قراءات نقدية

قراءات نقدية

إنَّ الهُوِيَّةَ في العملِ الأدبيِّ تَتَشَكَّل مِنَ الأحلامِ الفَردية، والطُّمُوحاتِ الجَماعية، والتَّجَارِبِ الشَّخصية، والإفرازاتِ الثقافيةِ، والعواملِ النَّفْسِيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى وَضْعِ العَملِ الأدبيِّ في أقْصَى مَدَاه، وإعادةِ إنتاجِ السُّلطة المَعرفية مِنْ مَنظورٍ اجتماعيٍّ قادر على اكتشافِ دَوافع الشَّخصيات، ودَلالةِ الألفاظ، والأُطُرِ المَرجعية للمَعَاني والصُّوَرِ الفَنِّية.

والهُوِيَّةُ لَيْسَتْ بُنْيَةً ثابتةً، أوْ نَسِيجًا خَطِّيًّا، وإنَّما هِيَ شَبَكَة مُعَقَّدَة مِنَ السُّلوكياتِ والمَشاعرِ وأنماطِ التَّفكير، وأساليبِ التَّعبيرِ. وهَذا يَنعكس بشكلٍ واضح على اللغةِ، باعتبارها الحاضنة الاجتماعية للأفكارِ، والرَّافعة الثقافية للشَّخصيات.

والعَمَلُ الأدبيُّ هُوَ أفضلُ تَعبيرٍ عَن الهُوِيَّة بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا الحَيَوِيَّة، وَتَعْقِيدَاتِهَا الاجتماعيَّة، وتَجَلِّيَاتِهَا المَعنويَّة، وتَفْسِيرَاتِهَا المَادِيَّة. وفي وَاقِعِ الأمْرِ، إنَّ الهُوِيَّةَ هُوِيَّاتٌ كثيرة ومُتَعَدِّدَة، تَرْتَدِي أقنعةً كَثيرةً وَفْقَ طَبيعةِ الذِّكْرَيَاتِ، ومَاهِيَّةِ الرَّغَبَاتِ، وحَقيقةِ الأفكارِ.

وَمِنَ الكُتَّابِ الذينَ اهْتَمُّوا بِمَسألةِ الهُوِيَّة، الرِّوائيُّ اللبناني الفرنسي أمين معلوف (وُلِدَ في بيروت 1949، وانتقلَ نهاية السَّبْعينيات إلى فرنسا). في كِتابه (الهُوِيَّات القاتلة / 1998 )، وهو مَجموعة مَقالات صَحَفِيَّة، تَحليلٌ اجتماعيٌّ وتاريخيٌّ لِمَفهومِ الهُوِيَّة الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة، والأهواءِ التي تُثيرها، وانحرافاتِها القاتلة، وكَيفيةِ تَحَوُّلِ بَعْضِ الجَمَاعَاتِ المُتعايشة مَعًا إلى مُتعادية تَعتمد على العُنْفِ والإقصاءِ. والكِتَابُ يَطْرَحُ أسئلةً عديدة : لماذا لا يَستطيع هؤلاء الناسُ تَقَبُّلَ انتماءاتهم المُتعددة ؟، لماذا يُجْبَرُونَ باستمرار على اختيار أحَدِهَا؟. يُحَاوِلُ مَعلوف الإجابةَ عَنْ هَذا السُّؤالِ: " بسبب عادات التفكير والتعبير المُتجذرة فِينا جميعًا، وبسبب المفهوم الضَّيِّق، والإقصائيِّ، والمُتَعَصِّب، والتَّبسيطي، الذي يَختزِل كُلَّ هُوِيَّةٍ إلى انتماء واحد ".

ويَعتبر مَعلوف أنَّ العَوْلَمَة إذا كانتْ تَهْدِف إلى دَعْم حضارة مُهَيْمِنَة (غَرْبية)، فإنَّها سَتَقُود البشريةَ إلى مَصيرِها المَحتوم، لذلك يَجِبُ ضَمَانُ ألا يَشْعُر أحَدٌ بالإقصاءِ مِنَ الحَضارةِ الإنسانية المُشتركة، وأن يَتَمَكَّنَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ إيجادِ لُغَةِ هُوِيته الشَّخصية، وَرُمُوز ثَقَافَتِه الخَاصَّة، وأنْ يَتَمَاهَى _ وَلَوْ قَلِيلًا_ مَعَ مَا يَرَاه ناشئًا في العَالَمِ مِنْ حَوْلِه، بَدَلًا مِنَ البَحْثِ عَنْ شرعية الحاضر المُؤلِم في الماضي المِثَالي. في الوَقْتِ نَفْسِه، يَنْبغي أن يَقُوم الفَرْدُ بِتَضمين مَا يَعْتبره هُوِيَّتَه عُنْصَرًا جَدِيدًا، وهَذا العُنْصُرُ سَيَزْداد أهميةً في القَرْنِ الحادي والعِشرين، وَهُوَ : الشُّعُور بالانتماء إلى المُغامرة الإنسانية بِمَفهومها الكُلِّي الشامل.

وبِمَا أنَّ الهُوِيَّة مُتَعَدِّدَة ومُتَشَظِّيَة، فلا بُدَّ أن يَشْعُرَ البَعْضُ بِالضَّيَاعِ، وأنَّهُ في مَتاهةٍ اجتماعية، وهَذا مَا تُمثِّله أعمالُ الرِّوائي الفرنسي باتريك موديانو. وُلِدَ عام 1945، مِنْ أبٍ يهوديٍّ إيطاليٍّ وأُمٍّ بلجيكية. وَقَدْ نشأ موديانو بَيْنَ غِياب أبيه عنه وبين أسفار أُمِّه المُتعددة، ولَمْ يَتمكن من إتمام دراسته الثانوية إلا بِعَوْنٍ مِنَ الحكومة.

تَتَمَحْوَرُ كُتُبُه حَوْلَ البحث عن الأشخاص المفقودين والهاربين، وأُولئك الذين يَخْتَفُون، والمَحرومين من أوراق ثُبوتية، وأصحاب الهُوِيَّات المَسروقة. وَجَمَعَ في أعمالِه الرِّوائية بَيْنَ مَسْألَتَيْن بارزتَيْن: البَحْث عَن الهُوِيَّة، والبَحْث عَن الذات مقرونة بقضية عَصْرية، وهي الشُّعُورُ الإنسانيُّ الفَرْدِيُّ بِضَعْفِ الإنسان.

حَصَلَ موديانو على جائزة نوبل للآداب عام 2014، حيث أعلنت الأكاديمية السويدية في بيان لها أن موديانو كُرِّمَ " بفضل فَنِّ الذاكرة الذي عَالَجَ مِنْ خِلالِه المَصائرَ الإنسانية الأكثر عِصْيَانًا على الفهم، وكَشَفَ عَالَمَ الاحتلالِ ".

تَخُوضُ رِواياتُ موديانو في لُغْزِ الهُوِيَّة، ومُحاولة تَتَبُّع الأدلة على وجودها من خلال آثار الماضي، كما أنَّه هَاجَمَ فَترةَ الاضطرابِ وَالفَوْضَى أثناء الاحتلال النازيِّ لفرنسا، وَهُوَ يَسْعَى جاهدًا إلى بِنَاءِ عَمَلٍ سَرْدِيٍّ مُتجانِس، والاعتناءِ بالتفاصيلِ الدَّقيقةِ والأشياءِ الصَّغيرة، التي هِيَ في النِّهَاية جُزْء مِنْ ذات الكاتب، كما أنَّه يكتب باستمرار عن مدينة باريس، واصفًا تَطَوُّر شوارعها وعاداتها وشعبها.

إنَّ موديانو يُمثِّل دِقَّةَ الذاكرةِ، ومَفهومَ الهُوِيَّةِ المُعَقَّد، حَيْثُ يَتَّضِح الشَّغَفُ بالماضي، والبَحْثُ عَن الذكريات، وتفاصيل الحياة القاسية في المُدن الخالية من المشاعر والأحاسيس. وَرَغْمَ كُلِّ هَذه المَعَاني ذات الزَّخْمِ الفِكري، تَمتاز روايات موديانو بالهُدوءِ والتَّقَلُّبِ والرَّحْمَة.

وتَتَرَكَّز رِواياتُهُ مُنْذُ بَدْءِ مَشروعه الكِتابيِّ في نهاية السِّتينيات عَلى طُفولته الصَّعبة، التي نَتَجَتْ عَنْ تَرْبيته في كَنَفِ وَالِدَيْنِ لَمْ يَعْتَنِيَا بِه، ونَشْأته في ظِلِّ تداعيات الحرب العالميَّة الثانية، مِمَّا جَعَلَ النُّقَّادَ يُجْمِعُونَ عَلى أنَّه أفضلُ مَنْ كَتَبَ عَن هذه الفَترةِ الحالكةِ في تاريخ فرنسا، وعَن الأُبُوَّةِ المَفقودةِ، والهُوِيَّةِ الضائعة، والذاكرةِ المُتَشَظِّيَة، وانكسارِ المَعْنَى في الفِعْلِ الاجتماعيِّ.

وكِتَابَاتُهُ انعكاسٌ للمَشَاعرِ المَحفورةِ في أعماقِ نَفْسِه، حَيْثُ الشُّعُور بالضَّيَاعِ، والافتتان بِالتَّجْرِبَةِ الإنسانيَّةِ للحَرْبِ العالميَّةِ الثانية، والهَوَس بالمَاضِي هُوِيَّةً وذاكرةً وسُلْطَةً، والبَحْث عَن الأملِ في ظِلِّ تداعيات الأحداث المأساوية على مَصائر الأشخاص العاديين.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

بين الهبة والسُّلطَة

مقدمة: فبدأ الشاعر في قصيدة *إنما الدنيا لمن وهبا* من رؤية تتسم بالبعد الوطني المشبع بروح التأمل والنقد، حيث مزج بين حنين عميق إلى عراقٍ مضيء بقيم الكرم والبطولة وبين واقع مأزوم يشهد تمزقًا بسبب فسادٍ سياسي واجتماعي مستشرٍ. لا يقتصر النص على استدعاء الماضي الزاخر بمعاني الكرامة والشموخ، بل يتحول إلى منصة لممارسة احتجاج شعري صارخ ضد حكومة أفسدت المبادئ وأسكنت مفهوم الديمقراطية وراء ستار من الزيف الذي يكرّس الهيمنة ويبرر الخداع.

تتجلى هنا ثنائية الزمن بين حقبة تاريخية كان فيها العراق رمزًا للقيم الإنسانية النبيلة، وواقع معاصر تسيطر عليه السلطوية والفوضى السياسية. وتتصادم في القصيدة رؤيتان متناقضتان: أولاهما نموذج يعلي من خطاب المصالح الآنية والأنانية على حساب العدالة، وثانيهما خطاب شعري يعرّي تلك المصالح المزيفة ويكشف أبعادها المضللة.

تتبلور أهمية هذه الدراسة حول تحليل البنية الشعرية في القصيدة على ثلاثة محاور رئيسية:

1. البنية النصية: تعنى بكيفية توظيف الشاعر للغة وقوة الصورة الشعرية لتشييد خطاب نقدي يحمل حمولة فكرية غنية.

2. البنية الموضوعاتية: تركز على مفاهيم مثل الاغتراب، الانتماء، وقيم البطولة التي تؤسس لرؤية تعبر عن معاناة متجذرة في تجربة عراقية تجمع بين وعود الماضي المؤجلة وكوابيس الحاضر القاسي.

3. البعد السياسي الاجتماعي: يسعى النص لتصوير الحكام كرموز للفساد الذين شوّهوا معنى الديمقراطية، مغتصبين مفهوم الهبة المشروعة لصالح ممارسات قائمة على النهب المقنع باسم الولاءات السياسية والمصلحية.

في إطار هذه المحاور، تظهر القصيدة كمحاولة لإعادة تشكيل مفاهيم أساسية مثل الحياة، الكرامة، والهوية. وبهذه الطريقة تتحول الكلمة الشعرية إلى أداة نقد ومقاومة واستنهاض للإرادة الجماعية، باندفاعٍ يعكس يقينًا راسخًا بإمكانية بعث عراق جديد قادر على استعادة مجده التليد.

التحليل الشامل للأبيات

العنوان: "إنّما الدنيا لِمن وَهَبا" – مفارقة لاهبة

يحمل عنوان القصيدة "إنّما الدنيا لِمن وهبَ" دلالة بلاغية ومفارقة فكرية ذات طابع نقدي، تنبثق من تحوير واعٍ للمثل الشائع "الدنيا لمن غلب"، وذلك عبر استبدال "الغلبة" بالإيثار. هذا التحوير لا يكتفي بإعادة صياغة اللفظ، بل يُعيد توجيه المعنى نحو قراءة أخلاقية-سياسية تعيد مساءلة مفاهيم السلطة والشرعية.

يشتغل العنوان كآلية تفكيكية تنتقد الخطابات السائدة التي تُبرّر التسلط والنهب باسم الغلبة أو القوة، ليطرح بديلاً قيميًا يتمثل في "الهِبة"، وهي هنا تُفهم لا بوصفها فعل كرم، بل كآلية رمزية تشير إلى منح السلطة والثروات بغير استحقاق، تحت غطاء ديني أو طائفي. ومن هذا المنطلق، يُضمر العنوان سخرية مريرة من الواقع السياسي العراقي، حيث تُوزّع الامتيازات وفقًا للولاء لا للكفاءة أو العدالة.

ومن منظور سيميائي، فإن "الهِبة" تصبح أداةً لتعرية التناقض بين الخطاب القيمي المعلن والممارسات الواقعية، ما يجعل العنوان مفتاحًا دلاليًا لفهم بنية القصيدة بوصفها نصًا احتجاجيًا. إنه ينهض بوظيفة تأويلية تكشف عن أزمة مشروعية تحكم الواقع، وتعيد مساءلة العلاقة بين اللغة والسلطة، بين المبدأ والتطبيق.

1. لحظة الاكتشاف والوعي المنكسر

"لمّـا رأيت الـذي يجري بموطننا

خلوتُ وحدي لأني أعرفُ السببا"

عندما نتمعن في قول الشاعر "لمّا رأيت الذي يجري بموطننا"، نجد أنفسنا أمام لحظة وعي عميق تحمل في طياتها إدراكًا مؤلمًا لحال الوطن. ذلك الوطن الذي ارتبط في الأذهان بالأمان والكرامة، أصبح اليوم حِملاً ثقيلاً يتصارع مع تناقضاته. ومن منطلق أن الحب الحقيقي يستلزم فهمًا ووعيًا شاملاً، فإن الشاعر لا يلجأ إلى الهروب من هذا الواقع المرير، بل يعمد إلى مواجهته من خلال اختيار العزلة والتأمل. إذ يدرك أن التعمق في "معرفة السبب" هو مسؤولية جوهرية تُفرض على من يرتبط بالوطن بشعور الحب والانتماء. في هذا السياق، تصبح العزلة موقفًا تأمليًا يتجاوز حدود الانكفاء ليشكل محاولة واعية لإعادة صياغة العلاقة المتصدعة مع الوطن وإعادة ترميمها على أسس أكثر صلابة و استيعابا

2. شخصنةُ المأساة وانقلابُ القيم

"الزيـفُ في وطـني يـسْودُّ متسعـا

والمـوتُ صارَ أخانا والدمـوعُ أبا"

في هذين البيتين الشعريين، يعكس الشاعر تصويرًا مكثفًا لحالة التفكك القيمي والتراجع الأخلاقي الذي يعصف بالوطن، ويتحول فيه إلى فضاء مشوه تغلب عليه مظاهر الزيف والموت. يُستخدم الفعل "يسودّ" ليس فقط لوصف الانتشار الواسع للزيف، بل ليعبر أيضًا عن حالة انطفاء النور الرمزي للمبادئ الأخلاقية وضياع البصيرة العامة. يشير مفهوم "التوسع" إلى استشراء الكذب وزيادة تأثيره في جلّ تفاصيل الحياة اليومية.

تصل الصورة الشعرية إلى قمة تجليها في توظيفها لما يمكن اعتباره إعادة تعريف للأسرة الرمزية؛ حيث يصبح الموت بمثابة "الأخ"، والدموع تمثل "الأب". هذه ليست مجرد استعارة بلاغية تقليدية، وإنما تعيد صياغة مفهوم العلاقة الإنسانية ضمن وطن يعاني من الاضطراب والتفكك. إن هذا الانقلاب الدلالي يجعل الموت جزءًا حميميًا من هوية المواطن، والدمع وصيًا دائمًا عليه، في إشارة إلى حالة من الشقاء المستدام التي أصبحت السمة المميزة للوجود اليومي.

تشير هذه الصورة المركبة إلى أن المأساة في هذا السياق تجاوزت كونها حدثًا عابرًا لتصبح كيانًا أصيلًا ودائمًا ضمن بنية الحياة العامة. وبذلك، يتحول الشقاء إلى عنصر جوهري في الانتماء الوطني، ما يرمز إلى واقع تتراكم فيه الخسارات وتتوارث فيه الهزائم، مما يشي بمستقبل غارق في بؤس متجذر وفقد مستمر يتغلغل في عمق الذاكرة الوطنية.

3. تضحية الحب وامتناع المتع السطحية

"أذوقُ مـن حصرم الآلام ألذعهُ

وغـيرنا يـتـشهّـى الخـمرَ والعنبا"

في البيتين الشعريين، يُبرز الشاعر مفهوم "المذاق" كإشارة رمزية تعكس قيمة الحب الوطني. فذكره لـ "ذوق حصرم الآلام" يُظهر كيف يصبح الألم شهيًّا، حيث يعزز ارتباطه بوطنه ويعبر عن شغفه بالتضحية. بالمقابل، يترك الآخرون هذا الالتزام الوطني وراء ظهورهم ويسعون نحو متع سطحية مصوّرة في "الخمر والعنب"، وهو ما يعكس انعدام الجدية في شعورهم بالانتماء.

المفارقة العاطفية

يقدم الشاعر هنا تناقضًا عاطفيًا فريدًا؛ فبدلاً من رفض الألم، يحتفي به كطعم محبب. هذا التحول يعكس رؤية بأن التضحية والصمود في مواجهة الانكسار هما التجسيد الحقيقي للحب الأصيل. بل إن الألم يصبح دلالة وشهادة على الوفاء للوطن.

الاستعارة المزدوجة

يرتكز التعبير الأول على "حصرم الآلام"، أي تلك اللحظة التي يصل فيها الألم قمّته، ولكنه يُعاد تشكيله ليُصبح لذة تتجاوز ملذات دنيوية فارغة ومزيفة. هذا التصوير يصور الألم كرمز خالد للتضحية ويمنح القصيدة بُعدًا اجتماعيًا عبر الموازنة بين معنى الألم واللذة.

الدلالة السياسة المستترة

من خلال انتقاده لأولئك الذين "يتشهّون الخمر والعنب"، يوجه الشاعر رسالة لاذعة تستهدف الطبقة الحاكمة أو الفئات المنشغلة بالمتع العابرة على حساب معاناة شعبها. تلك الفئات، بدل التضامن والسعي للتغيير، تتهاوى أمام رغباتها السطحية، في مرحلة تتطلب تضحيات وحراكًا حقيقيًا وفعّالًا.

4. التيه في فضاء الوطن المتغيّر

في البيتين الشعريين المذكورين، يُوظِّف الشاعر استعارة التشبيه لتجسيد حالة الضياع الداخلي التي تسود في وطن تغيّرت ملامحه المألوفة. فالشاعر يصوّر نفسه كـ"الضائع الوسنان"، الذي يتيه مترنّحًا بلا هدى، حيث يتحول هذا الشعور إلى تجربة شخصية تمثّل انقطاعاً عن الهوية الجمعية والمسارات الراسخة التي كانت تشكل جزءًا من إدراكه لوطنه. أما "البلد" في النص فلا يعود مكان الأمان والاستقرار، بل يصبح فضاءً غامضًا يغمره الالتباس والمشاعر القاتمة.

1. الضياع كحالة نفسية ومعاناة متجذرة

يُشير التشبيه الضمني إلى أن الشاعر يعاني من أزمة انتماء، حيث لم يعد يشعر بوجود رابط ثابت بين ذاته ووطنه. الوطن، الذي كان يمثل بوصلة معنوية، فقد هذا الدور ليصبح مساحة غريبة تشكّل عودة الشاعر إليها محطة للتشتت الجغرافي والنفسي، مما يجعل الحركة داخله مفتقرة إلى الهدف والأمل.

2.  اندثار الهوية كمصدر للألم

تجسد "الحيرة المكتئبة" انعكاسًا لواقع الوطن الذي افتقد القيم والمعاني التي كانت سابقًا تجسدها. هذا التحوّل العميق يضع الشاعر في حالة من الاغتراب الداخلي، حيث يشعر بفقدان إدراكه للمعاني التي كان الوطن يعبر عنها. وتنبع هذه الأزمة من عدم قدرة الشاعر على استيعاب تحولات الواقع الوطني، وهو واقع أضحى سبباً في تحول بيئته، التي كان يُفترض أن تكون ملاذاً معنويًا، إلى مساحة تفتقر للهوية والروح.

5. تمزق الذات وتمزق الوطن

"تـمـزّق القـلبُ أشـلاءً مبـعْــثرةً

العـظمُ هيظ ولحمي قـد غـدا إرَبا"

1. استعارة التمزّق كبنية رمزية:

يفتح الشاعر عبر تمزّق القلب والجسد مساحةً للتعبير عن انهيار الذات، لكن هذا الانهيار لا يُفهم بمعناه الفردي فحسب، بل يتجاوزه إلى تمزق الوطن ذاته. فالقلب رمز للانتماء والهوية، وعندما يُبعثر، فإن المعنى يتجاوز حدود الجسد ليعكس تفتت الكيان الوطني، وكأن الشاعر يحمل الوطن داخله، ويتكسّر معه.

3. الجسد كرمز للفاجعة الجمعية:

في "العظم هيظ" و"اللحم إرَبًا"، تتجسد الكارثة بلغة جسدية، توصل الألم ليس بوصفه شعورًا عابرًا، بل واقعًا متجسدًا في بنية الذات المهشّمة. الجسد هنا لم يعد كيانًا موحدًا، بل كومة من الأشلاء، تمامًا كما الوطن الموزع بين طوائف وأحقاد وتصدعات تاريخية.

4. ترابط الذات بالوطن – الجرح كهوية:

يحوّل الشاعر التجربة الشخصية إلى تجربة جمعية. فالألم الذي يشعر به في قلبه ولحمه هو نفسه الألم الذي تعانيه البلاد في كل مفصل من مفاصلها. هذه العلاقة التبادلية تعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء، بحيث يغدو التمزّق هو نفسه الذاكرة، ويصبح الجرح سردية الوطن.

5. المعنى الدلالي الرمزي:

تكمن براعة الشاعر في تحويل تجربة التمزّق من كونها حالة ضعف إلى لحظة وعي. فإدراك الألم هو أولى خطوات المقاومة. لا حضور هنا للبطولة التقليدية، بل هناك بطولة الوعي، والاعتراف بالتمزّق كشرط ضروري لاستعادة الكلّ المتفتت.

6. رمز الحب وذكريات الدفء.

"ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي

أضحى الحبيبُ رمادا والهوى خشَبا"

1. مخاطبة بغداد واستحضار الأمجاد الحضارية

حين يخاطب الشاعر “بغداد” لا يقصد فقط دمشق العواطف في مرحلةٍ معاصرةٍ مضطربةٍ؛ بل يُرمز هنا إلى المدينة التي تأسست فوق أعمدة حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، بابل، آشور. فالتعبير “ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي” ينقل القارئ إلى فكرتين متوازيتين:

-  المخاطب الشخصيّ (بغداد بصفتها حبيبة الشاعر) من المنظر الوجداني للحاضر، حيث صار الحبُّ هشًّا.

-  الرمز الحضاري (بغداد كرمزٍ لكلّ العراق القديم) الذي كان منارةً للعلم والفنون والقيم الإنسانية منذ آلاف السنين.

2. العجز عن نطق الحقيقة المرّة

الفعل “ماذا أحدِّث” ينبئ عن عجزٍ لغويٍّ وهذا عجزٌ وجداني؛ إذ لم يبقَ في ذاكرتـه من كلماتٍ ترقى لتسمِّي حجم الألم وانكسار العلاقة بوطنٍ حكمته سلطة فاشية لاحقة. فاللجوء إلى النداء الشاعريّ يحمل في طيّاته تأكيدًا على أن المشهد الحالي لا يُقاس بأيّ حالٍ بأمجاد تلك الحضارات التي جعلت العراق مهدًا للثقافة الإنسانية.

3. “الحبيبُ رمادًا”: دلالة رمزية على انطفاء أمجاد الماضي

-  رمزية “رماد” هنا تتجاوز مسألة الفناء الشخصيّ فحسب؛ إذ تعني أنّ “الحبيب” الذي هو “بغداد” لم يعد يحتفظ بحيوية ذلك التراث السومري–البابلي–الآشوري، بل بات ركامًا من الآثار التي نُهبت وتآكلت في زمن الاستبداد.

-  يُحيل هذا التصوير إلى إخماد روح المدينة التي كانت سابقًا حاملةً لشعلة المعرفة والحرية، قبل أن يسيطر عليها قهرٌ سياسيٌّ دمويّ.

4. “الهوى خشبًا”: تجمّد العلاقات وغياب الدفء

-  خشب الهوى يشير إلى صلابةٍ جامدةٍ، تعكس جمودًا عاطفيًّا واجتماعيًّا. فالمدينة أو الوطن لم تعد تفيض بمدارات الرحمة أو التضامن أمثالما كان في تقاليد أجدادٍ زرعوا أولى حبات العدالة في دساستهم.

-  هذه الصورة تحدّد حالة الانكماش الروحي التي عادت معها معانٍ الحبّ والولاء إلى مجرد كلامٍ جافٍّ لا حياة فيه.

5. التفكيك السياسي وتشظّي الذاكرة

من البديهي أنّ أيّ استحضارٍ للماضي الحاضر في نفسه لا يمكن أن يسمح بإعادة تمجيد عصرٍ استبدادي؛ بل يسلِّط الضوء على أنه إذا كنا نفتقدُ اليوم “جذوةَ الحضارة” التي كانت تصهر القيم تحت “سماءٍ عراقية” واسعة، فلأننا مررنا بفترة حكمٍ فاشيٍّ، أطفأ نسمات الحرية وبثّ في البلدِ زيفًا من يدٍ واحدة.

بهذا المعنى، يصبح “رماد الحبيب” استعارةً مركّبة:

-  للمدينة التاريخية التي فقدت بعض بريقها الحضاري تحت وطأة القمع.

-  حتى للأفراد الذين صدّرت السلطة قسوةً جعلت من انتمائهم إلى الوطن جرحًا لا يُشفى.

7.انقسام الحضور والفقدان الثقافي:

"أرنو على طللِ الأجدادِ منكسِرا

يحوطني الحشدُ لكنْ لاأرى العرَبا"

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر أطلال الأجداد كرمزٍ للتاريخ العريق والإرث الثقافي:

1.  الحنين إلى الماضي المجيد

يشير الفعل “أرنو” إلى شوقٍ عميقٍ واشتياقٍ لتلك اللحظات التي كانت فيها “أطلال الأجداد” تمثّل مكانًا للكرامة والهوية. إنّها استعارةٌ للماضي الحضاري الثريّ الذي تتهاوى الآن أنقاضه، مما يُعمّق الشعور بالانكسار (كلمة “منكسِرا”) بلوعة فقدان تلك المجد السابق.

2.  التناقض بين العدد والجوهر

تحيط بهُ “الحَشد” من كل جانب، وهو رمزٌ للحضور الكثيف على مستوى السكان أو الخطاب الشعبي، لكنّ الشاعر لا يرى “العَرَبا” الحقيقيين، أي الأشخاص الذين يحملون الهوية الأصيلة والقيم التراثية. هذا التناقض يعكس فقدان المعاني الصافية تحت غطاء الكثرة الشكلي، إذ إنّ الأعداد لم تعد تعكس أصالةً أو جوهرًا، بل مجرّد مظهرٍ فارغٍ من العمق.

3.  الغربة الثقافية وفقدان الأصالة

السماءُ ملبّاةٌ بالناس، لكنّ الشاعر يشعر بالوحدة الثقافية، لأنه لا يجد من جديدٍ فيهم من يتماهى مع روح “الأجداد” الأصيلة. هنا تظهر استعارة نقدية تنقلنا من الإعجاب الأوّلي بالأحِباء التاريخيين إلى الحسرة على البيئة التي أضاعتها التحولات، فباتت “الحشود” مجرد أرقامٍ بلا مضمونٍ ولا صلةٍ حقيقية بالتراث.

8. انتحار المواطن بين ثقل المبادئ وجحيم الواقع.

"وكيف أحملُ جمْراً في كفوفِ يدي

مثل التي وُصفتْ: حمّالةً حطبا"

في هذين البيتين، يستلهم الشاعر من صورةٍ دينية عميقة للتعبير عن ثقل المعاناة الفردية والجماعية:

1.  التصوير الاستعاري للمأساة

يستوقفنا تصوير “حمل الجمرة” في كفّ اليد، الذي ينحو إلى تصوير العبء النفسي المزدوج: الاحتراق الداخلي والألم المستمر. ويُقابل هذا الثقلُ “حمّالة الحطب”، في إيحاءٍ إلى جهدٍ مميت يجعل المواطنوعاءً ينصهر فيه كرامته ومبادئه.

2.  الدلالة الرمزية للمسؤولية الوطنية

تمثّل “جمرة الوطن” ثمنًا مُرهَقًا يدفعه المواطن الشريف؛ حيث يتحمّل حرارة الحق في وسط تآكلٍ قيَمِيّ. أما “حمّالة الحطب” فتُمثل أيادي الفساد التي تُلقي بالوطن على كفّ الفقراء، فتلتهم كرامتهم بأيدٍ عابرة لا تؤمن بجوهر الالتزام.

3.  موقف احتجاجي وأفق أمني

تكشف هذه الاستعارة عن احتجاجٍ صامتٍ للمواطن الأصلي، الذي لا يجد حوله إلا رماد القيم وهو يلهث خلف لحظة وعيٍ جديدة؛ إذ لا خلاص إلاّ بتحمّل من يبقى على العهد، وإن آلمهم حملُ الوطن في زمنٍ تفشى فيه الانحلال.

9.التجسيد الديني للفساد السياسي – قراءة سيميائية في صورة إبليس:

"نحن ابتُلينا بإبليسٍ وزمرتهِ

أشاعَ فينا الأسى والفقرَ والجربا"

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر صورة "إبليس" بوصفه تمثيلًا أعلى للشرّ المطلق، ليمنح الواقع السياسي بعدًا كونيًا يخرج عن دائرة الخطأ البشري العابر، ويدخل في نطاق الخراب المُمَنهج والمدبّر.

1.  الشيطنة الرمزية للسلطة:

2.  يشكل تشبيه الحاكم بـ "إبليس" اشتغالًا رمزيًا يُضفي على منظومة الحكم طابعًا لاهوتيًا، يحوّلها من منظومة فاسدة إلى قوة شرّ خارقة، متصلة بجذور الأسطورة والدين، مما يعمّق البعد الأخلاقي للرفض.

3.  ثلاثية الخراب: الأسى – الفقر – الجرب:

يجمع الشاعر بين أبعاد ثلاثة لانهيار الدولة:

الأسى: دلالة على الانكسار المعنوي وفقدان الأمل.

الفقر: مؤشّر لتهاوي البنية الاقتصادية وغياب العدالة التوزيعية.

الجرب: استعارة قاسية توحي بانهيار الصحة العامة، كعلامة مَرئية لتفشي القهر والتهميش.

4.  البنية الاحتجاجية للخطاب:

يتخذ البيت طابعًا إدانيًا واضحًا؛ فالسلطة لم تُتهم فقط بالفشل، بل وُصفت بأنها "ابتلاء"، أي عذاب قدَريّ، مما يعبّر عن ذروة السخط الشعبي وفقدان أي أمل بالإصلاح من داخل البنية الحاكمة نفسها.

10. مبالغة كونية لتجسيد شمولية الفساد وانسداد الأفق:

"ضاقَ الفضاءُ بهم من فرطِ لوثتهم

وأطفأوا الشمسَ والأقمارَ والشهبا"

في هذين البيتين، يعمد الشاعر إلى تصعيد بلاغيّ ذي بُعد كوني، يصوّر فيه الفساد كقوة ملوّثة لا تكتفي بإفساد الواقع الأرضي، بل تتعدّاه لتخنق الفضاء وتُطفئ مصادر النور الكوني.

1.  التوسيع الكوني للكارثة:

إن ضيق الفضاء من "لوثتهم" تعبير مجازي يضخّم صورة الفساد ليجعلها متجاوزة للحدود الجغرافية والسياسية، متّسعة حتى لتشوّه العالم بأسره. وهذا الاتساع البلاغي لا يهدف للمبالغة فقط، بل يُوظَّف لتكثيف الإدانة الأخلاقية للسلطة الفاسدة.

2.  الرمزية النجمية لانطفاء الأمل:

تمثل "الشمس والأقمار والشهب" عناصر الهداية والنور والاستمرارية في المخيال الرمزي. إطفاؤها لا يشير فقط إلى نهاية دورة كونية، بل إلى انعدام الأمل وضياع البوصلة الوطنية والأخلاقية.

3.  الرؤية الاستشرافية ونبرة التحذير:

تتحوّل هذه الصورة إلى نوع من النبوءة الشعرية السوداء، حيث يُعلِن الشاعر انهيار النظام القيمي والكوني برمّته إن استمرّ الفساد بلا مقاومة. وهو بذلك لا يصف الواقع فحسب، بل يدفع باتجاه استعادة "الوعي الوطني" كضرورة قصوى لإنقاذ ما تبقّى

11. خيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية:

"ما ضرّني جمرةٌ تجثو على جسدي

بل شاقني صحبةٌ صاروا لها لهبًا"

يعمد الشاعر هنا إلى تصوير الألم النفسي على أنه أبلغ من الألم الجسدي عبر استعارةٍ حراريةٍ مركزة: فالجمرة، وإن كانت تحرق الجسد، لا تُذكي في النفس غضبًا أو وجعًا بمقدار ما تُنذره الصحبة المتحوّلة إلى “لهبٍ” يُلحق الأذى بالروح. تُجسّد هذه الصورةُ شعورًا عميقًا بخيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية، إذ يتحوّل المحيط القريب، المفترض فيه سُند الدعاء والبناء، إلى عدوٍ يحرق الانتماء وينسف الثقة. وبالتالي، لا يعود الألم مجرد تجربةٍ حسية، بل يصبح انعكاسًا لمأساةٍ نفسيةٍ تكشف عن خذلانٍ إنسانيٍ متغلغل، "يشير هذا التصوير إلى مدى عمق الانكسار حين ينبع الألم من جانب بعض الصحبة المقربين.

12. عمق التصوير في الفعل

"أين النجوم التي كانت تلاحقنا

تحدو الزمان إلى الأمجاد والحقبا؟"

في هذين البيتين، يتجاوز الشاعر دور السؤال البلاغي النمطي، ليكشف عن غياب الرموز الباعثة للأمل. فـ"النجوم" ليست هنا مجرد أجرام سماوية، بل تمثل قيمًا ومثُلًا عليا — أو القادة والأحلام — الذين كانوا يقودون الدرب نحو العزة والمستقبل الواعد.

يكمن عمق التصوير في اختيار الفعل "تحدو"، من الفعل “حدا” بمعنى السير بخطى ثابتة وانتقال سريع. هذا الفعل لا ينطوي على سكونٍ سلبي، بل يحمل في طياته إيقاعًا حركيًا ونفَسًا تقدميًا، كما لو أن كل نجمة كانت “تدفُع” الزمن إلى الأمام نحو أمجادٍ وحقبٍ مضيئة.

بإسناد هذا الفعل إلى الزمن، يحول الشاعر تلك “النجوم” إلى عناصر فاعلة في التاريخ، لا مجرد مشاهد خلفية. وعندما يسأل: “أين هي الآن؟”، يوجّه سؤالًا عن انقطاع هذا النبض الحضاري وغياب دور هؤلاء النجوم في إضاءة المسار.

بهذا التصوير البلاغي، يتحوّل الضياع من مفهومٍ فكريٍّ عام إلى حالة وجدانية تعكس انعدام القِيَم القادرة على دفع الزمن نحو الأمل، ويعبر عن الحيرة أمام تحول الزمن نفسه من محركٍ للنهضة إلى آلةٍ لطمس الأماني.

