قراءات نقدية

الراحل عبد الله راجع: مشروع مخيّلة و ذات تتعدد في الزمكان

ahmad alshekhawiنحن بصدد تجربة محايدة جدا وهامة نادرة لبست زمانها بالمقلوب في خضم فوضى إيديولوجية وثقافية عارمة .وقادتها طموحاتها الفياضة إلى علياء الشعرية والأسلوبية و اللغة المتراصة الرصينة والهامسة المنقوعة في تضاريس اللانهائي و اللامحدود.

وإلى عوالم من الرؤى المطرزة بطوباوية الصلة بالذوات والأزمنة والأمكنة،وترجيح عناصر الجمال وتغليبها على منظومة ما سواها من بقية الأغراض.

برغم التموقع والعسكرة في آفاق تتجاذبها منغّصات التعاطي مع الألوان العروضية وقيودها الثقيلة و المعطلة من حيث تمثلها القاصر للسيكولوجي والحياتي والكوني القاصر الذي قد يعيق روح مغامرة اقتناص المعنى الجديد،هذا من جهة، ومن جهة ثانية جنون استشراف كتابة جديدة متشبعة بحساسية مغايرة داخل مناخ سبعيني موغل في استحواذ الإيقاع على مفهوم القصيدة.

هو كذلك الرمز ــ مشرقيا ومغاربياــ الشاعر الفحل عبد الله راجع الذي قطفته وعلى حين غرّة، يد الردى، مبكرا، مغتالة بذلك أحلام أمة في كليتها.

إرث الرجل باذخ يعتمد المزاوجة والقران بين الممارستين النقدية والشعرية بريشة استثنائي عاش وفيا للقاعدة الجماهيرية العريضة جدا مترنما بأوجاعها و همومها وانشغالاتها.

لم يحد عن سكة الالتزام بالنص الموزون،منجزه،والعزف على أوتار شعر التفعيلة أنذاك، طاعنا بلذة النهل مما هو صوفي محض مشرع النوافذ على الأدب الدخيل النابض بنزعته الإنسانية والمناوش بإغراءاته،وشراهة احتواء الواقعي والمعاش الرافل في عبير النفس الملحمي والمعتمد على الاستحضار الواعي للموروث الإنساني والتغني بالمعاناة التي هي من إفرازات الشعبي والهامشي دون أن يشوه ذلك نضارة المعجم وبشاشته وتوهجه حتى في ظل مشاهد البكائية والانهزامية والدرامية أو في لحظات تجريب كؤوس الموت الزؤام.

هي ثلاثة دواوين شعرية، في حياته،وتوأمان لها(°وردة المتاريس/ أصوات بلون الخطى) بعد بضع عقود من ساعة وفاته، ورّث الراحل الذاكرة الإنسانية، إياها، كانت كفيلة بخلق زوبعة بين مجايليه و من بعدهم،سجلها له التاريخ وكأن لسان حال الرجل لما يلهج بعد بعبارة من قبيل" لا قبول بتاتا بقطعة مجد مزيفة".

هكذا راح وبكل نضال وصمود، يرسم ملامح شخصية أسطورية وحروف اسم وازن عربا وعالميا، نقشها ثم فوق النجوم وفي الوعي والوجدان والذاكرة.

ففي باكورة أعماله" الهجرة إلى المدن السفلى" أبان شاعرنا وأماط اللثام عن نقلة نوعية   البون و قلقلت ساحة الإبداع العربي المعاصر برمّته،وقلبت موازين المعادلة الأدبية، وإن في أحرج أوقات الإخلاص إلى شعر التفعيلة كما أسلفت والنفور من العروضية الكلاسيكية العاجزة عن المواكبة ومغازلة كل مستجد طارئ تمليه نظرة العالم السرمدية إلى الأمام.

