قراءات نقدية

أضمومة "حين تبكي مريم" وثورة البوح الضاربة بقبضة من ورود وفراشات

ahmad alshekhawiفي أضمومتها الصادرة مؤخرا عن منشورات لندن العربية، يتبدى أن الشاعرة مريم مشتاوي قد وفّقت إلى حد كبير في نقل أحاسيسها المرهفة وترجمة أفكارها إلى بوح آسر يزركش البياض ويدغدغ الذائقة وينم عن رؤية متقدة ورؤى متحررة جدا من الضغوط التي قد يولدها الاغتراب أو تتدخل فيها يد الحنين إلى وطن ضارب بجذوره ضمن جغرافية مفخخة تتقاذفها ويلات الحروب وتصبغ براءتها مشاهد الجنائزية والدم.

هي عشرات النصوص،إثنتا وأربعين ومضة على وجه التحديد نسجت خريطة شعرية رائقة وفق إملاءات تجربة آثرت صاحبتها الواعدة أن تتشبث بقناعة تخليق معان جديدة تناغي الأذهان وتغتنم من التجديف في بحر السهل الممتنع وبمنأى عن المفردة الفضفاضة والطنانة المفضية إلى التقزز والنفور.

إن عنونة الديوان/ حين تبكي مريم ، لتشفّ عن المعطى البديهي والذي يستفز الذاكرة ويشرعها مجددا على الكامن و المسكوت عنه القابل لتأويلات شتى ويجعل الفضول في تزاحمه وتداخلاته فنيا ومعرفيا منتهيا إلى ومستقرا على أن إحدى أبلغ النواميس الكونية متجسدة في كون الدموع هي سلاح الأنثى في أغلب الأحيان.

ومما لا يدع مجالا للشك، أننا إذا تأملنا هذا المنجز واستسلمنا لغيبوبة الغوص فيه مليا، أمكننا القول أننا إزاء صوت نسوي قوي للغاية استطاع تقديم الجديد والإضافة بحيث اتسم بصقل تقنيات التعبيرية السردية المغرقة في الطقوس الغرائبية الباعثة على تجليات القرين منشقّا عن أنوية عاتبة على الراهن على نحو أكثر هدوءا واتزانا وواش بتيمة الانسجام مع الذات والوجود إجمالا.

تلكم التجليات المفخخة بتهويمات الحالة الإنسانية حينا، وإشكالية الهوية و الإنتماء متناغمة مع هذيان العشق والقلق أحيانا أخرى .

هكذا نجد الديوان وقد اكتسى أهميته وبصمته الخاصة من ترفّعه على الصلة أو العلاقة الكلاسيكية القائمة بين المبدع والمتلقي،والارتقاء بها إلى مستويات تشاركية تفاعلية مكمّلة تشكل السرمدية و الإمتداد.

لذا ومع عدم ادعائنا أن العمل في كليته منظومة مناقب،خالية تماما من بضع عيوب، وحرصا منا على تجنب الإطناب أوالإطالة نظرا لضيق المقام،سنكتفي ببعض المحطات التفكيكية الرامية إلى معالجة تنظيرية لطلاسم ما ورائيات الألوان لعدد من النصوص الباذخة التي تفي بالغرض وتؤهلنا لاستيعاب الاتجاهات المفذلك لها سلفا.

إذ من النبوغ أن الشاعرة مارست نوعا من الغواية أتاحت لها استقطاب المتلقي منذ البدء، واستدراجه إلى بوابة سحرية تريد هي له الولوج منها إلى عوالم معاناة وهواجس ومواقف إمراة شرقية حتى النخاع .

فأومأت إلى أن الخذلان الطاعن بمرجعية من نخصهم بأعلى رتب الوجد وأغلى المنازل القلبية، يتخطى حدود توصيفه بالسلوك السلبي القابل للسلوى والنسيان ، إلى ما يدخل عمليا في التحريض على إدمان الكتابة واتخاذها وسيلة ومطية إلى ما يحول تلكم المعاناة إلى ثمرات إيجابية ومكسب إنساني داني القطوف.

نجدها وقد تأممت قصدية تبئير كمّ لا باس به من قصائدها ،ومحورته على السؤال اللحظي والوجودي كالوارد في نصوص تكتسح ما يربو على ثلث المجموعة يتم جردها تباعا كالتالي: لم أحبك؟/ وأمضي وحيدة/ على بعد حضارة / وحشة / خميرة الغياب / عيد الأم / كيف سأحتمل مجيء العيد؟ / حورية / الورقة الخضراء / يدك الصغيرة / أنطوني .. لا تبك؟ / ماذا يفعل الأطفال في السماء؟ /طوبى لكل عاقر على الأرض .

ومن ثم الاشتغال على هذا السؤال اللحظي والوجودي باعتباره لازمة ترعى تفشي الاستعارة الكلية وتحقق وحدة الموضوع.

ومن جهة ثانية نجد شاعرتنا تسرف في الاحتفاء بالأمومة و الإيروسية الهاربة من غامض ذاتي مربك مآله الوقوع في الخيوط الموجعة للحظة المذيلة بالقسوة والهجر والوداع والذبول وربما الموت و أعني به الموت الرمزي وما جرى على منوال ذلك كالذي تهمس به ضمنيا متتالية القصائد الآتية: الحذاء الصغير/ وداع/ أناجيك / مراسم الوداع/الخيمة الصغيرة/ شيء ما/ لا أنام / سقط الحب .

بيد أن الرائع في المتبقي من القصائد وعلى سبيل المثال لا الحصر: ثورة حب /غروب شهرزاد / العروس/ حين تبكي مريم،كمين في لون من الترجمة الحقيقية والعفوية أيضا دون تكلف أو تشعّبات ذهنية،للحمولة الوجدانية في تحولات مذهلة تعتبر الحنجرة الغاضبة الضلع الأساس فيها بعيدا عن أي تحريض، وكأننا بصدد ثورة ذروة في النضج تنرسم تلقائيا حين تفرض الكلمة سلطتها وهيبتها وشموخها كذلك ليبلغ البوح كماله حدّ تماهيه مع الأثر الفردوسي الذي قد تخلفه في النفس أغوى مشاهد ورود تجود بعبيرها المجاني وفراشات تغازل بتراقصها الأفئدة قبل الأعين.

كضرب من خيال تتيح شطحاته وهلة انفلات من بربرية راهن قرصنته ربما تتم على حساب الحلم المشروع،كأقذر لعبة تاريخية يتعاضد حولها صناع الموت ولصوص المشاعر واللحظة الإسمنتية في إسهام منهم أشد خسّة لتشيئ الإنسان وأنسنة الآلة نزوعا صوب توسيع جغرافية الدمار واغتيال بعض ما يشدو به رحم النبل والجمال.

 

أحمد الشيخاوي/ شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم