قراءات نقدية

محمد يونس محمد: في فلسفة الشعر

ما بعد الاستعارة والوعي المضاعف في نصوص الهذيان وضوح مشتت لعلي خصباك

الشعر الخالص هو الهم الإنساني الأساس، وإذا أصبحت الاستعارة مستهلكة، فهو الوحيد من الآداب يستبدلها، ففي كينونة الشعر بيس هناك ثبات، فالسعي لما بعد الاستعارة يجعل الكينونة تتجه نحو الماهية، لكي تكتسب بنية الشعر معنى ما بعد المعنى، فالمعنى في الشعر يصنف حسب نظريتنا للشعر إلى صنفين، الأول يمهد للثاني، ويكون الأول هو العتبة من خلال الإدراك المباشر، والذي يكون في جمل شعرية لسانيا تفصل هي أمثلة من اللغة العامة، وفي لغة الشعر حتى السوريالية تمتلك إقناعا من خلال تلك الجمل التمهيدية، واللسانيات المعرفية تدرك تماما هناك فصل وأصح معرفيا بين ذلك الحمل التي تحتمل استعارة ما بعد الاجتماعية، وهناك تدخل اللغة بشكل تام في جنس اللغة الشعرية، والتي تتعدى الاستعارة الاجتماعية مثلما تتعدى اللغة المباشرة العامة، الشعر هو ترجمة للوجدان والمشاعر، وليس الكلام أو ما يسرد من تحويل الحكاية إلى متن السرد، والشعر يقابل الشاعر، فيما كاتب الشعر يقابل نفسه، وثمة فارق كبير هنا بين معنى خالص يقابل معنى معادلا له، فيما كاتب الشعر يتجه إلى تفسير شخصه وعلاقته بالعالم الخارجي.

التفسير الذي نسعى إليه في الفلسفة الموضوعية للشعر يبدأ من أثر، وأول مبادرات الأثر هي العنونة، والتي قد سبق جان جانيت الجاحظ بقرون حين حذر من منزلق العنونة، والزعنون هي النص الذي إما يمحو نسبة من الملامح، أو يكون في أفق رمزي منغلق على نفسه بشكل تام، ونحن عرضنا أفكارا عديدة عن العنونة في كتابنا – التأصيل والتدويل – الصادر في الجزائر، واهم فكرة عبرنا عنها لسانيا بأن لغة العنونة لغة خاصة، ولا يمكن اعتبارها من لغة متن النص الشعري، ومن جهة سيميولوجية اعتبار العنونة نصا بلا ملامح، والمتن يسعى إلى التعويض والتوضيح، وفي المجموعة الشعرية أو ديوان علي خصباك المسمى- الهذيان وضوح مشتت – والصادرة من دار ذياب شاهين، والذي يحتمل فكرة فلسفية ملتبسة، فالكلمة الأولى تنتمي للشعر بشكل خالص، في التفسير الذي طرحه إليوت، وأما المفردة الثانية، فهي تنتمي المعرفة، فسؤال المعرفة يسعى بعد طرح السؤال يستثمر نصف الإجابة من السؤال، والمعنى الذي تسعى إليه العنونة كما قيل – المعنى في قلب الشاعر-، لذلك حتى الإجابة التي نسعى إليه لا نحصل عليها، وتلك الحصانة التي تمتلكها العنوان لا بد من الحذر منها، فهناك هوة، وقد تتجه بنا إلى العدم، والعنونة التي نحن في صددها ذات ثلاث مفردات، كل واحدة تتجه إلى سبيل، لكن ما نسعى إليه استبعدت المفردة الثالثة من بلوغه.