13. أرضٌ تجذب الجميع:

"أين العراق الذي ناخ الجميع له

وأنبت الطّهْرَ والأطهار والنجبا؟"

يتجاوز الشاعر في هذين البيتين البعد الفردي ليستدعي مفهوم الوطن باعتباره فضاءً جامعًا له جاذبية أخلاقية وتاريخية. فـ"العراق" يُصوَّر هنا ليس مجرد كيانية جغرافية، بل هو هوية وطنية أصيلة تقوم على ميراث حضاري ثري، قادرٌ على إنضاج "الطّهر" و"الأطهار" و"النجبا" — رموزٌ للقيم النبيلة والصفاء والريادة.

ومع ذلك، تكشف صيغة الاستفهام "أين العراق؟" عن حالة من الانكسار الجمعي؛ إذ باتت عقلية الناس لم تعد تتمثل هذا المثال الحضاري المتجذر، ما يشير إلى أن مرحلةً ثقافيةً وجمعيةً كانت قائمة قد انتهت، وأن امتدادَها لم يعد متحققًا في الواقع الحالي المُشوَّه.

من ثم، يُصبح السؤال البلاغي توجيهًا نقديًّا ينير على غياب المشاريع القادرة على إعادة إحياء التوازن بين الإرث القيمي والصرامة الأخلاقية من جهة، وبين ممارسات الواقع من جهة أخرى، ليؤكد أن حالة الاستفهام هنا هي بمثابة إنذارٍ بأن الرواية الوطنية العريقة لم تعد حاضرةً في فكر الجماعة

14. العطر المتبدد: شذرات من مجد ضائع

"رشَّ الحضارات عطرا وافرا ثملا

تضوّعَ المجدُ منه حيثما سكبا"

يُوظّف الشاعر صورة العبق الحضاري ليُعبر عن ازدهار الماضي، فالتراث يُشبَّه بالعطر المسكوب الثمل، المنتشر حيثما انسكب. العطر هنا ليس فقط دالًا على الجمال، بل على الفاعلية الحضارية والتأثير العالمي. وقد جاءت لفظة "تضوّع" لتشير إلى الامتداد الزماني والمكاني لذلك المجد. غير أن انسكابه "حيثما سكبا" يحمل دلالة ضمنية على تبعثر القيم الحضارية، وكأنها لم تعد تستقر في مكان ثابت، بل صارت شذرات لا تجمعها بنية.

15. رمزٌ مضى... وبقي العطاء

"قاد الريادة في الأصقاع منفردا

وأجزلَ الكرمَ المعطاءَ ما وهبا"

في هذا البيت الشعري، يستدعي الشاعر صورة القائد التاريخي الذي لم يكن مجرد شخصية حاكمة، بل مثالًا للريادة والعطاء الذي يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة. تعبير "الأصقاع" هنا لا يشير إلى أبعاد المكان المادية فقط، بل يحمل في طياته دلالات اتساع التأثير والامتداد. أما وصف "منفردًا" فيبرز تفرد الدور وتميز التجربة، مما يمنح الشخصية الموصوفة بُعدًا استثنائيًا.

البيت الشعري يخفي بين سطوره رثاءً لشخصية وطنية بارزة تحولت بفعل غيابها إلى رمز خالد. هذه الشخصية لا تكاد تُعرّف كفرد بعينه، بل هي انعكاس لهوية عراقية جماعية ارتبطت بالعطاء والتضحية. ويأتي الفعل "وهبا" في نهاية البيت ليضفي على مفهوم الكرم بُعد النبل الفطري، حيث يتم العطاء بلا مقابل، في إشارة إلى سمو القيمة الإنسانية التي تتخطى أي مردود مادي أو اعتراف.

يمكن قراءة هذا البيت في سياق التاريخ العراقي بوصفه تكريمًا لأولئك الذين قدموا أنفسهم في سبيل الشعب وتركوا خلفهم إرثًا معنويًا عظيمًا. هؤلاء القادة لم يسعوا لامتلاك القصور أو جمع الثروات، بل خطّوا نماذج أخلاقية مستوحاة منها الدروس حين تختل المعايير وتغيب القيم.

16."قوى الشعب الخيّرة تنهض من بين الركام"

"دارُ المهابةِ بغدادُ الندى أبَدا

تزيحُ أجنحةَ الظلماءِ والحجبا"

يستدعي الشاعر صورة بغداد بكل عظمتها وكرمها الأصيل، لتكون رمزًا للوطن العريق الذي يحتضن العدالة والمعرفة. إن وصفها بـ"دار المهابة" لا يعد مجرد توصيف، بل يشير إلى مكان يتجاوز الجغرافيا ليكون بمثابة قوة رمزية تستطيع إحداث تأثير تاريخي وتغيير جذري. الاستعارة المستخدمة في عبارة "تزيح أجنحة الظلماء والحجبا" تعبر عن قدرة بغداد، بمعنى الوطن، على تبديد الظلام، سواء كان ذلك يتمثل في الجهل أو القمع أو الفساد، وكأنها شمس ترفع ستائر الليل عن وعي الشعب. في هذا الوصف، تظهر بغداد ليس كضحية فحسب، بل ككيان فاعل و نهضوي يمتلك في جوهره إمكانيات التغيير. هناك تلميح ضمني في هذا النص إلى أن القوى الخيّرة الكامنة في الشعب، كما حدث عبر تاريخ العراق العريق، قادرة على النهوض من بين الركام وتفكيك الحجب التي تراكمت حول الحقيقة والعدالة.

17. بغدادُ منبعُ العطاء والرحمة

"وتفرش الأرض عشب الخير من يدها

ليستريحَ بها من كان قد تعبا"

يصور الشاعر بغدادَ ككيانٍ رحيمٍ يغدقُ الخيرات على الجميع. إنّ “عشب الخير” الذي تُفرشه المدينة ليس مجرّد نباتٍ طبيعيٍّ، بل رمزٌ للعطاء اللامحدود، يستمدُّ قوته من “يد بغداد” الحاضنة التي تعبّت من وطأة التاريخ القاسي. ينتقل الوصف هنا من الألم الشخصيّ إلى تعبيرٍ وطنيٍّ، فتغدو بغدادُ ملاذًا للمُنهكين وأولئك الذين انهكهم الصراع، وكأنّها أمٌّ عادت لتضمّ أبناءها بعد طول غربة. بهذا، تتجلّى المدينةُ كقيمةٍ وجوديةٍ متجدّدةٍ تسهم في تخفيف جراح التاريخ وإعادة بناء الإنسان المُنهك.

18. الحنين والألم الوطني:

بغدادُ دمعة أيامي ولوعتها

وفي ثراها أرى الحلاّج قد صلبا

يتحول اسم "بغداد" في هذا المقطع إلى رمز للألم والتضحية، حيث يصفها الشاعر بأنها "دمعة أيامي"، معبّرًا عن حزن عميق يمتد عبر الأجيال.

ذكر الحلاج كرمز روحي

يربط القول "في ثراها أرى الحلاج قد صُلبا" بين معاناة المدينة ومعاناة عقلية وروحية متمثلة في مصير الحلاج، الذي يعتبر رمزًا للشجاعة الصوفية والسعي وراء الحقيقة. يأتي تصوير "الصلب" هنا ليس فقط كقمع جسدي، بل أيضًا كقمع فكري وروحي، يعبر عن التضحية من أجل الاستقامة والحقيقة.

دلالة الحرمان الروحي والفكري

يجمع الدمج بين بغداد والحلاج بين بعدين:

الأرضي: حيث أصبحت أرض بغداد علامة على الموت والامتهان (صلب الحلاج).

الرمزي: إذ يشير القيم التي يمثلها الحلاج إلى أن المدينة تعاني ليس فقط من فقدان الأمن، بل من فقدان حرية الفكر والروح.

أثر الصدمة في النفس الجماعية

تحولت القصيدة إلى صورة تجسد حنين المدينة لعصر لم تتخل سلطاته عن قيم الكرم والعرفان. إلا أن صورة الصلب الروحي للحلاج في ترابها تدلل على أن بغداد فقدت حتى القدرة على احتضان أفكار الصدق والروحانية، مما أبرز تساؤلات صارخة حول مصير الهوية الوطنية في ظل قسوة الزمن.

19. الألم العميق والخسارة الحقيقية.

"دموعُ يعقوبَ تجري في مرابعنا

دماءُ يوسفَ ما كانت دماً كذبا"

فيستعير الشاعر صورًا قرآنية مكثفة للدلالة على الألم العميق والفقدان الحقيقي. دموع يعقوب ودم يوسف تُحيل إلى ألم الفقد الصادق، في مقابل خطابٍ معاصر قد يشكك في صدق هذا الألم. بهذا، يصبح الماضي النقيّ مرآةً لواقع ملوّث بالكذب والتشويه، وهو ما يعزز ثيمة الانفصال بين القيم الأصيلة والانهيارات الحديثة.

20. الانغماس في نشوة الوطن: خمرة الروح كذروة شعورية

25."يا خمرةَ الروحِ والريحانِ تُسكرني

فأنهلُ الزقَّ حتى ألعقَ الحببا"

في هذا المقطع، يبلغ الشاعر ذروة وجدانية تتجلى في استعارة "خمرة الروح والريحان"، حيث تنصهر المشاعر الذاتية في رمزية مشبعة بالدلالات الصوفية. غير أن الخمرة هنا لا تُفهم ضمن إطارها الرومانسي أو الجسدي، بل تُستعاد بوصفها رمزًا للتجلي الروحي والانتماء الحميم إلى الوطن.

فالنداء الموجّه إلى "خمرة الروح" يشير إلى سعي داخلي نحو التحرر من وطأة الواقع، وانجذاب إلى لحظة صفاء يتجلّى فيها الوطن كمصدر للسكينة، تمامًا كما تُسكر الخمرة العارف الصوفي في حضرة المعنى الأعلى. أما فعل "أنهل الزقّ حتى ألعق الحببا"، فيعبّر عن حالة من التوق العميق إلى الامتلاء الروحي، حيث تتجاوز العلاقة مع الوطن حدود العقل والمنطق إلى مستويات من الشوق المُطلق والالتحام الوجودي.

ويأتي هذا التصعيد الشعوري في موقع استراتيجي داخل بنية النص، لا باعتباره خاتمة، بل كمحور دلالي ينقل القصيدة من مدارات التأمل العقلي والوجداني إلى أفق روحي أوسع، تتعزز فيه صورة الوطن لا كحيز خارجي فقط، بل كـ"معبود معنوي" تسعى الذات للذوبان فيه.

هكذا تتجلى في هذا البيت بذور الانزياح الصوفي الذي سيتواصل لاحقًا، مشكّلًا منعطفًا في النسق الشعري، وممهّدًا لتحولات لغوية وروحية تُكمل تجربة الشاعر في بحثه عن الطمأنينة والانتماء النقي.

21. المدخل الموسيقي: تشكُّل الوجدان عبر المقامات

تشدو المقاماتُ في أفيائنا نغَما

كرْداً ، بياتاً ،نهاونْدا، وثم صَبا

يفتتح الشاعر بلغة موسيقية ذات دلالات ثقافية عريقة، تربط بين الصوت الروحي والمخيال الشعبي. هذه الموسيقى لا تُفهم فقط كزخرفة جمالية، بل كصوتٍ ينبض في الجغرافيا العراقية، يحمل معها الحنين إلى الانسجام والتناغم المفقود. ولكن في ظل هيمنة القوى الطائفية، يبدو هذا الغناء وكأنه صدى لحلم جماعي مُجهض، يتناغم ظاهريًا، لكنه مشروخ داخليًا.

22. تفكيك مقولات العالم الأرضي: نقد السائد الأخلاقي

أكاد أربأُ من قولٍ حوى سفَها

يقضي بأنّ الدنى تأتي لمن غلبا

يتخذ الشاعر موقفًا واضحًا من الخطابات المهيمنة التي تبرر الهيمنة والقهر بمبدأ "الغلبة"، وهو هنا لا ينتقد منطق القوة كقوة فحسب، بل ينتقد شرعنتها باسم الدين أو القدر. فهذا "القول السفيه" قد يمثل خطابًا دينيًا أو سياسيًا سطحيًا يُبرّر الاستئثار بالسلطة باسم التفويض الإلهي أو إرادة الغالب، وهو منطق يُسهم في ترسيخ الفساد واللامساواة.

23. ثروات الشعب أصبحت أداة منظمة للاستيلاء والنهب

وفي السماواتِ أذكارٌ وأدعيةٌ

تقول لي إنما الدنيا لِمن وهَبا

هنا يبلغ التهكم ذروته: فـ"الهِبة" التي تُقدّم في السماء كفعل روحي ــ تتحول على الأرض إلى آلية للنهب. يُوظف الشاعر خطابًا دينيًا مألوفًا ("الأذكار والأدعية")، لكنه يُعيد توجيهه باتجاه نقدي، إذ تبدو تلك الأذكار كأنها تُبرّر توزيع السلطة والثروات على أساس الولاء الطائفي لا على أساس الكفاءة أو العدالة. هكذا، تنقلب "الهبة" من رمز للعطاء النبيل إلى أداة للتمييز الطبقي والطائفي.

24. وهم السعادة: التباين بين مشاعر الطرب والحزن

لكنما السعْدُ لا يبقى إلى أمَدٍ

ففي الحنايا بكاءٌ لامسَ الطرَبا

يكشف هذا البيت عن المفارقة بين البهجة الظاهرية ــ ربما التي تمثلها طبقات النخبة المستفيدة من الفساد ــ والحزن الجوهري الذي يسكن الداخل. "الطرَب" هنا ليس فقط موسيقيًا، بل هو رمز للزيف والتخدير السياسي، في حين أن "البكاء في الحنايا" يمثل صوت الفقراء والمهمشين، الذين يُقصَون عن "الهبة".

25. عطشٍ روحيٍّ لا يُروى إلا بالصفاء الحقيقي،

وفي الجوانحِ قلبٌ هدّهُ ظمأٌ

لا يرتضي الماء إلاّ زمزماً عذِبا

يختتم المقطع بصورة رمزية تمثل التوق إلى نقاءٍ روحي ووطنيّ لا يتحقق إلا بعد التحرر من فساد القوى المهيمنة. "الظمأ" هو ظمأ العدالة، لا يُروى إلا بـ"زمزم" نقي ــ وهو إشارة إلى طُهرٍ ديني حقيقي، لا إلى ما يُنتَحل من قداسة في الخطابات الطائفية. بهذا المعنى، يصبح البيت رفضًا ضمنيًا لأي "ماءٍ ملوّث" بالفساد، مهما ادّعى الطهارة

26. المنفى الذي كان أكثر وطنًا من الوطن

"وفي المنافي حبيبٌ أنَّ مبتعداً

وترقص الروحُ جذلى كلما قربا"

في هذه الأبيات، يُقدّم الشاعر صورة مفارِقة: المنفى، على قسوته، يحمل بعض الدفء، وربما بعض الوفاء. فالوطن هنا يصبح كـ"حبيبٍ" بعيد، لا يُطفئ الشوق لكنه يُبقيه حيًا. الاقتراب منه (حتى ولو عبر الذاكرة أو المناجاة) يمنح الروح لحظة بهجة. بيد أن هذا "الحبيب" لم يعد كما كان، وقد بدأ في التحوّل من حالة وجدانية مشعّة إلى كيان فقد أصالته بسبب اغتصابه.

27. رحلة العودة التي لم تحقق الاستقرار

"كأننا في رحيل دائمٍ أبدا

يبقى فتانا يعيش العمر مغتربا"

البيت يُكثّف تيمة الاغتراب الداخلي. لم يكن المنفى الحقيقي خارج الوطن فحسب، بل داخله أيضًا. فحتى بعد العودة، لا يجد الشاعر في الوطن مستقرًا، بل يعيش شعورًا دائمًا بالتيه، وكأن الوطن لم يعد مكانًا للاحتضان، بل صار امتدادًا للمنفى، أو أسوأ منه: منفى ملوّث بالخذلان.

28. ضياع الهوية في وطنٍ مغتصب

"لا مستقر له في أرضه وطرا

يضيع كالتائهِ الولهان مضطربا"

هذا البيت يُعبّر عن أقسى صور الغربة: أن تكون داخل الوطن، ولكن بلا مكان. الغربة لم تعد جغرافية، بل تحوّلت إلى فقدان الهوية والانتماء في وطن مسلوب الإرادة. الشاعر هنا يتقمص مشهد "الولهان" – الإنسان المتعلق عاطفيًا بمكان أو شخص، لكنه لا يستطيع أن يجد فيه راحة أو استقرارًا، لأنه بات مكانًا لا يُشبهه، ولا يعترف به.

29. الاضطراب الناجم عن الأعاصير السياسية والاجتماعية

"يا لَلأعاصير تعرونا وترعدنا

وتأخذ الصبرَ منا غيلةً نهَبا"

الأعاصير هنا ليست مجرد استعارة طبيعية، بل تُشير إلى الاضطرابات التي تعصف بالمجتمع والوطن: تقلبات الحكم، صعود قوى طائفية، وفساد ممنهج يسرق حتى صبر الناس. فالكارثة ليست في الظروف، بل في أنها تحدث "غيلة" – أي خيانةً وغدرًا، بما يؤكد أن الخطر يأتي من الداخل، من أهل الوطن أنفسهم، ممن تحوّلوا إلى وكلاء للنهب باسم الدين والطائفة.

30. العودة إلى الطفولة كملاذ داخلي

"تؤرجح الريحُ أحلامي وتحملني

إلى الطفولةِ أُملي سوحَها لعِبا"

أمام هذا الخراب، لم يجد الشاعر سوى أن ينكفئ على ذاته وذكرياته. الطفولة، بكل ما فيها من براءة ولعب وأمل، تبدو كآخر ما تبقّى من وطنٍ صافٍ ونقيّ. العودة إليها لا تمثّل حنينًا فحسب، بل بحثًا عن ملجأ أخير، عن نسخة من الوطن لم تلوّثها السلطة والطائفية والنهب.

31. استحضار لذّات الحياة في غروبها

"وتستبيحُ هزيعَ العمْرِ، آخرَهُ

تذيقني الشهْدَ والأطيابَ والرطَبا"

يبدأ الشاعر من لحظة ضياع الزمن الأخير، حيث "هزيع العمر" يشير إلى الأواخر الباهتة من الحياة، لكنه لا يستسلم، إذ تستولي عليه ذكرى الوطن (أو الحبيبة/الحياة) وتغمره بلذّات رمزية: الشهد، الأطياب، والرطَب. هذه المفردات لا تعكس فقط النعومة والطعم الحلو، بل تشير أيضًا إلى أصالة النخيل، رمز الأرض والانتماء. وكأن الشاعر يقول: رغم ما مضى من وجع، ما زال للوطن طعمٌ لا يُنسى.

الدلالة: الوطن هنا ليس مكانًا فقط، بل مصدر دائم للعطاء حتى في لحظات الأفول. الحلاوة باقية رغم مرارة الزمن.

32. تقلبات الحب كما الريح المتقلبة

"لكنها الريحُ مهوى حبِّها قلِقٌ

ترى رضاءً وحيناً تلمحُ الغضبا"

يواصل الشاعر تصوير وطنه أو معشوقته عبر استعارة "الريح"، التي تُمثّل حالتها النفسية، حيث يتأرجح الحب بين الرضا والغضب، الهدوء والعصف. إنها صورة لحالة وطن لا يستقر، وحبٍّ لا يُطمأن إليه.

الدلالة: يجسد البيت تناقض الوطن المتعب، الذي يهبّ أحيانًا كنسمة، وأحيانًا كعاصفة، وكأنّه لا يملك قرار عاطفته ولا مصيره.

33. إعادة تعريف البطولة والقيادة

"لا للدماء ولا للسيف يحكمنا

إنّ البطولة فيمن يُحْكمُ العصبا"

هنا يتحول الخطاب من الوجداني إلى السياسي-الأخلاقي؛ فيرفض الشاعر ثقافة الدم والعنف، ويؤسس لفكرة قيادة تقوم على الحكمة والتماسك لا القمع. "العَصَبا" رمزٌ للجماعة المتمسكة، والتاريخ الحيّ.

الدلالة: البطولة الحقيقية لا تنبع من السيوف، بل من القدرة على إدارة التناقضات وتحريك الوعي الجمعي بروح مسؤولة.

34. ضرورة استئصال الفساد

"دع العقاربَ تحبو في خرائبها

لكنْ عليكَ بأنْ تستأصلَ الذنَبا"

يوظف الشاعر استعارة "العقارب" لتصوير الفاسدين والضالين، الذين يتغذون على الخراب. لكنه لا يدعو للمواجهة المباشرة، بل للتطهير العميق، لـ"استئصال الذنب" لا ملاحقة العرض.

الدلالة: هذا البيت دعوة إصلاحية ذكية؛ فهو لا يضيع الجهد في مطاردة التفاهة، بل يشير إلى العلاج الجذري من الداخل.

35. إرهاقٌ نفسيٌّ وبلوغُ حافةِ الانكسار

"ملّ الكلامُ وغامَ الحزنُ في كبدي

حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا"

في هذين البيتين، يصل الشاعر إلى ذروةٍ وجدانية تتجلّى في انهيارٍ داخليّ يناهز القَدْر النهائي للتعب النفسي. يظهر التعبير “ملّ الكلام” دلالة واضحة على استنفاد اللغة وقدرتها على البوح، حيث باتت الكلماتُ مجرّد أصواتٍ لا توازي ثقل الألم. أما “غمُّ الحزن في الكبدي”، فإنّه استعارةٌ تحيل القلبَ الموعود تقليديًّا بشؤون العاطفة إلى “الكبد”، بصفته مَقرَّ الألم الجمعية والعائلي في التراث الشعري العربي، ما يعمّق إدراكنا لجِسامة المخاض النفسي.

يتابع الشاعرُ “حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا” ليؤكد أنّ فعلَ اللوم والعتب لم يعد يُنقذُه، بل كان سببًا في تجدد جراحه دون بلوغ حلٍّ. هنا، لا يعني اليأسُ التخلّي عن الأمل أو الإيمان كليًّا، بل يشير إلى مرحلةٍ قصوى من الإعياء تقتضي تجنُّب تكرار الاتكال على اللوم كوسيلةٍ للتنفيس. إنّ هذه الصياغة الأكاديمية تُبرز أن الشاعرَ لم يختر الانهيار الكامل، بل أعلن استنفاد أدوات الشكوى وانتقل إلى وضعٍ يُفترَض أن يفسح المجال أمام العمل الجذري أو التأمل البنّاء في سبيل استعادة الثقة والكرامة.

أولاً: البنية النصيّة في قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا"

الانزياح الدلالي والانفعالي والرموز البلاغية:

تتحرك القصيدة على عدة مستويات من الانزياح الدلالي والانفعالي، حيث لا تكتفي بمخاطبة الحس العاطفي، بل تُعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والواقع، بين ما يُقال وما يُقصد. فالشاعر يُعيد صياغة واقعٍ ممزقٍ تحت غطاءٍ من الشعر الرصين، عبر أدوات بلاغية دقيقة تسخر من الخطابات الدينية والسياسية المهيمنة.

-  زمنيًا، يقارن الشاعر بين ماضٍ مشرقٍ يرمز إلى قيم البطولة والكرم، وبين حاضرٍ مهزوم يتسم بالفوضى واستلاب القيم.

-   دينيًا، تتحول الرموز المقدسة إلى أدوات للنهب والتسلط، ويكشف العنوان نفسه "إنّما الدنيا لِمن وَهَبا" عن انزياح ساخر من خطاب الورع الزائف الذي يمنح الامتيازات باسم الدين.

-  عاطفيًا، تتجلى اللوعة من خلال تحول مفردات الحب إلى مفردات موت وذبول: فـ"الحبيب رماد" و"الهوى خشب"، مما يعكس تصحرًا وجدانيًا يطال الفرد والوطن معًا

-  لغويًا، تتحوّل اللغة من أداة وصفٍ إلى أداة مقاومة ونقد داخلي، تعري الزيف السياسي والديني، وتنقل الألم الجمعي بلغة فردية مكثفة.

في امتداد هذا البناء، يوظف الشاعر عددًا من الرموز البلاغية التي تعمق المضمون السياسي والوجداني:

-  الموت كأخ والدموع كأب: تجسيد للمأساة بوصفها جزءًا من النسب العراقي، وكأن الحزن صار قدرًا وراثيًا.

-  بغداد ككائن حيّ: رمز للاستمرارية رغم الخراب، مدينة "تنزف" لكنها "تضيء"، ما يعكس تمسكًا بالأمل في جوهرها التاريخي.

-  الجمرة في كفّ اليد: استعارة قوية للمسؤولية الأخلاقية تجاه الوطن، حيث تُحتضن المعاناة بوصفها شرفًا لا يُلقى جانبًا.

هذه الانزياحات والرموز تُنتج بعدًا شعريًا مركبًا: احتجاجيًا ووجدانيًا، يعكس وعيًا نقديًا يتجاوز الأسى الفردي نحو خطابٍ   اجتماعي وسياسي صريح.

ثانيًا: البنية الموضوعاتية:

في توازٍ مع البنية البلاغية، تتسم البنية الموضوعاتية للقصيدة بثنائية حادة بين الحنين والخذلان، الانتماء والاغتراب، حيث يبدو الوطن كمساحة متناقضة، كان في الذاكرة موطنًا للمجد، وأصبح اليوم كيانًا مغتربًا مسلوب الهوية.

-  المنفى لا ينتهي بعودة الشاعر إلى الوطن؛ بل يتحول الوطن ذاته إلى منفى داخلي.

-  يتهم الشاعر قوى دينية طائفية وأجنبية ـ وعلى رأسها إيران ـ بأنها هيمنت على القرار السياسي وساهمت في تفكيك الهوية الوطنية.

-  يخرج النص بذلك من إطار الرثاء التقليدي ليدخل في بنية احتجاج صريحة، تُحمّل السلطة مسؤولية نفي المواطن عن تاريخه وجذوره، و تفضح استغلال المقدس لتبرير الهيمنة.

البعد الرمزي والديني:

أما البعد الرمزي والديني فيظهر في استثمار القصيدة لرموز ذات تأثير صوفي وديني، ليس لتعزيز قيمة المقدّس، بل بغرض تفكيك عمليات استغلاله. تلك الهبات الإلهية تحولت في النص إلى منح سلطوية زائفة تُفرغ الدين من قيمته الإنسانية وتجعل منه وسيلةً للتسلط والهيمنة. يتجلى هذا التناقض في استخدام البلاغة بشكل حاذق، حيث يُستخدم العنوان كنافذة لقراءة العلاقة بين الديني والسياسي، لتتحول ثروات البلاد من رمز للعطاء إلى أداة للسلب والنفوذ.

الوظيفة الخطابية:

من زاوية الوظيفة الخطابية، تمضي القصيدة بعيداً عن كونها مجرد مرثية عاطفية، لتمارس دوراً استنهاضياً يعيد تقييم الواقع. إنها أكثر من مجرد صرخة ألم، بل هي دعوة للمجتمع إلى رفض الهبوط والتحلل، مستعيدة رموزاً من التراث العراقي البطولي بغرض مواجهة التشويه الذي أصاب الهوية وتجديد الارتباط بها.

الخاتمة الدلالية للقصيدة

تنتهي القصيدة بما يمكن أن يُوصف بدلالة سوداوية تكشف عمق الخراب المنتشر في كافة المستويات: السياسية منها والروحية والعقلية وحتى في الخيال الجمعي. ورغم هذا الجو الكئيب، لا تخلو النصوص من بصيص أمل خفي يشير إلى إمكانية استعادة صورة الوطن النقية عبر مقاومة رمزية مستمرة تسعى لتجاوز حالة الانكسار.

البُعد السياسي والاجتماعي في القصيدة

البعد السياسي والاجتماعي يظهر بوضوح في قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا"، حيث يقدم الشاعر صرخة نقدية تعبّر عن تحول العراق من رمز للمجد والكرامة إلى ساحة تفككت فيها القيم، وأصبح الفساد ومصالحه هو المحرك الرئيسي. تبدأ القصيدة باستدعاء أمجاد الماضي العظيم، ليس بغرض استجلاب الحنين فقط، بل لتسليط الضوء على التحولات الجذرية التي طالت الهوية الوطنية، حينما تحولت أدوات الخطاب الديني والسياسي إلى غطاء لمؤامرات قائمة على التواطؤ والاستبداد. هذه المؤامرات أفضت إلى تحالفات ظلامية، يمثّلها الشاعر برمز "إبليس وزمرته"، التي بسطت سيطرتها على المجتمع

على الصعيد الاجتماعي، ترسم الأبيات مشهدًا لواقعٍ هشّ تتضارب فيه معاناة الفقر والجوع مع حياة مترفة مغموسة في الفراغ واللهو العبثي. الوطن، كما يصوره الشاعر، بات فضاءً للتنافر، حيث يعاني البعض تحت وطأة البحث عن لقمة العيش، بينما آخرون يستغلون النفوذ في تعزيز مواقعهم. وبين الألم الفردي والوعي الجمعي، تتحول القصيدة إلى نداء عاجل لإعادة تعريف الوطنية على أسس تقوم على العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بعيدًا عن الولاءات الضيقة والخطابات الطائفية.

بهذا الطرح، لا تكتفي القصيدة بكونها مجرد رثاء تقليدي للماضي، بل تقدم منهجًا احتجاجيًا يدعو إلى استرداد الوطنية الحقيقية، باعتبارها إحياءً للقيم النبيلة وإعادة بناء الثقة التي لطالما شكلت العمود الفقري لتاريخ العراق المشرق.

خاتمة

في ضوء التحليل السيميائي والقراءة البنيوية-السياقية، تتجلى قصيدة "إنما الدنيا لمن وهبا" كعمل شعري احتجاجي يعمق الوعي الوطني ويكشف عن أبعاده المتشابكة. ترتكز الدراسة على محاور أساسية تمثل نواة قراءة مركبة:

التفكيك السياسي:

تُظهر الأبيات الشعرية مدى انتشار الخداع والفساد في المجال العام، حيث تقدم رؤية نقدية لكيف تحولت فكرة المشروع الوطني إلى حلبة لصراعات طبقية وطائفية. يتمكن الشاعر من فضح آليات السيطرة والاستحواذ على السلطة التي شوهت معاني العدالة والنزاهة.

البعد البلاغي:

يعتمد النص الأدبي على مجموعة من الأدوات البلاغية الحية مثل التشخيص (الموت أخ، والدموع أب) والمفارقات (حلاوة مرة في حصرم الآلام)، إذ تتحول هذه الأساليب الإبداعية إلى وسيلة تعبير مركزة، تجعل الوطن في النص يبدو كحبيب متألم، مستحضرةً أعمق مشاعر الفقد عبر لغة تجمع بين البساطة والقوة التأثيرية.

الانزياح الانفعالي:

يرتكز العمل الشعري على مفارقة زمنية بين مجد حضاري سابق وانهيار حاد في الحاضر. يسعى الشاعر إلى دمج تجربة الرحلة المكانية مع المشاعر الداخلية عبر أسلوب سردي يجمع بين "شعر السير" و"شعر الغناء الحزين"، مما يضفي على النص بُعدًا وجدانيًا يمزج الألم الفردي بالحس الجماعي.

من خلال هذه المفاهيم، تتخطى القصيدة حدود توثيق التراجع الوطني لتصبح نموذجًا شعريًا يسعى للتغيير الجذري. لا يقتصر دور النص على الرصد، بل يقدم دعوة صريحة لتفكيك بنى السلطة التقليدية وإحياء القيم الثقافية والحضارية، مما يذكر القارئ بقوة الكلمة الشعرية كأداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي

في الختام، تفتح هذه الدراسة أفقًا جديدًا للتساؤل النقدي:

كيف يمكن للغة الشعر أن تسهم في بلورة مشروع وطني جديد يتجاوز أزمات الماضي، ويخلق توازنًا مرنًا بين البناء الثقافي والاعتزاز بالانتماء؟

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد

 

للشاعرة "رنا محمود الفتيان" أنموذجاً

إن قصيدة النثر أو الشعر المنثور هي قطعة نثر، غير موزونة، وتأتي القافية فيها في مناطق مختلفة من الابيات وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعانٍ شاعريّة، أغلبها يشكل موضوعاً واحداً.

ويمكننا القول أيضاً إنّ قصيدة النثر، هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، وبناءً على ذلك، فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني، ويتسم بافتقاره للبنية الصوتيّة ذات التنظيم، إلا أنّ له إيقاعاً داخليّاً منفرداً بعدم انتظامه.

لقد ظهر مصطلح ما يُسمّى بقصيدة النثر، في عام 1954م،  وتزامن ذلك مع صدور المجموعة الشعريّة للشاعر الفلسطيني "توفيق صايغ" تحت مسمّى "ثلاثون قصيدة"، وكان روّاد هذه الحركة هم أربعة عشر شاعراً من أبرزهم" محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، وتوفيق الصايغ" الذين أصدروا مجلة "شعر".

إلا أن مصطلح قصيدة النثر، راح يتبلور أكثر عام 1960م، وعرف بأنه جنس فني جيء به لاستكشاف القيم الشعريّة الموجودة في لغة النثر، ولغايات إيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة التي يواجهها الشاعر، حيث يلجأ إلى تضمين قصيدته صوراً شعريّة عريضة تتسم بالكثافة والشفافيّة معاً، وتكمن أهميتها في حرصها على تعويض انعدام الوزني الموجود في القصائد التقليديّة بالصور والايحاء والاشارة.

ومن أهم خصائص قصيدة النثر، 1- خلوّها من الوزن والقافية. 2- وتحررّها من الأنماط التفكيريّة، وما يرتبط بها من قوانين وأحكام. 3- أي أنّها تكتب وفقاً للفكر الخاص بالشاعر. 4- هذا ويسود السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثر5- وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. 6- كما يتجلى الغموض في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق. وبالتالي هي مفتوحة الدلالات أمام المتلقي، لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.

بين يدينا الآن قصيدة نثر للشاعرة " رنا محمود الفتيان" بعنوان (قليلون جداً).

ورنا محمود شاعرة اهتمت في كل دواوينها بقصيدة النثر، وهي روائية وفنانة تشكيليّة وكاتبة مسرحيّة، من سورية، عضو اتحاد الفنانين، مواليد دمشق، تقيم حاليّاً في اللاذقيّة.

صدر لها: عدد من المجموعات  الشعريّة" نثر" بعنوان:

1-  /صرخة أنثى/.

2- / الأرض بعض ظلي/.

3- / سر نبوأتي/

4- / حين ترسمني القصيدة/ .

5- / الروناليزا/.

6- / ما بعد السر/..

7- رواية : / سقوط الجمرة الأخيرة/.

8- مسرحيّة مونودراما قيد الطباعة/، وأجري معها عشرات اللقاءات  والحوارات في سورية والعالم العربي.

البنية الدلاليّة للقصيدة:

إن ما يميز قصيدة النثر في الشعر الحديث، هو أن الشاعر الحداثي يمارس حريته في القول - كما أشرنا عند حديثنا في المدخل - بعيدًا عن أي سلطة خارجيّة تُملي عليه طريقة الكتابة والتعبير، سواء كانت سلطة المجتمع أو الدين أو اللغة أو التراث، لتخرج لنا تجارب ملهمة عبر التجريب الشعري الذي يصنع هويّة جديدة للشعر، حيث تصبح القصيدة مفتوحة على كل الاحتمالات، ومن ثم يصبح الشعر مفتوحًا للمتلقي على التأويل والتفسير والقراءة.

وبناء على ذلك جاءت قصيدة "قليلون جداً" للشاعرة "رنا محمود" مفتوحةً في دلالاتها، رغم أنها تعالج قضيّة اجتماعيّة على درجة عالية من الأهميّة، وهي معاناة الشعب السوري بسبب الحرب الداخليّة والحصار الذين فرضا عليه خلال سنوات طويلة.

سنين طويلة من القهر والحزن والعذاب مر بها الوطن وأهله في سورية، حتى أصبحت معاناتهم سيرة حياة، لم تعد تلق عند من يعرفها ذاك الاهتمام والتعاطف، إلا عند نفر قليل ممن ظلت قلوبهم وعقولهم مشبعة بالهم الوطني والإنساني، وهذا ما شكّل موقف عتابٍ عند الشاعرة اتجاه لتلك الكثرة من الناس غير المبالين باللهم الإنساني ... نعم قليلون هم الذين يستطيعون الوقوف ولو قليلاً ليعرفوا من نحن؟.. وما هي أسباب جروحنا النازفة؟.. وتلك الدمعة الحرّة الراعشة في العين؟.. أو تلك النبضة الموجعة في القلب؟... تقول الشاعرة "رنا"

قليلون جداً...

