قراءات نقدية

جيل دولوز وفيليكس غوتاري: إكثار السلسلة

بقلم: جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

يمكن تفسير عمل هذا التركيب فقط اذا عزلته وفحصت كلا من العناصر التي تكونه، وطبيعة ترابطاتها. تبدو الشخصيات في "المحاكمة" جزءا من سلسلة كبيرة لا تتوقف عن الاستطالة. وكل واحدة منها في الحقيقة نشيطة أو تمثل العدالة (وفي "القلعة"، لدى كل إنسان شيء ما يجب أن يقوم به تجاه القلعة)، ليس القضاة فقط، والمحامين، والمحققين، والشرطة، ولكن حتى المدان، وعلاوة على ذلك النساء، والبنات الصغيرات، والرسام تيتوريللي، و كاف نفسه.  ثم تنقسم السلاسل الكبيرة إلى تحت سلاسل. وكل تحت سلسلة منها تمتلك توسعة شيزوفرانية لا محدودة خاصة بها. وعليه يستعمل بلوك في نفس الوقت ستة محامين، ومع ذلك هذا لا يكفيه. وينتج تيتوريللي سلاسل من رسومات متماثلة تماما، وطيلة مغامراته، يقابل كاف نساء فضوليات شابات من نفس النوع (إلزا صديقته الحميمة قبل المحاكمة، النادلة في الملهى الليلي، الآنسة بورستنير، "وهي طابعة آلة كاتبة لا تمانعه لفترة طويلة"، والمرأة الغسالة*، وعشيقة القاضي وزوجة المحقق، وليني وصيفة الممرضة وسكرتيرة المحامي، والبنات الصغيرات في بيت تيتوريللي). ولكن أول مواصفات هذه السلاسل المتكاثرة أنها تعمل لتزيل وضعية كانت تمنع المرور في مكان آخر. ومرارا ما استعمل كافكا الثنائيات والثلاثيات. وبقيت متمايزة عن بعضها البعض. ويتكون مثلث الذات، وهو عائلي بالأصل، من تثبيت موضع طرف بالعلاقة مع صورة الطرفين الاخرين الموجودين (أب - أم - ابن). وتعبر ازدواجية الذات، بشكل ذات النطق وذات العبارة**، عن حركة الذات في واحد من ممثليها أو في كليهما معا: أحيانا هي أكثر أخوية من كونها أبوية - وتتأسس على الشعور بالعار. وأحيانا أكثر مهنية من كونها عائلية- وتتأسس على التنافسية. وتتركز معظم مزدوجات كافكا على موضوعة الأخين أو البيروقراطيين، سواء تحرك أحدهما وبقي الثاني ساكنا، أو إذا تحرك الاثنان بحركة واحدة (1). ويصح أيضا أن نقول إن المزدوجات والثلاثيات ثاقبة وتتعمق. وحينما يبقى أحد المزدوجات ساكنا ويكون جاهزا لنقل الحركة إلى الآخر، يبدو أن لهذه الطاقة البيروقراطية المتكاملة أصولها في المثلث العائلي الذي يحتفظ بالابن ساكنا ويورطه بأحلام اليقظة. بهذا الخصوص يقول كافكا إن للروح البيروقراطية فضيلة اجتماعية تنبع مباشرة من الثقافة العائلية (2). وفي الحالة الثانية حينما يتحرك الزوجي معا، يفترض نشاطهما وضعا ثالثا، وليكن مدير مكتب يعتمد الزوجي عليه. وبهذه الطريقة يقدم كافكا باستمرار ثلاثيات، لمثلثات بيروقراطية رسمية. يتفرع البيروقراطيان الاثنان بالضرورة من ثالث متفوق عليهما، ويخدمانه بصفة ذراع يمينية ويسارية. وعليه بالمقابل لو أن الزوج البيروقراطي يعيدنا إلى المثلث العائلي، فإنه يمكن للثالث بدوره أن يستبدل بمثلثات بيروقراطية.  وكل هذه الخطوط معقدة جدا في كافكا. وأحيانا، بوجود المثلث العائلي كمعطى، كما هي الحال في "المسخ"، يجب إضافة أو استبدال شيء يشبه وضعا ثالثا: يصل رئيس الموظفين إلى أمام باب جورج ويقدم نفسه للعائلة. ولكن أحيانا، أيضا، يأخذ الثلاثي البيروقراطي شكل حاجز يدخل ويتحكم بأحوال العائلة، وحتى لو أنه داعم: وتقديم رئيس الموظفين في "المسخ" يخدم فقط التهيئة والتحضير لهذه اللحظة.

