاريخ الوطني وفبركة تاريخاً مزيفاً يُغطي كُلَّ ما قامت به الثَّورة المجيدة" ص 69.

- وفي المقال السَّابع؛ يُصرح رشيد بوجدرة بموقفه من الغرب دون مواربة، فيقول في الصفحة 71 : "إنَّ العالم الغربي الذي شَنَّ استعماره ضِدَّنا ولفَّق تاريخنا وغطَّى عن جرائمه وزنى في كُلِّ مقوِّماتنا وشخصياتنا وضَرب عرض الحائط ذاتنا وديننا ولُغتنا وهويتنا، كما أنَّه دنَّس مبادئنا الأساسية وأصبح يتخبط في نوعٍ مِن الخلط والجلط والعشوائية التي تجعله يُخرب بلداناً بأكملها، مثلما هو الأمر بالنسبة لحروب الشَّرق الأوسط.. هو هذا الغرب الخبيث والمُتغطرس الذي أصبح يتخبط في أزمة اقتصادية لا نهاية لها." ص 71. ويضيف معبراً عن رأيه في الغرب: "وقد فقد هذا الغرب المُتغطرس كُلَّ أُسسه وكُلَّ شعاراته النَّبيلة وأصبح مهوساً بزعزعة وزلزلة وتخريب الدُّول النَّاشئة وهي في طريقها إلى تأسيس الدَّولة الوطنية وذلك بمساعدة بيادقه وأقزامه المحليين. ولهذا فهو يغتنم الفرصة لتلطيخ وتهجين تاريخنا." ص 72.

ويواصل رشيد بوجدرة كشف حقيقة (زُناة التّاريخ) سياسياً؛ فينتقد موقف (ألبير كاموAlbert Camus ) من الجزائر والثَّورة التَّحريرية المُباركة، فهو قد عارض مفهوم الجزائر قائلاً : "أن مفهوم الجزأرة هو نفسه غير موجود وسوف لن يوجد أبداً." ص 74. كما أنه عارض اللَّجنة التي كوّنها (جون بول سارتر Jean-Paul Sartre) في شهر نوفمبر 1955 وسمّاها (الحركة ضد حرب الجزائر)، فقد "كتب إلى صديقه روني شار René Char : (لقد رفضتُ توقيع البيان الذي وضعه جون بول سارتر ضد الحرب في الجزائر، لأن هذا البيان مملوء بكراهية الوطن والجبن والانهزامية. وفي هذه الأيام يُهيمن في الجزائر مناخ إرهابي مملوء بالخوف والرُّعب، فلا بُد من إخراج أمي من هذا الجحيم الذي يُنظمه ال FLN). وهنا ومن خلال هذه الرِّسالة يفضح ألبير كامو نفسه ويُعلن على وجه الملأ أن جبهة التَّحرير الوطني منظمة إرهابية! وأمام كُلّ هذه الأدلة، كيف يُمكن محو الكراهية التي كان يُكنها ألبير كامو للثورة المُباركة؟" ص 75. فقد "كان يُحارب فكرة الاستقلال الجزائري" ص 76. وقد "كتب سنة 1957 مقالاً في جريدة (لوموند Le Monde) : (إن استقلال الجزائر هو مُجرّد صيغة مُتعصِّبة ومُجرّد بيان لتأسيس الإمبريالية العربية الجديدة)." ص 78. ويُصِر رشيد بوجدرة على القول "إنّ كامو كان مُتعصباً لأهله والأقدام السُّود وكان عُنصُريّاً فضيعاً" ص 81.

ويختم رشيد بوجدرة موقفه من (ألبير كامو Albert Camus) مبيناً بأنه موقف سياسي وليس موقفاً أدبياً؛ قائلاً: "أما في مجال الأدب الخام، فإنّ ألبير كامو كاتباً كبيراً موهوباً ونحن لا نلومه على هذه الكفاءة وإنّما على عُنصُريته وكُرهه للوطن العزيز. وكما قال أحد النُّقاد : (كامو ليس جزائرياً وليس فرنسياً. فهو من الأقدام السُّود، فقط!)" ص 83.

- وفي المقال الثَّامن؛ يعتبر رشيد بوجدرة أن الإرهاب هو صنيعة غربية فيقول: "أنَّ الإرهاب الذي صمَّمته وأنجزته الدُّول الغربية أي (الولايات المُتحدة الأمريكية وأوروبا) في السَّبعينيات خلال مُخابراتها السّرية وبشراكة العربية السّعودية وبلدان الخليج. غيّر مكانه وأصبح يضرب في عقر دار البلدان الغربية نفسها." ص 86. ويضيف "إنَّ الاستعمار الجديد حاول ولا زال يُحاول استغلال البُلدان التي كان يُهيمن عليها ويَستعمل في محاولاته هذه الفِئة القليلة من المُثقفين و(المُخبيرين المَحليين) الذين تُبهرهم الشِّعارات الامبريالية المُغرضة والدِّعاية لليبيرالية - الاقتصادية - التي أفقرت، حتى كذلك، الشُّعوب الغربية نفسها لفائدة الأثرياء." ص 87.

كما يواصل رشيد بوجدرة جلد (زُناة التّاريخ)؛ فيذكر منهم أيضاً؛ (سليم باشيSalim Bachi ) الذي صرح ذات يوم في إحدى القنوات أن "الجزائر ديكتاتورية رهيبة" ص 89.

كما ينتقد رشيد بوجدرة المخرجين وإنتاجاتهم السينمائية دون أن يحدد الأسماء؛ فيرى أن "في العشرية الأخيرة، ظهرتْ كذلك مجموعة من المخرجين تحاول طمس الحقيقة التَّاريخية والاجتماعية الجزائرية وتزيِّفها إلى حدِّ الرِّياء." ص 89. و يضيف أن "هؤلاء المخرجون هُم كذلك من زُناة التّاريخ الذين عاثوا فيه فساداً ودخلوا في عصابة المُرتشين الذين يُبددون أموالاً كبيرة من خزينة الدَّولة!، فهذا الصَّمت الرَّهيب وهذا الغِشّ في قراءة التَّاريخ الجزائري هو السَّبب الأساسي الذي فتح الباب لِكُلِّ زُناة التّاريخ ليعبثوا فيه ويمسخونه حسب إرادتهم وإرادة أسيادهم في الخارج." ص 91.

- وفي المقال التَّاسع؛ يقول رشيد بوجدرة : "إنّ ما ينقصنا في الجزائر هو وجود نُخبة حقيقية ونزيهة وبعيدة عن الرّشوة والتَّلفيق والكذب لصالح السُّلطة أو لصالح الأجنبي. وما ينقصنا هي الدِّقة والإرادة والعلاقة العشقية مع الفن والإبداع، بشرط أن ننغرس في الوعي الاجتماعي ونطرح كُلّ مشاكل الإنسان الجزائري بجودة ونزاهة وإخلاص." ص 93. كما يتحدث رشيد بوجدرة على الفن والإبداع، ومكانة المرأة، وعن الاستلاب الحضاري الذي يحجب الحقيقة عن بعض الكُتاب، ويُدافع عن اللغة العربية وما تحتويه من حضارة عظيمة وعلى اللغة الأمازيغية، مستنداً على قول (هيدڨار) الفيلسوف الألماني: (أن اللغة هي منزل الكينونة) ص 97. ويُحذر من الاستعمال السِّياسي للغة الفرنسية فيما يُسمى ب (الفرنكفونية) "وهي وسيلة خبيثة لإيصال الاستعمار الجديد إلى عقر أذهاننا ووعينا وديارنا." ص 97. ويُضيف "أن الفرنكفونية هي نوع من الامبريالية لأنها تُستعمل لجلب الآخر و(تنويمه)." ص 97.

كما تحدث عن الصَّحافة الخاصة والقنوات التّلفزيونية الخاصة، ذاكراً أنها غيَّرت اتّجاهها السِّياسي ودخلت في (البيع والشِّراء) وهوس الإشهار وتدهور مستواها إلى حدِّ الرِّياء فأصبحت تمثل إعلاماً رديئاً، وأنها تهتم بالفضائح والجنسيات والماكياج. كما جاء في الصفحة 99. ونَبَّه إلى خطر تقُلُّص مساحة الثَّقافة والكتاب والمقروئية في الجزائر. ولكنه لاحظ "أنَّ المواطن عندما يملك روح الإطلاع فيما يَخُص تاريخنا. فيغتنم زُناة التّاريخ الفرصة لعرض سلعهم المغشوشة، إذ لم تكتفِ المقروئية عندنا بكتبٍ تُحرف التّاريخ مثل علي بومهدي الذي نَظَّرَ لِفكرةٍ مفادها أن ديڨول هو الذي قدم للجزائر استقلالها كهدية.. فانتشرت الرِّدَّة السِّياسية والرّشوة الفكرية من خلال هذا العبث." ص 101.

- وأخيراً في المقال العاشر؛ يذكر رشيد بوجدرة السَّبب الذي دفعه إلى تأليف هذا الكِتاب الهجائي (زُناة التَّاريخ)؛ قائلاً: "لقد قررتُ كِتابة هذا (الهجاء) بعد فضيحة فريال فورون من سُلالة قبيلة بن ڨانة وهي (تُؤَلِّه) سلفها عبد العزيز بن ڨانة (ملك الزّيبان) على حسب قولها، إرادةً مِنِّي في تنقية التَّاريخ الوطني الذي لطَّخته الأيادي القذرة، وما كتبه (بوعلام صنصال) و(علي بومهدي) و(سليم باشي) و(كمال داود) و(ياسمينة خضرة) و(وسيلة طمزالي) وغيرهم، وقد أرادوا أن يجعلوا من (ألبير كامو) جزائرياً أكثر جزأرة من الجزائريين وهو الَّذي نشر روايته الأولى (الغريب) بِرُخصة القيستابو، سنة 1942. أي في الفترة النَّازية التي كانت تُسيطر على مدينة باريس، وذلك في خضم الاحتلال الألماني. فحاولتُ أن أُبرهن أن هؤلاء الأشخاص يُعانون من مرض عضال سمَّاه (فرانتز فانون) بِعُقدة كراهية الذَّات. كتبتُ هذا (الهجاء) أمام صمت أغلبية الصَّحافة الوطنية وأمام جُبن بعض المُثقفين الّذين أداروا رؤوسهم أمام هذه (الخبائث المُخبَّأة) وبقوا في أماكنهم راضخين ورابضين وأمواتاً! صنَّفتُ هذا الكتاب لِمُحاربة الرَّقابة التي يُسلِّطُها علينا بعض الصَّحفيين ومثال ذلك أنَّني مُنِعتُ من الكتابة من طرف شخص يُسمى أمزيان فرحاني وهو المُشرِف على المُلحق الثَّقافي لجريدة الوطن النَّاطقة بالفرنسية والَّذي محى اسمي بطرقة خبيثة وذلك منذ عشر سنوات بأكملها! ولا يزال يُسَلِّط رقابته عليَّ. صنَّفتُ هذا الكتاب للدِّفاع عن وطن أصبح هشاً ونخاف عليه." ص 107. 108.

كما بيَّن للقارئ؛ المؤامرة - حسب تعبيره -  التي تعرض لها من طرف قناة النَّهار في حصة (الكاميرا المخفية) في ماي 2017.

- وختاماً؛ يختم رشيد بوجدرة كتابه الهجائي (زُناة التَّاريخ) بتعقيبات؛ عَلَّقَ فيها على النَّجاح الذي حققه هذا الكِتاب، قائلاً: "إن إرادتي كانت تستهدف الجمهور الجزائري حتى يستفيق من غفوته وهو يشهد ويُشاهد تزوير تاريخه العظيم من طرف الذين أسميتهم (زُناة التَّاريخ) والذين يعيثون فيه فساداً بكل تهور وبكل غطرسة وذلك لكسب المال والشُّهرة ولكسب - كذلك - رضاء المُستعمِر القديم. وهو المُستعمِر الفرنسي الذي لا زال يبحث عن شرعية تمحي كُلَّ جرائمه وكُلَّ اغتصاباته وكُلَّ همجيته التي تتراكم - في الحقيقة - داخل وعيِّه ولا وعيِّه." ص 111. ويُضيف "أما أنا فقد أردتُ من خلال هذا الكِتاب (زُناة التَّاريخ) تقديم إنذار بالخطر الذي يُهدد الوطن والمجتمع بعدما صَمتُ مدة عشرية كاملة أمام هذه الانحرافات وهذه الإنجرافات التي تجاهلها بعض الأصدقاء والمناضلين.. فالقضية إذن وبالنسبة لي هي قضية مرضية اسمها الاستلاب السِّياسي والأخلاقي والنَّفسي، وهي كذلك تجرُّ من ورائها الانحطاط الاجتماعي والشُّذوذ الوطني." ص 126.

- رشيد بوجدرة : من مواليد 05 سبتمبر 1941 بعين البيضاء، شرق الجزائر. درس الفلسفة والرِّياضيات في جامعة الجزائر، وفي جامعة السربون بفرنسا. تفرغ للكتابة سنة 1972 فخاض حقل الرِّواية والشِّعر وكتابة السيناريو، يكتب باللغتين العربية والفرنسية، نالت أعماله جوائز وطنية وعالمية وترجمت إلى 43 لغة.

***

أ. السّعيد بوشلالق

قراءة وتقديم كتاب: "الحداثة ومركزية الرؤية العلمية" للمؤلف محسن المحمدي

يعد اختراع المطبعة من لذن "غولدسميث يوهان غوتنبرغ " في ألمانيا نحو عام 1440م، نقطة بداية ظهور الحداثة من جهة الجانب التقني، فبفضل آلة الطباعة انتشرت التصورات والآراء المختلفة على المستوى العلمي والادبي ... الأمر الذي نتج عنه تشكل عقلية جديدة تأسست مع مرور الزمن طيلة ثلاث قرون على مبدأ مركزية العقل في التفكير، لتجد أوروبا نفسها في القرن 19م تملك من القوة ما لا يملكه غيرها.

الحداثة الأوربية في العالم الإسلامي في القرن 19م كانت موضوع اكتشاف، بدءا برحلة رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريز (-1873م) وكتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" فمنذ تلك اللحظة الفارقة، وموضوع الحداثة وما ارتبط بها من المفاهيم والتصورات عن طبيعة الكون والحياة والانسان موضوع جدل وأخذ ورد، بين مؤيد ومعارض، فهناك من انبهر كثيرا بمقتضيات الحداثة وتبعاتها إلى درجة أنه يراها بعين القداسة التي لا تقبل أي نقد ومراجعة وتحليل وإعادة نظر، وهناك رأى فيها بكونها أمرا دخيلا على تصورات البلاد والعباد، وهي مفسدة لأفكار الناس واعتقاداتهم وسلوكهم اليومي، في وقت رأى فيه أخرون، بكون الحداثة واقع محتوم لا مفر منه فأمرها يرتبط بواقع التقنية التي تحيط بالإنسان من كل جانب في كل مكان، ومن ثم ينبغي التمييز بين الحداثة والتحديث.

فالحداثة هي كل ما اتصل بالتصورات العقلية لدى الانسان وببنية الدولة، أما التحديث فهو كل ما اتصل بالتقنية في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وقد ميز البعض بين الحداثة وروح الحداثة، فمع الحداثة نقع في الاتباع والتقليد، ومع روح الحداثة نجد أنفسنا في دائرة الابداع والتجديد، وقد نجد البعض الآخر يستحضر في حديثه عن الحداثة، الحديث عم بعد الحداثة.

الكتب والأبحاث التي اعتنت بفهم وتحليل العلم وما صاحبه من تطورات في مختلف مجالات المعرفة في صلة ذلك بموضوع الحداثة، ليست كثيرة أو غير كافية بالقدر المطلوب في العالم الإسلامي، ومن هنا تأتي أهمية وفرادة كتاب الدكتور محسن المحمدي "الحداثة ومركزية الرؤية العلمية" الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط.1،2022م، فالمؤلف بذل كلما في وسعه ليقارب الحداثة من زاوية العلم وتحولاته وتأثيراته على الفرد والمجتمع عبر الزمن، الأمر الذي جعل متن الكتاب ينفصل عن المقاربات الأيدلوجية سواء تلك التي همها تلميع صورة الحداثة أو تلك التي همها تبخيس صورتها.

الكتاب من الحجم المتوسط، يغطي 430 صفحة، ومن ثلاث فصول، الفصل الأول: الحداثة بين السياق الأربي والاستقبال العربي. الفصل الثاني: التأسيس العلمي للحداثة. الفصل الثالث: العلم (الفلك) وكونية الحداثة. فصول الكتاب ولبناته بعضها يفضي إلى البعض الآخر.

قد يظن البعض أن الكتابة حول موضوع الحداثة وإشكالاتها، موضوع مستهلك، ولكن حقيقة الأمر أن هذا الموضوع له راهنيته ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي، ولكن كيف ذلك؟ وهذا سؤال يتولد عنه سؤال آخر مفاده، ما الذي ساهمت الحداثة في أن يكسبه الانسان اليوم؟

الإنسان يكسب العلم/ التقنية، فبتعبير مارتن هايدجر(– 1976) “العلم لا يفكر” "فعلى رغم وهم التحكم في الطبيعة وفي الإنسان، الذي ما تنفك التقنية تنشره، وعلى رغم وهم الضبط والعقلنة والتنظيم الذي ما يفتأ العلم يرسّخها، فإنهما (التقنية والعلم)، سرعان ما يدفعان الإنسان نحو تشكيل مدخرات هائلة من الطاقة تنفلت من كل عقلنة، ونحو نهَم الاستهلاك الذي لا تحدّه حدود، فيجران العقل إلى أن يعمل ضد كل تعقل، بل إنهما قد يعملان في النهاية ضد الإنسان ذاته."1 وعندما نتحدث هنا عن الإنسان ففي الأعم هو الإنسان الذي تشكل "جهازه المفاهمي وفق هذا الاكتساح للأسلوب العلمي وتوغله في جميع مناحي الحياة بوعي أو لا وعي منه "2  ومن هذا الذي كان يظن أن العلم في بعض من نتائجه سيكون سببا في معانات الانسان "لا شيء كان ينذر عند قيام أول المعارف العلمية منذ بضعة آلاف من السنين بأن العلم سيواجه يومًا ما مخاطر التعارض مع مصالح البشر."3

القرآن لا يرجع المشكلة إلى العلم، بل يرجعها إلى الإنسان؛ فهو مصدر الفعل، فالقرآن منذ البدئ ربط العلم والمعرفة بالفعل لدى الإنسان، أي بالقيمة الأخلاقية لديه، قال تعالى: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) "(العلق) فهي قراءة في الخلق باسم الخالق، فمن الخالق نستمد الخلق والأخلاق، قال تعالى: "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)" (النحل).  فالإنسان عندما يعرض عن المثل الأعلى، لطارئ أو لظرف ثقافي أو حضاري معين، سيتيه ويفقد الوجهة وقد يكون فعله سببا في شقائه، ويلقي بالتهمة على العلم والتقنية، وهو الوضع الذي عبرت عنه الآية قال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)" (الروم)

ففي تقديرنا، أن فهم الحداثة من زاوية مركزية الرؤية العلمية، بمعزل عن المقاربات السطحية والأيدلوجية، ستجعلنا نفهم أكثر، أبعاد ها الإنسانية وأبعادها التي سارت ضد الانسان ووجوده بشكل أكبر، فوضع حدّ لأعطاب ومنزلقات الحداثة، لست مسألة وعظ وخطاب أخلاقوي  في المسجد أو الكنيسة أو الدير أو الجامعة ، بقدر ما هي مسألة  كد وجد واجتهاد، في تجديد فهم الوجود، بمعنى مختلف عما سبق، يحزم فيه الانسان نفسه بمعونة الله قال تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4)"(الفاتحة) قبل أن يركب مركب العلم والمعرفة المعاصرة، وقد عبر هايدغر بقوله: «لن ينقذنا سوى الله».

***

بقلم: صابر مولاي احمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

...........................

1- عبد السلام بن عبد العالي، موقع مجلة الفيصل، العلم، هل يفكّر؟ بتاريخ: 1/1/2021م،

https://www.alfaisalmag.com/?p=19874

2- محسن المحمدي، الحداثة ومركزية الرؤية العلمية، دار أدب للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط.1،2022م، ص.11

3- عبد السلام بن عبد العالي، م.س

تعد ظاهرة المنقذ والمخلِّص أحد المهيمنات الأساسية في المذهب الشيعي، وقد تجلت تلك الظاهرة بنماذج مختلفة واشكال متعددة وسرديات متنوعة، وهي في المحصلة النهائية فكرة متعلقة بنهاية التاريخ ومتداولة عند مختلف الديانات الإبراهيمية تؤطرها أُطر ميثيولوجية دينية سياسية. وفكرة ظهور المنقذ ليست وليدة أفكار القرون الوسطى بل إنها فكرة اعتقادية لدى كل المجموعات الخلاصية بدءاً من المانوية البابلية وانتهاءً بالطائفة الشيعية؛ ولكن أخيراً بعد عام الاحتلال الأمريكي 2003م بدأ معظم مؤسسي الجماعات المهدوية بالادعاء كلٍ حسب رغبته واعتقاده أنه المنقذ أو اليماني أو السفياني، وهم عندما تبحث عن اصول مجتمعاتهم تجدها مجتمعات قروية أو مدن صغيرة هامشية في انتاج المعرفة الدينية وفق العلاقات والروابط الأفقية العضوية التي تدور حول التصورات المهدوية الجديدة بين أفراد تلك الجماعات.

صدر عن دار لندن للطباعة والنشر للكاتب والباحث يوسف محسن كتابه الموسوم (الإمام المختفي.. من قاضي السماء إلى أحمد بن الحسن اليماني)، الكتاب من الحجم الوزير وبواقع (850) صفحة، وقد كُسر الكتاب بمقدمة ومدخل، وعالج الكتاب الجماعات والحركات المهدوية أو (المهديون الجدد) وتموضعها في الحقل الشيعي، حيث سلط الضوء على القوة التوليدية والتصورات التي تمتد أبعد من مسألة المهدي، وتتعلق بالهوية والمخيال وتقويض صور المهدي الكلاسيكية، حيث درس الكاتب بنية المجال الديني وبالذات المجال الشيعي وأدوار الجماعات المهدوية، وتحديد ملامحها من خلال أدبياتها وممارساتها السياسية والطقسية، وركز على سبع حركات مهدوية كونها جماعات مشكلَّة وتمتلك أدبيات ونصوصاً.3292 الامام المختفي

والجماعات السبعة هي:

- حركة المهديون المولوية والجماعات السلوكية (الشيخ حازم السعدي، الشيخ عمار السعدي، الشيخ عايد الصدري).

- قاضي السماء ومهدوية علي بن علي بن أبي طالب، وهم جماعة الشيخ ضياء عبد الزهرة كاظم الشباني الكرعاوي.

- المواطئون أو الإمام الرباني، وهم جماعة الشيخ فاضل عبد الحسين الحسيني الهاشمي.

- الإمام التوأم، واختلاف الإمام المهدي عند (أصحاب القضية) وهي مهدوية السيد مقتدى الصدر كما يزعمون.

- القحطانيون، أو جماعة أبي عبد الله الحسين القحطاني، وزير الإمام المهدي الشيخ حيدر مشتت المنشداوي.

- الإمام الغنوصي، جماعة الولي حبيب الله المختار ابو علي المختار، كما يطلقون على انفسهم (ثورة الحب الإلهي) المتمثلة بخالد عبد الهادي الرؤاف.

- وأخيراً الدعوة اليمانية، المتمثلة بأحمد بن الحسن اليماني، رسول ووصي الإمام المهدي الشيخ أحمد إسماعيل كاطع السويلمي.

في هذا الكتاب سلط الكاتب الضوء على مفاتيح نظرية ظاهرة الجماعات والملل المهدوية في العراق فقط، والتي تزداد يوماً بعد آخر تعقيداً من فرط التشعبات في المرجعيات الدينية والثقافية والسياسية، وسعى الكاتب من خلال هذا الكتاب الذي اجده مهم في فهم الجماعات التاريخية المهدوية، وقد كشف عن الايديولوجية/ الدينية المنتجة و(المفرخة) لظاهرة المهدوية منذ حقبة تسعينيات القرن الماضي ولغاية اليوم، ثم يعود الكاتب لتسليط الضوء على الأسس المختلفة للعوالم الرمزية داخل المجال الشيعي الإمامي، وكذلك القيام بعملية تفكيك سوسيولوجي للبنية الرمزية والسياسية وحفر بنية السرديات للجماعات المهدوية.

فضلاً عن ذلك نزعة الكاتب النقدية في دراسته المجال الشيعي الإمامي وتفكيك القداسة عن لحظة انبثاق الحركات والجماعات المهدوية، والاسهام في تركيب قاعدة معلومات فكرية لدراسة هذه الحركات والجماعات. وقد استخدم الكاتب في كتابه انماط متعددة من المقاربات في التحليل والقراءة المقاربة للوقائعية التأريخية مقاربة لتحليل النصوص والكشف عن التمثيلات المضمرة في خطاب تلك الجماعات؛ على الرغم على مرور فترة زمنية طويلة على آخر مواجهة عسكرية مع جماعات الدعوة اليمانية عام 2007م واعتقال الإمام الرباني والمختار وقتل قاضي السماء الذي (حلق بأجنحة من ورق مع جنده). فظلت تلك الجماعات المهدوية محجوبة ولم يتم الكشف عن المعلومات في الأرشيف الرسمي لأجهزة الأمن والشرطة العراقية.

كما ضم الكتاب سلسلة من الملاحق، منها: بيانات الدعوة اليمانية، وسلسلة من الحوارات مع أحد ابرز رجال الدعوة اليمانية ومنظّر الجماعة (د. ابو محمد الانصاري)، كما اجرى الكاتب الحوار مع المكتب الاعلامي للداعي الإمام الرباني عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ومن خلال السيد سعد جاسم التميمي، وحوار مع السيد حيدر الجيزاني أحد تلاميذ السيد ابو عبد الله الحسين القحطاني عبر شبكة النت. كما تضمن الكتاب فتاوى العلماء والمراجع الدينية في النجف وقم بشأن الجماعات المهدوية العراقية.

يهدف الكاتب يوسف محسن من خلال كتابه هذا للعمل على جمع الأرشيف الانثربولوجي لتلك الحركات والممل والجماعات والمبعوثين المهدويين خوفاً من الاندثار الناتج عن الصراع العنيف مع المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية التي تهيمن على سلطة انتاج المعرفة كما جاء في صفحة 20/21 من الكتاب، وكذلك للوصول إلى الحقل الديني الشيعي العراقي وبالذات العلاقة بين ظهور الشرعيات الدينية المهدوية للمبعوثين المهدويين والدور الذي قامت به المرجعية الدينية في النجف بوصفها حارسة الايمان ووظيفتها توحيد رأسمال السوق الديني.

فعملية دراسة بنيات الظاهرة المهدوية الشيعية تتطلب أولاً التحرر من السياسات والانساق المركزية الشيعية ومن ثم تحليل تلك الجماعات كظواهر تاريخية، حيث أن بعض الحركات المهدوية اعتمدت التعبئة الجماهيرية وشكلت اجنحة مسلحة فاعلة، فضلاً عن ذلك اشيع عن هذه الظواهر المهدوية وبالذات عن الجماعات السلوكية أن اصحابها يمارسون اللواط ويدعون للرذيلة في المجتمع حتى يستفزون الإمام المهدي بالخروج، وهذا خطأ شائع ليست له علاقة بالواقع وجزء من التسقيط الفكري. فضلاً عن ذلك أن هذه الحركات المهدوية الشيعية تعرضت إلى الانكار والتفسيق في التاريخ الشيعي الحديث فلجأت إلى التصوف والعرفان لتخفي اعتقاداتها ولتحافظ على سرية افكارها ولذلك تعتبر من الفرق الباطنية، حيث انهم يتبنون الفكر السلوكي والسلوك إلى الله عبر التصوف والعرفان العملي عند الشيعة، لذلك تعد فلسفة (الاتحاد والحلول) هي الركن الفكري المركزي عند السلوكيين المهدويين لأنها تبني تصرفاتها على مخيال عقائدي وفكرة ثورة جاهزة.

إلا أني أجد في الكتاب الكثير من الأخطاء المطبعية فعلى الكاتب في طبعات الكتاب مستقبلاً تفاديها، وهي أخطاء لا تغيير من معاني الجمل إلا انها تؤثر تأثيراً بسيطاً على القارئ في التصحيح واعادة الجمل إلى صحتها.

ولنعود لنسلط الضوء على سيرة الكاتب والباحث يوسف محسن، فهو من مواليد العراق 1961م، وحاصل على شهادة البكالوريوس للعلوم السياسية، وعلى شهادة دبلوم عالٍ في الاقتصاد السياسي، وعضو الاتحاد العام للكتاب في العراق، وباحث في الحقل السياسي وصحفي حر. صدر له ثمان كتب منها:

- استعمالات فهم الدين (نقض احتكار الرأسمال المقدس والهيمنة على تأويل الخطاب).

- الفائضون المثقفون، الدولة، المجتمع في العراق.

- جدل في التوتاليتارية العراقية (تشريع الظاهرة الصدامية).

- التجربة الخلاقة (من الطوباوية الثورية إلى التأليفات الفلسفية والصوفية).

- أحمد القبانجي (من نقد اللاهوت إلى نقد السياسات الدينية).

- ترميم صورة الزعيم.

- الحرب الأهلية الطائفية في العراق. النزاع المسلح بين الميليشيات الشيعية والمتمردين القوميين السنّة والسلفيين الجهاديين- نزاع الايديولوجيات الشوفينية (2003- 2017) في 4 مجلدات.

- الإمام المختفي، من قاضي السماء إلى أحمد بن الحسن اليماني (دينامية الحركات والجماعات المهدوية الجديدة في العراق أو تصدع السردية الشيعية الكلاسيكية).

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في زمن الكورونا وكأنّي محاصر في  صومعتي قسراً من عدة محاور للحجر الصحي، ورفعتُ أسلحتي للتصدي لهذا العدو الغادر الكورونا وبثقة عالية بوعيي الثقافي الصحي بخطورة هذا الوباء ولأتقاني لقواعد الأشتباك، ولأجل أستثمار الزمن في التخفيف عن مآلات العصرنة الرقمية الصاخبة ومن فوبيا عدوى الجائحة، (وربَ ضارة نافعة) وأطلاق نداءات منظمة الصحة العالمية بضرورة الحجر الصحي ولتكن أستراحة محارب، وللتنفيس عن الضغوطات النفسية  لذتُ إلى مكتبتي المتواضعة، وأخترتُ منه كتاباً عنوانه "فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" لفردريك أنجلز، وقد قرأته سابقا، واليوم تكون قراءتي الجديدة بسيمياء العنوان أعلاه .

أولاً أودُ أن أوضح بعض الحقائق البارزة والمهمة لدى المفكر الفلسفي " أنجلز " أثناء قراءة كتابه هذا:-نظرة أنجلز إلى المادية التأريخية والتأريخ بالذات وكأضافة منهُ لما كتب كارل ماركس، ولكن بعبقرية انجلز تناول الموضوع بعدهُ بأسهاب وبعباراتٍ قويّة يقول في كتابه هذا:

{التأريخ لا يفعلُ شيئاً، التأريخ لا يملك أية ثروات طائلة، التأريخ لا يشعل المعارك، أنهم البشر، البشر الحقيقيون الأحياء هم الذين يفعلون كل ذلك، هم الذين يملكون، هم الذين يحاربون، أما التأريخ فلا وليس هو ألا نشاط البشر الساعين لتحقيق أهدافهم } .

2-والأعتقاد الآخر للمفكر أنجلز الذي وجدتهُ في هذا الكتاب: هو أن أنجلز لا يؤمن بحتمية التأريخ في صنع الثورات حيث يقول في كتابهِ " فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ":

{---- لأكون صادقاً معكم، إذا علمتُ أن الأشتراكية حتمية تأريخية لكنتُ جلستُ عاقداً ذراعيي مبتسماً الأشتراكية قادمة!، لستُ مضطراً البدأ بأي شيءلأن التأريخ سيعمل ذلك هذا (هراء)!؟ الأنسان هو المحرك الديناميكي للتأريخ، فالذي صنع الثورة البلشفية هم أولئك الرجال الأبطال الشجعان في تحريك التأريخ، أي لم يكن التأريخ من صنع الثورة الروسية بل العمال والجنود الروس هم من فعل ذلك، ولم يكن للتأريخ الفرنسي هو من أقتحم سجن الباستيل بل الرجال والنساء الذين قهروا ذلك السجن الجبار في 14 تموز 1789 .

3 - كتابه " فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " والذي أخترته في هذا البحث ربما أنهُ ركز على الفهم المادي، وحاول دراسة التأريخ الأوربي من فضاءات الأقتصاد  السياسي وصراع الطبقات، وقد أجمع نقاد عصرهِ وما بعد عصره ِ أنهُ نسخة ثانية من ماركس.

4- وأقول بل أكثر من مجرد نسخة ثانية لتكن النسخة الألف المهم هو ماركس الذي أظهر مفهوم " مركزية الطبقة العاملة " للمرة الأولى في تأليف كتابه " حال الطبقة العاملة في أنكلترا 1844، يعد هذا الكتاب مقدمة رائعة لدور الطبقة العاملة ليس فقط في التأريخ بل في مستقبل المجتمع أيضاً .

وللدخول في مثل هذا البحث الفلسفي يحتاج إلى (مناظرة نقدية) علمية بنّاءةً لفلسفة كل من الفيلسوف هيغل وفيورباخ من قبل العبقري فردريك أنجلز:

- لودفيغ أنرياوس "فيورباخ" فيلسوف وعالم أجتماع ألماني 1804-1872 بافاريا / ألمانيا، زاوج بين الأنثروبولوجيا والفلسفة التأملية في أنٍ واحد للبحث عن فلسفة المستقبل، أي البحث عن المفقود في الأنسان، مستعيناً باللاهوتية في أبقاء الأنسان (غائباً) داخلها سجيناً للوهم والخيال، بيد أنهُ ألزم تحديث فلسفتهُ لاحقاً بالتقرب من المادية متأثراً بأفكار الشبان الهيغليين في مفهوم المادية  وتبنى فكرة المادية وترويجها بيد أنه وضع آراءهُ للظروف التأريخية في ألمانيا قبل الثورة العلمية للدياليكتيك، وللواقع أصبحت آراء فيورباخ تمثل المثل العليا للديمقراطية البورجوازية الثورية، لكونهِ لم يتغلب على الطبيعة التأملية السابقة، فأصبحتْ مثاليتهُ واضحة وخاصة في دراسة التأريخ والأخلاق .

- وفي الحقبقة التأريخية (يعد) فيورباخ المفصل التأريخي بين نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية المتمثلة ب (هيغل) وبداية الفلسفة المادية كنتاج بشري تراكمي متمثلة ب(ماركس) وأكد هذه الحقيقة الفلسفية أنجلز بعمق موضوعي في كتابه (فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية):{ أن الطريق من هيغل ---إلى --- ماركس--- يمرْ بالضرورة عبر فيورباخ }.

- أن نظرة " فيورباخ " للمادية – وحتى من سبقهُ – هو أن الشيء الواقع المحسوس عرضها بشكل موضوع تأملي لا بشكل نشاط بشري حسّي فأسطفتْ مع المثالية الطوباوية، ففي كتابه " جوهر المسيحية " لم يعبر عن شيئٍ  حقا ألا النشاط النظري متجاوزاً على النشاط العملي فأنه لم يدرك النشاط الثوري التقدمي، لأن النشاط العملي يحتم على الأنسان أبراز الحقيقة المتمثلة بالواقعية الملموسة

- أن أعتقاد "فيورباخ" وبقية فلاسفة ألمانيا من (الماديين) يجب أن يغيروا أعتقاداتهم السابقة عن الماديّة: لأنّ الناس هم نتاج زمكنة الظروف ودالة التربية ، يرد " ماركس مع شريكه الفلسفي الثوري أنجلز ":

كلا --- هم نسوا بأنّ الناس هم الذين يغيرون الظروف،  والمربي هو الآخر يخضع للتربية والذي يصمد ويبقى هو النشاط الأنساني العقلاني الواقعي المحسوس الذي هو العمل الثوري .

- في الفلسفة التأملية لفيورباخ يجعل الأفراد مهمشين ومعزولين عن بعضهم كما هو واضح في تناحرات المجتمع البورجوازي، ومفهوم المادية القديمة بنظر فيورباخ هو وجهة نظر المجتمع البورجوازي، بينما يطرح ماركس المادية الجديدة بأعتبارهامبصومة بالأنسنة التي تعلن وجهة نظر المجتمع الأنساني .

- أما نقد الفلسقة الهيغلية: في كتابه " فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية": يذكر أن (هيكل) مثالي لأنهُ ركز على دراسة الأفكار والنظريات المجردة في حكايتهِ عن عالم الروح الذي أستخلص منهُ الواقع المادي ولأنهُ يميل إلى العلاقات المادية البرجوازية والروح عند هيغل يعني التعبير عن الطريقة التي تطورت بها  "الحرية " على مستوى المجتمع ككل، بينما الصحيح هنا عند أنجلز الكشف عن أمكانية الفرد وتطوره الحركي كشرط لتطور المجتمع، وفي نقد فلسفة (الحق) عند هيغل أنهُ تعمق في اللآهوت والغيبيات في أن الدين هو الذي يصنع الأنسان، يتفق أنجلز وماركس في رفض هذه النظرية جملة وتفصيلاً لكون (الدين هو الأحساس الواعي للذات البشرية ).

- وكانت شروحات العبقري أنجلز التصوّر الجديد للمادية التي أوصلتهُ إلى مفهوم الواقع الأشتراكي في العالم، لأنّ الأشتراكية لا تقوم على رؤية مثالية للمجتمع القادم بل على تحليل للحركة التأريخية وجدلية الصراع الطبقي للتنظيم الأقتصادي والأجتماعي، وأن وسيلة تغيير العالم في تشخيصهِ للأنسان ... ثُمّ الأنسان لا كما ظهر في تشخيص تحليلات ميتافيزيقية لهيغل وبرونو باور، أو بمفهوم غامض كما عند فيورباخ، مركزاً على{الوجود الواقعي العملي وليس الآنجاز الروحاني الغيبي} .

وقد كشف كل من أنجلز وماركس هذه الأفكار الواقعية العقلانية المحسوسة الحداثوية وصاغاها بتنقيحٍ دقيق في أنجازهما الأممي للبيان الشيوعي} 1848 تلك الوثيقة الثرّة والثربة الواعدة لغدٍ أفضل  للأجيال القادمة، والذي أصبح واحداً من أكثر الكتب السياسية تأثيراً بالعالم حين قدم نهجاً تحليلياً للصراع الطبقي، ومشاكل الرأسمالية المتوحشة المتعددة الرؤوس أو ما تسمى تهكما بالقطط السمان  وبذلك {بشّر بشكل المستقبل الشيوعي القائم على الأشتراكية العلمية}، أي لاحميدة ولا رشيدة هي (أشتراكبة علمية) كما يقول المفكر الأقتصادي الأكادبمي الفقيد الدكتور أبراهيم كبه .

- وأن شروحات " أنجلز" مبادىء الجدل الفلسفي في نشوء الطبقة العاملة المعتمدة والموكلة بأستلام المهمة التأريخية في تحقيق المنهج الأشتراكي، تمكن من كسر القشرة الهلامية الهشة التي أهتم فيورباخ في تشكيلها، فكان للشريكين ماركس وأنجلز دورا في (أنسنة) هذا الجدل الفلسفي، تطرق " أنجلز " في هذا الكتاب عن مفهوم الدياليكتيك يقول:

أنهُ علم القوانين العامة للحركة سواءً في العالم الخارجي أم في الفكر الأنساني، وبشكلٍ مختصر مبسط هو: (الأنعكاس المفهوم والواعي للحركة الواقعية للعالم) الذي أدى إلى قلب دياليكتيك " هيكل " المشفرة !! .

- اليوم يمكن أن نقول: أن أنجلز هو مؤسس قوانين الدياليكتيك، وبهذا الأنجاز العلمي أثبت " أنجلز " عدم واقعية هيغل وفيرباخ وبأخراجهما من الساحة الفكرية المؤثرة على ظهور " الأشتراكية العلمية " أنهُ رفض منطقهما الذي يقوم على الفكر الطوباوي، وأن صيرورة الفكر هي التي تؤسس صيرورة الواقع من خلال رؤية الأنسان الواقعي (الأنسان المجتمعي) فأتجه في كتابه لتحقيق الأشتراكية أهتم بمركزية الطبقة العاملة ودورها في أدارة (النقابات) التي كانت مبهمة ومغيبة في عموم الدول الغربية خصوصا ما شاهدهُ في أنكلترا وألمانيا .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

حزيران \ 2023

..........................

مصادر البحث وبعض الهوامش

- أطروحات ماركس حول فيورباخ 1845 – ماركس

- هيغل – محاضرات في فلسفة الدين – ترجمة مجاهد عبد المنعم – القاهرة

- كتاب فيورباخ- ماهية الدين – تأليف وترجمة د-أحمد عبدالحليم عطيه القاهره 2007

- كتاب أنجلز / فيورباخ نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية .

أدرج أدناه قائمة ثانية من الكلمات الأكدية التي جمعها العلامة الراحل طه باقر في كتابه "من تراثنا اللغوي القديم" وهي كلمات ماتزال حية في اللغة العربية الفصحى "الوسيطة" أو في اللهجة العراقية العربية وليس لبعضها مقابل في العربية. وكنت قد نشرت قائمة أولى منها قبل أسبوعين تقريبا تجد رابطه في نهاية هذا المنشور وبعده رابط لتحميل الكتاب نفسه. وقبل أن نبدأ بالاطلاع على القائمة، ينبغي التذكير بأن اللغة الأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية ليس فيها حروف أبجدية كاللغتين الآرامية والعربية بل هي علامات ورموز تكتب على الطين، وهي – كما يقول الباحث موفق نيسكو - لغة فكرية تكهنية استدلالية، لا لفظية أو تعبيرية. فكلمة خبز، التي يمكن أن نكتب حرف الخاء فيها بالآرامية والعربية لا نستطيع ذلك باللغة الأكدية، لأن العلامة الأكدية نفسها التي تدل على حرف الخاء في كلمة خبز، تدل على حرفٍ آخر كالصاد أو الميم في كلمة أخرى أو مقطع آخر.. ورموز الأكدية – يضيف نيسكو – هي تقريباً 570، وتعتمد كتابتها على عدد المقاطع وعلامتها التي تصل إلى 8000 علامة، وكحد أدنى على الكاتب أن يتمكن من استعمال ومعرفة من ألف إلى ألفي مقطع لكي يكون كاتباً في شؤون الحياة العامة لا في الشؤون التخصصية الاصطلاحية كالفلك والطب والسحر وغيره: نماذج من الكلمات الأكدية ومقابلها العربي أو العربي العراقي.

- خشَّ = بالأكدية خشو: وتعني تحرك بسرعة ودخل.

صوف = بالأكدية شپاتو: بعلامة الباء المثلثة البابلية التي تقوم مقام حرف الفاء أحيانا، وعلامة الشين بدلا من السين والصاد، فتكون مقاربة لـ سفاتو/ صفاتو. ومن الطريف - كما يقول أستاذنا طه باقر - إن الملك الآشوري سنحاريب، حين أدخلت شجيرات القطن لتزرع في حدائق قصرة لأول مرة في تاريخ العراق القديم كانت قد أعجبته فكان يسميها "الشجرة التي تحمل الصوف" وبالأكدية اللهجة الآشورية تلفظ (إش نش شفاتي)!

-خَلال = بالأكدية تُخالو: وتعني البلح غير الناضج. في اللهجة العراقية.

گوگلة = بالأكدية قاقلو:  نبات حمضي مالح يؤكل طريا وهو معروف باللهجة العراقية فقط. وورد في قانون أشنونا ضمن أوزان السلع النباتية.

-خَمَطَ = بالأكدية خماطو - أخذ بسرعة. ومنها اسم ملاح العالم الأسفل المكلف بنقل أرواح الموتى إلى العالم الآخر، واسمه "خمط تبال" وتعني الآخذ بسرعة.

-خَمَشَ = بالأكدية خماشو: وتعني لطم الوجه وخدشه.

-الدبس = في الأكدية دباشو. وهو عصير التمر المعقود بالنار.

كُبَّة = كِبيتّو: باللهجة العراقية وبعض اللهجات العربية هي نوع من الطعام على شكل كرات من البرغل المحشو باللحم. ولا علاقة لها باللغة الفارسية أو غيرها كما يعتقد بعض الناس.

الشلب = شي لي آ = وهو الرز بقشوره، ومع ان الثابت علميا أن الرز وجد في العراق بعد نهاية العصر البابلي الحديث وبدء الاحتلال الفارسي ولكن يحتمل أنه وجد في عهود أقدم تعود الى القرن الثامن ق.م. وكلمة شلب ليس لها مقابل في العربية الفصحى ولكنها مستعملة في عصرنا في اللهجة العراقية العربية حتى الآن، ولكن الكتاب العراقيين يتجنبون غالبا استعمالها ظنّاً منهم أنها من "العامي الدخيل"!

راكوب = نركبتو، وهي الفسيلة المتصلة بأمها في النخلة وماتزال الكلمة حية في اللهجة العراقية.

رَطَب = رطابو: التمر في مرحلة النضج الأول وهو الطري.

دن = تلفظ دان، وتعني الراقود وهو آنية فخارية كبيرة توضع في حفرة تحت الأرض وتخزن فيها السوائل من خمور ونحوها.

دوسر = دشرو: وهو الزوان نبات يصاحب القمح والشعير. ويسمى أيضا شعير إبليس.

ذقن = زقنو واستعمل بمعنى اللحية.

رصيف = رصابو بالباء البابلية المثلثة.. وتعني الطريق المرصوف بالحجارة.

صلاة "صلوة" = صلو: بمعنى الدعاء الديني.

فجل = پگلو – بدلا من الفاء العربية تجد علامة الباء البابلية المثلثة. والجيم غير معطشة بل "قاهرية".

فلَّش = پلاشو – هدم ونقض وخرب في اللهجة العراقية

هبَّش = خباشو: وتعني دق الحبوب الغذائية لفصل قشورها.

قانون = بالأكدية كنا، وهي القصبة التي تستعمل كمقياس وقد أخذتها اليونانية وحورتها فصارت كانون. وانتقلت إلى اللغة اليونانية بهذا اللفظ تقريبا.

كحل وكحول = بالأكدية كخلو وبالآرامية كاخلا وهو كحل العيون وربما اشتق منه الكحول.

كلك / تلفظ بالعراقية چلچ= كلاكّو وهو الطوافة المعمولة من جلود منفوخة فوقها أخشاب.

كلمات أخرى معروفة: رمان –زعتر – ركبة – سِلق – صلم "صنم" – زنبيل – سُرِّية "محظية" – سُعد "عشب نهري جذوري عطر" – سعف – سفينة – سُمّاق – سمسم – سمن – سيسبان –سنونو –سوق – سوسن – شريان – شِعر "مغنى أو غير مغنى في الأكدية شيرو"- شيص وهو ثمر النخل غير الملقح وهي مستعملة في اللهجة العراقية فقط – صرصور – عقرب – فخار - قفة – قمقم وقنينة – كوكب – كيس – لقلق – مِسْك – مسكين – مشط –مَهر "صُداق" – نجار – نعناع – نفط – هرفي "المبكر".

ومن أسماء المدن والأنهار: بابل وتلفظ بابيلوم وتعني باب الآله، وتلفظ في السومرية " كادنكر را" وأيضا " تن تر كي" وتعني الأخيرة موطن الحياة. خابور وبليخ وهما رافدان من روافد الفرات ويلفظان بالأكدية: خوبورو وخابورو – كركوك – وتلفظ بالآرامية كرخا / كركا / كرخ سلوخ/ دجلة / فرات /نينوى/ الموصل / بغداد "بيت گدادة" – عانة "عاناة"- هيت –تكريت.

ملاحظة: مدينة أربيل كان اسمها يلفظ أربيلم / أربائيلو. وأقدم ما وصل إلينا عن ذكرها هي الإشارات الواردة في سجلات ملوك سلالة أور الثالثة السومرية (٢١١٢- ٢٠٠٤ ق. م.) حيث ذكرت المدينة بإسم (أور -بيلُم) (Urbillum)، وفي اللغة الآشورية أصبحت (أربائيلو) وهو اسم يعني (أربعة آلهة)، ولعل الكتبة الأشوريين فسروا الصيغة السومرية القديمة لاسم مدينة اي (أوربيلم) تفسيرا تكهنياً على أنه أربعة آلهة. ع.ل

***

علاء اللامي

......................

1- رابط لتحميل نسخة من الكتاب: من تراثنا اللغوي القديم للعلامة طه باقر

https://archive.org/details/20200509_20200509_1512

2- رابط يحيل إلى المنشور السابق للقائمة الأولى

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=6293800970680446&id=100001518170013

كنت قد تطرقت إلى هذا الكتاب الثمين للباحث المعلم الراحل طه باقر في مقالة سابقة، ووعدت القارئ بالعودة إليه، وهأنذا أفعل: كنت قد ذكرت اسم هذا الكتاب في هامش لي ضمن مقتبس من دراسة للباحث فاروق عبد الجبار عبد الإمام، في كتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام"، ولكني، للأسف، لم أكن آنذاك أملك نسخة من كتاب باقر فأطلع عليه لأجعله من مراجعي. ومن الطريف أنني اعتمدت كثيراً - في المقابل - على كتاب للباحث رفعت رؤف البزركان "الألفاظ الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة" كواحد من مراجعي مع تسجيل تحفظاتي عليه. واضح من عنواني الكتابين أن باقر - بخلاف الراحل البزركان - لا يعتبر الكلمات ذات الجذور الرافدانية "الأكدية بشقيها البابلي والآشوري" كلمات دخيلة وأجنبية، بل هو يفضل تسميتها "رواسب لغوية " من الحضارات العراقية القديمة. كنت قد ألفت كتابي ذلك خلال سنتي 2010 و2011، وصدرت طبعته الأولى سنة 2012، محاولا فيه إثبات صحة وجهة النظر التي كان يتبناها الراحل طه باقر من دون أن أطلع على كتابه، ولكن خلاصتها وردت في أكثر من دراسة اطلعت عليها ضمن مراجعي.

سأورد أدناه مجموعة من المفردات العربية أو باللهجة العراقية العربية مما ورد في كتاب "من تراثنا"، والتي لم أدرِج أغلبها ضمن منظومات المفردات في كتابي المذكور، وأوردتُ بعضها نقلاً من مصادر أخرى وسيطة منها كتاب البزركان، وسأحاول أن أضيف ما تبقى منها في الطبعة الثالثة من الكتاب مستقبلا.

*سأضع توضيحاتي واستدراكاتي بين قوسين، وسأستغني عن تصويته للكلمات الأكدية بالحروف اللاتينية إلا مرة واحدة للضرورة:

أبّار = الأبّار هو الذي يلقح النخل وهي في الأكدية بالصيغة نفسها "أبارتو" وليست سريانية كما يعتقد البعض. (بمعنى أنها أقدم من السريانية زمنا، على اعتبار السريانية هي آرامية ما بعد ميلاد المسيح. ع.ل)

الأبلة = اسم مدينة تاريخية قرب البصرة، وهي بالأكدية البابلية آبلّو وتعني البوابة الكبيرة.

إبل = بمعنى جِمال وهي بالأكدية "إبلو".

أثل = نوع من النبات وفي الكدية "إثلو".

أرجوان = اللون القرمزي، أصلها وفق المعاجم العربية القديمة فارسي وهذا غير صحيح فهي أكدية بابلية وتلفظ "أرگمانو".

أرملة = أكدية وتلفظ بإبدال اللام راء "مثل بصل العربية وهي بصر الأكدية" ألمانو للرجل وألمانتو للمرأة.

أذان = النداء للصلاة- في الأكدية أدانو وتعني الموعد والمدة الزمنية، وتلفظ في الآرامية "عدّان".

إشكارة وشكارة = تعني باللهجة العراقية القطعة او القطيعة من الأرض الزراعية وهي في الأكدية "إشكارو" بذات المعنى.

ماكو = في اللهجة العراقية بمعنى لا يوجد – وفي الأكدية باللفظ نفسه والمعنى ذاته وتقابل كاشو وباشو وتعنيان "يوجد" والمرجح أن "أكو" بمعنى يوجد جاءت قياسا على "ماكو" المنفية.

إقليم = رقعة من الأرض وقيل إنها يونانية من كلمة "كليماتوس"، ولكن جذورها رافدانية قديمة وهي "كلام" بمعنى إقليم أو بلد ومنها لقب الملك السومري لوكال زاكيزي الذي لقب نفسه بملك الأقاليم " لوگال كلامّا".

إنجانة = إناء تغسل فيه الثياب – وظنَّ البعض إنها من أصل فارسي ولكنها موجودة في البابلية والآشورية بلفظ يكاد يطابق لفظها العربي فهي "أگانّو" بالجيم المعطشة. (أو "القاهرية" فالجيم المشبعة - كما ينطقها عرب العراق والخليج العربي - لا وجود لها إلا في اللغة العربية. أما الجيم الجارية فهي التي ينطقها المغاربة وخاصة في تونس وبعض المشرق كبلاد الشام. أما الجيم المعطشة فهي الموجودة في مصر والتي نطلق عليها الجيم القاهرية تميزا عن الجيم في الصعيد وهي أقرب إلى الجيم المشبعة منها إلى الجارية. ملاحظة شخصية. ع.ل)

أنبوب = أصلها من أنبوب القصب، وهي في الأكدية "إنبوبو" وفي المندائية "أمبوبا".

الإوَزة = الطائر المعروف، وهي في اللهجة العراقية "وزَّة"، وأصلها آرامي "وزَّة"، ولكنها أكدية أيضاً بلفظ قريب جدا هو أوز (UZ).

بَكْرَة = أسطوانة في وسطها محز يمرُّ فيه حبل لرفع الأثقال.. في الأكدية "بكراتو".

البيرة= الشراب الكحولي المعروف. في الأكدية بيراتو.

التركيس = في اللهجة العراقية تعني رفع عذوق النخلة حين تكبر الثمار قليلا بعد التلقيح. وردت باللفظ نفسه في الأكدية، ومصدرها الأكدي "ركساو".

جمار = قلب النخلة بالعامية العراقية، وفي الأكدية بلفظ قريب منها "گشمارو" وتطلق على النخيل بشكل عام.

حنظل = نبات قرعي شديد المرارة في الأكدية " خنزلتو".

خروب = نبات معروف وفي الأكدية خروبتو.

خشالة = في اللهجة العراقية وهو ما تكسر وعتُق من أواني النحاس، وأيضا الحُلي كالأساور والخلاخيل. وردت في الأكادية بلفظتين "خِشالو" و " خشالتو" بمعنى ما انكسر وانسحق.

يتبع في الجزء الثاني

***

علاء اللامي

كثيرًا ما تدفعنا خواطرنا للتساؤل، عندما نلتقي انسانًا آخر سواء كان رجلًا أو امرأة، ما إذا كُنا التقينا به في السابق أم لا، وسرعان ما يتبدّى لنا أن تلك هي المرّة الاولى التي نلتقي به عمليًا. فهل سبق والتقينا به حقًا في أزمان بعيدة سحيقة؟ أم أن أوهامنا صوّرت لنا أننا التقينا به؟

الطبيب النفسي الامريكي برايان .ل. ويس، يحاول في كتابه "الحبّ هو الحقيقة الوحيدة"، الاجابة عن هذا السؤال المحيّر وغيره من الاسئلة المتعلّقة به، مؤكدًا أن ما يخطر لنا عندما نلتقي من يُشبّه لنا أننا سبق والتقينا بهم.. إنما له أساس من الواقع البعيد أو القريب.

مؤلّف الكتاب هو طبيب نفسي أمريكي معروف، كان أستاذًا في العديد من المعاهد العليا والجامعات وله كذلك خبرة مديدة في العلاج النفسي.. البارسيكولوجي. يدير حاليًا عيادته الخاصة في ميامي بفلوريدا. سبق له وأصدر كتابًا عالج فيه جوانب مما يعالجه في كتابه هذا حمل عنوان " حيوات عديدة ومعلمون كثيرون"، وقد انتشر كتاباه هذان وتُرجما إلى أكثر من عشرين لغة في العالم منها العربية.

يُدخلنا الدكتور برايان في كتابه هذا، إلى عيادته الخاصة ليطلعنا على واحدة من أعقد الحكايات التي تحصّلت فيها خلال الاعوام الاخيرة، ويأخذ بيدنا، خطوة إثر خطوة، لنتعرّف على اثنين من متعالجيه يطلق عليهما اسمًا مختلقًا هو: اليزابيث وبيدرو، وذلك حفاظًا على السرّية المطلوبة من كلّ طبيب نفسي، ويستعرض معنا حكاية كلٍّ منهما عبر تنويمه المغناطيسي له وطلبه منه استرجاع حياته أو حيواته الماضية. من خلال هذين حصل المؤلف كما يقول في كتابه على علاقة أو ارتباط مع الارواح المرشدة والاساتذة الذين ظلوا يمنحونه العديد من الافكار عن الحياة بعد الموت، وعليه يؤكد المؤلف أن التناسخ هو جسر يقودنا إلى المعرفة الاعمق، الحكمة والتفهّم. إن اولئك الذين نحبهم وفق رؤية المؤلف وممارسته للطب النفسي أيضًا، يعودون ليشاركونا تحمل أعباء الحياة.. مع التأكيد أن الصدفة ليست وحدها هي التي تعيد التقاء التوائم الروحية.. وإنما حتمية الوجود الروحي الخالد للإنسان.

الكتاب كما سلف، يقدّم تجربة حقيقية عاشها المؤلف مع اثنين من متعالجيه، كلّ منهما من بلد. قدم لهما العلاج في نفس الفترة، ليكتشف أنهما عاشا معًا فترة بعد أخرى مرة كحبيبين وأخرى كأب وابنته وأخرى كأخوين ورفيقي طفولة، ومن خلال هذين.. حصل المؤلف على علاقة أو ارتباط جديد مع الارواح المرشدة والاساتذة الذين ظلوا يمنحونه العديد من الافكار عن الحياة بعد الموت. قصة هذين المُتعالجين تنتهي بعثور كلّ منهما على الآخر، بحتمية اللقاء، وبالارتباط بينهما مجدّدًا.

يستعرض المؤلف في كتابه هذا قصة كلّ من بطليها، اليزابيث وبيدرو، كلّ على حدة، وذلك عبر التنويم المغناطيسي والابحار في الماضي، ليتوصل إلى ما توصّل إليه. ويورد المؤلف معطيات تفيد أن نسبة المؤمنين بالتناسخ الروحي ارتفعت بشكل ملحوظ، وفق آخر الاحصائيات. ويلفت النظر أن المؤلف افتتح كلًّا من فصول كتابه الـ 24 إضافة إلى الخاتمة بقول حوال التناسخ لأحد أعلامه مثل وايت ويتمان الذي يقول:

أنا أعلم أنني غير قابل للزوال.. بلا شك

انني قد متّ آلاف المرات من قبل

أنا أضحك ممّا تُسمّونه الفناء

وأنا أحس بعمق الزمن وسعته

(ضمن إشارة إلى فناء الجسد وخلود الروح- ن. ظ.)

كتاب لطيف، يعالج قضية بسكيولوجية- ما بعد طبيعية، ويفتح منافذ الخيال على عالم مِن الاسرار والخفايا. مُقدّمًا قصة يمكن اعتبارها نموذجًا لقصص نلتقي يوميًا مثيلات لها دون أن نعرف السبب العلمي لأساسياتها. الكتاب يؤكد في أكثر من صفحة وفقرة أن الحب هو الحقيقة الوحيدة.. بل إنه ام الحقائق.

***

قراءة في كتاب يقدمها: ناجي ظاهر

.............................

* ترجمته إلى العربية ابتسام الرومي، بلغة بسيطة جدًا لا تخلو من الاخطاء الطباعية واللغوية. وصدر عام 2015 عن دار ميزوبوميات في بغداد.

تقديم كتاب: شموع لا تُطفئها الرياح للكاتب: محمد حسين النجفي

يُعَدّ كتاب (شموع لا تطفئها الرياح) للكاتب محمد حسين النجفي نصّاً استعادياً كُتب في فصول متعددة، ينتظمها سياق الحكي الذي يتمحور حول شخصيّة الكاتب ذاته، وعلاقاته بالزمان والمكان اللذين تجري فيهما الأحداث، حيث يتفاعل الكاتب ومحيطه الخارجي مع الشخصيات التي شيّدت تاريخه الشخصي وفق جدلية التفاعل بين الذات والآخر، تفاعل ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً.

لقد اعتمد الكاتب اللغة النثرية، مخلصاً في إيصال رسالته للقارئ المفترض، والذي أتصوّره يحكي له بأسلوب مشوّق، ويصمت عندما يجد قارئه المفترض شارد الذهن، أو متأمّلاً ناظراً في الأثر الذي تتركه الأحداث فيه، الكتاب سيرة ذاتية روائية كُتبت تفاصيلها بوعي عالٍ، والكاتب يحفر عميقاً في جدران زمن الحاكم الذي لم يتصالح معه في عهوده الملكية والجمهورية، وهو يقود العراق تاريخاً وشعباً، جغرافيّاً واقتصاديّاً من خندق إلى خندق، والشعب يدفع ثمن ولائه المطلق للوطن حياةً وحلماً.

ما استوقفني متبسّماً كيف أن الكاتب يقدّم، بشكل ساخر على امتداد صفحات الكتاب، مقولة (الزمن الجميل)، التي باتت لازمة تردّدها الأجيال ناقمةً من السلطات الزمنية المتعاقبة، وهي لم تعثُر على حلمها المهدور على يد الحاكم الجائر، فكلّما جاء ضوء فجر ظنّه الناس ضوءاً صادقاً، وإذا هو بداية ظلام ليل طويل، لقد تلمّس الكاتب محمد حسين النجفي مظان الخلل في الفهم الجمعي لموضوع (الزمن الجميل) قرأه وهو ينصت لجرحه الوجودي الأول، جرح ذاك الفتى الحالم حيث قيّدت يد السجّان الآثمة أفكاره المتطلّعة إلى وطن يشيّده فكر حر، وشعب يبني أحلامه برؤى تعانق آفاق الكلام.

أنجز الكاتب سرديّته بأسلوب السرد المباشر، فقلّما يوظّف تقنيات الاستباق والاسترجاع، بيد أن نصّه ظلّ معبّأ بالدهشة والانفعال، إذ أرى أن القارئ الذي عاش مثل هذه الوقائع المسرودة لا يملّ من متابعتها بعين ملؤها التفاعل والرغبة في الوصول إلى آخر الطريق، فهناك نقرأ ما هو سوسيولوجي مفرح ومؤلم في آن، وهناك ما هو أنثروبولوجي يفقس قشرة المحتجب والمحجوب وراء العادات والمعتقدات التي لم تفرضها الشرائع السماوية، ولا الأعراف الاجتماعية المعقلَنة، فالكاتب لا يقف موقفاً سلبياً من الدين أو المجتمع، بِقدْر ما يفضح عورات الاعتقادات البالية، والتصوّرات الخاطئة، التي برهنت الأيام على بطلانها.

أرى أن الكتاب يعرّفنا على عادات وتقاليد وألفاظ في بيئات عراقية لم نكن عرفناها أو سمعنا بها من قبل، فالكتاب تجسّدات ثقافية فكرية سياسية اجتماعية تاريخية، اجتهد الكاتب في تقديمها بالشكل الذي يدعو القارئ لمصاحبته بحميمية، حيث الأسواق والمقاهي والمكتبات والأزقّة والأعراس والسجون والمستشفيات والمدارس والمسابقات وقاعات الدرس وأروقة الجامعة ومدرّجاتها، والعلاقات العلمية البانية بين الأساتذة والطلبة، ووجود الدخيل في هذا الفضاء، شبكة من الأحداث الدرامية التي تشدّ القارئ إليها، وتأخذه إلى طرح الأسئلة على الذات والآخر، على الزمن المعيش والزمن الماضي، على استشراف المستقبل بروح يؤثّثها القلق والمشي  خلف الهديل.

يجد القارئ أن الكاتب هو الراوي، وهو الشخصية الرئيسة في كلّ الأحداث، وهو البطل في هذه السردية، لكنه ليس البطل المطلق، وإن لم يتنازل أمام عصرة القلب، وإن انتصر في نهايتها، لأنه قدّم ذاته ملبّدة بظلام الخوف من السلطان وأدواته، ينام مرتجفاً ويصحو مرتعباً، وهذا خوف إنساني، من هنا أراه قد اقترح ترجمة بديلة لكتاب سيمون دي بوفوار (قوة الأحداث) أو (تحكّم الأحداث) بدلاً من (قوة الأشياء)، وفي هذا اعتبار لصرامة الواقع وشراسته الذي عاشه الكاتب، وعاشه شعبه ويعيشه الآن، هذا ما نقرؤه في معظم فصول الكتاب، وهو يقارن بين الماضي والحاضر حين يتساءل كيف هي الحال الآن؟

إذا كان هذا الكتاب شهادة على عصر عاشه العراقيون بأفراحه وأحزانه، لا أغالي إذا قلت إنه رواية، على اعتبار أن كلّ رواية سيرة، هذا الكتاب، إذن، هو سيرة ذاتية روائية، هو خطاب أوتوبيوغرافي، أنجزته ذاتٌ متفاعلةٌ والشخصيات التي حضرت بأسمائها الصريحة موثّقةً بالصور، أو بالإشارة إليها خوفاً من أن يمسّها الأذى، سواء أكانت على قيد الحياة أم انتقلت إلى حياتها السرمدية، إذ نكش الكاتب ذاكرته النابضة بالوعي وبالحياة، وبالشواهد التي تبرهن على أن الأحداث واقع معيش، وأن بُناتها موجودون مثل جرح يحمله جسد الزمن القاسي، لكن هذه الواقعية ليست سكونية، وإن وظّف كاتبها الزمن الخطي، فهي واقعية حركية تفعّلها أصوات الحضور والغياب مثل صوت قطار يمزّق سكون الليل ودجاه.

***

الأستاذ الدكتور محمد عبدالرضا شياع

الولايات المتحدة الأمريكية

اتجول في معرض ابو ظبي للكتاب. الاف العناوين تلاحقني، هذا ماركيز يروي حكايته مع مائة عام من العزلة، وفي زاوية يقف سقراط يلقي دروسا عن الحياة، في مكان آخر يطل كوندليزا في كتاب لامين صالح، كتب.. كتب.. كتب تمنح السعادة والمتعة لمن ينظر اليها، فما بلك اذا كانت هذه السعادة مقرونة بالوعي والفكر المتنور. اتطلع الى الكتب معروضة بهذه الطريقة الحديثة، في فناء شاسع، يبدو فيها معرض الكتاب وكأنه عرض للثقافات. كان الاحتفال بالثقافة التركية. روايات باموق واليف شافاك تتوسع باحة المعرض مع عرض لكتاب لم نسمع بهم من قبل مما يدل على جهلنا بثقافة بلاد لا تبعد عنا سوى مئات الكيلو مترات . قلت لاحد الاصدقاء اين اجد جناح دار الاداب فانا على موعد مع جديد المتألقة ايزابيل الليندي فقد اعلنت الدار عن صدور الترجمة العربية لكتابها نساء روحي والتي قام بها مارك جمال.3269 نساء روحي

تخبرنا الليندي ان العزلة التي فرضها على العالم فايروس كورونا، كانت بالنسبة لها فرصة ذهبية للتفرغ للكتابة بشكل يومي: "لقد كنت في معتكف الكتابة المثالي. في العام ونصف العام الماضيين، كتبت فيوليتا و"نساء روحي"، وانتهيت من رواية أخرى. يبدو أن مصدر الإلهام يختبئ معي في المنزل ".

في كتابها "نساء روحي" تتأمل ايزابيل الليندي فيما يعنيه أن تكون أنثى. ينقسم الكتاب إلى مذكرات ونقاشات، عن الشباب والشيخوخة والنظر الى الانثى، بدأت فكرة الكتاب أثناء إلقاءها محاضرة في مؤتمر نسائي في مكسيكو سيتي، عندما بدأت في التفكير في مسار حياتها كامرأة مناصرة للنساء.

تذكر في "نساء روحي" استياءها عندما نظرت إليها العائلة باعتبارها " انحرافاً" عن الأسرة، في وقت كانت أسرتها تعتبر مثقفة وعصرية، لكنها كانت في نظرها من العصر الحجري، وكان هذا مصدر غضبها. تصر انها رفضت ان تكون مثل امها: " أردت أن أكون أكثر حرية واستقلالاً".

ترى أن لديها كثيراً لتشاركه مع النساء في هذا العالم، وأن النساء في الغرب يعانين من الخوف والتمييز أيضاً، وإن كان بنسبة أقل بسبب القوانين الداعمة للمرأة. ولا تعتبر أن حياتها مأساوية بسبب نظرة الرجال الى المرأة، بل تعتبر نفسها محظوظة حيث حصلت على النجاح والشهرة واستطاعت الهروب من الحكم الدكتاتوري في بلدها تشيلي، على الرغم من معاناتها بعد موت ابنتها " باولا، وشعورها بالوحدة بعد وفاة والدتها.

تتحدث في "نساء روحي" عن التقدم في العمر، وعن مستوى المعيشة الذي لم يتحسن عند الكثير من الناس وتتأمل حياة كبار السن، وتتذكر كيف كان الأجداد يمضون حياتهم ضمن العائلة ولهم الكلمة الاولى، بينما اليوم معظم كبار السن يمضون سنواتهم الأخيرة في دور المسنين ويموتون وحيدين.

تأمل أن كتابها يضيء " نساء روحي": "النور لبناتنا وحفيداتنا، فهن سيتعين عليهن العيش من أجلنا، كما عشنا من أجل أمهاتنا، ومواصلة العمل الذي لا يزال يستحيل الانتهاء منه". وتقول، "النسوية مثل المحيط، سائلة، وقوية، وعميقة في شكل لانهائي، ومثل موجات المد والجزر لا تبقى النسوية هادئة أبدا".

تؤكد أنها ليست على عداء مع الرجل أبداً، وأن كلمة "نسوية"، تعني لها نوعا من انواع المقاومة للنظام الذي ينظر الى المراة والملونيين والفقراء نظرة دونية، وهي تصر انه: " لا توجد نسوية بدون الاستقلال الاقتصادي"، ولهذا تقدم في الكتاب العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه النساء والفتيات والأفراد المحرومين في هذا العالم. ابتداءً من العنف، إلى أشكال الاستغلال المدمرة، إلى الفقر، إلى نقص التعليم، إلى التحيز، إلى النضال من أجل الوصول إلى العلاج الطبي، لا يمكننا أن ننسى المحن التي قد تظهر في أي مرحلة من الحياة، أو أكثر إشكالية في وضع شخص ما منذ ولادته. القائمة الطويلة وأنواع المشقة الموصوفة طويلة ايضا ".

تتوقف عند عبارة إدواردو غاليانو التي قال فيها: " في النهاية، خوف النساء من عُنف الرجال ما هو إلا اِنعكاسٌ لخوف الرجال من النساء المتحررات من الخوف". لتقول: " كلام طيب لكن دلالته تحيرني. كيف لنا ألَا نخاف إن كان العالم يتواطأ لبث الرعب في قلوبنا؟ قليلات هن النساء المتحررات من الخوف، إلا حينما نُصبح معا. نشعر، بين المجموعة، بأننا لا نُقهر

في الصفحة الاخيرة من "نساء روحي " تكتب ايزابيل الليندي: حان وقت التامل. أي عالمٍ نريد؟ اعتقد بأن هذا هو السؤال الأهم في وقتنا الراهن، السؤال الذي يجب ان تطرحه على نفسها كل أمرأة واعية، وكل رجل واع، السؤال الذي كان يجب على خليفة بغداد ان يطرحه على اللص في تلك الحكاية العتيقة.

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عام 2014 اصدرت دار كلمة الاماراتية كتاب "طفولة برلينية" للمفكر الالماني فالتر بنيامين، وكنت ولازلت مغرما بكتاباته واسعى للحصول على ما يترجم من كتبه. ولان كتابه " طفولة برلينية " يروي جانبا من سيرته كنت اوصي الاصدقاء الذين يذهبون الى المعارض العربية على نسخة منه وكانت جهودي للاسف تنتهي جميعها بالفشل، وعندما ذهبت الى معرض القاهرة كان اول سؤال اطرحه على مسؤول دار كلمة هل يوجد كتاب " طفولة برلينية " فكان جوابه محيرا: انتهت النسخ وتكرر الامر في معرض تونس، وكنت مطمئنا بان الكتاب سيكون بحوزتي وانا ادخل جناح دار كلمة في معرض ابو ظبي للكتاب، إلتزامه سيدة تتولى السيدة مسؤولية الجناح ستجهض محاولاتي وهي تقول: الكتاب نافذ وبعدان حدثتها عن بحثي المتواصل عن الكتاب، اشفقت على حالي لتتصل بموظف المخزن تطلب منه ان يبحث عن نسخة لقارئ عراقي يطارد هذا الكتاب بين المعارض، ووعدتني خيرا وفي سرها بتقول ما بال هذا الرجل متلهف على هذا الكتاب. في اليوم التالي ما ان دخلت جناح كلمة، حتى اخبروني بان هناك نسخة احضروها لي، وان مبلغها مدفوع من الدار تقديرا لاهتمامي بمطبوعات كلمة.

في عام 1940، كان المفكر والناقد الثقافي فالتر بنيامين قد اتعبه السفر والتنقل بين البلدان بسبب مطاردة النازية له، كان هاربا منذ صعود هتلر الى قمة السلطة، ولم يساعده رفاقه اعضاء مدرسة فرانكفورت، فقرر ان ينهي رحلة الحياة المتعبة بعد ان بلغ به اليأس حدا لا يطاق، تناول العلبة التي يضعها قرب السرير يفرغ منها " ٢٥ " قرصا يبتلعها مرة واحدة لتنتهي حياة واحدا من اهم مفكري القرن العشرين. مات بنيامين عن " 48 عاما وبعد اكثر من اربعين عاما عثر على مخطوط كتابه " طفولة برلينية " مصادفة في احدى مكتبات باريس.

يكتب في احدى صفحات كتابه ان " القراءة والكتابة هما الشيئان اللذان كانا يخصانني، فليس ثمَّ شيء مما سكن داخلي في سنواتي الأولى يثير فيَّ حنينًا أكبر من صندوق القراءة. كان يضمُّ في داخله الحروف على هيئة أقراص صغيرة بخط الكتابة المائل، الذي بدا أكثر صِبًا ورقّة من الخط المطبوع، وقد رقدت الحروف برشاقة في موضعها المائل داخل الصندوق، كل واحد منها كان مكتملًا بذاته، وكانت مترابطة في ترتيب وفقًا لقواعد طائفتها التي تنتمي لها انتماء الراهبات لطائفة ما، هكذا كان تعامل يديَّ مع الحروف مفعمًا بنكران الذات. الحنين الذي يوقظه صندوق القراءة فيَّ كيف أنه كان متوحدًا لدرجة كبيرة مع طفولتي، ما كنتُ أبحث عنه فيه كان في الحقيقة هو الطفولة كلها"

تبدو المدينة عند فالتر بنيامين، اشبه بكتاب حيث كان طوال حياته يتحدث عن الكتب وكانها رفيق لحياة يومية تطاردها الكوابيس والمخاطر.

لا يبدو كتاب " طفولة برلينية " مجرد سيرة مثقف يتذكر سنوات طفولته، بل هو نص أدبي يحفر في ذاكرة العلاقة بين المكان والزمان.

في الفصل القصير المعنون " كتب الصبيان " يقيم بنيامين علاقة وجدانية مع الكتب التي قرأها طفلاً فيقول: «كنت أحصل من مكتبة المدرسة على أكثر الكتب المحببة إليَّ "، ويكشف لنا عن طريقته في قراءة تلك الكتب: " في أثناء القراءة كنت أسد أذني، ألم يحدث، في يوم من الأيام، أن استمعت لحكاية بلا صوت؟". ويؤكد ان القراءة والكتابة : " هما الشيئان اللذان كانا يخصانني، فليس ثمَّ شيء مما سكن داخلي في سنواتي الأولى يثير فيَّ حنيناً أكبر من صندوق القراءة ".

من خلال صندوق القراءة استطاع الصبي الصغير ان يقرأ قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، والكثير من القصص والروايات، وكان يشعر وهو يمسك الكتاب بيده : " بجو احتفالي مثل شخص يضع قدمه على أرض جديدة، وبالفعل كانت أرضاً جديدة تلك التي تزحزحت فيها القرم والقاهرة، وبابل وبغداد، وألاسكا وطشقند، ودلفي وديترويت، لتصبح قريبة جداً من بعضها بعضاً مثل ميداليات علب السيجار الذهبية التي كنتُ أجمعها".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

يأخذنا صاحب اللاهوت العربي، المفكر الدكتور يوسف زيدان، في تطواف لاهث عبر زمنٍ يمتد لآلاف السنين؛ إلى بداية تكَوّن التراث الثقافي، والفكري، للحضارات القديمة، في مصر واليونان؛ وفي الجزيرة العربية، والهلال الخصيب (الشام والعراق)، التي ظهرت فيها دياناتها المتعددة، بحسب التراث الحضاري والثقافي، المطابق لوعي الناس في كل منطقة منها، قبل ظهور المسيحية بقرونٍ طويلة من الزمان. ذلك التراث الفكري، الذي شكل الأرضية (الأساس) أو البنية الثقافية التي سوف تبنى بموجبها، لاحقاً، جُلَّ المفاهيم، والبنى الثقافية، والفكرية؛ سواء ما يتعلق منها بالدين، ونظرته للعلاقة بين الإله (الله) والإنسان، أو ما يتعلق بالبنية الفكرية والثقافية، المُكَوِنة، لثقافة هذه الحضارة، أو تلك، والتي سوف تفرض إيقاعها بعد ذلك، على مُجمَل النشاط الفكري في المجتمع المعني؛ بل والعالم! سواء من ناحية النظر إلى الدين، أو السياسة، أو إلى العنف المرافق لهما وكذلك، بنية الدولة وأشكال الحكم فيها، وكيفية النظر إلى الآخر المختلف!

وهنا، أراد مُفكرينا الكبير، أن ينقلنا إلى جذر المشكلة، التي نشأت مع ظهور الديانة (الإبراهيمية) اليهودية، والمسيحية، والإسلام. تلك الديانة الرسالية أو (الرسولية) التي جاءت عبر رُسلٍ وأنبياء، يدعون إلى الله، وينشرون رسالته.. بعكس، ما شاع بين الناس، وتداولته، ألستنا، وكتاباتنا؛ على أنها ديانة أو ديانات (سماوية)، دون انتباه إلى أن أيَّ دينٍ، أياً كان هو بالضرورة سماويُ لغة واصطلاحاً! فالسماء في اللغة، أي من حيث المفهوم الأصلي للكلمة، تعني العلوّ. ومن هنا، وحسبما يقول العلامة اللغوي الشهير ابن منظور وغيره كثيرون من علماء العربية: فإن كل ما أظلَّك وعلاك هو سماء.. ويصل بنا إلى نتيجة فحواها؛ أن، الديانات أو (الديانة الإبراهيمية) هي من حيث جوهرها، ديانة واحدة، ظهرت بتجليات ثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام). وكان لكل ديانةٍ من هذه الديانات، شريعةٌ هي واجبة الاتباع، وأهلها هم فقط المؤمنون، وغيرهم غير مؤمنين. ومن هنا، تعمل الديانات الثلاثة، في النقش على صفحات بيضاء (الأطفال)، حيث يكون هذا النقش، مقبولاً في أذهان أهل الابتداء؛ وهي لا تزال في بياضها الناصع، لتضع (هذه الديانات) عليها، بصمةٌ، لن تَكُون إزالتها، بالأمر الهيِّن، عبر الزمن. على اعتبار أن بواطن المبتدئين كالشمع، تقبلُ كُلَّ نقش من دون أيّ نقاش!  جاء في التوراة: قد ميَّزتكم من الشُّعوبِ؛ لتكونوا لي.. (التوراة، سفر اللاويين). وجاء في الإنجيل: وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطاناً، أن يصيروا أبناء الله... والكلمة صار جسداً (إنجيل يوحنا)، وجاء في الإسلام: (كُنتُم خَيّرَ أُمَةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110). ومن هنا، نرى كيف أسست هذه الديانات الثلاث، لفكرة الإعلاء الموهوم للذات؛ وعدم قبول الآخر، وما تبع ذلك، من حوار (العنف) الملتهب، بين الديانات الثلاث، وحتى بين المذاهب، أو النزعات، ذات الصفة (الفكرية) الاجتهادية، داخل الدين الواحد... وكان بعدها، العنف، الذي سيفرض إيقاعه، عبر تاريخنا الممتد إلى يومنا هذا. من أجل إعلاء شأن دينٍ على دينٍ آخر.

يقول د. زيدان: الرؤية المنهجية التي انطلق منها..، تتلخص في المحاولة الدؤوب للتَجرُّد من الميول والاعتقادات الدينية والمذهبية، سعياً للوصول إلى الموضوعية اللازمة لتفسير الظواهر الدينية، واقتران التديّن بالعنف والتخلف عن (الإنسانية)..، فنحن دوماً نفكر عبر اللغة، المشبعة بالدلالات الدينية.. وهي عميقة في تراثنا وغائرة... ولذا، فمن العسير أن نصل إلى تلك الدرجة من التجرد والتجريد العقائدي اللازمين لأيّ عملية فَهْمٍ عميق للماضي وللحاضر أيضاً، خاصةً أننا، على المستوى الجمعي العام، أدْمنَّا الوجبات العقائدية الجاهزة التي تُقَّدم عندنا في الأزهر الشريف، وعند المسيحيين في الكليات الإكليريكية.. وكلها أصلاً معاقل ديانة. ولا أدري كيف يمكن لهؤلاء المشايخ أو أولئك القسوس، أن يقابلوا بموضوعية بين ديانةٍ يدينون بها، وديانةٍ يُدينونها مسبقاً.

ومن خلال العرض المكثف، ومتعدد الزوايا، الذي قدمه د. زيدان، نجد هناك، ثلاثة مراكز في العالم القديم، مصر واليونان، من جهة. والجزيرة العربية، ومنطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق) من جهةٍ أخرى. ففي مصر واليونان، كانت؛ الميثولوجيا (الأساطير) التي رَوَتْ، ما كانت عليه دياناتها القديمة، من حيث إيمانها بالتعددية، وبامتزاج البشر (بالآلهة) (الفرعون أبن الإله) والإنجاب من دون نُكاح حِسِّي (إيزيس تحبل من زوجها الميت).. ومثل ذلك، ما نجده في (الديانة) اليونانية القديمة، التي قَصَّت الإلياذة والأوديسة حكاياتها الملحمية الجامعة بين البشر والآلهة، وبين العمالقة وأنصاف الآلهة؛ حيث نرى كثيراً من آلهة جبل الأوليمب، خاصةً كبيرهم زيوس، يغرمون بنساءٍ من بني الإنسان، ويعاشرونهن فيلدنَ لهم (أنصاف الآلهة) مثل: سيزيف، هيراكليس، ديونيسيوس.. إذن، بعد خروج المسيحية، من مكان نشأتها الأول (فلسطين)، وجدت في كلٍ من ثقافة مصر واليونان، ودياناتها، ما يتوافق مع نظرتها المماثلة، لتمازج البشر (بالإله) حيث يسوع (المسيح) هو الأب (الرب) وهو، الأبن (أبن الله) وهو (الإنسان) الذي صُلب ومات من أجلنا، والذي عاد إلى الحياة، بعد ثلاثة أيام؛ ومن ثم عاد وصعد إلى السماء، مَرةً ثانية وجلس إلى جانب الرب (الله). ذلك التماثل، بين ديانات مصر واليونان القديمة، وما تبعه، من وحدة العقيدة (الأرثوذكسية) على مبدأ (الإيمان القويم)، لكن بعد الصراعات، والخلافات التي حفلت بها المجامع المسكونية، والتشدد (القبطي) في مناوئة مركز الإمبراطورية في القسطنطينية، بدأ التمايز يبدو واضحاً للعيان، بين مصر واليونان، التي لم تشهد تشدداً، كالذي حصل في مصر.

ولكن على العكس من ذاك النزوع الميثولوجي القديم، المصري واليوناني، لتألُّه الإنسان وتأنُّس الإله؛ كانت الديانات القديمة السابقة على المسيحية في الجزيرة العربية والهلال الخصيب، تُعلي من مرتبة الآلهة، وتعتبرهم مفارقين تماماً لعالم البشر..  واعتقدوا بوجود مساحة شاسعة بين الإله (الله) والإنسان.. وهي المنطقة التراثية، التي ينتمي إليها اللاهوت العربي، والتي ظهر في أهلها اللاهوت وعلم الكلام، معاً، في زمنين متصلين، بين مسيحيٍّ وإسلامي. وفي هذه المنطقة، دارت حمى الحرُمات الكنسية، المتضادة، بين أصحاب (الإيمان القويم) وخاصة الكنيسة القبطية، وبين آباء الكنائس، الذين نشأوا في الشام والعراق، والذين نُعِتوا بالهرطقة.

كان العنف، أحد السمات المشتركة بين هذه الديانات (الإبراهيمية) الثلاث؛ منذ بدايات ظهورها، على نحو ما فعلت اليهودية مثلاً، في حروب الرَّبِّ التي قادها خليفة النبي موسى (يهوشع، يوشع) بن نون، لإجلاء سكان فلسطين العرب (الكنعانيين) فأباد في حربه تلك، حسبما ذكرت التوراة عشرات الممالك. وهم ما زالوا، وحتى اليوم؛ يتفنَّنون في إخلاء فلسطين (أرض إسرائيل) من ساكنيها، الموجودين فيها (حسب اعتقادهم) بطريق الخطأ، والمخالف للأمر الإلهي؛ حيث وعدهم الله بها، وأنه سوف يُعينهم على إبادة أهلها، أو إجلائهم عنها، ليتحقَّق وعده لهم وعهده معهم، وقد وعد الله، (التوراتي) النبي إبراهيم، وانتقل الوعد إلى بنيه: لنسْلِك يا إبراهيم أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.

وفي الإسلام، ومن (سقيفة بني ساعدة) بدأ الصراع على خلافة النبي (ص) قبل أن يُدْفَنَ جثمانه الطاهر، بعد. وهنا يمكن القول: هل هناك من تفسير، في أن تنتهي حياة ثلاثة من الخلفاء الراشدين قتلاً، غير الصراع على السلطة! ولقد تابع، الخليفة الأول أبو بكر الصديق (ض) الحروب التي بدأها الرسول (ص) ضد المشركين، ومن ثم حروب (الردة)!

ولأن العقلية العربية التي نزل فيها القرآن، حسبما دلَّت عليها الشواهدُ، هي عقلية عملية (براغماتية) تُعنى بالواقع المعيش، فقد مَدَّهم القرآن (المدني) بنظام حياتيٍّ، ومن هنا، تحول (الدين) على أيدي المسلمين الأوائل، إلى رايةٍ يحاربون تحتها بغرض تأسيس الدولة، ومَدِّ حدودها لتشمل كل ما يمكن أن يكون داراً للدين الجديد الذي كان العربُ يترقبونه. فصارت جزيرة العرب في سنواتٍ قليلة، داراً للإسلام، وصار غيرها من أنحاء الأرض دار حَرْبٍ، حتى تُفتح.

ومن هذه الناحية، جاء الأمرُ الإلهي في النصف المدني من القرآن (فَإِذا انسَلَخَ الأشهُرُ الحُرُم فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُم) (التوبة: آية 5). ومن هذه الناحية أيضاً، جاء الحديثُ النبويُّ: أُمرتُ أن أُقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله.

ويمكن القول، إجمالاً، إن المسيحية قد عرفت أيضاً، من يوم انتشارها، طفرات عنف توالت وتطوَّرت حتى أدَّى الحال إلى انفجار أنهار الدم في أرض الله، بسبب الفهم المتناقض للديانة، وظهور اجتهادات متباينة لتعريف (الإيمان القويم) وهي اجتهادات متنازعة متضادة، لا تمتُ بصلة إلى ما دعا إليه المسيح من محبة. وقد أدرك الناسُ آنذاك، في غمرة هذه القتامة المسكونية، أن مشكلة العالم أساسها ديني.

وتأتي حادثة مقتل البطريرك (الملكاني) بروتيرويوس، الذي أُرسِل بقرار من الامبراطور؛ ليعتلي كرسي أسقفية الإسكندرية. والتي جرت في الوقت الذي كان البطريرك بروتيرويوس يستعد فيه للاحتفال بشعائر الأسبوع المقدس في الكاتدرائية، فهجم عليه الأسقف تيموثيوس ومعه بعض اتباعه من العوام، فاحتمى بروتيرويوس منهم في مكان المعمودية المقدس (عند المحراب) إلا أن ذلك لم يرحمه منهم، إذ قام البطرك (القبطي) تيموثيوس ومن معه، بالهجوم على بروتيرويوس وذبحه في قلب الكنيسة على مرأى ومسمع من الناس!

تأتي هذه الواقعة الدالة، على تأصُّل العنف في التاريخ الديني، ليس المسيحي فحسب، بل الإسلامي أيضاً! فهي تذكرنا بواقعة ذبح الجعل بن درهم تحت المنبر؛ وهو أحد أباء الكلام في الإسلام، والذين كان مصيرهم جميعاً، مثل مصيره.. وإن بطرق وأشكالٍ أخرى. والذي يحتاج أن نعرض له في مقال آخر.

في المقابل، كانت الديانات القديمة، التي سُميّت اعتباطاً، بعد ظهور المسيحية بالوثنية، كان كل دين منها يفسح مساحةً لغيره من الديانات (الوثنية) الأخرى، المختلفة عنه. ولم نعرف تاريخياً، أن هؤلاء الوثنيين تقاتلوا يوماً فيما بينهم، من أجل إعلاء ديانةٍ وثنيةٍ فوق ديانةٍ وثنيةٍ أخرى.

وفي الختام:

أراد الدكتور زيدان القول، بعد تلك المادة الدسمة، التي قدمها لنا في كتابه (الموسوعي)؛ أنه لم يكن يقصد، الغرق في المباحث الدينية (اللاهوتية/الكلامية)، وإنما كانت غايته من وراء ذلك، فَهْمَ ارتباط الدين بالسياسة، وبالعنف الذي لم يخل منه تاريخنا الطويل، اليهودي والمسيحي، والإسلامي، والذي لن يخلو منه يوماً.

إلى اللقاء...

***

سمير البكفاني - كاتب سوري

لمناسبة الأحتفال بمئويتها

تعدّ الشاعرة نازك الملائكة (بغداد 1923 - القاهرة 2007) اول من لفتت انتباه الشعراء العرب الى الجانب السيكولوجي من الشعر في كتابها (سايكولوجية الشعر ومقالات اخرى) الصادر في القاهرة (1979) الذي ركزت فيه على مسالتين: الأولى، ضروروة ان يوثّق الشاعر صلته باللغة وقوانينها.. وأن يحتويها ليغرف منها بلا انتهاء ليبدع فيها بالصور والأنغام بايقاع موسيقي. والثانية، توكيدها على ان يتمسك الشاعر بالقافية لأنها جزء مهم من موسيقى الشعر، وتعدّ تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي ملّح... لأن القافية، من وجهة نظرها الذكية، تُقَوِّي بصيرة الشاعر، وتفتح له الأبواب المغلقة الغامضة، وتأتيه بالأفكار، وتأخذه الى مجالات خصبة مفاجئة و مسارات خلابة تموج بالحياة. وتضيف بأن القافية وسيلة أمان واستقرار لمن يقرأ القصيدة، ووجودها يُشعر المتلقي بوجود نظام في ذهن الشاعر. وترى ان ترادف القافية يعطي احساسا بأن الشاعر يوقظ في المتلقي الحالة النفسية لما يعيشه هو.

لكنها كسرت القافية في اعمدة الشعر العربي.. والدافع كان سيكولوجيا خالصا لتحرر المتلقي من ايقاع رويتني يعزف على وتر انفعالي واحد، بنقله الى نفس الايقاع لكنه يعزف على اكثر من وتر.. وكان الحدث الذي اثار انفعالها سيكولوجيا ايضا، ففي العام 1947 ضرب مصر وباء الكوليرا. وكانت نازك تستمع الى احداث مفجعة وتعيش نفسيا وقع أرجل الخيل التى تجر عربات الموتى من ضحايا المرض فى الريف المصرى.

وفي اقل من ساعة، اكملت نازك قصيدتها التي كان لسيكولوجيا الفواجع جرأة كسر القافية لتحرر انفعالاتها.. وتنشد:

(سكَن الليل

أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ

فى عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ

صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

فى كل فؤادٍ غليانُ

فى الكوخِ الساكنِ أحزانُ

فى كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ

فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ

هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ..)

نازك.. اصيبت برهاب الخوف العصبي!

نشر الصحفي المعروف عبد المطلب محمود العبيدي منشورا في (24 الشهر الجاري)

اعلن فيه انه في عام ١٩٩١، زاره بمكتبه بجريدة (الجمهورية) الدكتور أحمد المختار مدير مستشفى المختار وأخبره أن الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة ترقد في مستشفاه لأنها " مصابة برهاب الخوف العصبي من جرّاء ما شهده العراق من عدوان التحالف الثلاثيني".. وانها وزوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة يريدان السفر الى القاهرة. وقد اتصل عبد المطلب بوزير الثقافة (حامد يوسف حمادي).. وزارها حمادي في المستشفى، وانتهى الأمر بان حضر الوزير وممثل عن الرئاسة للأشراف على نقلهما بسيارة رئاسية إلى عمّان، مع توجيه سفير العراق بالإسراع بتسهيل نقلهما إلى القاهرة، على أن يتولى ممثل العراق في الجامعة العربية (سمير نجم/ أبو زينب) متابعة الحالة الصحية للشاعرة والاهتمام بشؤونها وموافاة الوزارة بما يستجد من حالتها.

نازك.. كان والدها (صادق) قد اختار لها اسم نازك تيمناً بالثائرة السورية نازك العابد، التي قادت الثوار السوريين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في العام الذي ولدت فيه، وما درى أن ابنته هذه ستكون ايقونة الشعر العربي في القرن العشرين.

مجدا لك نازك..

نازك.. التي تمتعك وتبكيك بشعر كل ما فيه سيكولوجي خالص.. رومانسيه، حزن، يأس، وحدة، شكوى، همّ عراقي.. عربي.. انساني..

نازك.. ايقونة الشعر العربي التي احبت العراق واهله.. وماتت بعيدة عن وطن تغنت له وبه، يعيد لها الوطن زهوها.. في بغدادها وتقيم لها رئاسة الوزراء احتفالا يليق بعراق الشعر والشعراء.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

من يريد ان يقرأ كتاب "اللفياثان" لتوماس هوبز، سيضطر أن يواجهه لوحده " مثلما كتب مونتسكيو ذات يوم، هذه العبارة اتذكرها كلما اشاهد كتاب " اللفياثان " في احدى مكتبات المتنبي يشكو قلة المهتمين، فالبعض ينظر اليه سريعا، والبعض الآخر يجد في الاسم غرابة لايريد ان يشغل نفسه بها، وعندما اسأل الاصدقاء في من باعة الكتب عن احوال " " اللفياثان " يقول بانه محط اهتمام نخبة من القراء. عندما نتصفح صفحات كتاب " اللفياثان " نتذكر ما كتبه ارنست بلوخ عن الافكار المبهمة التي يعبر عنها هوبز وبدقة. من جانبي اعترف بانني كنت ولا ازال اجد صعوبة في الغوص بكتاب توماس هوبز، لكنني دائما ما اراجع النصيحة التي كتاب الروائي الانكليزي جورج اورويل وخلاصتها على قارئ تاريخ الفكر السياسي ان تكون لديه المقدرة على فهم هوبز اولا حتى يستطيع ادعاء المعرفة بالفلسفة السياسية. يصلر هيغل على وصف بانه " فيلسوف يتميز باصالة افكاره، وان الاحداث التي وقعت في عصره منحته فرصة للتفكير في المبادئ التي تقوم عليها الدولة والقانون. والواقع انه نجح في شق طريقه الى تصورات اصيلة تماما " فيما وصفه برتراند رسل بانه اشد الفلاسفة اثارة.

في الرابعة والخمسين من عمره وجد نفسه منفياً الى فرنسا، فالأحوال السياسية في البلاد لا تطمئن، والكنيسة والبرلمان يلاحقان كل من يطرح رأياً مخالفاً، كان توماس هوبز آنذاك يخطط لإصدار كتاب ضخم عن السلطة وعلاقتها بالناس بعنوان " اللفياثان "، وفي هذا الكتاب أراد أن يُشبه السلطة المطلقة بالتنين ذلك: " الحيوان الضخم الذي يرهبه الجميع، ولا يكاد يشبه أي مخلوق آخر على سطح الأرض "..في سيرته الذاتية التي كتبها بنفسه، يخبرنا توماس هوبز أن والدته التي وضعته في العاشر من حزيران عام 1588، وضعت معه توأماً آخر اسمه الخوف، وهو الذي رافقه طوال حياته التي امتدت لأكثر من تسعين عاماً.

كان والده قساً، اختفى من المدينة بعد مشاجرة حدثت بينه وبين أحد القساوسة، فضربه واضطر الى أن يغادر المدينة ولم يره أحد بعد ذلك، فقرر أحد أعمامه أن يتولى تربيته، فأدخله إحدى المدارس الدينية، إلا أن الصغير لم يجد رغبة في هذا النوع من التعليم، فانتقل بعد أن بلغ الخامسة عشرة من عمره الى أكسفورد ليدرس المنطق وعلم الطبيعة، لكنه أيضاً لم يجد في الفلسفة ومقولات أرسطو وأفلاطون أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن الدولة المدنية، وفلسفة الحكم والعلاقة بين الدين والسياسة يكتب في كتابه اللوياثان: " كانت الفلسفة الطبيعية التي تعلمها المدارس حلماً أكثر منها علماً، فضلاً عن أنها تصاغ في لغة ميتة لا معنى لها.. وأنا اعتقد أنه يندر أن تجد شيئاً أشد سخفاً، يمكن أن يقال في الفلسفة الطبيعية أكثر مما يسمى باسم ميتافيزيقا أرسطو، ولا شيء أشد نفوراً عن الحكومة أكثر مما قاله في كتابه السياسة، ولا أشد جهالة من القسط الأكبر من كتابه الأخلاق ". يقرر أن يغادر الجامعة ليعمل معلماً خاصاً لأحد أبناء كبار اللوردات الانكليز، وقد أتاح له عمله هذا أن يسافر مع عائلة اللورد الى الكثير من بلدان أوروبا، ويطلع على أحدث الكتابات الفلسفية، وأثناء إحدى سفرياته الى باريس وقع بين يديه كتاب " هندسة إقليدس "، فوجد نفسه لأول مرة أزاء علم دقيق أثار اهتمامه، حيث لم تكن لديه أية فكرة عن علم الرياضيات، فمناهج التعليم في انكلترا آنذاك كانت تعد الرياضيات بمثابة بدعة شيطانية، وقد ساعدته دراسته للرياضيات، على أن يقرر إن المعرفة قوة، وأن للفلسفة قيمة علمية، وإن الطبيعة والإنسان – لا الله – هما موضوعا البحث الفلسفي.

في العام 1634 يسافر الى إيطاليا حيث يلتقي بالعالم غاليليو غاليلي الذي أوحى اليه بفكرة تطبيق المنهج الهندسي على علم الأخلاق، أما في باريس التي وصل إليها بعد الانقلاب على الملك تشارلز الأول، وعاش فيها حوالي أحد عشر عاماً، حاول ان يدرس أسباب الثورة التي قامت في بلاده، وهناك ينضم الى مجموعة من المفكرين، حيث وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الفيلسوف رينيه ديكارت فيكتب نقداً عن كتابه " تأملات في الفلسفة الاولى "، ينكر فيه على ديكارت بعض أفكاره اللاهوتية، فقد كان هوبز مادياً ولم يكن يتصور الكون كله إلا مادة أو جسماً يتحرك، وعلى ذلك لم يقبل ثنائية ديكارت بين الروح والمادة.. في باريس أيضاً خاض معركة مع أحد الأساقفة حول موضوعة حرية الإرادة، وقد لخص هوبز هذه المعركة بأبيات من الشعر جاء فيها:

كانت المشكلة ولا تزال،

أنختار بإرادتنا أم بإردة الله،

وكانت مشكلة ناتجة عما تقدم،

أما هو فقد اتبع المدارس، أما أنا فاستخدمت عقلي.

في عام 1642 يصدر هوبز كتاباً صغيراً بعنوان الدولة أو المجتمع السياسي، يؤكد فيه تعارض حالة الطبيعة أو الفطرة مع الحالة الإنسانية، ونادى فيه بضرورة إعطاء السلطة السياسية الحق في تنظيم الأمور الدينية وعمل الكنيسة، وقد سبّب له هذا الكتاب عداء رجال الدين في انكلترا وفرنسا، الذين وجدوا فيه تعريضاً بسلطة البابا، عام 1651 تنتهي سنوات النفي ويعود هوبز الى انكلترا، ليتفرغ لإكمال مؤلفاته، يصدر له كتاب عن المادة يتضمن آراءه في الظواهر الطبيعية، وبعدها بثلاث سنوات يصدر كتاباً اخر بعنوان " في الإنسان " يدرس فيه سايكولوجية اللغة والعواطف، بعدها يصدر كتابه الاهم " اللفياثان أو التنين " الذي أثار حفيظة البرلمان الانكليزي والكنيسة بنفس الوقت، فصدر قرار يمنع هوبز من إصدار أي مؤلفات أخرى في الفلسفة أو السياسة، ليضطر في آخر أيام حياته الى العودة للاهتمام بالدراسات الأدبية، يترجم الى الانكليزية الإلياذة والأوديسة، وينشر سيرته الذاتية، ليتوفى في الرابع من كانون الثاني عام 1679، يطلق جون لوك لقب الفيلسوف المغامر على هوبز ويكتب:" لقد أبدى هوبز شجاعة ملحوظة في نشر أفكاره كان يعلم إنها ستثير ضده السلطات الكنسية والسياسية معاً.. والحق أنه لم يرتعد قط وهو يدخل معارك فكرية بالغة العنف والقوة، ولم يشعر بوهن وهو يكيل الضربات المتلاحقة للكنيسة ورجال الدين والفكر الأرسطي وأنصاره ".

شكل هوبز صداعاً مزمناً لمعاصريه الذين اطلقوا عليه لقب " وحش ما لمسبري " نسبة الى مسقط رأسه، ووصفه رجال الدين بانه " زعيم الملاحدة ورسول الكفر "، فيما اعتبره رجال السياسة مصدر إزعاج في البلاد لا حد له، والغريب ان الكنيسة والبرلمان اعتبراه سبباً في انتشار الطاعون عام 1665، وحريق لندن الكبير عام 1666، وكانت الناس تبحث عن سبب لهذه الكوارث، فقدم لهم رجال الكنيسة كبش الفداء إنه " هوبز الملحد " حيث أشاعت الكنيسة أن كتبه وما فيها من إلحاد وهرطقة هي سبب غضب الرب ونقمته، وقد اضطر البرلمان أن يشكّل لجنة لإعداد قائمة بالكتب الملحدة، وكان كتاب " اللفياثان " على رأس القائمة بل ذهب بعض النواب الى المطالبة بحرق الكتاب ومؤلفه لولا تدخل الملك الذي أنذر هوبز بالتوقف عن الكتابة في أي موضوع يثير حفيظة الكنيسة، وفي سيرته الذاتية نتعرف على السنوات الأخيرة من حياته التي حُرِم فيها من الكتابة فقد كان يستيقظ في السابعة صباحاً، حيث يمارس رياضته المفضلة المشي وخلالها يبدأ بمناقشة بعض الأفكار في ذهنه، ثم يذهب الى البيت ليدونها بشكل سري، وفي المساء يمارس رياضة صعود بعض التلال، ليعود بعدها يغلق عليه باب حجرته ويبدأ بالغناء بصوت عال، فقد كان يعتقد أن الغناء يفيد الرئتين ويؤدي الى إطالة العمر.

يعتبر كتاب " اللفياثان " من الكتب المؤسسة لنظرية فلسفة الدولة، ولعله الأكثر تأثيراً في السياسة بعد كتاب الأمير لمكيافيلي، وتقوم فكرة الكتاب على أن البشر أنشأوا تقاليد سياسية للحكم والدولة استناداً إلى قدراتهم ومخاوفهم وطبائعهم الخاصة، وليس بناءً على الغيب أو تعاليم الدين، ونجد هوبز يجعل الإنسان موضوعا أساسيا للقسم الأول من كتابه، فالإنسان: " في سعيه لأن يعيش في سلام ووحدة، وفي تطلعه وميله إلى السعادة فكّر في السلطة، ولكنها (السلطة) رغبة دائمة لا تهدأ، ولا تنتهي إلا بالموت؛ والسبب في ذلك أن الإنسان لا يستطيع ضمان القوة ووسائل العيش الجيد التي يملكها الآن دون أن يقتني المزيد منها، ومن هنا نتج أن الملوك الذين يملكون السلطة الأعظم يوجهون جهودهم نحو ضمانها في الداخل بواسطة القوانين، وفي الخارج بواسطة الحروب، وعندما يتم لهم ذلك تنشأ رغبة أخرى ". بعد ذلك يناقش هوبز مفهوم الدولة الذي يقسمه الى ثلاثة أنواع، " نظام ملكي"، أو " ديمقراطي " أو " فئوي " أي أرستقراطي، وهو يحدد الفرق بين هذه الأنظمة بقدرتها على تأمين السلام والأمن للشعب، وهو الهدف الذي أدى إلى إنشائها، ولما كانت أهواء البشر عموماً أقوى من عقولهم، ويشمل ذلك بطبيعة الحال الحكام، فإنهم سيرجِحون مصالحهم الخاصة على المصالح العامة إذا تعارضتا، والحل كما يرى هوبز، أن تكون مصالحهم الخاصة هي مصلحة الناس العامة.

ويؤكد هوبز أن جميع المصائب والكوارث التي تلاحق الإنسان، إنما تنشأ بسبب الحروب، وهو يحدد الحروب الأهلية بشكل خاص، لأن من هذه الحروب تنشأ المذابح، والعزلة، والافتقار الى كل شيء، لكن سبب الحرب ليس هو أن الناس يريدونها، بل لأن الناس تجهل أسباب الحرب وأسباب السلم أيضاً. فالحروب الأهلية تحول دون كل صناعة، وكل زراعة، وكل رفاهية، وكل علم، وكل أدب، وكل نشاط اجتماعي، بل انها تخلق ما هو أسوأ من هذا كله، الخوف المستمر من الموت العنيف. إن الحياة " متوحِدة وفقيرة وفظة وحمقاء وقصيرة " ولهذا ينبغي الخروج من هذه الحالة، لئلا يتم دمار الجنس البشري، والإنسان يملك إمكانية الخروج من هذا الخراب، إذا ما استطاع أن يضع بنوداً للسلام يتفق عليها مع الناس الآخرين، ويناقش هوبز موضوعة التنافس على الثروات التي يجد أنها الدافع إلى النزاع والعداوة والحرب، وهو يؤكد أن الناس المعجبين بحكمتهم يملكون استعداداً للطموح، والجهل بالأسباب، والتكوين الأصلي للحق والإنصاف والقانون والعدالة يجعل الإنسان مستعدًّا لأن يتخذ من العادة والمثل قاعدة لأفعاله، والجهل بالأسباب البعيدة يجعل الناس مستعدين لنسبة كل الأحداث إلى اسباب مباشرة وذرائعية، والجهل بالأسباب الطبيعية يجعل عند الإنسان استعداداً للسذاجة؛ فيصدق أشياء مستحيلة: " حين يكون المرء متأكداً من أن هناك أسباباً لكل الأشياء التي حدثت في السابق وستحدث فيما بعد يكون في حالة قلق دائم ".

وبناءً على طبيعة الإنسان وغرائزه ينشئ هوبز فهماً للحق والحرية وقانون الطبيعة، فالحق بمقتضى الطبيعة هو حرية الإنسان في أن يستخدم قوته وفق ما يشاء هو نفسه من أجل الحفاظ على طبيعته، وبعبارة أخرى الحفاظ على حياته، وبالتالي في أن يفعل كل ما يرى بحكمه وعقله أنه أفضل السبل لتحقيق ذلك. والحرية هي غياب المعوقات التي تمنع الإنسان من استخدام القوة طبقاً لما يمليه حكمه وعقله. وقانون الطبيعة هو مبدأ يتخذه العقل لمنع الإنسان من فعل ما هو مدمر لحياته، أو ما يقضي على وسائل الحفاظ عليها.

يعالج هوبز علاقة الحكومة المدنية بالكنيسة، وذلك لان كتاب " اللفياثان " وضع في ظل حروب أهلية سياسية ودينية معقدة، فالناس كما، يقول هوبز يجب أن يطيعوا قوة تضبطهم، فلا يمكن أن تترك مصالحهم وأعمالهم لتنظم فوضوي، وهكذا تتشكل الأمم حول التعهد بين الناس لمنح طاعتهم لشخص واحد هو الحاكم وليس النظام السياسي، او الكنيسة، لأجل أن يعيشوا بسلام !. ويعطي هوبز مفهوماً جديداً حول الطاعة الضرورية التي يجب أن يقدمها المواطن لبناء الدولة، وهو بهذا يقترب من ميكافيللي الذي ربط عجلة الدولة وازدهارها بما يقدمه لها المواطنون من طاعة وتنفيذ للقانون.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

هذا الكتاب كان في الأصل عنوان فيلم للمخرج السويسري جون لوك غودار، ثم تحول الى كتاب هو عبارة عن حوار طويل وشيِّق ومعقد بين الكاتب نيقولا ترونج والفيلسوف ألان باديو. الكتاب لا يخلو من الصعوبة والتعقيد الأسلوبي، خصوصاً لمن لم يعتد على اللغة الفلسفية الحديثة والتعامل مع الفكر التجريدي، ولكن ترجمته إلى العربية من قبل غادة الحلواني كانت جيدة وسلسة عموما وتشي بجهد كبير مبذول مع بعض الهنات الأسلوبية هنا وهناك.

لتفادي الاتهام بالترويج لفرنسا الدولة والمجتمع والتراث، سأبدأ من نهاية الكتاب، بفقرة توضح رأي باديو الصائب والذي أتبناه شخصيا بفرنسا وتاريخها بعيدا عن النظرة المانوية المادحة بالمطلق أو الذّامة بالمطلق المنتشرة بين صفوف النخبة العربية المثقفة المستقطبة غربيا خصوصا، كتب باديو: "أصدقائي الأجانب ما يزالون يحملون تقديراً لأسطورة فرنسا الرائعة التي تقف دائما على حافة الاختراعات الثورية، لكن، من المهم النظر إلى فرنسا على أنها أرض الثورات والرجعية العظيمة على السواء. أقول لهؤلاء الأصدقاء إنهم يبنون تاريخاً لفرنساً يتتالى فيه فلاسفة عصر التنوير والثورة الفرنسية وثورة حزيران 1848 وكومونة باريس 1871 والجبهة الشعبية والمقاومة والتحرير وأيار 1968. ولكن المشكلة أن هناك جانباً آخر من قصة فرنسا وهي ترميم 1815 (أعتقد أن المقصود هو عودة الملكية وعرش آل بوربون إلى حكم فرنسا بعد سقوط نابليون إثرَ هزيمته في حرب المئة يوم سنة 1815. ع.ل) ومسيرات فرساي، والاتحاد المقدس خلال الحرب العظيمة 1914، بيتان (رئيس الدولة الفرنسية بين 1940 و1944، وعميل الاحتلال الألماني النازي، حُكم عليه بالموت بتهمة الخيانة العظمى عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن ديغول خفف الحكم عليه ليكون بالسجن حتى مات في سجنه. ع.ل)، الحروب الكولونيالية الشنيعة... ساركوزي. إذْ، هناك قصتان /تاريخان لفرنسا وهما متضافرتان. حينما تشعل أي هستيريا ثورية إضراباً تتقابل مع الرجعية الوسواسية! ص 119 و120".

* ومن المقدمة الثانية والقصيرة التي كتبها باديو نفسه أقتبس قوله: "أدركت منذ زمن بعيد، أن الفيلسوف، وأعني بديهيا الفيلسوفة أيضا، يجب أن يكون عالِما بارعا وشاعرا هاويا وناشطا سياسيا، بل وعليه أن يقبل حقيقة أن حقل الفكر ليس محصناً أبدا امام انقضاضات الحب. العالِم والفنان والناشط والحبيب، هذه هي الأدوار التي تقتضيها الفلسفة من ممارسِها. لقد سميتها الشروط الأربعة للفلسفة/ ص 41".

* أعتقد أن الحب لا يمكن أن يصبح هدية تُمْنَح في غياب تام للمخاطرة، وبأن منهج موقع "متيك" (موقع أوروبي بهذا الاسم على الانترنيت لتسويق العلاقات الغرامية دون مخاطرة وبأمان تام. ع.ل)، يذكرني بالدعاية الترويجية التي قام بها الجيش الأميركي للقنبلة الذكية وللحروب التي محصلتها صفر من الموتى، بعبارة "صفر قتلى". ولو أنك تدربت على جيدا على الحب متبعاً قوانين الأمان المعاصرة – وفق منهج موقع متيك- فلن تجد صعوبة في نبذ الشخص الذي تجده غير مناسب لك، ولكن ماذا لو أنه يعاني؟ هذا شأنه، أليس كذلك؟ فهو لا ينتمي للحداثة "..." إنه الأسلوب ذاته، "صفر قتلى" الذي ينطبق على الجيوش الغربية فقط، ذلك أن القنابل التي تسقط تقتل الكثيرين من الناس الذين يقع عليهم اللوم لأنهم يعيشون تحتها، وهؤلاء القتلى والجرحى هم فلسطينيون وأفغان ... وهم أيضا لا ينتمون إلى الحداثة/ ص 46 و47 و48"!

* لا اعتقد أنك تستطيع أن تخلط الحب بالسياسة. في رأيي "سياسة الحب" تعبير بلا معنى. وحين تبدأ بالقول "أحبوا بعضكم" قد يؤدي ذلك إلى نوع من الأخلاق، ولكنه لن يؤدي إلى أي نوع من السياسة. في السياسة هناك أفراد لا يستطيع أحد أن يحبهم. هذا أمر لا يمكن إنكاره. لا يستطيع أي شخص أن يتوقع منا أن نحبهم. "..." لا بد من فصل الحب فصلاً تاماً عن السياسة باعتباره مغامرة فردية في السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف. الحب مثل أي إجراء يبحث عن الحقيقة، هو أساسا إيثاري: تكمن قيمته في ذاته وحدها وتتجاوز المصالح الآنية للطرفين. عن معنى كلمة "شيوعية"، لا تتعلق مباشرة بالحب، ومع ذلك تجلب هذه الكلمة احتمالات جديدة للحب. ص 99".

مقولات باديوية:

* لا يمكن اختصار الحب في اللقاء الأول لأن الحب هو عملية بناء.

* لا أقول إن عالَم العائلة ليس جزءا من الحب - أنا أعتقد أنه كذلك - بل أقول لا يمكن اختصار الحب إلى هذا العالم. إن ميلاد طفل هو جزء من الحب ولكنه ليس تحققاً للحب.

* الحب، وخاصة مع استمراريته، يضم كل الأوجه الإيجابية للصداقة. ولكنه يرتبط بكلية وجود الآخر، ويصبح استسلام الجسد هو الرمز المادي على تلك الكلية.

* الحب يعطينا دليلا جديدا على أننا نستطيع أن نواجه العالَم ونختبره بوعي آخر غير الوعي المنعزل. ولهذا نحب الحب، كما يقول سان أوغسطين، ونحب أن نُحَب، لكننا أيضا نحب أن يحبنا الآخر. وذلك لأننا نحب الحقائق ببساطة. وهذا ما يعطي الفلسفة معناها: الناس يحبون الحقيقة عندما لا يدركون هذا.

* الحب هو الرغبة الدائمة في الدوام، وهو رغبة في دوام ذلك المجهول. هو إعادة ابتكار الحياة.

* إن تجاوز المستحيل يعني بداية الحب.

***

علاء اللامي

اطلعتُ بشغف عالٍ على إصدار د. محمد الربيعي "التعليم العالي والبحث العلمي، قضايا وتحديات وحلول"  الصادر من دار لندن للطباعة والنشر، وبعد أن أكملت قراءة الكتاب وجدتُ نفسي ملزماً بالكتابة عنه لما يحويه من ابداع ورؤية علمية لواقع التعليم العالي في العراق، وما أتمناه أن يجد له صدى في توجهات وزارة التعليم العالي لما فيه من تشخيص دقيق لمعظم الإشكاليات في قطاع التعليم مقرونة بالحلول الموضوعية الممكنة. يحتوي الكتاب على (41) فصلاً ، مكرسة إلى إصلاح التعليم العالي، ومتناغمة مع مواضيع أُخرى تصب بذات الإتجاه. في تقديري الاسترشاد بالثروة العلمية التي تضمنها الكتاب وإعتباره  دليلاً حيوياً لوزارة التعليم العالي بإتخاذه من الوسائل المهمة التي ستسهم في رفع جودة التعليم العالي وتجاوز الإشكاليات التي يعاني منها هذا القطاع. وبالتالي سيكون دافعاً قوياً لإنعاش البيئة العلمية والثقافية وتطوير البنية التحتية للمؤسسات التعليمية الحكومية والأهلية.

المجتمعات الحديثة بحاجة ماسة إلى وسائل معرفية متنوعة وفاعلة، لخوض غمار التقدم والتطور والتحدي في كل مجالات الحياة العلمية والثقافية والإجتماعية. وأداة الحل الحقيقي بيد قطاع التعليم العالي باعتباره الأساس لرقي المجتمعات الحديثة إذا تم تفعيله برؤية متناغمة مع التطورات العصرية المعولمة التي عمادها الجودة العالية في كل مفاصل التعليم التي تتوافق مع مسارات وضوابط وأنظمة التعليم العالي العالمية.3204 محمد الربيعي

مبادرة د. محمد الربيعي، ذو العقلية المتنورة والقامة الكبيرة في المجالات العلمية الذي جرى تكريمه حديثاً في قاعة كلية الأطباء الملكية الايرلندية بتاريخ 07/03/2023، بمنحه دكتوراه فخرية (honorary doctorate) مقرونة بشهادة (DSc) من قبل الجامعة الوطنية الايرلندية (National University of Ireland)، تكريما لإنجازاته العلمية وخدماته للمجتمع العلمي العالمي. وبخبرته الواسعة في الجامعات العالمية تمكن وضع اصبعه على الجرح العراقي الكامن في إشكاليات التعليم العالي في العراق، التي هي إشكاليات المجتمع العراقي التي عايشها عن قرب أثناء فترة تواجده في العراق ودراسته الميدانية لواقع الجامعات العراقية ومعاناتها من قضايا وتحديات كثيرة أبرزها عدم الإلتزام بمعايير الجودة. وبذلك انصب تفكيره وحرصه الشديد على كيفية نقل الخبرة والأفكار المتطورة إلى الميدان الأكاديمي العراقي.

قدم د. الربيعي لمحة تاريخية عن مراحل تطور التعليم العالي في العراق منذُ عشرينيات القرن الماضي وصولاً إلى الوضع الحالي، مشيراً إلى مراحل تطوره في كل مناطق العراق بما فيها اقليم كردستان، موضحاً شروط تأسيس المؤسسات العلمية بشقيها الحكومي والأهلي، ومدى الإلتزام بالضوابط ومعايير الجودة. وسلط الضوء على الثروة الحقيقة في العراق التي قوامها "الإنسان" وتأهيله لكي يأخذ دوره في عملية البناء والتطوير من خلال الخبرات المكتسبة والمشاركة في البرامج وانشطة الدورات التدريبية التي تضمن الأداء المتميز للأُستاذ في مجال تخصصه، باعتباره الركن الإساسي الذي تقوم عليه العملية التعليمية بشقيها التعلم والتعليم، بما يفيد الطلاب باتباع اساليب تصب في ترسيخ ثقافة التغيير الإيجابي داخل المؤسسة التعليمية لكي ترتقي لمستويات الجامعات العالمية.

وأكد على مدى أهمية المناهج الدراسية العلمية في مواجهة التحديات، وأعطى حيزاً كبيراً لأهمية البحث العلمي الرصين من منطلق الحفاظ على سمعة ومستوى الجامعات العراقية، ومن دافع الحرص على مجالات التقدم العلمي والتقني في العراق، باتباع أنظمة مهنية للنشر والمراقبة للمجلات العلمية والأكاديمية المحلية المتخصصة لنشر البحوث، منتقداً إصدارالعدد الهائل للمجلات الذي وصل إلى (245) مجلة، باعتبار أن اصدار المجلات البحثية ليس من اختصاص الكليات ولا الجامعات، وبهذه الحالة فهي تسهم في نشر الفساد العلمي وتحرف الاهتمام بالنشر في المجلات العلمية العالمية الرصينة وتزيد من تشتت جهود الباحثين لصعوبة الاطلاع على أعمالهم.

ودعا إلى ضرورة استخدام التقنيات العصرية لإحياء المعرفة من خلال الإهتمام بالقراءة الذاتية من مصادر متنوعة. والإهتمام بحقل الترجمة من اللغات الأُخرى وتوسيع آفاقه بما يخدم مجالات البحث العلمي بعيداً عن أساليب الخداع والسرقة الفكرية. وأشار إلى أهمية تعلم اللغة الإنكليزية لما لها من أهمية جوهرية في مسألة التواصل مع الثقافات العالمية وتحسين التعاون وتعزيز العلاقات مع المحيط المعولم في المجالات التربوية والعلمية والتكنولوجية.

شخص د. الربيعي معظم العلل التي يعاني منها قطاع التعليم في العراق، والتشخيص نصف العلاج، واقترح الكثير من الحلول والمعالجات الموضوعية الممكنة والمتاحة لتحسين نوعية التعليم والرقي به، إذا توفرت الإرادة السياسية النزيهة في تجاوز المعوقات التي أصبحت من الأمور المتداولة في حياتنا اليومية، ليس فقط في مجال التعليم العالي وإنما في كل المؤسسات التعليمية. تضمن الكتاب معالجات للإشكاليات المتعددة، أبرزها التي تتعلق بمدى الإستقرار السياسي، وفاعلية الإدارة التعليمية في صياغة المسارات الصحيحة للعملية التعليمية ورسم الآفاق المستقبلية.

وتحدث عن أهمية الحريات الأكاديمية ومقوماتها الأساسية، في التطبيق العملي، لحرية التفكير التحليلي – النقدي للكادر التدريسي، والمسؤولية الأخلاقية الملقاة على الجامعات  وعقولها المتخصصة في مجال تطوير المؤسسات التعليمية في عصر الثورة المعلوماتية. وأهمية الحقوق الأساسية للطلبة والتدريسين في ظل بروز الدول الديمقراطية التي تفسح المجال لنشر الأفكار والحريات الأكاديمية التي تصب في فائدة المجتمع وقطاعاته المختلفة.

عالج د. الربيعي بعض الآفات الإجتماعية كالتطرف الديني والعنف والفقر والجهل والهجرة والبطالة التي يعاني منها شباب المجتمع العراقي والمجتمعات العربية. مؤكداً بأن إدارة المؤسسات التعليمية باسلوب علمي مدروس حسب حاجة سوق العمل سيكون له الدور الأفضل في برمجة الخطط الكفيلة بتحقيق التوازن المجتمعي وتنمية الموارد البشرية بما ينسجم والتوجه الصحيح للجامعات التي تشكل أهم أدوات التطوير والتحديث في المجتمع، باعتمادها على معايير الجودة، وبمدى الاستفادة من التجارب الحية لبعض البلدان على الصعيد الإقليمي والدولي.

حدد د. الربيعي مجموعة من الضوابط لإصلاح التعليم الأهلي في العراق وكيفية إنقاذه من الحالة المتأزمة التي يمر بها اليوم، من خلال الإجراءات والبرامج التي اقترحها لتجاوز مخاطر تدهور قيمة الشهادات الممنوحة من هذه المؤسسات التعليمية. في الحقيقة هذه المقترحات هي بمثابة دليل عمل، وعلى المؤسسات المعنية أن تأخذ به كأساس لعملية الإصلاح لهذا القطاع الحيوي من التعليم العالي، مقرون بخطوات عملية لتنظيم مسار التعليم العالي الأهلي بحيث يتواءم مع توجهات التعليم العالي الحكومي.

من خلال الإطلاع على نوعية المقالات المنشورة في هذا الكتاب وما ينشره د. محمد الربيعي من مقالات متواصلة على صفحات التواصل الإجتماعي ندرك مدى حرصه على تطوير مؤسسات التعليم في العراق. ومن يعرفه عن قرب يدرك مساحة الحلم الذي يراوده، فيما لو اتيحت له إدارة هذا القطاع الهام الذي يشكل عصب الحياة، بأن يرى في العراق مجتمعاً ديمقراطياً تسوده العدالة الطبيعية ويتصف بالعقلانية والتنوع والإختلاف والمساواة على اساس المواطنة وتحكمه جدلية الحرية والقانون.

هذه الأحلام ستجد لها واقعاً حقيقياً ملموساً في يوم من الأيام، عندما تتوفر النوايا الحسنة والبيئة المؤمنة بنهضة العراق وتطوره، ستجد هناك برنامجاً متكاملاً راقياً، يجسد مسيرة التغيير والتطوير الأكاديمي والإداري، لتجاوز المعوقات والتحديات التي يعاني منها مجتمعنا العراقي، وسوف يجعل جامعاتنا العراقية مميزة باستقلالية عالية ومرتبطة إرتباطاً وثيقاً بمتطلبات المجتمع، وفي مستويات رفيعة الجودة، وستكون في مقدمة التصنيفات العالمية في مجالات البحث العلمي.

***

د. عبدالحسين صالح الطائي - أكاديمي عراقي مقيم في لندن

نقد النص، هو الجزء الأول من "النص والحقيقة" للناقد الأستاذ علي حرب. كانت مقدمة الكتاب مُقَدّمِةً تعريفية غنية وإستعراض "مُحكَمٍ" للقواعد والأدوات المفهومية للباحث "الناقد".

قبل أن أدخل لعالم علي حرب "المنهجي"، لا بُدَ من إيضاح ما يمكن أن نُسميه ب"الثوابت" عنده:

1ـ لا يعتصم علي حرب بأفكاره ومقولاته (لا مجال لأن أعتصم بكتابي أو أن أتمسَكَ بأفكاري ومقولاتي بوصفها حقائق ثابتة أو أصولاً مقررة)، فكتابه أصبح مُلكاً للقُراء الذين سيجعلوه مداراً للنقاش والتعليق.

2ـ مُمارسة الحرية في البحث بعيداً عن الإكراهات المادية والضغوط المعنوية، أمرٌ ثابتُ يقف عنده حرب، والحرية عنده، هي إمكانية التفكير في كل أمر بصورة نقدية تُفَكِكُ ما يستوطن عقل المرء من البُنى والنماذج التي تَحول دون فهم الأحداث.

لندخل الآن لعالم الناقد المنهجي:

يعترف علي حرب في البداية بأن كتابه لا يُعدُ مؤلفاً بالمعنى التقليدي للكلمة، لأنه لا يعالج موضوعةً مألوفة ولا يتألف من فصول مترابطة، وإنما مقالات مختلفة كإختلاف الإسلامي محمد عمارة عن الماركسي صادق العظم. فهل من مُسَوغٍ للجمع إذن؟ نعم، فَوراء الفوضى البادية نظام جامع شامل.

يمكن أن أُلَخِصَ العِدة المفهومية لحرب بما يلي:

1ـ (لا ينبغي الوثوق بالكلام ثقة مفرطة، فالخطاب حجاب)، فخطاب العقل غير برىء، نعم هو مُمثل، لكن للتمثيل حقيقة ودور لا يُستهان بهما، والحجب يكون "مضاعفاً" عند النص، والأمثلة عديدة: الخطاب الإلهي، الخطاب الماركسي، خطاب الحقيقة نفسه. لنتوسع قليلاً في الخطاب الإلهي:

(مثال ذلك الخطاب الإلهي، أي القول بأن الله هو الحكم، فإن مثل هذا القول يحجب أولاً طبيعة السلطة أي ناسوتيتها. ويحجب ثانياً رغبة القائل به في ممارسة سلطته على من يتوجه إليهم بالخطاب. ويحجب ثالثاً ذاته وحَجبه، أي كون النص نفسه يمارس سلطته على السامع أو القارىء. وهذا شأن الدعاة وذوي العقائد).

2ـ النصوص سواءٌ عند الناقد (لا يهم إختلاف النصوص وتباعدها، ما دامت المسألة تتعلق بالإشتغال على النص بغية العلم به. بل إنه من المُستحسن أن تتنوع الأمثلة وتختلف الشواهد).

3ـ للنص كينونته الخاصة، فننظر له دون أن نُحيله الى مؤلفه ولا الى الواقع الخارجي.

4ـ النقد هو إنتقال من "نص الحقيقة" الى "حقيقة النص"، ولا مجال للحديث عن الخطأ والصواب في أي نصٍ من النصوص (فالتخطئة أو التصويب يصحان إذا كنا نتعامل مع النص بوصفه يعكس أو يتطابق مع حقيقة ذهنية أو خارجية قائمة بمعزل عنه .. أما إذا كان النص يخلق حقيقته ويمتلك وقائعيته، فعلينا أن نتعامل معه كما نتعامل مع الحدث، أي نحاول إستكشاف أبعاده أو رصد إحتمالاته، نعالجه ونسعى الى التحرر من وطأته أو نفكر بإستثماره وتوظيفه)، لكن، هل يقول النص الحقيقة؟ (أن تكون للنص حقيقته، معناه أن النص لا ينص على الحقيقة ... النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة).

5ـ يجب الإلتفات الى ما يخفيه النص، فلا نكتفي بما يُصَرح به، بل نعمل على إستنطاقه وتحليله وتفكيكه.

وقد ضرب حرب مثالاً عن فوكو وإبن عربي:

فقد كشف فوكو عن "اللاعقلانية" الثاوية في الخطاب الديكارتي، وتعامل حرب مع نصوص إبن عربي، فكشف عن عقلانية مركبة واسعة جداً.

6ـ تكمن قوة النص في حجبه ومخاتلته، لا في إفصاحه وبيانه.

7ـ القراءة التي تقول ما يريد المؤلف قوله، هي قراءة لا مبرر لها أصلاً.

8ـ مهمة القارىء الناقد ان لا يؤخذ بما يقوله النص، بل يجب أن يتحرر من النص ويقرأ ما لا يقوله النص، إنطلاقاً مما يقوله النص نفسه وبسبب ما يقوله.

9ـ يُسفر نقد الحقيقة عن وجه السفسطة في خطاب الحقيقة.

وهذا ما قاد حرب لطرح السؤال (هل هذا ضرب من السفسطة كما يحلو للبعض أن يرى في النقد الذي يمارسه المشتغلون على النصوص؟) فيجيب حرب:

(إن نقد الحقيقة لا يعني تَبَني الموقف السوفسطائي، وإنما يعني أن اليقين لا يمكن أن يكون إلا مغلقاً، ولهذا فهو يُؤول في المنتهى الى الدوغمائية .. وفضلاً عن ذلك، فالدوغمائية والوثوقية واليقينية، كل هذه ليست نقيض الريبية والسفسطة، إنها سفسطة مضاعفة). والسؤال الذي يُطرح على علي حرب الآن:

كيف تكون "الوثوقية واليقينية" سفسطة مضاعفة؟ الجواب (ذلك أن خطاب اليقين والوثوق والإحكام يُموه الحقائق بقدر ما يحجب حقيقته، أي آلياته في التمويه والتضليل). وعليه فالذين إدّعوا أنهم يعلمون بالأمور علم اليقين، لم يفعلوا سوى أن مارسوا "سفسطة مُغَلفَة".

لكن، هل ينجو "خطاب النقد" هذا الذي يتبناه حرب من النقد نفسه؟ يبقى هذا السؤال قائماً بنظر حرب، فالكلام لا ينتهي أساساً، ولأن النقد سيستدعي النقد ونقد النقد الى ما لانهاية.

ولا بُد من تثبيت "حقيقة" مهمة ذكرها حرب عن النقد الذي يمارسه، فالنقد الذي يتبناه ويستخدمه ليس "نقضاً"، بل هو محاولة "إستكشاف" للنصوص مبني على الإعتراف بحقيقتها، ذكر حرب ذلك في سياق المثال النقدي الذي تعرض فيه للغزالي خاصة، وللخطاب الكلامي عامةً.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

..................

يُنظَر: علي حرب: النص والحقيقة 1 / نقد النص، المركز الثقافي العربي، المغرب الدار البيضاء الطبعة الرابعة 2005 من ص5 الى ص25

يلاحظ الدارس لتاريخ الإعلام الثوري الجزائري ندرة في الشهادات والمعلومات، وفي ميدان التأريخ للإعلام أثناء ثورة التحرير المجيدة يبرز اسم المناضل والمجاهد الفذ الأستاذ عبد القادر نور؛ أول رئيس تحرير للإذاعة والتلفزيون الجزائري بعد الاستقلال، صاحب كتاب«شاهد على ميلاد صوت الجزائر- ذكريات وحقائق- »، وهو الكتاب الذي ينطبق عليه اسم«شهادة بطل من أبطال الجزائر على ميلاد صوت الجزائر»، حيث يعتبر هذا الكتاب شهادة توثيقية دقيقة وثمينة على ميلاد صوت الجزائر، لا يمكن أن يستغني عنها كل مهتم بتاريخ الإعلام أثناء ثورتنا المجيدة ضد الاستدمار الفرنسي.

وقبل أن أروز بين دفتي هذا الكتاب القيم الذي يعد واحداً من أهم الكتب التي أبرزت الدور الكبير الذي قام به الإعلام في التوعية وبث الروح الحماسية أثناء ثورة التحرير المظفرة، تجدر الإشارة إلى أن المناضل والمجاهد الفذ الأستاذ عبد القادر نور ولد بقرية الشرفة ببلدية أولاد عدي لقبالة بولاية المسيلة، وتعلم اللغة العربية على يد الشيخ محمد الطاهر نور، ثم التحق بمعهد العلاّمة عبد الحميد بن باديس سنة: 1950م، ونال شهادة المعهد بتفوق سنة: 1954م، وقد بدأ في النضال الثوري مع جبهة التحرير الوطني وهو ما يزال طالباً، والتحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ونال شهادة الليسانس في العلوم العربية والإسلامية، وهو من أبرز مؤسسي أول رابطة للطلاب الجزائريين بالقاهرة سنة: 1956م، وقد تولى منصب الأمين العام لهذه الرابطة، وشارك في العديد من المؤتمرات الطلابية والدولية باسم جبهة التحرير الوطني، وشارك بشكل فعال في الإعلام المسموع أثناء ثورة التحرير، انطلاقاً من ركن المغرب العربي في سنة: 1956م، وانتهاء ببرنامج صوت الجمهورية الجزائرية بصوت العرب بالقاهرة، وبعد توقف صوت الجزائر بالقاهرة عاد إلى الجزائر والتحق بالإذاعة بدعوة من جبهة التحرير الوطني، وقد شارك في تحريرها من إدارة الاستعمار الفرنسي في: 28أكتوبر1962م، كما ترأس أول لجنة لتقييم البرامج القديمة، إضافة إلى ترؤسه للجنة البرامج لاتحاد إذاعات الدول العربية، وهو عضو مؤسس لإذاعة الدول الإسلامية، وعضو في مجلس إدارتها بجدة بالمملكة العربية السعودية) 1 (.

لقد خاض الأستاذ عبد القادر نور غمار الوقائع والأحداث التي يتحدث عنها، حيث إنه ترعرع في كنف النضال والثورة وعرف مختلف التحولات، عن دخوله للإذاعة أول مرة يقول في حوار مع الأستاذ زبير حجايجي«...بعد دراستي وتخرجي من معهد عبد الحميد بن باديس من قسنطينة سافرت إلى القاهرة أين أكملت الدراسة بإمكانياتي الخاصة، حيث ذهبت مغامراً ومتسللاً قبيل انطلاق الثورة في عام: 1954م، حيث اندلعت الثورة وأنا في الطريق إلى القاهرة، ولم يكن معي زاد أو مال سوى ما يكفيني لمدة أسبوع على أكثر تقدير، وعندما سمعت أن الثورة اندلعت لاح الأمل من جديد واعتقدت أني في الطريق السليم، وعندما وصلت حينها القاهرة، استقبلت من طرف محمد بوخروبة (هواري بومدين فيما بعد) ثم اتصلت بعدها بالأخ أحمد بن بلة وكلفني بإلحاق الطلبة الجزائريين بجبهة التحرير الوطني، وبهذا التكليف لم أتصور وأنا ذاهب في تلك الظروف الصعبة أن أجد نفسي مسؤولاً، وهذه من فضائل المولى عز وجل، فتم في البداية لهذا الغرض تأسيس رابطة الطلبة الجزائريين في1956م، حيث قمنا من خلالها بدور فعال في التحاق الطلبة بالثورة كنشاط ميداني أول، أما النشاط الثاني والمتعلق بالإعلام فقد بدأنا بالاتصال بالجرائد والإذاعات العربية حينها، وكان لي أول حديث إذاعي سنة: 1956م، ومناسبته أن أخي الذي كان في فرنسا أرسل لي رسالة يقول فيها (وقع لنا خلاف بين مصاليين وصل حد الاقتتال، فأرجو أن تقدموا لنا حديثاً يبين من قام بالثورة)، عندئذ أدليت بحديث إذاعي يبرز أن جبهة التحرير هي الوحيدة التي قامت بالثورة وهي التي فصلت في الأمر) .

...كنت طالباً وجاءتني برقية للدخول إلى الجزائر ومنها الانضمام إلى الإذاعة...فكرت في الأمر وسلم لي البرقية للدخول للإذاعة السيد الرئيس علي كافي، وقبلها أوقفت برنامج صوت الجزائر في أوت1956م، وقد تساءلت أيامها ماذا سأجد في الإذاعة بعد دخولها؟وماذا سيكون مصير من يعمل فيها؟وفصلت في الموضوع آنذاك لسببين اثنين: الأول قطع حبل التواصل بين الفرنسيين مع الإذاعة وتحويلها إلى وجهة وطنية، وثانيا تحويل اتجاهها إلى الوطنية الخالصة، على الرغم من أنني نصحت من طرف حربي وزميل آخر بأنني سأتعب، ونصحوني بالبقاء في وزارة الخارجية، وبعد ثمانية أيام التحقت بالإذاعة وأنا أدرك جيداً أني مقدم على عمل خطير وصعب ») 2 (.

في كتاب: «شاهد على ميلاد صوت الجزائر- ذكريات وحقائق- » يقدم الأستاذ عبد القادر نور نظرة شاملة على مختلف المراكز التي استقرت بها الإذاعة الجزائرية، ويسلط الأضواء على الأركان الإذاعية الموزعة على خمسة عشر مركزاً من طنجة إلى بغداد، فالهدف الرئيس الذي يهدف إليه الأستاذ عبد القادر نور من وراء تأليف هذا الكتاب هو التذكير بما قدمه إخواننا العرب من تضحيات جسام في سبيل استقلال الجزائر، ومواقفهم البطولية التي وقفوها في وجه الاستدمار الفرنسي أثناء ثورة التحرير المجيدة، كما يتطرق إلى مسيرة معظم الشخصيات الثورية التي عملت في هذه المراكز وصولاً إلى الإذاعة السرية.

والحق أن من يتابع نشاطات وجهود المجاهد والمناضل الفذ الأستاذ عبد القادر نور يدرك بأن الرجل لم يأل جهداً منذ سنوات في التنويه والإشادة بالدور الكبير الذي أداه الإعلام أثناء ثورة التحرير المظفرة، ففي هذا الكتاب (شاهد على ميلاد صوت الجزائر- ذكريات وحقائق-) يقدم الكثير من الصور المعبرة والصادقة عن بطولات وتضحيات الشعب الجزائري، وعن الجهود الكبيرة التي بذلت من خلال الإذاعة السرية، وعبر الإذاعات الرسمية للدول العربية، فقد كتب الأستاذ عبد القادر نور هذه الصفحات ليبين الكثير من الحقائق المتصلة بالإعلام الثوري، وقد دعم كتابه بمادة تاريخية ثرية بالمعلومات الدقيقة التي لم يسبق أن اطلع عليها الكثير من الباحثين والدارسين كما نلفي مجموعة من الصور والوثائق التي تنير دروب المتابعين لتاريخ الإعلام الثوري.

ومن جانب آخر فالكتاب يقدم نظرة وافية عن الدور الذي أداه أبطال الجزائر في ميدان معركة الإعلام في مواجهة افتراءات الاستدمار الفرنسي، فهو يكتسي أهمية بالغة، ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الاعتناء بالكتابة عن ميلاد صوت الجزائر لم يظهر إلا في السنوات الأخيرة هذا من جانب، ومن جهة أخرى فالوثائق والمراجع التي يتم الاعتماد عليها نادرة، والإعلام الثوري الجزائري ما يزال يستحق الكثير من الأبحاث والدراسات التي تميط اللثام عن دوره ومنجزاته الكبيرة.

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى بعض الدراسات التي نشرت عن الإذاعة الجزائرية:

1- دراسة ترجمها شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور العلاّمة أبو القاسم سعد الله، موسومة ب«حرب الكلمات الجزائرية- البث الإذاعي أثناء الثورة1954- 1962م»، كتب هذه الدراسة روبرت.ج.بوكملر من جامعة فرجينيا، قسم وودرو ويلسون للدراسات الحكومية والشؤون الخارجية، وقد نشرها الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه«مجادلة الآخر»، منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط: 01، 1427ه/2006م، ص: 81- 114.

2- دراسة للإعلامي الكبير أحمد سعيد معنونة ب«عن الجزائر والثورة: موجز في الكتابات المصرية المسموعة والمقروءة- »، منشورة في العدد: 03من مجلة الكتاب؛ مجلة متخصصة تصدر عن المكتبة الوطنية الجزائرية، 2007م، ص: 12- 26.

3- دراسة صدرت تحت عنوان: «دور الإعلام في معركة التحرير»، كتبها الأستاذ الأمين بشيشي؛ المدير العام للإذاعة الوطنية سابقاً، نُشرت هذه الدراسة في العدد: 104 من مجلة الثقافة الجزائرية، مجلة تصدرها وزارة الثقافة، الجزائر، السنة التاسعة عشرة، سبتمبر- أكتوبر1994م، ص: 53- 94.

ومن بين الكتب التي رصدت هذا الموضوع كتاب«الإعلام ومهامه أثناء الثورة»الذي يضم الدراسات والأبحاث التي قدمت في الملتقى الوطني الأول عن الإعلام والإعلام المضاد المنظم من قبل المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر: 1954م، وقد شارك الأستاذ عبد القادر نور في هذا الملتقى ببحث موسوم ب«الإعلام عبر الوسائل السمعية للثورة الجزائرية الإعلام حينما كان نضالاً».3185 عبد القادر نور

محتوى الكتاب:

يتربع كتاب الأستاذ عبد القادر نور على مساحة تتكون من: 217صفحة من الحجم المتوسط، ويتوزع على تسعة أقسام رئيسة في كل قسم نلفي مجموعة من الحقائق والمعلومات الثمينة التي تتصل بجملة من وقائع الإعلام الثوري.

نلفي في الكتاب ثلاث مقدمات:

1- المقدمة الأولى كتبها الدكتور أبو القاسم سعد الله، وقد ذكر في مستهلها أنه حدث عظيم أن يعود المرء إلى ذكريات خمسين سنة مضت من حياته، والأعظم منه أن تكون الذكريات هي ذكريات الثورة الجزائرية عندما كان صوتها يخترق الأثير ليصل إلى أسماع الدنيا، فقد كان (صوت الجزائر) يزلزل الأرض من تحت أقدام المستعمرين، كما كان الرصاص يزلزل السماء من فوق رؤوسهم، والفضل في فتح هذه الذكريات يرجع إلى أحد شهود ذلك الزلزال وهو الأستاذ عبد القادر نور.

يقول شيخ المؤرخين الجزائريين عن المعلومات التي قدمها الأستاذ عبد القادر نور من خلال هذا الكتاب: «يقدم لنا الأستاذ عبد القادر نور عينة من ذلك الإعلام الثوري المسموع عبر الإذاعة الوطنية السرية ثم عبر الإذاعات الرسمية للبلاد العربية الشقيقة، وهو إذ يفعل ذلك إنما يقدم لنا أيضاً تجربة شخصية عايشها بكل جوارحه وليس بحثاً محايداً استنطق من خلاله التقارير والشهادات.

ولا نريد هنا أن نفصل القول في المنهج الذي لملم به الأستاذ نور هذه المعلومات عن إذاعة الجزائر أيام الثورة، ولكننا ننبه إلى أن العمل الذي بين أيدينا ينطلق- فيما يبدو- من نقطتين أساسيتين الأولى هي المعلومات والأسماء والتواريخ المتعلقة بإنشاء أول محطة إذاعة للثورة الجزائرية، والثانية تسليط الأضواء على مساهمة الإذاعات العربية في التعريف بالثورة الجزائرية، وإذا شئت دور الإعلام العربي في خدمة الثورة») 3 (.

ويعتقد العلاّمة أبو القاسم سعد الله أن الأستاذ عبد القادر نور أسهم بعمله هذا في تصحيح الصورة عن تطور الإذاعة الوطنية الثورية بالكشف عن معلومات إضافية تتعلق بإنشاء المحطات الإذاعية وتواريخها وأسماء الذين شاركوا في تغذيتها عبر السنوات الصعبة، كما أنه قام بتصحيح الحكم عن دور الإعلام العربي خلال الثورة الجزائرية.

2- المقدمة الثانية كتبها المفكر والمناضل الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري- عليه رحمة الله-

يرى الأستاذ المفكر الراحل عبد الحميد مهري في المقدمة التي كتبها أن في الجهد الذي يبذله الأستاذ عبد القادر نور بهذه السلسة الهامة من المقالات محاولة لرسم صورة المعركة التي خاضها المناضلون الجزائريون في ميدان الإعلام وتذكير بالمساعدة الكبيرة التي وجدوها لدى إخواننا العرب على اختلاف أقطارهم.

بني الأستاذ عبد الحميد مهري منظوره لكتاب الأستاذ عبد القادر نور على أن مقالاته تحمل الكثير من معاني الوفاء لرفقاء الدرب من الذين قضوا نحبهم، وأصبحوا قدوة للأجيال بعدهم، ومن الذين ما زالوا يحتلون مواقع العمل لتحقيق طموحات الشعب في مختلف المجالات، وفي مقالات الأستاذ عبد القادر نور معنى العرفان بما قدمه إخواننا العرب من عون ومساندة لكفاح مرير خاضه الشعب الجزائري أكثر من سبع سنوات.

ووفق وصف الأستاذ مهري لمنجزات الأستاذ عبد القادر نور فمقالاته«تبرز الخريطة التي ترسم التضامن العربي مع جهاد الجزائر، واسعاً شاملاً، وغير محسوب بحسابات ضيقة، إلا في النادر القليل من الحالات وترسم من جهة أخرى الأهمية التي كانت توليها قيادة الثورة لمعركة الإعلام بجانب معارك السياسة والدبلوماسية والكفاح المسلح.وقد كان إعلام الثورة يصدر عن تصور متكامل بين أبعاد المعركة جميعها، وكان ملتزماً، رغم ضراوة المعركة مع الاستعمار، بقدر كبير من الموضوعية والصدق امتثالاً لتوجيهات مؤتمر الصومام في هذا الموضوع، كما أنه كان ملتزماً بالحياد في القضايا الخلافية التي كانت تفرق بين الأقطار العربية حرصاً على الدعم الجامع التي كانت تحظى به القضية الجزائرية، ولا شك أن جماهير الشعب الجزائري كانت تجد في صوت الثورة المنبعث من مختلف العواصم العربية دليلاً على وحدة الصف العربي في معركة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وكان لهذا الصوت الذي لم ينقطع طيلة سنوات الثورة الطويلة، خير ما يشحذ العزائم في مواقع المعركة، ويأخذ بيد المضطهدين و المقهورين في السجون والمحتشدات الفرنسية») 4 (.

3- المقدمة الثالثة كتبها الأستاذ الأديب عز الدين ميهوبي، وقد وصفت بأنها كلمة المدير العام للإذاعة الجزائرية سابقاً، وقد ذكر الأستاذ عز الدين ميهوبي ما وقع له مع الأستاذ عبد القادر نور حينما جاء لتهنئته بالمنصب الذي تولاه في الإذاعة، حيث يقول: «جاء لتهنئتي بالمنصب الذي تبوأه قبلي منذ عشرين عاماً...وراح يكلمني عن الإذاعة الجزائرية، ويستعيد تفاصيل ذكريات من رحلة طويلة مع الأثير...وكنت أقول بيني وبين نفسي لماذا يقول لي الأستاذ عبد القادر نور هذا الكلام وهو القادر على توثيقه وتدوينه؟فبادرته بسؤال (لماذا لا تكتب هذا الكلام؟) فرد على الفور (أنا بصدد إنجاز كتاب يتناول رحلتي مع الإذاعة الجزائرية منذ ميلادها إلى يوم أحلت على التقاعد...) فلم أتردد في عرض إمكانية نشره باسم الإذاعة...فوافق على الفور، وشرعنا في إنجاز هذا المشروع التوثيقي الهام الذي يأتي في وقت شرعت فيه الجزائر في استعادة حضورها في التاريخ بالتصالح مع ذاتها والانسجام مع شخصيتها وتاريخها، وإعادة ترميم ذاكرتها الممتدة في أعماق الزمن») 5 (.

وقد أشار الأستاذ الأديب عز الدين ميهوبي إلى أن المؤلف والكتاب كلاهما يحتاجان إلى وقفة تأمل، وقد وصف الأستاذ عبد القادر نور«بالرجل المناضل الذي يبدي ارتباطاً عميقاً بكل ما له صلة بالوطن والتاريخ والثوابت والعمل الإعلامي الجاد والنزيه...ويسعى إلى تصويب ما يراه غير قويم، وينبه إلى الأخطاء والاختلالات...حتى لكأنه يقضي يومه ينتقل من موجة إلى أخرى ليطمئن على أن الإذاعة بخير...لغة وأفكاراً وبرامج.

والأستاذ نور الطالع من بيئة ثقافية أصيلة، استطاع خلال مسار نضالي ومهني طويل أن يكون واحداً من الكتيبة الطيبة المنبت، التي عملت على إنتاج سلاح الثورة السري والسحري، ألا وهو الإذاعة التي كانت تبث من عواصم عربية ومناطق مخبوءة داخل الجزائر...حيث لا يغمض للمستعمر جفن، ولا يهدأ للجبناء بال ولا يقر للخونة والمرتزقة والأذناب قرار...».

كما أشاد الأستاذ الأديب عز الدين ميهوبي بالجهود الكبيرة التي بذلها الأستاذ عبد القادر نور للنهوض بتأليف هذا الكتاب، حيث يقول في هذا الصدد: «وهو يروي تلك المسيرة الشاقة لتبليغ أخبار الثورة والمعارك التي كان يخوضها جيش التحرير ضد جحافل الاحتلال يقدم الأستاذ نور معلومات هامة ومفيدة وتميط اللثام عن كثير من مساحات الظل التي كانت مثار جدل ونقاش بين المهتمين والمؤرخين لتلك الفترة الحافلة بتفاعلات الثورة مع الداخل والخارج...وقد سعى المؤلف بجهد صادق واستفزاز دائم لذاكرته في استعادة تلك الأسماء التي كانت وراء نشوء هذه الإذاعة وانتشارها، بل إنه كان يجتهد في ألا ينسى اسماً أو واقعة، أو تاريخاً ذا دلالة، وذهب إلى أنه وهو يجاوز السبعين، يعيد اتصاله برواد الإعلام الجزائري الذين اختار كثير منهم الصمت والابتعاد عن الأضواء...فكان يحصل على معلومة أو صورة أو يعيد ترتيب موقف...وهكذا، الأمر الذي جعل صفحات الكتاب تختزن مادة علمية وتاريخية مفيدة للباحثين، وتفتح عيون أجيال الجزائر الجديدة على حجم النضالات الكبيرة التي خاضها رجال ونساء هذا الوطن من أجل عزته ورفعته....

إن الثناء على هذا العمل المحمود للأستاذ عبد القادر نور يمليه علينا واجب الاعتراف لذوي الفضل من أبناء الجزائر المخلصين، بما قدموه وإبداء عرفان متواضع بما أسهموا فيه لصالح الأمة والوفاء لشهدائها....

إن الإذاعة الجزائرية تسعد بإصدار هذا الكتاب الهام في تاريخها، وتاريخ الجزائر المعاصر، وتعتبره مساهمة صادقة في سبيل كتابة جزائرية نزيهة لتاريخ شعب مناضل وأصيل، وتتقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان للأستاذ عبد القادر نور المدير الأسبق للإذاعة الجزائرية آملة أن يكون خطوة ثابتة على طريق استعادة الوعي بأهمية كتابة التاريخ، بعد استعادة السيادة على مؤسسة صنعت التاريخ...وتعده أجمل هدية تقدم للرجال الذين صنعوا مجد الجزائر من خلال (صوت الجزائر) ...») 6 (.

تطرق الأستاذ عبد القادر نور في الجزء الأول من الكتاب الذي يحوي أربعة أقسام إلى الإعلام المسموع، وافتتح القسم الأول بتسليط الضوء على صوت الجزائر أثناء ثورة التحرير، وقد ذكر في مستهل هذا القسم أن الجزائر العربية المسلمة كانت مجهولة لدى كافة المستويات في الوطن العربي، وهذا ما جعل المهمة في غاية الصعوبة، إذ يقتضي الأمر إجراء دراسة واسعة عن كيفية تناول المواضيع والوسائل المطلوبة في التعبير عن متطلبات المرحلة الجديدة، وقد استشهد الأستاذ نور في هذا الصدد بقول الأستاذ أحمد سعيد مدير صوت العرب الأسبق بالقاهرة«...بدأنا الكلام عن الجزائر بداية من سنة: 1953م بصوت العرب، إذاعة صوت العرب لم تكن إذاعة عادية بل كانت لها خصوصياتها...قارنا في ذلك الوقت بين الاستماع إلى أجهزة الراديو وقراء الجرائد فوجدنا قارئاً واحداً لجريدة يقابله1900مستمع لصوت العرب، كما أعددنا الخطاب الإعلامي لشمال إفريقيا وخاصة الجزائر، وخصصنا28دقيقة يومياً لشمال إفريقيا عام: 1953م هي بداية ركن المغرب العربي، ولم تكن لنا أية معلومات عن شمال إفريقيا ككل عدا17كتاباً لذلك كونا لجاناً لدراسة الموضوع، والدكتور طه حسين أحد أعضاء هذه اللجان فجمع لنا ما كتبه المستشرقون عن شمال إفريقيا، لقد طلب منا زعماء الثورة الجزائرية الحديث عن الجزائر، ولكن ليست لنا معلومات دقيقة عن الجزائر حتى نستطيع توجيه الخطاب إلى شعبها...لم تكن لنا رؤيا واضحة، هل نوجه الخطاب إسلامياً أم قومياً؟...الكلمة المسموعة تجعل الشعب في استعداد دائم، وإذا كنت تدعو إلى الشهادة فلابد أن تكون دقيقاً في كلامك، وحينما بدأنا التوجه إلى الجزائر كونا جهازاً خاصاً تدرب عليه المرحوم عيسى مسعودي...») 7 (.

تحدث الأستاذ عبد القادر نور عن ركن المغرب العربي بصوت العرب، وذكر أنه كان نافذة واسعة مفتوحة أمام شباب الجزائر للتعريف ببلادهم وثورتها، فبعد إذاعة بيان أول نوفمبر من صوت العرب بالقاهرة تحرك الجزائريون بكل حماس وقوة، فقد أحدث البيان هزة في نفوسهم، وتطلع جميعهم إلى معرفة الحقيقة، ومن الشخصيات البارزة في ذلك الوقت العلاّمة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي بادر إلى تأييد ثورة التحرير المظفرة وصب جام غضبه على المستعمرين، وينبه الأستاذ عبد القادر نور إلى أنه لم يعثر على تصريحات مذاعة باستثناء تصريحات الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.

وقد كشفت رسالة باريس عن شعبية صوت العرب في فرنسا، فقد غزت جميع البيوت ولاسيما الجزائرية منها، واستحوذت على العقول والقلوب، وهذا ما تأكد منه الأستاذ عبد القادر نور- كما يذكر- من خلال رسالة باريس التي حملت مشاعر المغتربين الجزائريين في فرنسا، ويصف الأستاذ عبد القادر نور أول حديث له في قوله: «أول حديث إذاعي لي شكل خطورة على أسرتي، أول مرة في حياتي أواجه فيها الميكروفون، بعد ستة شهور تدريب على يد كبير المذيعين الأستاذ جمال السنهوري بإذاعة القاهرة في بداية1956م كان الحديث موجهاً إلى مغتربينا في فرنسا، وذلك لما تفاقم الوضع واشتد الخلاف، وتطور إلى اغتيالات في وضح النهار ما بين أنصار الحاج مصالي وأنصار جبهة التحرير الوطني، تطلع أحد شباب جبهة التحرير الوطني أخي البشير نور إلى صوت العرب للتخفيف من حدة الصراع بين الإخوة، وقد كان آنذاك بفرنسا، خرج إلى الحدود السويسرية وبعث لي رسالة يقول فيها: أن المصاليين قد جاروا علينا، وأننا في صراع بيننا، أرجوكم وجهوا كلمة عن طريق صوت العرب إلى هؤلاء علهم يرجعون لأن صوت العرب هنا يتمتع بسمعة كبيرة بين الجزائريين.

وعلى الفور حررت الموضوع، وقصدت الأستاذ محمد أبو الفتوح مدير ركن المغرب العربي بصوت العرب وأذعته بصوتي، شرحت فيه رسالة جبهة التحرير الوطني وأنها هي التي وحدت الشعب الجزائري لخوض غمار الكفاح المسلح وأن كل من يريد الخير للجزائر عليه أن يعزز صفوف جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير وليس شخصاً أو هيئة أخرى غيرهما.

ولكن الأستاذ محمد أبو الفتوح ذكر اسمي ولقبي كاملين، والخطأ كان مني لأني لم أنبهه قبل بداية الحديث إلى عدم ذكر الاسم، لأننا تعودنا على عدم ذكر الأسماء، وبعد انتصار الثورة ورجوعي إلى أرض الوطن، وجدت أن منزل صهري الشيخ محمد زلاقي الذي كانت فيه مخطوطات والدي قد هدم نتيجة للقصف الجوي كان ذلك سنة: 1958م، فاحترقت خزانة الكتب بما فيها مخطوط كنت أنوي طبعه بعد رجوعي وهو لوالدي الشيخ عمار بعنوان (الرسالة السنية في الرد على أتباع ابن تيمية)، كان هذا الأمل قبل اندلاع ثورة نوفمبر، لأني غادرت الجزائر في: 29أكتوبر1954م، وقد عرفت من وشي بي أثناء عملي بالإذاعة الوطنية بعد الاستقلال وكان يعمل في قسم الاستماع ببن عكنون قسم التنصت لتتبع أخبار الثورة الجزائرية وتقديم التقارير إلى سادته من المستعمرين») 8 (.

يوضح الأستاذ عبد القادر نور أن الانطلاقة الأولى للأجهزة الإعلامية المسموعة الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني كانت في أواخر سنة: 1956م ففي هذه السنة أنشأ قادة جبهة التحرير الوطني أركاناً إذاعية في معظم الأقطار العربية، وكانت الإذاعة هي الوسيلة الأكثر قوة وفعالية، وقد كانت السلطات الاستعمارية ترغب في التأثير على الرأي العام الجزائري في مواجهة المعركة الإعلامية الجديدة التي فتحتها جبهة التحرير الوطني، وقد تميزت التغطية الإعلامية أثناء ثورة التحرير في الوطن العربي بالشمولية، وقد شهد عام: 1956م انطلاق ست إذاعات ناطقة بالعربية مع واحدة بالفرنسية:

1- إذاعة جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني من غرب الجزائر بالحدود المغربية الجزائرية.

2- إذاعة تيطوان بالمغرب الأقصى.

3- صوت الجزائر من تونس الشقيقة.

4- صوت الجمهورية الجزائرية من صوت العرب بالقاهرة.

5- صوت الجزائر من الرباط.

6- صوت الجزائر بالفرنسية من البرنامج الدولي بإذاعة القاهرة.

وشهدت سنة: 1958م انطلاق تسع إذاعات:

7- صوت الجزائر من إذاعة طرابلس بليبيا.

8- صوت الجزائر من إذاعة بنغازي.

9- صوت الجزائر من إذاعة سوريا.

10- صوت الجزائر من إذاعة العراق.

11- صوت الجزائر من إذاعة الكويت.

12- الجزائر اليوم: إذاعة خاصة موجهة إلى الجزائر باللهجة الجزائرية تم إنشاؤها ما بين سنتي: 1961 و1962م بإذاعة القاهرة.

13- إذاعة الجزائر من الأردن: فيها الشاعر عبد الرحمن بن العقون.

14- في المملكة العربية السعودية كان الأستاذ عبد الرزاق بن يحيى زلاقي.

15- صوت الجزائر من طنجة سنة: 1961م.

أما الإذاعة الجزائرية السرية فيشير الأستاذ عبد القادر نور إلى أنها أول إذاعة في تاريخ الجزائر، وقد كانت متنقلة في الريف المغربي، وتحتمي بكثافة الأشجار الغابية، وقد استغرق الإعداد لها ستة أشهر قبل بداية البث يوم: 16/12/1956م، وقبل أن تستقر بالحدود الجزائرية المغربية بمدينة الناظور.

بدأت المرحلة الأولى لهذه الإذاعة بجهاز إرسال محمول فوق شاحنة من نوعG.M.C أخرجت من القاعدة الأمريكية بالقنيطرة عام: 1956م، وقد كانت تتكون من أجهزة بسيطة وبتقنيات وإمكانيات جد محدودة، وقد كانت تبث ساعة باللغة العربية وتشتمل على:

1- أخبار عسكرية.

2- أخبار سياسية.

3- تعليق بالفصحى.

4- تعليق بالدارجة.

- نصف ساعة بالقبائلية، ونصف ساعة بالفرنسية.

وقد كان يتم الإعلان عنها بالشكل التالي: هنا الجزائر الحرة المكافحة، صوت جبهة التحرير وجيش التحرير يخاطبكم من قلب الجزائر.

في عام: 1959م وابتداءً من يوم: 12/01/1959م استقرت الإذاعة السرية بالناظور، وافتتحت من قبل سعد دحلب وبوعلام بسايح، ويشير الأستاذ عبد القادر نور إلى أسماء من تولوا تحريرها والبث الإذاعي فيها:

1- محمد السوفي: مدير الإذاعة الجزائرية السرية بالحدود الجزائرية المغربية.

2- عيسى مسعودي

3- مدني حواس المدعو عبد اللطيف.

4- محمد بوزيدي.

5- محمد بومديني.

6- عبد العزيز شكيري.

7- محمد السعودي.

8- مصطفى التومي.

9- خالد سافر.

10- خالد التيجاني.

11- دحو ولد قابلية.

12- عمر مرزوق.

13- مولاي خروبي.

14- كمال داودي.

15- حمة ميسوم.

16- قدور عاشور.

17- طارق صباغ.

18- عبد المجيد حومة.

19- محمد كسوري.

20- محفوظ مغربي.

21- عمار معمري.

22- قدور ريان.

23- محمد مكيرش.

24- السعيد غماري.

25- يوسف مصطفى دالي.

26- عبد الله دردك.

27- كمال بلحبيب.

28- لوصيف بوغرارة المدعو محمد القوردو.

29- علي جبار.

30- فريد دبورة.

31- محمد عدنان.

يلفت الأستاذ عبد القادر نور الانتباه إلى أن صوت الجزائر من تونس كانت تكتسي أهمية خاصة وأهميتها تتجلى في صوت عيسى مسعودي رحمه الله، الذي يعد أبرز الأصوات الإذاعية عبر أمواج الإذاعات الجزائرية في معركة التحرير، وهذا ما جعل الرئيس هواري بومدين- رحمه الله- يقول عنه (صوت عيسى مسعودي شق وجيش التحرير شق آخر) .، وقد استطاع هذا الصوت الذي كان من ورائه أيضاً الدكتور عبد الله شريط- رحمه الله- أيضاً، أن يجند آلاف الشبان الجزائريين في صفوف الثورة، كما أثر تأثيراً كبيراً على الجماهير الجزائرية على الرغم من أن مدة البث لم تزد عن ثلاثين دقيقة كانت غنية بالمعلومات العسكرية عن المعارك الطاحنة التي تدور رحاها بأرض الثورة الجزائرية، ومن بين الذين تولوا مهمة إعداد وتقديم برامج الإذاعة: عيسى مسعودي وعبدالله شريط ومحمد بوزيدي والأمين بشيشي والعربي سعدوني وسيرج ميشال.

يذكر الأستاذ عبد القادر نور أن صوت الجمهورية الجزائرية من القاهرة الذي انطلق سنة: 1956م استطاع أن يعطي نفساً جديداً لثورة التحرير من الناحية الإعلامية، كما عمق وجودها في نفوس الجماهير العربية، والطبقات المثقفة، وقد أصبح كل عربي يحس أن الثورة الجزائرية هي ثورته، وقد تولى التعاليق السياسية بالقاهرة وإذاعتها كل من: الأستاذ توفيق المدني الذي افتتح صوت الجزائر بصوت العرب، والأستاذ عثمان سعدي، ومحمد كسوري، وعلي مفتاحي، ورابح التركي، وعبد القادر بن قاسي، وعبد القادر نور، ومن بين الطلبة الجزائريين الذين توجهوا للتعبير عن متطلبات الثورة الجزائرية: الدكتور أبو القاسم سعد الله، العلاّمة الجليل، وشيخ المؤرخين الجزائريين، والباحث المعروف بمنجزاته العلمية الكبيرة التي من أبرزها: تاريخ الجزائر الثقافي.

والشاعر الراحل صالح خرفي- رحمه الله-، والأستاذ مفدي زكرياء، والدكتور عبد الله ركيبي الذي قدم الكثير عن الجزائر لصوت العرب.

وفي سنة: 1958م انطلق صوت الجزائر من إذاعة طرابلس، بغرض تزويد الشعب الليبي الشقيق بأخبار الثورة الجزائرية، ويؤكد الأستاذ عبد القادر نور في هذا الصدد على أن الشعب الليبي منح الثورة الجزائرية تشجيعات كبيرة مادية ومعنوية، كما ينوه بجهود المجاهد الليبي الكبير الهادي إبراهيم المشيرقي، حيث يقول: «أكبر دور إعلامي للثورة الجزائرية، قام به المجاهد الليبي الكبير المرحوم الهادي المشيرقي الذي قام باتصالات واسعة ليست في الأوساط العربية فحسب، ولكن في جميع أنحاء العالم، وأكبر تضحية قام بها أيضاً هي: رهن مزرعته وأملاكه لشراء الأسلحة للثورة الجزائرية، والشيء الذي يؤثر في النفس أكثر هو أنه لما أدركته الوفاة، بعد العمر الطويل الذي قضاه في العمل الإنساني من أجل الجزائر، أوصى بدفنه في مقبرة الشهداء بالجزائر، وأن ما أثلج صدري أيضاً أكثر أن الرئيس بوتفليقة نفذ وصية هذا الغائب الكبير وأرسل له طائرة خاصة لنقله إلى بلده الثاني الجزائر ليوارى جثمانه الطاهر بها، وهو موقف مشرف وعربون وفاء من الجزائر») 9 (.

وقد تولى التحرير والتعاليق السياسية في صوت الجزائر بإذاعة طرابلس الأستاذ العلاّمة الشيخ محمد الصالح الصديق، وكان يساعده حسن يامي، وكان المسؤول العام بشير قاضي، وقد تولى مكانه بعد أن سافر للعلاج الأستاذ أحمد بودا، وعبد الحفيظ أمقران الذي كان مكلفاً بالأنباء العسكرية ابتداءً من سنة: 1960 ولمدة تزيد عن ستة أشهر.

وفي سنة: 1959م تم إنشاء فرع إذاعي في بنغازي لتعميم أخبار ثورة التحرير، وقد تكون طاقم الإذاعة من: محمد الأخضر عبد القادر السائحي، وعبد الرحمن الشريف وعبد الحق وعبد القادر غوقة وهو مذيع ليبي.

تحدث الأستاذ عبد القادر نور عن انطلاقة إذاعة صوت الجزائر من دمشق سنة: 1958م وظروف توقيفها فذكر أنها انطلقت مع قيام الوحدة بين مصر وسوريا، وانتهت وتوقفت بالانفصال بينهما، كونها كانت تابعة إلى مكتب جبهة التحرير الوطني، وليس للإذاعة السورية، و يشير الأستاذ عبد القادر نور إلى أن جبهة التحرير الوطني وضعت نفسها فوق كل النزاعات والخلافات العربية وحازت على احترام وحب الجميع، لأنها استطاعت رسم سياسة حيادية واعية وحافظت على استقلاليتها، وقد استشهد الأستاذ عبد القادر نور بقول المحامي الأستاذ محمد مهري في كتابه«ومضات من دروب الحياة»: «...وبعد أن قام النظام الانفصالي في سوريا طلب المسئولون الجدد في الإذاعة أن يخضعوا هذه الحصة لرقابتهم فطلبوا من مذيعها محمد مهري أن يقدم تعليقه المكتوب في وقت سابق قبل تسجيله للمراقبة فرفض وأعلمهم أن هذه الحصة تذاع فعلاً من دمشق ولكنها تحت إشراف ورقابة جبهة التحرير الوطني وإن الجبهة لا تقبل أية وصاية في توجيه وتسيير شؤونها، فإن أردتم التعامل معنا على هذه القاعدة التي سيرنا بها مصالح ثورتنا وتعاملنا بها مع أشقائنا وأصدقائنا فإننا سنستمر في إذاعتنا من دمشق شاكرين لكم وللشعب السوري الشقيق تفهم أسلوبنا في المحافظة على استقلال قراراتنا، فإن أبيتم وانتهى رأيكم على فرض الرقابة من طرفكم على حصتنا فإننا نكون ملزمين بتوقيفها». (انتهى كلام الأستاذ محمد مهري)) 10 (.

وقد توقفت هذه الإذاعة بعد إصرار السلطات السورية على موقفها، وتوقفت بعد مشاورات أعضاء فريق الإذاعة مع الشيخ محمد الغسيري- رحمه الله- رئيس البعثة.

كان فريق الإذاعة يتكون من:

- الشيخ محمد الغسيري؛ رئيس البعثة الجزائرية بسوريا، الذي تحاور مع السوريين لفتح باب الإذاعة للثورة الجزائرية، وهو الذي افتتح الإذاعة كما يذكر الأستاذ عبد القادر نور.إضافة إلى: محمد أبو القاسم خمار، ومحمد مهري، ومحمد بوعروج، والهاشمي قدوري، ومنور الصم، وأبو عبد الله غلام الله.

تطرق الأستاذ عبد القادر نور إلى خلفيات انطلاق صوت الجزائر من الكويت سنة: 1958م، حيث جاء في حديثه عن بداياتها في الكويت«...نظراً لوقوع الكويت تحت الاستعمار البريطاني، وعدم سماح المستعمر بفتح مكتب لجبهة التحرير الوطني، فقد كان الأستاذ عثمان سعدي يقوم بدور المستشار للجنة جمع التبرعات للثورة الجزائرية بالكويت، وبدور الرابط بين وزارة المالية الكويتية ووزارة المالية للحكومة الجزائرية المؤقتة، وعندما زار فرحات عباس؛ رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة الكويت سنة: 1959م انضم السيد عثمان سعدي إلى الوفد الذي كان برئاسة السيد أحمد فرنسيس؛ وزير المالية بالحكومة المؤقتة الذي قام بجولة في إمارات الخليج العربي في نفس السنة، وكان ضمن الوفد العقيد علي كافي والرائد إبراهيم مزهودي.

وفي: 1958م طلب السيد عثمان سعدي من وزارة الإعلام الكويتية أن تسمح بفتح مركز للجزائر بإذاعة الكويت موجه للخليج العربي فوافقت على ذلك، وكان الأستاذ عثمان سعدي مع المذيع الأستاذ موسى الدجاني يشرفان على هذا الركن، وكان الأستاذ سعدي يقدم كلمة الجزائر، ويحرر برامج وتمثيليات عن الثورة.

كان لهذا الركن صدى كبير بالخليج العربي، فقد كانت تصله عشرات الرسائل أسبوعياً من المستمعين بالخليج، وكان يردان عليها، كما ساهم هذا الركن مساهمة فعالة في دفع الناس للتبرع للثورة الجزائرية.

واستمر هذا الركن قائماً إلى أن استقلت الجزائر، وفتحت السفارة الجزائرية سنة: 1963م، وترأس الأستاذ عثمان سعدي البعثة الدبلوماسية للجزائر المستقلة.

لقد لعب هذا الركن دوراً عظيماً في التعريف بالثورة الجزائرية في دول المنطقة كلها، وقد كان موجهاً إلى دول الخليج العربي ويذاع على الساعة الخامسة مساءً ولمدة ثلاث ساعات في الأسبوع، وقد خلق هذا البرنامج جواً من الحماس في الأوساط الكويتية والخليجية لمد الثورة بالعون المادي والمعنوي») 11 (.

أما إذاعة الجزائر في العراق فقد افتتحت في فترة رئاسة الأستاذ أحمد بودا للبعثة الجزائرية في العراق سنة: 1958م، وقد افتتحت بناءً على الطلب الذي قدمه إلى السلطات العراقية سنة: 1958م، وقد تولى التحرير و التعليقات السياسية بها: محمد الربعي وعلي الرياحي وعبد الحميد قرميط، وحينما ترأس الأستاذ حامد روابحية البعثة الجزائرية تولى التحرير والتعليق على الأنباء فيها.

سلط الأستاذ عبد القادر نور الضوء على مختلف المبادئ الأساسية للسياسة الإعلامية التي كانت تسير عليها كل الإذاعات الناطقة بالعربية التابعة لجبهة التحرير الوطني، ومن أبرزها:

1- عدم التدخل في السياسة الداخلية لأي بلد عربي.

2- الدعوة إلى وحدة الشعب الجزائري وسيره صفاً واحداً وراء جيش وجبهة التحرير الوطني لإعطاء المثل لبقية الشعوب التي تناضل من أجل حريتها واستقلالها وخاصة الإخوة الفلسطينيين.

3- الدعوة إلى وحدة شعوب المغرب العربي في كفاحها ضد الغاصب المحتل بعدم تجزئة الكفاح المسلح.

4- التركيز على المجازر الوحشية التي يرتكبها الاستعمار الفرنسي بالجزائر.

5- التنديد بتصرفات الانهزاميين من الخونة وأذناب الاستعمار الذين باعوا ضمائرهم للشيطان بأبخس الأثمان.

6- التعاليق الضافية على انتصارات جيش وجبهة التحرير الوطني في معارك التحرير التي يخوضها ضد الاستعمار والقومية والحركى وإلحاق الهزائم العديدة بعساكر العدو في حربهم القذرة ضد الشعب الجزائري الأعزل.

7- الرد على الدعايات المغرضة التي يبثها العدو قصد تشويه سمعة الثورة الجزائرية ونزع ثقة الشعب الجزائري والشعوب العربية منها.

8- اعتبار المجاهدين الذين يحملون السلاح هم أمل الشعب الجزائري في التحرر والوحدة العربية.

في الجزء الثاني من الكتاب ألقى الأستاذ عبد القادر نور نظرة سريعة على وضعية جبهة التحرير الوطني في الأوساط الجزائرية بالقاهرة، وأورد بيان التأييد والمساندة للحكومة المؤقتة الذي ألقاه في ركن المغرب العربي بصوت العرب يوم: 19/09/1958م، وقد وسم الجزء الثالث من الكتاب ب«منظمات جبهة التحرير الوطني»، وذكر في هذا الجزء أن فريق جبهة التحرير الوطني كون حدثاً مهماً في الوطن العربي، وأعطى نفساً جديداً للثورة الجزائرية من نوع آخر، كما تكونت أول فرقة شعبية للتمثيل تابعة إلى جبهة التحرير الوطني وزارت عدة عواصم عربية وأجنبية منها: الاتحاد السوفياتي، ومصر والصين، و قدمت تمثيليات فيها.

في الجزء الرابع من الكتاب تحدث الأستاذ عبد القادر نور عن مجموعة من الرجال الأفذاذ الذين تعزز بهم إعلام الثورة، وذكر من بين الذين ساهموا بقصائد شعرية، أو مقالات صحفية، أو ندوات ونشر كتب عن الثورة الجزائرية بالقاهرة:

1- الأستاذ عبد الحميد مهري.

2- الأستاذ العربي دماغ العتروس.

3- الأستاذ مالك بن نبي: الذي نشر النجدة للجزائر وشعب الجزائر يباد ورسالة الاغتيال بوسائل العلم، إلى جانب عدة ندوات ومحاضرات.

4- الدكتور أبو القاسم سعد الله: نشر مجموعة شعرية بعنوان«النصر للجزائر»سنة: 1957م.

5- الأستاذ الأخضر الإبراهيمي.

6- الدكتور يحيى بوعزيز.

7- الأستاذ محمد حربي.

8- الأستاذ حسن الصائم.

9- الدكتور صالح خرفي.

10- الأستاذ مفدي زكرياء شاعر الثورة الجزائرية الكبير.

11- الأستاذ مالك حداد.

12- الدكتور منور مروش.

13- الدكتور عبد الله ركيبي.

في الجزء الخامس والسادس روى الأستاذ عبد القادر نور الكثير من الحقائق التي تتصل بمرحلة ما بعد الثورة، وفرحة الاستقلال والعودة إلى أرض الوطن، وفي الجزء الأخير ذكر عناوين بعض البرامج التي كان ينتجها إبان فترة رئاسته لتحريرها عام: 1962م، ومن بين البرامج التي ذكرها: «من المحيط إلى الخليج»، «مع رجال الفكر والأدب»، «مجلة الآداب»، «المقاومة في مواجهة الاحتلال»، «حوار حول الثورة».

في ختام هذا الجزء تطرق الأستاذ عبد القادر نور إلى ذكرياته مع شاعر الثورة الجزائرية الكبير مفدي زكرياء، ونظراً لأهمية الذكريات التي جاءت في هذا الجزء، فإننا نورد أغلب ما جاء فيها كما رواها الأستاذالمجاهد عبد القادر نور«تشرفت بمعرفة شاعر الثورة الجزائرية الكبير عن قرب في أوائل سنة: 1964م على ما أذكر بمعية نجله الدكتور سليمان الشيخ وقد كان هذا هو اللقاء الأول الذي تناولنا فيه إنتاج مجموعة من البرامج الأدبية للإذاعة، ومنذ ذلك الحين وأنا أتابع باهتمام كبير الإشراف المباشر على تنفيذ تلك البرامج حتى توقفت دون معرفة السبب، وإن كنت أعتقد أن كثرة انشغالاته كانت السبب الرئيسي في هذا التوقف.

ورغم أن السنوات القليلة التي حظيت فيها بتوطيد العلاقة بيننا، فإني قد عرفت فيها الشاعر الإنسان الذي كنت أسمع عنه وعن كفاحه في غياهب السجون الاستعمارية، وخارج أسوارها، ولم أتصور مطلقاً أن يتصف هذا العملاق بصفة التواضع الذي جعله إنساناً عادياً.

صرت أنتظر زيارته بفارغ الصبر لأنه كان كلما التقينا يسمعني بعضاً من أشعاره بصوته الجوهري المليء بالحيوية وبإلقائه المتميز يجعلني أعيش في جو آخر وفي عالم آخر، تسمو فيه الروح وتتجرد من صفتها الأرضية، كان ينقلني في بضع دقائق إلى عوالم وآفاق واسعة، وقد كنت أصغي إليه في وقار وكأنني في محراب أتعبد لقد أنعش روحي بسحر بيانه، وبناءً عليه تكونت عندي قناعة راسخة بأن من واجبي كإعلامي أن أعتني عناية فائقة بتبليغ رسالة هذا المفكر ونشر أشعاره على نطاق واسع، وأن أسخر ما استطعت من إمكانيات لتعميم فكر هذا العبقري الفذ، وهذا الشاعر الفحل بكل الوسائل الممكنة، فشعره ينفذ إلى القلوب ويستولي على المشاعر، لينقل سامعه أحياناً ليدق أبواب التاريخ، وأحياناً أخرى ليقتحم حصون الاستعمار لافتكاك هذه الأرض الطيبة من براثن الاستعمار.

وشاءت الأقدار أن أشرف على تسجيل جزء مهم من رائعته الخالدة: (610) أبيات من إلياذة الجزائر التي ألقاها بصوته في الملتقى السادس للفكر الإسلامي في صائفة: 1972م بنادي الصنوبر.

وكم كنت سعيداً غاية السعادة لأن الجزائر قد حصلت على كنز لا يفنى من أحد أبنائها البررة، سيكون هذا الكنز (الإلياذة) ذخراً للأجيال القادمة على مر العصور.هذا الكنز اختفى عن أنظارنا وأسماعنا لمدة ليست بالقصيرة، ولكن بطول البحث وبصبر كبير توصلت إلى وجود الجزء الذي سجله شاعر الثورة الجزائرية بصوته، وفي أحد الأدراج، وبعد ذلك مباشرة قررت تقسيم الإلياذة إلى عدة حلقات لتذاع أثناء فترة الاحتفال بالذكرى الثانية والعشرين للاستقلال سنة: 1984م، و عندئذ تحركت عدة جهات لإقامة الاحتفالات والندوات...

كانت سنة: 1984م بداية لكسر جدار الصمت الذي كاد أن يبعد هذا الرمز من الساحة الوطنية، وبعد ذلك زارني الدكتور سليمان الشيخ وبصحبته نسخة من الإلياذة مطبوعة طبعة أنيقة والهدية الثمينة: الصورة التي أخذت عن غفلة، دون أن أعرف مكانها، واتفقنا على إكمال الباقي من الإلياذة بصوت مناسب، ولكن لم أعثر في ذلك الوقت على الصوت المطلوب.فاجتهدت وسجلت ما بقي منها بصوت لم أرض عنه كل الرضا، وقررنا بعد ذلك أنا والدكتور سليمان نجل المرحوم تسجيل نسخة كاملة لترسل إلى ودادية الجزائريين بأوروبا بواسطة السيد أحمد حشلاف، وفعلاً تم ذلك بنجاح كبير، وقد ظهرت في ألبوم رائع.

وبعد أن غادرت الدار التي ساهمت في تحريرها ثم في بنائها سمعت صوتاً في تسجيل لبقية الإلياذة نال مني كل الرضا، تمنيت إعادة تسجيلها بنفس الصوت، غير أني كنت راضياً في المقابل على تسجيل الإلياذة كاملة بالفرنسية بحضور مترجم الإلياذة الأستاذ المرحوم الطاهر بوشوشي، بعد أن استشرت الأستاذ مولود قاسم رحمه الله وطيب ثراه فقال لي كان المرحوم راضياً على هذه الترجمة، وكان الصوت من تسجيل شاب وشابة هما: سمير بن شريفة ومليكة بوصوف.وقد سلمت نسخة للقناة الثالثة تعميماً للفائدة، استمعت إليها مرتين ثم اختفت.

والآن قد تغير الوضع أيها الغائب الكبير عن الأرض التي دفعت من أجلها زهرة شبابك، فأنت الآن إذن حي بيننا فكلما اشتقنا إليك سيكون قبلتنا هذا المعلم الذي يدشن اليوم لمؤسسة تحمل اسمك تكريماً لك وتخليداً لذكراك فلن يغيب ذكرك عنا بعد اليوم») 12 (.

كما تحدث الأستاذ عبد القادر نور عن زيارة الشاعر محمد الفيتوري إلى الجزائر ووصفها بالزيارة التي أزاحت عنه هموم الإذاعة، فقد كان العمل في الإذاعة في سنواتها الأولى مرهقاً ومتعباً إلى أقصى الحدود، نظراً إلى نقص الإمكانيات المادية والبشرية، والعزم على محو آثار الاستدمار الفرنسي، وقد تفرغ الأستاذ عبد القادر نور رفقة الأديب عبد الحميد بن هدوقة لمرافقة الشاعر في حله وترحاله بمناسبة مشاركته في المهرجان الثقافي الإفريقي الأول.

عبد القادر نُور

هو المجاهد (عبد القادر بن عمّار نور) ؛ وُلد يوم: (12جمادى الىخر1350ه)، المُوافق ل (23أكتوبر1931م) بقرية (الشرفة)، ببلدية (أولاد عدي لقبالة) التابعة لدائرة (أولاد دراج) في ولاية (المسيلة) بمنطقة القبائل الكبرى، نشأ في أسرة بسيطة، ومتواضعة، و ترعرع في كُتاب قريته؛ بدأ حفظه للقرآن الكريم على يد والده الشيخ الإمام (عمّار) المعروف بالشرفي، وتعلم مبادئ اللُّغة العربية على يد الشيخ (محمد الطاهر نور)، وأكمل حفظ القرآن الكريم في قرية (شلاطة) ببلاد (ازواوة)، ثم انتقل إلى مدينة (قسنطينة) لإتمام تعليمه، والتحق بمعهد العلاّمة (عبد الحميد بن باديس)، سنة: (1369ه/1950م)، ونال شهادة المعهد بتفوق سنة: (1373ه/1954م)، وفي يوم: (3ربيع الأول1374ه)، المُوافق ل (29أكتوبر1954م) انتقل إلى (القاهرة) بجمهورية مصر العربية، وكان غرضه مواصلة التحصيل العلمي، وبسبب اندلاع الثورة الجزائرية يوم: (4ربيع الأول1374ه)، المُوافق ل (1نوفمبر1954م)، انضم بعد وصوله إلى (مصر) إلى جبهة التحرير الوطني بتشجيع من المناضلين (محمد خيضر)، و (أحمد بن بلة)، وكان دوره ونشاطه يتركز على إلحاق الطلبة بالنضال الثوري، وبجبهة التحرير الوطني، وقد بدأ في النضال الثوري مع جبهة التحرير الوطني وهو ما يزال طالباً، وذلك منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة الجزائرية المظفرة، وقد التحق بكلية دار العلوم بجامعة (القاهرة) في (مصر) باقتراح من المجاهد (محمد بوخروبة) المعروف باسم (هواري بومدين)، والذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية الجزائرية، ونال شهادة الإجازة في العلوم العربية والإسلامية، وهو من أبرز مؤسسي أول رابطة للطلاب الجزائريين بالقاهرة سنة: (1376ه/1956م)، وقد تولى منصب الأمين العام لهذه الرابطة، وشارك في العديد من المؤتمرات الطلابية والدولية باسم جبهة التحرير الوطني، وأسهم بشكل فعال في الإعلام المسموع أثناء ثورة التحرير، وذلك انطلاقاً من ركن المغرب العربي في سنة: (1376ه/1956م)، وانتهاء ببرنامج صوت الجمهورية الجزائرية بصوت العرب في (القاهرة)، وبعد توقف صوت الجزائر بالقاهرة عاد إلى الجزائر، والتحق بالإذاعة بدعوة من جبهة التحرير الوطني، وذلك بعد التحاقه بوزارة الخارجية يوم: (11ذو الحجة1381ه)، المُوافق ل (15ماي1962م)، وقد شارك في تحرير الإذاعة الجزائرية من إدارة الاستعمار الفرنسي في: (30جمادى الأولى1382ه)، المُوافق ل (28أكتوبر1962م)، وقد عُيّن الأستاذ (عبد القادر نور) أول رئيس لإدارة وتحرير الإذاعة الجزائرية، كما رأس أول لجنة لتقييم البرامج القديمة، إضافة إلى رئاسة لجنة البرامج لاتحاد إذاعات الدول العربية، وهو عضو مؤسس لإذاعة الدول الإسلامية، و كان عضواً في مجلس إدارتها بجدة في المملكة العربية السعودية، وقد توفي في (شهر شعبان1439ه)، المُوافق ل (شهر ماي2018م) .

من أبرز الشيوخ الذي تتلمذ على أيديهم الأستاذ (عبد القادر نور)، الشيخ (عبد المجيد زلاقي)، والشيخ (الحاج بن عبد العزيز نور)، والشيخ (محمد الطاهر نور) .

من أهم مؤلفاته: كتاب: «شاهد على ميلاد صوت الجزائر- ذكريات وحقائق- »؛ فقد قدم فيه الأستاذ (عبد القادر نور) نظرة شاملة على مختلف المراكز التي استقرت بها الإذاعة الجزائرية، و سلط الأضواء على الأركان الإذاعية الموزعة على خمسة عشر مركزاً من طنجة إلى بغداد، فالهدف الرئيس الذي يهدف إليه من وراء تأليف هذا الكتاب هو التذكير بما قدمه إخواننا العرب من تضحيات جسام في سبيل استقلال الجزائر، ومواقفهم البطولية التي وقفوها في وجه الاستدمار الفرنسي أثناء ثورة التحرير المجيدة، كما يتطرق إلى مسيرة مُعظم الشخصيات الثورية التي عملت في هذه المراكز وصولاً إلى الإذاعة السرية.

والحق أن من يتابع نشاطات وجهود المجاهد والمناضل الفذ الأستاذ (عبد القادر نور) يُدرك بأن الرجل لم يأل جهداً منذ سنوات في التنويه، والإشادة بالدور الكبير الذي أداه الإعلام أثناء ثورة التحرير المظفرة، ففي هذا الكتاب : «شاهد على ميلاد صوت الجزائر- ذكريات وحقائق- »، يُقدم الكثير من الصور المعبرة، والصادقة عن بطولات وتضحيات الشعب الجزائري، وعن الجهود الكبيرة التي بذلت من خلال الإذاعة السرية، وعبر الإذاعات الرسمية للدول العربية، فقد كتب هذه الصفحات ليُبين الكثير من الحقائق المتصلة بالإعلام الثوري، وقد دعم كتابه بمادة تاريخية ثرية بالمعلومات الدقيقة التي لم يسبق أن اطلع عليها الكثير من الباحثين والدارسين، كما نلفي مجموعة من الصور والوثائق التي تنير دروب المتابعين لتاريخ الإعلام الثوري.

ومن جانب آخر فالكتاب يُقدم نظرة وافية عن الدور الذي أداه أبطال الجزائر في ميدان معركة الإعلام في مواجهة افتراءات الاستدمار الفرنسي، فهو يكتسي أهمية بالغة، ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الاعتناء بالكتابة عن ميلاد صوت الجزائر لم يظهر إلا في السنوات الأخيرة هذا من جانب، ومن جهة أخرى فالوثائق والمراجع التي يتم الاعتماد عليها نادرة، والإعلام الثوري الجزائري ما يزال يستحق الكثير من الأبحاث والدراسات التي تميط اللثام عن دوره، ومنجزاته الكبيرة.

يرى الدكتور (أبو القاسم سعد الله)، في كلمة كتبها عن هذا الكتاب النفيس أنه حدث عظيم أن يعود المرء إلى ذكريات خمسين سنة مضت من حياته، والأعظم منه أن تكون الذكريات هي ذكريات الثورة الجزائرية عندما كان صوتها يخترق الأثير ليصل إلى أسماع الدنيا، فقد كان (صوت الجزائر) يُزلزل الأرض من تحت أقدام المستعمرين، كما كان الرصاص يُزلزل السماء من فوق رؤوسهم، والفضل في فتح هذه الذكريات يرجع إلى أحد شهود ذلك الزلزال وهو الأستاذ (عبد القادر نور) .

يقول شيخ المؤرخين الجزائريين عن المعلومات التي قدمها الأستاذ (عبد القادر نور) من خلال هذا الكتاب: «يُقدم لنا الأستاذ (عبد القادر نور) عينة من ذلك الإعلام الثوري المسموع عبر الإذاعة الوطنية السرية، ثم عبر الإذاعات الرسمية للبلاد العربية الشقيقة، وهو إذ يفعل ذلك إنما يقدم لنا أيضاً تجربة شخصية عايشها بكل جوارحه، وليس بحثاً محايداً استنطق من خلاله التقارير والشهادات، ولا نريد هنا أن نفصل القول في المنهج الذي لملم به الأستاذ نور هذه المعلومات عن إذاعة الجزائر أيام الثورة، ولكننا ننبه إلى أن العمل الذي بين أيدينا ينطلق- فيما يبدو- من نقطتين أساسيتين الأولى هي المعلومات، والأسماء، والتواريخ المتعلقة بإنشاء أول محطة إذاعة للثورة الجزائرية، والثانية تسليط الأضواء على مساهمة الإذاعات العربية في التعريف بالثورة الجزائرية، وإذا شئت دور الإعلام العربي في خدمة الثورة» . ويعتقد العلاّمة (أبو القاسم سعد الله) أن الأستاذ (عبد القادر نور) أسهم بعمله هذا في تصحيح الصورة عن تطور الإذاعة الوطنية الثورية بالكشف عن معلومات إضافية تتعلق بإنشاء المحطات الإذاعية وتواريخها، وأسماء الذين شاركوا في تغذيتها عبر السنوات الصعبة، كما أنه قام بتصحيح الحكم عن دور الإعلام العربي خلال الثورة الجزائرية.

أما الأستاذ المجاهد والمفكر الراحل (عبد الحميد مهري) فيرى أن في الجهد الذي يبذله الأستاذ (عبد القادر نور) بهذه السلسة الهامة من المقالات محاولة لرسم صورة المعركة التي خاضها المناضلون الجزائريون في ميدان الإعلام، وتذكير بالمساعدة الكبيرة التي وجدوها لدى إخواننا العرب على اختلاف أقطارهم.

وقد بنى الأستاذ (عبد الحميد مهري) منظوره لكتاب الأستاذ (عبد القادر نور) على أن مقالاته تحمل الكثير من معاني الوفاء لرفقاء الدرب من الذين قضوا نحبهم، وأصبحوا قدوة للأجيال بعدهم، ومن الذين ما زالوا يحتلون مواقع العمل لتحقيق طموحات الشعب في مختلف المجالات، وفي مقالات الأستاذ (عبد القادر نور) معنى العرفان بما قدمه إخواننا العرب من عون، ومساندة لكفاح مرير خاضه الشعب الجزائري أكثر من سبع سنوات.

ومن بين الكتب التي أعدها وجمع أعمالها الأستاذ (عبد القادر نور)، كتاب: «حديث الاثنين»للشيخ محمد الغزالي، وقد صدر هذا الكتاب عن منشورات دار الوعي بالجزائر، عام: (1432ه/2011م) . 

المصادر و المراجع المُعتمدة :

1- عبد القادر نور: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، منشورات دار هومة، الجزائر، الطبعة الثانية، أكتوبر2008م.

2- حوار مع أول رئيس تحرير للإذاعة والتلفزيون الجزائري عبد القادر نور، منشور في مجلة الفرسان في قسم (ضيف العدد)، حاوره: زبير حجايجي، العدد الأول، 01/15نوفمبر2010م، ص: 22.

3- حديث الاثنين للشيخ محمد الغزالي، جمع وإعداد: الأستاذ عبد القادر نور، منشورات دار الوعي للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 1432ه/2011م.

خاتمة:

قام الإعلام الجزائري بدور مهم أثناء الثورة الجزائرية، وأسهم إسهاماً كبيراً في انتشارها، وتغلغلها على الصعيد الوطني، والدولي.

و لا جدال في أن كتاب الدكتور أحمد حمدي الموسوم ب: «الثورة الجزائرية والإعلام»، يعد أحد أهم الكتب التي تعرضت بالدراسة والتحليل للإعلام الثوري إبان الثورة الجزائرية، وسلطت الأضواء على الدور الذي نهض به الإعلام في تلك المرحلة، و«أبرزت إنجازاته الكبيرة، ومكابداته الضخمة، وتضحياته الجسام».

يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، وأحد عشر فصلاً، مع مقدمة، وتوطئة، وخاتمة.

في مقدمة الكتاب يشير الدكتور أحمد حمدي إلى أن الدراسات الإعلامية مازالت في حاجة إلى المزيد من العمل الدؤوب من أجل دراسة إعلام حركات التحرير في العالم الثالث بصفة عامة، وفي الجزائر بصفة خاصة، ذلك أن الثورة الجزائرية هي إحدى الثورات التحريرية التي أثرت بطابعها على الكثير من حركات التحرير الأخرى ابتداءً من خمسينيات هذا القرن، إضافة إلى ذلك فالمكتبة الإعلامية العربية لم تعرف إلا دراسة واحدة عن إعلام الثورة التحريرية الجزائرية قامت بها الدكتورة عواطف عبد الرحمن جاءت تحت عنوان«الصحافة العربية في الجزائر- دراسة تحليلية لصحافة الثورة الجزائرية- ».

وقد كان هدف المؤلف من هذا البحث- كما جاء في المقدمة- إبراز المبادئ التي سار عليها إعلام الثورة الجزائرية، ومقارنتها مع الإعلام الاشتراكي، والإعلام البورجوازي، ومتابعة تطبيقها عبر صحيفة«المجاهد»، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني من سنة: 1956م إلى 1962م.

في توطئة الكتاب يسلط المؤلف الضوء على مجموعة من العوامل التي مهدت لانذلاع ثورة أول نوفمبر1954م، وكانت المخاض الأخير لميلاد صحافة ثورية في الجزائر، كما قدم عرضاً موجزاً عن الأحزاب السياسية، وتطورها السياسي، فتحدث عن حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي ظهرت في أكتوبر1946م كامتداد طبيعي لحزب الشعب الجزائري الذي كان كذلك امتداداً لحزب نجم شمال إفريقيا التي يعتبر أول حزب مغاربي كبير قدم برنامجاً سياسياً سنة: 1927م، وقد كان يُطالب بالاستقلال التام للجزائر.

و يتحدث المؤلف عن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، والحزب الشيوعي الجزائري، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعد عرضه لواقع الأحزاب، والتنظيمات السياسية الوطنية، يتطرق إلى الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والإعلامي الذي عاشته الجزائر في الفترة الممهدة لاندلاع ثورة نوفمبر1954م.

وبالنسبة للواقع الإعلامي الذي عرفته الجزائر في تلك الفترة يشير إلى أنه ظل«منقسماً على نفسه تجاه مسألة تصفية الاستعمار الفرنسي، فهناك الانتصاريون (نسبة لحركة انتصار الحريات الديمقراطية)، وهناك البيانيون (نسبة للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري)، وغير ذلك، وكل متعصب لآرائه وأفكاره، دون أن يكون هناك أي حوار حقيقي رغم تعرضهم لقمع مشترك، ولم تسفر محاولة إنشاء (الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها) سنة: 1951م عن نتائج تذكر في هذا المجال» (ص: 41) .

ويذكر الدكتور أحمد حمدي أن تعدد الصحف الوطنية، واختلاف الأفكار السياسية بين القوى الموجهة لها أدى إلى بروز الصراعات الهامشية، وهذا ما منح الاستعمار فرصة ثمينة لتمرير مخططاته الرامية إلى القضاء على الحركة الوطنية الجزائرية، وشل حركة التعبئة الجماهيرية للنهوض بالوطن، والتخلص من الاستعمار قبل اندلاع ثورة نوفمبر.

الحاجة إلى إعلام ثوري

جاء الباب الأول من الكتاب تحت عنوان«الحاجة إلى إعلام ثوري»، وقد ضم ثلاثة فصول، ويسعى فيه المؤلف- كما يذكر- إلى تعريف القارئ على حاجة جبهة التحرير الوطني إلى إعلام ثوري يكمل أعمالها السياسية، والعسكرية، ويشرح أفكارها، ويرد على دعايات العدو.

في الفصل الأول يتطرق إلى بوادر الإعلام الثوري، ويذكر أن التنظيمات السياسية في الجزائر كانت تولي أهمية بالغة للإعلام، وقد كانت جريدة«الأمة»هي لسان حال«نجم شمال إفريقيا»المحل، في حين أن الحزب الجديد حاول خلق إعلام ثوري، غير أن ترصد قوى الاستعمار له شلّ خطواته، و حال دون ذلك، وتعد نشرة«الوطني» التي صدرت عن«اللجنة الثورية للوحدة والعمل»سنة: 1954م هي آخر الحلقات في البحث عن إعلام ثوري قبل الثورة، وقد اندلعت الثورة التحريرية، ووجدت نفسها في حاجة ماسة إلى قيام إعلام ثوري يؤدي جملة من المهام السياسية لتعبئة الجماهير الشعبية لتلتف حول الثورة، وذلك في ظل وجود دعاية استعمارية مظللة بلغت ذروتها القصوى ضد الوعي الثوري لجماهير الشعب الجزائري، ومن أبرز هذه المهام :

«أ- اتصال الثورة بالشعب، وإبلاغ المواطنين حقيقة ما يجري من صراع مسلح مع العدو.

ب- تعبئة الجماهير الشعبية لتلتف حول الثورة بغاية التحرر والاستقلال.

ج- تحصين المواطنين الجزائريين من الإعلام الاستعماري، وحربه النفسية والإيديولوجية.

د- نقل وإبلاغ رأي الثورة، وحقيقتها إلى العالم الخارجي.

ه- مواجهة إعلام العدو، والرد عليه، ودحض دعاياته» (ص: 52) .

في الفصل الثاني من الكتاب يرصد الدكتور أحمد حمدي الهجمة الإعلامية الفرنسية الشرسة، ويتعرض لردود فعل وسائل الإعلام الاستعمارية على انطلاق الثورة، ويشير إلى أن الدعاية الاستعمارية التي تعتبر جزءاً من السياسة الداخلية، والخارجية للسلطة الاستعمارية«تكون خفية ومتسترة، عندما تكون الأوضاع أكثر هدوءاً، وتكون مباشرة ومكشوفة عندما يحدث التحرك الجماهيري، وطبيعة الظروف هي التي تحدد طبيعة العنف، والإرهاب الذي تمارسه السلطة ضد هذا التحرك، كما تحدد درجات تطور الإرهاب تبعاً لقوة المقاومة، وصمود الجماهير، كذلك تكشف الدعاية الاستعمارية في الوقت ذاته عن حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن السلطة والقوى الاستعمارية تجنح إلى ممارسة مختلف الأساليب من أجل تحقيق مصالحها الاستعمارية، والإبقاء على هيمنتها الاستيطانية، وذلك باتباع طرق التعذيب، والتصفية الجسدية للقوى الثائرة، وفي آن واحد تمارس عمليات الإرهاب الفكري للوصول إلى الأهداف المرسومة، والاستمرار في الهيمنة، وقمع الجماهير المضطهدة، لهذا فإن الإعلام والدعاية، هنا كأداة في يد المستعمرين ضد مصالح الشعب المستعمر- بفتح الميم- تتحول إلى شكل من أشكال القمع، والإرهاب، عاكسة بذلك الإيديولوجية الاستعمارية كقاعدة تسري على المجتمع كله» (ص: 62) .

وفي الفصل الثالث الموسوم ب«جبهة التحرير الوطني وسلاح الإعلام»يسعى إلى إيضاح كيفية اكتشاف جبهة التحرير الوطني لسلاح الإعلام، وكيف تمكنت من تحويل النظرة المعادية للصحافة لدى الإنسان الجزائري إلى اقتناع بالدور الكبير الذي تنهض به الصحافة لتجميع المعلومات، وشحذ الهمم، وتحميس الجماهير.

وقد كان الإعلام الثقافي أول إعلام تحصن به المواطن الجزائري إزاء الهجمة الإعلامية الاستعمارية، ويرى المؤلف أن الفترة الممتدة من سنة: 1954م إلى غاية: 1956م من حياة الثورة الجزائرية كشفت الحاجات الملحة لتأسيس وإنشاء إعلام ثوري، يكون ناطقاً رسمياً باسم جبهة التحرير الوطني، والثورة الجزائرية للتمكن من مواجهة الحملات الإعلامية الفرنسية المعادية، وفي الآن ذاته تتمكن من مخاطبة الرأي العام الجزائري، وكذلك الرأي العام الدولي.

خصائص مبادئ الإعلام والدعاية لجبهة التحرير الوطني

يحمل الباب الثاني من الكتاب عنوان: «خصائص مبادئ الإعلام والدعاية لدى جبهة التحرير الوطني»، ونلفي فيه أربعة فصول.

في الفصل الأول منه يتطرق الدكتور أحمد حمدي إلى المنهج الفكري لجبهة التحرير الوطني، وتطوره، ويذكر أن مؤتمر الصومام المنعقد في: 20أوت1956م كان نقطة الانطلاق لمبادئ جبهة التحرير الوطني السياسية، والإيديولوجية، والإعلامية، وأوصى بتأليف مجموعة من اللجان المحلية من أهمها: لجنة الأخبار، والدعاية، واللجنة الاقتصادية، واللجنة النقابية، واللجنة السياسية، وذكر أن المحتوى الفكري لمنهج الصومام يعكس نفس الفكر الذي صاغ بيان أول نوفمبر، ولكن بصورة موسعة مع تحديد مواقف أشمل للقضايا المطروحة كما أن عدم اكتمال إيديولوجية جبهة التحرير الوطني- كما يذهب إلى ذلك المؤلف- في منظومة من الآراء السياسية، والحقوقية، والفلسفية، والأخلاقية، جعل المبادئ الإعلامية التي حددها بيان الصومام محصورة هي الأخرى في الركن السياسي فقط.

وفي الفصل الثاني يركز المؤلف على مبادئ الإعلام والدعاية في منهج الصومام، ويشير إلى أنه يمكن تقسيم المبادئ الإعلامية لجبهة التحرير الوطني إلى قسمين: قسم يندرج في إطار المبادئ الثابتة، وقسم يتعلق بالمبادئ المرحلية، فالمبادئ الثابتة تتصل بالصدق، والتعبير عن رشد الشعب، والهرج والمرج، وعنف القول، أما المبادئ المرحلية فهي الحزم والاتزان، والحماس.

و يخلص الدكتور أحمد حمدي إلى أن«مفهوم الإعلام عند جبهة التحرير الوطني إنما هو وطني ثوري ملتزم ومسؤول، وعليه أن يرتكز على مبادئ أساسية كالصدق، والموضوعية، والحقيقة والشمولية، كما أنه يؤدي مهام الإعلام، والتوجيه، والتكوين، والتنظيم، والتجنيد، والرقابة، والنقد» (ص: 124) .

من خلال الفصل الثالث يجري المؤلف مقارنة ما بين إعلام جبهة التحرير الوطني، والمبادئ الإعلامية البورجوازية، والمبادئ الإعلامية الاشتراكية في مرحلة اشتداد الحرب الباردة بين المعسكرين، و يتوصل بعد المقارنة إلى أن مبادئ الإعلام، والدعاية لجبهة التحرير الوطني تتشابه مع المحور الثالث لمبادئ الماركسية اللينينية، وأوجه التشابه تكمن في الصدق والجماهيرية، والممارسة العملية، وأوجه الخلاف تكمن في الإيديولوجية، والحزبية، والطبقية، ورأى الدكتور أحمد حمدي أن مبادئ إعلام، ودعاية جبهة التحرير الوطني إنما هي قومية وطنية، ولم تكن أبداً ماركسية- لينينية، كما أنها متناقضة مع مبادئ الإعلام والدعاية البورجوازية.

وفي الفصل الأخير من هذا الباب يلقي الضوء على طبيعة ومهام الإعلام و الدعاية عند جبهة التحرير الوطني، ويذهب إلى أن إعلام ودعاية جبهة التحرير الوطني لا تعكس مصالح دولة، ولا مصالح حزب، وإنما «تعكس مصالح مشتركة لجماهير ثائرة تقاتل من أجل الوصول إلى الاستقلال الوطني، وطرد المستعمر، وبناء الدولة الجديدة، أي أن هذه المبادئ جاءت مع الكفاح المسلح، لذلك فإن حركتها، وتوجيهاتها تميزها الظروف التاريخية التي تمر بها الثورة، لهذا، فإن جبهة التحرير الوطني حددت أهدافها بالقضاء على نوعين من الاضطهاد هما: الاضطهاد العنصري الاستعماري، والاضطهاد الاجتماعي» (ص: 133) .

ويرى المؤلف أن مبادئ الإعلام، والدعاية عند جبهة التحرير الوطني قد عكست مصالح الجماهير المقاتلة التقدمية، والثورية، فهي تعبر عن مرحلة تاريخية معينة استطاعت خلالها أن تجمع الصفوف نحو أهداف محددة، ووفق رؤيته فالحديث عن طبيعة، ومهام مبادئ الإعلام والدعاية عند جبهة التحرير الوطني يستوجب مراعاة الدقة، وبالنسبة للمهام الإعلامية لجبهة التحرير الوطني فقد كانت مهام مرحلية أنتجتها الثورة فطبيعة المعركة القاسية ضد الاستعمار الفرنسي الذي كان مجهزاً بأخطر الوسائل الحربية، والإعلامية فرضت نفسها على مهام الإعلام الجزائري، ولذلك فلابد من توحيد كافة وسائل الإعلام، وتوجيهها للعمل على عدة جبهات، الجبهة الداخلية للتعبئة، والمناعة، والحصانة، وشد الجماهير للقتال، وفي فرنسا بغرض كسب الرأي العام الديمقراطي الفرنسي، وعلى صعيد الجبهة العالمية لكسب الرأي العام الدولي، والعالمي، وقد كانت هناك مهمتان أساسيتان على صعيد الجبهة الداخلية ذكرهما بيان الصومام هما: نشر الوعي السياسي في مراكز الثورة، والرد بسرعة، وبوضوح على جميع الأكاذيب، واستنكار أعمال الاستفزاز، والتعريف بأوامر جبهة التحرير الوطني، وتوزيع المزيد من المنشورات، والمطبوعات المتنوعة، وإيصالها حتى عمق المناطق المحاصرة، وذلك بالإكثار من مراكز الدعاية، وتأمين المواد اللازمة لها، والهدف من هاتين المهمتين التعبئة الروحية للجماهير، وتوحيد حقوقها، وإلهاب حماسها الوطني للاستمرار في مسيرة الكفاح، والتحدي للعدو، والوقوف في وجه الدعاية الاستعمارية لمنع تأثيرها على الشعب الجزائري، وذلك بإيصال المعلومات الدقيقة المدعمة بالحقائق العملية من جبهات القتال في أقرب مدة ممكنة، والتأكيد على قدرة الثورة في قيادة الجماهير حتى النصر.

الممارسة العملية لمبادئ الإعلام والدعاية عبر صحيفة «المجاهد»1956/1962م

يخصص المؤلف الباب الثالث من الكتاب للتركيز على تجربة صحيفة«المجاهد»، ويقسمه إلى أربعة فصول في الفصل الأول يتطرق إلى صحيفة«المجاهد»كناطق رسمي باسم الجبهة، وفي الفصل الثاني يستعرض نظرتها للمجتمع الجزائري، وتصورها لمستقبله، ويذكر في البدء أن صحيفة«المجاهد»باعتبارها صحيفة رأي ذات اتجاه ثوري اهتمت بتطوير نظرتها حول المجتمع الجزائري، وهي تعبر بذلك عن الاتجاه السائد في جبهة التحرير الوطني، وتنطلق من مبدأ أن جبهة التحرير الوطني هي المعبر الحقيقي عن إرادة الشعب الجزائري، كما أنها المعبرة عن إرادته الثورية المتطلعة إلى استرجاع سيادته الوطنية مهما كلف من ثمن، وبالنسبة لنظرتها للمجتمع الجزائري يرى المؤلف أنها نابعة من قناعات تمتد إلى الماضي البعيد الذي يعود إلى أعماق التاريخ داحضة بذلك رأي المستعمرين بأن الأمة الجزائرية هي في طور التكوين، وهي تنظر إلى الواقع باعتباره الركيزة التي ينبني عليها المستقبل، ثم تستشرف آفاق المستقبل للجزائر المستقلة، ومهام البناء والتشييد في ظل السيادة الوطنية، ومن أبرز القضايا التي تعرضت لها«المجاهد»في مجال حديثها عن المجتمع الجزائري- وفق ما يذكر الدكتور أحمد حمدي- :

«- المجتمع الجزائري يمتد إلى أعماق التاريخ، وليس في طور التكوين كما يدعي المستعمرون.

- الأمير عبد القادر وضع أسس الدولة الجزائرية وهي دولة شعبية.

- ثورة نوفمبر امتداد للثورات السابقة.

- ثورة التحرير تحولت إلى ثورة اجتماعية.

- المجتمع الجزائري تغير بفضل الثورة.

- وحدة الشعب الجزائري لا يمكن المساس بها.

- الدولة الجزائرية المستقلة يجب أن تؤسس على مبادئ الديمقراطية الاجتماعية.

- بناء المجتمع الجزائري واجب على كل جزائري.

- الإصلاح الزراعي واجب، وكذلك تحديث الثقافة والصناعة.

- روح الثورة يجب أن تستمر حتى في ظل الاستقلال» (ص: 168- 169) .

وفي الفصلين الأخيرين من هذا الباب يتطرق لصحيفة«المجاهد»، والعمل الديبلوماسي، ويعرض لكيفية طرح القضية الجزائرية على الرأي العالمي، كما يرصد الأساليب التي اعتمدتها في الرد على دعاية العدو، ويؤكد على أن«المجاهد»كانت الناطق الرسمي الحقيقي، والفعال لجبهة التحرير الوطني، كما أنها الأمينة على مبادئ الجبهة، والمطبقة لها عبر مختلف الأنواع الإعلامية.

***

بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

........................

الهوامش:

(1) استقينا المعلومات المتعلقة بمسيرة حياة الأستاذ عبد القادر نور من غلاف كتاب: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، منشورات دار هومة، الجزائر، الطبعة الثانية، أكتوبر2008م.

(2) ينظر: حوار مع أول رئيس تحرير للإذاعة والتلفزيون الجزائري عبد القادر نور، منشور في مجلة الفرسان في قسم (ضيف العدد)، حاوره: زبير حجايجي، العدد الأول، 01/15نوفمبر2010م، ص: 22.

(3) عبد القادر نور: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، منشورات دار هومة، الجزائر، الطبعة الثانية، أكتوبر2008م، ينظر تقديم الدكتور سعد الله، ص: 7- 8.