أولئك الذين يستطيعون

التوغل

إلى أدغال أرواحنا

يقفون على حقيقة

من نكون؟.

ربما يمرون

من تلك الدمعة الراعشة

في العين

والنبضة الموجعة

في القلب.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا ؟.

لقد أصبح  حرف الشاعرة "رنا"  جرحاً يسيل دموعاً، ودماءً حارة... أصبح حرف الشاعرة جرحاً تحول إلى وطن، لم تعد حتى طيوره ترغب العيش فيه، وقررت الهجرة بعيداً، شأنها شأن الأيائل التي قررت هي أيضاً الفرار إلى قمم الجبال هرباً من الموت والقتل على الهويّة. تقول "رنا" :

حرفي هو ذا الجرح

الذي يسيل دموعاً

ودماءً حارة

ليصبح وطن الطيور

المهاجرة

والأيائل المنتشرة على

الهضاب.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا ؟.

قليلون جداً

من يستطيعون النظر

إلى أوجاعنا الحارقة....

نعم قليلون هم أولئك الذين وقفوا معنا في مأساتنا ولم يسقطوا في الجهالة واللامبالاة لما أصابنا. ولهؤلاء تمنح الشاعرة صورتها لكل من شعر بمأساتها.. وها هي قصيدتها الجارحة تهب رنيمها .. مفاتنها، التي تكشفت من شدّة الألم لكل عصفور رفرف بجناحيه فرحاً بأغنيتها الحزينة أو أناشيد نزفها العنيد الذي تحول إلى جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة. حيث تقول:

أمنح صوتي كل طير

عابر في دمي

هذي أنا

جسر من الأحزان

يقطعه العابرون ليصلوا

إلى ضفة الفرح

عاشقين

صاعدين

إلى الحياة.

البنية الفنيّة في القصيدة:

الصورة في النص الشعري:

بما أن القصيدة النثريّة تنفر من القوالب الشعريّة المحفوظة والمتكررة في الشعر التقليدي، لذلك اعتمدت كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح الأشياءَ طاقاتٍ جماليةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازية مبتكرة عبر اللغة والتخييل. فالصورة الشعريّة في قصيدة النثر تلعب دورًاً أساسيًّاً في تكوين المعنى والبعد الجمالي في القصيدة، حيث تعتمد قصيدة النثر على الصور الشعريّة المتخيلة لخلق إيحاءات وتأثيرات معينة. ففي قصيدة النثر، تعتمد الصورة الشعريّة على السمات الشعريّة الدلاليّة وليست الصوتيّة، مما يتيح للشاعر استخدام مجموعة متنوعة من الصور البلاغيّة لخلق جو شعري خاص. كما أن الصورة الشعريّة هي التي تعبر عن تجربة الشاعر الداخليّة وعواطفه وأفكاره، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لموضوع القصيدة، ويشارك في تجربة الشاعر بشكل مباشر، وهذا ما يخلق رابطةً بين الشاعر والقارئ. تقول رنا:

(أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا).. (ربما يمرون من تلك الدمعة الراعشة في العين). (من يستطيع الوقوف على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في  أعماقنا). (حرفي هو ذا الجرح  الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة).

إن المتابع للخطاب السردي في القصيدة، يجد أن القصيدة في معظمها قد اتكأت على الصورة بكل أشكالها الحسيّة منها والتخيليّة من جهة، أو في نسيجها البلاغي القائم على التشبيه والاستعارة والكناية والانزياحات اللغويّة، والتعبير المجازي من جهة ثانية.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

التكرار في الشعر:

إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافيّة، أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص، كما هو الحال في قصيدة" قليلون جداً)

(قليلون جداً... أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).( قليلون جداً من يستطيعون النظر إلى أوجاعنا الحارقة.). (قليلون جداً من وقفوا على شجر الورد ولم يسقطوا في الظلال....). هذا مع تكرا الكثير من المفردات التي تعبر عن الألم والقهر مثل ( جمرها – النزف – النازف – الجرح – دموعاً – ودماءً – المهاجرة – الجارحة – نزفي.. الأحزان ... الخ .).

ففي تكرا عبارة قليلون جداً، تحاول الشاعرة "رنا" التأكيد على غياب حس المسؤوليّة والإنسانيّة عند الكثير من الذين يشاهدون مسرحيّة قهر وظلم الشعب السوري. أما في تكرار المفردات التي تحمل دلالات القهر والظلم والدم والجراح.. فتريد الشاعرة التأكيد على عمق المشهد الدموي الذي يعيشه هذا الشعب أيضاً.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن توظيف الرمز في القصيدة الحديثة سمة مشتركة بين غالبية الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع عمق سيطرة الرمز والايحاء على لغة القصيدة الحديثة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.

إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو اعتمادها على الرمز والاشارة وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى   التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء حالات جدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.. تقول الشاعرة "رنا محمود":

(قليلون جداً...أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).. فهنا نجد ايحاءً يريد القول بأن أكثر الناس لم يعودوا يهتموا بمأساتنا. (من يستطيع الوقوف

على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في أعماقنا)... هنا إشارة إيحائية تريد القول: لقد عجز الكثير ممن يتابع مأساتنا أن يقف إلى جانبنا ويساعدنا للخروج منها... (حرفي هو ذا الجرح  الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة ليصبح وطن الطيور  المهاجرة)..

فحرف الشاعرة "رنا محمود" هنا (رمز) يشير إلى أن بلادي التي تعتبر مهد الحرف، ها هم أهلها يتركون البلد ويهاجرون في أصقاع العالم هرباً من الموت والتخلف والجهل...( هذي أنا جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة.).. ها هنا إشارة مجازيّة تريد الشاعرة أن تقول من خلالها بأن الحزن بكل عمقه لا بد أن ينتهي ويتحول أخيراً إلى جسر يقطعه العابرون المتعبون، ليصلوا إلى ضفة الفرح أخيرا بعد كل ما لاقوه من عناء ومعاناة، وليمارسوا حبهم وعشقهم وهم يضعون أمامهم بناء حياة جديدة خالية من القهر والحروب والجوع والهجرة.

الغموض في القصيدة:

إن ما يميز القصيدة النثريّة هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير وهذا ما يمنح القصيدة إيقاعاً داخليّاً يعوضها عن الوزن والقافية، وأن التوجه نحو الصورة يوقع الشاعر بالاعتماد على المجاز والتخيل، وهذا التوجه يُفقد كثيراً ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في قصيدة "قليلون جداً". إن بنية القصيدة كما بينا عند حيثنا عن الصورة الشعريّة جاءت مشبعة بالصور الحسيّة منها والمجازيّة، وكأن القصيدة لوحة من فن الكولاج، وهو الفن الذي لا يهتم بترابط مكونات اللوحة، بقدر ما يقوم بلصق صور إلى جانب بعضها ليجعل المتلقي يلهث وراء دلالات اللوحة، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف.

تقول الشاعرة:

إمنح رنيمك

لكل عين

كانت تريق دمعها

على عتبات روحك

ولكل من احتمل نارك

وأنا أغني موالي الحزين

بين شلال دمي

وانطلاق العصافير منه.

هنا يكمن الغموض من تداخل المعاني ولصقها ببعض ولا أقول ترابطها. لقد اختلطت دلالات العين التي تريق دعها... مع عتبات الروح ... واحتمال النار ... وغناء الموال... وشلال الدم.. وانطلاق العصافير.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد من سوريا

.............................

قليلون جداً / رنا محمود

قليلون جداً...

أولئك الذين يستطيعون

التوغل

إلى أدغال أرواحنا

يقفون على حقيقة

من نكون؟.

ربما يمرون

من تلك الدمعة الراعشة

في العين

والنبضة الموجعة

في العقل؟.

من يستطيع الوقوف

على آهاتنا

في ذروة جمرها وحرقة

شهدها النازف في

أعماقنا

قليلون جداً

من يستطيعون النظر

إلى أوجاعنا الحارقة....

حرفي هو ذا الجرح

الذي يسيل دموعاً

ودماءً حارة

ليصبح وطن الطيور

المهاجرة

والأيائل المنتشرة على

الهضاب

قليلون جداً

من وقفوا على شجر

الورد

ولم يسقطوا في الظلال....

إنني اليوم.

أمنح صوتي كل طير

عابر في دمي

فها هي قصيدتي الجارحة

تهب مفاتنها

لكل عصفور

رفرف بجناحيه

فرحا بأغنيتي

بأناشيد نزفي العنيد

إمنح رنيمك

لكل عين

كانت تريق دمعها

على عتبات روحك

ولكل من احتمل نارك

وأنا أغني موالي الحزين

بين شلال دمي

وانطلاق العصافير منه

هذي أنا

جسر من الأحزان

يقطعه العابرون ليصلوا

إلى ضفة الفرح

عاشقين

صاعدين

إلى الحياة.

روناليزا.

جذور ورمال، وحكاية قبيلة عبر الأجيال

يستخدم الأديب قاسم توفيق خيوط سرد محكمة؛ لينسج عالم روايته "أولاد جلوة"، الصّادرة عن "الآن ناشرون وموزّعون"، في مئة وواحدة وثمانين صفحة من القطع المتوسّط.

في رحاب هذا المقال، سنبحر معا في أعماق رواية "أولاد جلوة"، محلّلين خباياها ودلالاتها المتشابكة، نتجوّل بين صفحاتها؛ لنستكشف كيف تتجذّر الحكايات في ثرى التّاريخ، وتتجسّد مآسي الأجيال في سطور نابضة، نتأمّل في تقاطعات الأصوات الّتي تشكّل النسيج الرّوائيّ، وتبرز عمق الفكر وسمو القلم في مقاربة القضايا الإنسانيّة.

يستهلّ السّارد هذا العمل بنبرة حزينة مؤثّرة، في رسالة خطّها رجل يترقّب الموت قتلا، ثأرا من قبيلته المسمّاة بالهذّاعيّين، وذلك لقتلهم فردا من قبيلة "الجوازيّة" الّتي تسعى للانتقام بإجلائهم عن ديارهم وقتل رجالهم.

كان ذلك في الخامس من تمّوز عام ألفين وخمسة، معلنا ذلك الرّجل بوعي حاضر لما يحيط به، وعلى الرّغم من ذلك، لم يعد هاجس الخوف يأسره؛ ليجد نفسه متحرّرا من قيود الهلع وسلطان الفزع، متفكّرا في إنجاز فعل يليق بمقام رجل يودّع الحياة، فكتب في الصّفحة التّاسعة: "َلا سبيل لقتل الوقت لحين أن أقتل سوى الكتابة.. امتطيت مخيّلتي وجبت عوالمي إلى أن وقفت بها عند يومي الأخير".

ينتقل بالحديث إلى صديق افتراضيّ عثر عليه صدفة على "فيسبوك"، مدوّنا في مقدّمة صفحته هذه العبارة (ص7): "الكتابة محاولة لمواجهة العالم، عندما تتهاوى الأرواح في جحيم العبث".

أثارت هذه العبارة اهتمامه فكتب لهذا الصّديق الافتراضيّ(ص7): " لفتني منشور لك عن جدوى الكتابة، استوقفتني كلماتك وأنا المتعجّل، فقرّرت أن أكتب لك هذه الرّسالة، وأرسل معها روايتي الأولى والأخيرة، كتبتها قبل زمن ولم أحظ بناشر لها، لذلك.. تركتها وبقيت أنتظر وأنا آمل أن تصل ولو لقارئ واحد، حتّى يشاركني عزلتي".

ثمّ قرّر أن يكتب رسالة أخرى إلى حبيبته، وهي من قبيلة "الجوازيّة"، مسطّرا كلماته بعمق مشاعره.. فكتب (ص180): "كيف فاتنا أن نتذكّر أنّ العشق في شرقنا جريمة؟ حزين يا حبيبتي حدّ الموت، أكتب لك وأنا أعرف أنّه لا سبيل يوصلني إليك.. حسمت أمري ولم أطأطئ رأسي.. وليكن ما يكون".

التّصنيف النّقديّ:

هي رواية اجتماعيّة ذات خلفيّة تاريخيّة، فجوهرها الأساسيّ يكمن في استكشاف الدّيناميكيّات الاجتماعيّة والعلاقات الإنسانيّة والقضايا المجتمعيّة الّتي كانت سائدة في وقت ما. أمّا الأحداث التّاريخيّة فتلعب دور الخلفيّة أو السّياق الّذي تتفاعل ضمنه الشّخوص وتتطوّر الأحداث، إذ تنطلق بنا في غمار رحلة استطلاعيّة، تستجلي بدايات حقبة زمنيّة، تمتدّ جذورها من القرن الثّامن عشر الميلاديّ، وتتشابك فروعها حتّى مشارف القرن العشرين.

إنّها برهة تاريخيّة سمتها البارزة، إهمال أحاط بأرجاء المنطقة العربيّة وأكنافها، فأفضى ذلك إلى بزوغ الهيمنة القبليّة. وفي ثنايا السّرد، يغوص الكاتب في تحليل سمات تلك الحقبة وتفاعلاتها مع صيرورة الأحداث الاجتماعيّة والسّياسية المحيطة بالمكان الرّوائيّ، وهو الصّحراء الأردنيّة.

وبفضل مزجها الفنّيّ بين الأبعاد الاجتماعيّة والتّاريخيّة، تقدّم الرّواية تحليلا عميقا، فأحداثها التّاريخيّة ليست خلفيّة جامدة، بل هي نسيج حيّ تتكشّف من خلاله ظروف البادية بكلّ تعقيداتها، وهنا.. يتجاوز السّرد تسجيل الوقائع؛ ليغوص في تشريح الصّراعات بين الفرد والمجتمع في سياق زمنيّ ومكانيّ محدّد.

يتيح هذا التّداخل استقراء التّحوّلات المجتمعيّة، ويجسّد رؤية فنّيّة تعلي من شأن التّفاعل بين شخوص العمل وقضاياهم، فهذه الرّواية، هي جذور ورمال وحكاية قبيلة عبر الأجيال، إنّها سيرة للذّاكرة الجمعيّة، تحكي عن أرض تفاعلت معها الأقدام، وعن فكر يعيش في رأس العربيّ مهما صعدَ في مدارج الحداثة، ففي كلّ حرف نُحِتَ في جسد السّرد، تنبض أرواح عاشت ومضت، تعكس وجوهنا المتعدّدة وتظهر تجاعيد الزّمان على صفحات الأيّام.

العنوان.. مأساة اجتماعيّة وتداعيات النّفيّ القسريّ:

يكشف العنوان "أولاد جلوة" عن إشارة بالغة الدّلالة إلى ظاهرة اجتماعيّة قديمة، طالما استوطنت رحاب الدّيار العربيّة، وارتبطت ارتباطا وثيقا بجرائم القتل، حيث تجبر عائلة الجاني على مغادرة موطنها قسرا، اتّقاء من الثّأر المستعر في أفئدة أهل الضّحيّة.

كلمة "أولاد" بصيغة الجمع، تؤكّد أنّ الجلوة ليست حدثا فرديّا، بل تطال مصير أجيال. وإذ يحمل العنوان بعدا تاريخيّا واجتماعيّا، يذكّر بتقاليد قبليّة وتبعات فعل فرديّ يطال عائلات ويمتدّ لزمن، ويثير تساؤلات عن مصير الأبناء وحياتهم في المنفى القسريّ، وتأثير التّجربة على هويّتهم وانتمائهم، وظروفهم وتحدّيات حياتهم الجديدة.

يمكن قراءة العنوان أيضا؛ كرمز لانتماء مفقود وهويّة مهتزّة، يحمل أصحابها وصمة الجلوة، ويجدون صعوبة في الاندماج أو الحفاظ على صلاتهم بالماضي.

من هنا، فالعنوان موفّق وبليغ، يحمل شحنة عاطفيّة قويّة، ويشير بوضوح لقضية الرّواية، ويدعو للتعمّق في حكاية أولاد تلك الجلوة، وتداعياتها على حياتهم ومجتمعاتهم.

يذهب "باختين" إلى أنّ العلاقة بين الزّمان والمكان، تتجلّى بصورة مباشرة في صياغة مفهوم الشّخصيّة الرّوائيّة، الّتي تقوم في جوهرها على بعدين متضافرين، أحدهما مكانيّ والآخر زمانيّ، وبما أنّ هذه العناصر أساسيّة لاكتمال العمل، فقد غدا التّرابط والتّأثير المتبادل بينها ضرورة ملحّة.

مع ذلك، يتباين تجسيد المكان عن تجسيد الزّمن؛ ففي هذا العمل تقوم بينهما علاقة قطبيّة متنافرة، لما يعتريهما من تناقض؛ فالمكان ينشد الثّبات في الحاضر ويأبى التّغيير، بينما ينفر الزّمن من الجمود ويسعى الى التّجدّد.

يرسم لنا الكاتب صورة لذلك المكان، فيكتب عن مدينة "تعريس"، (ص21): "وكأنّها تكره أن تتبدّل، وتخاف من التّغيير".

يظهر هذا التّناقض في رسوخ النّزعة القبليّة في أعماق النّفس العربيّة، على الرّغم من تقادم العصر والزّمن ومرورهما، بل وحتّى بعد أن يكتسي المرء بحلّة المدنيّة، فالنّزعة القبليّة بجذورها الضّاربة في أعماق تكوينه، تستمرّ متأصّلة راسخة عصيّة على المحو، وإن تزيّن الظّاهر وتهذّب السّلوك، وكأنّها طيف يسكن اللّاوعيّ الجمعيّ، أو بصمة وراثيّة تتوارثها الأجيال.

سيرة قبيلة عربيّة:

تتشابك خيوط الأحداث منذ البواكير الأولى لنشأة مدينة "تعريس"، الّتي أرسى دعائمها زعيم قبليّ بدويّ، عرف ببطشه في الغزوات، وهو "محسد الأوّل"، وذلك في منتصف القرن التّاسع عشر.

كانت تلك الحقبة شاهدة على تحوّلات جذريّة اجتاحت المدينة، لاسيما مع وصول المستعمر الأوروبيّ عقب أفول الحكم العثمانيّ، مما جعل "تعريس" أول مدينة تقصف جوّا في مستهلّ العقد الثّاني من القرن العشرين.

يتتبّع السّرد تاريخ هذه البقعة، مشيرا إلى أنّها كانت المستقرّ الأوّل للشّيخ "محسد" الّذي تولّى قيادة القبيلة، وقضى هو وعشيرته حياة ترحال وتنقّل وبداوة، إلى أن قرّر الاستيطان في تلك البقعة الهادئة، واستمرّوا على هذا الحال حتّى وافاه الأجل، وظلّت عشيرته من بعده تكابد وحشة البداوة وشظف العيش.

لكن.. ما خفي على العيان أن "مليكة، أم هذّاع" آخر نساء الشّيخ محسد، هي من أوحت إليه بفكرة الاستقرار.

لقد كانت معشوقته ومن أكثر نسائه فتنة ودلالا، يستشيرها في جلّ الأمور فتستغلّه وتحكم سيطرتها عليه وعلى قبيلته، حتّى أنّ ولدها "هذّاع" لم يفرض عليه والده، ما كان يفرضه على إخوته الذّكور من تعلّم الرّماية وصهوة الخيل وضراوة القتال، مع ذلك.. فقد نشأ فارسا مغوارا.

هكذا.. وفي كنف العشيرة مارست مليكة؛ بحكم مكانتها الخاصّة من الشّيخ نفوذا خفيّا على قراراته. ظهر ذلك التّأثير السّلبيّ في اتّخاذ قرارات مجحفة بحقّ أفراد آخرين؛ كأولاده، أو على حساب وحدة العشيرة.

يقول الرّاوي (ص33): "الحقيقة الّتي لم يعرفها أحد، أن مليكة آخر زوجات الشّيخ، هي من صنعت تاريخ القبيلة".

المرأة والفكر الذّكوريّ:

تجسّد شخصيّة "مليكة" نموذجا لافتا للمرأة الّتي تستبطن منظومة ذكوريّة متصلّبة، وتعيد إنتاجها بوعي أو بدونه، موظّفة إيّاها لتعزيز نفوذها الذّاتيّ، وتحقيق مآرب شخصيّة على حساب تماسك مجتمعها وسلامته.

هذه الظّاهرة، وإن تجلّت في سياق البيئة البدويّة الّتي تدور فيها الأحداث، إلا أنّها تتجاوز حدود البادية؛ لتطلّ برأسها في مختلف أرجاء المجتمعات العربيّة، وإن تفاوتت حدّتها وتجليّاتها، ففي كلّ مكان قد نصادف من يستخدمنّ ذات الأدوات والأساليب الّتي تكرّس الهيمنة الذّكوريّة التّقليديّة لخدمة مصالحهنّ الخاصّة، ملحقات بذلك ضررا بالتّوازن الاجتماعيّ وتطوّر الوعيّ الجمعيّ.

يفضي هذا السّلوك إلى تأكلٍ خفيّ للنّسيج الاجتماعيّ، فبدلا من أن تكون المرأة قوّة دافعة للتّغيير والارتقاء، تتحوّل إلى عقبة في طريق التحرّر الفكريّ والمجتمعيّ.

هذا التّكريس للأنظمة البالية، حتّى لو كان بدافع شخصيّ، يعزّز من دورة القمع، مما يبقي المجتمعات أسيرة لأنماط سلوكيّة تقليديّة، تعيق تقدّمها وتُضعِف من قدرتها على مواجهة تحدّيات العصر.

بشكل عامّ، هي خسارة مزدوجة؛ للمرأة الّتي تفقد بوصلة دورها الحقيقيّ، وللمجتمع الّذي يُحرَم من إسهامات نسائه الخلّاقة في بناء مستقبل أكثر إنصافا وتقدّما.

صراع القبيلة والزّمن، سيرة تتجاوز الأفراد:

يتناول النّصّ مسار تحوّل النّفوذ من سلف إلى خلف، والوهن والتّشتت اللّذين يعتريان بنيان الحكم في القبيلة، ثمّ الانحدار المتدرّج الّذي يلمّ بها مع داء الثّأر، ويستعرض لوحات مفزعة لتلك الجلّوات المدويّة، وما يقترن بها من تهجير وتدمير مروّع للمنازل وحرق للدّيار بلا هوادة لأهل القاتل، وإزهاق للأرواح الزّكيّة الّتي لم ترتكب إثما، سوى انتمائها لرابطة الدّم والقرابة.

كما يتتبّع العمل سيرة رجل تقلّب بين شخصيّتين متعاقبتيّن، "محسدا" و "وقّاصا"، عبر حقبتين زمنيّتين، مشيرا بذلك إلى عمق الجذر القبليّ في صميم العربيّ، رسوخا يستعصي على تقادم العصور وارتقاء الحضارة؛ ليؤكّد على دوام ذلك المخزون الفكريّ؛ كطبع يوجّه الإدراك والفعل، ملامسا صراع الفرد مع سلطان الماضي.

إنّ شخصيّات "محسد الأوّل والثّاني"، "وقّاص"، "هذّاع"، "هجين" "مليكة"، و "رئبال".. وغيرهم، تتجسّد في سيرورة تاريخيّة متكرّرة الحلقات، حيث تبقى سلطة القبيلة بأشكالها المتنوّعة حاضرة، وإن تبدّلت الأسماء والوجوه، وهذا ما يكسو العمل بعدا رمزيّا يسمو فوق الحكاية الفرديّة؛ ليطاوع قضايا أشمل، تتعلّق بطبيعة مجتمعاتنا وموروثاتها الثّقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة.

في الحقيقة، عندما يتصدّى الرّوائيّ لسيرة جمعيّة كحال "أولاد جلوة"، فإنّه يُقدِم على مغامرة سرديّة شائكة، تمثّل تحدّيا، فقد يقع العمل في فخ التّعميم، مضحيّا بخصوصيّة التّجربة الفرديّة الّتي تشكّل نسيج السّيرة الجمعيّة، لكن قاسم توفيق، أغلق كلّ منفذ كان يمكن أن يردي إلى ذلك، فقد حاك خيوط حكايات الأفراد بمهارة ضمن النّسيج العريض للقصّة الجمعيّة، محافظا على خصوصيّة كلّ روح، دون إمعان في التّفاصيل الزّائدة على حساب الخطّ السّرديّ الجامع.

يكتب (ص8): "ما سوف تقرؤه هو مسار حياة قصيرة وتاريخها على طولها، ليست سيرتي وحسب، إنّها سيرتك أيضا.. ألست عربيّا مثلي؟"

تقاطع الأصوات وتجاوز الزّمن:

يمزج هذا النّص السّرديّ بين صوتين، هما الرّاوي المطلق والشّاهد المتورّط في الأحداث، وهذا ما يضفي على المتن الرّوائيّ بعدا بنائيّا خاصّا، اذ يمتلك الرّاوي الأوّل وهو السّارد العليم، معرفة بالمجريات وبواطنها الخفيّة، ليطلعنا على ما غاب عنّا وما لم تدركه حواسّنا، مقدّما لنا رؤية للمجريات ودوافع الشّخصيات، بينما يمنح حضور الرّاوي الشّاهد للأحداث مسحة شخصيّة، لتقتصر نظرته على أفقه الذّاتيّ وتصوّراته، ليضفي بذلك على العمل نسيجا متكامل الأركان، وقد أسند النّص شهادة النّهاية إلى شخصيّة تنتمي الى العصر الرّاهن، الأمر الّذي يعدّ ابداعا يكسر التّتابع الزّمنيّ للأحداث، ويعيد تشكيل تصوّر المتلقّي للنّهاية، ويؤكّد على استمرار تأثير الماضي وامتداد جذوره في الواقع المعيش. وللدّلالات عمق، فإقحام هذه الشّخصيّة المعاصرة، هو إيماءة لفكرة رسوخ أثر الماضي في الحاضر مهما بلغ رقيَّه.

تظهير الرّواية، أغوار الذّات:

إنّ الماضي بتراثه الفكريّ، يظلّ حاضرا بقوّة في تكوين الوعي والسّلوك. من هذا المنطلق، خطّ الكاتب هذه الكلمات في الصّفحة السّادسة وعلى غلاف روايته الخلفيّ؛ ليشير بإيجاز إلى الفكرة المحوريّة الّتي تنساب في عروق السّرد، فكتب:

"وجودنا يا سيّدي شيء يشبه رمال الصّحراء، نراه عظيما عندما تسفّه الرّيح وتبعثره، نحسب أنّه يمضي إلى عوالم بعيدة، لا نقدر بما ملكنا من إبصار على إدراكه، لكنّه في الحقيقة لا يبرح موضعه. نحن البشر كحبّات الرّمل، متشابهون حدّ التّوحد، ذرّات متناهية الصّغر، تسفّنا الرّياح وتذرونا، فنوهم أنفسنا أنّنا نتحرّك، لكنّنا في الحقيقة ثابتون في مطارحنا".

يطالعنا هذا المقتطف برؤية وجوديّة، تتّسم بالأسى والتّأمّل في طبيعة الوجود الانسانيّ ومصيره، فيه تشبيه محكم يقرن وجودنا الهشّ برمال الصّحراء، تلك الكتلة الشّاسعة الّتي تبدو في عين النّاظر عظيمة، لكنّها سرعان ما تتلاشى وتتذرّى أمام عبث الرّيح العاتية.

هذا التّصوير يضع الإنسان في موضع الكائن الضّعيف، الّذي تكتنفه قوىً أكبر منه، تحرّكه وتبعثره دون حول منه ولا قوّة.

يعمّق هذا النّصّ الشعور بالعجز من خلال الإشارة إلى وهم الحركة الّذي نختبره في حياتنا، فنحن نتخيّل أنّنا نسير نحو عوالم بعيدة ومختلفة، لكنّ هذا التّصور، يصطدم بحقيقة ثابتة مفادها أنّنا لا نغادر مواضعنا الّتي قُدّرت لنا.

هذا القصور في الإدراك البشريّ، وعدم القدرة على استيعاب حقيقة الثّبات، يشير إلى محدوديّة وعينا.

يرسّخ النّصّ هذا المعنى عبر تشبيه ثانٍ أكثر مباشرة، فيقارننا بحبّات الرّمل المتناهية الصّغر، المتشابهة حدّ التّطابق.

هذا التّصوير الجماعيّ يلغي الفرديّة، ويذيب الذّوات في كتلة واحدة عرضة لعبث الرّياح، الّتي تسفّنا وتذرونا، وهي قوى الحياة والقدر، الّتي تحرّكنا وفق مشيئتها، بينما نوهم أنفسنا بحريّة الاختيار والتّحرّك المستقلّ.

يحمل هذا المقطع نبرة فلسفيّة وجوديّة قاتمة، تستبطن شعورا عميقا بالعبثيّة والضآلة أمام جبروت القوى الكونيّة او الاجتماعيّة أو التّاريخيّة.

العديد من الأدباء نهجوا في أعمالهم نهجا فلسفيّا وجوديا، مضمرين شعورا عميقا بالعبث والضآلة أمام قسوة الكون، من أبرز هؤلاء مثلا: "جون بول سارتر"، "ألبير كامو"، و"كافكا"، وغيرهم ممّن أثروا الأدب الوجوديّ والعبثيّ بنظرتهم حول وضع الإنسان في هذا العالم.

عيون على الصّحراء والبادية:

لقد أولى ثلّة من الباحثين اهتماما بالصّحراء مسجّلين بذلك إرثا معرفيّا يعين على فهم هذه الثّقافة مثل: "إمريس بيترز" الّذي درس أصول الإنسان وأغنى المكتبة برؤى معمّقة حول المجتمعات البدويّة.

برز أيضا رحّالة ومستشرقون تجشّموا صعاب التّرحال، تاركين لنا مدوّنات قيّمة عن نمط حياة البدو وعاداتهم وتقاليدهم من أمثال: "تشارلز دوتي" الّذي وثّق تجربته المعيشيّة في شمال الجزيرة العربيّة، وكذلك "فرَيا ستارك" الّتي استكشفت مناطق بدويّة متنوّعة في الشّرق الأوسط، وقدّمت وصفا حيّا لثقافتهم.

إنّ التّعمّق في هذه الكتابات يمكّن القارئ من استيعاب العادات والقيم البدويّة، واستكشاف الصّور النّمطيّة الّتي قد تكون سائدة حولهم. وبذلك، تصبح هذه الأعمال نافذة تطلّ على عالم الرّواية بعين أكثر فهما وعمقا.

التّاريخ ليس حقيقة مطلقة:

يشير السّرد إلى تحويل نسب الفضل في ازدهار المدينة وتطوّرها إلى هذّاع الابن بدلا من محسد الأب، حيث شهدت فترة حكم هذّاع إدخال التّعليم والهيكلة الإدارية، غير أنّ السّيَر الشّفويّة والمكتوبة، الّتي تمثّل الحقيقة لتأسيس تاريخ القبيلة، لا تشير الى الدّور المحوريّ للمرأة في تأسيس القبيلة، والمدينة الّتي عرفت الازدهار ثمّ الانهيار. وعلى الرّغم من أنّ السِّيَر تعدّ المصدر الأساسيّ للوصول إلى الأحداث التّاريخيّة، إلّا أنّها تتجاهل الإشارة إلى بصمات "مليكة" في البناء، حتّى لو فاقت بدهائها وإسهاماتها من حولها.

هذا الإغفال لا يقتصر على شخصيّة واحدة، بل هو تجسيد لنمط تاريخيّ أوسع، حيث غالبا ما يتمّ تهميش أدوار النّساء الفاعلة في السّرديّات الرّسميّة، ليُطمَس بذلك جزء أساسيّ من الحقيقة التّاريخيّة، ويفقد القارئ فهما شاملا لتعقيدات الماضي وتأثيراته.

من هنا، يعرب الكاتب عن رؤيته للتّاريخ (ص155) قائلا: "التّاريخ المتداول يفتقر للمصداقيّة في كلّ جوانبه، يحتاج للمزيد من البحث والدّراسة، وفوق ذلك للجرّأة في معاينته".

يشرح ذلك حقيقة راسخة لا مراء فيها، وهي أنّ صفحات التّاريخ الّتي تصلنا عبر غبار السّنين، ليست دائما مرآة صافية تعكس الماضي بصدق وأمانة، وغالبا ما تكتب بأقلام الأقوياء أو المنتصرين، الّذين يسعون لتخليد أمجادهم وتبرير أفعالهم، مشوّهين الحقائق أو متجاهلين أصوات الضّعفاء والمنهزمين، وقد تصلنا مبتورة، تحمل فقط ما ارتآه الكاتب أو السّلطة الحاكمة، بينما تطمس جوانب أخرى ضروريّة لفهم الصّورة الكاملة.

كما أنّ التّفسيرات اللّاحقة للأحداث التّاريخيّة، تخضع لأيديولوجيّات فكريّة وأجندات سياسيّة ومصالح مختلفة، ممّا يزيد من احتماليّة وصول التّاريخ إلينا ناقصا أو مشوّها أو خاطئا، ليصبح الماضي حقلا للصّراع والتّأويل المستمرّ.

خلاصة الرّواية:

وبعد.. فخلاصة الرّواية بأسرها هو ذلك الأنين المتصاعد من ثنايا السّطور، الّذي يعرّي جذور البلاء المتأصّل في نسيج المجتمع، حيث تتوارث الأجيال أثقال الماضي وأوهامه العتيقة، فتستمرّ في سيرها مثقلة بتركة من تقاليد وأعراف قد عفا عليها الزّمن، وتظلّ أصداء صراعات الأمس ترنّ في حاضرها، معيقة انطلاقها نحو مستقبل اكثر تحرّرا وإشراقا، وكأنّها سلسلة خفيّة تكبّل الخطى، وتعيد إنتاج ذات الأخطاء والعبر غير المستفاد منها؛ ليبقى الوعي مرتهنا بظلّ ماضٍ يأبى أن يزول، وفي لحظة تجلّ مرّة، يكشف السّارد عن عقم التّغيير ورسوخ الجمود بقوله (ص6):

"لا شيء في حياتنا قد تغيّر منذ تلك الأيّام، إذ لا يزال يحكمنا هذا الجدّ حتّى اليوم". وأختم هنا القول بما أجمله الشّاعر نزار قبّاني، موجزا في شعر بليغ:

خلاصة القضيّة

توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

والرّوح جاهليّة.

***

صباح بشير – أديبة وناقدة

النص الثقافي في الشعر العراقي المعاصر (3)

1- النص الثقافي الشعبي: الحكاية الشعبية كما في موقع ( www.marefa.org) هي نوع من أنواع الحكايات التي تقوم على الخيال وبناء الأحداث و الشخصيات فيها بعيدا عن الواقعية، لكنني في النصوص الثقافية الشعرية أجدها واقعية، نقلت لغاية التعريف بخلق أو نصيحة أو مدح واقع إنساني مفقود ومؤثر، ويكون أسلوبها مفهومًا وواضحًا وهي مأخوذة من السّرد الشفويّ عن طريق شاعرٍ موجود ومعروف، أما الحكايات تنقل إمّا عن طريق الآباء أو حكّاء معين وتدور أحداثها على أساس القِدَم ولمرحلة سالفة في الدهر، فقد كانت الحكايات تروى في الزمن الغابر الذي امتاز بظلامه التنويري، وخاصة في ليل القرى، ألّفها الشعب لغايات متعددة منها للهو كتعويض عمّا يوجد الآن من وسائل متطورة وألعاب تخص الأطفال فقد كانت سلاح الجَّدَّات وغاية المحبة لهذا الصندوق الحكائي الجميل، والذي يزرع المحبة لإيقونة الحديث الشيق، فقد عَلَقت بأذهاننا الحكاية الهادفة والمشوقة، منها ما أخذها المؤلفون لتُضمَّن في مناهج الدراسة الأولية، أما اليوم وقد صيغت ضمن المتن الشعري فقد نسجت ليست للمتعة ولا لتعويض فقد اسميتها بـ (النص الثقافي) فبعضها لبعث القيم التي زحفت عليها الحضارة الغربية المتجددة وفق منظورها التجاري العالمي، أو للتحفيز وشحذ الهمم للتغني بماضي الأجداد لرؤية أن الأجيال الحالية بدأت بفقدان هِوية العروبة ونهوض التهجين المعرفي والأخلاقي، كل الحكايات السالفة بُنيت جيدًا، بالإعتماد على الشخصيات في الحكايات الخيالية والأسطورية كعملاق أو بطل خارق أو رجل يتصف بالقيم الإجتماعية العليا، أمّا في المتن الشعري استنهاض لهذه الثلة من الشخصيات لبعثها قيمياً وافشاءها بين المجتمع وخاصة المتعلم والمثقف، ومنها عالجت أمور مهمة في المجتمع كالصراع بين الفقير والغني، والمتعلم والجاهل، وأما مَهَمَة الشعراء تتنوع منها للفخر بهذه الشخصيات وعملها الانساني والديني لبناء منظومة اجتماعية قيمية، أمّا لغة هذه القصص احتوت على السجع والجناس والطباق، في الشعر قد تأتي في ثناياها مسجّعة ولكنها ليست صفة، ففي أغلب النصوص الثقافية غير موجودة،  هناك حكايات تتوالد بحكايات متفرعة داخل حكاية واحدة كألف ليلة وليلة، في تعاملي مع النص النثري الشعري والقصيدة العمودية لم أجد قص أو حكي شعري متعدد، إنّما ناقشت مهام وأعمال لرجال في مجتمعنا المعاصر من الجنسين الذكر والأنثى، بأغلب الحكايات ألِّفتْ للأطفال، وفي الشعر ألفت لأجيال وللآباء والأدباء وخاصة أن الكتب الشعري قليلة التداول اجتماعياً، فعند اطلاعي على مجموعة الشاعر معن غالب سباح والمعنونة (عن الشط وأهله) أجدها متوالية  نصوص ثقافية في مدينته الآن، بقيم قرية زراعية سابقة، ومن نهل الاسترجاع الذاكراتي الشفاهي الذي نقله الآباء عن الأجداد أصبح من تراث مدينته التي أرخ لشخصياتها بنصوص ثقافية  شعبية شعرية لم تصل إلى الأجيال اللاحقة في العصر الحديث، ومنها لم يصل لعصر الكهرباء في المنطقة، وهذه العِبَر الشعرية تشكل تأريخ المدينة الحالية (الشامية) حيث كانت مدينة الرز المشهور برائحته والمسمى (العنبر) وهو ما يشبه ذلك الحوت الذي يمخر البحار والذي يقتله الإنسان للحصول على المادة التي في جمجمته ليصنع عطر (العنبر) الزكي، كذلك تكالبت النفوس وأماتوا العنبر فيها، كما تكالب الصيادون على قتل الحوت الوديع هناك، ومازالت تحمل أسمه (مدينة العنبر).

***

عيّال الظالمي

 

قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب أتهومي عبد الله  بغداديات : نصوص ولوحات لابد من التذكير بأن الرّجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو شاعر وفنان، وأستاذ باحث في علم الاجتماع حصل على  الباكالوريا سنة 1979م بمدينة بغداد العراقية ثم يمم وجهه نحو الديار الفرنسية حيث تابع دراسته بجامعة بيكاردي حيث حصل على الميتريز سنة 1985م ثم دبلوم الدراسات العليا 1989م في علم الاجتماع، ثم عاد بعد حرب الخليج الثانية التي تركت في نفسه شيئا من حتى، عاد ليشتغل متصرفا بمقاطعة عين الشق، ثم يؤسس أسرة صغيرة ويندمج من جديد في الحياة العامة لمدينته الأم الدار البيضاء التي أطلق بها صرخته الأولى بدرب السلطان الحي التاريخي الذي يعتبر مشتلا للفنانين والشعراء والمبدعين على اختلاف مشاربهم.

وعودا على بدء نعود لِعتبة الدّيوان ومَتنه، يحتوي فهرس ديوان بغداديات: نصوص ولوحات الصادر عن جامعة المبدعين المغاربة سنة 2020م إهداءً وقراءتين لكل من الناقد المصري سيد جمعة " الإلياذة البغدادية"، والناقد المغربي لحسن أيت بها : "بغداديات"، ثم مقدمة للكتاب خطها الأديب الفلسطيني مصطفى البدوي، وست قصائد هي على التوالي:

1) رياح الطوز

2) سقط القناع

3) شعارات سقطت

4) من نيسان إلى النّسيان

5) في الطريق مطر

6) مشت الإبل حين اكتمل القمر

وفي تناسق جمالي يتسم بفسيفساء راقية تجمع بين الحرف الأخاد وسحر الفن التشكيلي من خلال توظيف الشاعر لتسعة عشر لوحة فنية لعدد من المبدعين مرافقة لمقاطع نصوصه، وقد توفق الشاعر في الربط بين بوح الذات الشاعرة والتجليات المعبر عنها بتلاقح الألوان وتمازجها المؤثر الناقل لشدة الوجع المتنامي والمنتشر بشكل رهيب بين أبناء الشعب العراقي وهو يواجه العدوان الغادر الذي شنته القوى الإمبريالية الرافضة لكل توجه وتوق للتحرر من وصاية الغرب ونواميسه المبنية على التسلط والفتك.

عَتبَةُ الديوان

  أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.

واعتبره شولز:"خالق النص الأدبي ومانحه "الهوية  عَرَّفَ "جيرارجينيت”، العتبة العُنوانيّة بقوله: إنها «نُقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله: إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.

تأمل عنوان الديوان: "بغداديات: نصوص ولوحات" يحيلنا على حاضرة العراق بغداد مدينة "الرشيد" التاريخية التي تعرضت للهجوم الوحشي للمغول سنة 1258م الذي أدى إلى سقوط  بغداد وانهيار الخلافة العباسية، وتدمير معالم الحضارة الإسلامية، وتكرر الهجوم الغاشم لجيوش الحلفاء عليها تباعا خلال سنة 1990م ثم سنة 2003م،  عند التدقيق في العتبة نلاحظ أن الشاعر استعمل كلمة بغداديات في إشارة إلى أشياء تتعلق بالعاصمة العراقية، أَتْبعَها بنقطتين رأسيتين للتوضيح والتعداد طبعا توضيح أن الأمر يتعلق بنصوص ولوحات، الشاعر كان موفقا في اختيار عنوان ديوانه لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع عربي متردي، وتكالب غير مبرر لقوى عظمى على شعب كل ذنبه أنه رفض التعسف والاعتداء والاحتلال.

يقول الشاعر عبد الله أتهومي:

فوق الجسر، حديد مجنزر

عليه

وقف

من فوقه، فوهة مدفع

نحو طوابق فندق فلسطين، وجه

 منه للعالم رسل

خبر

وصور

ومقولة الحرب الشهيرة

علوج ثم علوج

كانت الطلقة

في الطابق الرابع عشر مقذوف استقر

خراب وقع

فصحفي سقط

ومعه القلم

وآلة التصوير كُسرت

إنه الحدث بامتياز

اسكات الصحيفة

بالصورة والصوت

حرية تعبير أسكت

قدسية حذفت

هذا المقطع مقتطف من نص سقط القناع الذي تُذيّله لوحة للفنان العراقي محمود شبر، يكشف عن وجع عميق ينتاب الذات الشاعرة  وترسم ملامح صورة دامية، لجرم مشهود استهدف فندق فلسطين بمقذوف غدر كانت الغاية منه إسكات صوت الصحافة واستباحة مداد القلم الحر، وقد لجأ الشاعر في قصيدته من خلال   الصور الشعرية، إلى المجاز المُتحرر من سلطة النظم الإيقاعية بإحالة المعنى ليكون بديلاً عن الإيقاع الخارجي الذي يميز القصائد القديمة ذات الوزن والقافية، وطبعا هذا يتكرر عبر أغلب النصوص الشعرية التي يتضمنها الديوان، والنظر إلى هذه الصور الشعرية من بعيد، يجعلنا أمام  صور شعرية مبتكرة والصور في قصائد ديوان " بغداديات: نصوص ولوحات" ليست صوراً بسيطة بل هي صورٌ مركبة تحتاج للتسلح بأدوات نقدية تسمح بتفكيك دلالاتها ، والمعنى في شعر عبد الله أتهومي مفتوح على المدى ويحتمل العديد من القراءات. لقد استطاع الشاعر التعبير عمّا يختلج بداخله بواسطة الصور البليغة والمتنوعة التي نجدها ضمن متن الديوان ، إن إمساك الشاعر باللحظة وتجلياتها في الفضاء وتجسيدها، يعطي القارئ فرصا متتالية لاقتحام عالمه ومشاركته مغامرته الشعرية المبنية على تراكم معرفي وتجارب حياتية ثرية، فسنوات الغربة التي توزعت بين بغداد وفرنسا ودراسته الأكاديمية لعلم الاجتماع، كان لها أثر بليغ ومؤثر في مساره الإبداعي. 

من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد، ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، واِرتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي.. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.

إن سبر أغوار نصوص عبد الله أتهومي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثريه، فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية، وهناك نماذج متعددة.. ونقتطف من ديون شاعرنا هذا المقطع :

في بياض بَديع عبور

بين ضفتي بحر أبيض

في تلاقي زهر

بين رفاق في فجر

في استقبال فياض

حتى فاض

من ابتسامة سعيدة

في ثبات ثائرة

لعلي تحية

برفاقية بهية

في تلألأ حمرة نجمة

في كاسيط هدية

عن عبد الله روى

التاريخ يحكم

ومن طبعه أن يحكم

ما رضي بالظلم

وفي الأخير يحكم

لمنح الشعب العدل

وسلم 

في هذا المقطع اِسْتعادة لمرحلة من تاريخ المغرب خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي حيث كان يسود توتر سياسي، كان من نتائجه حملات قمع ضد التيار اليساري بمختلف توجهاته، ونستطيع أن نجد صدى لاسم سعيدة المنبهي التي لفظت أنفاسها بعد خوضها لإضراب عن الطعام سنة 1977،والشاعر المرحوم عبد الله الودّان الزجال الذي انتشرت أغانيه بمدرجات الكليات خلال تلك الفترة التاريخية، في محتوى هذه المقطع المُقتطع من قصيدة مشت الإبل حين اكتمل البدر. 

   إن ديوان بغداديات: نصوص ولوحات، يَتَّسم   بِشعرية  قوية تُضفي تدفّقا عاطفيا على قصائده يُسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"  .

إلى جانب شعرية النصوص وزخم الصور الشعرية، وتعدد الانزياحات، يفاجئنا الشاعر بخطاب شعري يتقاطع مع خطاب معرفي على مستوى البنية والرؤية  حيث يَعزف على رؤية كُلّية، تتجاوز الجزئيات والفرعيات ، لنقرأ الجغرافيا على ضوء التاريخ، والتاريخ من خلال معطيات الجغرافيا، وقد احتوتهما شاعرية فذة،

ويمكنني المجازفة بالـقول على أن ديوان الشاعر عبد الله أتهومي ينتمي إلى فئة (الديوان القصيدة)، أو (القصيدة الديوان)، بمعنى أن الديوان كله وحدة متصلة، متنوعةٌ الزوايا، متكاملة الأبعاد، يتحكم فيها خيط رابط يمكن ملامسته على مستوى اللغة والمفاهيم، وأسُوقُ على سبيل المثال لا الحَصر هذا المقطع الذي يقول فيه الشاعر:

قُرب طشقند قِببٌ بديعة

من تلألأ زليج مزخرف في زرقة

قرب ذهبية من رمال ساعة

معلقة

تحت ظل الرمانة

على قيثارة

طفلة أعزوفة

حب وسلام

مشت الإبل حين اكتمل البدر

في السند والهند

ملاقاة نشئت

للحياة مدّت 

مساقاة تمدّدت

في بلاد الهملايا كل الديانات اجتمعت

بثوب غاندي تلحفت

في طريق التحرر مشت

بشوق، حياة تطورت

في اكتفاء من جوع نجحت

ببعث نهج غاندي ترسخت

عصر الاستعمار قد ولّى

مشت الإبل حين اكتمل البدر

بين حقول الأرز المحروقة مشت

في جري من فرع 

  خاتمة:

 الشاعر والباحث في علم الاجتماع عبد الله أتهومي  من الأصوات الشعرية التي تتمتع بقدرة على تنويع مستويات خطابها الشعري بشكل يتقاطع مع خطابات أدبية وفنية أخرى تدفع نحو تنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، وتبقى الملاحظة الجلية التي قد يلمسها القارئ المدقق، المدرك لما بين السطور هي تلك النزعة التحررية التي ترتكز على الماضي اليساري للشاعر والتي تجعله يندمج بشكل جلي في القضايا القومية للوطن العربي والقضايا الانسانية بكل بقاع الدنيا، دون أن ننسى تفاعله الكبير مع تيار التغيير الذي كانت تقوده أحزاب اليسار خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي .

***

محمد محضار     

الدار البيضاء 01يونيو 2025م

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق، في سياق مناقشته لما أورده شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) في بيته:

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

عن أنَّ القدماء والمحدثين كثيرًا ما يخلطون بين (الحِرباء) وغيره من الزواحف، فيعدُّونها جميعًا حرابيًا! ومن هذا الزعم أن الحِرباء: ذَكَر (أُمِّ حُبَيْن). والواقع أنهما دُوَيبتان مختلفتان، وليست إحداهما ذَكرًا للأخرى أو أُنثى لها. غير أنَّ من إشكالات كُتب التراث أنْ تجد بعضها ينقل عن بعض، منذ القرن الأول والثاني للهجرة وصولًا إلى العصر الحديث، دون أن يكلِّف أحدٌ نفسه بالمناقشة أو النقد أو السؤال، فضلًا عن تحرِّي الصواب، إلَّا نادرًا، والنادر لا حكم له؛ إيمانًا راسخًا لا يكاد يتزعزع بأن ما جاء عن السَّلَف هو الحقُّ والعِلم المطلق، وما عداه لا ينبغي أن يُلتفت إليه! فيؤول الأمر إلى ما يمكن أن أصفه بـ(العِلم الروائي) لا أكثر، يكرِّر بعضه أغلاط بعض. وليس، في الغالب، بذاك العِلم التحقيقي، أو نتاج البحث الميداني، أو المعرفة الواقعيَّة البيئيَّة.  ومن هذا ما جاء في كتب اللُّغة ومعجماتها- وفيه تكرار ما تقدَّم ممَّا يبدو أوهامًا متناقلة- أنَّ الحِرْبَاء: ذَكَر أُمِّ حُبَيْن! وأنه حيوان أو دُوَيْبَّة نحو العظاية أو أكبر تَستقبل الشَّمْس، وقيل: تُقابلها برأسها كأَنَّها تُحَاربها، وتدور معها كيف دارت! وتتلوَّن ألوانًا بحَرِّ الشَّمس! قالوا: والأُنثى: الحِرباءة.(1)

ـ هذا يعني، إذن، أنَّ أُنثى الحِرباء: الحِرباءة، لا أُمّ حُبَيْن!

ـ هٰذا بُعدك! سيتكرَّر في روايات كتب التراث القول: إنَاثُ الحَرَابِيِّ يُقَال لهَا أُمَّهات حُبَيْن، الواحِدَة: أُمُّ حُبَيْن. قالوا: وهي قذِرة لا يأكلها العَرَب البَتَّة.(2)

ـ ربما نظروا هنا إلى حكاية ذلك الأعرابي الذي قال، لمَّا سُئل عمَّا يأكل هو وقومه: «نأكل كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ إلَّا أُمَّ حُبَيْن!» فقال السامع: «لتَهنأ أُمَّ حُبَيْن العافية!»

ـ ربما، غير أنَّ العَرَب لا تأكل، في ما نعلم، (سامَّ أَبْرَص) أيضًا ونحوه من العظاء، كـ(الوَحَر). فلا يُفهم من حكاية الأعرابي أنَّ (أُمَّ حُبَيْن) و(الحِرباء) مخلوق واحد؛ فالعَرَب لا تأكل كثيرًا من الزواحف.

ـ بل في ذلك التعبير عن أكل العَرَب كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ مبالغة، يُلمَح فيها اصطناعٌ شُعوبيٌّ لتحقير الأعراب.

ـ تلك، إذن، معلومةٌ متداولةٌ لدَى القدماء، إلَّا أنَّنا نتوقف عن التسليم بأنَّ (أُمَّ حُبَيْن)- واسمها العلمي في بعض المراجع: Agamodon- هي نفسها (الحِرباءة)، وإنَّما أُمُّ حُبَيْن: (الوَحَرَة)، أُنثى زاحف آخَر يُسمَّى: (الوَحَر). وكذا نقل (الدَّميري)(3)، وهو- كالآخرين من سابقيه ولاحقيه- إنَّما ينقل عن هذا وذاك، وقد يرجِّح، بلا معرفةٍ بيئيَّة: «قال ابن قتيبة: أُمُّ حُبَيْن تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صِفة الحِرباء. وقال في «المرصَّع»:  اختُلِفَ في أُمِّ حُبَيْن، فقيل:  هي ضَرْبٌ من العظاء، وقيل: أعرض منها، وقيل: هي أُنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أُمِّ حُبَيْنٍ ضَرْبًا من العظاء، فيه نظر؛ فإنَّ العظاء نوعٌ من الوَزَغ، كما ذكره أهل اللُّغة. ويقال لها حُبَيْنَة، معرَّفة بلا ألف ولام، تقع على الواحد والجمع، وقد تُجمع على أُمِّ حُبَيْنات، وأُمَّهات حُبَيْن، وأُمَّات حُبَيْن، ولم تَرِد إلَّا مصغَّرة. وفي حديث عُقبة، رحمه الله: «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» وفسَّروه بأنها إذا مشت تُطأطئ رأسَها كثيرًا وترفعه، لعِظَم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبَّه بها صَلاتهم في السجود.» قلتُ: هذا كلام متخيَّل؛ فأُمُّ حُبَيْن لا «تُطأطئ رأسها كثيرًا، وترفعه لعظم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم»، كما زعم، بل هي تَظَلُّ- بين زحفةٍ وأخرى من دورانها في المكان الذي تكون فيه- تُنْغِض رأسها، كمَن يركع ويسجد في صَلاته. كأنها تستطلع بذلك ما هي مُقدِمة عليه توجُّسًا، كما تفعل الحِرباء بأرجلها خلال خطواتها. وفي هذا الحديث النبوي «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» ما يكشف عمَّا يُقصَد عند العَرَب بأُمِّ حُبَيْن؛ وهو (الوَحَرة)، التي يُسَمَّى ذَكَرُها في (جبال فَيفاء):(العِمامي). ويظهر أنَّ الوَحَر - بأُنثاه وذكَره- يُسمِّيه العَرَب: (أُمَّ حُبَيْن)، أو (العَضْرَفُوْط). ويمتاز العِمامي بلونه الأزرق، ولا سيما الرأس، وربما ضربَ لونه نحو الخُضرة؛ فهو قد يتلوَّن بعض الشيء. ولعلَّ هذا سبب الخلط بينه وبين الحرابي، عند بعض واصفيهما ممَّن ذكرنا. والعِماميُّ أكبر حجمًا من أُنثاه. ولا أدري لماذا سمَّوه بهذا الاسم؟ ربما لأنه ذو رأس كبير نسبيًّا، ولونه أزرق، فكأنه ذو عمامة. ويجمعونه على: عَمَعَّيْمَة. ومن طريقة هذا الزاحف في الحركة- كما جاء في الحديث النبوي- أنه يرفع رأسه ويخفضه مرتين أو ثلاث، ثمَّ يتحرك، وهكذا. فكان الناس يزعمون أنه بذلك يُصَلِّي راكعًا ساجدًا. وهذا النوع من العظاء يكثر في جبال جنوب الجزيرة العَرَبيَّة بخاصَّة، فلم أره في سِواها. وإنْ كنتَ تجد أنَّ نوعًا منه معروف في (سَيناء). ويُذكَر أنَّ اسم هٰذا النوع السينائي علميًّا: Adramitana. والوَحَر- على الأرجح- هو ما جاءت الإشارة إليه في الحديث النبوي. وأنثاه هي أُمُّ حُبَيْن، كما نعرفها. وما زال التراث الشَّعبي يصف حركات هٰذا الزاحف بأنها صَلاةٌ وركوعٌ وسجود! والنصُّ الحديثيُّ دليل على ما نقول- بعيدًا عن قيل وقال- وهو أنَّ أُمَّ حُبَيْن ليست بأُنثى الحرابي، كما زعم الزاعمون، ممَّن لا يعرفون لا أُمَّ حُبَيْن ولا غيرها، ولا صِلَة لهم ببيئة الجزيرة العَرَبيَّة برمَّتها! وإنْ كانت هذه الزواحف جميعًا من فصيلة واحدة، في النهاية.

ـ عفا الله عنك، هل كان (الحِرباء) و(أُمُّ حَبَيْن) يستأهلان منَّا كلَّ هذا التفصيل؟

ـ نعم، ما دامت معرفتهما ينبني عليها فهم الشِّعر والنثر في تراثنا العَرَبي. وتلك من أغلاط الناس لتبعيَّتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم وكتبهم.  أمَّا ما وردَ في كتاب (ابن المستوفي) من أنَّ الحِرباء «أكبر من العضاة شيئًا»، فلعلَّه خطأ مطبعي، وقد أشرنا إلى كثرة أخطاء طبعة هذا الكتاب. والصواب: العظاء، جمع: عظاءة بالظاء، أو عِظاية. وهي على خِلْقة (سامِّ أَبْرَص)، أو (الوَزَغ)، لكنَّها أكبر حجمًا.

ـ وماذا بِشْرحٍ مِنَ المُضْحِكاتِ/ ولكنَّهُ ضَحِكٌ كالبُكا!

ـ ماذا تقصد؟

ـ أقصد أنك استغربت جهلهم بـ(الحِرباء) و(أُمِّ حُبَيْن)، وهم قد جهلوا (الكَرْكَدَن)!

ـ كيف؟

ـ انظر إلى ما قالوه في شرح بيت (المتنبِّي):

وشِعرٍ مَدَحتُ بِـهِ الكَرْكَـدَنَّ

بَيْـنَ القَريـضِ وبَيْـنَ الرُّقَـى

«قال الواحدي هو دابَّة له قَرْنٌ في رأسه، وقالوا هو الحمار الهندي! وقال ثعلب: هو دابَّة عظيمة تحمل الفيل على قرنها. وبعض الفُرس يزعم أنه طائر! والذي ذكرَه ابن الأعرابي: أنَّ الكَرْكَدَن شيءٌ أعظم من الفِيل له قَرْن، ويكون في البحر، أو على شاطئه.»(3)

ـ أطرف ما قالوه: أنَّ الكَرْكَدَن طائر! أين منهم (سلفادور دالي)؟!

ـ يبدو أنَّ (سلفادور دالي) هذا قد خلط بين (الكَرْكَدَن) و(الكركي)! وهو طائرٌ بالفعل، لعلَّ اسمه مشتقٌّ من صوته. أمَّا الكَرْكَدَن ، فذلك الحيوان الأفريقي الضخم، الذي قد يُطلَق عليه: (وحيد القَرْن)، أو (الخِرْتِيْت). وإنَّما وصف (المتنبِّي) (كافورًا) بـ« الكَرْكَدَن» كوصف السُّوقة اليوم مَن كان ضخمَ الجثَّة من الناس بـ« الخِرْتِيْت».

ـ لو أعفَى قصيدته هذه ممَّا ختمها به من البذاءة السوقيَّة، لكانت من أجود شِعره وأجمله.

ـ هو نفسه كان ينبو ذوقه أحيانًا عن بعض أبياته؛ فكان يأمر رواته بعدم كتابته. شاهد هذا أنَّ (عليَّ بن حمزة، ـ375هـ)، صاحب كتاب «التنبيهات على أغلاط الرواة»، كان يقول: «أنشدني في هذه القصيدة بيتًا، وأمرني أنْ لا أكتبه، فلم أكتبه في نسخةٍ من نسخه، وهو: ...».(5) لكنَّهم كتبوه من بَعده وشرحوه أيضًا!

ـ على أنه قد كان يهجو (كافورًا) في قصائد مدحه أيضًا. حتى بيته الذي يُضرَب مثلًا في التملُّق والتذلَّل:

أَبـا المِسْـكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ

فَــإنِّـي أُغَنِّــي مُنـذُ حِيــنٍ وتَشــرَبُ

إنَّما هو هجاء. فلك أن تتخيَّل حال المخاطَب، بنَهَمه ولُؤمه: الشاعر «يُغنِّي منذ حينٍ، وهو يَشرب»! واستفهام الشاعر استفهام تهكُّمي إنكاري؛ ليقول إنَّ (كافورًا) لا يُبقي ولا يذر فضلًا، حتى في كأسه! وليس الشِّعر والغناء من همِّه في شيء، بل همُّه في الأكل والشراب، كالدواب! ثمَّ يُعرِّض بخِلقة (الخِرْتِيْت) هذا، قائلًا:

وَهَبـْـتَ عَلــى مِقــدارِ كَفَّـىْ زَمانِنـا

ونَفسيْ عَلـى مِقــدارِ كَفَّيـكَ تَطلُـبُ

فلا شكَّ أنَّ كَفَّي (كافور) عَبْلتان، بوصفه رجلًا خِرْتِيْتًا، لكنَّ عطاءهما ضاوٍ ضامر، كزمانه النَّحْس، في عَينَي (أبي الطَّيِّب)!

ـ يا لـ(أبي طَيِّبٍ) مع (أبي مِسْكٍ) في زمانٍ لا رائحة له!

بدَهْـرٍ ناسُهُ نــاسٌ صــِغارٌ

وإِنْ كانَت لَهُمْ جُثَثٌ ضِخامُ!

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (2) يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حرب).

(3) (2005)، حياة الحيوان الكُبرَى، تحقيق: إبراهيم صالح، (دمشق: دار البشائر)، 2: 203- 204.

(4) ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 471.

(5)  م.ن، 1: 474.

التمهيد: عند قراءة الموروث السردي، وصياغته شعرياً نحن نتحدث في تراث غيري عمّا موجود في الوقت الحالي، فالنص الثقافي هو حديث في غائب، له مميزات الحكاية مع جماليات واشتراطات  القصيدة الشعرية في المبنى والمعنى، لهذا تكون له اختيار لغوي معين، ووضع جمالي معين، وابراز قيمة نوعية لهذا النوع الشعري من الأدب، فهو ينمو تحت قبة الثقافة العامة، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة، والخيال والسقف الزمني المنوع لكي تعطى صيغ تأويلية وخطاب مُوجّه، ففي عصر توقف الرسالات المهمة التي يضطلع بها الشعراء، جنح بعض الشعراء إلى إيجاد مثل هذ النوع من الشعر، بطرق لم يكن بها الشاعر على وعي تام بنوعية النص، بل هو ينقل حالة مُرْضِية في وقت مضى مهما كان عدد سنين مرورها، وفق مقدرات الشاعر وموهبته واسلوبه على مختلف أنواع الشعر من (العمودي أو التفعيلة أو النثر)، وعملية ظهور وكثرة الشعر النثري، أو ما يشبه الشعر النثري لعدم الالتزام بأسس هذا النوع من الشعر، وتكالب رواد كتابة هذا النوع ابتدعوا أنواع من النصوص أطلقوا على بعضها بالقصيدة النثرية السردية، وهي نوع من شعرية الحكاية، لم تكن القصيدة التي تحتوي الحكاية وليدة اليوم، فقد أخرج لنا التراث الشعري العربي والعالمي من بين ما احتفظ به من شعر عدة قصائد حكائية، فيقول كلينث بروكس: (إن كل قصيدة هي دراما صغيرة) تقوم على صوت يحاور نفسه أو أَنَا تحاور العالم، والحكاية الشعرية كما وجدتها: أقصوصة شعرية وعلى العموم، بسيطة العناصر الفنية الشعرية، لا تنتهي بمفاجأة، وتعتبر ضمن الشعر القصصي أو السرد الشعري، تختار الحكاية الشعرية رمزاً، كحكايات أمير الشعراء أحمد شوقي وهو رائد الحكاية الشعرية، ولهذا إرتأيت ان يكون هذا النوع من الشعر الموجه في الظاهر والمضمر أن يكون تحت مسمى (النص الثقافي) لأنه يقدم الثقافة العامة أكثر مما يقدم الشعرية، ويعتمد الصلاح وبعث القيم أكثر مما يقدم الجمال الشعري، ودائما يكون النص الشعري الثقافي سهل التركيب والبناء واستعمال محسنات لفظية قريبة من فهم العامة والكتابة لها، لإبراز ما يضطلع به الشاعر.

أما أقدم ما وصل الينا من الشعر الذي سمي بالملاحم وهو قصائد طويلة تقص لنا حكايات وصراعات يتشعب بها نوع القص والملاحم الشعرية حسب ما أرى هي روايات من حكايات خرافية واسطورية، يجمعها وحدة موضوع هو التمجيد ببطل يمتلك من المواصفات ما ليس للبشر وجميعها شعرية، كملحمة كلكامش مثلاً.

واذا طوعنا تعريف الحكاية الذي أوردته الكاتبة (أحلام بكري) في موقع سطور:" قصّة بسيطة يمتزجُ فيها الواقع بالخيال، وأهمّ العناصر في أنواع الحكاية جميعها هو التّشويق والإثارة، والحكاية هي أساس للقصة وتستخدم التشويق والإثارة كسلاح يشدّ المستمع إليها، حيث يترقّب نهاية الحدث أو خاتمة القصة بفارغ الصبر، والحكاية ترتبط بزمان محدد مع توالي الأحداث فيها، وهي على بساطتها وقلّة تعقيدها تبقى النواة والأساس لجميع معالم الكتابات المعقدة كالرواية وغيرها "، فأنني سأقول: (بان النص الثقافي وليد الاختلاف بين الواقع المعاش وبين واقعٍ عشناه وتباين في القيم والعادات وتبني عقائد وفق اشتراطات متنوعة من الوعي  وأفق معرفي وذوقي، واستحضار لموروث وفق آليات فنية وكتابية محددة ضمن قوالب الشعر المعروفة)، ولابد من دراسة أكاديمية معمقة لهذا النص وتوضيح لمساحته التي ينتج بها ومهمة هذا النوع من الكتابة ومهامه التي يضطلع بها لكي يؤسس لهكذا نوع كتابي ابداعي في الشعر العراقي المعاصر، ومن أهم مرتكزات المساحة الممنوحة له وعملية تكوينه، ما يلي:-

1-  يُنتج النص الثقافي باعتماد ذائقة الشاعر ومقدار ثقافته .

2-  يمتح النص الثقافي أهميته من أهمية الموروث الشفاهي أو المواضيع المطروحة أمام المشاهد أو الأعمال الجمالية فنية أو ابداعية أو سلوكية على السواء ومدى بقائها في الذاكرة العراقية.

3-  يشتمل على المواقف والأفكار واللوحات الإنسانية العميقة على الرغم من أنها تُرى بسيطة.

4-  يدخل في كل أنواع الشعر أما رمزاً أو فكرةً او تصريحاً، ينمو إلى حكايةٍ موجزة مُشذَّبة بقوالب شعرية، ويتوسع نصيَّاً ونوعياً في النصوص النثرية أو القصيدة النثرية الشعرية.

5-  ربط النص الثقافي بالنصوص المهمة، حيث يكون ظلاً أو نبعاً جديداً لها كالنصوص المتعالية والنموذجية.

6-  منتخبات النصوص الثقافية تبرز على مساحة الأدب من حيث الحاجة فهي لا تعمل لو كتبت من أجل الجمال الشعري، بل لأجل بناء الثقافة، أي الإبتعاد عن التَّرَفية الكتابية.

7-  يعتمد في غالبية النصوص الثقافية إعادة إنتاج الدرس الأدبي التراثي لإيقاض الوعي الجمعي ومضاهاته بالتحولات الواقعية والحفاظ عليه.

8-  البحث في الهوّية المجتمعية والتأريخية والجمالية وأحيانا الأسطورية، لإبراز علاقة المُنتِج ببيئته سواء كان الراوي الأول الأقدم أو الكاتب الحالي ضمن المباحث المعاصرة.

9-  إبراز التناقضات في الحياة الإنسانية وغربة الشاعر في مجتمعه، والنوازع الوجودية ومدى تأثيرها في الثقافة العامة.

10-        يعتبر النص الثقافي تدوين سيرة لسِفر أو رحلة تتحول من خلاله النصوص الشفاهية إلى نصوص تدوينية مكتوبة ومعادلة بواقع اختلف على مرحلة انتاجها.

11-        لا يحدد النص الثقافي بالمحلية لأنه نص شامل قد يحتوي على التجارب والأعمال الفطرية لشعوب أخرى من البشرية،  وإبراز الخبرة وإعلاء الأصلي من المقامات، وتوضيح الغازي، وفهم العالمي وتطويع النص الشفاهي الذي زيد أو نقص عبر تنقله وفق قالب شعري.

12-        يناط بمَهَمَّة توسيع الوعي والأدراك في شتى مناحي الذهنية والتحكم الجسدي والكشف عمّا أصبح اليوم الغرائبي من المسلمات في النهج العام، وتنمية الغرائز المفيدة في الصور الإنسانية المتعددة.

13-        تجميل النص الأصلي وتطويره وتقريبه من القارئ على الرغم من أن قُرّاءَ الشعر في العصر الحالي هم النخبة.

14-        يغلب على النص الثقافي العاطفة عند المشتغلين وإظهار القيم العليا بدلالة الجغرافيا.

15-        يطغى على النصوص الثقافية التفاعلات النفسية للشاعر في الحالات المفروضة المحيطة ولما لها من تأثير ما يفرزه كالخوف والتوتر وانفلات التعامل أو سطحيته، أو ظهور الجرأة على المقدس أو الانسلاخ عن القيم والأعراف والتقاليد.

16-        كمية القناعة التي يحتويها النص الثقافي  المنقولة إلى القارئ أو المستمع يفرضها الإحاطة التامة بالنص الأصلي بالتكامل والإسلوب الفني ومقدار موائمة نوع الشعر مع المنقول أو المطروح كنوع.

17-        فضاءات النص الثقافي في العراق خالية من الفضاءات الواسعة في العصر الحالي أي خالية من الفسحة الجمالية المكانية في ذهن الشاعر، أي محددة بأسيجة وجدران، نظرا لابتعاده عن البحار والمحيطات، فيتأثر المنتجُ نفسياً ببلوغ الغاية لأن صوره عصية على الذهنية المحلية أو تندرج تحت الخيالي إن وردت هذه المساحات، فما زال النص الثقافي حبيس الكتب وهي جدران ورقية، فعملية نقل تجارب من الشفاهي إلى المدون أو الكتابي إدخالها في سجن آخر، فالنص الثقافي يحتاج إلى فضاءات واسعة ليُمَكِّنه من بلوغ التأثير.

18-        النص الأصلي سواءً كان إبداعياً أو جمالياً أو فنياً كالأعمال الفنية جميعها والتي تكون ضمن العمل الفطري والنادر ويثير الخيال وينعش الروح نحو القيم العليا لإسناد الحاجة لهكذا نماذج لا يخلو من المنفعة الشخصية المادية والعامة وتطوير الثقافة:

الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ    كلٌّ لكلٍّ وإن لم شعروا خدمُ

وفي عملي هذا قد اخترت شاعرين عراقيين لهما موقع بين شعراء العراق تبنوا هذا النوع من الشعر، فيعتبر (معن غالب سباح) صوت مدينته ألا وهي مدينة الشامية التابعة لمحافظة القادسية، والذي ارتاد منابر الأدب والسياسة كوالده رحمه الله، لذا فهو يشكل علامة بارزة في تأريخ المدينة وسيد منابر العراق كعرِّيف في مختلف المهرجانات وزيارات القادة في العصر الحالي، عصر ما بعد سقوط حزب البعث، فهو المبتكر للمفردات التي يستجلبها من تاريخ المدن وحواضر الأمة العربية والشعب العراقي في مختلف مدنه، وهو مقدم البرامج الدينية والثقافية في مختلف القنوات الفضائية ورائد وقامة من قامات المكتبة الأدبية المختصة والتي حملت على عاتقها تقديم الثقافة العامة في كل المجالات والتعامل العادل والمنصف لكل مبدع بقيادة مؤسسها الشاعر الدكتور (مهند مصطفى جمال الدين) لهذا سوف أحزم حقائب رحلتي مع مجموعته (عن الشط وأهله) وهناك الشاعر الشاب (محمد السويدي) من مدينة الشرقاط التابعة إلى محافظة صلاح الدين ومجموعته (حكايات الولد الخرافي)  والتي كتبها على النوع العمودي من الشعر وعلى أصول البحور الفراهيدية، وهو من الشعراء الذين لهم حضور جمالي وقد أخبرني بأنه تبنى ما اسماه بالحكاية الشعرية، لكي يختص بهذا الجانب أو النوع من الشعر العراقي، وأعتقد جازماً بأن الشعر العراقي اليوم وهم سادة القصيد المجدد بالعصر الحديث من بين أبناء العروبة، أصبحوا يتشابهون كثيراً فيما ينتجون من الشعر، في محافلهم الشعرية، لذلك فهو يبحث عن تفرد ربما ليرتبط شعريا بهذا النوع من الجنس الشعري، ولكنني من خلال مناقشاتي حول ما ينتجه الكُتّاب وما يتحدث عنه الأكاديميون كالناقد البروفيسور عزيز الموسوي وأسئلتي له ورغبةً منه على أن ينتج جنس كتابي سوف يُنَظّر له في قابل الأيام كما يقول، حيث سألته ما الفرق بين النص الثقافي، والنص النموذجي والنص المتعالي، وأنا أعرف الكثير عمّا أبان لي، أردت معرفة هل هناك من تداول لمصطلح (النص الثقافي) فوجدت بأنه يريد أن ينتج جنس ثقافي خاص به، ولكنه لا يملك الوقت لأمور صعبة في حياته ومهامه التي يتحملها ومسؤولياته، اتجاه عمله وطلبته وعائلته، لهذا أخذت على عاتقي أن يكون النص الثقافي هو ما يخلف الحكاية في الشعر، وارجو من الله التوفيق وأن يلهمني حسن التعامل مع رجُلي الشامية والشرقاط عبر عصور تكونهما الاجتماعي وتنوعه.

***

عيال الظالمي

.........................

(كتاب غير مطبوع في حلقات)

 

صدر للشاعر المغربي رضوان بن شيكر ديوانه الأول "مرافئ التيهان"، الطبعة الأولى- عام 2019- دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي -عمان-، تأخر هذا المولود الأول كثيراً، ورقياً، بالنظر لقيمة الشاعر رضوان، وعمله الدؤوب مع الحروف، والكلمات، ومع ذلك فالكتابة الإبداعية شغلت رضوان في كل وقت، والشاعر- حسب رأيه- لا يصنعه طبعُ ديوان أو عدة دواوين بقدر ما يضعه على السكة ذلك الألق الشعري المتسربل في نصٍ واحد، أومتعدد.

عُش النورس

الشاعر رضوان ابن مدينة الناظور، وُلد وترعرع بين دروبها وضواحيها، ويجري حبُّها في كيانه مجرى الدم في العروق، يفرح لانتصاراتها، ويتألم لانكساراتها أيضاً، أصوله وأجداده من بني شيكر، بلدة المجاهدين والصالحين والمبدعين. أفرد للناظور، في ديوانه، قصائدَ عديدة، منها قصيدة جميلة أسماها " بقلب ثقيل وبلا مزاج" ص /35/، يقول في مقطع شعري مؤثر عن الناظور فيها، معبراً عن حالة من الحالات الإنسانية والنفسية بالخصوص:

" ليس في الناظور مُتسع للأحلام،

قالت إحداهن ذات تقاطع

وهي تعبر الشارع الطويل

مسرعة الخطو،

بقلب ثقيل وبلا مزاج

/ .../ "

تبدو الناظور، في هذا النص، قاتمة، وفق المعنى الذي يريده الشاعر، وغير قابلة للعيش بسبب عدم توفر مجموعة من الشروط الضرورية والأساسية للعيش فيها، والمتوفرة في أغلب المدن الأخرى، فنحن ننتقد، وأحياناً بشدة، الجهات المسؤولة غيرةً منا على هذه المدينة العزيزة، والغالية منذ الأزل والمتوجة بسحر وجمالية بحر مارتشيكا.

أيكون تائها، في مدينة تائهة، أتكون الناظورُ الكسيحة، المفتقرة لمشاريعَ، وبنية تحتية، وبدون سينما ولا حديقة، ولا مسرح إحدى هذه المرافئ الموغلة في التيهان؟

سيقربنا الديوان "مرافئ التيهان"، من رضوان، ذلك الشاعر الولهان، ونكتشف ما في داخله من "ريف" أصيل يخزنه في ذاته، معبراً لنا وله، عن كينونة يترسب في عمقها قدرٌ غير يسير من الوهج "الرومانسي"، والحب "القيسي" لأرضه، وبلدته المنسيّة الناظور حيث تترعرع، كيف أراد أن يكون، طائراً شحروراً، ويحلق، بالطموح والتحدي، شاعراً أثيراً، سِمتُه نصرة الجمال، بالشعر، والضرب في الأرض، عبر تَرحال سندبادي لنُشدان "مرافئ التيهان" بحثاً عن اللؤلؤة المفقودة في الطبيعة، ولدى "الإنسان".

كيف اهتدى رضوان لــ "مرافئ التيهان "؛ هذا العنوان الجميل يشعرني، أنا القاريْ العاشق لشعره، بأنه سفينة، وُجِد ليكون فوقها قبطاناً، تمخر عباب البحر بحثاً عن مرافئ عجيبة يغلفها تيهان.. أسر لي قائلا في حوارٍ لي معه:

" أنا دائم العلاقة بالطبيعة وعندي عشق كبير بالجبال والوديان والبحار والشواطئ وأبحث دائماً عن التَّجوال والسفر الى المناطق الطبيعية، وأجدني مشدوداً إلى سحرها.. قصيدتي هي سفينتي، وما دمت أدير دفتها فأنا قبطان أمخر عباب مرافئ حياتي ".

النورس التائه

رضوان، كما يشي ديوانه، "تائه" في مرافئَ شتى، وشاعر فارس، يمتطي فرسه، لا يكاد ينزل أبداً، يتحرك كقطع الشطرنج من مرفأ لآخر، لا يترجل هذا الفارس أبداً، يوقع "تيـهانه" كلما حل بمكان، ترى عما يبحث؟ وعن أي مرفأ ينشد، ما سماته؟ وهل محطته الأخيرة ستقنعه، إذا ترجل، وهذا مستحيل، ببعض الاستقرار، على الأقل، بحيث يضع فيه عصا تسياره في النهاية؟

"التيه" تيمة غالبة على نصوص الديوان " مرافئ التيهان"، غيرُ خافٍ ذلك حتى في بعض عناوين الديوان: "في المطار" ص/ 15/، "أقف خارج حقائبي" ص / 97/، و "في الشاون ضاع مني ظلي" ص / 91/، و"ضفاف قصية" ص/51 /... ينثر الشاعر رضوان، في هذه القصائد، وغيرها كثير، مفرداتٍ من بطن التيه نحو: المطار- السفن- الحقائب- الطريق- الرصيف- التَرحال... أيهرب من شيء ما هذا الرجل التائه؟

التيه هو " المكتوب على شاعرنا"، يمشي ملكاً بين قصائدها، ويقف " خارج حقائبها" حسب تعبيره،

ولولا هذا التيهان، يقر الشاعر رضوان، ما استطاع كتابة سطر واحد من الإبداع الشعري، هذا "اللاستقرار" هو الذي يذكي في أوصاله شرارةَ الإبداع في دواخله ويستفز غرائز الكتابة لديه، في قلق وجودي آسر، ولنقل، مطمأنين، بأنه قصبة فارغة من الداخل دون هذا التيهان، وبقلق وجودي يتغذى شعره، ومَلء هذه القصبة الفارغة ضرورة لازبة مع جرعة من الذروة الإبداعية لإيقاظ الحواس مع "فلاشات" الحياة.

القلق الوجودي الذي يسكن المبدع رضوان هو الذي يحفزه على الترحال والسفر، لا يهرب من شيء تحديداً، يقول لي هامساً:

"من حين لآخر، أنسى نفسي وأضيع في إحدى المدن التي لا أعرفها فأمشي في اتجاهات مختلفة، لأسبر أغوار ذاتي، وهذا هو التيه الذي تتحدث عنه وقد يكون أحياناً أخرى نوعاً من الاغتراب والضياع الذي يعيشه كل منا في محيطه أو مجتمعه والعوالم المفروضة عليه. "

فراخ النورس

يتكون الديوان "مرافئ التيهان" من (23) قصيدة، متوسطة الطول، عدَدُ "الجمل الشعرية" في أطول قصيدة منها هو (41) جملة: (ضفاف قصية) ص/51/، وأقصرها (19) جملة (بلقيس الثانية) ص/ 61 /... والقصائد، في كل الديوان، رغم هذا النفَس القصير، زخمة وسمينة المعنى والمبنى، وطليقة الخيال، و"الشحنة" الدلالية فيها مركونة في مفاصلها بعناية شديدة، وبين "كيْف" سامي الدلالة، و" كمّ" قصير يبني رضوانُ معالمَ قصائده، بدقة، في هندسة أنيقة، وديباجة لافتة بين هذين العالمين.

الشاعر، حين يحس بـأنه عطل من أي إضافة، ببساطة لأنه يكون قد وفّى كل ما يريد قوله معبراً عن الفكرة من كل جوانبها، لا يهمه تمطيط النص، بقدر تكثيفه رغم "الهزال "، والأهم هو أن يفلح النص في طرح مجموعة من التساؤلات الذاتية والموضوعية، التي عايشها.

رضوان شاعر مثقف، مولع بالأدب الفرنسي، ويتحدث كأحد أبناء موليير، ولهذا صلة وتأثير واضحان، في بعض قصائد الديوان، من الشاعر آرثر رامبو/ الشاعر المشاء.. وكذلك من غيره من شعراء فرنسا الذين أصابوا هوىً في نفسية رضوان الشعرية.. يقول عن هذا التأثير:

"أكتب وأقرأ كثيراً بالفرنسية وعندي علاقة وطيدة بهذه الثقافة وترجمت العديد من النصوص الإبداعية من هذه اللغة إلى العربية، وأعشق الشعر الفرنسي وخاصة شعراء المدرسة السوريالية: لويس أراغون؛ بول إيلوار؛ اندري بروتون... "

ولعل هذا ما يستدعي قارئاً خاصاً لشعر رضوان، مؤكداً ما يلي "أكتب بلغة شعرية غير عادية، فيها الكثير من الانزياحات اللغوية التي تضع القارئ أمام عدة تأويلات وإيحاءات، والنص الشعري يميز نفسه بالخروج عن المألوف كما هو معروف بعيداً عن التقريرية التي تنعدم فيها نسبة التأويل ويضع القارئ أمام دلالة واحدة رغم اختلاف مستويات القراء وتنوع مشاربهم الثقافية".

الشاعر رضوان مولع بالتراث الإنساني والأساطير، ولذلك تجد الكثير من نصوصه تعكس هذا الولع، يستحضرها باستمرار من أجل إضفاء الجمالية على النص، وكذلك من أجل مساءلة هذا التراث أحياناً.

التراث في " "مرافئ التيهان " عش دافئ يغنيه باستحضار الشخصيات التاريخية والأسطورية {الفنيق، الأندلس، غرناطة، بلقيس، طارق بن زياد، البئر التي تحيل على قصة سيدنا يوسف، رالابويا...} يوظفها، جمالياً، من أجل التماهي مع بعض الحالات والحكايات واستحضارها لتوظيفها.

النورس الرياضي

الأرقام في ديوان "مرافئ التيهان" حاضرة، وبقوة؛ وعموماً، بعض الأرقام، في الأدب، وفي السينما، حظيت باهتمام كبير، نحو، مثالاً لا حصراً، رقم 13 في السينما (الجمعة 13 Vendredi13-)، الغرفة رقم/101 /في رواية جورج أورويل، "1984"..

لنقرأ مقطعاً من قصيدة " لا يشفى بالنسيان أحدٌ" ص /105/:

"قبل أن أرتمي عميقاً

في أزقة الصيف المتشابهة،

المحفوفة بالصدى،

الغارقة في وحل أصوات

الباعة المتجولين،

المكتظة بقسمات الغرباء

الفارّين من جحيم الضجر.

أدلف إلى الغرفة رقم 15،

أطيل النظر في المرآة

كأني أراني أول مرة،

أكتب رسالة طويلة جداً."

فكان سؤالي عن الغرفة رقم {15}.. ما سرها، ولماذا تحديداً هذا الرقم؟

يبرر رضوان ذلك بقوله: "عندما أسافر أطلب الحجز دائماً في الغرفة رقم 15 في الفنادق التي أنزل فيها، وهو رقم أتفاءل به وأعشقه لأسباب ذاتية محضة، ولا علاقة لذلك بالسياسية أو بأي حدث خارجي آخر.

الطائر النورس

للشاعر رضوان علاقة خاصة مع الطيور، أفرد لها قصائد جميلة، وللنورس، عنده، عشق خاص؛ أبيات رائقة عن العصافير نقرأها في قصائد كثيرة من الديوان، وتحصد النوارس حصة الأسد فيها.

نقرأ في قصيدة " على غير العادة" ص /14/:

سأتكئ على هذا الخراب

/.../

لأصنع من غيمة تائهة

في سماء خيباتي

ظلا لأشجار العنفوان

/.../

أو مرفأ ترسو إليه نوارسي

العائدة من إبحارات التعب"

ونقرأ أبضاً في " بقايا جموح" ص /46/:

" يا أيتها النوارس العابرة

في وجع الصباح والمساء.

هل لك أن تهـبي للفنيق

صياح الرياح

أو تقلديه صوت الأنبياء"

وكذلك نقرأ مقطعاً جميلا عن "النوارس" في قصيدة " بلقيس الثانية" ص /63/و/64/.. هذا فضلاً عن كلام شاعري جميل عن "الحَمام" في قصيدة " أقف خارج حقائبي" ص /101/، وعن " طائر أسطوري "في قصيدة" لا يُشفى بالنسيان أحد" ص /107/...وفي قصيدة "البرزخ الذي بيننا" ص /83/، وفي قصيدة " في الشاون ضاع مني ظلي" ص/94/...

أسجل إعجابي بكل هذه القصائد، المطرزة بعقيق " العصافير"، والنورس واسطة عقدها..

هل الطيور هنا مناسبة لتيمة " التيهان" الطاغية في الديوان"؟.. ثم لماذا النوارس تحديداً؟" ما الذي يميزها عن طيور أخرى تغنى بها في ديوانه، يجيبني قائلا:

"النورس طائر دائم الحضور في الموانئ وعلى الشواطئ وعلى السفن وهو ملتصق وملازم لعالم البحر والترحال والتيه. وهو، في نفس الوقت، طائر جميل، ويعيش بقرب البحارة والملاحين، وكثيراً ما تجد البعض منها على سفينة تبحر إلى منطقة بعيدة. عندما أتملى النوارس تجتاحني عواصف من الحنين وأحياناً حالات من الكآبة والسوداوية وأنا أراها تشيع البحارة في رحلة الصيد المحفوفة بالخطر غالباً، أو وهي تحتفل بعودتهم الى الميناء سالمين غانمين، النورس طائر له سطوة عليّ وأجده غريباً وغامضاً، قريباً وبعيداً في نفس الوقت".

النورس يحلق في سماء الطبيعة

يحتفي الشاعر رضوان بالطبيعة بشكل مبهر، وديوانه في "مرافئ التيهان" ممهور بها؛ يتغنى في نصوصه، بالطبيعة، مستحضراً عوالمها (الفصول- الشتاء- القطف -السحاب- العاصفة-البحر- ظلال- عباب- نجمة...)، يقولون " كثير الشعر ألهمته الطبيعة ".. لذا لا غرو أن تُلهمه الطبيعة وتشغف قلبه، ويبحث فيها عن القضايا التي يطرحها؛ علاقته بالطبيعة وطيدة، وعشقه لها كبير، مُعجب هو بالجبال والوديان والبحار والشواطئ، يحمله ذلك للتجوال والسفر إلى مناطق الطبيعية حيث تفتح له سحرها آفاقاً واسعة للتأمل والاستشراف بفعل تناقضاتها المتأرجحة بين السكون، والجموح، والقوة والهوان.

النورس بين القصة والقصيدة

ظاهرة استرعت انتباهي وأنا أستمتع بقصائد " المرافئ"، بدتْ لي بعض النصوص عبارة عن قصص قصيرة، " في المطار"، ص/15/، و"ليل غرناطة السرمدي "ص /15/، و "امرأة خارج الفصول" ص /39/، و"ضفاف قصية" ص /53/.. الشاعر رضوان فيها حكّاء ماهر.. يحرص فيها على الزمكان، والبطل والحدث، والعقدة والتنوير...هو تداخل بين القص ونظم الشعر مطلوب لخلق جنس أدبي واحد هو النص الشعري، لذا لا يخلو نص في الديوان دون لمسة من مقومات الكتابة القصصية كالوصف والحكي.

النورس وضربة المعلم

يقول في قصيدة " اثنان" ص /49 / {أعتبرها مليحة الديوان}:

"واحد تسكنه المسافات

المتدفقة

في أروقة المدى،

وانسيابات الأشياء المضمرة

في طراوة الذهول،

يحمل خيباته واحتضاراته

قيثارة للفلوات

/.../

وآخر فقد نسغ الحياة

فأضرم ظمأ السنين

في أوداجه ثمّ استكان،

في انتظار موت هادئ

وترانيم جنازة سائرة".

"الأول تسكنه المسافات، والآخر/ الثاني فَقَد نسغ الحياة"، أيهما رضوان هنا؟ الأول؟ أم الثاني؟، وإذا افترضنا وجودَ ثالث، ألا يكون ترياقاً لهذا التيه بين المشّاء / الأول، والميّت/ الثاني؟ ألا يُلِح الأول والثاني في طلب الثالث؟ أليس الشاعر رضوان، هو هذا الثالث مثلا، ومن يدري، ربما، هو امتداد لكل الأرقام المتبقية...؟ لاحظوا معي أيضاً - وهذه "ضربة معلم" أسجلها للشاعر رضوان - استعمالاته للفعل في هذا المقطع.. مع "الأول" يوظف المضارع "تسكنه"، ومع "الثاني" يختار الماضي "فَقَــد".. واحد متحرك، والثاني ثابت. عالمان متناقضان.. فما الرسالة التي يبغي رضوان إيصالها؟

يقول شارحاً:

"كل واحد منا يعيش هذا التناقض أو هذه المفارقة، هذا الصراع الدائم والأزلي في ذاته بين الجموح والاستكانة والاستقرار أو التيهان. هذه الأشياء هي التي تجعل الواحد منا مختلفاً ومتميزاً عن الآخر، وليس نسخة منه. أنا الأول والثاني وربما الثالث وإن شئت أنا إلى مالا نهاية، أنا هذا المتعدد وهذا المتشظي في العوالم. فهذه الجدلية هي المكون الأساسي لهذا الكائن التائه الذي يبحر من وإلى مرافئ التيهان"

النورس اللغوي والموسيقي

{ات} حرفٌ صوتي سيميولوجي، يرفرف في "مرافئ التيهان"، كطائر السنونو، فوق كل القصائد بدون استثناء، تَفتتنُ به النصوص حد التماهي في {الشرفات- الشهوات-الغجريات- المتاهات- الراقصات-النهايات-الرقصات- الرغبات-الخيبات- المفازات- المسافات- الاحتمالات- الخسارات- الصباحات-الفلوات- النداءات-القبلات- الهمسات- النايات-الكلمات- الحكايات- القطارات- المساءات- المتاهات- اللذات-الأصوات-البدايات-الجهات-الأغنيات- الغيمات...}، يصل العدد منه لـِ/44 /صوتاً، اثنان منها ( الشهوات – المسافات ) مُكرر كثيراً ؛صدى هذا الصوت يتكرر في آخر السطر/ البيت الشعري كنوتة موسيقية. في سيمفونية رائعة.

لنقرأ مثلا قصيدة " أصداء تأبى الأفول" ص /117/

"لدي الآن ما يكفي

من الخطوات

لألتفت فأراني

لا ألوي على شيء

أثني المسافات

أغالب فيك البعد

بالنبيذ والأغنيات".

وفي قصيدة" في الشاون ضاع مني ظلي" ص /94/:

" والليل يسري بنا

يستدرجنا على منابع اللذات

ولنا كل هذا السكون،

ثم طفقنا نقطف الشهوات

/.../

وعطر جسدها الناصع

يلفني من كل الجهات"

هذا الصوت "روِيّ" مُتوج في نصوص كثيرة كما قلت، ولا تخلو قصيدة إلا صدح به الشاعر، يتكرر في قصائد كثيرة، فيمنحنا، بانسيابية عجيبة، إيقاعاً داخلياً، وخارجياً.. ولعله راهن عليه في موسيقى النصوص، ليسحرَ به القراء.

يعلق قائلاً:

"صراحة أنا أوظف الكلمات والجمل والاستعارات والمجازات التي تليق باللحظة الشعرية التي أكون فيها أثناء الكتابة، ولا أختار كلمات معينة لإثارة انتباه القارئ مثلا أو إبهاره. أنا اكتب لذاتي أولا، ولذلك لا أضع في حسباني، أثناء الفعل الإبداعي، قارئاً معيناً.. وهذا هو الطقس الوحيد الذي أحرص عليه وألتزم به أثناء الكتابة وأحاول إفراغ كل الشحنات الشعرية واللغوية في النص.."

بالإضافة إلى الصوت الموسيقي نقف على صور شعرية جميلة جداً رسمها باحترافية في "مرافئ التيهان".. لنقرأ مثلا في قصيدة "ضفاف قصية" ص /53/ و/54/":

"وهذه النايات البعيدة

تأتيني كأجراس كنائس

تدق في مهب الرحيل

سمفونية هذا الغروب

الذي لا يشبهني،

الملتصق بعُنقي

كأنما خِيط بجلدي."

السؤال هو:" ما هو الشكل الذي اتخذه في الديوان، وتحديداً في رسم "صور شعرية" أخاذة، أهو التقليد والتجديد، أم الترميز، أم أنه رسم أبعاد هذه الصور ودلالاتها على الثوابت البلاغية من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومجاز؟

وبشكل خاص ينحاز رضوان بن شيكر في صوره الشعرية إلى استعمال الكثير من الاستعارات والمجازات والانزياحات اللغوية، وهي مكونات تتناسب بشكل جيد مع طريقته في الكتابة، فالشعرية المعاصرة هي كتابة بأكثر من دال، وهي انفجارات متتالية، في اللغة وفي الإيقاع، وفي الزواج الذي يحدث بين البياض والسواد.

يقول:"... عندما أكتب لا أراهن على هذه الأبعاد أو أضع في حسباني هذه التصورات، أنا اقوم فقط بالتقاط الصور والفلاشات وأضعها في السياق الشعري مع بعض التقليم والتشذيب."

أما عن اللغة فيستعمل في "مرافئ التيهان"، بحرص شديد، ألفاظاً وعباراتٍ مُتداولة، ومستهلكة، ولكنه يجعلها، بضربة معلم، تتسربل-انسياباً- في سياق بياني، متحكم فيه، من خلال اللغة وإمكانيتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع... كذلك يُلحف التركيب على مستوى الجملة، معطفَ الانزياح باستمالة لغة الإيحاء، والمجاز، والرمز ...كيف تهتدي لوسائل التعبير في الديوان بهذا الشكل البديع؟

العبارات والألفاظ في الديوان تنتقل من المستوى العادي المستهلك إلى المستوى الشعري الإبداعي الخلاق والخارج عن المألوف، وأعتقد أن هذا الفعل من وظائف الشعر المعاصر مع استعمال لغة شعرية عميقة إضافة إلى توظيف التراث، وهذا ما يضفي جمالية، ويهب للنص الشعري الحديث سمة التميز مقارنة مع النصوص التقليدية الغارقة في الاجترار والابتذال سواء في الثيمات أو الشكل ...وهذا ما يجعل الشاعر ينحاز، بشكل كبير، إلى الكتابة الإبداعية الحداثية لما لها من تأثير ووقع على القارئ من خلال العوالم التي تقدمها له.

يقول رضوان: "الشعر المعاصر ثورة في التعبير والتغيير وهو قبل كل شيء انفعال وتجربة. وقد أثبت عصرنته من خلال ما يتميز به شكلا ومضموناً، فالمعاني عميقة واللغة إيحائية فيها الكثير من التلميح والايماء .فالشعر لم يعد شعر مناسبات ومهرجانات أو مجرد أدب يطالع للترفيه والتسلية."، والشاعر يلجأ إلى الغموض جنوحاً عن التقليد، والسذاجة والبساطة، لذا يقوم بتكثيف الصور الخيالية و اقتحام المشاعر والانفعالات حيث يتلون النص بضبابية غموضية، فاتساع الأبعاد الثقافية وعمقها في عصرنا وتشبع الشعر الحداثي بها من ناحية ثم لجوء الشاعر الحديث الى تقصي ما وراء الواقع، ساعياً إلى استكشاف الجانب الآخر من العالم والنفاذ إلى صميم الأشياء وجوهرها، والانفتاح على عالم الأساطير غموضه وغرابته، من ناحية ثانية، ثم استخدام لغة شعرية جديدة لم تتعودها ذائقة القارئ كل هذا أضفى على الشعر الحديث غياباً دلالياً وتشتتاً في المفهوم، جعل من النص الشعري الحديث أحياناً لغزاً مغلقاً يقف أمامه القارئ العام، بل الناقد المتخصص حائراً وتائهاً.

وأنا أميل إلى الغموض أكثر في كتاباتي الشعرية ولا أحب الوضوح الفاضح الذي لا يترك مجالا لطرح الأسئلة واستقراء التجارب، سواء في الحياة العادية أو في الكتابة، وهي ميزة وليست تهمة وليس في متناول أي كان أن يقدم للقارئ نصاً شعرياً يتسم بالغموض والجمالية في نفس الوقت. فالشعر نقيض البساطة الساذجة والمستهلك من الكلام واللغة، الشعر أعمق وأبعد من ذلك بسنوات ضوئية.

" مرافئ التيهان" أم الديوان النورس

" مرافئ التيهان" عنوان جذاب، لا أنكر، لكني لوقُدر لي أن أختار عنواناً آخر غير هذا "لرسوتُ" دون تردد على " الديوان النورس" ؛ في ص /59/ من ديوانه نقرأ:

" نورس واحد لا يكفي"

نيابة عن كل عشاق حرفك، نطمع في دواوين أخرى، ونوارس مغردة.

ننتظر أن تحلق عالياً، ونقر أ جديدك.

دام لك التحليق شاعري؛ يطيب لي أن أهدي القراء هذه القصيدة من الديوان:

" في الشاون ضاع مني ظلي"

" ضاع مني ظلي

في الشاون تحت ضوء

خافت،

أسفل منحدر يطل

على الهاوية،

كنا اثنان

ثالثنا الرذاذ

المتساقط كمعزوفة أندلسية

تبث بدون توقف،

وعلى صدري تتماوج أنفاسها

كسفن تقاوم الغرق،

والليل يسري بنا

ملتهب الحواس

يستدرجنا إلى منابع اللذات

قالت للسماء نجومها

ولنا كل هذا السكون،

ثم طفقنا نقطف الشهوات

من أشجارها

ونسرق العصافير

من أعشاشها،

وفستانها الأحمر القاني

يعصف بتلابيب قميصي

كهبوب شديد،

وعطر جسدها الناصع

الشفاف

كشهد مصفى

يلفني من كل الجهات

كحنين جارف.

هناك في الشاون

ضاع مني ظلي

متسكعاً بين الأزقة الزرقاء

وفشلت في تعقب أثره،

أغلب الظن أنه

ليس وحيداً

ولن يعود أبداً"

***

ميمون حرش

........................

ملحوظة: المقال مستمد من حوار طويل لي مع الشاعر رضوان بنشيكر، منشور في كتابي "هؤلاء أسعدوا القراء-حوارات العرين " إصدار 2021.

 

تشريح الزمن الشاهدي وآليات الموصوف الصوري

توطئة: تتمازج آليات البناء السردي في مجمل تصورات وتشكلات الأهمية الوظائفية في قصة (القلعة) للقاص محمود جنداري، بما يوفر للقراءة والتلقي ذلك التماسك في عمليتي (السياق ــ الوظيفة) لذا أصبحت جوهر عملية القص في موضوعة القصة القصيرة موضع بحثنا، وكأنها عملية ل (تشريح الزمن) عبر ذلك المحور الشاهدي من حسية المكان السياقي الموغل في محكي رؤية ذلك السارد الذي غدا ينقل لنا مؤثثات النص، كما لو أنه ذلك الناقل الحكواتي لصور وهيئات ومواضع مكونات وشخوص وتواريخ وغبار مداخل تلك المدينة المرجعية. وعلى هذا النحو صرنا نعاين عملية المسرود الذاتي لأهم جزيئيات حكاية القلعة ومجموع تشاكلاتها المرجعية في الحكي الذي أخذ لنفسه ذلك النوع من المسرود العرضي غالبا، مما جعل تمفصلات سياق النص منكفئة على حدود وثيقة موغلة في الهيئة السياقية دون ذلك الولوج التمثيلي لفحوى مستلزمات العاملية الذاتية في وظيفة الحكي المسرود عرضا.

ــ الاسقاطية الفضائية في حكاية الشاهد العاملي

1ــ البنية الزمكانية:

إذا عاينا من جهتنا نحو تلك الأبنية الزماكانية لحدود مسمى (القلعة) لوجدنا ثمة مؤطرات خاصة للمادة المحكية، إذ ألفيناها موسومة بذلك المجسد الزمكاني وبتواريخ ومسميات واستدلالات فقدت بعض من أدوارها المشكلة للمعنى المستقل في مسعى الوظيفة التخييلية. لذا يطول وصف وعرض رحلة السارد الصوري، وهو يجتهد في توفير أقصى الدلالات الثبوتية للزمن المرجعي لذلك المبنى التاريخي النابض بحركة القلق والاغتراب الزمني الفاصل بين مرجعية الحوادث الواقعة في أوليات الطبيعة التاريخية للصرح الحجري (القلعة ؟؟) وبين ذلك السارد الذي يحاول أن يحفز قابليته التخييلية في أضفاء حركة ولمسة وجودية جديدة إلى أولئك الندل والخدم والأسود السبعة وأبوابها المغلقة منذ تمنع الغبار والأتربة عن الكشف عن ملامح الهيئات داخل حواضن القلعة: (فتح الندل أبوابها في وقت مبكر من بعد ظهر يوم الخميس، فأندفع هواء ساخن حار مسعور مفاجىء.اندفع يصخب ودخل الحانة من كل أبوابها فأزاح أغطية الموائد المرمرية الآخذة في التشقق والتلف. ومن الحانة أنطلق الهواء في المدينة يجوب شوارعها محدثا ضجة عنيفة تراجعت مع الظلال داخل أزقتها بعد أختناقها بالهواء الساخن الذي يوحي وكأنه منبعث من جحيم مشتعل. / ص24 ــ مختارات من القصة العراقية الحديثة) ومن خلال تصعيد سياق عنف الزمن الميثولوجي الخارج من بواطن حصون القلعة يتولد الزمن النفسي السارد في دخيلاء العوالم الهيكلية لأرواح الندل داخل الحانة القلعوية، حيث تتسيد تلك الرياح الساخنة كفضاء محمل بروائح وآثار الأسرار والتواريخ والأسلحة والتماثيل التي تحتفظ بها حصون القلعة منذ ربع قرن. إنها أي ـ القلعة ـ مغامرة زمكانية مؤسطرة من قبل مستوى الشكل والمضمون المصائري للوقائع الميثولوجية المدونة فوق أدراج خزانات الملفات والمخطوطات القديمة، أنها إذن ملفوظا لسانيا ـ حكائيا فحسب من وجهة تبئيرات السارد الصوري الذي غدا يؤثث فراغات الزمن الحضوري بالصور والرموز والهيئات المحنطة للندل والأسود والأجساد الخاصة بالجنود فوق مقاعد وأرائك الحانة.

2ــ المنظور اللازمني في رؤية السارد الدمجي:

في وضع آخر، يدمج السارد مستحضرات وجوده اللازمني داخل محددات زمكانية غير منتهية من بناء القلعة: (لم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي أدخل الحانة من بوابتها الأمامية. لا أحد يعرف أين البوابة الأمامية. ليس لدي وقت للانتظار أكثر من هذا، لقد أغلقت منذ ربع قرن وكنت آخر من خرج منها. / ص24) كما يتم الادماج بين زمن السارد مضافا إلى زمن سياق (ربع قرن ؟؟) بأسلوب يكشف لنا بأن الصيغة الظرفية للحال الساردي، لا تفصل لنا بين مروية وقائع الزمن القلعوي وزمن الحاضر الوصفي للسارد: فهل الصوت الساردي هو مرآة مونولوجية تعكس حقيقة الانتماء لذلك الزمن القلعوي ؟ أم أن الصوت السردي في سياق تبئير خطاب ميثولوجي مؤثث بروح حكاية المكان ؟ الجواب إن لغة السارد العليم في النص تشف عن تحقق هوية (السارد الصوري ؟) الذي يتكفل بجمع شيفرات عملية إنتاج المكان ضمن مشخصات تتحرك كدمى متخيلة تضفي على ذاتها طابعا يكاد أن يكون تناصيا إذا شئنا قول هذا أو ما يمنح هوية السرد دينامية تشريحية خاصة في قراءة وتوظيف الزمكانية (المافوق ـ الواقع).

3ــ التشخيص الحكائي: انشطارات آفاق التخييل

لعلنا بعد اطلاعنا على بعض من الوحدات السابقة واللاحقة من الأجزاء النصية، أصبحنا نتوخى دقة المقاربة في مكونات المواضع الخاصة في مسار الصوغ للسارد الحكائي وانعراجاته عبر عوالم امتدادات التذكر والتخيل والاستيهام: (منذ ربع قرن وأنا أتوهم بل أمني نفسي بأن أكون أول الداخلين إليها عند إعادة فتحها، أحاول أن أكون متواجدا مع الندل الأوائل: ميخائيل، وبطليموس، والحمزاوي، ومع الرواد القدامى الأصدقاء: جرجيس، وإبراهيم، ويافث، مع الشيوخ الكبار والأسطوات المهرة في حفر الأقبية وتلسين القبور والمجاري والنقاشون ونقارو المرمر ــ وأحاول أن أكون أكثرهم إلتصاقا بالحانة، مكانا وبشرا، ومسافة الزمن تتوثب عبرها أفكار متوحشة تحاول أن تنطلق خارج معتقلاتها. /ص25) لعل العلامة الوحيدة التي تثبت بكون السارد أداة افتراضية شاخصة بحجر الأساس المفترق بين زمنيين مختلفين، هوذلك الأمر الذي جعل من الفضاء الآنوي له (منشطرا داخليا) أو أنه محاطا في الحد الأدنى بين خطابين (الماقبل ــ المابعد ؟) وصولا إلى قواسم مشتركة بين ماهية الزمكانية الموظفة في كلا الزمنين. وربما نسأل بعبارات موجزة: هل أن السارد ينتمي إلى أحاسيس ذلك المبنى القلعوي كعلامة تتماثل من خلالها جميع وسائط الإمكانية المرجعية في محتوى الحكاية ؟ أم ترى أن السارد راح يدمج فردانية المكان بخلاصات تقاربية من زمنه الاختلافي فغدا بذلك ــ ساردا صوريا ــ يفترض تحفيز العلامات المكانية بحجر من اختلاف الأزمنة ؟ لعل الجواب في أغلب الأحيان هو ما يقودنا إلى تفحص (المتتاليات) السيرورية للزمنين فكلاهما يشكلان بذاتهما حالة من حالات (الأركيولوجيا الاسترجاعية ؟) في الزمن وصولا إلى لحظة من لحظات الطبيعة المكانية والذاتية المسكونة بهاجس الاستبعاد اللازمني أو اللامكاني، أي أن القاص جنداري اراد من وراء عيش سارده المشارك الفات رؤية جديدة بين (الأصل ــ الإظهار ــ التعارض ــ الافتراض) حتى تكون العلاقة بين الزمنين بمعنى رؤية حول تشريح الزمن المنظور وتأسيس نواته من خلال مفترقات شاهدية في دائرة ضوء (الراوي الصوري) الذي يسعى إلى خلق حالات مسرودة عرضا وذاتا لأجل تضمين الحضور بالأفعال المنفية في خطاب سرديات صورية بانورامية تمنح للأشياء خواصية الاستراتيجية الاسطورية وعلاماتها المؤشرة في بنية المسرود كعلاقة رؤية وعلامة وإيحاء.