وأحيانا، كما هو الحال في بداية "المحاكمة"، لا يوجد مثلث عائلي سابق الوجود (الأب ميت، والأم بعيدة)، ولكن لا يزال هناك تطفل من الظرف الأول ثم آخر يعمل مثل قرين رقابي (يعمل عمل الشرطة على نفسه)، ثم التثليث بطرف ثالث، وهو المحقق. ويمكننا ملاحظة تحول هذا المثلث غير العائلي، والذي بدوره سيكون مثلث عمال المصرف البيروقراطيين، ومثلث السيدة بورستنير وصديقاتها في الصورة، وهو مثلث إيروتيكي. لهذه الحالات المعقدة التي وصفناها هدف واحد - أن تبين أنه يبقى شيء مسدودا في الزوجيات وكذلك في المثلثات وما بينها من تلامس وتأويلات مشتركة.

لماذا اثنان أو ثلاثة وليس أكثر؟. ولماذا اثنان يحيلان إلى ثلاثة والعكس بالعكس؟. ماذا يمنع علاقة أخرى، كما هو حال "المسخ" من التضاعف والتثليث برأيه؟. فشل الرسائل بهذا الخصوص، بالرغم من محاولة كافكا تقديم كريت بلوخ ثم الهرب من ما يشبه العلاقة الثنائية. وهو فشل القصص الحيوانية في هذا المجال، رغم محاولة جورج أن يهرب من التثليث. هذه إحدى المشاكل الرئيسية التي حلتها الروايات: فالثنائيات والمثلثات التي بقيت في روايات كافكا تعود للظهور في بداية الروايات. ومنذ البداية هي متذبذبة جدا، وكثيرة ومتحولة جدا، وجاهزة لتنفتح بشكل سلسلة تكسر شكلها وتغجر بعلاقاتها شروطها. وهذا عكس ما يجري تماما في "المسخ"، حيث تجد الأخت، وكذلك الأخ، نفسها محكومة بعودة منتصرة لما يشبه مثلث العائلة الحصري. ولا تجزم المشكلة إذا كان "المسخ" عملا رائعا. من الواضح أنه كذلك، ولكن هذا لا يفيد كافكا، لأنه بمقدار ما ينبئنا أن الأشياء بحالة ممتازة، يمنعه، أو هكذا هو يعتقد، من كتابة رواية. وهو لن يغامر بكتابة رواية عائلية أو رواية زواج، ساغا الكافكاوات، أو "ليلة العرس في الريف". مع ذلك لمس في "أميركا" كيف يمكن للسلسلة الطويلة أن تكون حلا، وتمكن، في "المحاكمة" ثم في "القلعة" من الإمساك بزمام هذا الحل***.  ولكن من هذه النقطة وما بعد، لن يكون هناك أي سبب لكي تنتهي الرواية. (إلا إذا فعل فعلة بلزاك وفلوبير وديكنز، ومهما كان إعجابه بهم قويا، فهو لم يكن يريد شيئا مثلهم. لم يرغب بخلق جينيالوجيا، حتى لو أنها اجتماعية، على خطا بلزاك. ولم يرغب أن ينصب برجا عاجيا، على خطا فلوبير. وكذلك لم يكن يريد "بيوتا"، على خطا ديكنز، لأنه بذاته يحمل مفهوما شديد الاختلاف عن البيت. ولم يحب أن يقتفي أثر أي معلم سوى كلايست، وحتى كلايست كان يمقت التبعية. مع ذلك إن كلايست موضوع مختلف حتى في مؤثراته العميقة التي تركها على كافكا. وعلينا أن نتكلم بشكل مختلف عن هذا التأثير. وسؤال كلايست ليس "ما هو الأدب الثانوي، وبعد ذلك ما هو الأدب السياسي والجماعي؟"، ولكن عوضا عن ذلك سؤاله كان "ما هو أدب الحرب؟". وهذا ليس غريبا تماما على كافكا، ومع ذلك هذا ليس سؤاله بالضبط).

وبدفع المثلثات للتحول حتى تكون لا متناهية، وبتكثير المزدوجات حتى تكون غير محددة، يفتح كافكا حقل المحتم الذي سيلعب دورا تفكيكيا، تحليليا، ومبشرا بقوى وتيارات اجتماعية، بقوى هي في رأيه بداية فقط لتدق على الباب (للأدب معنى فقط إذا كانت آلة التعبير تسبق وتخمن المضامين). ولدرجة معينة هي ليست ضرورية بعد الآن للاستفادة من المزدوجات والمثلثات، وأي شخص مركزي سيبدأ بالتكاثر مباشرة - على سبيل المثال، كلا klamm، أو على نحو أوضح، كاف نفسه. وعليه تميل الحالات لتوزيع نفسها على طول خط الهروب، ولتتحرك على هذا الخط، مع الإشارة إلى محطات تلامس - محطة الشرطة، محطة المحامي، محطة القاضي، محطة الروح الديني. وفي نفس الوقت الذي يفقدون فيه شكل قرينهم أو مثلثهم، لا تظهر هذه الحالات أو أنها لا تظهر فقط على انها تمثيلات هرمية للقانون وانما تصبح وسائط، نقاط تماسك لتركيب العدالة، وكل نقطة تقابل حالة من حالات الرغبة، وكل النقاط وكل الحالات تتواصل مع بعضها البعض من خلال استمراريات متوالية. ومن الأمثلة على هذا الشأن مشهد أول تحقيق وفيه تفقد اللجنة شكلها المثلثي، وبوجود القاضي على رأسها ينقسم الجانبان إلى طرف يساري وطرف يميني، ةيصطف الجميع على طول خط مفرد ومتواصل لا يوحد الطرفين فقط ولكنه يطيلهما بواسطة تجميع "محقق أخرق و قضاء فاحص... ولكنه أيضا.. هرم قضائي مرتفع، وعمليا من أعلى المستويات، مع عدد كبير ولا بد منه من الخدم، والموظفين، ومساعدين آخرين، وربما جلادين". وبعد أول تحقيق، يحل تلامس المكاتب، على نحو مضطرد، محل هرمية المثلثات. وكل العاملين هم "منحرفون"،"فاسدون". وكل شيء هو رغبة، كل الخط رغبة، وكلاهما من بين أعداء السلطة والقمع، ومن بين المتهمين والمطلوبين للسلطة والقمع (على سبيل المثال الرجل المدان، بلوك": فقد توقف الرجل عن أن يكون موكلا وأصبح محاميا عن الكلب"). على الإنسان أن يكون مخطئا جدا لو قرأ الرغبة هنا بمعنى أنين الرغبة، أو قمع الرغبة، أو أن تكون مقموعا، لرغبة سادية ورغبة مازوشية. لا علاقة لتفكير كافكا بذلك. لا يوجد رغبة بالسلطة، ولكن السلطة نفسها هي الرغبة. فموضوع الرغبة ليس ناقصا،  والرغبة عارمة، وهي تجربة، فعل، وهذا صحيح حتى لدى معظم العمال التابعين. أن تكون تركيبا، الرغبة هي بالضبط ما يتساوى مع مكونات الآلة وأجزائها، وما يتحد بسلطة الآلة. والرغبة التي يمتلكها أي شخص بالسلطة هي فقط افتتانه بهذه المكونات -العتاد، رغبته أن يجعل بعض هذا العتاد يعمل، أن يكون هو نفسه جزءا من هذا العتاد، أو الأفضل، أن يكون المادة التي يقع عبء العتاد عليها، مادة هي عتاد بأسلوبه الخاص. إذا لم أكن المدون على الطابعة، أنا على الأقل الورق الذي تضرب عليه المفاتيح. واذا لم أكن أنا الميكانيكي الذي يتحكم بالآلة، أنا على الأقل المادة الحية التي تتعامل معها الآلة. وربما هذا مكان أكثر أهمية، وهو أقرب إلى العتاد الذي هو الميكانيكي (على سبيل المثال ضابط المستعمرة المأمور والتابع، أو الشعب المدان في "المحاكمة"). والسؤال لذلك أكثر تعقيدا من سؤال مبسط عن الرغبتين التجريديتين، رغبة لتكبت ورغبة أن تكون مكبوتا، وهو ما يمكن التعبير عنه تجريديا بسؤال سادي وآخر مازوشي.  