قراءات نقدية

محاولة في النقد المقارن (2)

ali alqasimi3) قصة "المدينة" لجون أبدايك،

ترجمة وتقديم: علي القاسمي

جون أبدايك

 (يُعدّ الروائيّ القصّاص الشاعر الناقد الرسّام جون أبدايك John Updike أشهر أدباء أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين، وأغزرهم إنتاجاً، وأكثرهم حصداً للجوائز والأوسمة الأدبيّة، حتّى أنَّ مجلة (تايم) نشرتْ صورته على غلافها مرّتَين عامَي 1968 و 1982، وأَنّه نال أرفع جائزة أدبيّة أمريكيّة، البوليتزر، مرَّتَين، عامي 1982 و 1991.

فجون أبدايك أديب مكثر ذو قلم سيّال، كما يقولون؛ فقد نشر حتّى الآن 22 رواية وأكثر من 12 مجموعة قصصيّة إضافة إلى مئات من القصائد والقصص القصيرة والمقالات النقدية التي نشرها في جريدة " النيويوركي" منذ منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من غزارة إنتاجه، فالمعروف عنه أنّه يبذل عناية كبيرة في تجويد أسلوبه، ووصف شخوصه، وتطوير الأحداث بمهارة. يشبّهه النقّاد تارة بالقصّاص البولندي البريطاني جوزيف كونراد من حيث مزاوجته بين المثاليّ والواقعيّ وبين الخياليّ والحقيقيّ بخفّة فائقة. وعلى الرغم من أن لكونراد قدرةً متميِّزة على السخريّة، فقد كان يعوزه حسّ الفكاهة والدعابة الذي يمتلكه أبدايك. ويشبهونه تارةً أُخرى بالروائيّ الفرنسيّ غوستاف فلوبير الذي يسحر القارئ بأسلوبه السلس الأخّاذ، ولكن فلوبير كانت تعوزه الثروة اللفظيّة الهائلة التي يتوافّر عليها أبدايك، وتنقصه كذلك دقّته المتناهية في استعمال المفردات واستثمارها في إنتاج الأثر المرغوب في المتلقّي. ويرى النقّاد أنه تأثَّر بعدد من عمالقة الأدب العالمي مثل فيودور ديستيوفسكي، وجيمس جويس، وفرانز كافكا، وفلاديمير نوبوكوف، ووليم شكسبير.

 ولد أبدايك في بلدة ردنك في ولاية بنسلفانيا عام 1932، وكان أبوه مدرِّساً وجده قسّاً. وتخرّج في مدرسته الثانويّة وترتيبه الأوّل فنال منحةً للدراسة في جامعة هارفرد. وعندما تخرّج فيها عام 1954 التحق بمدرسةٍ للرسم في مدينة أكسفورد. وبعد عامٍ واحد اشتغل محرِّراً في مجلّة (النيويوركي) مدّةَ عامَين، ثم تفرَّغ للكتابة.

 كان أوّل كتابٍ نُشِر له مجموعة شعريّة عام 1958، وفي العام التالي أصدر روايته الأولى بعنوان "معرض ملجأ الفقراء"، ثم توالت إصداراته المتنوِّعة. ولعلَّ أشهر رواياته "ربيت الغني" و "ربيت المرتاح". وفي عام 1999، اختير أبدايك لتحرير كتاب "أحسن القصص الأمريكيّة في القرن العشرين" الذي يضمّ أروع ما أنتجه قصاصو أمريكا في ذلك القرن، والذي أفدتُ منه في إعداد كتابي " مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة" (بيروت/الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2003.

 توفي أبدايك أوائل سنة 2009.)

              

المدينة

أخذتْ بطنه توجعه في الطائرة عندما غيّرت المحرِّكات سرعتها للهبوط في هذه المدينة. ألقى كارسون اللوم في بداية الأمر على الفستق المُملَّح المُعبَّأ في كيس صغير من الورق القصديريّ الفضيّ الذي قدَّمته له المضيفة مع الويسكي في الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم. لم يكُن كارسون يعدّ نفسه من شاربي الكحول، ولكنَّ الشابَّين المرتديَّين بذلتي رجال أعمال رماديّتَين واللذين كانا يجلسان إلى جانبيه في الصف الثلاثي المقاعد، طلب كلٌّ منهما مشروباً كحوليّاً، وبدا له أنّه ينبغي عليه من باب المحافظة على مكانته في عين المُضيفة، أن يطلب هو الآخر مشروباً كحوليّاً. فقد كانت المضيفة ـ على خلاف أغلبيّة المضيفات هذه الأيام ـ شابةً وجميلة. فكثيرٌ من المضيفات، على شاكلة كارسون نفسه، يقمن بهذا العمل بوصفه مهنةً ثانية، فهنَّ من ضحايا قلق منتصف العمرـ بعد أن شبَّ أطفالهن عن الطوق، وأخذن في الهبوط الطويل.

 كان كارسون يعمل مدرِّسَ رياضيّات في مدرسةٍ لإدارة الأعمال؛ أمّا الآن، وبعد طلاقه، فإنّه أصبح وكيل مبيعات لمصنعٍ في نيوجرسي متخصِّص في الحواسيب الصغيرة وأنظمة معالجة المعلومات. وبعد أن أمضى عقوداً من السنين في قيادة سيّارته في شوارع الضواحي ذاهباً من منزله إلى مدرسته وبالعكس، صار الآن، وهو في الخمسين من عمره، ذوّاقة للمُدن، وأحيائها المركزيّة النامية، وأحزمتها الصناعيّة المتضخِّمة، وسككها الحديديّة الصدئة، وأبنيتها الزجاجيّة الجديدة، وفنادقها المكسوة أرضيتها بالزرابي ذات اللون البرتقاليّ، وحاناتها التي تقلِّد الأكواخ الإنجليزيّة في زخرفتها الداخليّة. ولكلِّ مدينةٍ لهجةٌ خاصَّة بها، وزيٌّ نسائيٌّ محلّيٌّ، وحيٌّ قديمٌ تاريخيٌّ متميِّز، وناطحةُ سحابٍ ذات شكلٍ غريب، ومتحفٌ يضمّ لوحةً لسيزان، أو قُلْ، لونسلو هومر، لا تجد مثيلاً لها في أيِّ مكانٍ آخر. ولم يكُن كارسون قد زار من قبل المدينة التي ينزل فيها هذه المرَّة. وربَّما أدّى تخوُّفه وتوتُّره من اللقاءات الجديدة التي يتحتّم عليه إجراؤها، والإقناع الذي يتوجَّب عليه القيام به، إلى بذر الألم في وسط معدته، فوق السُّرَّة بالضبط.