(4) عبد القادر نور: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، ينظر تقديم الأستاذ المفكر المجاهد عبد الحميد مهري، ص: 11- 12.

(5) عبد القادر نور: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، ينظر كلمة الأستاذ الأديب عز الدين ميهوبي، ص: 11- 12.

(6) كلمة الأستاذ الأديب عز الدين ميهوبي، المرجع نفسه، ص: 14 وما بعدها.

(7) عبد القادر نور: شاهد على ميلاد صوت الجزائر، ذكريات وحقائق، ص: 26.

(8) المرجع نفسه، ص: 28 وما بعدها.

(9) المرجع نفسه، ص: 45 .

(10) المرجع نفسه، ص: 48، وقد أورد الأستاذ عبد القادر نور كلام الأستاذ محمد مهري نقلاً عن كتابه المعنون ب«ومضات من دروب الحياة»، ص: 86.

(11) المرجع نفسه، ص: 50 .

(وقفة مع "الإسلام الاحتجاجي" في الفكر الهرماسي)

يقول راشد الغنوشي بالدولة المدنية كونها تستمد سلطتها من الشعب وهذا يجعل الشعب صاحب السلطة، وبالتالي فهي ليست دولة دينية بالمعنى التيوقراطي كما نراه في غيران فيما عرف بسلطة وليّ الفقيه، فسلطة الله يمثلها الشعب، أما الإسلاميون يرى الغنوشي فهم متعددون ولبسوا حزبا واحدا إسلاميا، كما أن الأحزاب التي كانت إسلامية في وقت مضى تملصت من الإسلام أن اتجاه التطور كان نحو التغريب والعولمة أما اليوم الإسلام ليس حكرا على حزب إسلامي وهذا نتيجة تطور الراي العام نحو مزيد من التديّن ومزيد من الالتزام بالإسلام.

"العنف والسّلم في مسار حركة النهضة الإسلامية في تونس" من التأسيس الى الثورة التونسية، هو عنوان كتاب للدكتور الطيب كمال عيساوي، صدر عن أوراق ثقافية للنشر والتوزيع وبدعم من دار "الأصالة" للنشر الجزائر، بعد اطلاعنا على هذا الكتاب لفت انتباهنا بعض المفاهيم التي ربما تطرق إليها القليل من الكتاب والباحثين، وهي ظاهرة "التديّن" عن الحركات الإسلامية ونظرة الإسلامويين إلى المسلم والعقلية الإسلامية في مختلف صورها وأشكالها، فبعدما ظهرت الحركة الإصلاحية التي قادها الثعالبي والسنوسي وغيرهم من العلماء والمصلحين نشأت الحركات الإسلامية في بدايتها كجماعة إسلامية، تحمل همّ المجتمع وخطر المشروع العلماني، إلا أن بعد ظهر المعارضة تعددت مظاهر التديّن، ممّا أدّى الى توسع المفاهيم، فكان هناك التدين التقليدي، ومنهم من سلك المنهج السلفي الإخواني، وآخرون اختاروا التديّن العقلاني وبهذا التنوع أو الانقسام اختلفت الصياغة للفكرة الإسلامية، وتعددت الفتاوي، واتخذ كل فلايق مرجعيته الدينية.3187 العنف والسلم

كان للتدين العقلاني الدور البارز في خروج الحركة الإسلامية من حيّز الدّعوة إلى آفاق السياسة وفلسفة فقه الواقع، للعلم أن معظم الحركات الإسلامية في الوطن العربي وبالأخص في المغرب العربي لم تتطرق في نشاطها وخطاباتها الى فلسفة فقه الواقع ولم يتم دمجها في البرنامج الدعوي والجزائر كعينة حيث اعتمدت الحركات الإسلامية في مشروع إصلاحها ودعوتها على المرجعيات الدينية كابن تيمية والألباني وهي مرجعيات ظلت فلسفتها قامة على مرحلة معينة لم تعدد تتماشى مع عصر الرقمنة،، باستثناء حركة النهضة في تونس، لعب التدين العقلاني فيها دور كبير، جعل النخبة الإسلامية تتعامل بعقلانية أكثر مع الواقع التونسي، عكس ما حدث في الجزائر، حيث طغى التدين السلفي الإخواني على حساب نظيره العقلاني، دخلت حركة النهضة مرحلة جديدة في التعامل مع الواقع بأدوات تُؤَوِّلُ النُّصُوص الشرعية بما يتماشى مع الواقع المعاش.

لقد أدركت حركة النهضة التونسية أن الممارسة التونسية هي الأداة التي تحقق الجماعة مبتغاها حين أسست مع بداية الثمانينات (1981) حركة الاتجاه الإسلامي كمظلة قانونية، وشهدت هذه الحركة أعمال قمع من طرف النظام البورقيبي الذي كان ضد الفكرة الإسلامية الى حد غلقه جامع الزيتونة، ومارس ضد قادتها الاعتقال والتعذيب واستمر الوضع إلى غاية مجيئ بن علي، عاشت في عهده الحركة مرحلة ضعف، بالرغم من سياسة الاعتقالات والنفي لم يفشل المشروع النهضوي بقيادة راشد الغنوشي، حيث تمكنت حركة النهضة التونسية قيادة حكومتين أمام نظام مستبد، وكان لها دور في صياغة دستور تونس وتحقيق السلم والتعايش، قبلها بسنة شهدت الجزائر أحداث عنف فيما عرف بالربيع الأمازيغي الذي كان حراكا من أجل الهوية، وفي المغرب أيضا فيما عرف بأحداث الكوميرا.

اعتمد صاحب الكتاب على بعض المراجع ومنها كتاب "الإسلام الاحتجاجي" للدكتور محمد عبد الباقي الهرماسي باحث في علم الاجتماع (ص24)، حيث أبحر فيه بشيء من التفصيل، ويبدو أن هذا المفهوم غير متداول في الكتابات الإسلامية أو ربم لك أتصادف معه في ظل ما يدور من صراعات فكرية حول التدين والنظام، التدين والشيوعية والعلمانية ولتدين والحداثة وما الى ذلك، فالجماعة الإسلامية في راي الغنوشي كانت أكثر تأثرا بكتابات الإخوان وسيد قطب وكادت تنحصر كما يقول هو في الكتابات الإخوانية (ص 29)، حسب راي الكاتب، لم يكن لفكر المودودي ومالك بن نبي إلا دور ثانوي في عملية البناء، قد يرى ملاحظ أن كتاب الدكتور عيساوي هو تحصيل حاصل، لأنه ركز على عرض الفكر الهرماسي، إذ يرى هذا الأخير أن مشروع الحركة كان إسلاميا إيديولوجيا مثاليا لا يلامس الواقع، وأن المجتمعات التي تسمي إسلامية جاهلية ما دامت لا تصرف شؤونها الحاكمية، ويلاحظ أن الهرماسي بالغ في انتقاده الحركات الإسلامية التي ربما لم تجد الدعم الكافي من الأنظمة العربية وواجهت نظاما مدعما من قبل الأيادي الحمراء، خاصة تلك التي تطبع مع الكيان الصهيوني.

إن اعتماد الدكتور عيساوي على الفكر الهرماسي في نقل تجربة النهضة في تونس وصراعها مع النظام التونسي جعلنا نركز انتباهنا أكثر على فكر الهرماسي وأطروحته حول الإسلام الاحتجاجي، وما هو الفرق بين هذا الأخير والإسلام السياسي، بحكم أن الإسلام السياسي هو صراع دائم، أما الاحتجاجي فعمره محدود وقد ينتهي مع انتهاء الأزمة أكانت سياسية أو اقتصادية، إن تحديد المفاهيم طبعا مرتبط بفهم الإشكالية، فالهرماسي يشير في كتابه أن فشل الحركات الإسلامية سواء في تونس أو في غيرها راجع إلى سياسة "أخونة" الدولة التي دعا إليها تنظيم الإخوان في مصر، ما وقفنا عليه ونحن نتصفح كتاب الدكتور الطيب كمال عيساوي وما جاء به الفكر الهرماسي هو أن البعض لا يفرق بين الإسلام كدين وعقيدة والمسجد كمؤسسة دينية تقام فيها الطقوس أو العبادات، فهو كمؤسسة (أي المسجد) له الحق في ان يحتج على وضع ما لا يتماشى مع الدين كشرب الخمر مثلا، فالمسجد كثير الارتباط والتمسك بالنص الديني (القرآن) وما يتعرض له من تفكيك وتأويل من قبل العقلانيين أو الحداثيين التنويريين.

الفيس والنهضة أمام نظام قمعي

لقد عرف على النظام البورقيبي أنه نظام دكتاتوري اتسم بسياسة الاعتقالات لقادة الحركات الإسلامية انطلاقا من راشد الغنوشي ومنعه من إلقاء الخطب المسجدية، يحدث في الجزائر ما حدث للغنوشي في تونس عندما حظر النظام الجزائري الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة الشيخ عباسي مدني وقام بنفيه، كذلك منع علي بن حاج الرجل الثاني في الفيس المحظور من دخوله المسجد لأداء صلاة الجمعة أو إلقاء خطبة الجمعة، وتشديد عليه الحصار لتدمير أعصابه وتحطيم معنوياته وقتله معنويا، قد يتساءل سائل إن كان النظام الجزائري عاجز على اغتيال علي بن حاج أم لا؟ طبعا ليس عاجزٌ للتخلص من علي بن حاج الذي هو الآخر دوما يزعج السلطة بمعارضته لها، فالنظام الجزائر ي ليس بهذا الغباء ليلجأ إلى عملية الاغتيال، من جهة لكي يبعد عنه صفة التطرف، ومن جهة أخرى يتجنب تمرد أنصار الفيس والمتعاطفين معه، إن ربط الصراع في تونس بالصراع في الجزائر لرادع إلى أن الأحداث وقعت في ترة واحدة، ففي نهاية الثمانينيات شهد البلدين حركات عنف، بعد ذهاب الشاذلي بن جديد في الجزائر ومجيء بن علي في تونس.

في هذه الفترة بالذات حدث للنهضة ما حدث للفيس، أراد النظامين الجزائري والتونسي إبعاد الحركات الإسلامية من أجل ترسيخ الحكم الديمقراطي بدل الحكم الإسلامي، وظهر نظام بوليسي لقمع الإسلاميين، وبالرغم مما كان يحدث في الجزائر من صراع، فر راشد الغنوشي إلى الجزائر، حسب الأرقام التي وردت في الكتاب فالنظام التونسي قتل أكثر من520 تونسي وسجن 30 ألف منهم، فضلا عن أحداث باب السويقة التي وقعت في 1991، والتي أشار إليها الدكتور عيساوي، شبيهة إلى حد ما بأحداث جوان 1991 عندما فضّت قوات الدرك الوطني والشرطة الجزائرية بالقوة المفرطة اعتصامات أنصار حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكما يقول صاحب الكتاب أن حركة النهضة في تونس قد استفادت من تجارب الحركات الإسلامية مع أنظمتها (ص49) فما حدث في الجزائر وسوريا ومصر وتونس كانت دروسا تعلمت منها حركة النهضة من نظام بن علي.

حسب رأي الغنوشي فإن حركة النهضة استفادت من كل التجارب التي مرت بها الحركات الإسلامية بما فيها الثورة الإيرانية وتجارب الجزائريين، كما كانت الثورة التونسية أكبر اختبار للنهضة ومنهجها السلمي مع النظام، إلا أن هذا الأخير لا يزال يمارس سياسة القمع تجاه الحركة من خلال سجن زعيمها الغنوشي وإصدار ضده أحكاما جديدة بنهمة التآمر على الدولة، هي السياسة نفسها التي ينتهجها النظام الجزائري لاعتقال الناشطين السياسيين بتهمة التجمهر الغير مسلح، الفرق بين النهضة في تونس والتيار الإسلامي في الجزائر هو أن حركة النهضة التونسية لم تعتمد العمل المسلح وسيلة للوصول إلى الحكم أو استراتيجية دفاعية ضد طغيان النظام.

***

علجية عيش بتصرف 

درجت معظم الأدبيات السياسية على تعريف العبودية بانها خضوع شخص لشخص آخر بشكل كامل وتام، وكثيرًا ما يتم ذلك من خلال ممارسة القوة أو السلطة من جانب المالك على الشخص الخاضع، الاّ ان هناك عبودية من نوع اخر هي العبودية الطوعية التي يلجأ اليها البعض بمحض ارادتهم ويتمسكون بها بقوة اولئك الذين قال فيهم الفيلسوف اليوناني افلاطون (لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات)، وبلا شك ان أرذل ضروب العبودية تلك التي يختارها الانسان بنفسه.

ولخطورة العبودية على حياة الانسان والشعوب على حد سواء فقد خضعت في القانون الدولي لعدد من المعاهدات والاتفاقيات والإعلانات وفي المقام الأول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (عام 1948) الذي ينص في المادة الرابعة على أنه «لا يجوز استرقاق أو استعباد أحد، فلا بد من القضاء على العبودية بكافة أشكاله " كما حظيت باهتمام الكتاب والفلاسفة فقد قالوا فيها الكثير محذرين من عواقبها الكارثية على مستقبل الشعوب، ومن بين الكتب التي تناولت هذه الآفة الموغلة في القدم كتاب (العبودية المختارة) الصادر عن دار الساقي عام 2016 لمؤلفه (اتيان دو لا بويسي 1530 - 1563) وهو كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وعلى الرغم من تنوع انشطته الانسانية والابداعية الا ان كتابه هذا يعد من اهم اعماله ان لم يكن الوحيد الذي اشتهر بها، وهذا الكتاب عبارة عن مقالة في العبودية الطوعية كتبها لا بويسي في عام 1547 وكان في الثامنة عشر من عمره وقد قرأها على بعض اقرانه في الجامعة فقاموا باستنساخها وتوزيعها بشكل خاص وقد وزعت ولم تُنشر حتى 1576  أي بعد وفاته عام 1563 بمرض السل ولم يبلغ من العمر سوى 32 سنة.

في (العبودية المختارة) حاول الكاتب "اتيان دو لا بو يسي" تقصى اسباب خضوع الشعوب غير المفهوم لشخص واحد لا يملك من القوة الا ما اعطوه وان الاسباب التي قادته الى كتابته تعود الى ما شهده عصره من اضطهاد على اساس الاختلاف الديني والمآسي التي وقعت اثناء الحرب الأهلية الضاربة بين البروتستانت والكاثوليك موضحا ان الماسي الناجمة عن الصراعات الدينية واستخدام القوة لا ينهي المشكلة بل يزيدها تعقيدا.

وفي التوطئة التي كتبها مترجم الكتاب صالح الأشمر وهو مترجم وكاتب لبناني ترجم الكثير من الأعمال الأدبية من الفرنسية إلى اللغة العربية. ومن أبرزها كتاب الجهل المقدس لمؤلفه  أوليفييه روا يلخص  الأشمر جانبا من افكار الكتاب  فيقول (ان العبودية المختارة تطرح مسألة شرعية الحكام الذي يسميهم اتيان دو لا بويسي "أسيادا" أو "طغاة" مهما كانت طريقة وصولهم الى السلطة سواء بالقوة او الوراثة او بالانتخاب وان ما يفسر هيمنة هؤلاء الطغاة ليس حسن ادارتهم للملك طبعا لا سيما ان أكثرهم يتميزون بانعدام الكفاءة ولكن العادة اكثر من الخوف هي التي تفسر استمرار الشعب المستعبد في احتمال وطأة الاستعباد ثم يأتي الدين والخرافة كعاملين من عوامل الخضوع الا انهما لا ينطبقان الا على الجهلة من العوام، ثم ان سر كل طغيان انما يكمن في اشراك فئة قليلة من المستعبدين في اضطهاد سائرهم، وهكذا يرمي الطاغية بالفتات الى زمرة المتملقين من أتباعه فهؤلاء المتملقون المقربون الى الطاغية يختارون العبودية طواعية بينما يكون الشعب مكرها عليها وعلى هذا الاساس يقوم هرم الطغيان ص8).

في هذا التفسير أجد المترجم قد جانب الحقيقة كثيرا فهو يرى ان اسباب استمرار العبودية يكمن في عنصر الاعتياد وكأن المستعبَد ــ بفتح الباء ــ يستمرئ عبوديته ولا يشير المترجم الى عامل الخوف الذي يلازم الشعوب جراء القسوة التي تمارسها الحكام ضد شعوبها، فالخوف في نظر الفيلسوف سقراط (يجعل الناس اكثر حذرا، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية) وبالتالي تجد الشعوب نفسها عاجزة عن مواجهة الحكام فتخضع  تدريجيا الى العبودية،   و ذات التفسير يتبناه لا بو يسي في اغفال عامل الخوف فيقول (ان موافقة المسترقين لا قوة الطاغية هي التي تؤسس الطغيان، وان قبول الشعوب باسترقاقها المتأتي من رغبتها ومن أنانيتها ومن طمعها هو الذي يتيح لواحد تعضده شبكة رفيعة لكنها ذات تسلسل هرمي ومتضامنة ان يوطد سلطانه برضا الجميع ص 12).

ويتساءل لا بويسي مستغربا (كيف أمكن لكثير من الناس والبلدات والمدن والأمم ان تتحمل احيانا وطأة طاغية وحيد لا يملك من القوة الا ما اعطوه ولا قدرة له على أذيتهم الا بقدر ما أرادوا ان يحتملوا منه وما يدعو الى العجب اكثر مما يبعث على الحزن هو رؤية الملايين من الناس يخدمون على نحو يُرثى له والنير في اعناقهم من دون ان يكونوا مكرهين على ذلك من قوة أكبر ص23) ولهذا يلقي باللوم على من ارتضى هذا النوع من العبودية بسبب الضعف الذي يعاني منه هذا التوع من البشر فقد كان بمقدورهم ان يكونوا اقوياء وان لا يخضعوا للقوة، فالطاغية ليس سوى بشر مثل سائر البشر ولكن الشعب هو الذي اعطاه السلطة عندما تخلى عن حريته (وعندما يتعرض بلد ما الى قمع طويل تنشأ اجيال من الناس لا تحتاج الى الحرية وتتواءم مع الاستبداد ويظهر فيه ما يمكن ان نسميه "المواطن المستقر") وبهذا يربط لا بويسي الطاعة والهيمنة معا.

ويصف العبودية بنار شرارة صغيرة (تصبح كبيرة وتزداد اشتعالا كلما القينا فيها من الحطب، فمن دون ان نصب عليها الماء لإخمادها يكفي ان لا نمدها بالحطب فلا يبقى ما تشتعل به فتأكل نفسها بنفسها وتخبوا، كذلك الطغاة كلما نهبوا ازدادوا طمعا وعاثوا فسادا وتخريباً فان لم يعطهم الناس شيئا ويكفوا عن طاعتهم يصبحون عراة مهزومين ولا يعودون شيئا مذكورا ص32) فهو بهذا الطرح يحاول ان يقدح شرارة الثورة ضد الهيمنة والاستعباد، فالشعوب لا يمكن ان تحصل على حريتها بمجرد التمني بل بالإرادة المقترنة بالشجاعة والاقدام  وان كان ثمنها غاليا.

في جانب أخر من الكتاب يصنف المؤلف (الطغاة ثلاثة اصناف: صنف يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنف انتزع الملك بقوة السلاح، وصنف ثالث جاءه الملك بالوراثة ص40) وهؤلاء وان اختلفوا في طرق الاستيلاء على السلطة وفي اسلوب ادارتها الا ان هدفهم واحد ذلك تثبيت اركان سلطتهم وتعزيز العبودية وصرف أذهان شعوبهم عن فكرة الحرية والتعامل مع الشعب على انه ثور ينبغي اخضاعه وتذليله ولكنه ــ أي المؤلف ــ مؤمن بولادة جيل جديد من الناس مادام لديهم شيء من الانسان لا يقبلون المس بحريتهم ولا يستسلمون للعبودية ويتبعون العقل وحده على خدمة رجل واحد.

وعن الحيل التي يعمد اليها الطغاة في تثبيت اركان حكمهم والسيطرة على الشعب يذكر المؤلف لجوء الحكام الى اسباغ صفة الحكمة والقداسة على انفسهم كما كان يفعل الاباطرة الرومان الذين (لم ينسوا ان يتخذوا بوجه عام لقب محامي الشعب لما كان لهذه الوظيفة من حرمة وقداسة وبفضل هذا اللقب وهذه الأداة يضمنون ثقة الشعب كما لو ان المطلوب سماع الاسم وليس الاحساس بمفاعيله ص69) هكذا عاشت أمم كثيرة زمنا طويلا في ظل الشائعات والاكاذيب التي تخترعها بنفسها ثم تصدقها.

ويعرج الكاتب على هيكل الطغيان وكيفية نشأته فيقول (ان من يثبّتْ الطاغية في طغيانه قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الاربعة او الخمسة يتقربون اليه من تلقاء انفسهم او يدينهم هو منه ليكونوا شركاء في فظائعه ونداماه في لذته وقواديه في شهوته ويقاسمونه غنائم نهبه وتحت هؤلاء يوجد ست مئة تابع لهم يستفيدون منهم وتحت الست مئة هناك ستة الاف يوعدون بحكم المقاطعات او التصرف بإدارة الأموال العامة وما اطول سلسلة الاتباع الذين يأتون بعد ذلك، فما ان يعلن ملك انه اصبح طاغية حتى يلتف حوله وبعضده حثالة المملكة الذين يتملكهم طموح جامح وجشع شديد لكي ينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصبحوا طغاة صغار في ظل الطاغية الكبير ص 80) ويصف تقّرب هؤلاء من الطغاة ليس فيه سوى الابتعاد عن الحرية واحتضان العبودية بالذراعين، وأما عن نهايتهم في هذه الشراكة غير النظيفة المتمثلة في التفافهم حول الطاغية فيقول (ان عددا كبيرا من الذين عاشوا في كنف الملوك الاشرار لم ينج منهم الا نفر قليل ان لم نقل لم ينج منهم احد من بطش الطاغية الذي كانوا قد حرضوه من قبل على البطش بالأخرين ص85) فهؤلاء كما يصفهم بؤساء يرون كنوز الطاغية تلمع ويبهرهم بريق اسرافه فيغترون بهذا الضوء ويقتربون منه.

وعلى الرغم من صدور كتاب (العبودية المختارة) قبل خمسة عقود وسبق بصدوره كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي الصادر عام 1931 وكذلك كتاب (الطاغية) للكاتب امام عبد الفتاح امام وكتب اخرى تناولت فكرة الديمقراطية والاستبداد  الا ان هذا الكتاب ما زال يحتفظ براهنيته فقد قدم لنا صورا من الاستبداد السياسي مازلنا نعيش تداعياته وأزماته حتى يومنا الحاضر. 

***

ثامر الحاج امين 

ترجمة عن اللغة الألمانية:

رضوان ضاوي

***

خلال ما يقرب من ثمانية قرون من الحكم العربي في إسبانيا، برز مركز إسلامي للازدهار الثقافي والعلمي في الأندلس، لكن هذا التراث الثقافي العربي اختفى من التاريخ. لذلك قامت الباحثة مونيكا فالتر بتتبع مسارات هذا الإرث الإنساني.

أطلق الباحثون الإسبان والفرنسيون صفة "التاريخ المقلق" أو "التاريخ تحت البساط" وهم يكتبون عن الحكم العربي في شبه الجزيرة الأيبيرية. لقد استمرت "الأندلس" العربية الإسلامية ما يقرب من ثمانمائة عام، أي تقريباً ما بين 711م و1492م، وشهدت عصرًا ذهبيًا في القرن الحادي عشر الميلادي، الموافق للخامس الهجري في خلافة قرطبة الإسلامية: فقد أصبحت المدينة في هذه الفترة مركزاً إسلامياً، وعرفت ازدهاراً ثقافياً وعلمياً، على أرض أوروبية، في شمال البحر الأبيض المتوسط.

فهل ينتمي الإسلام بعد كل هذا التاريخ المشرف إلى أوروبا؟ بطبيعة الحال! ولكن كيف وقع التراث الثقافي العربي في أوروبا ضحية لنسيان شبه مؤسسي؟ ولماذا يعتبر الغرب فكرة "أوروبا المسلمة" تقريباً تدنيساً للمقدسات؟

خمسمائة صفحة تحليلية عن تاريخ الأدب:

قدمت المتخصصة في اللغات والدراسات الرومانسية مونيكا فالتر(1) تحليلاً في أكثر من خمسمائة صفحة، تتعقب فيها الآثار العربية في تاريخ الأدب الإسباني والفرنسي. وعلى سبيل المثال، فقد تتبعت الكاتبة الشخصية الخيالية للموريسكي ريكوت Ricoteفي رواية "دون كيخوتي" لميغل سيرفانتيس(2)، والذي تم تحويله قسرًا إلى المسيحية، وهو بذلك يحيل على خلفية تاريخية حقيقية، تتعلق بالعربي الذي طرد بموجب مرسوم ملكي، مرسوم عام 1609، وعاد سراً وهو متحسر على فقدان وطنه، الذي عاش فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون في تسامح كبير.

حقيقة إن كتابة ميغيل دي سرفانتس، بصفته الشاعر الوطني لإسبانيا، عن موضوعات طرد الموريسكيين، وإعرابه عن تعاطفه مع شخصية ريكوت المطرود، تُظهر إلى أي مدى تقف الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط أيضًا في منطقة اتصال تاريخية، يتفرع فيها عالمان: عالم المسلمين، وعالم المسيحيين. ورغم ذلك فقد ظلت محاولات الاشتغال على المساهمة العربية في التاريخ الوطني الاسباني، محدودة جداً حتى الآن.(3)

كانت أوروبا ملتزمة بمبادئ التنوير:

يختلف الأمر في فرنسا عما هو عليه في إسبانيا: ففي عام 2006، نشر الفيلسوف الجزائري الفرنسي محمد أركون Mohammed Arkoun بحثا شاملاً عن "تاريخ الإسلام والخلال ما يقرب من ثمانية قرون من الحكم العربي في إسبانيا، برز مركز إسلامي للازدهار الثقافي والعلمي في الأندلس، لكن هذا التراث الثقافي العربي اختفى من التاريخ. لذلك قامت الباحثة مونيكا فالتر بتتبع مسارات هذا الإرث الإنساني.

أطلق الباحثون الإسبان والفرنسيون صفة "التاريخ المقلق" أو "التاريخ تحت البساط" وهم يكتبون عن الحكم العربي في شبه الجزيرة الأيبيرية. لقد استمرت "الأندلس" العربية الإسلامية ما يقرب من ثمانمائة عام، أي تقريباً ما بين 711م و1492م، وشهدت عصرًا ذهبيًا في القرن الحادي عشر الميلادي، الموافق للخامس الهجري في خلافة قرطبة الإسلامية: فقد أصبحت المدينة في هذه الفترة مركزاً إسلامياً، وعرفت ازدهاراً ثقافياً وعلمياً، على أرض أوروبية، في شمال البحر الأبيض المتوسط.

فهل ينتمي الإسلام بعد كل هذا التاريخ المشرف إلى أوروبا؟ بطبيعة الحال! ولكن كيف وقع التراث الثقافي العربي في أوروبا ضحية لنسيان شبه مؤسسي؟ ولماذا يعتبر الغرب فكرة "أوروبا المسلمة" تقريباً تدنيساً للمقدسات؟

خمسمائة صفحة تحليلية عن تاريخ الأدب:

قدمت المتخصصة في اللغات والدراسات الرومانسية مونيكا فالتر(1) تحليلاً في أكثر من خمسمائة صفحة، تتعقب فيها الآثار العربية في تاريخ الأدب الإسباني والفرنسي. وعلى سبيل المثال، فقد تتبعت الكاتبة الشخصية الخيالية للموريسكي ريكوت Ricote في رواية"دون كيخوتي" لميغل سيرفانتيس(2)، والذي تم تحويله قسرًا إلى المسيحية، وهو بذلك يحيل على خلفية تاريخية حقيقية، تتعلق بالعربي الذي طرد بموجب مرسوم ملكي، مرسوم عام 1609، وعاد سراً وهو متحسر على فقدان وطنه، الذي عاش فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون في تسامح كبير.

حقيقة إن كتابة ميغيل دي سرفانتس، بصفته الشاعر الوطني لإسبانيا، عن موضوعات طرد الموريسكيين، وإعرابه عن تعاطفه مع شخصية ريكوت المطرود، تُظهر إلى أي مدى تقف الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط أيضًا في منطقة اتصال تاريخية، يتفرع فيها عالمان: عالم المسلمين، وعالم المسيحيين. ورغم ذلك فقد ظلت محاولات الاشتغال على المساهمة العربية في التاريخ الوطني الاسباني، محدودة جداً حتى الآن.(3)

كانت أوروبا ملتزمة بمبادئ التنوير:

يختلف الأمر في فرنسا عما هو عليه في إسبانيا: ففي عام 2006، نشر الفيلسوف الجزائري الفرنسي محمد أركون Mohammed Arkoun بحثا شاملاً عن "تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا"، وأشار المؤرخ جاك لو غوف  Jacques le Goff في المقدمة الغيرية للكتاب، إلى احتكار أوروبا الغربية للتأريخ الذي يتحدد عبر تمثلات "الآخر".(4)

في الترسيم التاريخي، كان دور "الآخر" مُسندًا للمسلمين: فبينما نسبت أوروبا التفكير التقدمي لها، تم تعريف العالم العربي على أنه متخلف ويقف خارج التاريخ؛ بالتالي إذا كانت أوروبا ملتزمة بمبادئ التنوير والعقل، فإنها بحاجة إلى نظراء دينيين قروسطيين.(5) وهكذا أصبح المفهومان "إسلام" و "أوروبا" نقيضين منفصلين عن بعضهما.

اجتهاد وعمل فكري مفصّل:

يجب تقدير أهمية الاجتهاد المفصّل، والعمل الفكري الدقيق والواضح في كتاب مونيكا فالتر(6): واليوم، إن تأجيج الهجمات الإرهابية وتعقيد التوجهات الإسلاموية وارتفاع المشاعر المعادية للمسلمين في أوروبا، يهدد التراث المترابط، بالزوال مرة أخرى.

من ناحية أخرى، تدعو مونيكا فالتر في كتابها إلى بناء نسخة جديدة من "الهوية الأوروبية" تأخذ في الاعتبار البعد الإسلامي بالإضافة إلى البعد اليهودي المسيحي. وقد كشفت فالتر في كتابها عن قدرة كبيرة في تفكيك، ليس فقط الأساطير الفرنسية والإسبانية، بل أيضاً الأوروبية، وقد أفضى ذلك إلى استنتاج سياسي للغاية.

قراءة إجبارية للأوروبيين!

***

...........................

مصدر النص المترجم:

Tabea Grzeszyk, Monika Walter: „Der verschwundene Islam?“ Verleugnetes Kulturerbe.

ملاحظات وتعليق المترجم:

 (1) دراسات الرومانسية تشتمل دراسات اللغة الإسبانية، واللغة الفرنسية، واللغة الإيطالية، واللغة البرتغالية، إضافة إلى  اللغة الكاتالونية واللغة الرومانية، ولغات أخرى و.نظرًا لكون معظم الأماكن في أمريكا اللاتينية تتحدث اللغات الرومانسية، تتم دراسة أمريكا اللاتينية كذلك ضمن مقررات أقسام الدراسات الرومانسية.

(2) تطرقت مونيكا فالتر أيضا في تحليلها ل"دون كيخوطه" لميغيل دي سيرفانتيس، واعتمدت على الطبعة الأولى من النص الإيطالي الذي يعود لعام 1605.

(3) قدمت البروفيسورة مونيكا فالتر عرضاً باللغة الألمانية في 2013 بعنوان "سيرفانتيس بوصفه صديقاً للموريسكيين؟ إرث ثقافي إسباني في النقاشات الحالية

"Cervantes als Freund der Morisken? Ein spanisches Kulturerbe in den heutigen Islamdebatten

وأكدت فيه أن مع سقوط غرناطة العرب عام 1492، خضع المسلمون لحكم إسبانيا المسيحية، ثم تحولوا قسراً إلى مسيحيين جدد، وأطلق عليهم اسم"الموريسكيون". ثم اندلع جدال عنيف حول اندماجهم في المجتمع الإسباني، حتى تم طردهم جميعًا تقريبًا عام 1609، وفي كتاب "الدون كيخوطي"، لفت ميغيل دي سرفانتس الانتباه إلى مصيرهم وثقافتهم الإسلامية المسيحية المختلطة. ومع ذلك، يجد العديد من الباحثين في الدراسات الرومانسية صعوبة في تضمين أبحاثهم حول ما يسميه المؤرخون الفرنسيون والإسبان بـ"التاريخ المقلق" "historyiaincómoda" في النقاش حول الهوية الوطنية للإسبان.

(4) نادى المفكر محمد أركون مراراً بأنوار جديدة أو بتنوير للتنوير، وما يتضمنه ذلك من مراجعة لانحرافات الحداثة وأحكامها المسبقة.

(5) يمثل هذا الكتاب قطيعة مع طريقة التعامل مع الإسلام في القرون الوسطى. وبلغة أخرى هو كتاب نسقي متأثر بحركة التنوير والحداثة، ويفكك منطق "الشبيه" أو "النظير"، والذي يقول: إذا كان لا بد من إدماج المسلمين، فعلى الأقل يجب أن نجعل منهم شبيهين لنا، ولن يتم ذلك إلا إذا ربطنا الثقافة الإسلامية والدين الإسلامي بالمسيحية واليهودية، أو منطق "يجب أن تتماهى مع منطقي، حتى أقبل بك".

(6) أستاذة الدراسات الرومانسية البروفيسور د. مونيكا فالتر (جامعة برلين التقنية) درست أسباب هذا القمع وإزاحة الثقافة الإسلامية من تاريخ إسبانيا في سياق النقاش الحالي حول توافق القيم الأوروبية مع الإسلام.

 

نحُطُّ الرّحال عند أحد ركائز موروثنا الثقافي؛ ونُسجّلُ بكل فخر وأريحية؛ تميُّزَ تلك الممارسات الكتابية التي برْهنتْ عنْ علُوّ كعْبِ أبناء هذه الأمة في حلبة النّتاج الفكري بِعَديد خلفياته وبتبايُنِ صِيَغهِ ( شعر/ نثر)

آثرتُ في هذه الكلمة الموجَزَة؛ الاستئناس بشذرات من بوح "محمد أبي راس الناصري" وهو يمتطي صهوة السيرة والرحلة في آنٍ واحد. يعزف من خلالهما على وتر إفراغ الذات وتعرية النفس المبدعة في جميع أطوارها وعلى اختلاف تموْضُعاتِها.. نجدُهُ تارة؛ يسْتلطف بعض الأحداث فيرْويها بشغف.. ويمْتعِض مِن أخْرَياتٍ فيرْوِيها بقرف..! وفي الموْقِفَيْنِ؛ يبرز وعْيُ الكاتب بحقيقة هذا العالَم المُتدحْرِج.. عالَمٌ قدْ يصحُّ فيه قول "شوبنهاور": " لا أشتهي أن أكون صانع هذا العالَم.. منظرُ هذا العالَم؛ يُفتّتُ كبدي "

يُجسِّدُ كتاب "فتح الإله ومنته في التّحدّث بفضل ربّي ونعمته"؛ نسقاً معيّنا في حياة أبي راس الناصري على امتداد خمسة أبوابٍ؛ تمتح كثافتها من غزارة الحكيِ وشيوع الاستطراد وتقصّي الأخبار في مظانها مع هيْمنة النّزْعَة الفخْريَة المبْنية على تعظيم النّفس في بعض المرويات.

بعد حديثه عن الانتماء والعائلة بتفصيلٍ جَليٍّ (الوالد، الوالدة، الأخ الأكبر..) ثمّ بعد سرده لمشوار التكوين العلمي والثقافي؛ يلْتفتُ الكاتب بين الفينة والأخرى إلى توثيق مشاهد عَصِية لم يستطع نسيانها.. الألم عندهُ؛ يخترق الكتمان، فإذا به يُدوّنُ المعاناة: " وقدِ استمررتُ عشرين سنين عرْياناً، لا لِباس لي؛ إلا خرق كالعدم، وما لبستُ نَعْلاً إلى أنْ قرُبَ صوْمي. ولمّا قدرتُ على السّعْيِ؛ صِرْتُ أطلُبُ منَ البُيوتِ، ثمّ أبيعُ وأُكْسى.." فتح الاله، ص 19. ويحكي عمّنْ استغلّ صغر سنّه فيقول: " ولمّا رأى منّي سمةَ صِغَر السنّ؛ كثُرَ تسخيره لي، ومن جملة ذلك؛ غسل ثيابهِ وثيابُ أهلهِ وأولادهِ، وكان يوصيني إن أنا صفيتهم بذهاب ماء الصابون، أضربُ على الحواشي بعْد جمعهمْ على الصّفاح بماءٍ ليذهب الطّيُّ والتّكماش. فلله درّهُ! ما أحسنَ مُعاشَرَتَهُ!" (الحديث عن الشيخ المشرفي المتوفى سنة 1192 هـ)

غير أنّ هذا الألم؛ لا يلبث أن يتوارى وسط مستجدّاتٍ سوف تؤثّثُ لذيوع الصيت؛ وذلك بعد حادثة الرّؤْيا التي حكى عنها.. وهو ما سيشجعه على وُلوج بساتين العلوم، يقول: " صرتُ في المصنّف؛ لا يشق غباري، ولا يجري سابق في مضماري.. وظهرت عليّ مخايل دعوة الأشياخ.. تنافَسَ الأشياخُ في أخْذي لتدْريس أوْلادِهم.." ص 24. هذا الصّيت سيصعد به إلى تقلّد مناصب هامة آنذاك، يقول: "ولمّا رجعتُ، قُلّدْتُ الفتوى، ثم القضاء والخطابة." ص 24.

كثُرتْ تنقّلات الكاتب؛ وكان له في كل تنقّلٍ لقاءات مكثفة مع العلماء داخل الجزائر وخارجها. يقول: " فأول رحلتي للجزائر العاصمة.. فلقيت بها الفقيه المسمّى الشيخ القاضي المفتي السيد محمد بن جعدون.. ولقيت قاضيها – إذْ ذاكَ – الفقيه الدّارك الشيخ محمد بن مالك، فضيّفني وجمع العلماء عليّ.. وتمادَوْا وسألوني أسئلة صعاب عظيمة.. إلى أنْ أظهرني الله عليهمْ." يزدادُ نبوغه اثناء هذه التنقلات إلى كلٍّ من قسنطينة، تلمسان، تونس، المغرب، مصر، أمّ القرى، الرملة (فلسطين) غزة، العريش وعن هذه الأخيرة يحكي: " ثم رحلتُ إلى العريش؛ فلم أجدْ بها عالماً آنَسُ إليْه، ويكون التّعويلُ عليْهِ."

كانت هذه ورقة مختصرة عن احد عمداء الإرث الثقافي الجزائري ويكفينا فخرا أنه نافس بعلمه وبصيرته الجهابذة في كل رقعة وصلت قدمُه إليْها.

هؤلاء قومي؛ فجئني بمِثْلِهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ

***

شميسة غربي / سيدي بلعباس

كتب د. محمد جواد مالك بحثاً بعنوان: شيعة العراق وبناء الوطن ـ دراسة تاريخية منذ ثورة الدستور حتى الإستقلال 1908 ـ 1932م. وهو في الأصل رسالة ماجستير قُدّمت الى كلية الإمام الأوزاعي في بيروت، ونوقشت في آذار 1998م.

الكتاب كبير بحجمه إذ تجاوز 950 صفحة، وكبير بمصادره ومراجعه أيضاً، إذ يجد القارىء الرسائل الجامعية، والكتب العربية والمُعَرّبَة أيضاً. فكان الحضور الكبير في  حواشي الدراسة من حصة:

عبد الرزاق الحسني، وميض جمال عمر نظمي، عبد الله النفيسي، عبد الحليم الرهيمي، أحمد الكاتب، فاروق صالح العُمر، علي الوردي ... الخ.

ما يُحسَب للباحث هو الغوص والحفر العميق في الموضوع المدروس. ولم يقتصر على الوصف فقط، بل تَدَخّل تَدَخّلاً كبيراً في التحليل والرفض والقبول.

إستهل الباحث دراسته بمناقشة المصادر والمراجع المُعتَمَدَة، فقسّمها لثلاثةِ أقسام:

1- المصادر المهتمة بسرد الوقائع التاريخية التفصيلية أكثر من التحليل.

2- المراجع التي تُقَدّم تحليلاً للأحداث.

3- المراجع الموجهة للأحداث بتحليلات تحميلية لتحقيق أهداف آيديولوجية (1). وقد قَدّم الباحث أمثلةً لكل قسم، فقد وضع كتاب محمد مهدي البصير "تاريخ القضية العراقية"، وكتاب حسن الأسدي "ثورة النجف ضد الإنكليز"، وكتاب مس بيل "فصول من تاريخ العراق القريب" ضمن القسم الأول.

ووضع كتاب عبد الله النفيسي "دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث"، وكتاب أحمد الكاتب "تجربة الثورة الإسلامية في العراق 1920 ـ 1980"، وكتاب د. عبد الله فيّاض "الثورة العراقية الكبرى 1920"، وكتاب د. علي الوردي "لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، وكتب عبد الرزاق الحسني، ضمن القسم الثاني.

بينما نجده قد وضع كتاب د. وميض جمال عمر نظمي "ثورة العشرين" ضمن القسم الثالث (2).

أما "المصادر الماركسية" فلم يُكَلّف الباحث نفسه عناء مناقشتها! بل إكتفى بترديد الديباجات المألوفة التي يتداولها الخصوم! إذ نجده يقول:

(أما الكتب الأجنبية، الواضحة في تحميل الأحداث ما لا تُطيق، فأبرزها كتاب الكاتب السوفيتي "كوتولوف": "ثورة العشرين التحررية في العراق". وذلك لأنه يعتبر إندلاع ثورة العشرين يعود الى أسباب الصراع الطبقي والعوامل الإقتصادية) (3).

وما علينا الآن إلاّ الرجوع لباحث لا يُشَكُ بمكانته الأكاديمية ومهنيته المضيئة، لنتأكّد من زعم د. محمد  جواد مالك. يقول "أستاذ المؤرخين" د. كمال مظهر أحمد:

(تبقى دراسات وبحوث ليبيديف ولوتسكي وليفين وميرسكي ولاندا ولازاريف ودانتسك وفيدجنكه وعشرات غيرهم نقاطاً مضيئة في عالم الإستعراب، لأنها تُحدد أولاً وقبل كل شيء، وعلى أساس مادي، الطبيعة العادلة للنضال العربي، كأي نضال تحرري، وتعطي الجماهير ـ دون أن تُنكر دور الفرد ـ حقها في خلق وتطوير أحداث ذلك النضال. وفي هذا الإطار بالذات قَدّم الإستشراق السوفيتي في أواسط عام 1975 إنتاجاً علمياً مهماً لمستشرق معروف هو الدكتور ل . ن . كاتلوف الذي أتحف منذ نهاية الخمسينيات مكتبة الدراسات الشرقية بعدد من البحوث القيّمة سواء عن "ثورة العشرين" في العراق، أو عن قضايا النضال الجماهيري والتطور الإقتصادي ـ الإجتماعي في بعض الأقطار العربية) (4).

حَدّدَ الباحث أهدافه من البداية وهي:

معرفة جذور التحرك الإسلامي المعاصر، ومعالجة "الحقبة التأسيسية" معالجة موضوعية (5). وعليه فقد كان هَمُّ الباحث هو "الكشف" عن الخيوط الإسلامية في هذه الحقبة التأسيسية (6).

وقفة نقدية سريعة مع الباحث:

حظيت "القراءة التاريخية القومية" مُمَثّلَةً بالدكتور وميض نظمي، بنقد قاسٍ جداً من الباحث. فقد وقف عندها كثيراً، وبيّنَ "زيفها" و "بُطلانها" و "تحميلها" للأحداث ما لا تحتمل:

(فإنه [وميض نظمي] بالرغم من إهتماماته الكثيرة لتلك المرحلة، إلاّ أن بحوثه متوجّهة نحو صَبّ الأحداث لصالح الإتجاه القومي ـ العربي، وتجده  أحياناً يُفرِط في تحميل أحداث التاريخ توجهاته القومية الى درجةٍ لا تُطاق، فمثلاً يصف ثورة العشرين التي قادها الإمام الشيرازي والحَرَكيين الإسلاميين من أبناء المدن والعشائر، بأنها قومية! ويصف وحدة المسلمين "شيعة وسُنة" تحت رايات الجهاد الإسلامي بأنها وحدة قومية!! ويتطاول أكثر ليرسم للقوميين العرب دوراً قيادياً في ثورة العشرين، بل دوراً مؤثّراً على قائد الثورة!) (7).

(ولا بُدّ أن نُشير الى أن بعض القوميين العرب، يقتنص ألفاظاً دالةً على الشعور القومي، مُتسرّبَة من أفواه وبيانات العلماء، ومن بعض آراء وسلوكيات رؤساء العشائر، ليتخذ منها ذرائع لفظية، مؤيدة وداعمة لتحليله المُنطلق من الفكر القومي لحركة الجهاد الإسلامي، فمثلاً، حينما يتناول تشكيل الحكومة المحلية في النجف وكربلاء بعد الهزيمة في الشعيبة، يصفها بأنها معادية للأتراك، وقدّمت العون والمساعدة للإنكليز، ثم يُعمم ذلك الى زعماء العشائر في الفرات ليجعلها ظاهرة عامة منطلقة من التوجه القومي العربي) (8).

ثُم يتطرّفُ في النقد ليجعل نفسه داعيةً للقراءة الموضوعية في خطابه المُوَجّه للقوميين:

(ولنا إلتفاتة أخيرة، لدُعاة القومية العربية، ندعوهم ـ أدبياً ـ ألاّ يُحَمّلوا أحداث التاريخ أكثر مما تتحمل، فإن التفسير التحميلي القاسي يُسيء لهم أكثر مِمّا ينفعهم. فالأحداث هي اللسان المُعبّر عن خلفياتها الفكرية، ومنطلقاتها الحركية) (9).

ما علينا الآن إلاّ الرجوع لكتاب د. وميض نظمي، لنتأكّد مِمّا أثبته د. جواد مالك:

يُقرّ نظمي ب"خصوصية" حالته، فالعيب الأساسي في أكثر الكتابات عن الثورة أنها كانت "أُحادية النظرة" تميل لتضخيم دور هذا الفريق أو ذاك من أطراف الحركة الوطنية على حساب باقي العناصر، أو بالأحرى على حساب الحقيقة (10). وبشأن المصادر فهي غزيرة ومتوفرة بالعربية والإنكليزية، لكن ـ كما يبدو لنظمي ـ أن أغلب الباحثين العرب لم يتمكّنوا من الإطلاع على المصادر الإنكليزية، في حين إن أغلب الباحثين الإنكليز لم يتيسر لهم الإطلاع على المصادر العربية (11). وقد قَدّمَ نظمي أدلّةً على مُدّعاه "قومية الثورة"، وحصرها بثمان نقاط (12). وبرأينا أن "الإستنتاج المتوازن" سِمة بارزة عند نظمي:

(لا يجب المبالغة بالقول بأن الثورة كانت قومية محضة، كذلك فإنه من قُبيل التبسيط المفرط الإدعاء المقابل بأنها كانت مجرد إنفجار عشائري فوضوي وعشوائي، أو الزعم بأنها كانت مجرد إستجابة دينية لبعض الفتاوى) (13).

فهل فعلاً كانت دراسة د. نظمي كما رأيناها عند الباحث جواد مالك؟!

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدَ! بل وجدنا عدم دقة د. جواد مالك في النقل! يقول:

(للأسف نجد أن الأستاذ د. وميض نظمي، إستجابة لعصبيته الفارغة، يهرب من تفسير الأحداث بالمنظار الواقعي ويبدو عليه بعض التخبط، فيذكر شيخ الشريعة الأصفهاني بقوله: "كان شيخ الشريعة الأصفهاني، وقد ساهم بنشاط في الجهاد الذي أعلن ضد الإنكليز بعد غزوهم العراق إلا أنه تفاهم معهم بعد ذلك! وكان من مناصري الدستور الأشداء، وكانت له صِلات مبكرة مع الإنكليز .. وقد أصبح المجتهد الأول في منتصف الثورة ولعب دوراً مهماً ولكن وسيطاً في تلك الأحداث" .. من دون أن يُشير الى مصدر واضح) (14).

بعد رجوعنا لكتاب د. نظمي، تَبيّنَ لنا أن جواد مالك قد قام برفع عبارة مهمة جداً! يقول نظمي عن شيخ الشريعة الأصفهاني:

(وكانت له صِلات مبكرة مع الإنكليز ]من[ خلال كونه أحد موزعي "وقف أودة") (15). فقد "أهمل" محمد جواد مالك عبارة: من خلال كونه أحد موزعي وقف أودة! ولا يخفى على القارىء الذكي أن هذا الحذف سيجعل كلام نظمي مُعَلّقَاً في الفراغ بلا دليل! وهذا ما أراده جواد مالك!.

لم نقف عند هذا الحد، فقد رجعنا للطبعة الأولى لكتاب نظمي المُستخدمة من قِبَلِ د. جواد مالك. فمن الممكن أن تكون غير موجودة فيها ومُضافة في الطبعة الرابعة المتوفرة بحوزتنا. فوجدنا العبارة نفسها مع الفارق (وقف عودة) (16).

أما ما زعمه د. جواد مالك بان نظمي لم يُشر لمصدر واضح. فقد وجدنا المصدر واضحاً في حواشي د. نظمي! وهو مصدر إنكليزي مُثبَتٌ بتمامه (17).

صراحة، لن نُطيل أكثر في تَتَبّع هفوات د. جواد  مالك مع القوميين مُمثلين بالدكتور نظمي. إذ يكفي أن نعرف أنه ـ جواد مالك ـ يعتبر أن أطروحة نظمي مُصاغة خدمة للمشروع الإستعماري!! (18).

برأينا أن المنزلق الذي وقع به الباحث هو نتيجة طبيعية لتوجهه الإسلامي المتشدد. فعبارات "المعجم الإسلامي" لها حضور لافت في دراسته. بل إنه يحمل حملة شعواء على "المشروع العلماني"، ويرفض مبدأ "فصل الدين عن السياسة" (19). ولن يتسع المقام للوقوف معه في هذا المجال، إذ توجد "قراءات" أخرى أكثر مرونة للإسلام قياساً بقراءته الأرثوذكسية المتطرفة.

وفي الختام:

نحن لا نستكثر على الباحث تركيزه على التوجّه الإسلامي المعارض في الحقبة التأسيسية، فهو أمر مشروعٌ بكل تأكيد. لكن القراءة المنضبطة المتوازنة هي المطلوبة بعيداً عن التخوين والتجريح. وطبعاً لم يكن غرضنا الإسهاب مع الباحث، فهذا ما يحتاج لوقفة ـ بل وقفات ـ مُطوّلة.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.....................

الحواشي:

1ـ محمد جواد مالك: شيعة العراق وبناء الوطن / دراسة تاريخية منذ ثورة الدستور حتى الإستقلال 1908 ـ 1932، تقديم: د. محمد حسين الصغير، العراق كربلاء المقدسة ـ العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت ط1 2012 ص22 الى 31

2ـ يشنُ الباحث حملة مُكثّفَةً مسعورة ضد "قراءة د. وميض نظمي"، وهذا ما سنتناوله لاحقاً.

3ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص30

4ـ كمال مظهر أحمد: أضواء على قضايا دولية في الشرق الأوسط، الجمهورية العراقية ـ وزارة الثقافة والفنون، دار الحرية للطباعة بغداد 1978 ص243

5ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص19 و 20

6ـ سيتضح بموجب هذا التوجّه أن الباحث قد أُصيب بنفس الداء الذي أُصيب به غيره! فنقطة الإنطلاق الإسلامية المتطرفة للدكتور مالك، لن تختلف عن "نقطة الإنطلاق القومية والماركسية" المُدَانّةُ من جانبه!!.

7ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص28

8ـ المصدر السابق ص323

9ـ المصدر السابق ص324

10ـ وميض جمال عمر نظمي: ثورة العشرين / الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط4 2020 ص16

11ـ المصدر السابق ص20

12ـ المصدر السابق ص18

13ـ المصدر السابق ص15 وبإمكان القارىء الكريم الرجوع  الى مقالنا الموجَز عن كتاب د. نظمي في:

صحيفة المثقف الألكترونية: د. وميض نظمي وقومية ثورة العشرين، بقلم: معاذ محمد رمضان، نُشِرَ بتاريخ 27 تشرين الثاني 2020

14ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص534 الحاشية رقم 2

15ـ وميض نظمي: المصدر السابق ص121

16ـ وميض جمال عمر نظمي: الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 1984 ص121 . ولا بُدّ لنا من تقديم الشكر الجزيل للصديق العزيز "الباحث في تاريخ إيران المعاصر" الأستاذ جعفر بغدادي على إعارته لنا هذه الطبعة من كتاب نظمي.

17ـ وميض نظمي: المصدر السابق ص121 الحواشي الأربعة.

18ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص834

19ـ المصدر السابق ص830 و 831

صدر للصديق العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ سنتين كتاب جديد في سلسلته الخماسية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، بعنوان "الدين والكرامة الإنسانية"، وقد صدرت طبعته الثانية المزيدة والمنقّحة سنة 2022 عن دار الرافدين بالعراق. ينقسم الكتاب (وقد ورد في 340 ص) إلى ستة فصول، يمكن إجمالها في قسمين كبيرين يتساويان في عدد الفصول، يتناول في الأول مسائل الإيمان والدين والتديّن، وفي الثاني مسائل الكرامة وبنيتها الأخلاقية الإنسانية.