ويتدفق الكبت، في من القامع والمقموع، من تركيب السلطة - الرغبة هذا أو ذاك، من حالة الآلة هذه أو تلك - ما دام أيضا هناك حاجة للميكانيكي، والمواد العاملة بانسجام غريب، تتحكم بالكبت علاقات بين المكونات وليس تراتبية هرمية. يعتمد الكبت على الآلة، وليس العكس. ولذلك ليس هناك سلطة كما لو أنها تعال لامتناه وله علاقة بالعبيد أو المدان. السلطة ليست هرمية كما يريد لنا القانون أن نعتقد. وهي مجزأة وليست خطية، وتتطور بالتماس، وليس بالارتفاع نحو الأعالي أو الابتعاد (وهذا يحدد أهمية التابع)(3). كل جزئية هي سلطة، سلطة وكذلك صورة للرغبة. وكل جزئية آلة أو قطعة من الآلة، ولكن لا يمكن تفكيك الآلة دون أن يشكل كل جزء متآلف فيها آلة بدوره، لتحتل مساحة أكبر من المكان. خذ على سبيل المثال البيروقراطية، لأنها تفتن كافكا، ولأن كافكا نفسه بيروقراطي المستقبل، ويعمل في التأمينات (وكانت فيليس تعتني بالآلات الكاتبة - وهي جزء يتقابل فيه مكونان). ولكن ليس هناك رغبة بالبيروقراطية، لتكبت أو لتكون مكبوتا. هناك جزء بيروقراطي، له سلطته الخاصة، وشخصياته، ووكلاؤه، وآلاته. أو بالأحرى هناك كل أنواع الجزئيات، المكاتب المتراصة، كما هو الحال في وضع بارناباس. كل مكونات العتاد، وهو في الحقيقة من نفس المرتبة، بالرغم من تعدد المظاهر، والتي تتضمن البيروقراطية بشكل رغبة، يعني، أن هذا العتاد تمرين للتركيب نفسه. وأقسام القامع والمقموع، الذي يقمع ويكون مقموعا، تتدفق من كل حالة من حالات الآلة، وليس العكس. وهذه عواقب ثانوية. وسر "المحاكمة" أن كاف نفسه هو أيضا محام، وأيضا قاض. البيروقراطية هي الرغبة، ليس الرغبة التجريدية، ولكن رغبة مقررة في هذه الجزئية أو تلك، بحالة الآلة هذه أو تلك، في هذه اللحظة أو تلك (على سبيل المثال الجزئية الملكية لعهد عائلة هابسبورغ). والبيروقراطية التي لها شكل رغبة تكون متحدة مع عمل ووظيفة عدد معين من المكونات، ونشاط عدد معين من السلطات التي تحدد، باعتبار أنها وظيفة مركب الحقل الاجتماعي الذي هي فيه، المهندسين وكذلك تصميماتهم. قالت ميلينا لكافكا:"بالنسبة له الحياة شيء مختلف تماما عما تمثله للآخرين. النقود، سوق البورصة، الاستثمارات، الطابعة الكاتبة، هي أشياء غامضة عليه.. وقد أبدى إعجابه بعدد كبير من العواطف السرية بسذاجة مؤثرة، لأن لها قيمة تجارية"(4). السذاجة؟. لا يعجب كافكا بآلات تقنية بسيطة، ولكنه يعلم جيدا أن الآلات التقنية هي مؤشر على المزيد من التراكيب المعقدة التي تجمع ما بين المهندسين والأجزاء، المواد والشخصيات المميكنة، الجلادين والضحايا، القوي والضعيف، وفي تركيب تراكمي مفرد - أو رغبة تتدفق من نفسها وتحدد بالضبط كل لحظة ودقيقة. وبهذا المعنى، هناك بالتأكيد أيروس بيروقراطي هو جزء من السلطة وموضع للرغبة. وأيروس رأسمالي. وأيروس فاشي. وكل الجزئيات تتواصل مع بعضها البعض من خلال احتكاكات مماسية مختلفة. أمريكا الرأسمالية، روسيا البيروقراطية، ألمانيا النازية - في الحقيقة كل "سلطات المستقبل الشيطانية"-  تدق على باب لحظة كافكا بضربات متتالية منفصلة ومتوالية متصلة. الرغبة: آلة تتفكك إلى أجزاء عتاد، والعتاد يكون بدوره الآلة.  توالي الجزئيات ووفرتها، وانزياح الحواجز. والرغبة أساسا متعددة الأصوات، وتعدد أصواتها تحولها إلى رغبة مفردة ومتمايزة تتدفق وتغمر كل شيء. والمرأة المبهمة في "المحاكمة" لا تتوقف عن صناعة القضاة، والمحامين، والمتهم يظهر في فصل متعة يتيم. وصياح فرانز، وعقوبة الحارس على سرقاته، والصيحة التي يسمعها فرانز في غرفة الحطب التي تتلامس مع صالة مكتبه في المصرف، يبدو "كأنها تأتي من أداة شهيدة"  ولكنها أيضا صيحة تدل على المتعة، ليس بالمعنى المازوشي، ولكن لأن آلة العذاب هي مكون للآلة البيروقراطية التي لا تتوقف عن انتاج متعتها (المتعة الذاتية). لا يوجد بعد ذلك رغبة ثورية تعارض السلطة، أو آليات السلطة. ونلاحظ الغياب المتعمد للناقد الاجتماعي في أعمال كافكا. في "أمريكا" لا تحرض أفظع ظروف العمل النقد عند كافكا، ولكنها ببساطة تجعله خائفا من الطرد من الفندق. ومع أنه يعرف الاشتراكيين وحركات الفوضيين الشيكيين، لا يسير كافكا في مسارهم. ويمر بموكب عمالي، ويظهر لنا لامبالاته نفسها كما يفعل كاف في "أمريكا":"فهم يحكمون الشوارع، ولذلك يعتقدون أنهم يحكمون العالم. وفي الحقيقة هم على خطأ. ووراءهم سكرتيرات، وموظفون، وسياسيون محترفون، وكل المزربانات المحدثين الذين يمهدون لهم الطريق للوصول إلى السلطة".  تبدو الثورة الروسية لكافكا وكأنها نتاج جزئية جديدة، وليس انقلابا ولا تجديدا. وتوسع الثورة الروسية تقدم، اندفاعة جزئية إلى الأمام، زيادة لا تظهر دون فيضان عنيف. "ويتبخر 'فيضان' الثورة ويترك وراءه فقط رواسب البيروقراطية الجديدة. وسلاسل البشرية المعذبة تكون مصنعة من شريط أحمر". بين بيروقراطية هابسبورغ والبيروقراطية السوفييتية الجديدة، لا يوجد مجال لإنكار التبدل، وأن هناك قطعة جديدة في الآلة، أو بالأحرى، قطعة صنعت آلة جديدة بالكامل. "'مؤسسة تأمينات حوادث العمال' معيار للحركة العمالية. وعليه يجب أن يمتلئ بروح التقدم المشعة. ولكن ماذا جرى؟. المؤسسة عش أسود للبيروقراطية، وفيها أعمل مثل يهودي عروض منفردة"(5).