ــ أسطرة الموصوف وأسطورة الواصف الإمكاني

قد تكون (أسطرة الموصوف ــ الأنا الواصفة) هي السمة الأكثر تحديثا في مراحل نمو الرواية والقصة والقصيدة والفنون الجميلة، خصوصا ونحن ندرس قصة من قصص مجموعة (مصطبة الإلهة) للقاص محمود جنداري الذي أفتتن بوظائف تحفيز المكان السياقي تركيزا ومعالجة وتشكيلا. أردت أن أقول أن ما يهمنا في حيز قصة (القلعة) هو أنضواءها تحت يافطة الأدب المرجعي المؤسطر في الوسائط والانطباع والعلامة والتخييل، لذا فإن المعيار الأوحد في هذا النص القصصي هو (تشريح الزمن) بوسائط مؤسطرة تفصل وتدمج تخوم المكان المرجعي داخل مواقع واصفة بمجريات الأداة الإمكانية. فالموقع المكاني والزمني في هيئة مسرود السارد، غدا مسجلا عبر جهات (مفهوم الراوي = الجهة = مسافة الصور المتخيلة) فالسارد في وسائط النص هو الأداة الواصفة للعوالم الزمكانية للقلعة، وقد تتغير مجريات مدار حكي السارد إلى مستويات معادلة تتمثل من خلالها وسائطية (الإطار اللازمكاني) بصيغة جهات زمنية ومكانية غير متموقعة في مفاصل سياق السرد. ولكن الأبرز من كل هذا، هو ما لاحظناه في كون المتكلم الوحيد في القصة ليس بطبيعته ممن ينتمي إلى المسافة الواصلة بالهيئة الزمكانية للقلعة، إنما هو الحاكي والشاهد والواصف الذي بات متخيلا في اللانتماء لجهات زمنية بكافة عوالمها الموقعية الواضحة والدالة: (كنت أشعر أنني تآلفت بصورة نهائية مع ندلها وظلامها المتربص في الزوايا البعيدة، ورائحتها الآتية عبر تيارات الهواء العنيفة الداخلة والخارجة من أعماق قبو مظلم رطب ملحق بنهايتها. / ص25).

ــ تعليق القراءة:

يحق لنا الجزم بأن نقول أن قصة (القلعة) للقاص الكبير محمود جنداري، هي من النصوص التي أنحصرت بالأساس على عملية إنتاج حساسية الزمكانية المتعلقة ضمن دائرة المتن المرجعي أو السياقي، لذا فإن طبيعة التعامل مع هذا النوع من الموضوعة يتطلب من القاص توظيف ساردا صوريا  ينخرط في استجلاء مادة الحكي في ممارسة حدوثية تكتسب بأنباء النص على وفق أشكال مكانية لها كل التباين في القصد والإيحاء ولها كل المقصدية الحيادية في الانفصال والوصال مع تمظهرات صيغ إبداعية تتعامل مع متواليات الزمن الغابر والحجر الفاتر وكأنهما الاستجابة الأرسالية الرابطة في كفاءة الأداة والعامل والخصوصية المنتجة والمؤولة لمعنى الحدود الممكنة للنص المكثف اعتمادا والموسع اختزالا عبر خاصيات الاضفائية الجمالية لأجل لخلق تجربة الأداة المائزة أثرا وتأثيرا في إنتاج آليات المعنى المفترض.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

قراءة أسلوبية – نفسية - رمزية في القصيدة الحُلُمية للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة.

ينتمي النص الشعري "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" للشاعر والناثر الفلسطيني خلدون عماد رحمة إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الشعر الحُلُمي" أو "الشعر النبوي الباطني"، إذ يتقاطع فيه الحلم مع اللاوعي، والرؤيا مع الانخطاف الوجودي. النص لا يُسلّم مفاتيحه بسهولة، بل يستدرج القارئ إلى طبقات من التأويل والتجربة الذاتية، عبر بنية لغوية غائمة، محمّلة بالرموز والدلالات النفسية العميقة.

فقد استطاع الشاعر أن يسحبنا من خلال منهجه الأسلوبي لينكد لنا أنّ الشعر كلغة للحضور والغائب معاً. فاتجه الشاعر من خلال لغة الظلال أن يفتتح نصّه بجملةٍ ذات توتر وجودي يقول:

"كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ".

هنا، نلحظ استعمال الأفعال بصيغة الماضي، والضمير "كنتَ" كاستدعاء لحالة انفصال بين الذات والوعي. إنها لغة تنتمي إلى حقل الحلم، حيث "الزمن" لا يُقاس، واليقظة ليست حدثاً زمنياً بل تجربة وجودية.

الأسلوب هنا يمزج بين الخبر والتجريد، بين التقريري والغنائي. فالجملة التالية:

"جسمكَ خفيف كالظلّ"

تحوّل الجسد إلى صورة متلاشية، غير محسوسة، تكاد تكون استعارية للروح ذاتها. بهذا، يتلاشى الجسد الواقعي ليحلّ محلّه الكيان الإدراكي الحالم.

إنّ كثافة المشهد وضبابية الإدراك ومن خلال الأسلوب الذي ينتهجه الشاعر يقوم على توليد التوتر بين الوصف الحسي والمجرد، كما في قوله:

"تعوم على محيطات فراغ كلّيّ".

العبارة تحقّق ازدواجاً دلالياً: البحر (رمز العمق) مقابل الفراغ (رمز العدم)، ما يولد مجازاً عن حالة التيه الكياني.

هنا أيضاً لا يمكننا إغفال المنهج النفسي – الحلم كصدى لللاوعي الجمعي والذاتي.

فقد كان الحلم بوصفه إعادة تمثيل . حيث يشي النص ببنية حلمية مكتملة – بدءاً من النوم، مروراً بالرؤى الغائمة، إلى مشهدية غامضة يكتنفها الضباب. إنّنا هنا أمام "بنية حلمية كلاسيكية" على غرار ما يتحدث عنه علماء النفس كونها رغبة لاواعية تبحث عن تأويل بصري- رمزي.

هنا تكون الأيادي لامرئية وهي في ذروات الغموض يقول: "كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة.".

هذه الأيادي تمثل القوَى اللاواعية التي ترفض الاستيقاظ الكامل، كأنّ الذات تحاول بلوغ الوعي، لكن هناك قوة خفية تدفعها إلى الارتكاس.

في ضوء مفاهيم علماء النفس الجمعي، حيث يمكن قراءة هذه "الأيادي" بوصفها "ظلّ الأنا"، القوى النفسية الكامنة التي تمنع تحقيق التوازن النفسي .

في محاولة استقصاء البنية الرمزية التي تبدأ من اللون إلى الفضاء إلى الصوت. نجد أنّ الفضاء الرمزي حاضر بقوة، يقول الشاعر خلدون رحمة: "لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن".

الفضاء هنا ليس توصيفاً مكانياً، بل تمثيلاً رمزياً للحالة الذهنية: العدم، أو ما بعد الوجود، أو ربما ما قبل الولادة الكيانية الثانية.

وهنا يتجلى اللون الأسود الكحلي وبياض الباطن يقول: "كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ... لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه".

هذه الصورة المركبة تشير إلى ازدواجية الرمزية:

الأسود: غموض، موت، لاوعي.

الكحلي: حدّ رمزي بين الظلمة والنور.

البياض في الباطن: أمل داخلي، نور خفي، إمكان الوعي.

إنها صورة مركّبة من الأضداد، تشير إلى تحوّل داخلي وشيك، حيث الظلام يحتوي بداخله نوراً يتململ.

أما الصوت المتكلّم من داخل العتمة فيتمظهر بقوله: "سمعته يهمس من داخله مُتململاً: حجاب العتمة يتآكل من حولي."

الصوت هنا ليس صوت كائن محدد، بل صوت النفس من داخلها، وربما "الذات العليا"، التي تحاول الخروج من شرنقة الجهل أو الغفلة أو التيه.

 الحِكمة الوجودية تفرض نفسها بقوة من خلال (اللذة، اللوعة، المعنى)، يقول:

"متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة... إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى..."

الذات في النص لا تسعى وراء متعة معرفية فحسب، بل تخوض "لوعة" – واللوعة، في السياق الصوفي، مرادف للحب والاحتراق في المعنى. إنها تجربة وجودية-معرفية تُعيد تشكيل علاقة الذات بالعالم: ليست المعرفة هدفاً، بل نتيجة للتيه، للغموض، للبحث في العتمة عن ضوء المعنى.

نجد في هذا النص المتخم بالدهشة، استجواب حالة النسيان كخاتمة مفتوحة للنص.

"والنسيان." كلمة مفردة، في نهاية النص، كأنها تسدل الستار على كل شيء.

هل النسيان خلاص؟

هل هو آلية دفاع؟

أم هو حجاب آخر؟

هنا، يُمكننا العودة إلى المفهوم الفلسفي لهايدغر حول "نسيان الكينونة" – حيث الإنسان يعيش دون أن يعي معنى وجوده.

ربما الشاعر خلدون يشير هنا  إلى أنّ الرؤيا مهما كانت عميقة، تنتهي غالباً بـ"نسيانها"، وأن الحياة تواصل انسيابها رغم كل محاولات الفهم.

خاتمة:

نص "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" هو نص تحويلي، يُدخل القارئ في بنية حلمية-فلسفية، تتشابك فيها الصور والرموز والمشاهد الحسية مع مستويات من اللاوعي الفردي والجمعي.

إنه نص لا يُفسَّر، بل يُعاش.

نصٌّ لا يبحث عن إجابة، بل يُذكّرك بالسؤال الأساسي: هل أنت نائم؟ وإن كنت مستيقظًا... هل تجهل ساعة يقظتك؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

النص:.....

كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ، عيناكَ مُجهَدَتان وجسمكَ خفيف كالظلّ، لا تستطيع احتواﺀ ذاتك وأنت تعوم على محيطات فراغ كلّيّ، كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة .

لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن، كم كنتَ تحاولُ التحديق بكلّ ما أوتيتَ من كهرباﺀ الحواس والبصيرة لاكتشاف شيﺀ ما، لكنّ ضباباً كثيفاً تسلل إلى نومكَ وغطى المشاهد بحجابٍ سميك .

تكاثفَ الضبابُ أكثرَ، لكنكَ رأيت، رأيتَ شيئاً ما يحاول البزوغ من الخفاﺀ، لم تكُ قادراً على إدراكِ ماهيّته ومراميه، كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ، لمْ تخفْ منه، لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه، وسمعْتهُ يهمس من داخله مُتململًا: حجاب العتمة يتآكل من حولي .

متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة على أيّ حال، تدخِلكَ في لذّةٍ لا حدود لطاقة نشوتها، إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى  والنسيان .

 

دراسة في رواية (الشبيه) لجوزيف ساراماغو، الفصل الثالث ــ المبحث (3)

توطئة: في سياق تداولنا لجملة فصول ووحدات رواية (الشبيه) لاحظنا بأن لمفاهيم (الحاضر ــ الماضي ــ المستقبل) ثمة عمومية وتخصيصية في الإحالة نحو حركة الأفعال التلفظية في علاقات زمنية وفضائية ذا تركيبات مرتبطة وآفاق متتاليات استعادية في الزمن والتاريخ الذاتي والموضوعي المتشكلان بمقطعات للستباقات والاستعادات التي تحكمهما هواجس السارد العليم بوصفه الصيغة اللانهائية من الدال إلى المدلول المعلن والضمني في البناء الروائي.

ــ الميتافكشن وتمفصلات الصوت الترابطي.

نظرا لحجم وأهمية تقانات (الميتافكشن) في وحدات المبثوث السردي في رواية (الشبيه) عاينا جملة تحقق الشخصيات التخييلية في إتجاه الإحالات والإشارات الذائبة في جمل الفواعل اللغوية والأفعالية كي تتصرف ضمن أفعال التبادل مع الواقع. إذ إننا نلاحظ من جهة ما بأن جميع الأدوار والعوامل الموظفة في السرد تتصل اتصالا مشكلا بين (أفعال الكلام = جهة الإحالة) ومهما تكن وجهة الرواية في المتخيل، فإنها لا تتعدى الكشف بين علاقة المتخيل بالواقع وصولا إلى الهوية التواصلية بمحورية الشخوص ووضعها الخطابي في معطى عوالم الملفوظ.

1ــ العامل الشخوصي وإمكانيات التمثيل الأدواري:

ربما تطل علينا في مباحث دراستنا إلى رواية (الشبيه) بعض من تقلبات الشخصية أفونسو خصوصا وإن منظور التماثل بات واقعا مرجحا بينه وبين ذلك الممثل في شرائط الأفلام ومن الواضح إن إرهاصات ذلك التشابه محكوما بماهية ضاغطة على وتيرة خيارات الشخصية أفونسو باللقاء  به والبحث عنه والخوف من رؤية ذلك الشبيه الملغز في الآن نفسه. ومن هذا المنطلق صار من الضرورة القصوى على أفونسو في أقتناء كافة الأقراص المبرمجة التي كانت تدمج عليها جميع مواد أفلام ذلك الشبيه: (ها هو الآن قبالته مستخدم محل الفيديو، ذلك الذي وجد أن من المضحك أن يكون أسم أحد الزبائن تيرتوليانو أفونس، والذي بعد إنهاء العملية التجارية سيكون أكثر من سبب كاف ليفكر في التلازم بين ندرة الأسم وغرابة تصرف حامله. / ص53 الرواية) ترتبط عضوية الشخصية أفونسو المتنافرة وحدود مظهرها وسلوكها ونعتها في مجال حالة سياقية مغرقة في الإلحاق بالطابع المادي والمعنوي لها داخل حيز ردود عكسية سلبية لدى الناظر لها. فهو في كنيته الأسمية (تيرتولياتو ماكسيمو أفونس ؟) يشكل بذاته علامة كلاسيكية الوقع والتوقع، ناهيك على كونه مدرسا لمادة التاريخ، فبذلك تتوارد إلى السامع عنه ردودا إشكالية مبعثها أن هذه الشخصية ببساطة لا تمتلك أدنى درجة من درجات الأهلية الحداثوية قطعا. لعل جوزيف ساراماغو عادة ما يستخدم في رواياته مسميات مغرقة في غيابها الحضوري. كما الحال مع شخصية أفونسو إذ تنمو وتتصاعد ضمن أثرها الأخلاقي والوجودي والذي بات يؤكد ضيق هويتها التفاعلية. وعلى هذا النحو نكتشف بأن شخصيات ساراماغو هي كينونات غائبة لأنها علامات وإحالات وسائطية في الوضع والموضوعة والذات، ولأنها معيبة في نظر الآخر المجتمعي، وذلك لكونها تشكل بذاتها علاقة تأويلية في الصلة الملموسة واللاملموسة في الغاية الدلالية. وإذا نظرنا على مدار حياة الشخصية في الأحداث الروائية، وجدناها كمحاولة (ميتاعلامية ؟) في الوصول إلى ذاتية وموضوعية ممكنة في الكيفية الميتالغوية الخارجة عن حدود واقعيتها إلى مجال وضعية وقائعية مفرطة في الاستطراد ووقفات وتداخلات صوت السارد عن صيغة البناء السردي. فالسارد بلغة تحويلة نجده يطيل الاستطراد حول حالة تفرعية تتعلق بجملة سياق وحداتي ما، ولكنه يعود مجددا إلى موضع حالة الساردي ضمن ملاءمة مرتبطة بكل سياق لفعل الإحالة والانعطافية الخاصة في الأسباب التي جعلته ينعطف عن سياق الفعل السردي المعاين: (بعبارة أخرى، بينما كانت الإشارة الرئيسية تبدو متسامحة بشكل واضح، وتقول، ما فات قد مات، فإن الإشارة الثانوية، بحذر، تدقق الأمر: ـ نعم ؟، ولكن ليس تماما. / ص51 الرواية) بهذا المثال من الوحدات يفترض بالقارىء أن لا يضيع الخيوط بطريقة غير متتبعة لأسلوب ساراماغو في الاستطراد والأنعطاف، ذلك لأن حسابات المقابلة والمناظرة بين الوحدات تحكمها مواصفات حدوثية مترابطة في الأتصال والامتداد الضمني، فيما تتقدم الأوضاع السردية كمؤشرات معينة عبر حالات الشخوص ومناسبات حضورها الأدواري.

ــ ما وراء كواليس التوقعات وتعدد أدوار الشبيه

1 ــ البنية الحوارية: سياقات خطية داخل المتن السطوري:

لعلنا نقول هنا بادىء ذي بدء: ما الذي أنفرد به جوزيف ساراماغو في مسارات رواية (الشبيه) هل لكون الأبعاد السردية بدت كعبارة عن تراكيب متوترة من الشد الذروي والميلودرامي في مواضع متون الحوارات التي يطلقها تارة السارد العليم وتارة تبدو مبثوثة في محاور منضدة من تكبير حجوم العبارات والجمل طباعيا ؟. لعل ما ينفرد به جوزيف ساراماغو في مجمل رواياته وخصوصا روايته (الشبيه) موضع مباحثنا، هو الأداء في بؤرة الإيحاءات النفسية والحسية والخطابية الموغلة بالتمويه والمعادلات الاحتمالية في الانموذج الوقائعي المتمثل في الصوغ السردي النوعي. نعم أن آليات رواية (الشبيه) مثقلة بالآفاق الدرامية والأوصاف التواترية وكأنها بلاغة من النوع (الظاهر ـ الخفي) إنها بلاغة توالدية من النوع الذي يجعل من طبيعة السرد كإمكانية خاصة في علاقات تماثل وتقارب مع تحولات الأفعال إلى منتج فني يحكم الواقعي بالإشكال التخييلي. إذ تتبين للقارىء مدى الجهد الجهيد الذي بذله الشخصية أفونسو لأجل الوصول إلى هوية ذلك الممثل، مما جعله يفكر بطلب جميع الأفلام الخاصة التي تنتجها شركة الإنتاج: (فكرتي، حتى نبدأ، قال المستخدم، قد عاد من دهشته الأولى، ستكون هي أن نطلب من الشركة المنتجة لائحة بعناوين كل الأفلام: ــ نعم ربما، أجابه تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو ؟. / ص55 الرواية) لعل المعاين لمستوى إيقاع الزمن في البنية الحوارية الواقعة ما بين الشخصية أفونسو وذلك المستخدم قد لا يتصور مطلقا بأن هناك مادة حوارية حقيقية، بل إنها أصوات متداخلة مع بعضها البعض يقوم السارد العليم في فرزها بتوظيف خواطري غريب، غير إن فترة لاحقة من الأحداث نكتشف بأن ما كان أقرب للحوار ما هو إلا مفهوم التلفظ لدى السارد العليم نفسه، ولكن الغريب أن ما يقع من محاورة بين الطرفين تأخذ لذاتها بنية ظرفية خاصة في دعم تنقلات المتحاورين الحدثية. لذا نقول أن مظهر الشواهد التي تشغل بعض الفقرات كأنها مجرد معالم تصورية لطرف الشخصية الأولى ــ أفونسو ــ لذا بدت غير عليها وكأنها حوارية بعيدة عن الزمن الفيزيائي لوجودها الخطي والمشخص في زمن الأحداث. قلنا سابقا بأن تجليات الميتافكشن من المنظور الخارجي والداخلي من السرد، وهذا بدوره ما راح يكشف أهمية أن تكون معطيات أصوات الشخوص المتحاورة مظهرا من مظاهر (الصيغة ــ الصوت = وجهة نظر = السارد العليم) كما الحال في مثل هذه الفقرات من السرد نفسه: (بالنسبة للسارد، أو الراوي، على فرضية أنه سيتم لا محالة تفضيل شخصية تحظى بقبول أكاديمي، فإن أصعب شيء، بعد بلوغ هذه المرحلة، قد يكون هو كتابة مسار أستاذ التاريخ عبر المدينة. / ص57 الرواية) ويتكرر المحنى ذاته في أغلب أقسام الفصول الروائية لدرجة وصول الأمر إلى الحد الذي يجعلنا نشعر بأن السارد العليم هو اللسان المركزي في جميع أفعال وأحداث الرواية.

2ــ استطرادات زمن الحبكة وإنفصال آليات السرد

لعل القيمة الدلالية في مستويات النص الروائي ما يشكل لنا اشتغالية حاضرة ومنقطعة في مساحة السرد الروائي، فهناك ثمة ما هو مبثوث من خلال علاقات العوامل والعناصر، كما وبالمقابل هناك ما هو يشكل في حضوره الفجائي انعطافة غير ممهدة تماما. أقول أن عملية ظهور الشخصية ماريا داباش الفجائي في قلب الأحداث كان بمثابة الإقرار بأن الشخصية أفونسو فاقدا للذاكرة تماما، ولكن مع مرور الوقت نستدرك العكس من ذلك، فالشخصية مع مهام جمع الأفلام لذلك الممثل الشبيه، راح يتعامل مع ظهور هذه السيدة المباغت وكأنها حالة طبيعية: (أخرج أشرطة الفيديو ورتبها حسب تاريخ الإنتاج، من أقدمها ــ الشفرة الملعونة ــ الذي يسبق بسنتين الشريط الذي شاهده ــ الإلحاح هو سر النجاح ــ إلى آخر فلم ــ آلهة الخشبة ــ الصادر في السنة الماضية. أما الأفلام الأربعة المتبقية، وفق نفس الترتيب، فهي ــ مسافر من دون تذكرة ــ، ــ الموت يهاجم عند الفجر ــ، ــ دق ناقوس الإنذار مرتين ــ وــ اتصل بي في يوم آخر ــ. حركة رد فعل غير إرادية، ناتجة عن هذا العنوان الأخير، جعلته يلتفت نحو هاتفه الخاص. / ص59 الرواية) من المرجح أن تكون آليات الدلائل غير موثقة أو موثوقة أحيانا خصوصا وإن نسيج الذاكرة الحكائية في الرواية لا يمكن لها الاحتكام على ظهور دالة فعلية في النص بمجرد ظهور التفاتة تصادفية مع عنوان أحدى الأفلام، لذا يتبين من هنا بأن ساراماغو لم يحسن ربط وقائع أحداثه بالأسباب والوسائط الأكثر تبئيرا في مسار علاقات مادته الحكائية , ولا بذلك الشكل الذي جعل منه يجمع كل هذه الأقراص الفلمية لشخصه من أجل الوصول إلى ذلك الممثل. كان من الأنسب على ساراماغو أن يختزل السبل في بناء أحداثه الروائية، لا أن يسلك الاستطرادية سبيلا من شأنه أحيانا أن يفقد المادة السردية تماسكها البنائي والأسلوبي والدلالي والفني. صحيح أن الرواية ضمن طابعها العنواني قدمت لنا موضوعة متفردة عندما يلتقي الشبيهان ولكل منهما يأخذ بثأره من الآخر بقضاء ليلة مع زوجة الآخر وماريا داباش ــ هيلينا)و مع موت انطونيو والشبيه لأفونسو مع ماريا خطيبة أفونسو بعد ذلك الشجار الذي حدث داخل سيارة انطونيو بعد معرفة ماريا داباش بأن الذي مارس الجماع معها في تلك الليلة، ما هو إلا رجلا آخر وليس أفونسو مدرس مادة التاريخ الذي أحببته من كل أعماقها، على حين غرة أصرت هيلينا الزوجة التي واجهت مصيرا مظلما بعد تعرفها على أفونسو الذي قضى معها هو الآخر ليلة حمراء مارس الجنس فيها بكل ممكناته معها، وبعد إخباره لها بموت زوجها، أصرت عليه أن يبقى هو أنطونيو والذي مات هو أفونسو وليس انطونيو الشبيه الآخر.. وهكذا تتواصل الحكاية وحتى الختام بمشهدية رائعة تكشف لنا عن مدى اختلافية المتباينات إذ إنها من الإمكان أن تتكرر في علاقة توأمية جديدة: (جرت مراسم دفن أنطونيو كلارو وبعد ثلاثة أيام. كانت هيلينا وأم تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو قد ذهبتا لتلعبا دوريهما، واحدة تبكي أبنا ليس أبنها، والأخرى تتظاهر بأنها لم تكن تعرف المرحوم. كان تيرتوليانو ماكسيمو أفونسو قد بقي في البيت، يقرأ كتاب حضارات بلاد الرافدين، الفصل المتعلق بالأرآميين. رن الهاتف. دون أن يفكر في أنه يمكن أن يكون واحدة من أقاربه أو أخوته الجدد، رفع أفونسو السماعة وقال: ألو ؟ في الجهة الأخرى من الخط صاح صوت مطابق لصوته: وأخيرا ؟. أرتعش أفونسو، في نفس ذلك الكرسي لا بد أن أنطونيو كلارو كان جالسا ليلة أتصل به. الآن، سوف يتكرر الحديث، لأن الزمن ندم وعاد إلى الوراء. / ص349 الرواية).

ــ تعليق القراءة:

ربما الأفعال التخييلية في حبكة الرواية أرادت أن تقابلها مقولة أفونسو منذ فقرات أولى من الرواية بأن علينا دراسة التاريخ من الحاضر إلى الماضي، لذا أراد ساراماغو إعادة الأحداث انطلاقا من لحظة حاضرية انتقالا نحو إعادة انتاج الصورة المضمونية مع شخصية جديدة من حكاية التوأمين، لذا فهي الغواية بالتردد والتدرج والافتعال لأجل خلق حكاية ذا أحداث تحمل أفعالا من الغواية التفارقية. إذن ليس في زمن دلالات الانتعاش الموضوعي في رواية (الشبيه) سوى إختلاف في زمن الحكاية وسردية المفترض في الأدوار ومحاقبة زمن الغواية الجمالية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

للكاتبة ولام العطار

الحروب تخلق عالم من الأهوال والكوراث، وتدمر الانسان والحياة، وأول ضحاياها هو الحب، تجعله يعيش أزمة نفسية وسيكولوجية خانقة، وتقود مصيره الى المجهول، تجعل الحياة على محرقة الانتظار الصعب، يتجرع الشعور مرارة الآهات بالسؤال الصعب: متى تنتهي هذه الحرب اللعينة التي جعلت الحياة موحشة وجافة؟، والحروب يعني هلاك الانس والحجر والشجر، جفاف كل ماهو جميل في الحياة، أي تدمير للوجود الانساني، وتطلق عنان الوحشية والعبث في المقام الأول. ومنذ القدم الحضارات القديمة، اهتمت بهذه الناحية وسلطت الضوء عليها، الحضارة السومرية من خلال ملحمة كلكامش ورحلته الطويلة بحثاً عن عشبة الخلود، او عشبة الحب، وحكايات عشتار وخطف الموت حبيبها تموز ونزولها الى العالم السفلي بحثاً عن حبيبها تموز، والحضارة الاغريقية من خلال ملحمة الالياذة في حرب طروادة التي دامت عشر سنوات وانتهت بخدعة الحصان الخشبي، لكنها دمرت الحياة والبشر، ودمرت حب هيلين وباريس، وملحمة أوديسا و عودة اوديسيوس الى حبيبته،هذه العودة استغرقت عشر اعوام اخرى من اهوال والصعاب والانتظار الصعب في لقاء الحبيبة، لذا فأن الادب الحربي يحتل مكانا هاماً في الحياة والأدب الواقعي، لانه يرسم مرآة الحياة في التكلفة الباهظة في التبعيات الحرب المدمرة على الانسان والحياة والحب. وهذه الرواية (انتظرني.. ريثما أجدني) يأخذنا المتن الروائي بسرد الاحداث بلغة شيقة وشفافة، في رؤيتها الفكرية والفلسفية، يكشف عن أفكارها الواقعية، التي تدعو الى التأمل والتفكير، وتسلط الضوء على التكلفة الباهظة للحرب على الحياة والحب على الوجود بصورة عامة، من خلال فتاة عاشقة (سكينة) غارقة في رومانسية الحب الجميل الزاهي بالاحلام والامنيات، طرزت خيوطه الحريرية بين قلبين (سكينة ونوفل الناجي) استغرق عشرة أعوام من الانتظار، ولكن الحرب خطفت الحبيب وكان من ضحايا محرقة الموت ولم يعد، وتركها تعيش في جلباب تلك الاحلام والاماني ولم تستطع التخلي عنها، رغم الحزن والجزع والدموع، لان حبيبها المغدور، رسم لها هالة الحب بهالة جميلة مثل شجرة الأزهار الزاهية، تستنشق عطرها كل يوم، وكل لحظة من حياتها، فكيف تنسى هذا العالم عالم الأحلام الجميلة، وتنتقل إلى عالم الموت (- علمتني كيف اغازل الحب... اكتشفت وأنا أرافق الموت إني احوج ما اكون الى لحظة صفاء، آجعل روحي تعايش حبها، وإلا جفت وماتت)، انها لم تقتنع بموت حبيبها، بأنها خسرت حياتها وحبها، وذهبت احلام الحب مع الريح، لم تقتنع بالفاجعة النفسية التي اصابتها، والتي لا يمكن تضميدها من الجروح النازفة. وكانت تأمل ان تنتهي الحرب لتبدأ مع عشيقها حياة جديدة مكللة باكاليل الحب، فكانت تنتظر بفارغ الصبر نهاية لمحرقة الموت وتقول حبيبها (نوفل الناجي):

- الى متى نظل ننتظر؟

قال وهو يأخذ بيديها التي أحسستها خشنة، دافئة:

- لا ادري يا سكينة... لا أدري متى تنتهي هذه الحرب.

وتلتف بعباءة الصبر الصعب في الانتظار، الذي يغلي بهواجسه في داخل اعماقها، رغم تحذيرات أمها في إشفاقاها الحزين على ابنتها المكلومة :

- خائفة من أن لا يوصلكِ هذا الدرب الى شيء

- لا يا أمي... نحن لا ننتظر سوى نهاية الحرب.

- يا له من انتظار عقيم... لا اظن انها تنتهي قبل نهاية أعمارنا.

وجدت هذه الفتاة العاشقة (سكينة) نفسها في موقف صعب، وقلبها وعقلها يعيشان مع حبيبها المغدور (نوفل)، ولا تصدق نفسها انها خسرت حبيبها وحبها، لا تصدق عشرة أعوام من عمر الحب، ذهبت هدراً أدراج الرياح، وترك رياح الوعة وفاجعة، كل كيانها يرفض شطب مرحلة الحب واحلامه، انها في حالة يرثى لها من الحزن والحسرة والارتباك وتتساءل هل (صارت اعمارنا معجونة بالسواد، وافراحنا مجرد حزن أبدي) كيف الخلاص من هذا المأزق الصعب، كيف تقتنع بالوداع الفراق ؟، بأنها خسرت حبيبها الذي لا يعود، هذا يجعلها في حيرة واضطراب وحالة من الاختناق من هذه الفاجعة السوداء، جعلتها تدمن النظر الى الطرقات، وتتفترس بالوجوه وخاصة الوجوه ذوي الملابس الكاكية في الم وجزع وتقول في قهر (- عودوا ارجوكم كيلا يحس احدهم بعدكم بالحزن) لعل الزمن ينفذ ولا ينقذها من فاجعتها، بل يزيد ويعمق الشرخ، وهي غير قادرة ان تنزع جلباب الاحزان، ويقف الأب بقوة في انتشالها من الواقع الاليم والحزين، ان ينقذ ابنته من بئر الاحزان، ويشد عزيمتها ويقوي عزمها وإرادتها، ويحاول ان يقنعها بما حصل وما جرى من فاجعة حزينة، وهو يدرك عمق المحنة (وكم من الرجال ذهبوا دونما عودة.. تركوا خلفهم احلاما ومحطات من الآمال...امهات وزوجات وحبيبات لست وحدك من سلبتها الحرب احلامها منكِ، مئات يملأ صراخهن الازقة والطرقات.. إن أردت معرفة حقيقة ما فعلته الحرب فاذهبي الى ايما مقبرة لتعرفي اننا كائنات صنعتنا الاحزان..) لكنها تتكور على نفسها على ذكريات الحب واحلامها، وليس لها القدرة على التكيف مع الواقع الجديد المؤلم، وليس لها القدرة على اتخاذ القرار، والبحث عن منفذ للخلاص، وتقول بجزع وانكسار بمحنة عويصة في التخبط النفسي (كيف اشعر ان عذابي يكبر في اعماقي، ولم يبق للسنوات التي أضعتها بين ازقة الانتظار معي مادمت أعرف منذ اللحظة التي اوصلتني الحرب بها الى ضياعه، أنني لا بد ان اصل الى غير نتيجة الضياع... لا بد لسكينة الثانية ان تبحث عن احلام لتزرعها وتثمر فرحاً بمحو احزانها... لكنني اصطدم بما لا اعرف من المخاوف) لذلك تتخذ قرار بدافع وتشجيع من ابيها وامها، ان تجرب رحلة طواف الغربة في عدة بلدان بشكل شرعي او لا شرعي منها (الاردن وفرنسا) عسى ان تتخلص من مأزق أزمتها النفسية بهذا الطواف الكبير بين البلدان حتى تجد محطة الاستقرار، عسى ان تخلق منها (سكينة) آخرى وتشعر بالارتياح النفسي، وتنقلها الى عالم اخر، يجبرها ان ينزع منها جلباب الاحزان والدموع والحسرة، ولكن هذا الطواف لا يفلح في انقاذها، بل عمق أزمتها في الاغتراب الروحي اكثر بالخيبة والضياع، أو ان الغربة عجزت في تضميد جراحها، ويدرك الأب ذلك، بانها تركض خلف السراب ولا ينتهي بشيء جدي، ويقول لها بحنو الاب العطوف (- ان اردت عدنا من حيث جئنا ؟) ولا مجال للانتظار، كما فشلت عشتار بعودة تموز من العالم السفلي اليها، تيقنت ان لا مخرج من محنتها وانما جعلها الطواف في بلدان الغربة، هو الركض وراء السراب (لن توصلها ايامها الى غير دروب حائره ومتاهات أكثر حيرة، عالم مجنون، صاخب بالموت..... لكنها لم تشعر بالانتماء اليه، عالم حاول تدمير نوثتها فجاءت لتدافع عن بقايا المرأة التي تكمن في أعماقها) لتوسي قدرها المكتوب عليها.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

تتدفّق الرواية بسيل من الأحداث المترابطة مع بعضها في نسق سردي مميز بسلاسته وبساطته وتكامله، ولغة بسيطة قريبة من القارئ ومناسبة للأحداث ومجريات العمل، الذي جاء منذ الصفحة الأولى صادمًا بحادثة موت وفجيعة فقدٍ مربكة، ألقت بظلالها وتركت أثرها الشديد على العائلة، وعلى حياة الصغير اليتيم يحيى، الذي منذ لحظة ولادته صار يتيمًا بلا أم ترعاه وتربيه، ويكبر بين يديها، وتهتم بتفاصيله، وترضعه، وتربي فيه الأمل حتى يبلغ أشدّه. فشاءت الأقدار أن يكبر على هذا المصير الذي صرخ في وجهه منذ اللحظة الأولى التي خرج بها إلى الحياة، تلك الحياة التي بينها وبين الموت مبضع جرَّاح، وإرادة الله التي لا راد لها.

تتحرك الأحداث في الرواية بسلاسة وواقعية، وبترابط تام في سياق متتابع، وهذا يجعل القارئ يمسك بالكتاب من دون رغبة في تركه، مشدودًا لأحداث من واقع الحياة، واقعنا، فلا فرق بين واقع الناس على اختلاف أقدارهم وأماكنهم، وفي التفاصيل ما يجعل الرواية واقعية، أو حتى يمكن القول: شديدة الواقعية في دقة الوصف والسرد والأحداث، ورسم الأمكنة والمسافات. ولأنها بنت الواقع، فشخصياتها تتشابه وترتسم بصورة قريبة من القارئ، فلا تشعر بغربة في فهم مجرياتها، ولا تحتاج جهدًا لتدخل إليها وتدخل إليك.

فرصة ثانية، رواية الكاتبة صباح بشير، الصادرة عن دار الشامل للنشر والتوزيع، تسلط الضوء على نوازع داخلية تسكن الإنسان بعد حوادث الفقد والموت، وتقلبات الشخص النفسية والاضطرابات التي تعصف بالشخص على المستوى النفسي والعائلي، والمحيط الاجتماعي. ضغوط الحياة، ومواجهة المصائر، ومكامن الحب والتردد. صراعات نفسية، وجلد الذات التي تنهرها الذكريات، والحنين إلى فصل الماضي، واضطرار القرارات الصعبة، وخطوات نحو المجهول القلق الذي يخشاه كل من يفكر بعمق في محاولة استشراف المستقبل، ومحاولة رسم غد آمن، هادئ، ومكتمل، وتجليات الاستحواذ على الحاضر بكل ما فيه من اضطراب وتردد. وما يرافق كل ذلك من أحداث كانت كخيط خفيف الظل، يمسك القارئ به من دون عناء، ويواصل قراءة الحكاية بفضول وتشويق، لمعرفة النهايات لأبطال يتحركون في مضمار واحد، مختلفين قليلًا في الصفات، متشابهين ربما في الاضطرابات والصدمات، ومحكومين بالأمل.

فرصة ثانية، محاولة لكشف اللثام عن بعض ظروف الواقع، عن النصف المجهول في حياة البعض، النصف الناقص الذي لا يراه الكثيرون، النصف الذي لا يحضر دائمًا، وهي تجريب لتفكيك عقد كثيرة في الحياة، وأمراض تنتقل وتتوارثها الأنفس من لوثة وثنيات المجتمعات التي تحبو على رصيف الاحتمالات والتردد، والفرضيات المجتزأة المبينة على الاعتقاد المتراكم من حكايات الوهم ومرويات الأولين.