 وظلَّ يُلقي اللوم على الفستق. فلم تكتفِ المضيفة الشابَّة الجذّابة، التي كانت ترتدي ربطةً رقيقة حول عنقها المغطَّى بمسحوق التجميل، بإعطائه كيساً واحداً من ذلك الفستق بل كيسَين، وقد أكلَ ما في كليهما. وكان لمحرِّك الطائرة 747، الذي يحيط به قوس قزح من البخار الغاضب في وسطِ أشعةِ الشمس، القادم من الشرق حينما اتّجهت الطائرة غرباً، ضجيجٌ قد أثَّر في معدته كذلك. ثمُّ هنالك الويسكي نفسه، وضَغْطُ الوقت الذي تعرَّض له ساعةَ المغادرة، إضافةً إلى مضايقة المرفقَين على مسندَي المقعد من كلا الجانبَين، فقد وصل إلى المطار متأخِّراً بحيث لم يتمكَّن من الحصول على مقعدٍ بجانب الشباك أو على الممرِّ. وشباب اليوم، كما بدا له، مكتنزو الأجسام وعريضو المناكب، ويعود هذا النمو البدنيّ المتصاعد إلى مزيجٍ من مزاولة التمارين الرياضيّة والإدمان على شربِ البيرة. وكان كلُّ واحد من الشابَّين اللذَين يحيطان به، يضع منديلاً حريريّاً في جيب الصدر بسترته، وله شاربٌ محدَّد فوق فمه الشاحب المُطبَق. وعندما تريد أن تتبادل بضع كلمات معهما فإنك ستسمع أصواتاً لا تفهم منها شيئاً، وتبدو كأنّها صادرة من صندوق صفيح أشبه ما يكون بأرخص أجهزة التلفاز.

 وضع كارسون جانباً الأوراقَ التي كان منكبّاً عليها ـ وهي تتعلَّق بالأنظمة المعلوماتيّة، والمطاريف، والطابعات ذات العجلات الدائريّة، ومولِّد الخطوط البيانيّة الاختياريّة التي لا تقاوم مع الإخراج اللائق ـ كلُّ ذلك لفائدةِ مصنعٍ صغيرٍ مزدهرٍ للمُعينات الإلكترونيّة، وألقى نظرةً أخيرةً على أسباب تداعي صحَّته، الفستق، الويسكي، الازدحام. وبالإضافة إلى كلِّ شيءٍ آخر، تأكَّدَ له أنَّه كان مُتعَباً، مُتعَباً من الأرقام، مُتعَباً من السفر، ومن الطعام، ومن تدقيقِ الحسابات، ومُتعَباً حتّى من العناية بنفسه ـ الاستحمام وحلاقة الذقن في الصباح، ووضْع نفسه في ملابسه ثمَّ، بعد ستَ عشرةَ ساعةً، إخراج نفسه منها. وازداد الألم تدريجيّاً، وتخيَّل كارسون هذا الألم على شكل فقاعةٍ كرويّةِ الشكل، ساخنةٍ، بطيئةِ الحركة، ستنفجر لو استطاع أن يركِّز عليها أشعةَ التفكير الصحيح الليزريّة.

 وفي طابور انتظار سيّارات الأجرة، شعر كارسون بأنّه أكثر ارتياحاً إنْ وقف وهو مُنحنٍ قليلاً. وكان هواء الخريف البارد ينفذ إلى جلده من خلال ملابسه. لا بدّ أنّه يبدو مريضاً، فقد كان يجتذب إليه نظرات زوار المدينة الآخرين. أما الشابّان اللذان حاصراه بكتفيهما مدةَ ثلاث ساعات في الطائرة، فقد ذابا في الزحام مع الكثيرين من أمثالهم من الشبّان الذين يحملون حقائبهم اليدويّة ويرتدون الأحذية ذات الأشرطة المعقودة.

لم يُعطِ كارسون سائقَ سيارة الأجرة عنوان صاحب مصنع أجهزة التصغير والتمارين، وإنّما أعطاه عنوان الفندق الذي حجز غرفةً فيه، فقد هبطتْ عليه موجةٌ مفاجئةٌ من الغثيان، مثل هبوط طائرة الـ 747، جعلتْه يتّخذ قراره ذاك. وبينما كان يسير خلف خادم الفندق المُتَّشح ببذلةٍ قرمزيّة اللون في الممرِّ المغطَّى بسجادٍ برتقاليِّ اللون، أثارت الألوان اشمئزازه، وبدت له الجدران وأرضيّة الممرِّ منبعجةً وملتويةً، وكأنَّ ذلك الألم الذي لم ينتهِ قد مسخه إلى مجموعة من الأجزاء الجديدة بلمسةٍ من إصبع أحدهم على مطراف الحاسوب. وهاتفَ شركة التمارين من غرفته بالفندق، شارحاً حالته للفتاة التي ردّت عليه، وطالباً موعداً جديداً في صباح الغد، قبيل موعدٍ آخر مضروبٍ له مع رئيسِ محاسبي شركةٍ صغيرةٍ مزدهرةٍ أُخرى، مُتخصِّصة في إنتاجِ " الضوضاء البيضاء" لحماية النوم في المدينة. لقد انزعج كارسون من جدول المواعيد المزدحمة، ولكنَّه انزعاج غير مباشر، لأنَّ جميع هذه المواعيد سيهتمُّ بها شخصٌ آخر مختلفٌ تماماً ـ هو نفسه بعد أن يُشفى ويستعيد نشاطه. وكانت الكاتبة التي تحدَّث معها هاتفيّاً متعاطفة معه وتتكلَّم بلهجةٍ مريحة وغريبة ـ تطيل بعض المقاطع وتقصِّر بعضها الآخرـ وأوصتْه بتناول حبوب مالوكس. وكان في الإمكان، طبقا للأفلام السينمائيّة التي كثيراً ما شاهدها في طفولته وطبقاً للحياة المثاليّة التي كان يتخيّلها، أن يُرسل شخصاً ما لجلب الدواء له، ولكن في جميع تنقلاته في سنواته الأخيرة، من فندق إلى آخر، لم يرَ ذلك يحصل أبداً، لقلّة الخدم العاملين في تلك الفنادق؛ ولهذا فقد نزل بنفسه إلى صيدليّة الفندق. وفي طريقه إليها، أرعبتْه إحدى المرايا في صالون الفندق، إذ رأى فيها صورةَ رجلٍ نحيفٍ في كُمّي قميص وهو يعرج في مشيته وله كرشٌ وفمٌ لا لون له مشدود إلى الأسفل في جانبٍ منه، مثل فمِ رجلٍ ميّت.

 كان للدواء مذاقٌ كلسيٌّ وفيه مثل بقايا الحصى، وقد أعطى هذا الدواء، بعد فترةٍ من التردُّد، بُعداً جديداً للألم مثل نتوءٍ رمليٍّ صغير. وكانت أرضيّة غرفته في الفندق مكسوَّة كذلك بالسجّاد البرتقاليّ اللون، ولها ستائر أرجوانيّة اللون، قام كارسون بإسدالها بعد أن ألقى نظرةً على ساحةٍ مكشوفة في حديقةٍ عامّة كان يلعب فيها مجموعة من الأولاد كرةَ القدم وسطَ الأوراق المتساقطة من الأشجار، وصرخاتهم تمزِّق طبلةَ الأُذن. وفتح جهاز التلفزيون، ولكنّه هو الآخر يصمُّ السمع. واستلقى على أحد السريرَين الموجودَين في الغرفة وأخذ يحدّق في السقف ويتردّد على المرحاض، تاركاً الظهيرة تحترق في المساء، وفكَّرَ كيفَ تكون التعاسة نفسها نوعاً من السَّكَن. وكان سقف الغرفة مغطّى بالجبس على شكل حلقات بعضها فوق بعض مثل حراشف سمكة كبيرة بيضاء. ومن أجل أن يغيّر كارسون وضعيَّته، مدَّد نفسه فوق أرضيّة الحمام الباردة وهو يتأمَّل المكان والجوانب الداخليّة للقطع الخزفيّة المعلَّقة على الجدران، ويُلقي نظرةً على الأشعة البعيدة المعينيّة الشكل الصادرة عن مرآةٍ مصغَّرة.

 ولم يستطِع الدواء المُسهل الذي تناوله مراراً تخليصه من هذا الألم الطارئ، بل لم يعُد ذلك الشيء الرمليّ الذي كان يحسّ به في معدته كرويّ الشكل، وإنَّما أصبح مُستطيلاً متَّسعاً. وعندما بدأ كارسون التقيؤ أخذ الأمل يراوده. ولكنَّ هذا الأمل تلاشى مع اختفاء ضوء النهار. فقد أصبح الألم رفيقاً ثابتاً لم يستطِع التخلُّص منه على الرغم من محاولاته المتعدِّدة، ودقيقة بعد أخرى لم يزدد الألم سوءاً ولكنَّه لم يتوقَّف. وتبادر إلى ذهنه أن حالته تدعو إلى الصلاة، ولكنّه لم يكُن متديّناً، ولهذا كان بإمكانه إعفاء نفسه من ذلك العذاب الإضافيّ.

 وألقى ضوءُ النهار المودِّع هالاتٍ بُنيّةَ اللون ريشيّةَ الشكل على الأسطح المنحنية لأثاث الغرفة، وعلى قوائم الطاولة وصحون المصابيح. وتخيَّلَ كارسون أنّه لو دقّ جرس الهاتف لتهشَّم ألمه. وبينما كان متكوِّراً على جانبه، أخذته غفوةٌ قصيرة ثم استفاق على الألم، فوجدَ الغرفة غارقةً في الظلام، ما عدا بصيصاً شاحباً من ضوء الشارع على الشبّاك، وقد اختفى لاعبو كُرة القدم. وتساءلَ عمَّن يكون هناك في الخارج خلف الظلام يمكنه الاتصال به لمساعدته. زوجته السابقة قد تزوَّجت من جديد، وأحد أولاده، ابنه، كان في رحلة إلى المكسيك، والبنت نبذتْ والدها. وكان عندما استلم رسالتها التي تتبرأ فيها منه، قد حاول الاتّصال بها هاتفياًّ، فأخبره الرجل الذي كانت تعيش معه، أنّها هجرته وانتقلت لتعيش في نُزلٍ نسائيٍّ مشترك.

 اتّصلَ بمكتب الاستقبال في الفندق طالباً نصيحتهم. فردَّ عليه صوتُ رجُلٍ في مقتبل العمر، يبدو من انشراحه أنّه بدأ نوبته في العمل لتوّه، واقترح عليه أن يذهب إلى عيادة الطوارئ في مستشفى المدينة. وبأصابع مرتعشة، ربط خيوط حذائه بصعوبة، وابتسم إذ وجد نفسه بطل مسرحيّة مأساويّة بلا جمهور ولا مشاهدين، وارتدى ملابسه وأخرج جسمه المتوجِّع برفقٍ إلى الهواء الطلق. وكان طابور من سيّارات الأجرة ينتظر تحت أضواء الشارع الصفراء الحادّة التوهُّج. ورأى الإعلانات المخطوطة بمصابيح النيون، وأسماء المحلات المُضاءة، وإشارات المرور الضوئيّة الحمراء والخضراء ـ وهذه لمحات من مدينة كان من المعتاد أن يتجوّل في شوارعها في مثل هذا الوقت بعد انتهاء عمله اليوميّ، باحثاً عن مطعمٍ أو حانةٍ أو محادثةٍ عابرةٍ أو لقاءٍ ممكن مع إحدى مضيفات المدينة غير الرسميّات، بمكياج عينيها الأخضر، وفستانها القصير، وحذائها العالي، وركبتَيها المكشوفتَين. فقد اكتسب ولعاً بهذا النوع من النساء، حتّى عندما لا يتمكَّن من عقد صفقةٍ تجاريّةٍ في عمله، إذ كانت ملاحظاتهن التمهيديّة المفاجئة تثيره، وكذلك مناوراتهن المكشوفة.

 كان المستشفى يقع على مسافة بعيدة من الفندق، ويتكوَّن من بنايةٍ ضخمةٍ متوهجةِ الأضواء يتّصل بها عدد من الملاحق الحديثة، تقبع في نهاية ممرٍّ منحرفٍ يخترق حديقة عامّة مظلمة ومجموعة من الدور المنخفضة. وكان كارسون يتوقَّع أن يسلِّم عبءَ جسمه كليّاً حالَ وصوله إلى المستشفى، ولكنّه بدلاً من ذلك وجد نفسه مضطراً لحمل ذلك العبء خلال سلسلة من الجهود الجديدة التي كان عليه أن يبذلها ـ استمارات يجب عليه تعبئتها، وأدلّة ثبوتيّة على قدرته الماليّة تؤهلّه ليكون مريضاً ينبغي عليه تقديمها، وسلسلة من فترات الانتظار كان عليه تحمُّلها على مصاطب مزدحمة وكراسي مبطَّنة، في حين كانت عيناه تقيسان المسافة إلى دورة المياه المخصَّصة للرجال، وهو يحسب الوقت الذي تستغرقه مشيته العرجاء إليها وفتح باب أحد المراحيض وإفراغ ذلك الزائر الغاضب من جوفه.

 وبدا أوّل طبيب سُمح لكارسون أخيراً برؤيته، شاباً ليّنا مراوغاً مثل ابنه المسافر نصف المنسي. فكلاهما له شعر أشقر جدّاً بحيث يبدو وكأنّه شعر اصطناعيّ. ولمّح هذا الطبيب إلى أنَّ زوجته تنظِّم حفل عشاء تلك الليلة في الجانب الآخر من المدينة وقد تأخَّر عن الموعد. ومع ذلك فإنَّ هذا الطبيب الشابّ أجرى الفحص عليه بلطف. واعترف الطبيب أنَّ حالة كارسون تحيّره، فالألم يبدو غير مستقرّ في مكانٍ واحدٍ ليتمكَّن من تشخيصه بالتهابِ الزائدةِ الدوديّة، الذي هو، علاوة على ذلك، ليس اعتياديّاً لرجلٍ في مثل سنِّ كارسون.

 فقال كارسون: "لعلّني أنمو ببطءٍ." وكان كلُّ مقطعٍ من كلامه مثل شخير استهجان بسبب الألم الذي كان يقاسيه.

 وتلا ذلك فترةُ انتظارٍ أُخرى تخللّها وخزُ إبرٍ لإجراء فحوص الدم، وهذرُ ممرِّضات اعتدن على المهنة. ثم وجد نفسه عارياً أمام خزانة ملابس، لكي يتمكَّن من الانتظار مع عدد من الرجال الآخرين وهم يرتدون محارم بالية لأخذِ صورٍ بالأشعة. وكان تقنيُّ التصوير بالأشعة رجلاً قوي البنية، وله شاربٌ كث، وطلعةٌ مُفرِحة مثل رافع أثقال أو زير نساء (أو رجال). وقال: " الذقن هنا. والكتفان إلى الأمام. نَفَس عميق. احبسه. أحسنتَ!" وارتدى كارسون ملابسه مرّةً أُخرى ببطء، وبدت له كلُّ قطعةٍ من ملابسه رثةً باليةً بحيث يصعب التصديق بأنّها ملابسه. وخطر له أنَّ الإنسان قد يموت في المستشفى أثناء تلك الإجراءات البطيئة.

 وكان جميع الذين من حوله، على المصاطب وفي المساحات العارية من قاعات المستشفى المتعدِّدة وعليهم هيئة التضرُّع، هم من أهالي المدينة وأغلبهم من السود، وكلّهم مثالٌ للاصطبار الهادئ، فحاول أن يقلِّدهم على الرغم من صعوبة الجلوس باستقامةٍ وقد أخذتْ حنجرته تؤلمه من الكبت.

 وكانت نتائج فحوصه تتقاطر من مصادرها. ولا بُدَّ أنَّ الطبيب الشابّ أشقر الشعر في حفلته الآن. وتخيَّل كارسون صليلَ الملاعق، والشموع، والنساء عاريات الأكتاف ـ عالم الولائم المنزليّة الذي غادره منذ وقت طويل.

 وقبيل منتصف الليل سُمح له أن يخلع ملابسه مرَّة أُخرى، ويأوي إلى فراشٍ في قسمٍ أشبه ما يكون بقسمِ حفظِ الحالات الطارئة في المستشفى. وكانت تحيط به ستائر بيضاء، ولكن ليس بدون ضوضاء. ورقد، في السريرَين المحيطَين به من الجانبين، رجلان تجمعهما أشياء مشتركة كثيرة على ما يبدو، إذ كانا يئنان ويغنيّان أغنيات لا لحن لها. وعندما يزورهما الأطباء كانا يتوسّلان إليهم للسماح لهما بالخروج من المستشفى ويعِدان بأن يكونا مستقيمَين من الآن فصاعداً. وبعد وهلةٍ جاء من أحد جانبيه صوتُ تقيؤ دافق، مثل تقيؤ قطّة بعد أن أكلت طيراً بعظامه وبأكمله، وفي الجانب الآخر كان الأطباء يحاولون إدخالَ أنبوبٍ في أنف الرجل. أما هو فكان يخضع للفحص في فتراتٍ متباعدة. وطمأنتْ هذه التحرُّكات كارسون إلى أنّه استطاع الدخول في شلّة المعترف بهم من الرجال المحطَّمين. وهدَجَ نحوه طبيبٌ شابٌّ آخر، لا يذكّره بابنه، وإنّما يذكّره أكثر بمساعد المحامي الماكر، الذي كان يعيش مع ابنته، والذي يشكّ كارسون في أنّه هو الذي أوحى لابنته بكتابة تلك الرسالة التي تتبرَّأ فيها منه وإرسالها إليه بالبريد. وبعد أن وخز الطبيب الجديد بطنه بإصبعه بضع مرّات، هزَّ كتفيه وانصرف. ثم أتته طبيبةٌ لها شعر أسود في الأربعينيّات من عمرها، وحدقت في وجهه بتسلية عميقة. وكانت تتحدَّث بلهجة أجنبيّة، أقرب ما تكون إلى اللغة السلافيّة، وقالت: " أنت لا تحتمل كثيراً؟"

فقال ناعقاً: "أحتمل؟" وأدرك لماذا يلجأ العبيد إلى التهريج.

 وضغطتْ بإصبعها على بطنه بشدّة في عدّة مواضع. وقالـت: " يجب أن أكون قادرة على أن أفعل ذلك. وأنتَ يجب أن تقفز إلى السقف." ولم يفهم المقصود من كلامها بسبب لهجتها. فأخبرها قائلاً: "إنّ ذلك يؤلمني فعلاً." فقالت: "ليس بما فيه الكفاية." وحدّقت بصورةٍ حادّةٍ في عينيه، وكانت عيناها تغطيهما الظلال، وأضافت: " أظنُّ أننا سنجري فحوص دم أُخرى."

 ومع ذلك، فقد شعر كارسون أنّها إنّما تؤجِّل فعلَ شيءٍ ما كسباً للوقت. فقد تملَّكه إحساسٌ تسرَّبَ إليه، من وراء الستائر البيضاء، في أصواتِ الممرضات ورجال الشرطة وأقارب المرضى المزعجين، مفاده أنَّ شيئاً ما على وشكِ الوقوع بصدد حالته، ربّما زيارة هامّة. وأغمض عينَيه لما تخيّله مجرّد لحظة. وعندما فتحهما فوجئ برجُلٍ طويلٍ ينحني عليه ـ رجل طويل له هيئة أستاذ جامعيّ ويرتدي سترة صوفيّة غليظة مرقَّعة عند المرفقَين، وقميصاً مفتوح الأزرار، ونظّارة طبيّة بلا إطار تبدو أقلّ التصاقاً في وجهه من علامات الرأفة البادية عليه. وكان شعره قصيراً وممشَّطاً ومحفوفاً بالشيب بشكلٍ رائعٍ وفي وسطه فَرقٌ طبقاً لما كان شائعا أيام موضة كاميلوت. وبخلاف ما فعله الأطباء السابقون، فقد جلس هذا الرجل على حافة السرير الضيِّق، وكان صوته حنوناً ولمساته رفيقة. وقد شرح لكارسون وهو يجسُّ يده أنَّ الزائدة الدوديّة لديه قد تحرَّكت وتغيَّر مكانها فأصبحتْ خلف الأمعاء الغليظة، ولهذا يمكن أن تلتهب تماماً دون ردِّ الفعل الطبيعيّ الذي يصدر عن الزوائد الدوديّة الملتهبة.

 وتساءل كارسون في نفسه عمّا إذا كان هذا الطبيب قد أُخرِج من وليمةِ عشاء في هذه الساعة التي تجاوزت منتصف الليل، وهو يرتدي سترته وربطة عنقه اللتين يلبسهما في جميع الأوقات. وتمنّى كارسون أن يردَّ الجميل لهذا الطبيب، ولكنّه لا يستطيع ذلك وهو في وضعه السيئ، مستلقياً على ظهره شبه عارٍ. وتأمَّلَ الطبيبُ، وعلى شفتَيه ابتسامة خفيفة، وجهَ كارسون كما لو كان يحاول فكَّ لغزه، فحملق كارسون في الطبيب وعلى وجهه توسُّلٌ وأملٌ عاجز، وظلَّ صامتاً مثل كلبٍ لا يمكنه إلا أن يعوي أو ينشج. لقد كان مرهقاً بسبب حالته الطارئة والألم في أحشائه، كما كان مُتعَباً خلال الاثنتي عشرة ساعة التي سبقت ذلك.

 ـ "أود أن أجري لك عملية." قالها الطبيب بلطف، كما لو كان يتقدَّم باقتراح قد يرفضه كارسون.

 قال كارسون: " آه! نعم، تفضَّل. ومتى؟" وكان مدركاً أنَّ هذا الطبيب في صحّة جيدة ولا بُدَّ أنَّ له منزلاً يليق به وأسرة وحياة اعتياديّة على الرغم من الاضطرار للعمل في أوقات مزعجة وبيئة مؤلمة، وقد اعتاد على ذلك.

 ـ" متى؟ الآن حالاً." هكذا كان جواب هذا الطبيب في لهجة استغراب، ثمَّ وقف وخلع سترته، كما لو كان سيشترك بصورةٍ مفاجئةٍ في حدثٍ رياضيٍّ مبتكرٍ ممتع.

 لعلَّ كارسون تصوَّر حركة الطبيب فقط، لعلَّه فكّر في كلمة (الرحمة)، أو أنّه فاه بها فعلاً، فقد سارت الأمور بسرعة بعد ذلك. وعاد الطبيب الماكر الذي يشبه مساعد المحامي وقد أصبح الآن أكثر رِفقاً بعد أن حاز كارسون على ترقيةٍ في مكانته، وطلبَ منه أن يستدير على أحد جنبَيه، ثمَّ غرز إبرة في وركه. ثم تولّى ممرضان خلاسيان نقله برفقٍ من السرير إلى طاولة طويلة متحرِّكة على عجلاتٍ ناعمة، وراحت الستائر البيضاء، والوجوه، والأضواء، وعوارض الأبواب المعدنيّة تجري أمام ناظرَيه. وأُدخِل كارسون، بدءاً برجلَيه، في غرفةٍ متوهجة الأضواء عَرف أنّها غرفة العملياّت لكثرة ما رأى مثيلاتها في الأفلام. وكانت فيها مجموعة من الشبّان الملثَّمين، وهم يدردشون كما لو كانوا في حفلةٍ من الحفلات. وقال كارسون في نفسه متعجّباَ: "ما أكثركم!" وكان سعيداً جداً، إذ توقََّف ألمه لتوّه. ونقلوه من الطاولة المتحرِّكة إلى منضدةٍ مبطَّنة ضيّقة وعالية، وأُفرجت يداه على مسندي المنضدة ورُبطتا بإحكامٍ إليهما، ونُغِزت معصماه. ووضِعت قطعة من المطاط المنفوخ على وجهه كما لو كانوا يجربون ملاءمتها له. وحاول أن يُطمئِن الفريق الطبيّ الملثَّم ويقول إنّه غير خائف، وينتزع إعجابهم بـ "الفتى الشهم" الذي هو هو، وأن يطلب من شخصٍ ما أن يلغي مواعيده ليومِ غد.

 ومن مكانٍ يكتنفه الغموض وفي لحظةٍ غير محدَّدة ، ظهر الطبيب الجراح نفسه، ولم يعُد مرتدياً سترة الصوف الغليظة وإنّما مريلة المستشفى ذات اللون الأخضر النباتيّ، وانحنى عليه بوجهٍ بشوش، ورفع إصبعاً صغيراً معقوفاً من إحدى يديه أمام عيني كارسون اللتين لم يستطيعا التركيز. وقال بصوتٍ يخرج مع أنفاسه:

 " بغلظ هذه الإصبع."

فسأل كارسون، وهو يدرك أنّهم يتحدثون عن زائدته الدوديّة: " وما هو الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه؟"

وجاء الجواب المصحوب بموجة من الارتياح: " ليس أغلظ من قلم الرصاص."

فسأل كارسون: "ولكن متى كبرتْ؟" ولكنّه لم يتلقَّ جواباً، لأنّه دخل في مجال الأمور الشخصيّة.

وقبل ذلك، كان كارسون قد وجد نفسه في غرفةٍ تحت الأرض تحتوي على عدَّة أعمدةٍ صاعدة. وسمع شاباً ضخماً يناديه: " ها، بوب! أفِق يا بوب. ابتسم لنا قليلاً. هذا هو الفتى، بوب!" كان هنالك آخرون ممددون إلى جانبه في سرداب الموتى، الذي تتدلّى من سقفه أنابيب شفّافة. وتلك كانت الأعمدة الصاعدة. وعلى بُعد ذراعٍ منه رجلٌ آخر ممدّد بلا حراك مثل تمثال أحد فرسان القرون الوسطى منحوت من الحجر على شكل صليب على قبر. وأدرك كارسون أنه حُشِر في نفق ـ وذراعه مشدودة بشريط المطاط المنتفخ ـ وأنّه خرج من نهاية النفق الأُخرى. " ها، يا بوب! أسرع، أعطنا ابتسامة، هكذا." وشعر بحاجة ملحة للتبوُّل، وكان سائل يتقاطر في ذراعه.

ولاحقاً، وبعد أن تبادل كارسون بضع كلمات رقيقة مع الجراح، وجد نفسه في غرفة مستشفىً عاديّة. وكان رجل قصير ذو وجهٍ ضيّق متكدِّر يستلقي في الفراش الذي بجانبه وهو يدخّن ويحدِّق في جهاز التلفاز. وعلى الرغم من أنّ الصورة متموّجة على شاشة التلفاز، فإنّه لم يسمع صوتاً صادراً منه. وقال كارسون للرجل: "مرحباً" وهو يشعر بخجل وتوجُّس كما لو كان في أحلامه قد عُقد قرانه على هذا الرجل.

وردَّ الرجل الآخر قائلا: "أهلا." دون أن يرفع عينيه من جهاز التلفاز، وسحب نَفَساً من سيجارته بصوتٍ مسموع، وقد بدا عليه الضجر واللامبالاة، وهما خصلتان من أزعج خصال زوجة كارسون السابقة له.

وعندما أفاق كارسون مرّةً أُخرى عند الغسق، وجد نفسه في غرفة أُخرى، غرفة خاصّة به وحده، وقد أخذت بطنه تؤلمه، وصار رأسه أخفّ مما كان. وأطلّ هلال صغير بارد في السماء من خلال الشبابيك المربّعة الموجودة في هذا الجناح الآخر من المستشفى، وبدا له الآن أنَّ وضعه في العالَم وفي الكون أصبح واضحاً بما فيه الكفاية. لقد بدأتْ فترة النقاهة.

وكان، في الأيام الخمسة التالية، غالباً ما يتساءل عن سرّ شعوره بالسعادة. لقد كان كارسون يخاف دائماً من الزائدة الدوديّة منذ طفولته، بعدما رأى عدداً من رفاقه في المدرسة يُحمَلون بسرعةٍ إلى المستشفى ثم يعودون وعلى الجزء الأسفل من بطونهم ندبة صغيرة. وأخيراً وقع المحذور وهو في العقد السادس من عمره، وشعر بأنّه قد تصرَّف بشجاعة وهدوء لا بأس بهما.

لم تكُن ندبته ذلك الشقّ الجانبيّ الصغير الذي كان يكشف عنه له رفاقه في المدرسة، وإنّما جرح كبير ملطَّخ بالدم ويمتدُ من السُّرّة إلى أسفل، لقد شقّوا في بطنه شقّاً واسعاً، كما شرحوا له، لأنّ مرضه، وهو في مثل ذلك العمر، يحتمل أن يكون أيّ شيء من القرحة إلى السرطان. وقد جعله عمق الفتحة التي شُقَّت في جسمه يرتجف دون أن يشعر. وتمَّ الكشف عن مستوراته أثناء العملية كذلك. فقد جرى "التعامل" مع خصيتَيه في إحدى مراحل العلاج، كما شرح له الطبيب بلطف. وحاول كارسون أن يتصور هذا "التعامل": كلآّب وكفوف مطاطية بيضاء وشيء أرجواني ثقيل، وكانت زائدته الدوديّة مرتدّة حقّاً ـ وتشكِّل حالته واحدة من الـ 10% فقط من الحالات التي ينطبق عليها هذا التشخيص. وقد أظهر الفحص المكروسكوبيّ أنّها أخذت تتشقق. وقلَّصتْ هذه الشروح اللاحقة ذلك الشيطان الموجِع الذي كان يحمله كارسون إلى مجرّد حقائقَ باردةٍ جعلته يشعر بالبراءة مما حصل، فقد كان قبل ذلك يشعر بشيءٍ من الذنب بسبب مرضه.

وتخلّى الجرّاح ذو الهيئة الأكاديميّة عن تلك الأُلفة المبالغ فيها التي لازمته عندما انحنى على كارسون وهو في ألمه وقرّر أن يتفحّص خصيتيه. إذ أخذ يمرّ عليه خلال قيامه بجولاته مروراً عابرا ليزوّده بتعليماته عن الأكل والمشي والذهاب إلى المرحاض ـ جميع الأشياء التي يحتاج كارسون إلى تعلُّمها من جديد. وظهر الأطباء الآخرون. فرجعت الطبيبة السلافيّة المبتهجة قليلاً، لتغيّر له الضمادات، وشعر كارسون أنّها تجذب اللفافات بحدّة لا لزوم لها. ووبخته قائلة بتهكم: "كنتَ شجاعاً بصورة خارقة" وهي تلومه على تلك الليلة التي أرادت فيها أن تأخذ منه دماً إضافيا لمزيد من الفحوص. ورجع الطبيب الشابّ المتهدج في مشيته الذي رآه في تلك الليلة، ولم يعُد فيه أي شبه بذلك المحامي الذي هجرتْه ابنة كارسون مفضِّلة عليه بنات جنسها. ثم رجع الطبيب الأشقر جدّاً، وتبيَّن وجود مجموعة من الأخصائيِّين في قسم التشريح الذي حلَّ به كارسون، ولهذا شعر بالأهمّيّة، مثل جيلفر الذي استقرّ في ليلبيت بغرض الاستطلاع. لقد قام جميعُ أولئك الأطباء بزيارته بصورة اعتياديّة وسارّة ـ مجرد مرّوا عليه مروراً عابراً ـ ولهذا فقد دُهِش كارسون ـ بعد أشهر ـ عندما وجد أنّ كلّ زيارة من تلك الزيارات قد سُجِّلت بتاريخها وساعتها في فاتورة خدمات المستشفى التي ُطبِعت على ورق بطابعة من نوع سنترونكس 739 القديمة، كما هو بادٍ للعيان.

لقد جعلته حياة المستشفى نفسها بتفاصيلها يشعر بالارتياح. فهناك السرير الأبيض المشدود الذي له ذراعا تحكُّم لرفع مرتبة الفراش وطيّها في أوضاع مريحة متعدِّدة. وهناك جهاز التلفاز المثبت في مكانٍ عالٍ أمامه، الذي يستجيب لمجموعة من الأزرار موضوعة في كفِّه مثل بندقيّة أثيريّة بريئة، فيستطيع ـ بدون أن يبذل أيَّ جهد ـ التجوُّل ذهاباً وإياباً في برامج الأخبار الصباحيّة، وبرامج المسابقات في الضحى، وآخر الأخبار ظُهراً، وبرامج المقابلات بعد الظهر، والأفلام الكلاسيكيّة التي يعاد عرضها مثل كارول بيرنت وأبطال هوغان في الليل. وعندما يغادر الزوّار القاعات ويعود الهدوء إلى المستشفى، يصير جهاز التلفاز ، بألوانه الراقصة وإشعاعه المتموِّج، رفيقاً أكثر مودّةً ودفئاً.

وقد شاهد كارسون، في أوّل أُمسية أمضاها في هذه الغرفة الغالية وهو ما يزال يترنَّح من أثر التخدير، شاهد شخصاً صغيراً أبيض، يسدِّد رمية كرة، كما لو كان يقوم بغرز إبرة بصورةٍ مفاجئة، ثم ينطلق جارياً في خطٍّ منحنٍ كبير نحو الهدف في الملعب الأمريكيّ، وتمثل له دخول الكرة في المرمى لذيذاً كأنّها تنفذ إلى أعماق نفسه. وضغط على الزر الذي يطفئ التلفاز في آلة التحكُّم الصغيرة، واستعمل زراً آخر ليعدّل من ميلان السرير، واستغرق في النوم ببساطةٍ مثل طفلٍ صغير.

كان يفضّل، في العادة، أن يتغطّى بأغطيةٍ كثيرة، أمّا هنا فإنّ غطاءً واحداً خفيفاً يكفي تماماً. ولم يكن يستطيع أن ينام على ظهره عادة، أمّا هنا، وبحكم الضرورة، فإنّه لا يمكنه أن ينام بوضعٍ آخر، فهو ينام على ظهره مع ميلان الجسم قليلاً لتخفيف الألم العموديّ في بطنه، في حين تظلّ ذراعه اليسرى إلى جانبه لتتلقّى السوائل المغذِّية (المصل) من أنبوب طوال الليل. كانت المصابيح مضاءة دائماً، وهمهمة الأصوات مستمرّة في القاعة، فالناس في هذا المكان لا يستريحون أكثر من الوالدَين بالقرب من مهدِ طفلٍ حديث الولادة.

وفي أغوار تلك الليلة التي حدثتْ فيها انطلاقة اللاعب نحو الهدف، أفاق كارسون على إثر لمسة على الجزء العلويّ من ذراعه اليمنى. فتح عينيْه، ووجد هناك، في طرف المكان، حيث توجد رافعة التلفاز المربَّعة، وجهاً أسودَ ناعماً يبتسم له، تلك هي الممرِّضة المكلَّفة بقياس ضغط الدم، ولمّا كان مصباح القراءة لم يُطفَأ في غرفته، فقد كان وجهها المستطيل الشكل مضاءً بصورةٍ غير مباشرة فقط، وهذا النوع من الإضاءة يشبه، من بعيد، إضاءة قطع الأثاث في غرفته في الفندق. ودون أن ينظر إلى العقارب المشعّة في ساعةِ يده الموضوعة على المنضدة الجانبيّة، عرف أن الوقت كان ساعة متأخرة من الليل حيث يزور اليأس الرجال، وحين يتقلّب الأرق في بحرٍ من الصمت، وحين يريد العاطلون عن العمل والمفلسون أن يصرخوا ليحطّموا حساباتهم الملحّة، وحين يتقلّب العشّاق المُحبَطون من أحلامٍ غراميّة إلى ملاءاتِ فُرشٍ خالية، وحين يستفيق الجنود فجأةً على الطعم المرّ للمعركة الوشيكة الوقوع. أيقظتْه الممرضة بلمستها في ساعة الخلوة النهائيّة تلك. ولم يكُن هناك سوى غطاءٍ خفيفٍ يغطّي جسده في الغرفة الدافئة الخافتة الضوء. ونفخت الممرضة أنبوباً بلاستيكيّا حول ذراعه، ثم فشّته، ثم نفخته مرةً أُخرى. ووضعتْ في فم كارسون واحداً من القُطع البلاستيكيّة التي صارت تعوّض المحرار الزجاجيّ، وبينما كانت في انتظار تسجيل درجة حرارته بأرقام إلكترونيّة على آلةٍ مربوطة في خصرها، أخذتْ تدندن بلحنٍ غنائيٍّ صغير، كما لو كانت تُخفي جمالها بطريقةٍ مرحة، ذلك الجمال الذي أصبحت النساء اليوم يعتبرنه عدوّاً، وعبئاً، وسبباً في جلب التحرُّشات. وفكّر كارسون في ابنته.

وعلى الرغم من أنّ ممرِّضاتٍ عديدات اعتنين به، وتمكَّن من تجاذب أطراف الحديث معهن حتّى في الساعة الرابعة صباحاً بعد أن استعاد قوَّته، فإنّ هذه الممرِّضة بعينها، وبوجهها التامِّ السواد المتناسق الملامح مثل شمسٍ تحيط بها هالةٌ بعد أن أصابها الكسوف، لم تعُد إليه بتاتاً.

وحثَّ الطبيبُ الجراحُ كارسون على المشي قائلاً: " انهضْ وامشِ حالما تستطِع ذلك. حرّكْ جسدكَ، فقد اتّضح أنّه ليس المرض الذي يقتل كثيراً من الناس في المستشفيات، وإنّما الاضطجاع في السرير وترك الرئتَين تمتلئان بالسوائل."

كان المشي يقتضي أن يقوم كارسون بدفع حامل أنبوب المصل المغذِّي وما يرافق ذلك من خشخشةٍ وإرباكٍ بسبب طول الأنبوب. ويحتاج ذلك إلى مهارة خاصّة لتمرير عجلات الحامل على العقبات المعدنيّة المرتفعة في أرضيّة المَمرّ المُغطاة، وذلك بأن يضع اليد اليسرى على نقطة التوازن التي بدت له مثل خصر المرأة ثم يديرها بعيداً عن طريق مريض آخر يتنزّه مع رفيقته المعدنيّة الطويلة. وتعلَّم كارسون عن طريق ملاحظة المرضى الآخرين حيلةَ انتزاع كيس المصل المغذِّي ثم إعادته بإدخاله تحت كُمّه وتعليقه في مكانه، لكي يستطيع إحكامَ إغلاقِ مريلته. وكانت خطواته الأولى بنعله الإسفنجيّ الطحلبيّ الخضرة الذي زوَّده به المستشفى، محدودة وهشّة، ولكن بمرور الأيام ازدادت مشياته طولاً: حتّى نهاية الممرّ حيث تطلُّ شبابيك غرفة الانتظار على وسط المدينة البعيد، وهناك يوجد سُلّمٌ، مبنيٌّ من الإسمنت والحديد، يكاد يكون جديداً لم يُستعمل. ويقود هذا السلَّم بعد الهبوط فيه أربعة طوابق إلى السرداب، كما يؤدّي صعوداً ستة طوابق إلى السطح ذي الباب المقفل، ثم العودة هبوطاً طابقَين إلى غرفته. وكان كارسون مطيعاً للتعليمات ويسحب رِجلَيه وهو لابس رداءَ الحمّام ونعله الإسفنجيّ الذي أصبح الآن بالياً.

وكان يشعر بالسعادة الخالصة في هذا الجناح من المستشفى الذي يخلو من الناس والذي يردِّد الصدى، إذ لا يراه ولا يعرفه أحدٌ هناك. وأخذ جرس الهاتف يرنُّ في غرفته. لقد رجع رئيس الشركة إلى نيوجرسي، واتَّصل هاتفياً مراراً، ليواسيه أوّلاً، ثم ليخطِّط لتعويض المقابلات التي فاتت كارسون بطريقةٍ لا تؤدّي إلى إنفاقِ مصروفاتِ رحلةٍ إضافيّة. وهكذا كان كارسون جالساً في فراشه الذي يمكن التحكُّم في وضعيّته، وهو يقوم باتصالاتٍ هاتفيّة بالموظَّفين المعنيِّين، متحدِّثاً بنبرةٍ لا يُستَشَفُّ منها الضعف. لقد أعربتْ شركة مكافحة التلوُّث عن اهتمامها بجهاز التخطيط الملوَّن، فبعث إليهم كارسون بالمطويّة البرّاقة التي أصدرتها شركته عن أحدثِ نظامٍ أنتجته (درجة ثبات تصل إلى 640 نقطة في السطر الواحد، و 536،65 لوناً متجانساً، وذاكرة صوريّة تصل إلى 256 كيلو بايت). وحضرت لزيارته الكاتبة من الشركة الأخرى التي كانت قد اتصلتْ به هاتفيّاً قبل خمسة أيام وتحدَّثت معه بتعاطف واضح. وتبيّن أنَّ لها ملاحة وجه نافرة، وشعراً مجعّداً مصبوغاً، وبقايا سمرة خلّفها تلويح الشمس لها على المسبح، وساقَين نشيطتين واظبتْ على وضع إحداهما فوق الأُخرى في حين كانت تروي قصّة طلاقها ـ النقود، والأطفال، والعودة إلى العمل بعد سنوات من الاسترخاء في منزلها في ضواحي المدينة. " دعني أقول لكَ إنّني لم أستطع أن أكون واحدة منهنَّ، أولئك النسوة اللواتي يتغنّين بمباهج الانضمام إلى القوى العاملة. هنيئا لهنَّ بذلك." وكانت هذه المرأة تدخِّن كثيراً جدّاً، وتنفث الدخان من منخرَيها، وتطفئ عِقب كلِّ سيجارة في غطاء علبة جلبته معها في كتاب الجيب الذي كانت تحمله. لقد نظَّم كارسون وقته بعد الظهر بعناية، فقسَّمه إلى أقسام متساوية، كلُّ قسم منها لمدّة نصف ساعة: السلّم ثلاث مرّات صعوداً وهبوطاً، وزيارة صالة الانتظار حيث يتسلّى في حلّ الكلمات المتقاطعة، ثمَّ الذهاب إلى المرحاض عندما تسمح بذلك خصيتاه اللتان عولجتا، وأخيراً التلذُّذ بالانهماك في قراءة العدد الأخير من مجلة (بايت) الشهريّة، وآخر الأهداف التي سُجلت في لعبتي الكركيت والبيسبول يوم الأحد. ولكنَّ هذه الزائرة قضت على جميع تلك الخطط ذلك اليوم كما قضت على العديد من السجائر. ثم اتّصلتْ به زوجته السابقة هاتفيّاً، وعلى الرغم من أن هذه المرأة قد أصبحت مرحة وتزوَّجت مرَّة أُخرى، فإنَّ صوتها وهي تخاطبه كان يحمل نبرة السخريّة منه واللوم، كما لو كان هبوطه في مدينة غريبة والتهاب زائدته الدوديّة مثالاً آخر على حماقته المقصودة، تماماً مثل تركه لها أو توقُّفه عن تدريس الرياضيات في مدرسة إدارة الأعمال ـ وجميع تلك الاتهامات المملّة. واتّصل به هاتفيّاً، وعلى حسابه هو، ابنه من المكسيك يوم الأحد، وكان صوته يبدو قريباً وكلامه تتخلَّله فتراتُ صمتٍ بصورة تنذر بالشرّ، وكانت فتراتُ الصمت الطويلة المربكة بين الأب وابنه في هذه المكالمة الهاتفيّة تأكل الدولارات أكلاً. ولم تهاتفه ابنته أبداً، وهذا يدلّ على شهامتها وحبّها له. فهي وكارسون يعرفان أنّ ليس ثمة طريقة تمكِّننا من تمويه شعورنا العميق بالوحدة.

وجدَ أنّه بعد أن أمضى ساعةً في غرفته وفراشه انتابه الحنين إلى السُّلّم. في البداية كانت الطوابق جميعها متماثلة، ولكنّه اكتشف الآن وجود اختلافاتٍ خفيّةٍ بينها ـ أثر قديم لأصباغ أُريقت على درجات السلّم في أحد الطوابق، ومجموعة أرقام كتبها أحد العمال بالطباشير على جدارٍ في طابقٍ آخر، وبقع مائيّة وشقوق في مساحة من الجبس الأصفر في طابق ثالث وليس في بقيّة الطوابق. وفي الأسفل، هنالك سلّة مهملات بلاستيكيّة وباب أحمر كُتِب عليه بخطٍّ كبير تحذيرات تنبّه إلى عدم ضغط الزرّ إلا في حالة الخطر فقط. وفي الأعلى يوجد باب حديديّ عاديّ، بلا مقبض ولا شباك، يحول دون الدخول . وكانت الأبواب في الطوابق الوسطى تطلّ على مدخل غريب، مثل منصّة معلَّقة خارج الباب، يؤدّي إلى أقسام المستشفى الفعليّة، وهنالك حواجز إسمنتيّة تمنع القفز فوقها أو السقوط منها كما تمنع الرؤية الكاملة، ولكنّها تسمح بمرور الهواء البارد وتتيح رؤية جزئيّة للمدينة تحتها.

أما الأرض المجاورة للمستشفى فإنّها منبسطة وعاديّة ـ ربع فدان من منازل فسيحة بُنيت منذ زمنٍ بعيدٍ يكفي لذهاب نضارتها، ولتحلّ محلّها علامات التداعي والانقراض. وكان حائط المستشفى يمتدُّ إلى ما وراء السلَّم المطلّ على تلك المنازل ويحجبها ما عدا فسحة من الأرض تشتمل على ساحات في إحداها درّاجة ثلاثيّة العجلات ملقاة في أحد جوانب الساحة، وفي الأُخرى تمثال مصبوغ للعذراء وجدران من الباستيل بحاجة إلى صباغة، كما تظهر سطوح منخفضة مغطّاة بالحصى ـ كلُّ ذلك يُشكِّل لعيني كارسون نوعاً متهرئاً من منظر بلدة صغيرة، ولكنّها هنا ضمن حدود المدينة. لم يرَ أبداً شخصاً يسير على الأرصفة العريضة للشوارع، وثمّة قليل من السيّارات التي تتحرَّك في الشارع حتّى في وقتِ عودةِ الموظَّفين إلى منازلهم. وكان الأقرب والأبرز إلى نظره كومةٌ من ألواحٍ خشبيّة بالية، وأنابيب صدئة، ومستودع مغطَّى بغبار أبيض ومملوء بالجبس والمعدّات ما ينمّ على مرحلةٍ جديدةٍ من البناء نتيجةً لتوسُّع المستشفى. وكان بعض الرجال يأتي أحياناً لإضافة أشياء إلى القمامة أو إلقاء ألواح خشبيّة بصوت عالٍ، وكانت تلك الأشغال تبدو غير منظَّمة، وتتوقَّف أيام العطل الأسبوعيّة.

إنّ المنطقة السكنيّة الكالحة اللون، والأنقاض المتجمِّعة التي رآها كارسون من خلال أسياخ السياج الإسمنتي والتي لم تكُن تسمح له برؤية عريضة، أعطته، مع ذلك، الانطباع بوجود واقعٍ حقيقيّ واضح، زاخر، رطب، داكن. الحياة كانت هي الحياة. والعالَم، هذا هو العالم. وعندما كان لا يزال غير قادر على صعود السلّم وكان يصطحب حامل المصل بجانبه ـ جاء أوّلاً إلى هذا الطابق، وكان مجرّد فتْح الباب يتطلَّب منه جهداً. وكان الهواء الخارجي يتسرَّب إلى جهازه التنفسيّ، الذي كان ما يزال تحت تأثير الأدوية، مثل قُبلة عنيفة كاسحة، كان ذلك الهواء هواءَ مطلع الخريف الذي يمزج الصيف بالشتاء، الكرة المستطيلة بكرة البيسبول، هواء ناشف بارد ومع ذلك فيه كدر وليس نقيّاً بسبب التوسُّع. وقد سمع كارسون ذات مرّة ضوضاء تصله من بعيد صادرة من آلة قطع الخشب. وحتّى اليوم الذي سُمح له بمغادرة المستشفى، كان يأتي إلى هنا في الظلام ويتكئ على الحاجز الإسمنتيّ ويتنفّس، محاولاً أن يستوعب في أعماقه معجزة العالَم؛ ومحاولاً أن يُعيد برمجة نفسه كسابق عهدها لتندمج بالحياة مرّةً أُخرى ـ وكان يحسّ بالهواء البارد على مرفقَيه المكشوفتَين، ويرى نفَسه يخرج كالبخار المرئيّ، ويشعر بخصيتَيه تستقرّان بجوارِ ألمِ النقاهة.

واستقلَّ سيّارة أجرة إلى المطار مباشرة، ولم يرَ من المدينة إلا معالمها التي لاحت له عن بُعد حين مرّ بالطريق السيّار وبتقاطع الطُّرق الزاخر بالسيّارات. وبعد إقلاع الطائرة انتشرتْ تحته المدينةُ مثل خريطةٍ ثمَّ اختفتْ. ومع ذلك فإنّه عندما فكَّر في أصوات المزارعين، وناطحات السحاب البعيدة، وزيارات الممرِّضات الليليّة، والأطباء، والمنازل الملطَّخة التي لا تثير أيَّ انتباه، وعشرات الوجوه التي ارتفعت مع الألم إلى سطح مُخيَّلته، بدا له أنّه توصل إلى معرفة المدينة عن كثب. كانت المدينة مثل امرأةٍ التقى بها في حانةٍ خلال إحدى رحلاته الأُخرى، ودفع لها، فوهبت نفسها دون أيِّ حديثٍ تمهيديّ.

 

 

 

في المثقف اليوم