***

........................

هوامش:

1- الحالتان غالبا تبرزان في أعمال كافكا: الاثنان اللذان يقومان بنفس الحركة معا - على سبيل المثال، ظهور آرثر وجيريمي في الفصل الأول من "القلعة"، والزوجان الساكنان اللذان أرسلا زوجيه للتجول في الأرجاء. انظر إلى موضوعة "المفقود"، "المحاكمة"، وفي "القلعة" سورتيني وسوروديني ("'سوريديني' يكشف التماثل بحجة إلقاء الأشياء على كتفي سورتيني،  وبالأخص  الواجبات التي تقع عليه بصفته النائب، وهكذا يمكن تركه دون إزعاج ليتابع عمله"). ويبدو أن أول حالة هي مجرد تحضير للثانية: حتى آرثر وجيربمي يفترقان، يعود آرثر إلى "القلعة" ببنما يتجول جيريمي في أرجاء البلدة ويفقد شبابه. وعن الصفة البيروقراطية للمزدوجين، انظر رائعة دستويفسكي: القرين.

2- كافكا، اليوميات، 27 آل، 1916، 2:164.

3- قدم ميشيل فوكو تحليلا للسلطة أعاد فيه النظر بكل المسائل الاقتصادية والسياسية. ومع أن أسلوبه مختلف تماما، تحليله ليس محروما من نبرة كافكاوية ملحوظة. ألح فوكو على جزئية السلطة، وتماساتها، وجاهزيتها في الحقل الاجتماعي (وهذا يعني أنها ليست باطنية روحية أو ذات على طول خط الأنا الأعلى). وبين أن السلطة لا تعمل إطلاقا من خلال بديل العنف أو الإيديولوجيا، الإقناع أو الخنق. انظر لفوكو كتابه: الرقابة والعقاب. ترجمة ألان شريدان (نيويورك: بانثيون، 1977): حقل الجاهزية ومضاعفات السلطة في "المجتمعات الرقابية".

4- مذكور في كتاب "فرانز كافكا" فاغينباخ. ص169.

5-غوستاف يانوش. محادثات. 174. وبالنسبة لتوثيق المؤتمر، ص 102-103. يخبرنا يانوش، كيف أنه في أحد الأيام، عند مدخل مكاتب تأمينات العمال، أحنى كافكا رأسه، وكان يبدو أنه يرتعش، و"رسم علامة الصليب بحدة بصليب روماني كبير". (ص102).

هوامش المترجم

* المراة الغسالة واحدة من الثيمات المتكررة في أدب يهود أوروبا الشرقية. وترمز للغيتو. ولكنها بنفس الوقت ترمز للغضب الإلهي على الشعب اليهودي. ويمكن بكل بساطة إعادة تفسير رمزية الغسالة بالسلطة الأبوية المفروضة على يهود العالم - أو رقيق أوروبا التاريخية باعتبار أنهم يتماهون مع أشكال نساء رقيقات وكادحات في بيت الأب المظلم والقاسي والبارد كما فعل اليهودي الأمريكي إسحاق بوشفيز سينغر الحائز على نوبل. وأنا أنظر لمعنى المزدوجة والمثلث في أدبيات كافكا من هذه الزاوية. فاليهود مقاتلون أشداء ولكنهم أيضا محبون للأرض الطيبة ورحماء نحوها. يستأنسونها دون إنهاك. وهذا أول تعارض بين البيروقراطية الانتاجية والنظام الربوي الرأسمالي.

** ذات النطق هو الحروف والألفاظ وذات التعبير هو المعاني والموضوعات وليس تمثيلاتها فقط.

*** برأيي لا توجد سلاسل مفتوحة في أدب كافكا، ولكنها حالات منضبطة ومغلقة على نفسها. أو ما نقول عنه تدوير المربع، وتدوير المثلث. إلا "أمريكا". فهي مفتوحة، وأحداثها تراكمية، ويحكمها روتين الصدفة، وليس الصدفة المشروطة التي لها معنى درامي وملحمي يشبه القدر عند الإغريق. والسبب وراء انفتاح رواية "أمريكا" أنها مكتوبة من الخيال. فكافكا لم يذهب إلى أمريكا في كل حياته. أضف لذلك أن العمل ليست له صبغة نهائية وصدر بعدة عناوين منها: المفقود، الرجل الذي اختفى، أمريكا...

- ترجمة الفصل السادس من كتاب (كافكا: نحو أدب ثانوي).

في المثقف اليوم