فرصة ثانية تسلط الضوء على فكرة التضحية، وهي فكرة رائجة في العقود الماضية، إلا أنها في سنوات الحاضر باتت قليلة، وهنا الكاتبة لا تتخذها من جدلية الصح والخطأ والحكم عليها من زوايا النجاح والفشل، بل إلى مساحات أخرى، بدون أحكام مسبقة، لتتركها لواقع الأيام، ومصائرها في لعبة الأقدار، والقدرة دومًا على الانبعاث والتجديد، والفرص الأكثر ودًا ودفئًا وجمالًا.

بقي أن أقول لكم أن صباح بشير في روايتها فرصة ثانية حاورت النفس البشرية بهذا العمل في كل تجلياتها، وكشفت عنها أغطية الرجفة، ولامستها في كل حالاتها، ولم تتصنع أبطالها بل أخذتهم على طبيعتهم في صور حقيقية، فكانوا أبناء الواقع غير المتصنع، وقد سلطت الضوء على قضايا يعيشها المجتمع، من خلف الستائر، فكشفت اللثام عن بعض المسكوت عنه، وعمدت على استخدام أسلوب التنوير، الذي يمنح السرد الرؤيا والحكمة والعقلانية ويخدم مضمون العمل وتكامله.

***

بهاء رحّال

 

النص الثقافي: حقيقة الأمر كنت أعتقد بأني أول من انتبه لهذا المصطلح، فعند سماع هكذا جملة أو مصطلح في اللغة العربية، وخاصة الكتابة في حقل الأدب، تبرز عدة تساؤلات من أين أتى هذا المصطلح، وكيف أطلق، وماهي مرتكزاته، ولماذا أُطلق؟ ولكنني بعد بحث في وسيلة (الكوكل) وجدت سعيد يقطين قد تصدى لهذا المصطلح في الجانب السردي، يقول: (يقصد بـ«النص الثقافي» النص الجامع الذي يمثل الذاكرة الثقافية لشعب أو أمة، ويظل يشكل أساس تراثها الذي تعول عليه في تكوين الأجيال. إنه يشكل «الخلفية النصية» التي تتأسس عليها كل النصوص المستقبلية. وليس النص الجامع، بذلك، سوى مجموع النصوص التي تعتبر «الأصول» التي ينهل منها المنتمون إلى ثقافة ما، ويستمدون منها القيم الفنية والمعرفية التي تمثل الهِوية الثقافية المشتركة في شموليتها).

ولكنني أريد ان أكيفه كنص خاص للنصوص الشعرية  التي تهتم بالذاكرة الثقافية للشعوب، فهناك عدة أنواع من الكتابة الإبداعية الشعرية، ومن هذه الأنواع الاهتمام ببعث التراث القيمي للمجتمع سواء كان على مستوى الوطن وما يحمل من مآثر وتراث  شعبي، أو خروج ظاهرة تهديم في قيم وأسس المبادئ التي نشأ عليها الآباء وتحمل من الأصالة والحفاظ على الهوية العربية والعراقية والمناطقية من أن تذهب بمهب ريح التطور الماحي من رؤوس الأبناء الذين سيكونون مستقبلاً آباء، لكي تقطع صلة التواصل بين الأعراف والقيم والمبادئ الأصيلة الجيدة التي تبني الشخصية العراقية تحديدا، [فيقول بول ريكون: (هناك علم ينطلق من المعنى الظاهر للوصول إلى المعنى الباطن والمكنون) وهو ما يحاول بعض الآباء والشعراء نقله ظاهريا لينقلوا ما يحمل الباطن من الإرث الأصيل] والقيم  المستوردة عبر الغزو التكنلوجي من تقطيع أواصر اللحمة العائلية، وقيم الإسلام من برٍّ وصلة رحم، وتوادد وتراحم، وتغليب مصلحة العام على الخاص، والحفاظ على القومية العربية بصفاتها المتوارثة والمنتقلة عبر الدم والتعامل العملي والروحي عبر حقب من الدهر، لهذا وجدت أن عددا من الشعراء ذهبوا لبعث التراث الذي عاشوه أو رُويَ لهم شفاهياً من الأجداد عبر مجالس أو آباء كوصايا للحفاظ على هذا التراث القيمي للشخصية العراقية المتفردة في الكثير من العادات النبيلة المتوارثة، كالكرم والشجاعة والحمية أو ما تسمى (الغيرة العراقية) والتي يدافع أبناء العراق عنها ضد أي باطل أو ظلم والوقوف بوجه المعتدي أو المخرب وأحيانا تصل إلى العراك، دون أن تكون له مصلحة خاصة فيما يفعل، يورد سعيد يقطين عددا من كتب التراث السردية "كتب ابن خلدون في أواسط القرن الثامن: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: « أدب الكاتب» لابن قتيبة، وكتاب «الكامل» للمبرد، وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها». وأضاف كتاب «الأغاني» للأصبهاني باعتباره ديوانا خامسا."

فالنص الثقافي أريده في الشعر ومن وجهة نظري والذي اقتنعتُ بها يقع ضمن المساحة التي تعتني بالتقابل بين أعمال وأعمال، أو حالة وحالة شاذة، أو بين تراث مهني دثر، وبين تجديد نوعي أكثر تطور وأكثر إفسادا من أجل الركون إلى الراحة التي تؤدي إلى الكسل وإنهاء طموح العمل والجد والاجتهاد وفق منشأ المصدر في عصرنا الحالي، فإذا ما صحت نظرتي لهذا الميزان القيمي في شتى أنواعه ماذا يحتاج الشاعر لكي يكتب به، ولكي يتحول من السرد إلى الشعر، ليكون سرد ثقافي لما ذكره الكبير سعيد يقطين ونص ثقافي للشعر بكل انواعه؟

أولا: الإختيار الصحيح للمادة المنتقاة، والخامة المستعملة في النص والتي يتبنى الشاعر من خلالها الهدف المبتغى من النص،  فقد تكون هذه الخامة شخص من المجتمع إضطلع بمَهَمَّة حياتية اجتماعية وسلوك حسِن، أو مهنة هي حاجة ماسة للمجتمع الذي يعيش به، ومن خلال تعامله وإقرار قيميٍّ  في التعامل اليومي لهذا الفرد مع أبناء منطقته أو مدينته، من التسامح والمحبة واثبات أن الدين المعاملة، مما يجعل صفته محمودة بين الناس وعلامة فارقة عن باقي أبناء جلدته الذين يعيش معهم، وقطب قيمي مهما كان بسيطاً، كأن يكون نجارا أو حدادا أو حتى عامل نظافة، أو حارس أو شخصية من وجهاء المنطقة والمدينة وقائم على إثبات تلك القيم والإصول والوقوف بوجه موجات انتهاكها والشذوذ عن مجرى هذه القيم المتوارثة عبر العصور.

ثانيا: المكان سيكون المكان متنوع أمّا مكاناً معيناً في منطقة ما من العراق، كأن تكون قرية أو مدينة مذكورة باسمها وتحمل هذه الصفة بحيث ترافقها لأزمان غير محددة في القِدَم، وأصبحت سمة أهالي هذه المدينة أو المحافظة أو مكانا عائما يتصل بمكانة الراوي الذي أخذ منه الشاعر ما أراد توظيفه في نصه، لكي يضفي شرعية الحادثة أو الموعظة سواءً أكانت ظاهرة كقول ضمن نص شعري أو مستنبطة منه، بمشاركة القارئ الذي سيسقط ما احتوى النص على ما يحيطه.

ثالثاً: الزمان، من العوامل الأساسية أن يكون الزمن الركن المهم في المقارنة، لأن المُنشِيء لا يتحدث عن حالة آنية بل حالة مناقضة توجد لمثلها حالة قديمة أو تراثية قد تهدمت، وربما يندرج النص الثقافي تحت غرض الفخر لما تمتلك قبيلته أو منطقته أو مدينته أو وطنه وأفراده من قيم عُليا وانزاح الناس عنها عبر تحول زمني، وهناك مَنْ لم يهزموا من خلال الثبات والمكافحة والمجاهدة، لكل الموجات الجامحة التي غزتهم، او مقدار الفعل الزمني بعمل أو مهنة او عادة كانت دارجة في المجتمع وقد ذهبت اليوم أدراج الرياح، أو شخصيات كانت تعمل ليل نهار من أجل الصالح العام وتعتبر عملها من الثوابت وتخلّى عن وجود أمثالهم اليوم، أو شذوذ فعلي اليوم مستهجن سابقا ومستهجن قيميا وعرفيا ودينيا وأصبح من البداهة عمله اليوم دون وازع بحجة أن الزمن الماضي عفى عليه القِدَم، وأن الوقت الحالي بكل طغيانه الجارف القادم عبر وسائل التواصل والمخالطة مع الشعوب الأخرى يُعَد تخلفاً.

رابعا: الغاية، لكل عمل ابداعي دوافع ونوازع ومَهَمَّة لابد منها، دعت المبدع لإنتاج ذلك المُنشأ من النصوص، وبما أن النص الثقافي يكتب لغاية فقد تكون إصلاح خلل خلقي ساد في الشارع القيمي للمجتمع، أو نصيحة يراها الباعث هم بحاجة إليها إمّا للتذكير أو للوعظ، أو لإيقاظ الضمائر، أو للفخر بتفرد أبناء مجتمعه فيها، كإجارة المظلوم وحماية الدخيل، ومقارعة الظلم الحكومي التعسفي سواء أكان وطني ظالم أو دخيل خارجي بكل أنواعه، أو الكرم والصفات الإخلاقية الحميدة التي يتمتع بها الماضون عمّا مَن إنهار منها بين الأجيال الحديثة العهد بالحياة، أو حالة وطنية عامة حققت في زمن ما وظهرت اليوم حالة معاكسة لها على كافة الأصعدة، أو شرح من متعلم عليم ببواطن الأمور لبث ثقافة حسنة في المجتمع كأن تكون جمالية أو معرفية أو علمية خافية عن الناس، لهذا أرى أن هناك عدة كُتّاب يحملون هذه الصفة وتعتبر الميزة الحقيقية لهؤلاء الأشخاص على مساحة التواصل الكتابي النوعي بين الخلق، لهذا حينما أردت الكتابة عن مجموعتين شعريتين لشاعرين عراقيين إمتاحوا من اليَّم القيمي للمجتمع العراقي المتنوع بالطوائف والمتشابه جداً بما يحملون من صفات ومبادئ، وجدت بأني بحاجة لإفراد الشعر عن السرد، ولكي لا أجمع بين السرد والشعر في عنوان واحد أن يكون للشعر نصه الخاص، وقد يقول القارئ لم تأتي بجديد، فمثلاً يحمل لنا التراث الشعري عدة اسماء من الشعراء، وظَّفوا ما تقول أو ما تتحدث عنه، تحت مسمى سردي آخر، فأقول ولما لا يكون للشعر مسمى غير مسحوب من السرد، كالحكاية والملحمة والقصة والمسرحية الشعرية؟

المهم أني اكتب بهذا المصطلح وممكن ان يطور وفق منظور أكاديمي علمي أو يدرج ضمن محاولات التغيير الكتابي غير الناجحة وخاصة أن هناك أصوات تعتمد كلياً على التفنيد وربط التجديد بما معمول به في مجتمعات أخرى، وهناك من يدعي بأنه له، وأنا على كل حال ومع كل ما يقال، اتعامل معه وفق رؤيتي وثقافتي ومقدار ما أعتقده لمصلحة الجمع ولا شيء سوى الجمع والله الموفق.

***

عيال الظالمي

.........................

(كتاب غير مطبوع) في حلقات

تُمثِّل صُورةُ البَحْرِ في السَّرْدِ الرِّوائيِّ قِيمةً مَركزيةً شديدةَ الأهميةِ، وتُشكِّل رَمزيةُ البَحْرِ في الخِطَابِ الأدبيِّ مَاهِيَّةً فِكريةً بالغةَ الدَّلالة، حَيْثُ يَتِمُّ نَقْلُ البَحْرِ مِن جُغْرافيا المَكَانِ إلى جُغْرافيا النَّصِّ، وَمِنْ التاريخِ المَادِيِّ للظواهرِ الطبيعيةِ إلى التاريخِ المَعنويِّ للظواهرِ الثقافية.

ويُعْتَبَر الرِّوائيُّ السوري حَنَّا مِينة (1924 اللاذقية _ 2018 دِمَشْق) مِنْ أهَمِّ الكُتَّاب الذينَ كَتبوا عَن البَحْرِ في الأدبِ العربيِّ، ويُعَدُّ أديبَ البَحْرِ بامتياز. يَقُول في ذلك: " البَحْرُ كانَ دائمًا مَصْدَرَ إلهامي، حَتَّى إنَّ مُعْظَم أعمالي مُبَلَّلَة بِمِياه مَوْجِهِ الصاخب، وأسأل: هَلْ قَصَدْتُ ذلك مُتَعَمِّدًا؟، في الجَوابِ أقول: في البَدْءِ لَمْ أقْصِدْ شيئًا، لَحْمِي سَمَكُ البَحْرِ، دَمِي مَاؤُهُ المالح، صِرَاعي مَعَ القُرُوشِ كانَ صِرَاعَ حَيَاةٍ، أمَّا العواصف فَقَدْ نُقِشَتْ وَشْمًا عَلى جِلْدِي، إذا نَادَوْا: يا بَحْرُ !، أجبتُ أنا، البَحْرُ أنا، فيه وُلِدْتُ، وفيه أرغبُ أنْ أمُوت... تَعْرِفُونَ مَعنى أن يَكُونَ المَرْءُ بَحَّارًا؟ ".

إنَّ البَحْرَ في روايات حَنَّا مِينة يُجسِّد الخَلاصَ للفَرْدِ المُنعزِل، والتَّحَرُّرَ مِنْ قانونِ اليابسةِ، والحَنِينَ إلى آفاقٍ لانهائية، واكتشافَ الأحلامِ البعيدةِ التي لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أحَد. وهَكذا يُصبح أدبُ البَحْرِ مِنْ خِلالِ الرِّواياتِ مَنظومةً مِنَ التَّفَاصيلِ والصِّرَاعاتِ والدَّلالاتِ والرُّمُوزِ، حَيْثُ تَنْصَهِرُ بَرَاءَةُ الطُّفولةِ وَطَهَارَةُ المَكَانِ وَبَكَارَةُ الحُلْمِ في بَوْتَقَةٍ وُجودية واحدة.

وقَد استفادَ حَنَّا مِينة مِنْ البَحْرِ في تَشكيل عوالم حالمة، وصِناعةِ شخصيات مُتناقضة، وابتكارِ حَيَوَاتٍ قائمة بذاتها، تَشتمِل على أبعادِ الوَجَعِ الإنسانيِّ، وأسبابِ الصِّراعِ الاجتماعيِّ، ودَلالاتِ مُعَانَاةِ الطَّبَقَاتِ المَسحوقةِ.

إنَّ الفَتْرَةَ التي قَضَاهَا حَنَّا مِينة في البَحْرِ، وَبَيْنَ الصَّيَّادين والبَحَّارَةِ، انعكستْ في البُنى التَّركيبية لأعماله الروائية، حَيْثُ نَقَلَ مِنْ خِلالِهَا تفاصيلَ الحَياةِ البحرية، ومُشكلاتها، وصُعوباتها، والتَّحَدِّيَات التي تُوَاجِه البَحَّارَة، والأخطار التي تُحْدِق بِهِمْ، والكِفَاح المَرِير ضِد قَسْوَةِ الطبيعةِ، وَرَهْبَةِ البَحْرِ، وَضُغوطاتِ الحَيَاةِ.

ولا شَكَّ أنَّ الزَّمَانَ والمَكَانَ يتقاطعان في جَسَدِ البَحْرِ والتَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة اليَومية للبَحَّارَةِ الذينَ يُخَاطِرُونَ بحياتهم مِنْ أجْلِ تَوفيرِ لُقْمَةِ العَيْشِ الكريمةِ لعائلاتهم. وكُلُّ رِحْلَةٍ في البَحْرِ هِيَ رِحْلَةٌ في أعْمَاقِ البَحَّارَةِ وَذَوَاتِهِمْ وأحلامِهِمْ وذِكْرياتهم. وكُلُّ بَحَّارٍ يُعيد اكتشافَ مَاضِيه وتَرْمِيمَ حَاضِرِه في قَلْبِ البَحْرِ بَحْثًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ مُشْرِق، ومُغَامَرَةٍ بَنَّاءَةٍ وَمُثْرِيَة.

وفي الأدبِ العالميِّ يَظْهَرُ البَحْرُ بِكُلِّ عُنفوانِه ورمزيته، ويَبْرُز اسمُ الروائيِّ الأمريكيِّ إرنست همنغواي (1899_ 1961) صاحب رواية (العجوز والبحر/ 1952) التي قامَ بتأليفها في هافانا عاصمة كُوبا. وقَدْ حازَ همنغواي بفضلِ هذه الرِّواية على جائزةِ بوليتزر عن فئة الأعمال الخيالية (1953)، وَجائزةِ نوبل للآداب (1954)، " لأُستاذيته في فَنِّ الرواية الحديثة، ولقوةِ أُسلوبه، كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة     (العجوز والبحر) "، كما جاءَ في تقرير لجنة نوبل.

تُصوِّر الروايةُ الصِّراعَ بَيْنَ الإنسانِ وقُوى الطبيعة، وجَسَّدَه في بطلها العجوز (سانتياغو) معَ أسماكِ القِرْشِ المُتَوَحِّشَة والسَّمكةِ الكبيرة الجَبَّارة في البَحْرِ، وتَتميَّز الرِّوايةُ بِخِبرات واقعية بِعَالَمِ البَحْرِ، وَتُظْهِر قُوَّةَ الإنسانِ وتَصميمَه وَعَزْمَه عَلى نَيْلِ أهدافِه، والوُصول إلى مَا يَصْبُو إلَيْه، وإمكانية انتصاره على قُوى الشَّرِّ والطبيعةِ، وَفْقًا لِمَقُولةِ همنغواي الشهيرة: " الإنسانُ يُمكِن هَزيمته، لكنْ لا يُمكِن قَهْرُه ".

إنَّ البَحْرَ مُسْتَوْدَعٌ للحِكَاياتِ الشَّعبيةِ، والأساطيرِ المَوروثةِ، وَالعَواطفِ الإنسانية المُعقَّدة، وعَناصرِ الشَّخصياتِ التي تُكَافِح للحُصُولِ عَلى مَوْقِع عَلى خَريطةِ المُجتمع، وتُعَاني للحُصولِ عَلى مَكَانٍ تَحْتَ الشمس. وإذا كانَ الشُّعُورُ الإنسانيُّ هُوَ النُّقطةَ المُشتركة بَيْنَ الأزمنةِ المُختلفة، فَإنَّ مُطَارَدَةَ الحُلْمِ هُوَ العَامِلُ المُشترك بَيْنَ الظواهرِ الطبيعيةِ والظواهرِ الثقافية.

والبَحْرُ يُمثِّل الانطلاقَ نَحْوَ فَضاءات مَفتوحة، ويُجسِّد الانعتاقَ مِنْ قَسوةِ النِّظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ في المُجتمع، حَيْثُ يَتِمُّ تَقْديس العاداتِ والتقاليدِ أكثر مِنْ إنسانيةِ الإنسانِ. والبَحْرُ يُعيد بِناءَ الإنسانِ مِنْ جَديدٍ، ككائنٍ حُرٍّ ومُتَحَرِّرٍ مِنَ الاغترابِ والاستلابِ، وهَكذا يُصبح حُضُورُ البَحْرِ في السَّرْدِ الروائيِّ تَعْوِيضًا عَن غِيَابِ الإنسانِ في ضُغوطاتِ الحَياةِ، وإفرازاتِ الأحداثِ اليوميةِ. وأيضًا يُصبحُ وُجُودُ البَحْرِ في الخِطَابِ الأدبيِّ استمرارًا للفِعْلِ الاجتماعيِّ والفاعليَّةِ الجُغرافية، لَيْسَ عَلى مُستوى الحُدودِ والمَساحاتِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا عَلى مُستوى المَعَاني والكلماتِ، وبالتالي يَصِيرُ البَحْرُ أبجديةً جديدةً تُوَازِن بَيْنَ مَشاعرِ الشَّخصياتِ وَوَعْيِ المُجتمعات.

والبَحْرُ في السَّرْدِ الروائيِّ يَحْمِلُ مَعنى الوِلادةِ الجَديدةِ للكَلامِ عَن طَريقِ المَاءِ، حَيْثُ تَغتسِل فِيهِ عناصرُ اللغةِ، وَتَتَدَفَّقُ كَمَا تَتَدَفَّقُ الأمواجُ. والماءُ سِرُّ الوُجودِ وأصْلُ الحَياةِ والإبداعِ، وهذا يُشير إلى أهميةِ المَاءِ كَعاملٍ أساسيٍّ في الحَياةِ، وكَأداةٍ للإبداعِ في الرَّمزيةِ اللغويةِ، والسَّرْدِ الروائيِّ، والخِطَابِ الأدبيِّ. والمَاءُ أساسُ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، ويُعْتَبَر مَنْبَعًا للإلهامِ والتَّنَوُّعِ، ويُسَاهِم في تاريخِ الوُجودِ، والحَضاراتِ الإنسانيةِ، والابتكاراتِ المَعنويةِ والمادية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لم يكن طريق الأدب والخَلْق والإبداع دائماً مفروشاً بالورود والأزهاروالزّرابي المبثوثة، بل إنّ غيرَ قليلٍ من المُبدعين الكبار من أدباء وشعراء وكتّاب ورسّامين وموسيقييّن، وسواهم عاشوا حياة الشظف وعانوا من مظاهرالفقر والخصاصة، وتجرّعوا كؤوس الحنظل، والمرارة، والعلقم، وحاق بهم الفشلُ في حياتهم في مختلف جوانبها، في الحبّ والزواج والعمل، والصحّة النفسيّة والبدنيّة، وفي مجالات كتاباتهم وإبداعاتهم كذلك.

أنطولوجيا الشّعراء المُنتحرين

كثير من هؤلاء المبدعين الذين صادفهم سوءُ الطالع في حياتهم، وقادتهم ظروف العيش إلى ضرب عرضَ الحائط نعمةَ الحياة التي وهبها الله لهم، فارتمى بعضُهم في أحضان التّهلُكة، وزجّ آخرون بأنفسهم في هوّات التّيه، ومتاهات الجنون و ودهاليز الضلال مُعجِّلين بخَلاصهم المحتوم. مصير هؤلاء الشّعراء يبعث على الشّفقة والأسى والأسف. هناك كتاب للأديب الإسباني "خوسّيه لويس غاييّرو" تحت عنوان «أنطولوجيا الشّعراء المُنتحرين» أو المُحبَطين ترجم فيه للعديد من هؤلاء الكتّاب والشّعراء الذين ناف عددُهم المُرعب على الخمسين شاعراً وكاتباً وأديباً. عزاء القارئ أنّ هؤلاء (المبدعين) المارقين الذين يضمّهم هذا الكتاب بين دفّتيه ينتمون برمّتهم لبقاع وأصقاع ومناطق جغرافية نائية عن عالمنا ومحيطنا.

تقول الشّاعرة والناقدة اللبنانية جمانة حدّاد صاحبة أنطولوجيا كبرى شبيهة بكتاب غايّيرو، عن هذا الكاتب ضمن حوار كان قد أجراه معها إيلي الحاج لـ "دروب": " هذه الأنطولوجيا هي الوحيدة التي تعالج ثيمة الانتحار، على حدّ علمي، لكنّها تعاني ثغرات كثيرة، منها أن غاييّرو أحصى فقط 53 شاعراً منتحراً، وقد انطلق في إحصائه من سنة 1770، وهو لم يركّز على حقبةٍ زمنية محدّدة في القصائد، ما ضعضع الاختيارات، وجعل بينها تنافراً مزعجاً؛ وأن نصف أسمائه من شعراء اللغة الاسبانية (إسبانيا والقارة اللاتينية)؛ وأنه تغاضى عن أسماء شعرية مهمّة ومعروفة، ما كان ليكون من الصّعب عليه حصدها وضمّها، من أمثال تور أولفن، وتوفا ديلفسون وأميليا روسيللي وآنا كريستينا سيزار…الخ؛ وكما أنه لم يكلّف نفسه عناءَ البحث عن أيّ شاعر عربي منتحر".

يقول الكاتب الأرجنتيني الراحل الذائع الصّيت خورخي لويس بورخيس، في قصيدة له تحت عنوان «الانتحار»: " لن يبقى هناك أيّ نجم في الليل… لن يبقى هناك ليل… سأموت ومعي مجموع… هذا الكون الذي لا يطاق… سأمحُو الأهرامات الأوسمة… القارات والوجوه…سأمحو تراكم الماضي… سأحيل التاريخَ غباراً، والغبارَ غباراً…سأرى آخر شمس شارقة… سأسمع العصفور الأخير… سأوصي العدم إلى لا أحد".

ومعروف أنّ بورخيس لم ينتحر، ولكنّ الفكرة المشؤومة لابدّ أنّها راودته، ودغدغت شياطينَ شعره وأدبه، لقد واصل الحياة بإمعان،وصبر، وعناد، متحديّاً ومتحمّلاً عاهةَ العمىَ التي أصابته خلال رحلة عمره المعنّى إلى أن جاوز الثمانين بسنين، وسئم معها تكاليف الحياة، كما أنّها لابدّ أحوجتْ سمعَه إلى تُرجمان!

في كتاب "خوسّيه لويس غاييّرو" الرّهيب والمُريب، نجد قصصاً وحكاياتٍ ونبذاً عن حياة كلّ واحدٍ من هؤلاء المبدعين المنكودي الطالع، صفحات هذا الكتاب ترتجفُ لقراءتها القلوب، وتقشعرّ لها الأبدان. يشير الناقد الاسباني "كارلوس أثانجو" في هذا القبيل إلى أنه بالفعل: «ليس في مقدورنا إيجاد أيّ تفسير أو تبرير لهذا المروق الفكري، والنفسي، والجنوح العقلي لهؤلاء، والطامة الكبرى أنّ بعض هؤلاء الشّعراء انساقوا نحو الانتحار بواسطة الإلهام الإبداعي ذاته عندهم. وقد اقتصر بحث المؤلّف في هذا الكتاب بالفعل -كما ذهبت الشاعرة جمانة حداد- على إدراج الشّعراء الغربييّن من أوروبييّن،وأمريكييّن. وهذه بعض النماذج من هؤلاء المارقين، مع إطلالات عن حياتهم، وإبداعاتهم، وعذاباتهم ومعاناتهم:

نِيرْفالْ.. أبوالسُّوريالييّن

"جيرار لابروني دي نيرفال" (1808 ـ 1855): كان من أكبر الشّعراء الرومانسيّين الفرنسيّين، زار سورية، ولبنان، ومصر، وشمالَ أفريقيا، ويؤكّد أندريه بريتون في بيانه السّوريالي الشهيرعام 1924 أنّ نيرفال كان أوّلَ من استعمل مصطلح السّوريالية في مقدّمة كتابه «بنات النار» (1854). كان قد شرع في ترجمة «فاوست» لجوهان فون جوته، الذي تحمّس لهذا العمل لدرجة أنه سلّمه المخطوط الأصلي باللغة الألمانية لهذا الكتاب. وعندما بلغ 26 سنة من عمره ورث ثلاثين ألف فرنك فرنسيّ ذهبيّ. وكان يكتب باسمٍ مستعار وهو نيرفال. أقنعه بلديُّه ومعاصرُه الكاتب الفرنسي "أونوري دي بلزاك" بإنشاء مجلة بهذا المبلغ، إلاّ أنه بعد مرور سنة واحدة، كان قد أفلس. وعندما بلغ الواحدة والثلاثين من عمره، لم يعد لديه مسكن يأوي إليه، فى رواية يُقال أنّ (جيرار دو نيرفال) انتحر شنقا في 26 يناير 1855، جرت عملية الانتحار في درب عطن مغمور بباريس يدعى vieille lanterne. كان الشاعر حينها في السادسة والاربعين من عمره. ويقال كذلك فى رواية أخرى أنه في عام 1855 اكتشف سكّير متشرّد عربيد في أحد أزقّة باريس جسدَه مُسجىً على الأرض، مُغطّى بالثلوج. يُخبرنا خورخي لويس بورخيس أنّه لم يعرف السعادة في حياته، كان يتذكّر، في حالة ضيقه النفسي، واستحضاره لوالدته، قصيدة نيرفال ( le malheureux ) أي التّعيس التي يقول فيها متذكّراً أمّه بأنّ ( آخر نجماتي ماتت). من أعمال نيرفال: «رحلة إلى الشّرق» (1854)، «بنات النار» (1854)، «أوريليا» أو حلم الحياة (1855)

النوم الأبديّ

"ألفونسينا ستورني" (1892 ـ 1938) عادت ألفونسينا ستورني من سويسرا إلى بلدها الأرجنتين بعد أن كانت أسرتها قد هاجرت من هذا البلد الأمريكي اللاتيني إلى سويسرا. وبعد وفاة والدها، اشتغلت في مصنع للنسيج، كما اشتغلت نادلة، ثم ممثّلة، ثم أصبحت بعد ذلك أستاذة في مدرسة اللغات الحيّة عام 1935 في بوينس أيريس، كان هَوَسُها البحث عن المساواة بين الرّجل والمرأة، ومنذ 1916 نشرت أوّل دواوينها الشعرية، وأصبحت امرأة مشهورة تقرأ الشّعر في الأحياء الفقيرة في بلدها الأرجنتين،على غرارالشاعر التشيلي نيكانور بارّا. كان شِعْرُها حزيناً مؤثّراً يعانق الآلام والخوف، ويطفح بالمشاعر الفيّاّضة. وبعد عودتها من رحلتها الثانية لأوروبّا اكتشف الأطباء أنها كانت مريضة بالسرطان، وذات مساء من شهر أكتوبر من عام 1938 خرجت من منزلها وضاعت في غياهب المحيط الهادر ببحر الفضّة في الأرجنتين. بعد أن تركت قصيدة مكتوبة بلون أحمر على ورق أزرق تحت عنوان «سأخلد للنوم الأبدي». من أعمالها «قلق غصن الورد» (1916)، «السّنة الحلوة» (1918) «الكسل.. (1920).

مارينا تسفيتيفا: معاناة لا تنتهي

 يعتقد النقاد أنّ الشاعرة الروسية مارينا تسفيتيفا (1892- 1941) كانت ضحيّة عصرها، كانت حياتها سلسلة من المعاناة الدائمة، والعذاب المتواصل وقد صادفها سوء الحظ،والطالع العاثر حيث قادها كل ذلك إلى الانتحار، بعد أن جاوزت سنّ الأربعين بقليل، كانت تنتمي لأسرة ميسورة بورجوازية راقية، ولقد ألحقت الثورة الروسية أضراراً جسيمة بها وبعائلتها، بعد أن صادرت السلطات الرّوسية ثروات زوجها الذي كان يعمل في الجيش الرّوسي، ثم اختفى فجأة بشكل مؤقت، وماتت ابنتها أمامها تتضوّر جوعاً لأنه لم تعد لديها أطعمة تقدّمها لها. وفي عام 1922، تلتقي من جديد مع زوجها ثم تتّجه نحو براغ ثم إلى باريس، حيث تقيم لمدّة أربعة عشر عاماً. وبعد قراءتها نصّا لبلادمير ماياكوفسكي اقتنعت أنّ مكانها الحقيقي هو روسيا، حيث انتقلت عائلتها قبلها إلى هناك عام 1937 في انتظار أن تلتحق بها، وبعد سنتين من وصولها إلى بلدها، اكتشفت مارينا تسفيتيفا أنّ ابنتها تمّ إدخالها إلى أحد معاقل التعذيب، وأنّ زوجها تمّ إعدامه. فاتّجهت 1941 نحو قرية إتبورجا حيث انتحرت شنقاً.

سأمٌ كلُّها تكاليف الحياة..!

سيزاري بافيزي (1908 ـ 1950) كتب الشاعر الإيطالي بافيزي ذات يوم يقول: «سيأتي الموت وسوف ينتزع عينيك»، إلاّ أنّ الموت لم يسعَ إليه، بل هو الذي سعى إلى الحِمَام سعياً حثيثاً بتاريخ 26 أغسطس عام 1950، حيث ابتلع 16 علبة كاملة من الحبوب المنوّمة. أصبح بافيزي يتيماً في سنّ مبكرة، وهو لمَّا يتجاوز بَعْدُ الستّ سنوات من عمره، وعندما بلغ التاسعة عشرة كان قد طفق يعبّر عن ملله وسأمه من الحياة وتعبه منها على طريقة أبطال بلديّه الروائي الايطالي ألبرتو مورافيا، حيث كان يسمّي نفسه «أستاذ في فنّ عدم الاستمتاع بالحياة»! وبعد أن حصل على دكتوراه من تورين عمل في دار النشر إيناودي، وفي عام 1935 حكم عليه بثلاث سنوات سجناً نافذة لتدخله في حياة خليلته السّابقة «تين» وخطيبها الذي كان من مسيّري الحزب الشيوعي الإيطالي، وبعد خروجه من السّجن اكتشف أنّ حبيبته «ذات الصّوت الملائكي الحُلو» هجرته إلى الأبد وتزوّجت غيرَه. وبعد عام 1941 طفق في نشر الرّوايات الواحدة تلو الأخرى. وعلى الرّغم من النجاح الواسع والباهر الذي حققه، فإنّ ذلك لم يكن سبباً كافياً لاستعادة توازنه النفسي، وبعد بضع سنوات وضع حدّاً لحياته.

الحُبُّ يُعرّي تعاسَتَنا

غابرييل فرّاتير (1922 -1972): ينتمي هذا الشاعر لجيل الخمسينات، وهو يُعتبر من أكبر الشّعراء الاسبان الكطلانيين المعاصرين. وصفه نقادُه بأنه كان شديدَ الذكاء والفطنة، إلاّ أنه كان عاثر الحظ، سيّئ الطّالع، قليل المال، كان في غرفة أحد الفنادق، وقد ترك رسالة يقول فيها «الواحد منّا لا يجعل حداً لحياته بسبب حبّ امرأة، بل إنّه يموت وحسب، لأنّ أيّ حبّ يؤرقنا، ويفضح بؤسَنا، ويعرّي تعاستَنا وخذلانَنا، ويجعلنا نغوص في هوّة العدم السحيق ». كان باحثاً مجيداً، وناقداً فذاً، ومترجماً حاذقاً لأرنست همنغواي، وسيزاري بافيزي، كان غابرييل فرّاتير قد حدّد نهاية لحياته في الخمسين من عمره، وقبل استيفاء الأجل، ربط كيساً من البلاستيك حول رأسه.

لعنة الدّفاتر الصّفراء..

 الشاعر الاسباني بيدرُو كاسارييغو (1955 ـ 1993): كان يقول: «لو أُطلق يوماً اسمي على أحد شوارع مدريد فإنّه سيكون ولا شكّ شارعاً بارداً» إلاّ أن أشعاره لم تكن كذلك، بل كانت تحفل بالدفء والحرارة والقوّة والعنفوان، كان يكتب أشعاره وكأنها روايات متشابكة متسلسلة مترابطة، تكوّن في النهاية قصّة محكمة متراصّة شعراً. من أعماله: «الحياة ضجَر»، وغنيّة عن التعريف في الأدب الاسباني المعاصر دفاتره الشهيرة«الصفراء والحمراء والزرقاء والخضراء». كان رسّاماً بارعاً كذلك، وقد خلّف لنا رسومات في جودة متناهية. وفي عام 1993 ولدت ابنته الوحيدة خولييتا التي أهداها إحدى قصصه. إلاّ أنه بعد يومين من نشر هذا الكتاب وضع حدّاً لحياته في ظروف غامضة.

حشت جيوبَ مِعطفها بالحِجَارة

البريطانية الشهيرة فيرجينا وولف (1882-1941) كتبت إلى زوجها قبيل أن تحشو جيوبَ معطفها بالحجارة وتلقي بنفسها في نهر قريب من منزلها تقول: «أشعر بأنني أكاد أفقد عقلي، أظنّ أنّنا لا يمكننا أن نتحمّل مرّة أخرى تلك اللحظات الرّهيبة، لقد بدأت أسمع أصواتاً، ولم أعد أستطيع التركيز، لقد وهبتني كل السّعادة الممكنة، حتى جاء هذا المرضُ اللّعين، وبدّد سعادتنا وأحالها إلى جحيم لا يطاق، لم يعد في مقدوري مواجهته، أو مصارعته، بدوني أعرف أنّك تستطيع أن تعمل كذلك، سوف تفعل، إنّني على يقين من ذلك، لقد أصبحتُ عاجزة حتى عن الكتابة كما ترى، كما أنّنى لم أعد أستطيع القراءة، لقد كنتَ صبوراً وطيّباً معى إلى أبعد حدود، لقد فقدت كلَّ شئ إلاّ طيبوبتك، لا أريد أن أجعل حياتك جحيماً أكثرَ ممّا أنت فيه بسببي، لم يكن هناك شخصان سعيديْن في هذه الدّنيا مثلما كنّا نحن الاثنين".