يضع عبد الجبار الرفاعي خارطة طريق مرسومة بعناية ووضوح لمن يهمه دراسة أعماله، يتدرج فيها بخطوات تبدأ من معرفة الإنسان، إلى معرفة الدين، والوحي، والنبوة، والإسلام. في ضوء ذلك يبتني الفكر الديني كما يشدد هو على: إعادة تعريف الإنسان، ويتفرع عليه إعادة تعريف الدين ورسم حدوده، ويتفرع عليه إعادة تعريف الوحي، ويتفرع عليه إعادة تعريف النبوة، ويتفرع عليه إعادة تعريف الإسلام ورسم حدوده. "الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية" كما يعرّفه الرفاعي، وفي ضوء هذا التعريف توالدت كل كتاباته، ورؤيته لله والإنسان والعالم. يندرج هذا الكتاب،كما يعبّر الرفاعي عن ذلك في كل مرّة يتعرض فيها لأعماله كتابةً أم مشافهة، في ما يسمّيه "تنويعات لرؤية واحدة، رؤية تحاول أن تتعرّف على الدين عبر اكتشاف الانسان".3159 الدين والكرامة الانسانية

ما فتئ الرفاعي يُخبرنا إنه يدعو إلى الإيمان باعتباره حاجة أنطولوجية للإنسان، لكنه ينأى بنفسه عن أشكال التدين المعلومة، ويختار إعادة اكتشاف الدين عبر كرامة الانسان الأصلية، مؤكدا أن أي جُهد تجديدي في المجال لا بد أن يبدأ بإعادة تعريف الانسان والدين، وبالتالي فهو يقترح علينا تعريفه الخاص للدين جاعلا "الإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين"؛ بل إنه يذهب أبعد من ذلك عندما يُعلن بصرامة إن "المعيار الكلي لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتله الكرامة في منظومة القيم لديه". يصف الرفاعي عمله هذا بقوله: هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين.‏ الإنسانُ يولَد مُكرّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض، "مقدمة الطبعة الثانية للدين والكرامة الإنسانية".

ولأن الرفاعي في كتابته لا يتحرك في فضاء الأكاديميا وصرامتها المنهجية والنظرية "التجريدية" أحيانا، بل من صيرورة الدين الحية وديناميكيتها، سواء في استعماله لجزالة الكلمة وسيولتها، أو في استهدافه لجمهور واسع ومتنوع من المتلقين، فإنه لا يتحرج في وضع سياقات عملية لنجاح المقترح الإيماني الذي يدعو إليه، عندما يذهب إلى أن قوة الأفكار الواردة في الكتاب "لا تكفي وحدها لتطبيقها" ما لم تتبناها سلطة سياسية تفرضها، ومؤسسة دينية تتبناها، وحاضنة مجتمعية تلوذ بها. هنا نخرج سريعا (وبدون مقدمات أو تبرير عقلي ربما) من ساحة الوجود الانطولوجي التكويني للكرامة إلى ساحة الفاعل المجتمعي ذي الأدوات "القهرية" في مقاربة تلك الكرامة وفي تحويلها إلى "تشكيل" ينافح عنها.

ورغم إن تلك المعادلة / التقاطع تحتاج إلى نقاش واسع، إلا أن ذلك لا ينفي المهارة الفائقة التي عالج بها عبد الجبار الرفاعي واحدة من القضايا الشائكة في سياقات الفكر الديني، ولا يحجب الشجاعة التي خطّ بها طريقه رفضًا لصور الدين وأشكال التدين التي تنصّبُ نفسها متعالية على الكرامة الإنسانية، ومتعرضا بسببها إلى التصادم مع جمهور عريض من المتدينين، وهو المؤمن سليل الحوزة العلمية في النجف وقم.

***

عبد الحق الزموري -  كاتب تونسي.

الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر هو الشخصية الثالثة التي درستها أديث كيرزويل في كتابها "عصر البنيوية من ليفي شتراوس الى فوكو".

النقاط الأساسية التي خرجتُ بها من خلال قراءتي المتواضعة هي:

1ـ كان لوفيفر واحداً من أوائل نُقاد البنيوية وأشدهم هجوماً عليها على نحو ما صاغها كل من ألتوسير وشتراوس.

2ـ تُمَثِلُ حياة لوفيفر الممتدة تأريخ اليسار في القرن العشرين، لكل ما في هذا التأريخ من معضلات ومعاناة طرحتها الشيوعية على المثقفين في فرنسا وغيرها من البلدان، فهي حياة تعكس الآمال والإحباطات التي وَلَدَتها الثورة الروسية ونجاح اللينينية وإخفاقاتها وولادة صين ماوتسي تونغ والإنضباط الحزبي القمعي للستالينية.

3ـ "المُجمَلُ والبقية" كتاب لامع لهنري لوفيفر، ولعله أفضل سيرة ذاتية كتبها واحد من "المراجعين" لتأريخ الشيوعية الفرنسية والستالينية.

4ـ ظَلَ لوفيفر على إمتداد عمله كله يحاول محاولة واعية إستيعاب "الوحدة الشاملة" للوجود الإنساني وفَهم "كل شيء" بطريقة هيجلية، فسعى سعياً لا مواربة فيه الى وصل كل ظواهر الماضي بكل ظواهر الحاضر.

5ـ صار لوفيفر ماركسياً بين عامي 1925 و 1930 في وقت يصعب فيه على المرء أن يتغلب على رومانسية شبابه ـ فيما يقول. ولكن الماركسية أزهرت على أطلال هذا الشاب بعبثيته وآماله التي لا تُحد. وفي وقت لم يكن الماركسيون فيه يعرفون شيئاً عن ماركس الشاب، وليس بين أيديهم سوى تفسيرات لينين وستالين في الأغلب.

6ـ يشير كتابه "المادية الجدلية" 1939 الى أن إستخدامه مفهوم الإغتراب لم يكن قاصراً على دراسة المجتمع البرجوازي، بل تجاوزه الى كشف ونقد الإغتراب الأيديولوجي والسياسي في الإشتراكية خصوصاً في المرحلة الستالينية، وقد أدرك لوفيفر أن الكتاب وإن كانت تشوبه بعض الدوجماتية فقد رفض كل النزعات التي تُغلب الإقتصاد أو المجتمع أو تركز على مادية غير إنسانية، ولقد سبب ذلك المشاكل داخل الحزب، المشاكل التي كان لوفيفر يحلها كعادته بالدعوة الى "إعادة قراءة ماركس بعيون جديدة".

ونلمح إختلافاً بَيناً ـ من منظور هذه القراءة الجديدة ـ بين ما كتبه لوفيفر قبل إنفصاله عن الحزب ـ مثل "ماركس والحرية" 1947 و "الماركسية" 1948، وما كتبه بعد الإنفصال مثل "المشكلات الحالية للماركسية" 1958 و "المجمل والبقية" 1959، وقد مضى لوفيفر في نشر عدد من الكتب يطرح من خلالها تفسيراً أفضل لماركس مثل "ماركس فيلسوفاً" 1964 و "ما بعد الفلسفة" 1965.

7ـ عندما واجه لوفيفر نمو الرأسمالية وتجزؤ الطبقة العاملة ونمو النزعات القومية فإنه إنتهى لتخطئة ماركس نفسه، ذلك لأنه لا ماركس ولا لينين قد توقع إبتداع الإصلاح الزراعي الذي قام به الحزب الشيوعي الجزائري، أو بروز الشخصية الوطنية المتميزة للحزبين الفرنسي والإيطالي، أو الأثر الذي يتركه تَعَقد المدينة.

8ـ تناول لوفيفر كل محظور وتعرض لكل المشكلات التي تطرحها الفلسفة الماركسية على الشيوعية "الرسمية" وبدأ في تقديم نقد مُمَنهَجٍ لكلٍ من الدول الإشتراكية والرأسمالية، ذاهباً الى أن ماركس نفسه كان سينتهي الى هذا النقد.

9ـ من حيث الظاهر، فإن ماركس الذي كان يفكر فيه لوفيفر شبيه بماركس الذي عاد اليه شتراوس، كلاهما

قرين مقالات "صحيفة الراين" و "مخطوطات 1844"، لكن بينما كان شتراوس يركز على لغة هذه الكتابات، فإن لوفيفر كان يركز على تأثيرها السياسي.

10ـ في الوقت الذي حاول فيه البنيويون (عدا ألتوسير) إحتواء الماركسية، فإن لوفيفر لم تَفتر همته في إثبات أن الماركسية هي الطرف الأعلى القادر على إستيعاب البنيوية.

11ـ يُقرر لوفيفر أن أداته في معالجة الحداثة هي "التأمل"، ذلك لأن التأمل كان الأداة التصورية الأصلية لماركس، عندما كان عليه أن يتخذ موقفاً نقدياً من الحداثة، ولأن ماركس شبيه بسقراط الذي كان يقرن بين التأمل والسخرية، فأصبحت السخرية هي المبدأ المنظم لكتاب لوفيفر "مقدمة الى الحداثة" 1962، ولكن رغم ما ذهب إليه لوفيفر من أن السخرية سوف تتغلب على نزعته المثالية فقد بدا غير مدرك أنه قام بتمجيد كل القيم التي كان ماركس يهزأ منها.

12ـ كان ألتوسير أبرز معارضي لوفيفر، فماركسيته "العلمية" كانت تهاجم بذاتها ماركس الذي يتنباه لوفيفر وترى فيه مثالياً غير واقعي، وبقدر ما أعلى لوفيفر من شأن ماركس الخاص به، هاجم ألتوسير الذي "يُجمد الماركسية ويقضي على تماسكها ويدمرها بإسم البنيوية".

13ـ يقتنع لوفير بأن العمران المديني سرطان الحياة الحديثة، وأن الدرس الماركسي "للمكان" يمكن أن يكون علاجاً له، لذلك أسس في عام 1970 مجلة جديدة بعنوان "الأماكن والمجتمع".

14ـ لم يستطع لوفيفر أن يتخلى عن قدر بعينه من الدوجماتية، لكن يمكن لحججه المتكررة الجاهزة أن تكون مقنعة عندما يتجاوز تفاؤله الثابت كل العقبات، ولا ينبغي أن تغيب عنا مثاليته، فالديالكتيك الذي تقوم عليه فلسفته لن يغير الواقع الإجتماعي أو المكان.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

....................

يُراجَع:

أديث كيرزويل: عصر البنيوية من ليفي شتراوس الى فوكو، وهو من ضمن سلسلة كتب شهرية تُصدرها دار آفاق عربية للصحافة والنشر، رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة الدكتور محسن جاسم الموسوي، بترجمة: جابر عصفور، الصفحات: من ص65 الى 93

عن المركز الدولي لدراسة النزاعات غير العنفية صدر حديثا كتاب بعنوان "الإضراب عن الطعام في سجون فلسطين: وجهة نظر استراتيجية"* للدكتورة ملكة محمد شويخ التي تعمل في جامعة سانت أندروز في اسكوتلاندا والدكتورة ريبيكا روث غولد أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة برمنغهام الإنكليزية. ينظر الكتاب للمشكلة من زاويتين: اجتماعية وإنسانية.  ويبدأ من تعريف معنى الإضراب عن الطعام في المعتقلات. ويرى أنه "أداة من أدوات المقاومة السلمية ما دام لا يلحق أي ضرر بسلامة الغير others ولكنه يضر بالذات self"ص24. وكانت هذه الطرق السلمية، تجويع الذات بالإضافة للامتناع عن الكلام، معروفة منذ القرون الوسطى في أيرلندا،  وكان يبادر بها المظلوم وهو خارج السجن، ويسميها الكتاب "القوة المعنوية". وأهم الأمثلة عنها إضراب عام 1981 في أيرلندا ووفاة عشر مسجونين من أنصار الجيش الجمهوري، ومنهم بوبي ياندس الذي دخل البرلمان بنتيجة اقتراع شرعي. ص6. وتسبب موتهم باندلاع أحداث الشغب وتعديل قانون الاعتقال. ص29. وسبق هذا الشكل الناجح من الاحتجاج  أسلوب "الاعتصام بالمكان حتى الموت". وهو طريقة اتبعها الفلاحون الدائنون في الهند البريطانية، فقد كانوا يجلسون على أعتاب بيوت سادتهم دون طعام لإعادة جدولة ديونهم. وهو احتجاج ناجع أيضا جعل من حياة الإنسان المجانية سلاحا أبيض ضد أشكال العنف الاجتماعي والسياسي، ونجمت عنه مؤسسة مدنية صامتة تطالب بالحق الضائع، ويمكن أن تسميها "التسلح بالحياة".

وقد تناولت موضوعة تطبيق العنف الذاتي على الحياة أو الجسد عدد من الأعمال الأدبية، وعلى وجه التحديد روايات السجن ومذكرات السياسيين. ومن الأمثلة المعروفة سيرة غاندي ونلسون مانديلا. فقد لجأ كلاهما للإضراب عن العمل والطعام وللصمت وللامتناع عن تنفيذ التعليمات - كالاستراحة الإجبارية في فناء السجن والخدمة الاجتماعية والالتزام بنصائح الطبيب وسوى ذلك. بالإضافة إلى أعمال الأرض المحتلة، وهي أقرب لوقتنا الحالي مثل كتابات وليد الشرفا والمرحوم حسين فاعور الساعدي والمتوكل طه. بالإضافة إلى كتابات مريد البرغوثي في مجال "سيرة العائد"، وحرص فيها على التعريف بمشكلة الهوية وأزمة النظام العسكري وتعطيل العمل بالدستور تحت حجة "التدابير الأمنية". وفي هذه الحالة أصبح الاحتلال والسلطة الوطنية المتعاونة معه متشابهين (ولدينا كم هائل من أدب الحالات الحرجة في جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية أو في الأدب الاسكوتلاندي والكردي المعاصر). ولا يجوز أن ننسى روايات جيني إيربينبيك Jenny Erpenbeck، مثل "اذهب، ذهب، رحل"***، وهي أيضا عن سجن احتياطي لحجز المهاجرين قبل البت بطلباتهم. وتركز على تطور لغة الاحتجاج، ضد سوء المعاملة، من الاعتصام (كالوقوف في أماكن عامة دون حراك أو كلام) وحتى التضحية بالذات لإنهاء ظرف الحياة المزرية. ومن خلال السرد بالمتابعة (انغماس الراوي بالأحداث) يلجأ الجسد الضعيف والمهزوم إلى التنكر بصور روحية لينتصر بها على واقعه المتأزم، أو ليعيد توطين نفسه في أرضه الغريبة. بينما كانت الأعمال الفلسطينية تبحث عن مخرج آمن إما بالاندماج وإلغاء الحدود أو تبادل المنفعة (مثل قصة حب بين عربي مسلم وإسرائيلية يهودية - وهي طريقة لا تختلف عن فكرة الأم الحاضنة أو حتى طفل الأنبوب - وتشبه كثيرا حيلة قناع أبيض لوجه أسود - كزواج امرأة بيضاء من رجل أسود). ومع ذلك يتمايز اتجاهان. أحدهما تغريبي ويتبنى فكرة صدام الذات مع الحضارة الوافدة، والثاني توعوي ويضع الأحاسيس والمواقف عند نقطة حاسمة، ويفرض عليها التصالح مع الذات التاريخية. وكما يقول جين شارب "يتم تحويل مركز القوة بواسطة هذه الأساليب من الطرف الذي يمتلك السلطة إلى الطرف المحروم منها". ص9.

تتابع المؤلفتان اثني عشر سجنا لإيداع المتهمين بتهم سياسية وجنائية مختلفة في الجزء الذي تتحكم به دولة إسرائيل فقط. ويضاف لها عدد غير محدد من السجون التي تديرها السلطة الوطنية في القطاع وحماس في غزة. ص14. وتثبت الإحصائيات دخول حوالي 700 طفل فلسطيني من الضفة إلى السجون الإسرائيلية سنويا بتهمة إلقاء الحجارة، وهي تهمة يصل حكمها في القانون العسكري المعمول به إلى 20 عاما. بالإضافة للشطط بالعقوبة توجد مشكلة الكيل بمكيالين، فالقانون الإسرائيلي يحدد عمر الطفولة بـ  18 عاما وأقل. إلا في محاكمة الفلسطينيين فهو يخفض هذا الحد إلى 16 عاما وأقل. ولمزيد من الأذى والضرر يتم التحفظ على الصغار في السجن حتى تبلغ أعمارهم 16 عاما، ثم تطبق عليهم عقوبة البالغين. و"منذ عام 2000 جرى تطبيق هذه الحيلة على 12000 طفل فلسطيني" ص15. وينطبق نفس الكلام على النساء. فخلال 50 عاما تم اعتقال أكثر من 10 آلاف امرأة تعرضت معظمهن للتحرش والتعذيب الجسدي والنفسي. ولا يزال في السجن 25 امرأة موقوفات منذ قبل اتفاق أوسلو. ويزيد من المشكلة غموض حدود دولة إسرائيل والنظر لمساحة واسعة منها بمعايير مختلفة. مثلا "هل هي مستعمرة أم أنها محتلة" ص16. وحسب مؤسسة بيتسيليم الإسرائيلية لا يوجد تعريف محدد للحجز الاحتياطي أو لتمييز التحقيق عن التعذيب والتحرش أو حتى لوضع فترة زمنية للاعتقال قبل توجيه الاتهام والتحويل للقضاء ص17.  ويضاف لكل ذلك "الحصار العسكري الذي يطبق تأديبيا ودون أي برنامج زمني لمنطقة كاملة حتى تتحول ظروف الحياة فيها لما يشبه السجن من انعدام حرية الحركة وضعف الخدمات وزيادة البرد أو الحر وساعات الإظلام. وتكرر ذلك "منذ عام 2007 عدة مرات في حصار 2 مليون نسمة داخل قطاع غزة". ص18. ولا يمكن إغفال مشكلة تصنيف السجناء واعتبار بعض أشكال المقاومة التي يترتب عليها خسارة بالروح أو الممتلكات العامة والخاصة أنها جرائم قتل أو لصوصية (جنايات تستهدف الأبرياء). ص27. ومثل هذا التصنيف الإداري والنابع من مزاجية شخصية سيحرم السجين من حق المطالبة بتحسين ظروف المعتقل سواء بالإضراب عن الطعام أو بطرق حقوقية ضمنتها له التشريعات. ويترتب على ذلك نوعان من المساومة، الأول اعتبار أن السجن له أسباب سياسية. ثم معركة المطالبة بإطلاق السراح. ص27.

وعلى وجه الإجمال تنقسم إضرابات الطعام لنوعين.

الأول جماعي. ولكن تتوقف نتائجه على نوع السجن، فقد يكون السجان محتلا ومستعمرا وليس حارسا للفضاء القانوني فقط. بالإضافة إلى وضعية السجناء وشدة أو منطقية مطالبهم نظرا للوضع العسكري والقانوني في الداخل، والسياسي الدولي في الخارج. وعليه تتراوح النتائج بين النجاح المؤقت أو النجاح التام وتنتهي بتحقيق جميع المطالب. أو لتدهور أوضاع السجناء كما حصل في إضراب 15 آب عام 2004 في عدة سجون تديرها إسرائيل وباشتراك 4000 سجين طالبوا بمكالمات خليوية والامتناع عن التفتيش الذاتي (تحسس السجان لجسم السجين بيديه) وإزالة الحاجز الزجاجي خلال الزيارات العائلية  ص35.

النوع الثاني يشمل الإضرابات الفردية. ولاحظت المؤلفتان وجود فراغات في تسجيل الوقائع. وانتهى أحدها وهو إضراب عوني الشيخ الذي استمر 150 يوما إلى التغذية الإجبارية والحبس الانفرادي، وبعد ذلك إطلاق سراح غير مشروط. وكان يطالب بعدم التلاعب بمنهاج التعليم في المدارس الفلسطينية. ص39.

وتلاحظ الباحثتان وجود فروقات نوعية بين الاتجاهبن. فالإضراب الفردي يكون في زنزانة واحدة وبغاية الاحتجاج على سوء المعاملة، ويستغرق فترة أطول وصلت في إحدى الحالات إلى 277 يوما وكل شيء يكون بمبادرة شخصية. بينما الجماعي يشمل عدة سجون، وللمطالبة بكماليات تخدم تحسين شرط الحياة العامة كتوفير القرطاسية والطعام الجيد، وحسب الإحصائيات لا يستمر لفترة أطول من 45 يوما. ومثل هذه الإضرابات تحتاج لتحضير واستراتيجية متفق عليها بين المشاركين.   ومع أن المشاركة تخفف من العبء النفسي فإنها تسمح للسجناء وذويهم بفرض ضغط أقوى على السلطات مع إشهار الخبر في الإعلام.  ولذلك تتوقف النتائج على الخطط الموضوعة وانسجام المشاركين. ص52. وهذا ينسحب على مرحلة التحضير للعصيان والمراحل التالية أيضا. و"تتدخل فيها أساليب التواصل المتاحة ببن السجناء". ص53. و"كل شيء يتوقف في النهاية على ثقافة السجن والسجناء". ومن الطبيعي أن "يسبب الاختلاف في مستوى المعرفة والوعي اختلافات مماثلة في التحضير والتنسيق".

ومن الأمور الحاسمة التي لعبت دورا هاما في تجييش الإضراب وتعبئة الرأي العام الأمور التالية:

1- وحدة الكلمة ورص الصفوف. وكانت أقوى في المرحلة السابقة على اتفاقات أوسلو. وبرأيي إن هذه الاتفاقية لم تؤثر عمليا بطبيعة حياة الفلسطينيين في الداخل وإنما ساعدت على رؤية الخلاف في وجهات النظر بين الحركات الوطنية المسيسة والتي تنظر لمفهوم الدولة نظرة اجتماعية - تضع الإنسان أولا. والحركات الراديكالية الدينية - التي لديها تناقض وجودي مع الدين الأرضي أو الدين السياسي للاحتلال. أضف لذلك دور دول المحيط العربي والتي أخذت مواقف متعاكسة من أوسلو وصلت لحد التصفية والقطيعة، وهو ما وسع من التناحر بين شتى الفصائل. ولا يوجد أفضل من فيصل حوراني في إلقاء حزمة ضوء على هذا الواقع المريض في كتابه "دروب المنفى". ثم في روايته "حياة حصار".

2- القيادة أو الناطق الرسمي باسم الإضراب. وأحيانا يفرز السجن قيادته النوعية أوتوماتيكيا كما حصل في جنوب أفريقيا. فقد تكونت الشخصية الرمزية لمانديلا في السجن وخلال عدة مراحل، مثلما تكونت لغة ورمزية محمود درويش خارج الأراضي المحتلة للتعبير عن رؤية حضارية لمفهوم الوطن المخطوف والأرض المنهوبة.

3- تواصل الإضراب والحفاظ على أعلى درجة من الانضباط والتنسيق.

4- تكتيك التنظيم في الداخل والاتصال بالعالم الخارجي لضمان مردود إيجابي ومؤثر حتى ولو بعد الموت. ص 63

وكانت السلطات الإسرائيلية تواجه سياسة الإضراب بعدة إجراءات منها التغذية بالإكراه أو العزل في معتقل النقب للتأكد من عدم تسرب أي معلومات خارج أسوار السجن.

وبالنتيجة تتفق المؤلفتان أن المقاومة يمكن أن تتشكل وتندلع حتى في أسوأ ظروف الاعتقال  ويزيد من فعاليتها تضامن العالم الخارجي الذي يعمل على فضح البنية الاستعمارية للسلطات، وينوه إلى عدم التساوي بين الطرفين المتنازعين، سواء داخل السجن أو خارجه، باعتبار أن المجتمع الفلسطيني يعيش حالة شاذة لا تخلو من التعالي العرقي والديني. ولا يجب إغفال دور الإضراب الفردي الذي تنجم عنه نتائج جماعية كتحريك الرأي العام وتحسين ظروف بقية السجناء الذين لديهم إشكالات مماثلة. ص85. وبهذه الطريقة يتحول الإضراب إلى بنية سردية تخاطب السجان وتبدل أساليبه. ص88.

ويضم الكتاب عدة ملحقات ومخططات وعددا من الإحصائيات مع مقابلات ميدانية أجرتها المؤلفتان مع سجناء ونشطاء رهن الاعتقال أو تم الإفراج عنهم في الأراضي المحتلة.

تبقى بالنتيجة عدة ملاحظات لا بد منها.

أولا. اعتمد الكتاب على متابعة ظاهرة الإضراب عن الطعام دون الاهتمام بنوع الموقوفين وانتماءاتهم السياسية. وحتى دون الإشارة للنشاط الإعلامي المرافق للإضرابات. وهل هو إعلام سياسي وطني أم أنه عاطفي وديني.

ثانيا. نفهم من مجمل العرض أن الاعتقال عقوبة لها دوافع سياسية. وهي سلاح ذو حدين. فهي تعرض حياة السجين للخطر، وتزيد من فرص التعبئة الاجتماعية. ص24. في حين استند الإضراب على مبدأ قانوني هو حرية التصرف بالمتعلقات الخاصة ومنها الجسم. وهذا يشبه التضحية بالنفس (كالموت حرقا - حالة بوعزيزي في تونس).

ثالثا. عدم التنويه لدور الحكومة في حدة الإضراب ونتائجه. ومن المتوقع أن يزداد التعنت بإدارة الأزمة في حال وجود اليمين في الحكم. حتى أن حكومة نتنياهو تعتزم على ضمان الحصانة لرجال الأمن بعد نهاية خدماتهم في الدولة، وهو إجراء سيقود حتما إلى تبني أساليب تحقيق عنيفة تشمل ظروف الاستجواب أو استعمال الضغط النفسي والتخويف**. ومن البديهي أن يكون لكل حكومة سياسة خاصة في التعامل مع الطوارئ. وأذكر هنا  الخلاف التقليدي في بريطانيا بين المحافظين والعمال في التفاوض مع النقابات ومؤسسات المجتمع المدني (كما جرى بعد إضراب عمال المناجم خلال أزمة الطاقة التي شلت حكومة تاتشر في الثمانينات). وبالعودة لفلسطين. السؤال الذي لا يزال يدور في ذهني: لماذا فشلت بعض الإضرابات، بينما تكلل غيرها بالنجاح؟. هل يعود ذلك لرد فعل سلطة الاحتلال، أم لتأثير سياسة دول الجوار على عرب الداخل. علاوة على ذلك لماذا كان عدد السجناء السياسيين في شهر حزيران من عام 2021 أعلى بالمقارنة مع عدد المعتقلين لنفس الفترة، بينما انخفض عدد السجناء لأدنى مستوى في أيار 2021، دون أن يرافقه انخفاض مماثل في عدد الموقوفين ص15 - 17. ولماذا فشل إضراب نابلس عام 1968  ونجح في عام 1984 ص34 مع أن الأوضاع العربية في الإضرابين كانت مزرية. فقد ترافق الأول مع مرور عام على النكسة، والثاني مع مرور عامين على حصار بيروت وملاقاة ألوف الفلسطينيين حتفهم في المخيمات بشكل مرعب تقشعر له الأبدان. هل كان لذلك علاقة مع ظروف حكومة الاحتلال؟!. في هذا السياق يبدو لي أن تطبيق الإحصائيات الاجتماعية عامل هام ومضيء (وكنت أتمنى إضافة معامل الارتباط الخطي ومعامل الانحدار للإحصائيات والأرقام المدرجة). مثل هذا الاتجاه يساعد على حل لغز السلوك البشري في الحالات الحرجة،  ودور السياسة الدولية والحرب الباردة - ولدينا دراسات سابقة من هذا النوع منذ الستينات تشمل خطابات السياسيين وحواراتهم مع الإعلام في مناسبات وطنية، مثل عبد الناصر بعد حرب بور سعيد عام 56 وبعد هزيمة حزيران عام 67، وكيف تطور لديه معنى الوحدة والعروبة من مفهوم تاريخي لأمة واحدة إلى مفهوم وطني يعترف بتعدد المصالح ولكن يشدد على ضرورة التعاون والتفاهم.   

رابعا وأخيرا. لا توجد إشارة ولو بسيطة للتمييز بين الإضراب بهدف المقاومة والإضراب الناجم عن أزمة نفسية أو شخصية حادة. وهناك حالات إضراب أو انتحار تعبر عن اليأس وتدهور الأحوال النفسية من جراء تجارب فردية تحصل في أي زمان ومكان.  ومن ذلك ما ذكرته صحيفة يسرائيل هيوم عن ارتفاع نسبة انتحار الأطفال البالغين 14 عاما بحوالي 64% نتيجة خيبات أملهم بالوضع الاجتماعي في إسرائيل، والرغبة بالهجرة إلى الغرب. وانتحار الفلسطيني رائد عبد السلام الجعبري في حمامات سجن إيشل (في بئر السبع) لا يتشابه بالدوافع والأهداف مع انتحار الفنانة سعاد حسني في لندن، أو حتى انتحار الكاتب المعروف إرنست همنغواي في بيته. فالموت في سبيل قضية وطنية يختلف عن الموت بسبب الفشل العاطفي أو اليأس الوجودي والتشاؤم. والمصيبة أننا لم نسمع بقضية الجعبري، وتمكن السياسيون من وأدها بسرعة، بينما انفجرت مشكلة سعاد حسني، وأصبح لها خلفيات سياسية وأمنية.

ويمكن أن تقول نفس الشيء عن انتحار مارلين مونرو وإيداع فرانسيس فارمر في مصحة نفسية. لو لا الإعلام الأمريكي وعلاقتهما بالبيت الأبيض لما سمع أحد بهما. حتى أن مأساة فارمر تتقاطع من عدة وجوه مع حكاية "الحسناء والوحش". وأعتقد أن رواية "أخطية" بهجائها الساخر لسلطات الاحتلال استلهمت نفس عمود هذه الحكاية الشعبية، ولعبت بجمال المؤنث، وسطوة المذكر، لتعبر عن مجتمع غير متوازن، تتخلله الحواجز والجدران.  وهذا سبب إضافي يحدونا لدراسة حالات الإضراب في كل سجن على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار دور الحكومات والمكان والزمان.   

***

د. صالح الرزوق

...........................

* صدر في واشنطن في مطلع عام 2023 عن منشورات المركز الدولي للنزاعات غير العنفية. 110ص.

** التعذيب في سجون إسرائيل. جنان عبده. موقع عرب 48. منشورة في فسحة بتاريخ 11-4-2023.

*** ترجمها صلاح هلال إلى اللغة العربية تحت عنوان (وطن محمول)، وصدرت في مصر عام 2015 عن دار صفصافة.

من المألوف اعتبار العديد من الأعمال الأدبية العظيمة كالقصائد والدراما والقصة بمعنى ما فلسفية. غير اننا منذ افلاطون كان هناك توترا بين التنظير المجرد الحاصل في الفلسفة والتركيز على تفاصيل محددة تحدث في الشعر والرواية. كتاب وراء الكلمات لتيموثي كليفلاند يعالج ويفصّل هذا التوتر الافلاطوني، مستفسراً بأي معنى يمكن للادب في صورة الشعر والدراما والقصة الصغيرة والرواية ان يساهم بشكل هام في الفهم الفلسفي. المؤلف يقترح ان شيئا ما في القصائد والرواية والقصص يجعلها ملائمة خصيصا لتوسيع وعينا وفهمنا لطبيعة الاشياء، والتي بدون ذلك لا يمكن ان تُقال ولا يمكن تصوّرها. هذه الأعمال الادبية تبيّن لنا بان هناك شيء لا يمكن للخطاب النظري (علمي او فلسفي) ان يقوله حرفيا.

يدعونا مؤلف كتاب ما وراء الكلمات ان نتصورعالما نجح فيه افلاطون في نفي الشعراء، و "الفيلسوف يحكم الدولة بطراز عقلاني تام" (ص9). ما يريده المؤلف يكون قد ضاع "في انتصار الطريقة الفلسفية هذه) . بالنسبة له الأمر واضح: "ما يتم ازالته الى جانب الشعراء وجميع أشكال التعبير الخلاّق، هو تلك الطريقة للتعبير الابتكاري الحاسم للاكتشاف والفهم والمعرفة" (ص10). يستمر المؤلف بالجدال ان احد المظاهر الحاسمة لهذه المعرفة، هو مظهر لايمكن نقله بأشكال اخرى للكتابة، يتصل بـ "أشياء نستطيع معرفتها او لدينا بصيرة بها لكنها لا يمكن قولها حرفيا في خطاب نظري"(ص11). انه بالضبط في هذا الميدان من ما لايقال (unsayable) يستطيع الادب إلقاء الضوء، وعندما ينجح في القيام بهذا، فان "الأفكار التي يمنحنا اياها لهذا المظهر من الواقع يجب ان تُعتبر فلسفة"(ص11).

هذا هو الادّعاء الرئيسي الذي يبدأ المؤلف في الدفاع عنه، واصفا كتابه كـ "مقدمة فلسفية للرواية ولما لايقال"(ص4). الكتاب يتجاوز ذلك. يمكن قرائته كتحليل للّغة وقدرتها على التعبير، لأنه يذكّرنا بمقدار فهمنا للعالم وتجربتنا، الخاصة والاجتماعية، التي تتقرر ليس فقط بقدرتنا اللسانية وانما بالإمكانات الدلالية (سيماتك) الموجودة في أي لغة معينة وفي أي وقت .

باعتباره تحليل لطرق معينة تزخر فيها الاعمال العظيمة للفن بالإمكانات المعرفية، الكتاب تذكير جميل بان الفن ينقل افكارا ليست افتراضية صارمة بل هي لا تُنقل بالحجج الدقيقة وانما هي ذات فائدة هائلة في انسجامنا مع تجاربنا وعواطفنا وعلم النفس الاخلاقي. قبل كل ذلك، الكتاب مساهمة ثمينة للنقاش حول حدود التحقيق الفلسفي، اضافة الى كونه اقتراح واضح الفهم حول الكيفية التي يمكن رؤية الفن مجسدا لفلسفة. انه يبدأ وينتهي بالتفكير في افلاطون، مذكّرا ايانا مرة اخرى لماذا المعركة القديمة لاتزال تهيمن على النقاشات المعاصرة حول قيمة الفن والعلم والفلسفة.

في الفصل الثاني، يبدأ الكاتب توضيح تجربة الـ (ما لايقال)، منورا ادّعائه بالاشارة لكانط و برادلي وفتجنشتاين وديفد فوستر والاس. التحدّي للكتاب او كما يقول المؤلف المفارقة – هي في توفير وسائل للحديث حول شيء ما حسب التعريف لايمكن التعبير عنه باللغة، اي، الـ ما لايقال ذاته. لكي يعطي جوهرا لهذه الفكرة، يستطلع الكاتب ما يراه أمثلة رئيسية لما لا يقال: التجربة الحسية والمعرفة عبر التعارف. ما يُعرّف هنا كاهتمام حاسم، يتردد على طول الكتاب، هو السؤال ما اذا كانت "تلك المعرفة ستكون في يوم ما يمكن التعبير عنها بافتراضات لنظرية مقبولة يمكن تقاسمها موضوعيا "(ص37). وكما يبين المؤلف في الفصل الثالث، ان التحدي هو ان نفهم الفرق بين اشياء لايمكن ان تقال من حيث المبدأ، واشياء لايمكن ان تقال بشكل تافه بسبب بعض القيود الابستمية.

الكثير من هذا الفصل يتصل بفهم وتطور اللغة – العملية التي يشير لها المؤلف كـ توسّع دلالي . تتخفى وراء افكاره رؤى فيتجشتاين وديفدسون حول اللغة والمعنى. تحليلات المؤلف لهذه الرؤى ترتقي صعودا الى ما يسميه "المأزق البنّاء"، الذي يستنتج "اما هناك شيء لا يمكن ان يقال او لايمكن التعبير عنه من حيث المبدأ، او انه في أية لغة، هناك وقت يكون فيه شيء لايقال او لا يمكن التعبير عنه في ذلك الوقت"(ص51). بالنسبة للكاتب، ما لا يُعبر عنه من حيث المبدأ يتقرر فقط بنوع من الحجة المتجاوزة، لكن حتى لو كان هناك مثل هذه الحجة، نحن لا نستطيع الاقتناع بها، لأنها لا توضح لماذا نحن عادة لدينا شعور بان الفن يوفر رؤى لما لايقال. والاكثر أهمية، هناك امثلة تاريخية متعددة تبين بانه، في أية لحظة معينة، القدرات التعبيرية لأي لغة هي محدودة، حتى لو تم بالنهاية إخضاع تلك الحدود. وهكذا، يدّعي الكاتب، "عندما تطوراللغة الطبيعية آفاقا للّغة – فان حدود ما يمكن قوله – يتقدم الى الأبد. فيما اذا كان هناك شيئا لا يمكن التعبير عنه بالمعنى الزمني (لا يتأثر بالزمن) او ان ما لايُعبر عنه هو فقط مؤقت، فان اللغة عندما تتطور وما كان مرة لايمكن التعبير عنه يصبح معبّرا عنه، عندئذ كل لغة جديدة سوف تدفع الافق مجددا - ولا تتجاوزه"(ص55). هذه الاشياء، التي لا يمكن التعبير عنها، و يمكن بيانها – تقودنا الى جوهر جدال الكاتب – و"في اي وقت، هناك اعمال ادبية عظيمة من القصة والشعر التي حقا تحقق هذا النوع من تجسيد ما لايقال. اذا كان الامر هكذا، فانها تكون ذات أهمية فلسفية"(ص55).

قبل التفصيل الكامل لهذا الادّعاء، يناقش الكاتب في الفصل الرابع فكرته عن البيان، من خلال الادب، الذي لايمكن قوله . نقاش الكاتب هنا هام جدا لتفسير الكيفية التي يبين لنا الفن فيها الاشياء، التي تبنّاها فيليب كيتشر Philip kitcher في تحليله المفصل لعمل توماس مان (موت في مدينة البندقية). في رؤية الكاتب، بينما تحليل كيتشر هو مساهمة قيّمة للنقاش حول المساهمة الفلسفية للفن، لكنه لايصطدم مع رؤيته الخاصة. أي ان نظرية كيتشر قابلة للتطبيق فقط على مواقف تبيّن فيها أعمال الادب شيء قيل بشكل مستقل من جانب الفلاسفة، وليس شيئا لايمكن قوله في وقت محدد. لكي نفهم بشكل ملائم فكرة مالايقال التي يمكن ان يبيّنها الادب، يعرض الكاتب في الفصل الخامس توضيحا كاملا لنظريته في بيان ما لا يمكن ان يقال، معتمدا على تحليل مكثف لـقصيدة (ويست لاند) – من خلال خياراتها الشكلية المحددة، "تعرض عاطفة معقدة غير مسماة لم تُلتقط في خطابنا السايكولوجي المعروف وانها ربما تتحدى هكذا استيعاب او تعبير في مثل هكذا عبارات مبسطة ومجردة" (87). الإلهام لمثل هكذا تحليلات يأتي من ت اس اليوت في كتاباته عن دانتي، الذي وفق رؤية اليوت له قابلية للتصور بوضوح اكثر من الناس العاديين ويمارس رقة عاطفية تتجسد للآخرين فقط بمساعدة الشاعر. الشاعر يمكن ان يجد طرقا لغوية جديدة للتعبير عن الاشياء، وهو ما يفسر لماذا هو يستطيع تمديد "الوعي العادي من خلال الاستعمال الخلاق للّغة الى وعي اكثر صقلا، واعترافا وفهما "(99).

وكما يحدد المؤلف في الختام، لو ان افلاطون ادرك هذه القابليات للتعبير الشعري، "لكان رحب بأهمية الشعراء، بحيث لايمكن الاستغناء عنهم كمساهمين في الفلسفة"(110). طالما افلاطون فشل في ادراك هذا، فمن حقنا ان لا نعيد هذا الخطأ.

هذا الاستنتاج ثمين والمؤلف يستحق التهنئة عليه لتذكيرنا حول النتائج المؤذية لعدم تقدير القيمة الادراكية للفن بشكل جاد. الكتاب ايضا تذكير ثمين بعدد من القضايا ظهرت بشكل متكرر طوال التاريخ مثل تلك المتعلقة بالاهمية الابستمية للشعراء والفنانين. ت اس اليوت في نظرته لدانتي قد يتخذ المرحلة الاساسية في تفكير المؤلف، لكن من المدهش نوعا ما ان الكاتب لايشير الى رؤية شيلي Shelley حول السيادة الابستمية للشاعر. رؤية بان الشعر يستمر وهو اكثر نجاحا في معالجة الاهتمامات الفلسفية التي تأسست جيدا ضمن نظريات الشعر، ناهيك عن القصائد ذاتها، التي طُورت من جانب شخصيات مثل هولدرلن وشيلي. نظرية المؤلف هي في هذا الجانب مساهمة لرؤية الشعر تأسست جيدا في التقليد الادبي، مع توسع اضافي الى القصة. بالطبع، قد يتسائل المرء ما اذا كان نفس النوع من الآليات التي تمكّن الشعر من بيان اللامعبّر عنه هي ذاتها تعمل في القصة، نتيجة للاختلافات في المظاهر الشكلية لطريقتين في الكتابة، لكن الكاتب غير مهتم بهذه الفروقات ويعزي هذه القابلية الى أعمال الادب (والى فيلم تيرنس مالك Terrence Malick الخط الاحمر الرفيع ) بشكل مستقل عما لو كانت قصة او ادب او شعر . مع ذلك، فان النظرة للقدرات الابستمية واللغوية للكتاب تستحق التعامل معها بشكل اكثر جدية، في ضوء حجم الاعمال العظيمة للفن الادبي التي تتركنا مندهشين بقوتها في جلب انتباهنا للاشياء التي لم نكن في السابق مطلعين عليها. غير ان ما مفقود من تفسيره هو ارضية ابستمية اكثر تفصيلا لنظريته: مثلا، ما الذي يبرر للقارئ في قبول الرؤى التي عرضها الادب؟ كم بالضبط يعترف المرء، يفسر او يستجيب لمثل هكذا بيان وكم سيستمر تأثيرها؟ ما الذي يجعل الكتّاب ذوي سلطة بشأن الرؤى التي يوفرونها؟ كل هذه الاسئلة ذات أهمية ملحة في النقاشات المعاصرة للقيمة الادراكية والطموح الفلسفي للادب والتي يجب معالجتها في تطوير نظرية حول ماذا يمكن ان ينجز الادب لنا ادراكيا. بما ان الكاتب صامت في هذه القضايا، فان الكتاب يُحتمل ان يناسب بشكل افضل اولئك الذين يعملون ضمن فلسفة اللغة، نظرا للاهتمام الذي يوليه الكاتب في مناقشة التعبيرية.

مفكر آخر كانت رؤاه في الشعر مشابهة للمؤلف هو كانط لكن المؤلف لايشير له رغم انه يناقش آراء كانط حول اشياء تقع وراء معرفتنا التجريبية. في كتابه نقد سلطة الحكم يجادل كانط ان الشعر هو الأعلى بين الفنون، يشغل هذا المكان الخاص بسبب قدرته في التعبيرعن اشياء بدونه لايمكن العبير عنها. وبينما بالنسبة لكانط ذلك لا يرفع الشعر الى الفلسفة، لكن الشعر بالنهاية قادر على تنوير المفاهيم الميتافيزيقية من خلال عرضه للافكار الجمالية. كذلك، كان كانط ايضا حساسا لقدرة الشعر على تمثيل ما يتم تقديمه في التجربة ولكن ليس كاملا كما في الوصف الشعري ذاته. يكتب كانط : "الشاعر يغامر ليصنع افكارا عقلانية منطقية لأشياء غير مرئية، مملكة الخير، مملكة الجحيم، الخلود، الخلق، وغيرها بالاضافة ليجعل من تجارب الموت، الحسد وكل انواع الشر، وكذلك الحب والشهرة، اشياء معقولة تتجاوز حدود التجربة، وبإكتمال يتعدى أي شيء له مثال في الطبيعة".

نظرية الكاتب تتضمن ان الادب هو "خطوة للامام" بالمقارنة مع العلوم والفلسفة في توفير رؤى حول مختلف مجالات التجربة. اذا كان ذلك هو الموقف، هنا يبرز الخوف (عادة يتم ابرازه من جانب مفكرين مضادين للجمال مثل افلاطون او بيتر لامارك (2007): في ضوء القدرة الفريدة للادب، لماذا لم يُمنح اي اعتراف لرؤاه خارج الحلقة الصغيرة للمتحمسين الادبيين الذين ليس لديهم اي دليل اخر لدعم ادعائاتهم ماعدى تجربتهم الشخصية؟ كذلك الى اي حد يمكن تبرير الكاتب في ادّعائه ان مثل هذه القدرة للادب هي بالنهاية اسلوب لعمل الفلسفة؟ ايضا، هل الادّعاء يفترض سلفا ان القيمة الادراكية للادب تُختزل الى مقدرته على عمل فلسفة؟

يقترح الكاتب ان الادب عادة ينجح بما لا تنجح به الفلسفة – يعطينا مدخلا لأشياء لا نستطيع وضع ايدينا عليها – ويضيف في قوله هنا الادب عندما يقوم بهذا فهو في الحقيقة يقوم بعمل فلسفة.

ومن جهة اخرى، من المثير للتساؤل ما اذا كان الكاتب يستطيع وصف قدرة معينة للادب ليبين ان ما لا يُعبر عنه كـ "عمل فلسفة"، خاصة بعد الإعلان ان الفلسفة ذاتها تبقى صامتة في هذه القضايا. الادّعاء ذاته يفترض سلفا رؤية قوية حول ماهية الفلسفة، وهي ليست بالضرورة مقبولة على نطاق واسع.

رغم هذه المخاوف، يُنصح بقراءة الكتاب من قبل أي شخص مهتم بالأسئلة المتعلقة بالادب والفلسفة والتي تعود لمعركة قديمة. من المهم جدا ادراك اننا في عصر تتضائل به الأبجدية بسرعة وان القليل والقليل من الناس يستطيعون القراءة، وحيث تتراجع الانسانيات حول العالم مقابل هيمنة المواضيع الاكاديمية الاربعة (علوم، تكنلوجيا، هندسة، رياضيات)، فان كتاب ما وراء الكلمات يجعلنا بأمس الحاجة له كتذكير بان اشياء معينة هي وراء الفهم النظري، يمكن بيانها لنا بالفن.

***

حاتم حميد محسن

...........................

* كتاب ما وراء الكلمات: الفلسفة، الرواية وما لايقال للكاتب تيموثي كليفلاند صدر عام 2022 عن دار Lexington Books في 140 صفحة.

أشرتُ في مقال سابق لي بعنوان (نزهة فكرية) الى أنني قرأتُ في أحد الكتب أنّ (المجتمع الذي لا يقرأ لا يتطور ولا يكتشف ذاته ولا يمتلك إرادة التقدم)، وكتبت ملاحظة بأنني سأتناول الكتاب مع الإشارة الى عنوانه ومؤلفه.

الكتاب المقصود هو (العلاج بالقراءة.. كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟، لمؤلفهِ حسن آل حمادة).

يطرح هذا الكتاب سؤالاً مهماً: هل نحن مجتمعات لا تقرأ؟، ويخوض في فصوله السبعة موضوعة الجواب على هذا السؤال مشيراً الى غياب ما يمكن أن نصطلح عليه بالاقتصاد الثقافي الذي يوظف المال في الثقافة ويجعلها من مجالات الاستثمار، وهذا النوع من الاقتصاد موجود في مصر وبدرجة أقل في لبنان، وغياب سياسات التنمية الثقافية وعدم ادماج الثقافة في خطط التنمية، فالثقافة لا تمثل الأولوية ولا تحظى بالإهتمام المفترض على المستوى الرسمي في العالم العربي ولو كانت وزارات الثقافة في العالم العربي لا تعتني إلاّ بتنمية القراءة في مجتمعاتها لكانت هذه من أعظم المنجزات، لأنّ المجتمع الذي لا يقرأ لايتطور ولا يكتشف ذاته ولايمتلك إرادة التقدم او ينظر الى المستقبل بأمل وطموح.

يبحث الكتاب أيضاً في كيفية صنع مجتمع قارئ من خلال جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع والإعلام والدولة، والقراءة الحرة لدى الشباب، والعلاج بالقراءة في الادب العربي، والمكتبة المنزلية من خلال كلمات أهل البيت، والصحيفة المنزلية، والعبث بالكتب وتمزيقها من بعض مرتادي المكتبات.

ترد في الكتاب جملة نقاط كفيلة بمساعدة الإنسان في أن يكون قارئاً نهماً:

(وعي أهمية القراءة فـ "الناس أعداء ماجهلوا"، وإزالة النفور من القراءة بتخصيص الوقت الملائم لها والتدرج في ممارستها، والقراءة الموجهة لتحقيق طموحات الإنسان ـ فمن يرغب في كسب أصدقاء سيقرأ كتب مبادئ العلاقات الإنسانية، ومن يرغب بتربية أبنائه سيقرأ كتباً متخصصة بالتربية وهكذاـ وانتقاء الكتب المناسب من خلال المكتبات ومعارض الكتب، وعرض الكتب بشكل لافت للنظر في البيت، ومحاورة العلماء والمثقفين، وتحرير صحيفة منزلية يكتب فيها المرء مع باقي أفراد أسرته، وتحبيب القراءة والكتاب الى النفس، والتقليل من جلسات السمر الطويل مع الأصدقاء والاستعاضة عنها بقراءة كتاب او الاستفادة من هذه الجلسات في القراءة بصورة جماعية).

يؤكد الكتاب أن المكتبة هي طب النفوس، ويجب أن يلجأ اليها المريض المتعلم بمشورة الطبيب او العالم، لكي يقرأ الكتب التي يمكن أن يكون فيها الشفاء والعلاج لأمراضنا النفسية والاجتماعية والسياسية.

هذا الكتاب بطبعته الثالثة صدر سنة 2014، القطيف.

***

أسماء محمد مصطفى

 

قراءة في مشروع «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن

مدخل: مبادرة مهمة ومشروع ملح وبحث متميز طرحه المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن مؤخراً في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»؛ فدراسة دراسة المجتمع الإنساني لأية أمة وكيان حضاري إنساني هو ضرورة ملحة معرفياً، لأنها تغني الفكر الإنساني وتزوده بالطاقة اللازمة للحياة، ليمارس دوره في قيادة إنسانيتنا نحو الكمال. والشيعة مكون إنساني عريض، له وجوده المؤثر في أكثر من إتجاه، ليس لأبناء المكون بذاته، وإنما أصبحت له تأثيراته الواضحة على حضارتنا الإنسانية، بما يمتلكه من مقومات فكر ومضمون أخلاقي في وصاياه وتعاليمه، كما له هويته الفريدة الخاصة، وبروزه نظاماً إجتماعياً له امتداداته العريضة وتأثيراته الواسعة في حضارتنا الإنسانية، وبات من الضروري اليوم دراسته بوصفه مكوناً كبيراً فاعلاً في مسرح الأحداث، وله إسهاماته في صناعة الواقع، رغم نشوئه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وهي تجربة فريدة يختصه بها «الاجتماع الديني الشيعي» الذي تجاوز كل حقب التاريخ التي مرت عليه رغم ضرواتها في معظم الفترات تلك.

هناك ضرورة ملحة لدراسة «التشيع» بعيون البحث الهادف، للوصول إلي معرفة العوامل التي ساعدته للبقاء والإستمرار طيلة قرون متمادية، بالرغم من حملات القمع المتواصلة التي استهدفته وجودياً، والتي وصلت إلى حد التصفية المجنونة لكل ما يتعلق بتراث وإرث وكل هذا الكيان. فمن المؤكد بأن هناك نظام إجتماع ديني يتفرد بخصائص ومميزات جعلته يصمد طيلة فترات التاريخ التي مضت عليه، بل استطاع بفعل تلك المميزات والخصائص أن يتجاور الحدود الجغرافية الضيقة، ليواصل انتشاره، ويغطي اليوم رقعة واسعة من كرتنا الأرضية، وله إسهاماته الخلاقة في رفد الإنسانية بالمضمون الأخلاقي الفريد، الذي يحمله فكراً ومنهجاً وحركة. ولأن الشيعة وعقيدة «التشيع» أصبحت حالة مؤثرة مشهودة؛ فإنّ تتبّع تطور «النظام الاجتماعی الديني الشيعی» هو أمر تفرضه طبيعة حجم الانتشار، وما يمتلكه «التشيع» من عناصر قوة في الفكر والمضمون الأخلاقي بصفة خاصة.

أهمية مشروع المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن

ما يطرحه البحث الذي يقدمه الأستاذ الباحث والمفكر الدكتور على المؤمن يجيب على العديد من التساؤلات التي يثيرها موضوع «علم الاجتماع الديني الشيعي»، بدءاً من: هل يمكن أساساً دراسة «الاجتماع الديني الشيعي» أو «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»؟ وما هي أهم مكوناته وعناصره التي يتشكل منها؟ وما هي طبيعة التحدّيات التي تواجه الإجتماع الشيعي للتغيير والتجديد؟ وما هو دور الفقهاء والمراجع الدينية والحوزة العلمية في الاجتماع الشيعي؟ وهل هناك في «التشيع» قواعد عقدية وفقهيه يستند إليها «الاجتماع الديني الشيعي»؟، وغيرها من الأسئلة الهامة والملحة حول واحد من أكثر الموضوعات حساسية وإثارة للجدل، ليس على المستوى الشيعي الخاص، وإنما على المستويين الإسلامي العام والعالمي، لما ينطوي عليه من إشكاليات في طبيعة الفهم والموقف من ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي. ونحاول في هذه السطور قراءة المشروع بعيون منفتحة، على مدى الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث المعرفية، لإثراء ساحتنا الفكرية بما يمكن أن يساعدنا كأمة على المضى قدماً وبخطوات راسخة نحو الريادية وتبوء مواقع الصدارة في حضارتنا الإنسانية المعاصرة.

إن طبيعة البحث في شأن تطور الاجتماع الديني الشيعي؛ له حساسيته الخاصة، إذ يصطدم الباحث ــ عادة ــ بين مناهج التوصيف وكتابات النقد الموجهة والمنحازة وتحديات إسقاطات قيم التطوير والتجديد والإصلاح من جهة البحث، وبين إسقاطات المواقف المنهجية والعاطفية المسبقة من هذا الاجتماع. وفي كل الأحوال؛ إن مجرد شغل «علم الاجتماع الديني الشيعي» هذه المساحة من الاهتمام هو بحد ذاته دعوة صريحة وواضحة لكي يتقدم مفكرو الشيعة بتغطية هذا البحث من زاويتهم الخاصة التي تنطلق من «التشيع» فكراً ومنهجاً ورسالة ومضامين أخلاقية، وهو ما يحتاجه «النظام الديني الإجتماعي الشيعي»، ومما لا يستطيع من هم خارج دائرته الإبداع فيه.

ويأتي کتاب «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع» للباحث والمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن في هذا السياق من معركة القيادة والريادة في فضاء في الفكر الإنساني، والذي يتناول فيه الدكتور على المؤمن موضوعاً له أهميته القصوى في فضاء الفكر الإنساني. وتنبع قيمة البحث الأساسية من أن هذه المقاربة النوعية في فضاء علم الإجتماع، لها حساسيتها الخاصة، خاصة لصلة البحث المركزية بما وصفه بالاجتماع الديني الشيعي، نظراً للظروف الراهنه التي يعيشها «مجتمع الشيعة» في الخارطة العالمية، رغم أن علم الاجتماع أضحى اليوم في وقتنا الراهن ثقافة أكاديمية تدرسها الجامعات والهيئات الأكاديمية البحثيه في جميع أنحاء العالم، بغية الوصول إلى فهم دقيق للقواعد والأسس التي تقوم عليها مكونات مجتمعاتنا الإنسانية، إلاّ أنّ «التشيع» لم يحظ بما يستحقه من اهتمام وعناية الأبحاث الأكاديمية في هذا السياق.

لقد قام الباحث الدكتور علي المؤمن بدراسة التطورات التاريخية التي رافقت ظهور التشيع كفكرة دينية ومذهب وعقيدة، باعتبار أن ذلك مقدمة يقوم عليها موضوع البحث الأساسي في «علم الاجتماع الديني الشيعي»، إذ تستدعي منهجية البحث العلمي مثل هذه الدراسة، وما يستلزمه من استعراض تطور حركة الشيعة ونموها كاجتماع مدني واسع الإنتشار، والذي أصبح اليوم يغطي رقعة ومساحة جغرافية هائلة، وله تفاعلاته وتأثيراته على مسرح الحياة.

نعم؛ لقد أشار الباحث في مقدمته للبحث، الى أنّ موضوعه ليس متعلقاً بدراسة التشيع كمذهب ديني أو مدرسة فقهية تتميز بسجالاتها العلمية في ميدان العقيدة والفقه بمختلف فروعه، وإنما هي محاولة لتأسيس نظرية علم إجتماع خاصة لمكون استطاع أن يفرض وجوده رغم كل الظروف السياسية الصعبة والقاسية التي مر بها. والحقيقة أن الباحث نجح في خلق مبادرة حيوية مهمة للغاية في سبيل تأسيس نظرية لعلم اجتماع ديني يختص بالتشيع كأمة لها من الحضور والفعالية، بحيث تستحق البحث والدراسة لمعرفة الأسس والقواعد التي تقوم عليه فكرة هذا الاجتماع، وتنبع قيمته الأساسية من أن الباحث يأتي من رحم الكيان الشيعي ومن داخله.

في تقديرنا ليس هناك سابقة في البحوث الفكرية وحتى العلمية المتخصصة في قضايا وشؤون علم الاجتماع في مكتبتنا الإسلامية والعربية التي تناولت تأسيس علم اجتماعي ديني يختص بالشيعة كمكون إجتماعي كبير في خارطتنا الإنسانية، وقد طالعنا مجموعة ضخمة من الدراسات والبحوث العلمية لعدد من الجامعات العربية والإسلامية، ورغم غزارة الإنتاج في الدراسات العليا؛ إلّا أننا لم نقف على دعوة واحدة تتناول موضوع علم اجتماع لمكون الشيعة كموضوعة تخصصية قائمة بذاتها. وبالتالي؛ فلمفكرنا العراقي الدكتور علي المؤمن تسجيل السبق في طرح هذه المبادرة المهمة لأمة لها انتشارها وحضورها الواسع في عالمنا المعاصر، وهي أمة ــ كما تشير الاستقصاءات الميدانية ــ ناهضة في شتى الميادين، وأن سرعة انتشارها وحجمه، أصبحت ملحوظة بشكل لا تحتاج إلى عناء بحث أو تقصي، وهذا ما يجعل تأسيس علم اجتماعي شيعي هو في غاية الأهمية، لا أقل لإثراء البعد المعرفي في ظاهرة الاجتماع الشيعي، لما تستحقه الظاهرة معرفياً من أمر الدراسة المعمقة والبحث العلمي.

المتتبع لحركة علم الاجتماع وحتى العلوم المتفرعة منه؛ فإنه يلحظ فقراً شديداً، بل انعدام شبه مطلق في دراسة ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي دراسة موضوعية بعيدة عن ما علق بها من تشويه، بسبب طغيان البعد السياسي المشحون بالحساسية المفرطة لكل ما يتصل بفكرة التشيع وموضوعه الشيعة، حيث طغت الأبحاث ذات الطابع والايحاء السياسي الموجّه أو المذهبي المستغرق في القواعد الفقهية والأصول الدينية، مما أخذها بعيداً عن الموضوعية في دراسة «الاجتماع الديني الشيعي»، والأسس والقواعد التي يقوم عليها، وغابت عن معظم تلك الدراسات والأبحاث المطروحة في فضاء الفكر الإنساني العام الأصول المنهجية السليمة لدراسة الاجتماع الشيعي وبحثه، رغم ما وصل إليه هذا الاجتماع من قوة حضور وانتشار وتأثير لا يمكن تجاهله أو إغفاله بأي حال، بل إننا نقف اليوم أمام أهم ظاهرة اجتماعية دينية وسياسية في العالم، وهي تستحق العناية والدراسة والبحث.

لابد هنا من التعمق في هذه الظاهرة الكونية الفريدة، عبر استعراض جذورها وخلفياتها التاريخية، مروراً بدراسة بيئة النشأة والتأسيس، وكذلك محاولة التعرف على منظومتها الفكرية وهيكلتها الاجتماعية وعناصر قوتها، وبحث كل العوامل التي أدت إلى تطورها ووصولها إلى ما هي عليه اليوم من حضور وانتشار كبيرين، وما قام به الدكتور المؤمن في هذا المجال، هو تأسيس منهجي متفرد.

الاجتماع الديني الشيعي بين علي المؤمن وعلي شريعتي وعلي الوردي

تعود أهمية بحث «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن الى عدة عوامل أساسية، منها ــ وفي صدارتها ــ سد ثغرة كبيرة في جدار البحث العلمي حول موضوعة الاجتماع الديني الشيعي، وأن هندسة البحث جاءت من الداخل هذه المرة، دون إسقاطات المدارس الفكرية المناوئة أو المنافسة، حتى التي تفتقر إلى المهنية والعلمية في البحث.

تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض المقاربات المتناثرة ــ في مكتبتنا الإسلامية العريضة ــ من كتّاب غربيين وكتّاب مسلمين وعرب، لكنها محصورة بمناهج المدارس الغربية في العرض والتحليل، وليست لها علاقة بالتشكل الفكري والثقافي والديني لمجتمع الشيعة، ولا للاجتماع الشيعي بكل منظومته الفكرية والعقدية التي يتشكل منها. وهنا تكمن قيمة البحث الذي بين أيدينا؛ فهي المرة الأولى التي يطل فيها باحث على موضوع الإجتماع الديني الشيعي من رحم المكون، وممن تابع مراحل تطوره وانتشاره خلال أكثر من الأربعة عقود الماضية الأكثر أهمية وحساسية لهذا الاجتماع، وعاش هواجسه المتعددة والمتنوعة في داخل المكون؛ فما جاء في بحث الدكتور المؤمن هو حصيلة بناء معرفي من الداخل، أمتد زهاء أكثر من نصف قرن من المعايشة والتفاعل، وهكذا فهو لم يكن مجرد بحث أكاديمي بحت لنيل شهادة جامعية عليا أو بحث ترفي من خارج المنظومة يريد من خلاله الباحث زيادة رقم إضافي على قائمة أبحاثه.

لقد تناولت ظواهر علم اجتماع المسلمين والشيعة، أسماء لامعة في فضاء علم الإجتماع العربي والإسلامي، كالدكتور علي الوردي والدكتور على شريعتي وغيرهم من أرباب الفكر وعلماء الإجتماع في عالمنا العربي والإسلامي، لكن الطابع العام الذي اتسمت به هو أنها أعتمدت مناهج البحث والتفكير من مدارس فلسفية خارجه عن «التشيع»، وربما من مدارس معادية تعمد إلى توجيه مادة البحث إلى أهداف موضوعة مسبقة، تستهدف التشويه والتشكيك أو إدخال بعض المادة الفكرية فيها، بغية توجيهها أو تحريفها، بما يتلائم مع وهم الإحساس بالتفوق والريادة في ميدان الفكر والحضارة الإنسانية، وقد ساعدها في ذلك الفراغ أو الفقر الشديد في ميدان البحث العلمي الخاص بمكون «الشيعة».

يأتي بحث الدكتور علي المؤمن ليؤسس لمدرسة بحثية خاصة تنطلق من «التشيع»، بما يمتلكه من مقومات ذاتية مذهلة، وذلك بإزاء المدرسة التي تتبنی الآراء والمناهج وطرق التحليل الغربية، التي أسهمت في توهين التشيع كعقيدة ومذهب وهوية وقضية، وأدت إلى تشويه صورة «الاجتماع الديني الشيعي» على نحو مبالغ فيه، عبر إسباغ الصبغة السياسية حتى على العوامل الطبيعية لحركة الاجتماع وكيفية سيرورة الأحداث والمتغيرات في الاجتماع البشري، وهي تفتقد إلى الموضوعية والمنهجية العلمية في تناول قضية حركة المجتمع الشيعي عند تناول هذا الإجتماع، مثل آراء علي الوردي وآراء علي شريعتي وغيرهم ممن تناولوا «الاجتماع الديني الشيعي» بمناهج وآراء المدارس الغربية التي أخذوا منها العلم والمعرفة، واستقوا معارفهم البحثية منها، بالإضافة إلى الخلط الرهيب بين تفريعات هذا العلم النفسية والسياسية والثقافية والفكرية والعقائدية وإسقاطاتها على الاجتماع الديني الشيعي، وبين الهواجس الشخصية على طبيعة المعطيات القائمة على الأرض في البيت الشيعي الكبير والواسع.

ثمة مفارقات هائلة بين فروع علم الاجتماع المتشعبة والمتعددة، حيث لا يحتوي أي علم من العلوم الإنسانية هذا المستوى من التنوع والتعدد في تفريعاته كتلك التي في علم الاجتماع، نظراً لشمول الرقعة التي يغطيها، وسعة المساحة التي يتحرك فيها، حتى أضحى علم الإجتماع اليوم في المعاهد العلمية مهيمناً وطاغياً على سائر العلوم، بإعتبار أن المجتمع البشري هو غاية كل العلوم، وهو ما يختص به علم الاجتماع دون سواه، ويغطي كل تفريعاته.

«علم الاجتماع الديني الشيعي» حقل تأسيسي جديد ضمن علم الاجتماع الديني

يعتبر عالم الإجتماع السلوفيني "توماس لاكمان" (١٩٢٧-٢٠١٦) أحد الرواد الذين اهتموا بدراسة علم الاجتماع الديني، وهو أول من نال درجة الدكتوراة في علم الإجتماع الديني عام ١٩٥٩م، ويحسب له بأنه هو من أوجد طريقة للتواصل بين الأفكار والمعتقدات الدينية وأمور البحث العلمي القائمة بين مراكز البحث العلمي في أوروبا وامريكا، خاصة تلك التي تعني بدراسة جميع الظواهر الاجتماعية والدينية. ثم تظافرت الجهود العلمية ــ بعد ذلك ــ لدراسة عامل «الدين» كعنصر من عناصر التأثير المهمة في حركة الاجتماع البشري وصياغة السلوك الإنسانية وصناعة الهوية الفكرية والثقافية التي يتمتع بها أي مجتمع، لكن أياً من تلك البحوث، رغم وفرتها في المكتبة الغربية، لكنها لم تتناول ظاهرة «التشيع» كفكرة دينية راسخة ومؤثرة في الاجتماع الشيعي، بل طغت عليها الرؤية المسبقة عن الإجتماع الشيعي، والحكم عليه من خلال المعطيات السياسية، بالإضافة إلى كون هذه البحوث تمثل الرؤية والمشروع الغربي للاجتماع الديني الإسلامي العام. أما «علم الاجتماع الديني الشيعي»؛ فلم يحظ بأي إشارة أو اهتمام قبل مشروع الدكتور علي المؤمن، رغم حضور هذا الاجتماع وفاعليته في مسرح حضارتنا الإنسانية.

نعم؛ برزت بعض الكتابات السريعة التي تناولت حركة المجتمعات الشيعية من ناحية الإصلاح والتغيير السياسي ودور علماء الدين في توجيه المجتمع الشيعي وقيادتهم الميدانية، وهناك أيضاً كثير من الدراسات النقدية في حركة الشيعة نحو تحقيق مطالبهم السياسية، لكن ينقص جميع تلك الكتابات الحديث عن التفاصيل الموضوعية المتعلقة ببناء «الاجتماع الشيعي» والأسس التي يقوم عليها، وسائر التفاصيل المرتبطة بتشكيل الهوية والفكر والمسألة العقدية فيه، على نحو الموضوعية ومنهجية عرض وتحليل المعطيات القائمة.

ومن هنا فإن مشروع «علم الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور علي المؤمن يأتي لسد ثغرة هائلة في جدار الأبحاث المتخصصة في علم الاجتماع الديني، ويتناول موضوعاً مهماً يتعلق بالإجتماع الشيعي. وهذا المشروع عبارة عن نافذة تأسيسة لهذا العلم الذي نرجو أن يفتح صفحة جديدة في سماء المعرفة الإنسانية، لتقديم صورة مغايرة عن واقع هذا الاجتماع بما تعكسه الموضوعية والمنهجية العلمية في تناول هذا العلم.

حقيقة وجود «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وهيكليته

كان نقصاً وثغرة كبيرة في جدار الفكر الإنساني عندما تم إهمال دراسة «الاجتماع الديني الشيعي»، رغم تاريخه الطويل وما يمتلكه من مقومات بقاء واستمرار وجود، وكان مجحفاً أن يقتصر التعاطي مع «الاجتماع الديني الشيعي» كإطار سياسي يتعلق بشؤون الصراع السياسي القائم بين الجماعات في داخل الدولة والنظم السياسية القائمة، وحصره في أحسن الفروض، في زواية التعصب أو التطرف المذهبي، دون الاتجاه بمنهج البحث نحو موضوعة «الاجتماع الديني الشيعي»، وهو محور لهذا البحث الذي بين أيدينا.

إن «التشيع» بما هو عنوان فكرة ومذهب وهوية، يمثل ذلك المشروع التاريخي الطويل الذي يمتد إلى عراقة تاريخنا الإسلامي، وما أحدثه من تحولات ضخمة على صعيد الاجتماع، ليس الإسلامي أو القومي العروبي فحسب، وإنما على صعيد الاجتماع الديني الإنساني برمته. ولا يخفى هنا بأن الفكرة الشيعية هي أحد أبرز عناوينه الأساسية الحاضرة، تأثراً وتأثيراً في هذا العالم، والتي تحتل مساحة ورقعة واسعة منه، لها منظومتها العقدية والدينية كما لها منظومتها الاجتماعية. ولا يمكن بحال تجاوز حقيقة وجود النظام الإجتماعي لكتلة بشرية هائلة تعيش التجانس والتناغم في مشروع عام إسمه «التشيع»، ولها ما يختص بها من نظم اجتماعية تشكل في مجموعها الثقافة الذي يقوم عليه مجتمع الشيعة.

الحقيقة؛ إنه برغم ما تعرض له «الشيعة» من ظلم واضطهاد فاحش على مدى القرون، لكن الاجتماع الشيعي استطاع أن يستمر، متجاوزاً كل التحدّيات والصعوبات التي فرضت عليه في مختلف الظروف، ومن المؤكد بأنه لولا المنظومة التي يتشكل منها هذا الاجتماع الإنساني، ويقوم على أساسها، لما تمكن «الشيعة» من البقاء بهذا الحضور المذهل الذي نشاهده في كل السياقات؛ فكم من المحاولات التي جاءت لتقويض قاعدة «التشيع» والقضاء عليه كفكرة وكيان، وكم أُلصقت في تاريخه من تهم وتشويه، لكنه ظل صامداً، بينما مرت عليه كل الحملات التي استهدفته كمحطة عابرة في هذا التاريخ. ومن المؤكد بأن هناك هيكلية ونظام اجتماعي خاصين بهذا الاجتماع الديني الشيعي، أستطاع الشيعة من خلاله المرور عبر محطات التاريخ المختلفة، وتجاوز أكثرها شراسة وقساوة، على أن خسر الجميع كل محاولاتهم المستميتة من أجل القضاء على هذا الاجتماع.

لقد تعرّض الشيعة وعقيدتهم المحورية التشيع لحملات قاسية شرسة، كما تعرّض الاجتماع الديني للشيعة إلى ضربات قاسية جداً، بما لم يتعرض لها اجتماع ديني إنساني آخر، والتي كان معظمها في كل مرحلة من مراحل التاريخ كافية لإنهاء وجودها وتصفيته الى الأبد، كما حدث لتيارات وجماعات فكرية وعقائدية أُخرى، بينما انتهت من تاريخ البشرية صفحات عديدة لكيانات ملأت يوماً ما صفحات هذا التاريخ بوهج التمدن والحضارة، لكن أغلبها لم يستطع الصمود في مواجهة تحدّيات البقاء والاستمرار، وانتهى وجودها، بينما كانت كل الوسائل والإمكانات المادية متاحة ومتوافرة تحت تحكمها وسيطرتها، بل كان لبعضها من النفوذ ما يجعل أمر بقائها قضية عادية وطبيعية، لكنها لم تصمد أمام طبيعة تحدّيات الزمن وتقلبات الدهر، بينما إستطاع الشيعة البقاء والاستمرار، رغم قسوة التحدّيات والصعوبات التي واجهتهم، والتي وصلت إلى حد التصفية والإبادة الجماعية.

والحقيقة أن بقاء التشيع واستمراره لم يأت نتيجة فراغ، وإنما فرضته عوامل وعناصر موضوعية مهمة تتعلق بمكوناته وعناصر تشكيله. وهذا ما يعطي لبحث الأستاذ الدكتور المؤمن قيمته، فى أنه تجاوز الاصطفافات المبنية على حسابات عالم المصالح والمنافع، إلى دراسة الاجتماع الديني الشيعي كظاهرة من الظواهر الإنسانية التي تفرّدت بعناصر استثنائية في مكوناته الفكرية والعقدية والهيكلية، جعلتها تصمد طيلة هذه القرون، رغم ما عصف بها من تحديات صعبة ومحن قاسية، وهي مما تستحق العناية والاهتمام، بما ينفض بفكرنا الإنساني الخلاق في سعي الصادقين من البشر نحو الكمال المدني والحضاري المنشود. ولا شك أن في ظاهرة الصمود الكبيرة "للتشيع" عوامل كامنة مستقرة، تجعل منه عنواناً، بل عِلماً متفرداً في دراسة الاجتماع الإنساني. وأظن بأن الأستاذ المؤمن استطاع أن يحرك الفكر الإنساني في هذا الاتجاه.

عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وإنسانيته

سبقت الإشارة الى أنّ هناك مجموعة من العوامل التي تقف وراء صمود وبقاء «التشيع» كمنظومة عقدية وفكرية، رغم قسوة وضراوة ما تعرض له الشيعة طيلة تاريخهم من ألوان القهر والاضطهاد، وفي فترات هي الأشد قسوة وتوحشاً عندما تعرض «الشيعة» الى القتل على الهوية، كما حدث في عدة عهود وحقب تاريخية مضت، ونالت من وجودهم المعنوي وحضورهم الشيء الكثير، لكن كل تلك الحملات الشعواء لم تستطع إنهاء وجود الاجتماع الشيعي أو تصفيته والقضاء عليه، بل يمكن ملاحظة أن الضربات القاسية التي تعرض لها الشيعة على مدار التاريخ، منذ فجر الإسلام، وتحديداً مع الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية، وبجميع العهود التي تلتها، وإنتهاءً الى وقتنا الراهن، حيث نجد استمرار الحملات القاسية لتحطيم «الشيعة» وتدمير كل ما يتصل بهويتهم ومكونات نظامهم الديني الاجتماعي وهيكلته؛ نلاحظ انتشاراً وتمدداً استثنائياً لظاهرة الاجتماع الشيعي، حتى يمكننا القول بأنها الظاهرة الاجتماعية الفريدة عالمياً التي لا تمتلك عوامل البقاء والصمود وحسب، إنما تمتلك عناصر القوة والتفوق والانتشار التي تجعلها البديل الحضاري العالمي الأمثل.

ولم تتوافر هذه الأسباب والعوامل من فراغ، إنما لوجود عناصر ثابتة مولدة لها ذاتياً. وما يهمنا في هذا السياق الإشارة إلى واحدة من هذه العناصر المهمة التي يمكن ملاحظتها بوضوح في «الاجتماع الديني الشيعي»، وهي عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، بمعنى أن "التشيع" ونظامه الاجتماعي، بما هو كيان فكري ومنهج وسلوك حياتي وعقدي؛ لم يأت لمكون عنصري أو إثني أو جغرافي أو عرقي محدد، إنما تفوّق «النظام» بأنه الفكرة الاجتماعية العقدية العابرة لكل عناصر التجزئة في الفكر الإنساني، من قبيل العنصر واللون والعرق والانتماء الإثني والجغرافي. فبالإضافة إلى قدرة «النظام» على تحطيم كل ما يمكن أن يكون عنصراً من عناصر التجزئة والتفتيت؛ فإنه استطاع أن يتجاوز كل الأطر الضيقة التي يمكن أن تحبس الأفكار في صناديقها الضيقة، وتجعلها مهيئة تماماً للتحلل والاضمحلال ثم الإندثار؛ إذ أن الفكر الذي ينطوي على عناصر التفكيك والتجزئة؛ فإنه بطبيعته يعمل على تجزأة المجزأ وتفتيت المفتت، وصولاً إلى الإضمحلال والتلاشي والفناء. أما التشيع ونظامه الاجتماعي؛ فإنه ظل متماسكاً بكل عناصر تشكله وهيكليته وإطاره.

الهوية الشيعية الواحدة

يتمتع الشيعة بهوية واحدة، لها خصائصها وسماتها ومميزاتها الخاصة، التي لا تختلف بين مكان وآخر أو بين فئة من هذا المكون والفئات الأخرى. وهذه إحدى أهم عناصر القوة المكونة للاجتماع الشيعي الذي ينبغي معالجته بالدراسة والتحقيق؛ فرغم التنوع والتعدد الهائل في الاجتماع الشيعي، من حيث تعدد الأعراق والقوميات والانتشار الجغرافي الواسع، الذي يشمل القارات الخمس، إلّا أنّ الهوية الواحدة في الفكرة والبعد العقدي للاجتماع الشيعي هو الحاضنة الكبرى الجامعة والموحدة لكل هذا التنوع والتعدد، بحيث يمكن ملاحظة الفوارق الفنية في كل شيء إلا في مضمون الهوية والاجتماع الديني الشيعي. ولم تأخذ الفوارق الطبيعية المتصلة بالعرق أو العنصر أو اللون أو القومية أي أثر في تجاوز وحدة الهوية في الاجتماع الشيعي، مع وجود الفوارق الفنية الشاسعة في طبيعة تشكل بيئة الاجتماع الشيعي من حيث الأعراق والقوميات المنتمية إليه.

لقد قام الباحث الدكتور المؤمن بمناقشة إشكاليات الهوية الشيعية في الفصل الثامن من الكتاب، شارحاً علاقتها بمعايير الانتماء المذهبي والقومي والوطني. في الوقت الذي تناول فيه بشيء من التخصيص حول انعكاس الاجتماع الديني والثقافي في النجف الأشرف على الهوية الشيعية، باعتبارها من وجهة نظر الباحث الحصيف، تمثل المركزية التقليدية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، مع ما كان ينبغي لجمال وكمال البحث أن يركز في محاور وموضوعات وأفكار البحث بعيداً عن التوصيفات التي تنزع من البحث قيمته المعرفية، بما يُعرف في فضاء قضايا الفكر ومناهجه بالإنحيازات المسبقة.

بحث المؤسسة المرجعية والحوزة العلمية

رغم مكانة المؤسسة المرجعية والحوزات العلمية كمؤسسات أساسية يقوم عليها «النظام الديني للاجتماع الشيعي»؛ فإن الهوية أكبر وموضوع أعمق من اختزاله بثقافة مجتمع أو مؤسسة ما، مهما تعاظمت مكانتها ودورها في رفد حركة التشيع على أرض الواقع، ولا يمكن لعنصر بمفرده مهما كانت أهميته وخطورة الدور الذي يلعبه، من أن يكون المصدر الوحيد لقراءة معرفية رصينة لكيان تلعب فيه مجموعة من العوامل المتشابكة في تشكيل هيئته وهويته. صحيح أن المؤسسة المرجعية والحوزات المنبثقة عنها يمكن أن تحتل مساحة واسعة من تمثيله، باعتبارهما العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء التشيع، ولكن مهما تعاظم دورهما لا يمكن بحال جعلها في مقام المذهب نفسه والاجتماع الديني الشيعي، بالنظر لتضافر مجموعة من العناصر في تكوينه وتشكيله وتطويره، وذلك بالرغم مما للمؤسسة المرجعية والحوزات العلمية من ثقل واضح على المذهب بما هو عقيدة وفقه، وعلى الاجتماع الديني الشيعي بما هو كيان واقعي قائم.

تعتبر المؤسسة المرجعية ومؤسسة الحوزة العلمية لها من المقومات الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، وفي هذا السياق عالج الأستاذ المؤمن في الفصل الثاني من كتابه «المسار التاريخي للنظام الإجتماعي الديني الشيعي»، حيث بذل جهداً ملحوظاً في رصد مرحل تأسيس النظام الذي يقوم عليه كيان الاجتماع الديني الشيعي، وذلك كما أشار الباحث، منذ عصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحتى وقتنا الراهن. ثم تناول بشيء من التفصيل والتخصص في الفصل الثالث من البحث البنية العقدية والفقهية للاجتماع الديني الشيعي، والتي تناول فيها القواعد الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، كقضية مؤسسة المرجعية، وما يرتبط بها من بحث مسألة التقليد وتأثيراتهما المباشرة في الإجتماع الديني الشيعي.

بالطبع؛ لم يتجاوز الباحث قضية التعدد والتنوع في المؤسسة المرجعية، وكيفية تطور المفاهيم المتصلة بالمؤسسة المرجعية، وعلاقتها المباشرة في التصدى وتحمل مسؤولية الاجتماع الديني الشيعي في مختلف المجالات المتعلقة بالقضايا والتحدّيات المعاصرة للاجتماع الديني الشيعي. أما الركيزة الأخرى التي يقوم عليها بناء الاجتماع الديني الشيعي، والذي يكمن في مؤسسة الحوزة العلمية؛ فقد خصص لها الباحث فصلاً مستقلاً، يتناول فيها الحوزة العلمية باعتبارها المؤسسة الدينية للنظام الاجتماعي الديني للشيعة، وعقد مقارنات ومقاربات مهمة بين الحوزتين العلميتين في النجف الأشرف وقم المقدّسة لأهميتهما في النظام الديني الشيعي.

وهنا ركّز الباحث الدكتور علي المؤمن في هذا الفصل من بحثه القيم على محور له أهميته الخاصة في الفكر الديني الشيعي، بل والبناء العقدي للنظام الديني الإجتماعي للشيعة، لكن تجدر الإشارة إلى أن الباحث فاته التعريف بالحوزة العلمية وتبيان أهميتها ودورها في النظام الديني للتشيع، واستعراض التطور الحاصل فيها، مروراً بمراحل التأسيس، ووصولاً إلى وضعها الراهن، تعريفاً وتأصيلاً لموقع الحوزة العلمية كركيزة من الركائز المهمة التي يتشكل منها النظام الديني للتشيع.

عناصر القوة في الإجتماع الديني الشيعي

لم يفت الباحث الحصيف الدكتور علي المؤمن أن يخصص فصلاً كاملاً مستقلاً لتناول عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، والذي أستعرض فيه ما يربوا على إثني عشر عنصراً من عناصر القوة التي تشكل الحماية الرصينة الثابتة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو حجر زاوية في مشروعه الخاص بتأسيس علم خاص بالاجتماع الديني الشيعي. ورغم أهمية العناصر التي أشار إليها الدكتور المؤمن كعناصر قوة للاجتماع الديني الشيعي، لكن، وباعتبار البحث محاولة علمية لتحريك موضوع البحث لدى المهتمين والباحثين ومن يعنيهم تطور الفكر الإنساني والإسلامي والشيعي على وجه الخصوص؛ كان لابد من الإشارة إلى عناصر القوة في الفكرة والمنهج. أما الطقوس الدينية كالمزارات والمقامات ووجود جماعات المقاومة وحتى الإشارة الى ايران باعتبارها رأس الحربة في المجابهة الحضارية القائمة؛ لا يمكن أن يكون دالاً من ناحية الموضوع على أهميتهما في تشكيل الاجتماع الديني الشيعي القائم على الأرض.

إن الاجتماع الديني الشيعي بما هو فكر وقضية عقدية؛ يمتلك من عناصر القوة في مضمونه الحضاري والأخلاقي والفكري، وحتى العقائدي، ما يجعله متفوقاً على كل محاولات التحريف والتزوير، وما تؤدي إليه الصراعات السياسية على هذه المضامين الروحية والفكرية والأخلاقية. ويكفي الإشارة هنا، رغم ما تعرض له الشيعة من قمع طيلة قرون في معظم مناطق تواجدهم، إلّا أن اجتماعهم الديني ظل قائماً بدون الكثير من الطقوس، مع ما تشكله من رمزية في الفكر الشيعي، وكان كذلك مستمراً وقائماً ولقرون متطاولة، من دون الطقوس المعروفة في القرن الأخير، وكذلك من غير ايران المعاصرة وثقلها الكبير في الاجتماع الديني المعاصر. ومن الأهمية بمكان، رفد هذا البحث بالمزيد، لمقاربة عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، بما هو فكر ومنهج ونظرية، ثم يمكن القيام بالإسقاطات اللازمة من عناصر التأثير القائمة في وقتنا الراهن، والإشارة إلى مراحل تطورها في تاريخ الاجتماع الديني الشيعي.

لقد تناول الدكتور المؤمن بشكل متميز، موضوع التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية، وعلاقة كل مجتمع من هذه المجتمعات بالدولة والسلطات والأنظمة السياسية القائمة في بلدانها المحدّدة، وقد اختار ــ في تحليله ــ ستة نماذج، هي الأبرز والأهم على مستوى دراسة الاجتماع الديني الشيعي، لطبيعة ما تمثله من ثقل ومكانه في هذا الإجتماع، سواء من حيث المسألة الدينية أو الفكرية أو ما يتصل بالهوية والانتماء العقدي، وهذه النماذج الشيعية الستة، كما وردت في البحث، هي: المجتمعات الشيعية الخليجية، العراقية، الإيرانية، اللبنانية، الأذربيجانية والهندية، والتي أعتبر الباحث الكريم تمايزها، يمثل تهديدات وفرص مهمة حقيقية للاجتماع الديني الشيعي في الوقت ذاته، مع أن هناك وجود شيعي يعتد به في أماكن أخرى متفرقة من العالم، وتشكل في وجودها جزءاً مهماً من الاجتماع الديني الشيعي الذي ينبغي عدم حصره في منطقة جغرافية محددة، نظراً لتميزه الكبير في هذا الاتجاه.

مستقبل «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»

في الفصل الأخير من البحث المميز، وهو الفصل التاسع، عالج الدكتور علي المؤمن مسألة مستقبل قيادة «النظام الإجتماعي الديني الشيعي»، وقد ركّز الباحث هنا على المستقبل الذي سيخلف المرجعية الدينية الحالية التي تتصدر مشهد الاجتماع الديني الشيعي، متمثلة في مرجعيتي السيد على الحسيني السيستاني والسيد علي الحسيني الخامنئي، وقد استفاض في مناقشة السيناريوهات المحتملة لما بعد هاتين المرجعيتين الكبيرتين، نظراً لمساحة تأثيرهما الكبير على الاجتماع الديني الشيعي في وقتنا المعاصر، وأستغرق في الحديث عن ما ينتظر مسألة (قيادة) الاجتماع الديني ومستقبله، في ضوء المعطيات القائمة الراهنة. وكنت أتمنى ــ كما أشرت في قرائتي السابقة ــ أن يبقى هذا البحث بمثابة عمل مفتاحي لموضوع يتصل بالإجتماع الديني وليس بحثاً تحليلياً سياسياً.

في تقديرنا؛ فإن دراسة مستقبل أي نظام اجتماع ديني بحاجة إلى التأصيل في عناصر تشكله الأساسية، دون النزوح إلى الاستغراق في بعض تفاصيله، وقد كان بالإمكان الاستفادة من بعض التفاصيل على الأرض، لا بنحو الاستغراق، وإنما كشواهد وأمثلة دالة في التأصيل المنهجي للفكرة، لأن إنتزاع البحث من مساره المنهجي بالاستغراق في التفاصيل، لا يساعد في التأسيس لخلق قاعدة علمية منهجية في دراسة موضوع بحثنا، وهو التأسيس لعلم اجتماع ديني شيعی، يتجاوز التأثيرات المرحلية لبعض الشخصيات والمؤسسات، مهما تعاظم دورها؛ فهذا الاجتماع الديني الشيعي ظل قائماً وشامخاً قرون متطاولة، لأسباب وعوامل تتجاوز العناصر المرتبطة بوقت ومرحلة ما من عمر هذا الاجتماع، وهذه قضية البحث الأساسية التي ينبغي تركيز جهد البحث العلمي فيها، وصولاً إلى معرفة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تطور الاجتماع الديني الشيعي وبقائه واستمراره، رغم المنعطفات الحادة التي مرت في تاريخه.

الخلاصة

يمثل هذا البحث بأطروحته «الاجتماع الديني الشيعي» خطوة رائدة مهمة للأمام؛ إذ تساعد كثيراً في النظر وبناء الرؤية المنهجية الصحيحة لفهم الاجتماع الديني الشيعي، سواء في مناطق النفوذ كإيران والعراق، وبقدر ما في لبنان، أو في غيرها من دول العالم التي يحاول فيها الشيعة الاندماج مع الأنظمة السياسية القائمة، كأغلب الشيعة في المنطقة الخليجية، رغم مظاهر الإقصاء والتهميش المتعمدة على أسس طائفية بغيضة وكريهة، أو في واقع الشيعة الذي يشهد واقعاً من الصدام أو الإضطهاد (الطائفى) الممنهج في بعض البلدان، كما يساعد جداً المختصين والمهتمين على تفكيك ومعالجة الإشكاليات القائمة والمعقدة في واقع الاجتماع الشيعي.

وهذا البحث ــ في تقديرنا ــ يمثل مبادرة منهجية رائدة لتأسيس «علم اجتماع ديني شيعي»، يقفز على مناهج البحث القائمة وإشكالياتها المنهجية القائمة على الاعتماد على ما يطرحه مفكرو الغرب ومناهجهم في البحث العلمي وفي دراسة الظواهر الاجتماعية، وقصور ذلك عن الوصول إلى فهم أعمق لظواهر بعض المجتمعات، خاصة عندما يكون متلعقاً بمسألة الهوية والدين؛ فهو بحاجة إلى التأصيل من خلال ما يمتلكه من أدوات ذاتية تنسجم وتتناغم مع ذات التجربة موضوع البحث، وليس إلى إسقاطات مدرسة خاصة بدراسة أوضاع اجتماعها العام. ولن تستطيع الدراسات الحداثية من تقديم قراءة مفيدة لواقع اجتماع ديني معين، وهي تستل أفكارها ورؤيتها من مناهج تنتمي إلى أصول فلسفية متصادمة معها فيما ترتكز عليه من مفاهيم، وما تنطوي عليه من مبادىء، بل ستكون نتيجة تلك الدراسات مصدر تهديد حقيقي لأي اجتماع لا ينسجم معها في منظومته الفكرية والعقدية، حيث ستكون النتيجة الحتمية لهكذا إسقاطات أن تقدم صورة مشوهة لواقع (اجتماع) مزيف، يجري بناء الرؤية حوله من خلال الاستفادة والاستعانة بمصادر غيره في القراءة والتحليل، خاصة عندما يتصل بدراسة وبحث واقع "الاجتماع" من زاوية الدين والهوية والحالة العقدية.

وهذه من الإشكاليات الخطيرة التي وقع فيها مفكرون كبار على غرار الدكتور علي الوردي والدكتور على شريعتي وغيرهم من المفكرين، الذين تم بناء قواعد وأصول مناهج التفكير والتحليل عندهم على الأسس (المادية) المحضة التي أنتجتها جامعة السوربون الشهيرة وغيرها من جامعات الغرب التي درسوا فيها وتخرجوا منها، حيث أنتجت هذه المعاهد العلمية الغربية المئات ممن لم تتح لهم فرصة التعليم والتربية داخل المعاهد العلمية الدينية التي تمثل هويتهم الفكرية والعقدية، أما لعدم وجودها أصلاً أو لعدم كفايتها في عالمنا الإسلامي خلال القرن المنصرم، والذين تخرجوا منها وهم يحملون فكراً أسّس له "ديكارت" و"إفلاطون" و"فرويد" وغيرهم من مفكري الغرب وفلاسفته. وقد كان أغلب مفكري الشرق، الذين تخرجوا في حقبة ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات وحتى ستينيات القرن المنصرم، تلامذة نجباء لمدارس الغرب ومناهجها في التفكير، والمبنية على أصول معرفية مغايرة تماماً للمضامين المعرفية والأخلاقية للشرق، وخصوصاً عالمنا الإسلامي.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن المعاهد العلمية الشيعية، رغم عراقة تاريخ الحوزات العلمية، لم تكن تمتلك الجاذبية أو الإمكانات الفنية والمنهجية لتقديم دراسات وبحوث علمية ذات جدارة وكفاءة مهنية كما كانت عليه الجامعات الغربية، مما دفع الميسورين من أبناء الشرق الإسلامي الكبير للتوجه إلى الجامعات الغربية، التي كانت تمتلك وما تزال شهرة وصيتاً كبيرين للمهتمين بالعلوم والمعرفة والباحثين عنها، بالإضافة إلى عاملي الاضطهاد والإقصاء، اللذين كانا يصبغان واقع أغلب الشيعة في العالم بلونيهما، على مختلف مناطق تواجدهم، وسيطرة أنظمة سياسية تضع السلطة والتمتع بالنفوذ والسيطرة والتحكم أولويات لها، وليس من اهتماماتها البحث والمعرفة.

ومع التطورات الكبيرة التي رافقت انتصار الثورة الإسلامية في ايران، حدثت مجموعة من المتغيرات المذهلة في عالم الفكر والمعرفة، وأصبح في الشرق الإسلامي اليوم نخبة مميزة من أرباب الفكر الذين يسهمون اليوم في تطوير قاعدة رصينة من المراكز والمعاهد البحثية والعلمية، التي تعبر عن انتمائها العقدي والمعرفي، ما يجعلها اليوم محل اهتمام وعناية كبيرة في فضاء الفكر الإنساني، وعلى مستوى عالمي، كما تقوم بعمليات رصد وتحليل واسعة للمعطيات والوقائع على الأرض ومحاولة قراءة اتجاهات المستقبل على ضوئها. وقد بدأت حركة الدراسات تنشط في شتى ميادين المعرفة، انطلاقاً من مصادر التفكير الأساسية للدين، وأصبح لديها مناهجها الخاصة في التحقيق وميادين العلم والمعرفة المتعددة والمتنوعة. و«التشيع» بوصفه منظومة دينية وهوية عقدية واجتماعية، يمتلك من المقومات الذاتية التي يمكن للباحث أن يستند إليها، دون الحاجة إلى نتاجات تمثل مناهج فكرية وعقدية متعارضة، لسبب وجيه يتمثل في خطر ما يمكن أن تحدثه هذه المناهج من تشويه وارتباك في عمليات التفكير والتحليل والاستنتاج.

إن ما يطرحه المفكر الدكتور علي المؤمن في بحثه، يدخل في سياق التطورات الإيجابية الكبيرة الحاصلة في عالم الفكر، وإن المشروع الذي يحمله لتأسيس علم خاص بالاجتماع الديني الشيعي، هي مبادرة في طريق شاق وصعب، لكنها خطوة رائدة تضع كل ما أنجزه الشيعة، رغم تاريخهم الملىء بالتحدّيات القاسية والصعبة، على الطريق الصحيح، لمزيد من تطوير حضور التشيع في موقعه المناسب في التأثير، ليس على واقع الشيعة كأمة ومجتمع أو كطائفة فحسب، وإنما على حضارتنا الإنسانية برمتها، لأن التشيع يمتلك كل المقومات والعناصر الأخلاقية التي تجعله مؤهلاً بجدارة واستحقاق لقيادة حضارتنا الإنسانية.

إنها مبادرة استنهاضية شجاعة لأخينا العزيز الدكتور علي المؤمن، في زمن نهضة واسعة وشاملة يشهدها الشيعة، وفي زمن أحوج ما تكون فيه حضارتنا الإنسانية إلى رؤية وفلسفة حياة تقوم على مبادىء وأسس أخلاقية راقية، بعد أن تعبت البشرية من الزيف والكذب والخداع الذي انتجته حضارة ومدنية الغرب، وما كرسته من مدنية زائفة تقوم على التخلف والانحطاط الأخلاقي، ويسود فيها الفساد من كل ناحية، وفي شتى جوانب الحياة، كما تسود فيها قيم الجاهلية وهيمنة منطق القوة والغاية تبرر الوسيلة. ويستحق هذا المشروع البحثي الفكري من جميع المهتمين والمعنين بنهضة الشيعة والتشيع أن يرفدوه بالمزيد من الدراسات المعمقة، بما يعود بنتائجه ومكاسبه على المشروع الحضاري الكبير من جدارة وأهلية قيادة التشيع لحضارتنا الإنسانية، بما يحقق الرحمة الإلهية للبشرية (وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ)(1).

كما نثمن للدكتور علي المؤمن جهوده العلمية الاستنهاضية، متمنين عليه الاستمرار في مسيرة الابداع، لإثراء مكتبتنا الإسلامية الشيعية بالدراسات والأبحاث المعرفية التي تسهم في الارتقاء بالفكر والاجتماع الديني الشيعي، ويصل بهما إلى مواقع الريادة والتفوق. كما نشد على أيادي الباحثين من أبناء الأمة ليواصلوا مشوار الاعتزاز بمدرستهم الفكرية، ويخرجوا ما تزخر به من كنوز معرفية، تسهم في الارتقاء بجودة حياتنا على كوكب الأرض، بحيث نلمس رحمة الله المباركة ترفرف على إنسانيتنا المعذبة وحضارتنا التي صرعتها المصالح الضيقة والأنانية المفرطة.

ويفيدنا أن نذكر في خاتمة هذه السطور، بأنّ الغاية والغرض الأساسي لمهمة الأنبياء تكمن في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وذلك على العكس من رسالة الشيطان ومن يمثله في الأرض الذين يمتهنون إخراج الناس من النور الى الظلمات، وهي ظلمات الجهل والتخلف والتبعية والفساد والانحطاط وكل ما يمكن أن يسهم في تدمير حضارتنا الإنسانية وتلويثها، إلى عالم الخير والرفاه والازدهار وتحقيق العدالة. يقول سبحانه وتعالى فيما يلخص الغرض الأساسي لدعوة جميع الأنبياء والرسل: (ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ)(2).

***

د. راشد الراشد

باحث وأكاديمي من البحرين

..............

الإحالات

(1) سورة الأنبياء، الآية 107

(2) سورة البقرة، الآية 257.

 

 

الحديث عن (أزهار الرياض) يومض في الذهن ذكرى تراثية راسخة، ذكرى رجل من رجالات القرن الحادي عشر للهجرة، جال جولته في فضاءات عديدة: كتب في الأدب، في الرّحلة، في التاريخ، في العقيدة، في السّيرة وضمّن تآليفه مادّة إخبارية غزيرة تشهد له بالموسوعية وبالنّفس الطّويل في ملاحقة " الحدث " ومعالجة أطرافه، وتدويره في حلقة استطرادية تضجّ بالأشياء وبالعلاقات والأفعال والأزمنة والأمكنة، وكأنّي به يرسم آفاق تواصل كوني في تمظهر خطّي منتظم، لا يعرف الكلل، ولا يعروه الملل، ولا يجحده القلم .

انتقى المقّري ما شاء من الأخبار، فتقصّاها، ولوّنها بأسلوبه الخاص، وساقها على مئات الصفحات، ثمّ راح يهمس من خلال المكتوب بلواعج نفسه، وخبايا فكره، فازدحمت الصّورة المعروضة بألوان شتّى من المتحرّكات، خذ منها ما تشتهي، وازهد فيما لا تشتهي...

آثرت الوقوف – في هذه المرّة – عند نتف من مؤلّفه: (أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، وما يناسبها ممّا يحصل به ارتياح و ارتياض)

ألّف المقّري هذه الموسوعة في مدينة فاس فيما بين 1013 هـ و1027 هـ وذلك استجابة لرغبة التّلمسانييّن في التعريف بالقاضي عياض المتوفى سنة 544 هـ بمراكش.

وهكذا انطلق المقّري في لملمة أخبار القاضي الشهير، فكان العرض ومعه أصناف من المحكيات، يلج القارئ من خلالها عوالم شتّى؛ تمثّل في عمقها تلاحم الثقافة المغربية الأندلسية ومساهمتها في صنع وتشكيل لبنات التراث العربيّ ضمن منجز عامّ، يستدعي التأمّل والتّبصر في دلائليته وفاعليته وأبعاده، ثمّ في تضافر طرائق صوغه، وهو ما يجسّد ملمحا فنّيا؛ له خصوصياته في جنبات الفعل الكتابي الذي تأسّس عليه المتن.

سأحاول في هذه المقاربة، استنباط نمط التوزيع الإخباري المهيمن على النّص من خلال سوق مقتطفات - أحسبها – تعكس إحدى آليات الكتابة المغربية الأندلسية.

بداية، لعلّ ما يشدّ الانتباه، تلك العناوين الإخبارية الطويلة التي شكّلت عتبات مسجوعة، وإشارات ضمنية لما سيمأسس عليه المتن على امتداد رقعة ثمانية عناوين، حمولتها أريج يعبق بنفحات الورد والأقحوان والآس والشقيق والنّيلوفر، وأمّا دلالاتها فإطراء وتكريم وابتهاج وتمجيد لأحد أعلام السّلف، " عياض " اليحسبيّ السّبتي، وفيما يلي سرد لهذه العناوين المحمّلة " بالخبر " قبل الشّروع في سرد الخبر !!

1 ـ روضة الورد؛ في أوّلية هذا العالم الفرد.

2 ـ روضة الأقحوان؛ في ذكر حاله في المنشأ والعنفوان.

3 ـ روضة البهار؛ في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النّهار.

4 ـ روضة المنثور؛ في بعض ماله من منظوم ومنثور.

5 ـ روضة النّسرين؛ في تصانيفه العديمة النّظير والقرين.

6 ـ روضة الآس؛ في وفاته وما قابله به الدّهر الذي ليس لجرحه من آس.

7 ـ روضة الشّقيق؛ في جمل من فوائده ولمع من فرائده، المنظومة نظم الدّرّ والعقيق.

8 ـ روضة النّيلوفر؛ في ثناء النّاس عليه وذكر بعض مناقبه التي هي أعطر من المسك الأذفر.

بتأمّل الخبر في هذه العناوين، يستدرج المؤلّف القارئ إلى تمثّل خمس مقولات شكلت عصب المتن ولخّصته من ناحية وإلى تمثل علّة التكرار لكلمة: " روضة " من ناحية أخرى

المقولات:3051 شميسة غربي

في هذا التمثّل الأوّل، انطلق المقّري بالخبر من الأصلي وتدرّج به إلى الفرعي، وما بين الأصلي والفرعي تراكمت أفعال وعلاقات ووضعيات، حقّقت في مجملها تصاعدا حكائيا داخل منظومة ثقافية هي أسيرة عصرها دون منازع، ستركز هذه المقاربة على مقولة البدء في المرحلة الأولى، على أمل المتابعة في أجل لاحق.

مقولة البدء:

اكتسح البدء جزآن مكثّفان، بلغ مجموع صفحاتهما: (728 صفحة) ثمانية وعشرون وسبعمائة صفحة .كرّسها المؤلّف لبسط أشتات، تبرّرها شرعية السّرد حين يستأنس صاحبه بالخبر والعيان، أو قل بالمضمر والظاهر فكان التوزيع الإخباري على هذا النحو:

مقولة البدء3052 شميسة غربي

1 ـ توزيعات جغرافية (سبتة/فاس/ غرناطة)

2 ـ مجالس سلطانية (أبو عنان المريني/ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الأحمر)

3 ـ متفرّقات تراجمية (الشريف أبو العباس/ لسان الدين)

4 ـ مراجعات أدبية (أشعار/ أنثار)

5 ـ تخريجات تعضيدية (ـ لواعج المؤلّف ـ تعقيباته)

يقول المقّري بعد مقدّمة واقعة في اثنتين وعشرين صفحة؛ وتحت هذا العنوان:

روضة الورد في أوّلية هذا الإمام الفرد

(أقول، وعلى الله أعتمد، ومن بحر كرمه أستمدّ:

هذه ترجمة نذكر فيها أصله ومحتده وأوّليته ومولده.

قال الشيخ الإمام الرّحال أبو عبد الله محمد بن جابر الوادي آش، الملقب بشمس الدّين رحمه الله ورضي عنه: هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض(...) اليّحصبيّ السّبتي ....)(1)

ويتعمّق المقّري، فيتتبّع نسب القاضي عياض عند ابن الأبّار وابن خاتمة وابن الملجوم، وغيرهم ثمّ يعلن: (... وكفى بهؤلاء حجّة (...) والله تعالى أعلم.)(2)

ويشرح نسبه اليّحصبي، السّبتي فيرجع الأولى إلى: (ويحصب من حمير وهو يحصب بن مدرك، حسبما هو مذكور في كتب الأنساب.)(3) ويرجع الثانية إلى (والسّبتي: نسبة إلى سبتة، مدينة بساحل بحر الزقاق مشهورة، واختلف في سبب تسميتها بذلك...)(4) بعدها يسترسل في الحديث عن هذه المدينة، فيعرض ما جاء في شأنها نثرا وشعرا ضمن صفحات عديدة، تبتعد عن الخبر الرئيس إلى تخريجات تصل حدّ إثارة مسألة " الدّواة " التي كان يستعملها السلطان أبو عنان المريني، فيقول:

(وقد رأيت في هذه الأيام دواة في غاية ما يكون من الإتقان والصّنعة والتهذيب (...) وهي عند بعض أصحابنا الكتاب بالحضرة الفاسية (...) وأظنّها هي الدواة التي كانت لأبي عنان، والله أعلم.)(5)

ولا ينهي حديثه عن " سبتة " إلاّ بسقوطها الذي يسوقه إلى ذكر سقوط المدن الأندلسية مثل قرطبة ومرسية وطليطلة وبلنسية وغيرها.... ثمّ يستحضر باقة من الأشعار* الموثّقة لخبر السقوط والناعية لهذه الربوع، ويعزّزها بقطع نثرية تحكي اختلال أمر الجزيرة بسبب الفتن بين ملوكها*، وبعض ما استدعاه مثل هذا الوضع من كتابات تستنهض الهمم لصدّ النصارى وتطهير الأرض من الصليب* ليركن في الأخير إلى تراجم عدد من الأعلام ممّن حملوا لواء التّميّز على العديد من المستويات كالفقيه عمر المالكي وكابن الخطيب وابن زمرك وغيرهم كثير... دون أن يغفل التعقيبات التي تعوّد عليها عند سرده لتراجم الأعلام.

لقد فتحت مقولة " البدء" أفق انتظار عائم في الأريحية التي أسبغها المؤلّف على بطل متنه، ومن ثمّ يخلص القارئ إلى التمثّل الثاني والمشخصن في علّة التكرار لمفردة: "الرّوضة" ثماني مرات ...ولعلّ الكاتب يرمز لهذا التكرار إلى ترسيخ فكرة أوّلية عند المتلقي هي:

سحر الصّيت على امتداد حياة القاضي عياض .

فلفظ " الروضة" يستدعي استحضار سلاسل من المشاهد الزاهية، مشاهد تتراقص على أوتار الطبيعة الخصبة، تلك الطبيعة المعطاء، والتي يتمثّلها الذّهن على هذا النحو:

ـ أزهار تتضوّع طيبا

ـ اخضرار يبهج العيون

ـ ظلال مترامية، تريح النّفوس...

ـ خمائل متناسقة، تلطّف الأجواء وتزركش الأرجاء...

ـ نسيم عليل يداعب الأوراق، فينبعث الحفيف وكأنّه تراتيل العيد...

ـ مياه رقراقة، تنساب في مجاري مهندسة وكأنّها اللّجين المذاب...

ـ ثمار دانية، تنعش النّفوس، وتغذّي العروق...

ـ عصافير على الأفنان، تشدو جميل الألحان...