وفي بصمته " سلاما و ليشربوا البحار" كأضمومة ثانية لم تزغ عن تبني المرجعية المطورة للمواقف والخطابات والرسائل وكذلك فنية النواة الأولى، أدهش شاعرنا جمهوره بتقنية مبهرة جديدة صبغت شعريته عبر تأمم المسامات الكاليغرافية في نطاق إبداعات تراعي الإيقاع دائما، فكان التكثيف من العناصر الصورية لا فتا ومهيمنا على نحو يدغدغ الذائقة ويعوضها على صدمة هجر النمط العروضي الذي أثار سجالا ومقارعات قوية وقتئذ.

وفي ديوانه " أياد كانت تسرق القمر"يستحوذ التوجه الوطني وتتسارع وثيرة المزج بين المكون البصري وتناسل المعاني المولّدة والجديدة في إطار الانجذاب إلى كل ما من شانه انتشال قصيدة التفعيلة من طابعها التقليدي المالوف إلى مستويات تقديم الإضافة والجدة حدّ إرباك ذهنية التلقي.

القاتل/المقتول،حسب الوارد في إحدى روائعه.القاتل بمعسول بوحه المكلل بالنرجسية الحميدة و الواحدية المخصبة للهم الجمعي.

المقتول بالتنكر له والصدود عن منجزه الشعري و النثري الزاخر بشتى صنوف موجبات الفخر للبلاد والعباد،إذا أنصفنا النزر القليل الذي لم يبخس الرجل الراحل/الخالد قدره ولم يزل مترنما بذكراه،وقد مضى على أفوله ما يربو على ربع القرن.

" أنا من ضيع في الأوهام عمره"،وهو سطر شعري من بنات حلق عبد الله راجع،ومن ابرز دلالاته الارتقاء بفن تعبيري وصف قديما بأنه ديوان العرب وتقلب على مر العصور وتلون وعانق تمظهرات راوحت بين العروض والتفعيلة والقصيدة الكريستالية الجديدة والتي أتحفّظ كثيرا حول نعتها بقصيدة النثر،وتذبذب ولم يزل بين هذه الحالات الثلاث.

أجل،السمو بالشعر إلى مرتبة الوهم،والكارثة تكون لما يتم إدراك حقيقة مرة كهذه متأخرة وبعد فوات الأوان.

ولعل هذا يحيل على فتح سؤال جوهري عريض،على غرار: لم لا تتساوى حظوظ السياسي والمثقف؟ مثلا.

أم أن المثقف عموما يكاد لا يتجاوز أعتاب وأدوار الشمعة التي قدرها أن تحترق لتنير دروب الآخرين؟

لذا اغتنمها فرصة من منبري المتواضع هذا وأتوجه بدعوة حضارية جدا، للجهات المعنية التي يقع على عاتقها فك طلاسم أزمة المبدع والمثقف بشكل عام.

فالأوسمة و التكريمات والعناية والاهتمام وما إلى ذلك من المستحقات التي هي في عنق الدولة لمن يصنعون إرثها الفكري والفني والثقافي،أولى أن يحصدها المبدع والمبتكر وهو في أوج عافيته وعنفوان عمره، لا في شيخوخته أو بعد مماته.

خلاصة القول أننا في حضرة الرمز الراحل عبد الله راجع شاعرا وناقدا، إنما نحن إزاء هامة برغم المأساة والهواجس واللامبالاة وأصابع الاتهام، فقد تأتى لها زرع بصمتها عميقا في التراث الأدبي المغربي والعربي والعالمي.

والتأثير إيجابا في الأجيال اللاحقة والتي من واجبنا تنويرها وفتح أعينها على نتاجات كوكبة من العظام الذين التحقوا بالرفيق الأعلى مخلفين ثروة معرفية وجمالية تجني ثمراتها الإنسانية جمعاء.

كذلك هو الراحل عبد الله راجع،مشروع مخيلة وذات تتعدد في الزمان والمكان.كذلك هو الرمز الذي يكتبه الغياب.

 

أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم