قراءات نقدية

مفيد خنسة: قراءة في قصيدة ربيع بلون السماء لصالح الهنيدي

مفيد خنسة(ربيع بلون السماء) / صالح الهنيدي

سيأتي الربيع

يفتّش عنك

يعيد انهمار السؤال القديم

إلى أين تمضين؟

أين المسير؟

وأين انقضاء الطريق الطويل؟!

رحلتِ

وما زلتُ في غصة الوجد

أركض في واحة المستحيل

(2)

يظل النهار بلا شمسه

ويشتاق عمري إلى أمسه

أفتش في دفتر العمر عنك

كحرف تساقط بين السطور

(3)

ويأتي الربيع

يعيد انتظام الزمان الجميل

يراقص أشجاننا

كي يخف العويل

أمانيك مغروسة

في تراب النقاء

سيمضي الزمااااان ويشمخ

في راحتيها البقاء

(4)

ويأتي الربيع

يردد أنشودة الحزن

يسحق أهزوجة كالهديل

نقاوم آهاتنا لحظة

ويعتصر اليأس أفراحنا

ونسمق من بأسنا كالنخيل

(5)

ويأتي الربيع

يصوغ ملامحنا

سحنة من عبق

يشكلنا في احمرار الشفق

وفي زرقة البحر

حين انفلق

يصورنا كيفما يشتهي

ويرسمنا في إطار جميل

(6)

ويأتي الربيع

بلون السماء

يحطم أمثولة الكبرياء

يزلزل وهم الكراسي

العظيمهْ

فتسقط كل المآسي الجسيمهْ

رويدك يا أيها السامري

سينسف عجلك في اليم نسفاً

ويعصف بالذل والهم عصفا

وسوف تذوق انهياراً وخسفا

لأن دماء الشعوب

وقودٌ ولا تعرف

ا ل م س ت ح ي ل]

***

للفصول مناخاتها، وتدرجات حرارتها، فيها تتوالى الأيام وتتعاقب صفاتها، وفيها تتجلى الطبيعة على اختلاف مظاهرها، فالفصول حلل السنة على امتداد الزمان، وهي دلالات انقسام الأقواس على تمام دورة المسار، والفصول عند الشاعر لها معانيها ودلالتها، حيث تتجلى بالرموز التي يحلو له أن يوظفها كي يستتر المعنى في ظلال اللغة، وللفصول ألوانها وموسيقاها ورموزها وعلاماتها، أما الربيع لدى الشاعر صالح الهنيدي فله لون السماء، اللون الأزرق الذي تتعدد دلالاته ومعانيه، الأزرق الذي يعني لون السماء والبحر فهو يشير إلى الخيال الواسع والإلهام، وهو رمز الطاقة والإثارة، إنه رمز الهدوء والسكينة، إنه رمز الثقة والقوة، وهذه الصفات لعلها مشتركة بين السماء والماء وهي مشتركة بينهما وبين الربيع، أما كيف تتجلى من وجهة نظر الشاعر هذا ما سأحاول دراسته من خلال قصيدة الشاعر السعودي صالح الهنيدي بعنوان (ربيع بلون السماء) التي حملت عنوانها مجموعته الشعرية.

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(سيأتي الربيع

يفتّش عنك

يعيد انهمار السؤال القديم

إلى أين تمضين؟

أين المسير؟

وأين انقضاء الطريق الطويل؟!

رحلتِ

وما زلتُ في غصة الوجد

أركض في واحة المستحيل)

يبين هذا الفرع الصورة التي سيأتي عليها الربيع وعقدته (سيأتي الربيع) وشعابه الرئيسة هي: (سيأتي الربيع) و(يفتّش عنك) و(يعيد انهمار السؤال القديم) أما شعابه الثانوية فهي: (إلى أين تمضين؟) و(أين المسير؟) و(وأين انقضاء الطريق الطويل؟!) و(رحلتِ) و(وما زلتُ في غصة الوجد) و(أركض في واحة المستحيل).

في المعنى:

الأسلوب في الفرع كما هو واضح خبري وإنشائي، وفي الأسلوبين يتجلى الربيع كرمز أساس في القصيدة بشكل عام وفي هذا الفرع بشكل خاص، فقوله: (سيأتي الربيع) يتضمن توكيداً لحدوث الفعل، وفعل مجيء الربيع مسلم به، لأنها حقيقة زمانية، إذ لا بد من تعاقب الفصول فيأتي الربيع، ولكن هل يقصد الشاعر ذلك المجيء الزماني وحسب؟!، هل يقصد بالربيع تلك الفترة الزمنية من السنة التي تحدد هذا الفصل؟،أم أن توكيد المجيء ليس هو المقصود بحد ذاته إنما يبين هدف الشاعر من هذا التوكيد قوله: (يفتّش عنك)، واستخدام الفعل (يفتش) يفيد في أنها غائبة في مكان غير معلوم، فلو كان الربيع يعني الزمان الفيزيائي لما صح المعنى هنا، إذ لا شيء خارج الزمان، لنستدل أنها غائبة عن الشاعر نفسه الذي يمكن أن يكون قد تعرف إليها في ذلك الربيع، ومجيء الربيع بالنسبة للشاعر هنا يعني عودة حضورها في ذاكرته ومخيلته من خلال الأثر الذي خلفته خلال ذلك الربيع، وهنا لنا أن نسأل، لماذا استخدم الشاعر فعل (يفتش) ولم يستخدم فعل (يبحث) مثلاً؟ لنستدل من هذا التساؤل النقدي أن (البحث) إنما يكون عن شيء مفقود من دون اليقين بوجوده، أما (التفتيش) عن الشيء يكون في حالة عدم اليقين من وجوده، فقد يكون موجوداً وقد يكون غير موجود، وذلك في الحيز المكاني الذي يتم البحث فيه، وهذا ما توحي به الجملة الشعرية (يفتش عنك) أي الربيع الذي استخدمه الشاعر رمزاً للأثر الوجداني الذي تركته في نفسه وقلبه وعقله في ذلك الربيع ليس على يقين من وجودها في هذا الحيز المكاني أو عدم وجودها، وفي الحالتين لا بد له من التفتيش لأن كل شيء في الربيع يستحضر ذكرى حية في وجدانه لها، وقوله: (يعيد انهمار السؤال القديم) أي كما كان يحصل في عوداته السابقة بإلحاحه في السؤال عنها، فالانهمار يشير إلى السرعة والاستمرار في السؤال عنها، أما كلمة (القديم) فذلك يعني أن معرفته بها قديمة، ومن هنا سيتولد معنى احتمالي جديد، وهو أن الشاعر قد بقصد بها شيئاً غير الأنثى، أي غير المحبوبة، وهذا ممكن ويصح أن يكون أحد المحمولات الدلالية للتركيب الشعري(يعيد انهمار السؤال القديم)، ماذا لو كان يعني الحرية؟، أو ماذا لو كان يعني الغاية والهدف والمصير؟ فلعل هذا التفكير النقدي مع الاستمرار في بسط القصيدة وتحليلها إلى مكوناتها الأساسية يساعدنا في التحقق من المعنى على اختلاف مستوياته، وقوله: (إلى أين تمضين؟) يشير إلى أنها مازالت مستمرة في المضيّ والغياب، وهو مازال مستمراً في السؤال، وقوله: (أين المسير؟) يشير إلى أنها ما زالت في حالتها المستمرة في المسير ولكن من دون أن يعرف المكان الذي تسير فيه، وقوله: (وأين انقضاء الطريق الطويل؟!) أي يتساءل في أي الأمكنة التي سينقطع فيه هذا الطريق الطويل الذي تسير عليه، إذا ثلاثة أسئلة ملحة متكررة وكلها تتعلق بالمكان لاستخدامه اسم الاستفهام (أين)، وما دام على جهل بالمكان الذي توجد فيه فهو يقول: (رحلتِ) أي أنها غادرت، وقوله: (وما زلتُ في غصة الوجد/ أركض في واحة المستحيل) أي منذ ذلك الرحيل وهو يجري بحثاً عنها وقد قهره الشوق وكواه الغياب والبعاد، وقد استحال العثور عليها،.

الصورة والبيان:

مع استخدام الرمز في هذا الفرع تحضر الصورة البيانية، فقوله: (سيأتي الربيع) استعارة، وقوله: (يفتش عنك) استعارة، وقوله: (يعيد انهمار السؤال القديم) استعارة، وقوله: (وما زلتُ في غصة الوجد) استعارة، وقوله: (أركض في واحة المستحيل) استعارة، ويصبح التركيب الشعري (وما زلتُ في غصة الوجد/ أركض في واحة المستحيل) صورة شعرية ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين معاً .

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(2)

(يظل النهار بلا شمسه

ويشتاق عمري إلى أمسه

أفتش في دفتر العمر عنك

كحرف تساقط بين السطور)

يبين هذا الفرع صورة الغياب وعقدته (يظل النهار بلا شمسه) وشعبتاه الرئيستان هي: (يظل النهار بلا شمسه) و(ويشتاق عمري إلى أمسه) أما شعبتاه الثانويتان فهما: (أفتش في دفتر العمر عنك) و(كحرف تساق بين السطور).

في المعنى:

هذا الفرع يرتبط ارتباطاً عضوياً بالفرع الأول، فالشاعر الذي أمضى هذا الزمن الطويل في البحث عنها في غصة وحرقة بقي يعاني من هذا الرحيل المرير، فقوله: (يظل النهار بلا شمسه) يبين أن المعنى المعجمي للجملة هنا لا يستقيم، لأنه لا معنى للنهار من دون شمس، لا بل لا يمكن وجود النهار من دون شمس، و(الشمس) هنا رمز دال على التي رحلت، ومنذ ذلك الرحيل بقي نهاره من غير ضيائها، وقوله: (ويشتاق عمري إلى أمسه) أي يشتاق إلى أيام الأمس حين كانت تملأ حياته حباً وسعادة وأملاً، وقوله: (أفتش في دفتر العمر عنك) أي يبحث عن تلك الذكريات الجميلة من عمره والتي قضى معها خلالها وقتاً ممتعاً وجميلاً، وقوله: (كحرف تساقط بين السطور) أي يبحث من دون جدوى، لأنه يبحث عنها كمن يبحث عن حرف ضاع بين السطور، والمعنى هنا مرتبط بالرمز.

الصورة والبيان:

الشمس في هذا الفرع ترمز إلى تلك التي رحلت، ويصح أن يكون اسمها مشتقاً منها، فقوله: (ويشتاق عمري إلى أمسه) استعارة، وقوله: (أفتش في دفتر العمر عنك) استعارة، وقوله: (كحرف تساقط بين السطور) استعارة.

الفرع الثالث:

يقول الشاعر:

(ويأتي الربيع

يعيد انتظام الزمان الجميل

يراقص أشجاننا

كي يخف العويل

أمانيك مغروسة

في تراب النقاء

سيمضي الزمااااان ويشمخ

في راحتيها البقاء)

يبين هذا الفرع صورة الحضور وعقدته (ويأتي الربيع)، وشعابه الرئيسة هي: (ويأتي الربيع) و(يعيد انتظام الزمان الجميل) و(يراقص أشجاننا) أما شعابه الثانوية فهي: (كي يخف العويل) و(أمانيك مغروسة / في تراب النقاء) و(سيمضي الزمااااان) و(ويشمخ في راحتيها البقاء).

في المعنى:

الأسلوب خبري، وفي هذا الفرع يتجلى حضور الربيع في الذاكرة والوجدان، فقوله: (ويأتي الربيع) فيه عطف وتأكيد على أن الربيع الذي قضاه برفقتها ومعها يأتي كلما أتى فصل الربيع، وقوله: (يعيد انتظام الزمان الجميل) أي مع مجيء فصل الربيع ينتظم لديه الوقت بحضورها في قلبه ووجدانه مع كل صورة من صور الجمال في الطبيعة التي يجددها الربيع بمجيئه البهي، وقوله: (يراقص أشجاننا) أي إنه يوقظ الحزن المقيم في الوجدان، ويستحضر الألم المقيم في الأعماق ويجعله حياً كما عاشوه فيما مضى من العمر، وقوله: (كي يخف العويل) أي إن الربيع يفعل ذلك كله من أجل أن يخفت أصوات التفجع والصراخ والنحيب، وقوله: (أمانيك مغروسة / في تراب النقاء) أي الأمنيات راسخة في طينة نقية تقية طاهره، وقوله: (سيمضي الزمااااان ويشمخ / في راحتيها البقاء) أي مع مرور الزمان وتعاقب مجيء فصل الربيع ستنبت تلك الأماني في راحتيها وتستمر في البقاء ما دامت الجذور ممتدة إلى الأعماق.

الصورة والبيان:

الصورة الشعرية في القصيدة من أهم سماتها، فقوله: (يأتي الربيع) استعارة، وقوله: (يراقص أشجاننا) استعارة، وقوله: (ويشمخ / في راحتيها البقاء) استعارة.

الفرع الرابع:

يقول الشاعر:

(ويأتي الربيع

يردد أنشودة الحزن

يسحق أهزوجة كالهديل

نقاوم آهاتنا لحظة

ويعتصر اليأس أفراحنا

ونسمق من بأسنا كالنخيل)

يبين هذا الفرع صورة الحضور للربيع وعقدته (ويأتي الربيع) وشعابه الرئيسة هي: (ويأتي الربيع) و(يردد أنشودة الحزن) و(يسحق أهزوجة كالهديل) و(ويعتصر اليأس أفراحنا) أما شعبتاه الثانويتان فهما: (نقاوم آهاتنا لحظة) و(ونسمق من بأسنا كالنخيل).

في المعنى:

الصيغة في القول الشعري في هذا الفرع جماعية، لقوله: (نقاوم، آهاتنا، أفراحنا، بأسنا) وهذا يشير إلى أن رمز (الربيع) لا يقف عند حدود الذاتي الذي يتعلق بالشاعر وذاته الشاعرة إنما يمتد ليعني الجماعة، وقد يتسع ليشمل الوطن والأمة لا بل والإنسانية كلها، فالنص الشعري كما نرى هو الذي يقدم إمكانات التعدد الدلالي فيه، وهو الذي يخزن المضامين التي تستدعي سبر معانيها، فقوله: (ويأتي الربيع) يتضمن توكيداً واقعياً لتلك العودة، بالإضافة إلى الصورة الجديدة لهذا المجيء، وقوله: (يردد أنشودة الحزن) أي يعيد فتح الجروح والهموم والمآسي، يعيد الأحزان التي تعاني منها العامة من الناس، وقوله: (يسحق أهزوجة كالهديل) أي يمحو أنشودة الفرح التي يطلقها المستضعفون من أجل رفع الظلم عنهم، دعاة السلام كالحمام، ذلك الربيع العائد الذي يفترض أن تعلو فيه مثل هذه الأهازيج التي تعبر الفرح بالغد الجميل القادم، نرى صورة حضوره هنا بشكل مخالف، وقوله: (نقاوم آهاتنا لحظة) أي فتكون ردة الفعل بالصبر ومقاومة أسباب الحزن والألم والظلم الذي يطغى، وقوله: (ويعتصر اليأس أفراحنا) أي يواجهون صورة الواقع التي يعود فيها الربيع بالصبر حيناً، ثم باليأس من تحقيق الحلم بالأفراح التي يبشر بها الربيع الحقيقي، وقوله: (ونسمق من بأسنا كالنخيل) أي يبقى الإصرار على انبثاق الأمل وتجدد الأمل بحياة أفضل كالنخيل الذي يستمر بالارتفاع والسمو والعطاء في رحاب تلك الصحراء القاحلة.

الفرع الخامس:

يقول الشاعر:

(ويأتي الربيع

يصوغ ملامحنا

سحنة من عبق

يشكلنا في احمرار الشفق

وفي زرقة البحر

حين انفلق

يصورنا كيفما يشتهي

ويرسمنا في إطار جميل)

يبين هذا الفرع صورة الربيع في الحياة وعقدته (ويأتي الربيع) وشعابه الرئيسة هي: (ويأتي الربيع) و(يصوغ ملامحنا) و(يشكلنا في احمرار الشفق) و(يصورنا كيفما يشتهي) و(ويرسمنا في إطار جميل) أما شعابه الثانوية فهي: (سحنة من عبق) و(وفي زرقة البحر) و(حين انفلق) .

في المعنى:

الربيع في القصيدة كما نرى متعدد الدلالات والمعاني، وهو رمز لتعدد صور الحياة فيه، وفي هذا الفرع تتجلى صورة الربيع في الحياة كصورة الربيع في الطبيعة بين الفصول، فقوله: (ويأتي الربيع) يشير إلى توكيد المجيء على صورة جديدة، وقوله: (يصوغ ملامحنا) أي يعطي صورة حقيقية عن الحياة والواقع المعاش، وقوله: (سحنة من عبق) أي صورة بهية معطرة، وقوله: (يشكلنا في احمرار الشفق) أي يعيد رص الصفوف بعزيمة وثقة من أجل الثورة وتحقيق الأمل، وقوله: (وفي زرقة البحر / حين انفلق) أي بسلام بعيداً عن العنف. وقوله: (يصورنا كيفما يشتهي) أي كما يريدهم أن يكونوا، وقوله: (ويرسمنا في إطار جميل) لتكون الصورة أشد بهاء، وأكثر جمالاً .

الفرع السادس:

يقول الشاعر:

(ويأتي الربيع

بلون السماء

يحطم أمثولة الكبرياء

يزلزل وهم الكراسي

العظيمهْ

فتسقط كل المآسي الجسيمهْ

رويدك يا أيها السامري

سينسف عجلك في اليم نسفاً

ويعصف بالذل والهم عصفا

وسوف تذوق انهياراً وخسفا

لأن دماء الشعوب

وقودٌ ولا تعرف

ا ل م س ت ح ي ل]

يبين هذا الفرع صورة الربيع حيث المصير للطغاة والبغاة وعقدته (ويأتي الربيع / بلون السماء) وشعابه الرئيسة هي: (ويأتي الربيع) و(يحطم أمثولة الكبرياء) و(يزلزل وهم الكراسي / العظيمهْ) و(ويعصف بالذل والهم عصفا) وأما شعابه الثانوية فهي: (فتسقط كل المآسي الجسيمهْ) و(رويدك يا أيها السامري) و(سينسف عجلك في اليم نسفاً) و(وسوف تذوق انهياراً وخسفا) و(لأن دماء الشعوب / وقودٌ ولا تعرف / ا ل م س ت ح ي ل) .

في المعنى:

في هذا الفرع تتوضح الصورة، وينكشف الرمز، فالمقصود بالربيع هو ما سمي الربيع العربي، وهنا تأخذ القصيدة بعداً سياسياً إضافة إلى أبعادها الجمالية والفنية، فقوله: (ويأتي الربيع / بلون السماء) أي يجيء الربيع بلون السماء الأزرق الذي يرمز للثقة والقوة، وقوله: (يحطم أمثولة الكبرياء) أي يكسر صورة التكبر والصلف والاستعلاء، وقوله: (يزلزل وهم الكراسي / العظيمهْ) أي يأتي الربيع الذي تتصدع وتنهار فيه كراسي الطغاة المستبدين المتحكمين بمصائر المستضعفين من الناس، وقوله: (فتسقط كل المآسي الجسيمهْ) أي بانهيار تلك الكراسي وزوال أصحابها يتخلص الناس من المآسي والآلام والأحزان والقهر والظلم وما كانوا يعانون منه بسبب وجودهم على تلك الكراسي وطغيانهم وجبروتهم، وقوله: (رويدك يا أيها السامري) أي متوعداً السامري وهو رمز للطاغية الذي يحب التملك والسيطرة وجمهرة الناس من حوله، وقوله: (سينسف عجلك في اليم نسفاً) مستوحى من قول الله سبحانه وتعالى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلْت عليه عاكفاً لنحرِّقنَّه ثم لننسفنه في اليم نسفاً سورة طه الآية (97))، وقوله: (ويعصف بالذل والهم عصفا) وهو مصير البغاة الطغاة المتكبرين، وقوله: (لأن دماء الشعوب / وقودٌ ولا تعرف / ا ل م س ت ح ي ل) أي ما تقدم من وعد ووعيد للمصير كان نتيجة لهذه المقدمة وهي أن دماء الشعوب الثائرة في وجه الطغاة والبغاة والمتكبرين سوف تنال حريتها ولن يكون أمامها مستحيل ما دامت مستعدة للتضحية من أجل أن تعيش بحرية وكرامة.

الحرف (في) والبعد الدلالي:

من المعروف أن الحرف لا يقوم معناه إلا إذا استخدم مع غيره في سياق الجملة، وهنا أتوقف عند استخدام حرف الجر (في) !، وإذا لاحظنا أن الشاعر قد استخدم حرف الجر (في) عشر مرات في القصيدة، وجدنا أن (في) في هذه القصيدة تفيد ظرفي الزمان أو المكان و سأتوقف عند استخدام هذا الحرف (في) بالجملتين الشعريتين، (وما زلت في غصة الوجد / (أركض في واحة المستحيل)، فمن المعلوم أن حرف الجر (في) يفيد الظرفية المكانية والزمانية كما يفيد التعليل، ولنتساءل لماذا استخدم الشاعر في الجملة الأولى (وما زلت في غصة الوجد) حرف الجر (في) ولم يستخدم حرف الجر (من) على الرغم من أن المعنى قد يفهم منه أنه بسبب غصة الوجد ما زال يركض في واحة المستحيل، لنتبين أن المعنى الذي تحمله الجملة يدل على أن الغصة مستمرة استمراراً زمانياً فكان استخدام (في) بالجملة الأولى كما أنها مستمرة استمراراً مكانياً فكان استخدام (في) في الجملة الثانية.

تقاطع الأزمنة:

زمن القصيدة كما نرى هو زمن الربيع الآتي على صوره المختلفة، ففي الفرع الأول يفتتح الشاعر قصيدته بحرف السين الذي يدل على المستقبل، ثم يستخدم الفعلين المضارعين (يفتش، يعيد) وكلاهما يفيدان الزمن المستقبلي، والمعنى سيأتي الربيع وسيفتش عنك وسيعيد انهمار الأسئلة .. ومن ثم يستخدم الشاعر فعلين ماضيين (رحلتِ، وما زلتُ) ليشير إلى أن الزمن الماضي مستمر في كنف الحاضر، وكذلك يستمر الفعل في الفرع الثاني مضارعاً (يظل، يشتاق، أفتش) أما الفعل الماضي (تساقط) يفيد الاستمرارية لفعل (سقط)، وفي الفرع الثالث يستمر الفعل مضارعاً (يأتي، يعيد، ويراقص، يخف، سيمضي) وكلها تشير إلى المستقبل، وهكذا في الفرع الرابع يستمر الفعل مضارعاً، (ويأتي، يردد، يسحق، نقاوم، يعتصر، نسمق)، وكل ذلك يدل على أن زمن القصيدة يمثل تقاطعاً لأزمنة الأفعال والمكونات للقصيدة نفسها، وهو هنا تجليات الماضي في الحاضر واستمرار الحاضر في المستقبل، وفي الفرعين الخامس والسادس الفعل مضارع وعلى صيغة المستقبل . لنستدل أن زمن القصيدة يشير إلى الزمن العربي الراهن على اختلاف فصوله وتعدد صور ربيعه وما يمكن أن يحمله هذا الزمن من المصير للطغاة والمتجبرين، فيما يستقبل من هذا الزمن، إنه حلم الشاعر الذي ينظر إلى الغد المشرق الذي يمكن أن يحققه الشعب من خلال ثوراته من أجل الحرية والكرامة، والخلاص من التبعية والاستبداد والقمع.

التوازن وتمثيل القصيدة:

من الواضح أن الربيع هو مركز توازن القصيدة ونقطة انبثاقها وفيض معانيها، وإذا لاحظنا أن عقدة كل فرع من فروعها يمثل نقطة توازن في القصيدة بالإضافة إلى نقاط التوازن التي تمثل كل منها تقاطعاً لفرعين أو أكثر فيها وهي:

(1) الربيع: هي نقطة تقاطع لفروع القصيدة باستثناء الفرع الثاني فهي تمثل نقطة توازن.

(2) اللون الأزرق: هي نقطة تقاطع الفرعين الخامس والسادس فهي تمثل نقطة توازن.

(3) الجميل: هي نقطة تقاطع الفرعين الثالث والخامس فهي تمثل نقطة توازن.

(4) السقوط: هي نقطة تقاطع بين الفرعين الثاني والسادس فهي تمثل نقطة توازن.

(5) المستحيل: هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والسادس فهي تمثل نقطة توازن.

(6) الحزن: هي نقطة تقاطع للفروع الثالث والرابع والسادس فهي نقطة توازن .

فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة، ومثلنا عقد الفروع على محيط دائرة واحدة، ومن ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة واحدة بما يتناسب مع عدد الفروع التي تتقاطع في كل نقطة، وبعد ذلك إذا مثلنا فروع القصيدة بأشعة منطلقة من مركز توازن القصيدة ومثلنا الشعاب الرئيسة والثانوية لكل منها كأشعة منطلقة من العقد للفروع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل للقصيدة يبين كيف أن القصيدة تميل في بنيتها الفنية والجمالية والإبداعية إلى التوازن، والتوازن هو أحد أهم مرتكزات منهج النقد الاحتمالي .

الكلمة المنوالية:

وهي الكلمة الأكثر تكراراً في القصيدة وهي هنا (الربيع) الذي يمثل مركز توازن القصيدة أيضاً، ويمكن اعتبار كل نقطة من نقاط التوازن (اللون الأزرق، الجميل، السقوط، المستحيل، الحزن) كلمة منوالية إذ يمكن أن يكون في القصيدة الواحدة أكثر من كلمة منوالية، والكلمة المنوالية في القصيدة ذات أهمية بالغة، إنها تشير إلى مدى حضور هذه الكلمة في ذاكرة الشاعر ومخيلته، وتشير إلى مدى تأثيرها في نفس الشاعر حتى يكرر استخدامها بمعاني متعددة تعدد استخداماتها، والكلمة المنوالية تعتبر مفتاحاً أساساً للدخول إلى عوالم القصيدة وملامسة الحدوس الأولى لدى الشاعر أثناء إحداث المعاني وإنشائها في تراكيبه الشعرية.

النص الاحتمالي:

القصيدة مؤلفة من ستة فروع، ويمكن أن نعيد ترتيب هذه الفروع ب(720) طريقة وذلك يعني أنه هناك سبعمئة وعشرون قصيدة ممكنة، وكل قصيدة ناتجة عن إحدى إمكانات إعادة ترتيب فروع القصيدة،وهذه القصائد كلها قصائد افتراضية، لا يعترف عليها الشاعر، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدد إمكانات إعادة ترتيب الشعاب الرئيسة والثانوية في كل فرع فسوف نحصل على عدد هائل من النصوص الشعرية الاحتمالية. وكل نص من هذه النصوص هو نص واقعي لأنه نص ممكن وهو ناتج عن القصيدة الأم، لكن الشاعر لن يعترف إلا بالقصيدة الرسمية التي أشهرها رسميّاً للعامة في مجموعة شعرية. وإذا أجرينا تطبيقاً على القصيدة التي جاءت في مقاطع مرتبة على النحو ((1)، (2)، (3)، (4)، (5)، (6)) فلو أعدنا ترتيب المقاطع على الشكل ((6)، (1)، (2)، (3)، (4)، (5)) نكون قد حصلنا على قصيدة جديدة، لكن القصيدة الجديدة الناتجة ستكون مختلفة في بنيتها ومعناها اختلافاً جوهرياً عن القصيدة الأصل، لأن القصيدة على هذا النحو تبتدئ بطرح الخلاصات ثم يعود إلى عرض المقدمات، وهذا يضعف القصيدة ويجعلها مكشوفة بحيث تضعف الإثارة والقدرة على التأثير، كما يضعف عامل التشويق وتكون قد أعطت مفاتيحها سلفاً من دون أن تترك للقارئ أو الناقد متعة البحث عن المعاني المختزنة في مكنونات النص، من هنا نتيقن أن الشاعر لا يمكن أن يعترف بهذه القصيدة المتولدة عن النص نفسه .

 

مفيد خنسة

 

في المثقف اليوم