شكلت الغايات الشعرية أحد أنواع التراكب ما بين البصري والمحسوس، وهذا ما جعل الصورة الشعرية بأكثر من بعد في كيان القصائد، والبعد الأول هو للمستوى البصري العام، والذي قد يتفق مع كاتب الشعر بنسب معينة، وهو بعد الإشارة في التحديد الدلالي، ونلمس له وجودا نسبيا في القصائد، وهو أفق التفسير العام، وأما البعد الثاني فهو بعد العلامة، والذي يكون في نسب من التوازي مع إحساس الشاعر وتصاعد وعيه، والأفق السيميولوجي هنا هو من يلتزم ما بعد التفسير العام، وهذا المستوى يستدعي التأمل، وأما المستوى الثالث فيرتبط بأقصى حالات الوعي الشعري، حيث الدلالة تتجاوز الحد المعقول، ومرت بقلم في بعض الجمل الشعرية، ففي النص – تذكر – ذا العنونة الأحادية، والتي في طروحاتنا نجد أما مجت ما قبلها است لمحو ما بعدها.

أخاف من نسكيان التذكر يوما

أن أنقذ رأسي

الذي طالما طالب به

الوطن

هنا يسعى الشاعر الى معايشة ما بين النص والذات المعنوية التي تعكس لنا هم الإنسان ومجنته، فالكينونة البشرية شاءت الاقدار أن تحولها الى ماهية، وبالتالي ستجعل مصير الكينونة يتبدل كما تشاء تلك الاقدار، وهنا ثمة محنة مركبة، فالنص في وجوده يختلف عن وجود الذات الشعرية، والوطن في النص ليس هو ذات ذلك الوجود الذاتي لوعي الشاعر، وفي فلسفة النص يكون الشعر وجود لكن غير ملموس، وبالرغم مما أفترضه اكتافيو باث في عام 1980 في مدريد بعدما انتهى فقال للجمهور – هل شاهدتم قصيدتي – وكذلك يسألنا علي خصباك هل شاهدتم الوطن في النص ووقفتهم على اعتابه، ويعود لنا الشاعر في عنونة احادية ليرسم صورة المحنة البشرية، ففي النص – سدى – والذي ايضا عامل المحو يبدو بوضوح فيه، والعنونة الاحادية عالم نصي قائم بذاته.

هو معلق على الجدار

والرزنامة خارج البيت،

تسدد الفواتير

الدقائق لفاتورة الماء

والساعات لإيجار المنزل

والأيام سدى...

وجل السنين للحرب

تشكل معيارية الاحتجاج في النصوص الشعرية احد الوجوه التي يقوم عليها احد وجود الحس الشعري، فالوجود النصي في التحول من ماهية الى اخرى يتيح للذات الورقية التحول من كيان بشري الى تقويم، وفعلا في المضمون الفلسفي نحن تقويم كل يوم نمحو اليوم الذاهب الى العدم ونؤشر اليوم الذي نستقبله، وذلك النمط من الاستعارة تجاوز افاق عيدة وثلم الدلالة واعاد ترميمها من جديد، ونلاحظ صيغة التوقيتات لم تغادر وبقت في مدارها الفيزيائي، والموجب اتخاذه في نظرية قصيدة النثر أن تتخلخل لتكون معادلا لتحول البشر الى تقويم، وفلسفة الشعر تحتاج الى متوازيات بتقابل موضوعي، وفي نص – نسيان – ذات الهم الشعري والمضمون الإنساني يعاد بصيغة اخرى، وافق دلالو اكثر مرونة في التطوير، وفي النص الذات فعلا كانت ورقية متناغمة مع الوعي، وليس كما عند كاتب الشعر، تكون الذات شخصية ومن لحم ودم.

غادر جثته ومضى نحو السماء

لم يجد منفذا

عاد ثانية إلى جثته

فلم يجدها

الكينونة التي تحولت ماهيات تتوالى، والواحدة تستبدل الاخرى، من الطبيعي في الشعر لا تترجم لنا وقائع، بل تكون في المستوى الشعري تنتقل من تعبير الى اخر. وكل تعبير شعري هو في مجازات لغوية وافق ايحاء يستبعد الامثلة العامة والمعهودة، وتلك قيمة الايحاء في الشعر، والسمة التي تجعل الشعر لا يقف عند حد عضوي، وترجمة المعنى الشعري تختلف عن ترجمة الحقيقة الاجتماعية، والشعر ليس الا ذلك الثلم الدلالي الجدير، والنصوص التزمت بتلك الصيغة التي تكون بينية في تفسيرها فالوعي الشعري احيانا تصدمه الحقائق فيستعين بما يدعم اللاوعي او ما نسميه بالوعي المضاعف الى اسناد الوعي في النص، حيث يمكن أن يجد الرجل باب السماء مقفلا ويعود الى الارض من جديد، والمعنى الشعري هنا لا يعنى بأن يقنع التلقي، بل يشعر بحجم ومديات القهر الإنساني، وهنا قد مر الشعر في قصائد علي خصباك بتحول في مضامين الشعر من جهة، وفي النمط اللساني للغة الشعرية، فجنس اللغة اصبح اكثر طاقة شعورية في نص – الماء – والذي التعريف اضاف ليقين العنونة يقينا اخر.

ستراهُم شِفافَ مثلَ الماء

يبتسمون

مثلَ قاربٍ بعيدٍ

يتعبّدُ في الشفق !

فلسفة الشعر تتطلب ذلك التطور في استبدال ماهية لأخرى، وإضافة معنى جديد للنص، وإلا كان لتعبد قارب في الشفق، والتي هي لوحة تعبيرية تحولت من أفق الرسم إلى أفق الكتابة الشعرية، وقد نجح الشاعر في استدراج المعنى في تلك الجملة التي طورت نفس البلاغة الشعرية، وهذا لا يحصل عادة، على الرغم من  وصف بيكاسو له بالقول اللوحة قصيدة والقصيدة لوحة، وفي النص – عام يمضي – يتطور المفهوم الشعري كثيرا، ويتطور معه منسوب الألم والقهر، حتى يحتاج الشعر إلى تكون النصال المتبقية عمياء، كي يبقى للعمر الشعري مساحة مناسبة من الحرية.

كل عام يمضي

هو حزت سكينا على رقبة العمر

من أين لي

أن (أعمى) نصال السكاكين المقبلة

لم يعد الشعر ذلك الهتاف الجماهيري، والذي استغل فيه الشعر إلى حد كبير، وبعد التحول الذي مرت به هرمية العالم، جين تخلى الإنسان عن مركزه لصالح الآلة والأشياء، وفقد بذلك قيمته التاريخية، والشعر في الوضع المعاصر أصبه هم ذات في داخل ذات، فالذات الشعرية أصبحت تعي بتغير نمط الحياة، واستبدال قيمة الإنسان بالأشياء، وهذا التحول المرير حفز الشعر بالتخلي عن معانقة العالم والتعبير عنه كما يرى غوته، والسعي للتعبير بطريق احتجاجية شتى، وفي قصيدة – عصفور – يلجأ الشعر إلى استعارة مضادة إذا جاز التفسير، حيث المعنى يحتاج إلى معنى أكثر تطورا في المستوى الدلالي ليسنده فتكن الكف غالبة أو خميلة، لكن يعود الاحتجاج الذي اعتاد عليه أغلب النصوص إلى الواجهة.

أغويت عصفوري الصغير

ورسمت في كفيك غابة

قد حط في كفيك

وأغمض الجفنان، ناميا

لقد تمكنت تجربة الشاعر علي خصباك من رسم تلك الصور الشعرية ذات الأبعاد العديدة، والتي تستعار المعنى، بعدما تحولت الكينونة الشعرية إلى عدة ماهيات كل منها له إيقاعه، والتجربة والوعي والاحتجاج كانت آفاق ثلاثة، لكل منها مساره وسبيله بتفسير للمضامين الشعرية، والجمل الشعرية كانت ما بين الإيهام القصدي والإيحاء الفني والجمالي الذي يستدرج الوعي المضاعف أو ما يسمى بمنطقة اللاوعي في التصنيف المتعارف، والوعي المضاعف طاقة مضافة أهلت قلم الدلالة إلى بلوغ أقصى المعاني بعد الترميم الفني.

***

محمد يونس محمد

في المثقف اليوم