وبعبارة موجزة: لفظ الروضة يستدعي تمثّل: الماء والنبات و النّضارة فهل شكّل القاضي عياض – في عصره – ماء ونباتا ونضارة ؟

هل كان في حياته، صورة لهذا الفيض الطبيعي حتّى وسمت كلّ حركة من حركاته، وكلّ ذرّة في محيطه بأنّها نفحة خير عميم ؟

ربّما توسّل المقّري بهذا التكرار، إلى تجسيد الخبر بكل جزئياته كما هي الرّوضة مجسّدة بمكوّناتها الغنيّة، إنّها عناوين مثقلة بالعبق، مضمّخة منذ البدء بعطر سيرة الرّجل، حتّى لكأنّها إعفاء من الكاتب، يعفي به الباحث من أيّ محاولة للخوض في تتبّع أخبار عياض بطريقة أو بأخرى.

يقول المقّري في هذا السّياق:

(... ثمّ وقع العزم والتصميم (...) ودخلت من هذا الباب بعد أن قرعت، وأخذت في هذا الغرض وشرعت، وشربت من ماء التّصنيف وكرعت، وبذرت في أرض التأليف وزرعت، هذا مع أني ما مهرت ولا برعت، ولا أتقنت لصناعة التأليف عملا:

لكن قـدرة مثلي غير خـافية والنمل يعذر في القدر الذي حملا

وكثيرا ما خرجت من الشيء إلى ما يناسبه ويدانيه (...) وسميته " بأزهار الرياض في أخبار عياض، وما يناسبها ممّا يحصل به ارتياح وارتياض " ؛ تسمية وافقت إن شاء الله معناه، وناسبت منزله ومغناه؛ (...) فدونك أيها الناظر روضات أزهار، وجنات تجري من تحتها الأنهار أبوابها ثمانية (...) سما إلى محاسنها من تعلّق من التاريخ بأهداب، لم أسبق إلى مثلها فيما رأيت (...) والإنسان مغرم ببنيّات أفكاره، وإن قوبل ما صدر منه بإنكاره.)(9)

توزّع الخبر في هذا المقتطف بين:

أ ـ انعقاد النيّة

ب ـ الاستعداد المعرفي

ج ـ منهج الأداء

د ـ أريحية التسمية

واعتمد في التوزيع صوغا فنيا، مهندسا على ملمح جمالي يركن إلى:

1 ـ تنضيد الفواصل القصيرة باعتماد أفعال ماضية:3053 شميسة غربي

2 ـ توظيف نمذجة المساحيق البلاغية:

جرت الممارسة اللّغوية في هذا المقتطف مجرى الاحتفالية بالبيان، والنّسج على منوال الاستعارة الأدبي الآخذة بتلابيب الخيال وبسبل الانزياح عن المعيار:

شربت من ماء التصنيف/ بذرت في أرض التأليف

في الفاصلتين دلالة الباع الطويل في تعاطي الفعل الكتابي، فالماء والبذر في دلالتهما البعيدة، عنوان انتظار غلّة مستقبلية، تؤتي أكلها متى أتقن الباذر فعله بتهيئة الأرض مع في ذلك من الجهد الشّاقّ والذي ستطويه فيما بعد أريحية الحصاد المنشود،...

من هذا المنظور؛ يكون القارئ أمام صورة جميلة عاكسة لجدّية الأخذ بالأسباب: تكوين مسبق يعقبه:

(فدونك أيّها الناظر روضات أزهار)

تكشف العبارة عن الاعتزاز الواضح بما حقّقه البذر، أو قل بما حقّقه قلم المقّري على صفحات أزهار الرياض في إطار نسق كتابي يتقصّى " الخبر " ويلبسه فعلا حركيا رافلا في حلّة مزركشة، تبهج العـين، وتسمـو بالخـاطر (ماء، شرب، أرض، بذر... روضات، أزهار.)

إنّه الملمس الأرقّ في استلهام المعنى الذي يقدّمه " الخبر " ويشكّل منه لحمة من الصّعب تجاهلها .

***

الأستاذة: شميسة غربي - الجزائر

..................

1 ـ المقري، أزهار الرياض 1/23

2 ـ المرجع السابق 1/27

3 ـ نفسه 1/27

4 ـ نفسه 1/29

5 ـ نفسه 1/40

*من ذلك نونية أبي البقاء الرندي:

لكل شيء إذا ما تم نقصان   فلا يغرّ بطيب العيش إنسان

* ص 50: قولة الوزيـر الكاتب أبو يحيى بن عاصم انطلاقـا من: (من استقرأ التواريخ المنصوصة ...)

*ص 63 و64 جزء من خطبة ابن زمرك في أسفل الصفحة من أزهار الرياض.

6 ـ أزهار الرياض الجزء 1 ص 15/16/17/18

 

 

بيني وبين نفسي، هذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره الصديق محمد السعدي، سابرا فيه تجربة إنتمائه الى صفوف الحزب الشيوعي ولعله أحسنَ إختيارا وخيرا فعل، لما لهذا الحزب من دور مؤثر ومشرف في توجهات ورسم مسارات الحركة الوطنية العراقية العامة ومنذ تأسيسه وحتى يومنا هذا، وعلى مدى ما يقارب التسعة عقود المنصرمة من عمره. وقد بانت آثار ذلك وعلى نحو جلي في مساهمته وبشكل كبير في تشكل الوعي الوطني وفي مسيرة النضال المشترك مع سائر القوى، الصديقة منها والقريبة منه كذلك في توجهاتها، وعلى طريق تحقيق مصالح الشعب العليا.

وعلى أثر ما تعرض له الحزب من هجمة شرسة على يد السلطة الغاشمة وأجهزتها القمعية ومع نهايات السبعينات المنصرمة، حيث رافقها إنفراط عقد الجبهة الوطنية بينه وبين القوى المنضوية معه من جهة، وبين الحزب الحاكم من جهة اخرى، فقد ارتأى وبحكم الظروف الشديدة القسوة التي مرَّ بها والتي فُرضت عليه، التوجه نحو إحداث تغيير جذري في سياساته، فكان له أن يختار أسلوب الكفاح المسلح كأحد أشكال النضال والخيارات الممكنة والمتاحة في التصدي للنظام الحاكم، وذلك بتشكيله لفصائل خاصة وتابعة له،سمّيت آنذاك بحركة اﻷنصار، مستعيدة مجدها التليد وما عُرِفَتْ به، ولتتخذ من شمال الوطن قاعدة ومنطلقا لها، ليلتحق في صفوفها صاحب الذكر والكتاب وحديث ساعتنا، كما إلتحق غيره من رفاق الحزب، وممن يحملون ذات الفكر وذات الوجهة.

أسوة ببضعة آخرين وبحكم إنتمائه الى صفوف الحزب وحركة اﻷنصار وما رافق تلك التجربة من أخطاء وقليل منهاخطايا، ومنها ما هو خارج عن السيطرة والتحكم. ويمكننا أن نعزي أسباب نكوصها الى عوامل عديدة، لعل في مقدمتها حداثة التجربة وطبيعة العمل وسيرورته المتعثرة وصعوباته، وما سيرافقه كذلك وبالضرورة من إجتهادات لم تكن محسوبة بدقة، ومن بينها ما القي وزرها وجرى تحميلها على اﻷشخاص المنتمين أنفسهم، تجلَّت تداعيتها وبانت فيما حدث وعلى قلتها من إختراقات طالت مختلف المستويات الحزبية. وعن الشق اﻷخير فسيورد الكاتب الكثير من الإستشهادات وباﻷسماء عمَّن وصفوا بالمتعاونين بل قل العملاء، حيث كانت تحركاتهم رهن إشارة أجهزة اﻷمن القمعية، مزودين بوثائق ومستمسكات رسمية، سهَّلت لهم حرية التنقل وكيفما يشاؤون، وموضوع كهذا لشائك حقا ويستدعي بل يلزم ذوي الِشأن والعلاقة المزيد من الصفحات والتأمل والتوقف فترة أطول عمّا حدث.

غير ان ما يعنينا هنا هو أن بعض الرفاق ومقاتلي حركة اﻷنصار وعلى رأي الكاتب قد تعرضوا هم أيضا الى ذات الحملة الشعواء ومن رفاق اﻷمس، والتي هدفت الى تشويه سمعتهم والنيل من تأريخهم الحزبي والنضالي بشكل عام، لذاسيتوقف وببضعة صفحات للتحدث عن هذه الظاهرة التي دفع أثمانها باهضة عدد ليس بالقليل من الرفاق والمقاتلين، وسيختار أن يكون طرفا رئيسيا في الخلاف الدائر، متبنيا فكرة الدفاع عنهم، لا سيما وانه هو اﻵخر قد طالته هذه الحملة ووصلته نارها، وهو حق مشروع ومفروغ منه. سعى ما أستطاع أن يكون منصفا، مستخدما لغة أرادها أن تكون محايدة، وذلك أثناء تقييمه لما جرى من أحداث والتي رافقت عمله السياسي واﻷنصاري، متوقفا طويلا على تجربة هذا الإنتماء وذلك على ضوء ما مرَّ به من منعطفات، لم تخلو أكثر محطاتها من مخاطر وعذابات جسيمة بل وكارثية.

أثناء تصفح الكتاب، سيجد القارئ أيضا ما يشير الى براءته مما أسماها تهم وإدعاءات وأباطيل وما ترتب عليها من إنعكاسات وآثار سلبية، كانت قد لحقت به ولا زال يأن منها وجراحها لم تندمل بعد. من بينها (أي التهم) وعلى ما رآه قد جاء مرتجلا وعلى عجل، ومن بينها أيضا ما لم يجرِ التعامل معها كظاهرة مقلقة ولها إنعكاسات ودلالات مصيرية بل وأخلاقية، ستمس بالضرورة كل مَنْ طالتهم هذه الدعاوي. كان ينبغي على ما يقول التعامل معها بروية وأناة وبروح من المسؤولية العالية، علماً أن موضوعا كهذا لم يكن ليشكل حالة خاصة أو نادرة وبالتالي يسهل القفز عليها وعبورها أو تداركها بخفة، بل هي ظاهرة خطرة جدا، لا سيما وانها قد إمتدت لتشمل أعداداً ليست بالقليلة من الرفاق، كانت قد طالتهم ذات التهم.

وكي لا يختلط اﻷمر على المتلقي وقارئ هذه السطور ويذهب في تفسيره كيفما وأينما يشاء، يتداخل فيها الحابل بالنابل، فنحن هنا نقصد ونعني وبالتحديد عن الحالات التي أثبتت اﻷحداث والوقائع وباﻷدلة والبراهين القاطعة صحتها، وحملت معها براءة كل مَنْ ألصقت بهم التهم وطالتهم حملات التشويه والقرارات الجائرة، وبأن الحيف قد وقع عليها وأصابها بمقتل. وما دام الحال كذلك ووصلنا الى هذه الخلاصة وإذا ما حسنت النوايا، فلابد من إعادة النظر في المواقف والإجراءات التي أتخذت بحق هؤلاء ولنسميهم بالضحايا أن جاز لنا الوصف، ورد الإعتبار لهم وعلى رؤوس اﻷشهاد وحتى يثبت العكس.

وعن ذات الموضوع فالقصة لم تتوقف عند هذا الحد وان تداعياتها أبعد من ذلك بكثير، وإذا ما أحسنا قراءة المشهد وعلى نحو من المسؤولية العالية، فسنصل الى نتيجة مفادها، بأن أمراً كهذا لهو على صلة مباشرة بحياة شعب ومصير وطن، وكان للحسابات الخاطئة بل لنقل المجحفة في بعض الحالات وخاصة تلك التي بولغ فيها وأعطيت من الوصف ما لا ينطبق عليها، أَنْ وجدت لها آثارا وإنعكاسات ونتائج سلبية، بانت تأثيراتها وتجلياتها على المستويين الحزبي واﻷنصاري وعلى طريقة أدائهم وعلى درجة ومستوىحماساتهم.

نعود ثانية لنقول أن ما توصل اليه من نتائج وخلاصات ودروس وعِبَرْ من تجربته اﻵنفة الذكر، ربما لم ترق للبعض، أو ربما وعلى ما يعتقدون بأنه لم يكن أمينا في نقله للأحداث ومجرياتها وما كان قد تولد وترتب عليها من تفاصيل ونتائج. وهناك أيضا من إعتبر ما ورد في الكتاب مجافيا للحقيقة، وبشكل خاص من قبل أولئك المختلفين والمتقاطعين معه سياسيا وﻷسباب عديدة، لسنا بصدد التطرق اليها في هذه المناسبة، وأيضا هناك مَنْ قرأ المشهد على نحو مغاير. وإذا كان لنا من قول عما ورد في الكتاب، فلصاحبه وإذا ما نظرنا بعين الناقد والمطلع وبتواضع نقولها، وعلى ضوء ما مرَّ به من تجارب، فله ما له وعليه ما عليه، أسوة بأخوة آخرين من حملة السلاح المقاوم ومن رفاق درب، كان قد سبق لهم أن مرّوا بذات التجربة وساروا على ذات الخطى وأصابهم أيضا من العثرات والكبوات نصيبا. بل علينا أن لا نستكثر عليهم ولهم في ذلك كل الحق في حملهم من اﻵراء والتصورات ما تتقاطع أو تتفق أو تلتقي في نقاط معينة مع رؤى هذا الكاتب أو ذاك أو هذا السياسي أو ذاك، وهذا على ما أظن من بداهة اﻷمور.

وفي الحديث عن تلك المحطات وما واجهه من صعوبات وطرق لم تكن سالكة بسهولة، فَسَيقوم وفي صفحات أخرى بالكشف عنها وعلى قدر تعلق اﻷمر به وما كان قد واجهه خلال فترة عمله الحزبي واﻷنصاري على حدٍ سواء. وعن تلك السطور التي خطها، لم تكن على ما أظن خالية من الصراحة والوضوح، مواجها نفسه أولا، منسجما وصادقا معها ومع المحيطين به من رفاق البيت الواحد والفكر الواحد والثكنة الواحدة. منطلقاً من حجم اﻷمانة وهولها ومن شرف حملها وما أودع بين يديه وضميره، فالقصة قصة مصير شعب ينتظر لحظة الخلاص ولحظة الحرية.

وإذا كان لنا من تناص فلا بأس من الإستعارة والإستعانة بما كتبه الدكتور عبدالحسين شعبان في مقدمته للكتاب وبالتالي تقييمه له، وبعبارات دقيقة مسؤولة وسعة أفق وحسابات بعيدة. منطلقا وعلى ما أعتقد من خبرته السياسية ورصيده المعرفي، واضعا في حسابه ماصادف صاحب الكتاب من مشاكل وأهوال، أسوة بإخوته ورفاقه، مستخلصا الى ما يفيد بثقل المهمة التي أوكلت اليه وبرهطه، وبحجم لا قدرة لهم على حمله إن لم تتظافر وتتحد معها عوامل أخرى داعمة له. أمّا عن تداعيات ما جرى فلا يمكننا إغفال أو الصفح عمَّنْ هو أكبر مقاما وأعلى منزلة. إذن ونحن في هذا المقام وفي الحديث عنه، فلا مناص ولا مفر من أن تتقاسم كل اﻷطراف والمستويات ذات الصلة وزر الواقعة وما لحق بها وما ترتب عليها، بدأًا ًمن الرأس وَمَنْ بيده زمام الحل والعقد، نزولا حتى صغار القوم، ولا إستثناء أو محاباة في أمرٍ كهذا، وليأخذ كل ذي حق حقه.

وبالعودة الى الكتاب وقبل الدخول في متنه فلا بأس من الإتيان والإستشهاد بما ورد في المقدمة منه وعلى لسان الدكتور عبدالحسين شعبان. فمثلا على الصفحة رقم 11 جاء وبالنص: يروي محمد السعدي كيف وقع في فخّ الإستخبارات العسكرية في العام 1987 بخديعة أو تواطؤ أو قصر نظر على أقل تقدير. (إنتهى الإقتباس). وتعليقا على ما ورد فإن إستنتاجا كهذا، سيجد له صدى بل تبنياً صريحا من لدن (وثيقة التقييم الصادرة عن حركة اﻷنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في الفترة ما بين 1979 ـ 1988)والتي أقرت من قبل مؤتمر الحزب، المنعقد في سنة 1997، حيث جاء في بعض فقراتها والذي يعكس ما يمكن إعتباره تقصيرا واضحا من الحزب في كيفية التعاطي مع فكرة حركة اﻷنصار: لقد توجهت المجموعات اﻷنصارية اﻷولى الى الجبال وهي تفتقر الى المال والسلاح والمؤن، وتعاني من الإرتباك وضعف الثقة بقيادة الحزب. ثم تواصل الوثيقة تقييمها لما جرى وبوضوح تام وضرس قاطع، حتى تُشعركَ بأنها أهلا لتحمل وزر ما حدث وبمسؤلية عالية وبروح منفتحة وينبغي أن تسجل لها على ما أرى: إضطرت المفارز اﻷولى هذه الى الدخول في معارك غير متكافئة وغير محسوبة مع العدو، مما سبب وقوع ضحايا غالية، وكانت ملحمة(قزلر) أولى هذه المعارك البطولية.

إعترافاً كالذي فات ذكره وبوثيقة رسمية، والتي صدرت وجرى تبنيها من قبل مندوبي المؤتمر السادس للحزب الشيوعي العراقي، لا بد إذن والحال كذلك من أن يَقْدم الحزب على إتخاذ جملة من الإجراءات الضرورية والتي تنسجم مع هذا الموقف وبهذا الوضوح والصراحة الذي جاءت به، فإنطلاقا منها واﻷحرى بها أن تقوم بإعادة النظر بما جرى وما أتخذ من إجراءات بحق مجموعة من الرفاق والمقاتلين، بعضها لم يكن منصفا، لتعطي في نهاية المطاف لكل ذي حق حقه، وأيضا تحاسب مَن يستحق وبصرف النظر عن موقعه وحجم مسؤوليته. وعلى الجانب اﻵخر وعلى ما أرى فينبغي أن لا تكون هذه الوثيقة شفيعا أو بديلاً أو إعفاءاً أو تغافلا أو تهربا عن تحمُّل المسؤولية الشخصية، والتي كانت قد أنيطت وأودعت برقبة رفاق الحزب ومقاتلي حركة اﻷنصار، فمن المفترض أن يكونوا أهلاً للثقة وأهلا لتحملها، وبما يتناسب وحجم المهام التي أوكلت لهم وطبيعة اللحظة التأريخية التي مرَّت بها البلاد.

وبالعودة ثانية للكتاب (بيني وبين نفسي) وما يلفت النظر فيه، فمن خلال قراءتنا له وفي الحديث عن الشق السياسي منه وعن حركة اﻷنصار والتي ركَّز جُلَّ إهتمامه عليهما، فيلاحظ أن هناك حركة دائرية في سيرورته. بمعنى تجده متنقلا بين التواريخ واﻷحداث وبشكل لم يراع فيه التسلسل المنطقي والمترابط زمنيا، فمثلا وفي الحديث عن الحقبة الواقعة بين عامي 1980 و1988، وهي الفترة التي خصَّها الكاتب وركَّز عليها جل إهتمامه، تجده وقد تنقل وعلى غير هدى بين فترة وأخرى وليعود من جديد الى ذات الفترة التي إنطلق منها، ثم يذهب ويحدثنا ومن غير ان نجد ما يبررها وعن وقائع كان الكاتب قد تركها خلفه وهكذا.

أسلوب كالذي سار عليه الكاتب وعلى ما أعتقد وفي ضوء الموضوع الذي طرحه وتبناه في كتابه، كان ينبغي وعلى ما أرى أن يمضي بتسلسل زمني، واقفا على ما رافقته من أحداث، ففي هذا وعلى ما أعتقد ما سيسهم ويؤدي دورا مهما في شد وجذب المتلقي الى جانب كتابه، وبالتالي سينجح في ايصال ما لديه من رسائل وأفكار، براحة وروية. وهنا لا ينبغي أن يفهم اﻷمر وكأنه سيعفي القارئ من مهمة الإستجابة وبذل مجهود ما لملاحقة الكاتب وانما القصد منه بأن لكل نص شروطا ولغة وأسلوبا خاص به، وأيضا في التحرر من بعض القيود، هادفا الى إيصال ما يضمه من رسائل وأفكار وغايات.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو 

 

 

 

هل القمع ضروري؟

كتاب هربرت ماركوز "الحب و الحضارة" الذي صدر عام 1955، يحاول استخدام تحليلات فرويد السايكولوجية لفهم المجتمع واصوله مقابل استنتاجات فرويد المحافظة. ماركوز يدعو الى إنهاء القمع المفرط.

هل الحضارات بالضرورة قمعية. يحاول ماركوز تقديم جواب في كتابه "الحب والحضارة" Eros and civilization، والذي هو بجزئه الأكبر رد على كتاب فرويد "الحضارة ومنغصاتها" civilization and its Discontents. يحاول ماركوز التوفيق بين الوجود المستمر للحضارة و الإمكانات الكبرى للإشباع والمتعة.

كان ماركوز مفكرا ضمن جماعة مدرسة فرانكفورت، يرتكز عمله على توليفة بين الفلسفة وعلم النفس والنظرية السياسية الاشتراكية. انه مشروع سياسي صريح يبحث عن إمكانات جديدة للتحرير ضمن اطار التحليلات النفسية، لكنها ليست طوباوية – وفقا لماركوز .

ماركوز لايتصادم مباشرة مع جوهر فكرة فرويد. في الحقيقة، هو صريح حول معارضته للتفسير المعدّل لفرويد والذي حقا يشوّه نظرية التحليل النفسي كثيرا لدرجة يصعب تمييزها. ما قام به ماركوز هو تحدّي استنتاجات فرويد حول ما هو ضروري لهيكل المجتمع المدني و ماهية شروطه المسبقة.

دور التحليلات السايكولوجية في تحليلات ماركوز

التحليلات السايكولوجية هي محاولة لتوضيح سلوك الانسان باستخدام عدد محدود من الدوافع الاساسية والمبادئ التي بواسطتها يتم تحويل تلك الدوافع. وهكذا، مثلا، الناس يمتلكون "غرائز حياة"، والتي من بين أشياء اخرى تسعى لمتعة مباشرة، لكننا ايضا قادرين على تهذيب وعقلنة تلك الغرائز،ونعيد توجيه طاقاتها من هدفها الأصلي الى مهام وأهداف اخرى.

على المستوى العلاجي – المريض على الأريكة والمحلل على كرسيه – هذه ادوات من التوجيه والتغيير قُصد بها توضيح وعلاج الأعراض السايكولوجية للمريض او مظاهر العصاب. مع ذلك، فرويد لم يكن مهتما فقط بالمريض الذي يبحث عن تحليل نفسي او الاهتمام فقط بروح الفرد. الدوافع والانحرافات، عمليات التهذيب والتبنّي اللاواعي للافكار، والأساطير التأسيسية التي افترضها فرويد كوسائل لمعالجة أي فرد هي بالضرورة تأسست في نظرية تجيب على السبب الذي يدفع كل فرد للتفكير والتصرف بطريقة معينة.

في اعتباره الدوافع الانسانية فطرية، ينظّر فرويد في الكيفية التي أنتج بها الناس حضارة واسباب ذلك. كيف تقود الدوافع الغريزية نحو متعة فورية الى عالم من المسؤوليات الصارمة والقوانين الحازمة. يحكي فرويد قصته حول أصل الحضارة في "الطوطم والتابو،1913" لكن تنظيره المكتمل عن الدوافع الأساسية للانسان وتنظيماته السياسية والاجتماعية جاء في كتاب "الحضارة ومنغصاتها" (1930). هنا يصف فرويد الصراع الأساسي بين دوافع الفرد ومصالح الحضارة ككل، ويصل الى استنتاج ان غرائز الحياة يجب قمعها وتهذيبها لكي تبني وتحافظ على ما نعتبره مجتمعا حضاريا.

غرائز الحياة وغرائز الموت

تنظير فرويد لشخصية الانسان وتقسيمها الى أجزاء او دوافع، تعرّض لعدد من التغيرات خلال مسيرة عمله. ربما التنظير الأكثر شهرة هو تحليل الهو والأنا والأنا الاعلى لروح الانسان، تتطابق مع البحث اللاواعي عن المتعة الكلية المباشرة لرغباته (للجنس والطعام والراحة)، الذات الواعية، والمصلحة الذاتية ولكن ايضا تتعلق بالرمز، السلطة والوضع الاجتماعي والفرضيات السلطوية للمجتمع والاخلاق والقواعد البطراركية التي جرى تخليدها كالقوانين. لاحقا، تحدث فرويد كثيرا عن غرائز الحياة وغرائز الموت. هذا الموقف الذي استخدمه في كتابه "ما وراء مبدأ المتعة،عام 1920" – والذي لا يستبدل كثيرا التصنيف المبكر في فكر فرويد - سيطر على تحليلات فرويد للسلوك الانساني عندما نُشر كتاب "الحضارة ومنغصاتها" بعد عقد.

هذا الثنائي من الغرائز هو الذي يتخذه ماركوز كأساس في فكرته عن الحب والحضارة، يناقش دور كل منهما في ظهور الحضارة، ونتائج عدم توازنهما في المجتمع المكبوت، والتقائهما المدهش.

ان غرائز الحياة او الحب استُعملت ايضا بشكل متبادل مع "مبدأ المتعة"، وهي الغرائز التي تقودنا نحو إشباع المتعة البسيطة – وقف الرغبة بأقصر طريق ممكن. غرائز الحياة تبحث عن الجنس والطعام وأي شيء آخر نستطيع تصوره كرغبة حيوانية، ولكن على الأقل في فهم ماركوز لها – هي ايضا تبحث عن أشكال أكثر تعقيدا للتسلية والفكاهة. اما غرائز الموت تصف غريزتين ولكن ترتبطان بشكل هام بميول في روح الانسان. الاولى، والتي يسميها ماركوز "مبدأ نيرفانا" ويسميها فرويد "دافع الموت" تتعلق بالرغبة بعدم الوجود. فرويد يربط هذا الحافز كثيرا بالرغبة بنعيم الرحم قبل الولادة كرغبة بموت سليم، ولكن مبدأ نيرفانا يكمل مبدأ المتعة في سعيه لوقف الألم.

مع ذلك، يحدد فرويد مجموعة اخرى من السلوك تتطابق مع نفس غرائز الموت. هذه المجموعة من السلوك،والتي بالنسبة لفرويد هي ايضا محاولات رمزية للعودة للحالة قبل الولادة والانفصال الصادم عن الام، هي عدوانية ومدمرة. عندما يُوجّه هذا الحافز المدمر نحو العالم الخارجي، هو حسب تقدير فرويد في "الحضارة ومنغصاتها" يشكّل أكبر تهديد لإنتاج الحضارة وبقائها ،ولذا فان أي مجتمع ناجح يجب ان يكبحه.

الندرة وكبح الفائض

معظم كتاب الحب والحضارة كُرّس لتحليل سبب وصول فرويد الى هذا الاستنتاج المحافظ والتشاؤمي العميق، ولماذا – في ضوء ظروف مادية جديدة – يمكن إبطال تلك الاستنتاجات. فرويد مقتنع بضرورة القمع الواسع الانتشار للحضارة، وماركوز يعتقد ان التغيرات في وسائل وحجم الانتاج منذ زمن فرويد هي كافية لتغيير الحسابات. وبهذا، فان الحب والحضارة يكرس نفسه لمهمة تحديد ونقد "كبح الفائض"، جميع الكبح الذي يستمر والذي هو غير ضروري اطلاقا لوظيفة المجتمع (ماركوز يعتقد انه يبقى هناك مقدار اساسي مطلوب). الندرة، عندئذ، تستمر فقط بسبب التوزيع اللامتساوي للموارد، والتعزيز الايديولوجي للمجتمع القمعي وليس بسبب نقص الموارد. فرويد يعتقد ان الحب يجب ان يُكبح بسبب تصادمه مع ما يسميه "مبدأ الواقع": المطالب الملقاة علينا بفعل الندرة والأخطار. باختصار، اذا كان كل فرد يبحث دائما عن المتعة الفورية، وينخرط ببذخ في كل أشكال المتعة – يقول فرويد – سيكون من المستحيل انتاج ما يكفي من السلع الاساسية الضرورية للانسان ليس فقط للبقاء وانما لبناء الحضارة. ندرة الموارد في العالم تتطلب ان تُكبح رغبتنا للمتعة الكلية والمباشرة ،والطاقة التي نستثمرها في الجنس والمتعة يتم ترقيتها الى نمو وعمل منتج: "مبدأ الآداء". لذلك، فان تعبير الجنسية sexuality يُكبح الى تعبير محدد ومقيد جدا. فرويد يتصور انه في الحالة الطبيعية، تعبّر الرغبة الجنسية (اللوبيدو) عن نفسها بما يسميه "انحراف متعدد الأشكال": ذلك النوع من الفن الجنسي المتغير والخلاق والمنتشر في كل مكان والذي ربما نريد الاحتفال به. غير ان مبدأ الآداء يتطلب ان تعبّر الميول الجنسية عن نفسها بنمط صارم مع دوافع انتاجية واضحة.

وهكذا، نظام الجنس كما عرفه فرويد (وربما كما نعرفه) يُقيّد الى زواج احادي (زوج واحد) وهو مبرّر فقط عندما يكون لغرض الإنجاب. كل ما يتبقى من الطاقة والابداعية المتحررة في الحركة من انحراف متعدد الاشكال الى ما يسميه ماركوس "القابلية التناسلية" يُستثمر في عمل مفيد، وفي سلوك حضاري مطيع ومنظّم.

الأتمتة والتحرير

يعتقد ماركوز ان صلب موضوع المحافظة لدى فرويد يكمن في مبدأ الواقع، وبالذات الحدود التي يضعها لكل من ندرة الموارد والعمل المطلوبين للمجتمع كي يعمل. جدال ماركوز يتمثل في جزء كبير منه على تحدّي تلك الحدود، بدلا من المنطق الذي ينطلق منها، ويقترح ان مستويات القمع والانتشار الواسع للعمل في المجتمعات الرأسمالية الحديثة هي مفرطة دراماتيكيا قياسا بما هو ضروري للحضارة كي تعمل. يشير ماركوز الى الأتمتة، قبل كل شيء آخر، باعتبارها تمكّن الانخفاض المفاجئ في ساعات العمل، ولكن وعلى نحو حاسم يرى هذا التخفيض في واجب العمل كتحرير للكثير من الطاقة المتسامية التي تُوجّه بالضبط لأغراض ايروسية. وهكذا، يقترح ماركوز ان انحرافا متعدد الاشكال ومتعة فورية يمكن اعطائهما المزيد من الدور قياسا بما في الوقت الحاضر، وان صرامة الرموز والمؤسسات المنظمة للجنس والمتعة يمكن إرخائها، بدون التضحية بمستوى الانتاج والوظيفة المطلوبين مسبقا لبقاء المجتمع المدني.

ماركوز يطرح مشروعه المهم خصيصا بسبب ميراث فكر فرويد حول المجتمع والكبت. وبالذات، هو يلوم النزعة – لدى فرويد وكذلك أتباعه – للتعامل مع التوتر بين مبدأ المتعة ومبدأ الواقع كضرورة، او كفطرة، بينما هو في الحقيقة مشروط بعوامل تغيرت راديكاليا في فترة العقود الأخيرة.

لهذا السبب، يصف ماركوز تاريخ الثورات كتاريخ من إرجاء مؤقت لكبح الفائض، تتبعه دائما إعادة فرض سريعة له. وبدلا من ان ينسب ماركوز هذا التأرجح السلطوي الى أي دافع أصلي، هو يراه نتيجة قبيحة للاعتقاد الخاطئ في الاعتمادية المتبادلة بين الكبت والحضارة.

الذنب والحرب

بينما يساهم كبت غرائز الحياة في ندرة عامة في المتعة والقناعة، تنحرف غرائز الموت في اتجاهات مضادة في ظل نظام قامع للحضارة. فمن جهة، استبعادها من الحياة العادية – مترافقا مع كبت تأثير غرائز الحياة على العدوان – يجبر غرائز الموت في التحول الى طقوس، ولكن أكبر من اي وقت مضى، تعرض قوى تدميرية. الى هذا النموذج ينسب ماركوز تصاعد الحرب ولاعقلانيتها، والتكنلوجيات الاخرى التي سهّلت بروز مواقف عنف عالمية.

مع ذلك، هناك ما هو اكثر سوءا يبرز من كبح غرائز الموت والحياة ايضا، وهو التحول الداخلي للغرائز العدوانية على شكل ذنب، والذي يصفه ماركوز باعتباره حادا ومنتشر في كل مكان في الروح الحديثة.

يقترح فرويد ان الذنب هو نتيجة لقيام الفرد بدمج القوانين الاجتماعية الحاكمة للعدوان والجنس في شكل من ذاته العليا، وتحويل قوى غرائز التدمير الى معاقبة مستمرة للذات. الذنب يعبيء دوافع الموت ضد غرائز الموت والحياة ايضا،ملخصاً في النهاية كلمة القانون الكابحة ضمن الروح ذاتها.

هنا، ايضا، يرى ماركوز طريقة لتجنب ما هو سيء. اذا كان مبدأ نيرفانا تعبيرا واحدا عن غرائز الموت، واذا كان ما يبحث عنه هو وقف الألم، عندئذ فان الظروف المادية التي تسمح بإشباع الايروس او الحب ربما هي ايضا تشبع دافع الموت. المطلوب اذاً تدمير ولكن تدمير هياكل القمع التي تتسبب في زيادة واستمرار الذنب والحرب.

***

حاتم حميد محسن

ترجم مؤخرا كتاب "قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م" للمؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت 1959م)، والّذي أطلق عليه مؤرخ الثّورة الفرنسيّة، حيث اهتم بها في السّوربون، وأسّس لها معهد تاريخ الثّورة الفرنسيّ، وكما تحدّث عنه ألبير سوبول (ت 1982م) في مقدّمتة للكتاب أنّه "كرّس مجمل حياته للتّدريس والبحث التّاريخيين، منذ وثائقه المتعلّقة بتاريخ أشكال العيش في منطقة بيرغ، إلى دراساته حول الثّورة الفرنسيّة، الّتي نشرت بعد ذلك بأربعين سنة".

ترجم الكتاب إلى العربيّة، وقدّم له عبد النّبيّ كوَارة، وطبعته منتدى العلاقات العربيّة والدّوليّة بقطر، في طبعته الأولى 2021م، وهو من الكتب القيّمة الّتي لا تنظر إلى الثّورة الفرنسيّة كحدث سياسيّ مجرد، بل يربط بين الاقتصاد والاجتماع وتأثير ذلك على الوضع السّياسيّ، فهو يفككك الوضع الاقتصاديّ بإسهاب، كما أنّه لا يهمل أثر النّظريّات الإنسانيّة وعلى رأسها المساواة والعدالة في التّأثير على العقل الجمعيّ، وبالتّالي التّأثير الاجتماعيّ على السّياسيّ، فيرى أنّه يوجد سببان رئيسان للثّورة الفرنسيّة: "مناداتها بحقوق الإنسان والمواطن الّتي أججّت النّفوس"، ولأنّ "لويس السّادس عشر (ت 1793م) وضع ماليّته في وضع سيء عندما منحها الدّعم"، ويرى "أنّ الفكر الثّوريّ ولد من رحم الحراك الاقتصاديّ والاجتماعيّ".

ولعلّ هناك سؤال لطالما طرح في صناعة الحدث وما يتبعه من تغيير، فمن يصنع الحدث؟ هل يصنعه الشّخوص، أو أنّ هناك اقتضاءات سابقة تدفع بالشّخوص إلى صناعة ذلك الحدث، بمعنى لو ولد ذات الشّخوص في فترة متقدّمة وكانت الاقتضاءات غير مهيأة لذلك الحدث بسننيّتها، لما استطاعوا صنع ذلك مع ذات عبقريّتهم وحضورهم، لهذا نجد جورج لوفيفر يفككك هذه الاقتضاءات الّتي خلقت الثّورة الفرنسيّة، من القرن الرّابع عشر الميلاديّ، وحتّى الثّامن عشر، ومن الثّورة الأرستقراطيّة، إلى الثّورة البرجوازيّة فالشّعبيّة، فثورة المزارعين، وهنا يفككك الحدث التّأريخيّ، وفق المنظومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتأثيرها على السّياسيّ، فهو معنيّ بالحدث أكثر من الشّخوص، وهذا خلاف ما اعتدنا قراءاته في دراساتنا التّأريخيّة العربيّة من الاعتناء بالشّخوص أكثر من اقتضاءات الحدث، وكأنّ عبقريّة التّغيير أقرب إلى الأساطير والمعاجز الفرديّة.

هنا يرجع لوفيفر "السّبب الأول لثورة 1789م إلى أعماق تاريخ فرنسا، حتّى نهاية القرن الثّامن عشر ظلّت البنية الاجتماعيّة لفرنسا أرستقراطيّة، وحافظت على أثر أصلها، في حين كانت الأراضي تشكل الثّروة الوحيدة إلى حدّ كبير، ومالكوها كانوا أسياد أولئك الّذين هم في حاجة إليها للعمل والعيش"، فنهضة التّجارة والصّناعة خلّفت من القرن الرّابع عشر "شكلا جديدا من الثّروة، الثّروة الماليّة، وطبقة جديدة، طبقة البرجوازيّة"، وفي القرن الثّامن عشر "صارت البرجوازيّة هي الّتي تتدخل لإنقاذ الخزينة الملكيّة في الأوقات الصّعبة، وينتمي إلى صفوفها أغلب الموظفين العموميين، وأصحاب المهن الحرّة"، لهذا كتب شاتوبريان (ت 1848م): "بدأ الأرستقراطيون الثّورة وأكملها الفقراء".

ينطلق لوفيفر في كتابه إلى أنّ بدايات الثّورة الفرنسيّة ارتبط بالأرستقراطيّين، وصراعهم مع سلالة آل كابيه لإعادة نفوذهم السّياسيّ، حيث "في فرنسا القديمة كان القانون يميّز بين ثلاث طبقات: رجال الدّين، والنّبلاء، والطّبقة الثّالثة"، "فيتمتع رجال الدّين بأعظم الامتيازات... ومزودون بمحاكم خاصّة، المحاكم الأسقفيّة، ولا يدفعون أيّ ضريبة، ويحدّدون بأنفسهم الهبة المجانيّة الّتي يمنحونها للملك... وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سياديّة... ويحتكرون التّعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرّقابة على كلّ ما يطبع قانونيّا"، وبعد طبقة رجال الدّين تتمتع طبقة النّبلاء بامتيازات شرفيّة ونفعيّة، "غير أنّها أقلّ من امتيازات رجال الدّين"، وإنّ "إنّ ما يميّز النّبالة حقّا هي الولادة، إذ يمكن للمرء أن يصبح نبيلا؛ لكن في نظر الجميع النّبيل الحقيقيّ هو الّذي يولد نبيلا"، وهذه الطّبقة "لم تكتف باحتكارها الوظائف العموميّة؛ صارت تطمح إلى المشاركة في السّلطة المركزيّة، والاستيلاء على الإدارة المحليّة بأسرها".

بيد أنّ لوفيفرينصف رجال الدّين، فيميل إلى رأي إيمانويال سياس (ت 1748م) إلى أنّ رجال الدّين هم "مهنيون وليسوا طبقة اجتماعيّة، وحدتهم روحيّة بحتة... يمثلون الكنيسة والمجتمع الإلهيّ والمثاليّ... ويمكن التّمييز بين النّبلاء... الّذين يشتغلون المراتب العليا: الأساقفة والقساوسة وبعض الكنسيين... والعوام، وهم غالبيّة الكهنة والنّواب والرّهبان... والّذين سيحقّقون الفوز للطّبقة الثّالثة".

هنا استثمر الأرستقراطيّون الوضع الاقتصاديّ السّيء لصالحهم، حيث "الإسراف المخزي للوزراء والبلاط، وإلى المكاسب البشعة للماليين الصّارمين في تحصيل الضّرائب غير المباشرة"، "ففي الجيش على سبيل المثال أصبح عدد الضّباط كبيرا جدّا، ووحدها المحسوبيّة تبرر بعض المعاشات"، وفي المقابل" لم تكن هناك رغبة في سدّ العجز عن طريق الزّيادة في الضّرائب الموجودة، فهي أصلا ثقيلة جدّا"، "وسنلاحظ أنّ الأسعار ارتفعت بنسبة 65 في المائة... ولأنّ القدرة الشّرائيّة قد تقلصت عند شرائح عريضة من المجتمع".

لهذا "شكلت الأرستقراطيّة تكتّلا ضدّ سلطة الملك، وأظهر الولاة تردّدا أمام تحالف الممالك، والجمعيّات الإقليميّة، والمجلس الأعلى لرجال الدّين"، "واشترطت رسميّا صياغة الدّستور، والتّصويت الضّريبي من طرف الجمعيّات العامّة.... مع رغبتها في حماية الحريّة الفرديّة، وحريّة الصّحافة، بل حريّة الضّمير".

وفي مقابل الثّورة الأرستقراطيّة كانت الثّورة البرجوازيّة، والبرجوازيّة من الطّبقة الثّالثة، وتتمدّد من "الأكثر ثراء بين البرجوازيّة إلى الأكثر فقرا بين المتسولين"، فالطّبقة الثّالثة اجتماعيّا قادت الثّورة، إلا أنّ البرجوازيين جنو معظم ثمارها، فالبرجوازيّة "خرجت من صفوف المزارعين"، واستثمرت المال والعقار والتّجارة والصّناعة والمهن الحرة، "فتميزت بتنوع كبير في الأحوال"، "فالتّجار الكبار يعيشون في الفنادق الخاصّة الرّائعة بالأحياء الجديدة في باريس والمدن الكبرى".

أصبح العامل الوحيد الّذي يميّز الأرستقراطيّة عن البرجوازيّة هو عامل الدّم، لهذا "ظلّت البرجوازيّة لعدّة قرون في غيرة من الطّبقة الأرستقراطيّة، تفكر في التّسلل إلى صفوفها، وقد نجحت في ذلك أكثر من مرة، فخلال القرن الثّامن عشر صار عدد كبير من النّبلاء ينحدر من الطّبقة البرجوازيّة الّتي حصلت على النّبالة"، "ثمّ أصبحت التّراتبيّة القانونيّة وامتياز الولادة لا تتعارض مع الحفاظ على التّراتبيّة المبنيّة على الثّراء والوظيفة أو المهنة"؛ لأنّ مع الثّراء العام تزايد البرجوازيون، وتعاظم طموحهم".

ومن رحم هذا التّدافع بين الطّبقتين كان الفكر الفلسفيّ يلقى رواجا كبيرا في الطّبقة الثّالثة، ولهذا الفكر "غذّت مؤلفات الفلاسفة الدّعاية الشّفويّة في الصّالونات والمقاهي الّتي تكاثرت في القرن الثّامن عشر"، وفي الجمعيّات مثل: جمعيّات الفلاحة والمدرسين والجمعيّات الخيريّة، وقد نتج عنها ضرورة "إبطال ميزة الدّم لإفساح المجال للجدارة"، "وأنسنة السّعادة في الدّنيا عن طريق العلم وتحقيق كرامة الإنسان، ومنح الحريّة المطلقة لروح البحث والابتكار"، "والمساواة بين جميع النّاس، وعدم التّمييز لسبب الولادة، ينقلنا إلى "منافسة كونيّة ينتج عنه تطوّر أبدي للبشريّة"، كما نتج عنها نتائج عمليّة تمثل في أنّه "أبدى عدد من البرحوازيين خاصّة رجال القانون تأييدهم قضيّة البرلمان لمواجهة الوزراء الّذين لا ينتظرون منهم شيئا إيجابيّا"، ثمّ تأسيس الحزب الوطنيّ أو القوميّ للوقوف ضدّ ذوي الامتيازات، ومن ذوي الامتيازات من وقف معهم.

ومع هذا "الطّبقة الأرستقراطيّة هي الّتي أثارت الثّورة من خلال إرغام الملك على استدعاء الجمعيّة العامّة بعد أن أعطيت الكلمة للطّبقة الثّالثة، ووجب على النّبلاء والملك أن يتنازلوا عن امتيازاتهم مؤقتا"، "واتّفق النّبلاء والبرجوازيون بخصوص التّحول من الملكيّة إلى الحكومة الدّستوريّة، دون أن يفقد لويس السّادس عشر شيئا من سلطته".

ومع افتتاح الجمعيّات العامّة 1789م، والجدل والتّدافع المترتب فيها ومنها؛ ورفض الملك لحكمة الأرستقراطيين والبرجوازيين، وعدم تنازل من النّبلاء عن مصالحهم، في هذه الأجواء ولدت الثّورة الشّعبيّة، وضاعف في تحريكها الأزمة الاقتصاديّة والمجاعة والبطالة وغلاء الأسعار، لتبدأ الثّورة الباريسيّة في 14 يوليو/ تمّوز 1789م، من التمرد إلى الاستيلاء على الباستيل واستسلام الملك، لكن الوضع لم يتوقف، والخوف لم يرتفع، ليولد بعدها ثورة المزارعين، "فهم يشكلون على الأقل ثلاثة أرباع سكان المملكة" أي فرنسا، "ولولا انضمامهم لما نجحت الثّورة إلّا بصعوبة"، حيث "وجهوا ضربة قاضيّة لما تبقى من النّظام الإقطاعيّ".

هذه الثّورات الأربع: الأرستقراطيّة والبرجوازيّة والشّعبيّة والمزارعين، وما صاحبها من تدافع فلسفيّ وعمليّ ابتداء، واقتصاديّ واجتماعيّ، إلى مرحلة الدّم والخوف والصّراع ثمّ الاستقرار، في هذه الأجواء جميعها بتدافعها السّننيّ، واقتضاءاتها التّأريخيّة؛ "كان بزوغ فجر المساواة أمام القانون"، وأصبحت "الحريّة والمساواة لا ينفصلان، "فأصبح الفرنسيون أحرارا ومتساوين في الحقوق، وأسّسوا من جديد أمّة واحدة غير قابلة للتجزئة"، ففي الاقطاعيّات استطاع المزارعون أن يجعلوا سلطة السّيد "مجرد مواطن عادي، وهو ما يعني المساواة".

آمن الفرنسيون بفكرة المساواة المرتبطة بالإنسان، وليست حكرا على الفرنسيين، "فالحريّة والمساواة هما تراث مشترك للإنسانيّة"، كما "أنّ الأمم سوف تتصالح إلى الأبد في سلام عالميّ بعد أن تصبح حرة"، إلّا أنّ الواقع بعد ذلك انحرف في تعامل الجمهوريّات الفرنسيّة المتعاقبة مع الشّعوب المستعمرة من قبل فرنسا، كما في الجزائر وبلاد الشّام مثلا، وكما يرى صادق جواد سليمان (ت 2021م) أنّ "الجمهوريّة الخامسة بعد مجيء ديغول (ت 1970م).... كانت فرنسا دولة استعماريّة، فناهض الّذي كانت عليه فرنسا، وغيّر توجه الجمهوريّة الفرنسيّة من الاستعمار إلى غيره".

***

بدر العبري – عُمان

باحث وكاتب

من بين اهتماماته المتشعبة في تأليف الكتب الفكرية والإيديولوجية والسياسية والحزبية والأدبية، كان للتصوف حصة متميزة في فكر وحياة وسلوك عزيز السيد جاسم، الذي بدأ نشاطه السياسي اليساري المبكر في ناحية الغازية قبل أن ينتقل إلى العاصمة بغداد نهاية الستينيات وهو لم يبلغ بعد الثلاثين عاماً. وقد يجد القارئ غرابة في كتاب «متصوفة بغداد» عندما يعده مع مؤلفاته الأخرى المنغمسة في قضايا وهموم ومسائل ومشكلات وطروحات تبدو بعيدة عن هذا الميدان الروحي الفريد الذي تبلور في بغداد منذ القرن الثاني للهجرة، وتحول إلى مدرسة أصبحت أصلاً لجميع مدارس التصوف واتجاهاته اللاحقة، غير أن المعلومات التي وصلتنا من أصدقاء وزملاء كانوا قريبين جداً من عالم عزيز السيد جاسم « أبو خولة « تؤكد أنه كان يتصف بالعفة والزهد في ملذات الدنيا، كتب عن متصوفة بغداد فأحب أن يقتفي أثرهم، ويسير على دربهم، وأن يراقب الموت بالتأهب وفق نهجهم، « فكان ما كان مما لستُ أذكرهُ / فظنّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ»!.3001 عزيز السيد جاسم

يخصص المؤلف بداية كتابه لتسمية بغداد ونشأتها وأسباب اتخاذها عاصمة للدولة العباسية، وهي أسباب لا تتعلق بالموقع الجغرافي وحده، إنما تتعداها إلى رؤية أبعد من ذلك تتعلق بقيمتها الاستراتيجية والدور المستقبلي لأن تكون مركزاً ووسطاً لا للعراق وحده بل للدولة الإسلامية كلها التي اتسعت رقعتها في مشارق الأرض ومغاربها، لذلك فأن بغداد قد ولدت بموعد مع القدر التاريخي، أو أنها ولدت بضرورات تاريخية حاسمة بحسب قوله، مؤكداً أن هذه المراجعة التاريخية الموجزة جداً عن مدينة السلام « تشير إلى أن الأهمية الاستراتيجية للموقع الذي شغلته بغداد، كانت معروفة في أزمنة أسبق من الزمن العباسي والخليفة أبي جعفر المنصور، ومما له دلالته الخاصة – هنا – أن المكان المميز لا يستطيع إدراك مكانته الاستراتيجية غير العقل السياسي الثاقب الذكاء، وقد تظل أمكنة ذات امتياز جغرافي وتاريخي مهملةً نتيجةً لعدم وجود الوعي السياسي المدرك لقيمة تلك الأمكنة». والحق فإن ما أسماه بالمراجعة التاريخية « الموجزة جداً « هي مراجعة مهمة أخذت ربع عدد صفحات الكتاب من أجل أن يمهد لظهور وازدهار التصوف في بغداد، والعوامل التي أدت إلى ذلك ومنها اتساع مكانة بغداد، وموقعها الاستراتيجي، ومركزها الديني، ودورها التاريخي باعتبارها عاصمة الإسلام والمسلمين وقبلة الناس، «وكان التوثيق الفلكي لتحول المنصور إلى مدينة بغداد بياناً صريحاً بالاهتمام الخاص الذي أولاه الخليفة لقُّراء النجوم»، لتكون عاصمة العراق الذي «جعل الله فيه خزائن العلم ومسكن الرحمة».

يبدأ عزيز السيد جاسم بأبي هاشم الكوفي المتوفي في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، وهو أول من لقب بالصوفي «وكان يقرن علمه بسلوكه مطهراً نفسه من الرياء»، ومشيراً كذلك إلى صاحب الكيمياء من أهل الكوفة جابر بن حيان الذي نعته المستشرق ماسينيون بهذا الوصف أيضاً لمذهبه الخاص بالزهد، ثم ينتقل لمتصوفة بغداد، معروف الكرخي القائل : « أن التصوف التوقي من الأكدار، والتنقي من الأقذار»، وبشر الحافي : « لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك، وكيف يكون فيك خير وأنت لا يأمنك صديقك «، ومنصور بن عمار : « اتركْ نهمة الدنيا تسترحْ من الغّم ، وأحفظْ لسانك تسترحْ من المعذرة «، والحارث المحاسبي الموصوف بالجهبذ في مدرسة بغداد الصوفية، والمعروف بكثرة مؤلفاته حتى قيل عنه « إنه أعظم مؤلف صوفي في القرن الثالث الهجري»، والسري السَّقَطِي امام البغداديين « تارك الغفلة «، القائل: « من تَزَيَّن للناس بما ليس فيه، سقط من عين الله عز وجل»، وأبو سعيد الخراز الذي انتشرت بركاته على أصحابه ومتّبعيه، ورويت عنه العديد من الكرامات، وأبو الحسين النوري الذي تعرض لمحنة الاتهام بالزندقة وهو القائل: « ليس التصوف رسوماً ولا علوماً ولكنه أخلاق»، والجنيد البغدادي «بهلوان العارفين» كما يصفه السبكي: «وهو سيد الطائفة، ومقدم الجماعة، وامام أهل الخرقة، وشيخ طريقة التصوف، وعَلَم الأولياء في زمانه»، والحسين بن منصور الحَّلاج الغني عن التعريف، والذي يخصص له المؤلف صفحات للحديث عن زهده والسياسة في حياته وصوفيته وشطحاته ومؤلفاته ومنها «طواسين الأزل» و» كتاب العدل والتوحيد» و « كتاب تفسير قل هو الله أحد» ومحاكمته الكبرى، وآخر ما قاله من كلمات قبل حز رأسه، وأخيراً أبو بكر الشبلي « السكران»: «وهو أول من سمّى التصوف بعلم الخٍرَق، في مقابل علم الورق»، والمقصود بالسكران السكرة الروحية التي تأتيه أثناء المناجاة فيرى فيها الخلاص من ربقة الدنيا.

أُنجزت على امتداد العقود الماضية المئات من الدراسات والرسائل والأطاريح الجامعية، وصدرت عشرات الكتب عن مدرسة بغداد الصوفية ومتصوفيها من قبل باحثين اكاديميين، غير أن كتاب»متصوفة بغداد» يأتي من خارج الصفوف الأكاديمية، من كاتب جذبه التصوف إلى عالمه، ومنحه شيئاً من أسراره وشطحاته، وأشياء من روحه وسمو أخلاقه، ذلك أن معظم من بحثوا في التصوف تأثروا بالنص الصوفي لما يمتلكه من طاقة سحرية وروحية تنغرز في ثنايا الروح، فتهذب النفوس، وتُجَّمِل الخلق، وتُشذب السلوك.

من جميل ما يقتبسه عزيز السيد جاسم عن قطب الزمان الشيخ عبد القادر الكيلاني قوله : «عَثر الحَّلاج ولم يكن له من يأخذ بيده، ولو أدركتُ زمانه لأخذتُ بيده «.

***

د. طه جزاع

الصفحة 5 من 6

في المثقف اليوم