بُذور الإحباط و السّوداوية

يتساءل الناقد "غارسيا بوسادا": هل يحمل الادب الحديث في طيّاته بذور السوداوية والإحباط والشرّ إلى هذه الدرجة؟ على الرّغم من أنّ هذا الأدب موسومٌ بآثار الطلائعيين الذين يعتبرون هم بدورهم أبناء شرعييّن للشّعر الرومانسي الحالم، فضلاً عن أنه داخل الأدب فإنّ الشّعر بالذات يُعتبر أرقى ضروب الفنون جميعاً وأرقّها وأرقاها. يشير صاحب الكتاب أنه وضع هذا المؤلَّف تكريماً للفشل مع اعتبارات أخرى، ويكفي أن نذكر هنا أنّ صاحب رواية «الغريب» الفرنسي ألبير كامو علّق ذات يوم على ذلك فأشار إلى أنّ هذا النّوع من الفشل غالباً ما يُقترن بالطموحات الكبرى التي يستحيل تحقيقها.

إنّ الشّاعر عندما يبحث عن التوازن النفسي،والعقلي في الحقائق الحياتية، وفي مواطن ومناهل الخلق والإبداع الفنيّ التي تناغي ضميرَه، فإنّ ذلك يشبه التعلّق أو التشبّث بكتلة خشب، أو بكومة قشّة في لحظة الغرق، إنّ «جوته» في بعض شطحاته الفكرية أنقذه أبطالُ أعماله من الدّمار، فالرّواية الرّومانسية ظهرت تحت شعار الحبّ القاتل، واقترنت بأعمق معاني الصّبابة والوله والهيام والجوى. كلّ هؤلاء هم ضحايا تفكيرهم المنحرف وحُكمهم على الحقائق والواقع والأشياء فكانت حياتهم عذاباً مقيماً، وبينهم وبين الموت والحياة خيط رفيع. إنّ الرّموز التي تطفح بها أشعارُهم والمِزاج السّّوداوي الذي يطبعهم يزيدنا حيرةً وقلقاً وذهولاً، ويرسم نصبَ أعيننا علامات استفهام ضخمة بشأنهم. لا نجد أجوبة كافية، وموفية، وشافية لها.

***

د. محمّد محمّد الخطّابي

كاتب، وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

 

"للشاعرة د. مرشدة جاويش

The Fragmentation of the Self and the Ambiguity of Vision in the Poem "A Withdrawal Behind the Vision’s Back" by Dr. Murshidah Jawish 

تنطلق هذه القراءة من مقاربة تفكيكية تأويلية تستند إلى مفاهيم جاك دريدا حول الاختلاف والتأجيل، وتستنير برؤية بول دي مان حول انفصال القول عن المعنى في الشعر الحداثي.

يندرج نص "نأي في قفا الرؤيا" ضمن تيار الشعرية الحداثية المتشظية، وهي شعرية تتأسس على تقويض البنية المرجعية للذات، وانزلاق الدلالة الأحادية. ما يجعل النص أشبه بمرآة معتمة تعكس ذاتاً مأزومة، متصدعة، وعاجزة عن بلوغ يقينها الداخلي. هذا التيه الوجودي ليس مجرد خيار جمالي، بل هو استراتيجية فكرية تعبر عن انسحاب المعنى وانهيار المرجعيات الكبرى، كما تؤكده نظريات ما بعد الحداثة.

فالقصيدة تتبدى كخطاب داخلي مأزوم يعيد إنتاج ذاته عبر تموجات متكررة من التساؤل والشك، ما يجعلها نموذجاً لانفجار المعنى وتفتته. هذا الخطاب، الذي لا يطمح إلى إنتاج معنى مغلق أو رسالة واضحة، كما يرى ميشيل فوكو في أركيولوجيا المعرفة، فإن خطاب الذات الحديثة يتأسس على الفراغ لا الامتلاء. أي الذات التي "تتكلم في الفراغ"، وتحاول الإمساك بكيانها عبر اللغة، لكنها لا تجد سوى مرايا مشروخة تعيد إليها أشكالاً من التبعثر.

من هنا، فإن النص يتبنى بنية الأسئلة الأنطولوجية المفتوحة التي لا تروم الفهم بقدر ما تعمق تفتت الهوية، على نحو يحول القصيدة إلى فضاء سردي شعري يتقاطع فيه البعد الذاتي مع التفكيك اللغوي والمعرفي. فلا ذات متماسكة يمكن الإمساك بها، ولا رؤية مكتملة يمكن الاتكاء عليها، بل محاولات مستمرة للهروب من الفراغ نحو فراغ آخر. هذا التوتر بين الذات والرؤيا هو ما يمنح النص عمقه الحداثي، ويضعه في قلب أزمة المعنى التي تعانيها القصيدة الحديثة.

الذات والغياب في أفق التفكيك

تمثل القصيدة تجربة وجودية عميقة تنبثق من ذات تمخر غمار العدم بحثاً عن يقين مفقود، لكنها لا تجد سوى تشظيات لغوية، ومرجعيات متآكلة. فليست الذات في هذا النص كياناً ثابتاً أو مركزاً معرفياً، بل هي أثر لغوي، تظهر في انكسارات الوعي وتهويمات الذاكرة. وهي بهذا تتطابق مع مفهوم "الذات المؤجلة" عند جاك دريدا، إذ تتشكل الهوية بوصفها عملية لا نهائية من التأجيل، لا تدرك إلا عبر الاختلاف والانزلاق.

نقرأ في أحد مقاطع القصيدة:

"أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟"

هذا التساؤل لا يبحث عن إجابة بل يؤكد العجز عن الوصول إليها. فالذات لا تستجلي حقيقتها بل تتساءل عن كونها وهماً أو ظلاً، ما يجعلها كائناً لغوياً مشتبكاً مع ذاته، مهدداً بالانمحاء. ومن اللافت أن أدوات الاستفهام هنا لا تنتج معرفة، بل تعمّق الهوة، ما يعكس انزلاق النص من وظيفة التقرير إلى وظيفة التشظي.

كما أن استخدام مفردات مثل "ظلّ"، "سدة الماء"، "وهم"، "خارطة الجذور"، يكرس هذا النزوع نحو اللايقين الأنطولوجي، ويحول الذات إلى طيف زائل في مرايا اللغة. بهذا المعنى، فإن انهيار تصور الذات لا يتم عبر سياق نفسي أو سردي فقط، بل يتجلى بوصفه تفكيكاً معرفياً يؤكد هشاشة الوعي الإنساني، وانكساره أمام رهانات المعنى.

إن الرؤيا هنا ليست نبوءة أو استبصاراً، بل تمثل العجز ذاته. فـ"قفا الرؤيا" عنواناً دالاً يحيل إلى موقع خلفي، معتم، لا يطل على أفق، بل يلامس ما بعد الرؤيا، أي غيابها. وبهذا التوصيف، تتحول القصيدة إلى ميتافيزيقا للغياب، لا بوصفه لحظة عارضة، بل كجوهر ملازم للكينونة الشعرية.

انزياح اللغة وتكثيف الصور: شعرية التفكيك وجماليات التشظي

تشكل اللغة في قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" البنية الحاملة لرؤية شعرية قائمة على الانزياح الجذري من مألوفية التعبير إلى مناطق التوتر الدلالي والتراكب الرمزي. فالنص لا يسعى إلى الإبلاغ أو التوصيل، بل يطمح إلى إنتاج أثر جمالي قائم على التفكيك و الإرباك، وذلك عبر آليات أسلوبية تتضمن الانزياح، والتكثيف، وتعدد الطبقات الدلالية للصورة الشعرية.

في هذا السياق، تمارس الشاعرة اشتغالاً مكثفاً على الصورة الشعرية بوصفها تجلياً لتوتر الذات وانفصالها عن الواقع والمعنى. لنأخذ المثال التالي:

"كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها"

هذه الصورة الشعرية المركبة تقلب النسق الرمزي التقليدي رأساً على عقب. فالنجوم، التي ارتبطت في الذاكرة الثقافية بالهداية والنور والأمل، تتحول إلى "فتات"، أي بقايا مادية منهارة، فيما تغدو "السماء" – رمز العلو والحضور الإلهي أو المطلق – كياناً متغافلاً، غائب الاستجابة. هذه التحولات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالتقويض الرمزي، حيث يتم قلب التمثلات الثابتة لصالح دلالة مفتوحة، سلبية، ومتوترة.

وتأتي هذه الصورة بوصفها نموذجاً لما يسميه رولان بارت بـ"الكتابة الدرجية" (writing degree zero)، حيث لا يعود النص أداة لقول فكرة ما، بل يصير ذاته موضوعاً للقول، مما يؤدي إلى تعليق المرجعية الخارجية للغة، وتحويل النص إلى فضاء ذاتي خالص. إن هذا التعليق للدلالة المستقرة، وهذا الانتقال من "المرآة" إلى "المتاهة"، يعكس تأثير النظريات ما بعد البنيوية، ولا سيما مفاهيم جاك دريدا حول تأجيل المعنى واختلافه (différance)، إذ تصبح الصورة الشعرية تجسيداً ملموساً لانزلاق الدال عن المدلول.

من جهة أخرى، فإن الانزياح اللغوي يتجلى ليس فقط على مستوى الصورة بل في بناء الجملة الشعرية ذاتها، التي تنكسر على نحو شعري بعيد عن السياق التركيبي المألوف، مما يخلق حالة من الانفصال الإيقاعي والدلالي تسهم في بناء ما يمكن تسميته بـ جمالية التشظي. في هذا الإطار، تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

وباستخدام هذا الأسلوب، توظف الشاعرة استراتيجية الغموض البناء، لا بوصفه تعمية بل كأداة للكشف عن أزمات الذات والكينونة واللغة. فالغموض هنا لا يعني الغلق، بل يعني التوتر بين التمثل والانفلات، بين الدال والمدلول، بين الذات وظلالها المتكاثرة.

وعليه، يمكن القول إن القصيدة، عبر انزياحاتها اللغوية وصورها المركبة، لا تكتفي بتفكيك العالم بل تعيد تشكيله ككابوس جمالي متشظ، حيث المعنى لا يمنح، بل يطارد في مرايا اللغة المنكسرة. إن هذه الممارسة الشعرية تنتمي بوضوح إلى أفق القصيدة الحداثية المتأخرة التي تتكئ على الرؤيا المضادة واللغة النقيضية لتوليد شعرية التبعثر واللايقين .

تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

كما يتواشج البعد الدلالي مع الإيقاع الداخلي للنص، الذي يعتمد على التكرار والانكسار العروضي لإنتاج حالة من التوتر الموسيقي المكمل لحالة التشظي، مما يعزز الإحساس بالانفصال والانهيار الداخلي للذات.

التناص وانفتاح النص على مرجعيات متعددة

ينفتح النص على شبكة من التناصات الرمزية والثقافية التي تغني معناه وتعمق هشاشته في الوقت ذاته:

تناص قرآني/صوفي:

عبارة "سُدّة الماء" توحي بتناص مع رمزية الماء الصوفية كمرآة للروح وتستدعي صورة يوسف في الجب...

قول الشاعرة : "استعد وهْمَك من جُبّ الكشف" يعكس تناصاً مع مفهوم الكشف الصوفي لكنه يوظف بشكل معكوس للكشف عن الخواء لا الحقيقة.

تناص شعري حداثي:

تتقاطع عبارات مثل "مرآة وهم لا يُبصر" و"نور خذلك" مع شعر أدونيس ومحمود درويش حيث الرؤيا تتحول إلى خيانة أو عجز...

كما أن فكرة "الركض نحو النور" المحبط تستدعي أصداء من قصيدة "أنشودة المطر" للسياب، لكن بإعادة تفكيك دلالتها..

تناص أسطوري/كوني:

سقوط النجوم دون وداع السماء يحيل إلى أسطورة إيكاروس الذي خانته أجنحته وارتطم بالفراغ لكن دون الاعتراف من السماء أو الخلاص...

بهذا، يتجلى التناص في القصيدة ليس كإحالة معرفية بل كاستراتيجية تفكيك مرجعي للرموز الكبرى التي طالما شكلت الوعي الجمعي ...

اقتبس قول  لبول دي مان:

"ما تقوله القصيدة ليس ما تعنيه، وما تعنيه لا يمكن قوله."

القصيدة بوصفها اختباراً للتيه

تمثل قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" نموذجاً شعرياً متقدماً لجماليات ما بعد الحداثة، حيث تنسحب المعاني من مركزيتها التقليدية لتتوزع بين ظلال الدال واحتمالات التأويل. فالحضور يتحول إلى أثر لغوي هش، والمعنى يغدو ظناً مهدداً بالانهيار، والرؤيا تتبدى كاحتمال مراوغ يتوارى كلما اقتربنا منه.

تقوم الشاعرة د. مرشدة جاويش بتفكيك البنية المعرفية والرمزية لكل من الذات والعالم، لتنتج خطاباً شعرياً قائماً على التوتر، واللايقين، والانفتاح التأويلي. لا تقدم القصيدة يقيناً، بل تخضع القارئ لاختبار جمالي ومعرفي يتطلب مساءلة مستمرة، وتأويلاً متعدد المسارات. ويغدو التلقي، تبعاً لذلك، فعلاً شاقاً للقبض على المعنى في فضاء لغوي مشبع بما يمكن تسميته بـ"العنف الصامت"، حيث اللغة متماسكة لكنها مشروخة من الداخل، توحي أكثر مما تصرح، وتراوغ الكشف في كل مستوى من مستوياتها البنيوية والدلالية.

وعليه، فإن "نأيٌ في قفا الرؤيا" ليست قصيدة عن الغياب فحسب، بل هي ممارسة شعرية حية للتيه كاستراتيجية وجودية وشعرية وتأويلية معاً..

وبهذا، تضع د. مرشدة جاويش قصيدتها ضمن امتداد واضح لحساسيات القصيدة العربية الحديثة التي نحت نحو الغموض البناء وتفكك اليقين، كما نجد في أعمال أدونيس ومعين بسيسو وسعدي يوسف…

***

د. فاطمة عبد الله

......................

نَأْيٌ في قَفا الرُّؤيا

يَتَنَفَّسُكَ النِّسيانُ مِن شَقِّهِ الأَعلى

ويَذرُفُكَ سِرّاً على قارِعَةِ الاحْتِمالِ

كَأنَّكَ نُقْطَةٌ في حافَّةِ التَّكْوينِ

أو نَسْمَةٌ عَلِقَتْ

بِثَوْبِ مَلَكٍ خانَهُ البَياضُ

أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً

أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟

تَغورُ عُروقُكَ في مِلْحِ صَمْتي

ويَتَدَلَّى سُهادُكَ مِن أَعْمِدَةِ اللّازَمَنِ

كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها

وَكُلُّ تَأويلٍ يُصَفِّي رُؤاكَ

يَعودُ إِليكَ غَريباً أَعْمى

يُصَفِّرُ في فَجْوَةِ الظَّنِّ

كُلُّ ما كنتَ

أو تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ كنتَ

فصَرتَ نُقْطَةً داكِنَةً

في مِرْآةِ وَهْمٍ لا يُبْصِرُ

يا أَنتَ

أيُّ عُزْلَةٍ أَوْرَثَتْكَ هذا التَّشَظِّي؟

أيُّ مَدىً نَحَتَكَ صَمْتاً على صَمْتٍ

حَتّى تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ تَسْكُنُكَ؟

كَمْ مَرَّ طَيْفُكَ في نُسُجِ الرُّؤى

وَما اسْتَبانَ مِنْهُ سِوى صَهْدِ التَّيْهِ!

كَمْ رَكَضْتَ نَحوَ نُورٍ خَذَلَكَ

تَستَجْدِي الرُّؤيا من كَفِّ خَواءٍ يَتَضَخَّمُ

انْهَضْ

واسْتَعِدْ وَهْمَكَ

مِن جُبِّ الكَشْفِ

واقْطَعْ خُطاكَ الأَخيرةَ

في لُجَّةِ النُّورِ الّذي يُكَذِّبُكَ

فَها أَنا

أَكْشِفُ حافَّةَ جَحيمٍ

يَبْتَلِعُ سُؤَالَكَ

دُونَ أَنْ يُجيبَ

ولَمْ أَعُدْ أَذكُرُك

إِلّا كَمَنْ مَرَّ في مِلْحِ جُرحي

ولَمْ يَتَّسِعْ لي

***

مرشدة جاويش

ورقة التوت

يحيى السماوي

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

***

النص الشعري نوع من المعادل الحياتي للانسان الذي تأخذه اللحظة صوب التلاشي.. انه عملية تكثيف وخلق من خلال ارتطامه بالواقع.. لتحقيق التوافق بين الوجود الانساني والحلم الذي يولد وسطه..

وباستحضار النص الشعري (سؤال غير عفوي).. لمنتجه الشاعر يحيى السماوي.. الذي نسجه على بناء فني يحتضن حكاية الزمن (قصة يوسف واخوته) التي لا تنتهي مع قدرة على منح الصورة الشعرية بعدها الحقيقي.. اضافة الى اعتماده تقنية التناص الذي ظهر في الشعر المعاصر بحكم الترجمة وتأثيرها على المنتج والنتاج الادبي.. لانه يكشف عن ثقافة شمولية كما في نص الشاعر السماوي الذي يتخذ من سورة يوسف ثيمة متمثلة في (اخوة يوسف والبئر والذئب) التي شكلت جسد النص وفضائه.. فضلا عن اضفائه قيمة فنية ودلالية وإبداعية على عوالم النص ألتي تقوم بتوضيح فكرة محركة للذاكرة واثراء معنى وخلق صورة شعرية تمتاز باستطالتها ووقوعها في اسر السردية الشعرية.. المحققة للتكنيك الشعري الذي يعتمد التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والضربة الاسلوبية المفاجئة في نهاية النص.. فضلا عن اعتماده تقنيات فنية واسلوبية كالاستفهام الذي من خلاله يجسد المنتج معاناته وتجاربه الشعورية من خلال التساؤلات الاستفهامية التي تعد وسيلة من وسائل اتساع المعنى وإثرائه وتنويع الأفكار والصور والمواقف وكل هذا يكشف عن عمق تجربة المنتج، وبراعته في التعبير عما أحس وأدرك خلال مسيرته الشعرية...

أنا ليس لي أخوة

والطريقُ يخلو من بئرٍ وذئاب

كنتُ عارياً إلاّ من ورقةِ التوت

فمَن الذي قتلني

وأتى إليكَ بقميصي الملطّخ بدمي يا أبي؟

فالشاعر يمزج العاطفة والطبيعة بالواقع.. كي يحقق ربطه بين الوجد والوجود والكلمة.. ومن ثم توحده والطبيعة ونقلها من حالة استاتيكية سلبية مستقرة الى موقف انساني باسلوب فني حي بدينامية التفاعل والتجاوب مع الوجود الانساني..

وبذا قدم المنتج (الشاعر) نصا تداخلت مكوناته واللحظة المخترقة للثابت والمتجاوزه لعوالمه.. كون الابداع تجاوز وتخطي.. مع اتكائه على المضامين اليومية باحداثها ولغتها واسلوبها القائم على التناص الذي يكتنز دلالتين مترابطتين: الدّلالة الأولى جماليّة تمنح النص توهّجًا وعمقًا وخصبًا وانفتاحًا على الكثير من الاحتمالات والرّؤى... والدّلالة الثانية هي المنفة الفكرية التي تدفع المستهلك (المتلقي) لقراءة النّص والغوص في مكوناته المشهدية الملائمة لكل زمان ومكان وبعث الحــياة فيها عــبر العــلائق القائمة على التّـــلاقي أو التّــعارض أوالتكثيف او التوسع... كي ينقل تجربة صادقة مؤثرة بحسها الانساني الواقعي...

***

علوان السلمان – ناقد عراقي

الشاعر المهندس "ناظم عبد الجبار العلوش" من مواليد "دير الزور" عام 1962، عضو اتحاد الكتّاب العرب – جمعية الشعر. حاصل على شهادة الهندسة الإلكترونية من جامعة "حلب". وله أربع مجموعات شعرية، هي: "رحلة العمر"، "أغنيات للحب"، "احتراقات"، "حبة هيل"، وهو إعلامي شغل منصب مدير المركز الإذاعي والتلفزيوني في "دير الزور" لعدّة سنوات. بدأ الكتابة الشعريّة في نهايات عام 1970، وأخذ ينشر في الصحف والمجلات السوريّة والعربيّة عام 1982، وشارك في مهرجانات شعريّة، وحاز على عدّة جوائز. هو شقيق الشاعر الراحل "جمال علوش" الذي تأثر به كثيراً.

يكتب الشاعر "ناظم علوش" الشعر العمودي وشعر التفعيلة والشعر الشعبي الفراتي، وله نبضات نثريّة، ويكتب المقال الصحفي، وله تجارب في القصة القصيرة.

يقول عنه الشاعر "أبو بكر عزت" :  كثيرا ما تناول الشاعر " ناظم علوش" في أشعاره الهمّ الوطني والاجتماعي، إضافة إلى الغزل وقضايا أخرى كثيرة. كتب للأنثى والفرات كثيراً، وارتبط عشقهما بقصائده، ثم تنامى هذا الحب ليصل إلى مرحلة حب الوطن، الحب الذي عاشه في أوجاعه وخيباته ونكساته، فأصبح أبجديّةً له أستمد منها تلك الشحنة، التي أفرغها في قصائده لتسيل نزفاً على صفحات الكتابة التي لم تهدأ منذ عرف وطنه العربي من المحيط إلى الخليج.. لقد كتب في مختلف أصناف الشعر، إلا أنه أميل إلى شعر التفعيلة والشعر العمودي، مع عدم التنكر للنثر والشعر الشعبي.

البنية الدلاليّة للقصيدة:

جاءت سيمائيّة عنوان القصيدة "هذيان" ليس رمزاً لمن أسكره خمر العنب، بل جاء الهذيان في قصيدته رمزاً لمن اتعبهم قهر الواقع وظلمه واستبداده، ففقدوا ملكة الإدراك حتى تلاشت قدراتهم على قول الحقيقة لِمَا أصاب الوطن، الذي تحول نتيجة الخوف من ظلم المستبد الحاكم إلى رمز أيضاً جسده الشاعر في امرأة وجد في عينيها المتعبتين مساحة كبيرة من السكر أو غياب الوعي تأخذه لبلاده التي يحلم أهلها بالخبز والمعبر، بعد أن أحاط بهم الحصار من كل الجهات حصار الظلم والجوع والاستبداد، وحصار أعداء العقل والحرية واحترام المختلف. يقول:

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

يخاطب الشاعر وطنه المتعب.. هذا الوطن الذي جسده كما قلنا رمزاً في امرأة أصبحت شفاهها مثقلةً وعاجزةً عن الكلام من قهر الواقع ومعاناة أهله ومستبديه، ورغم كل هذا القهر يظل الوطن عند أهله حباً وعشقا كما يقول الشاعر. إن هذا المواطن الذي أثمله أو أسكره واقعه المرير في وطنه، لم ينس هذا الوطن الذي سكن في دفاتر ذاكرته وأصبح جزءاً من كينونته. يقول:

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

نعم.. إن شاعرنا رغم ما يعانيه من حسرة وألم على معاناة وطنه الصغير سوريا، والكبير عالمه العربي الذي شكلت فلسطين هاجسا عنده وعند كل شرفاء هذه الأمّة، إلا أنه لم يزل يحلم بأمل الخلاص وحصول أهل فلسطين على حقوقهم وحريتهم، فالورد الذي شكّل يوماً أملاً عند الشاعر، يكاد يتحوّل عنده إلى خرافة بعد أن غاب عطره، وغابت معه أحاسيس من يقود البلاد بأوطانهم وشعوبهم، ولكن رغم ما ينال أهل فلسطين من قتل وتدمير وتشريد وتجويع، يظل هناك أمل يَحْمِلُ الشاعر لربيع آخر خارج المحسوس.. ربيع صوفي عانق روحه الهائمة في فضاءات حب الوطن رغم جراحاته حيث يقول:

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

يعود الشاعر المتعب في واقعه وهواجسه وأحلامه ليخاطب وطنه بصيغة المرأة.. وقد أثقله ما يعانيه وتعانيه بلاده من قهر حتى تحولت مسيرة حياته في هذا الوطن إلى مسيرة جنون، فراح يرسمه رغم هذه المسيرة المشبعة بالجنون، لوحات عشق تظهر فيها مفردات حياته، ويرى دروباً من الأمل ستطرقه خطا عشاق هذا الوطن، وهو أمر ليس مستحيلاً عند الشاعر، حيث يقول:

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

مع وجود مساحة من الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، إلا أن ما يراه في وضع أطفال وطنه الذين فرض عليهم من يحكم هذا الوطن عيش القهر والجوع والاستبداد، فيحزنه حالهم بعد أن زرع مستبدو الوطن في نفوسهم وعقولهم الحزن وغيبوا الفرح. لقد سرقوا أفراحهم ورموها فوق طرقات وطنهم التي لم تعد طرقات.. فوق طرقات وطن لم يعد حكامه يهمهم إن عاش عشاقه أو ماتوا. يقول:

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

البعد الاجتماعي في النص:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو أيضاً جزء من تراث هذه الأمّة في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ، أي هو جزء من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً..هو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

الصورة في النص الشعري:

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيلية عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

إن الشاعر بوساطة التصوير الشعري، يقوم بعمليّة التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر للأشياء، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة بصور ذهنيّة، رغم أنها متخيلة ولكنها علاقة تظل مرتبطة في الواقع، فلا شيء يفرخ مجرداً حتى الوهم.

لقد استطاع الشاعر "ناظم علوش"، أن يصور واقعه الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية، استطاع أن يجسد المعنى المتخيل في نصه كمصور فوتوغرافي، امتازت صوره بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمد فيها الشاعر التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. يقول:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ..).. (أثمل.. والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ).. (أثمل.. يا امرأة من عمر جنوني.. وأصبّ الخمر كمن يرسم لوحة عشقٍ في وطنٍ يسكن في دفترْ).. (وأرى كيف يجيء الدرب على وقع خطانا).. (لبلاد سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم يأت بها الشاعر " ناظم علوش" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف وطنه المأساة التي تركت آثارها على حالته النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعر وتُرجماناً لنفسه الشاعرة، وترجمةً لصدق أحاسيسه وعواطفه.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري. هكذا تتجلى رهافة وجمالية لغة الشاعر "ناظم" في قوله:

(أثمل.. حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ.. تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ.) أو في قوله: ( والورد خرافةُ أشعاري.. يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ.. أعشقه رغم خريف العمر.). وفي قوله:

(لبلادِ لا فرق لديها إن عاش العاشقُ.. أو ماتْ.).

التكرار في القصيدة:

التكرار في الشعر:

إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم؛ فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافية، أو في تكرا الحرف أو اللفظ أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغية الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل النص.

لقد تكرر في النص الشعري "هذيان" تكرار لفظة (أَثْمَلُ). هذه اللفظة التي تحمل دلالات غياب الوعي، وهي هنا لا تعبر عن حالة سكر سببه الخمر كما أشرنا سابقا، وإنما حالة فرضتها كثرة المصائب وشدّتها على الشاعر لِمَا رآه من أهوالٍ حلت بشعبه ووطنه. وكذا الحال في تكرار لفظة (الْسُكْرُ). (حين أصادف في عينيك مساحة سُكْرٍ تأخذني لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ). أو في قوله: (حين تصير شفاهك مُثقلةً بلهيب السكّرْ.. وأعلّم أجوائي.. كيف يطير السكران على نسمة عشقٍ.. في وطنٍ يسكن في دفترْ).

فمفردتا (السكر والثمل) جاءتا عند الشاعر هنا تعبيراً للتأكيد عن تعب وطنه وشعبه الذين فقدا قدرتهما على تأمين الخبز أو الهروب من مجازر المستبد. أو للتعبير عن الصمت الذي حل بشفاه الوطن وأهله بسبب كثرة مآسيهم، ومع كل ذلك يظل الوطن عند أهله حتى لو شُرّدوا، حاضرا في ضمائرهم وعشقهم، كمذكرات سجلت في دفتر كي لا تغيب عن الروح والعقل معاً.

إن استخدام مفردتي "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ" جاءت في القصيدة أيضاً كشكل من أشكال القناع، إن للقناع معنىً خفيّاً وايحاءً، يحاول الشاعر عكس ما يدور في خلده عن طريق تقنيع ما يريد البوح به. وفي الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر القناع الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالشاعر غير قادر تحت مظلة القوى المستبدة القول بأن هذه القوى المستبدة هي من أتعبت الإنسان وأفقدته وعييه وأحاسيسه من شدّة القهر والظلم والجوع، فعبر عن حالة فقدان الوعي هذا، بقناع "الْثَمِلُ" و "الْسُكْرُ".  فنتيجة لعجز الشاعر عن إطلاق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة بسبب خوف الشاعر من سطوة الحاكم المستبد، دفعته الى توظيف القناع. وهذه التقنية نجدها أيضاً عند تكلمه عن خذلان الحكام العرب لنصرة فلسطين بقول: (رغم خريف العمر.. وقحط بنادقنا..رغم تساقط أزهار اللوز على أرض "فلسطين".. أثمل يا امرأة).

الموسيقى في القصيدة:

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسية والشعورية وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل، إلا أن الشاعر الحديث المتمكن من حرفته يستطيع أن يلغي تلك الفروقات الطفيفة ليجعل من موسيقى قصيدته رتماً واحداً متجانساً في مكوناته.

إن الشعر الحديث والمعاصر، القائم على التفعيلة، وتناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، يأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة الشاعر ناظم علوش" (الهذيان). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلته (فعل) من البحر المتدارك مع تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. يقول:

(حين أصادف في عينيك.. مساحة سُكْرٍ.. تأخذني.. لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ).

أو في بوح رتمه الحزين:

(لبلادٍ.. علمت الأطفال الدمع.. قبيل البسمات.. لبلاد.. سرقت فرحتنا.. ورمتها فوق الطرقاتْ.. لبلادِ.. لا فرق لديها إن عاش العاشقُ..أو ماتْ.).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

.................

هذيان / ناظم علوش

أثمل

حين أصادف في عينيك

مساحة سُكْرٍ

تأخذني

لبلاد تحلم بالخبز وبالمعبرْ

أثمل

حين تصير شفاهك

مُثقلةً بلهيب السكّرْ

وأعلّم أجوائي

كيف يطير السكران

على نسمة عشقٍ

في وطنٍ يسكن في دفترْ

أثمل

والورد خرافةُ أشعاري

يحملني لربيع صوفيّ النظرةِ

أعشقه

رغم خريف العمر

وقحط بنادقنا

رغم تساقط أزهار اللوز

على أرض (فلسطين)

أثمل يا امرأة

من عمر جنوني

وأصبّ الخمر

كم يرسم لوحة عشقٍ

تتلون أشيائي

في حضرة هيبتها

وأرى كيف يجيء الدرب

على وقع خطانا

ليس غريباً هذا الدرب

ويحملني القدح الخامس

لبلادٍ

علمت الأطفال الدمع

قبيل البسمات

لبلادٍ

سرقت فرحتنا

ورمتها فوق الطرقاتْ

لبلادِ

لا فرق لديها

إن عاش العاشقُ..

أو ماتْ.

قراءة نقدية في قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل)، للشاعرة الفلسطينية مقبولة عبد الحليم.

في مسار الشعر الإنساني، تقف القصيدة التي تبدأ بـ"يا شعر مالي عن هواك بديل" كنموذج للانغماس العميق في وعي الذات، وحوارها مع الجرح المتألم والمبنى العاطفي المرهف. هذا النص لا يحمل فقط كلمات، بل هو رحلة روحانية في دفق من الوجدان الملتبس بين الأمل والخوف، بين التعبير عن العشق والتساؤل عن قيمته في عالم مضطرب. تذوب الحروف هنا في سائل من العاطفة، حيث لا تكون القصيدة مجرد تسلسل لغوي أو سردي، بل هي صورة مرآوية للذات في لحظة صراعها مع الصمت والفقد.

مع توظيفها للغة بليغة تتمازج فيها الصور البلاغية والتكثيف الرمزي، تعيد الشاعرة تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، وبين الحب والفقد. فالقصيدة لا تروي قصة عشق، بل تتناغم مع قلق الوجود، محملة في طياتها تساؤلات فلسفية عن الكينونة، والزمن، واللامكان. في هذا السياق، يشكل "الحرف" ليس مجرد وسيلة نقل، بل هو الأساس الذي تتنفس من خلاله الروح، وتغذيه، حتى يصبح هو نفسه شاهداً على رحلة الوجود المتعثر بين الحزن والرجاء.

تدعونا هذه القصيدة إلى العودة إلى اللحظة الأولى التي يتحقق فيها الوجود من خلال الإحساس بالانتماء إلى الحرف والكلمة. هي دعوة لتأمل تلك العلاقة العضوية بين الإنسان ولغته، تلك التي قد تتوه في خضم الحياة اليومية، لكن يبقى الشعر هو المنفذ الأكثر صفاءً لفهم الوجود بكل تعقيداته.

كما يمثل النص الذي بين أيدينا تجسيداً حيّاً للحوار الداخلي بين الشاعرة مقبولة وحرفها الشعري، حيث يتبلور العشق الأبدي للكلمة باعتبارها ملاذاً وجدانياً ومتنفسًا روحيًا. يظهر الشاعر هنا وهو يمارس طقس المصالحة مع ذاته الشعرية، متنقلًا بين أتون المواجع وأمل الانبعاث، بلغة مشحونة بالعاطفة وملتزمة بميزان الإيقاع وجمال التصوير.

فمن ناحية البنية الموضوعية نجد أنّ هذه القصيدة تقوم على ثنائية أساسية: الفقد والحنين، التقهقر والانبعاث. الشاعرة تسائل نفسها عن تبدل الإحساس، متسائلةً عن ذبول النبض الشعري الذي كان يوماً ما فياضاً. هذا التأمل في أزمة الكتابة وذبول الإلهام، جعل النص مشدوداً بين قطبي اليأس والأمل. أما اللغة والصور البلاغية فقد اتسمت في النص برهافة حسية وعذوبة صوتية. اعتمدت الشاعرة مقبولة صوراً حية مثل: "جودي شعوراً حلّقي وتألقّي"، "كوني الندى والزهر"، حيث نجد أن المجاز اللغوي قد حضر بقوة، من خلال تشخيص الحرف، واستعارة الطبيعة (الندى، الزهر، الشهد) لإيصال الانفعال الداخلي.

تنتمي هذه الصور إلى إرث بلاغي كلاسيكي، لكنها جاءت منسوجة بخيط وجداني صادق، مما أنقذها من الوقوع في التكلف. حافظت القصيدة على إيقاع بحري موزون (قريب من البحر الكامل)، مع التزام نسبي بالقافية الموحدة، مما عزز الانسجام الموسيقي. غير أن القصيدة لم تكتفِ بالإيقاع الظاهري، بل غذّته بموسيقى داخلية نابعة من تكرار الحروف الموحية (مثل السين واللام)، والتي تعكس انسياب العاطفة الحزينة وتوترها الدفين.

في هذا السياق لا يمككنا إغفال ما كشفته القصيدة عن رؤية فلسفية للوجود الشعري، إذ يصبح الشعر هنا كينونة قائمة بذاتها، لا مجرد وسيلة للتعبير. هو الوطن الذي يحتضن الروح، والمرفأ الأخير في زمن الصمت الثقيل، كما صورته الشاعرة مقبولة عبد الحليم:

"لكنه الصمت المقيت وأهله / صوت الصدى في الخافقين ثقيل"

ومن هنا يحضر الوجود الشعري كجوهر، لا كظاهرة عابرة.

من الواضح أنّ الأسلوب يغلب عليه الطابع الإنشائي (نداء، أمر، استفهام)، وهو ما ينسجم مع الجو العاطفي المتوتر للنص. فهناك شوق مُلِّح، رغبة في استعادة لحظة الصفاء الشعري، مع إدراك مأساوي لصعوبة ذلك. وهذا الانفعال الأصيل يحمي النص من السقوط في سطحية التعبير.

بمنهج أقرب إلى النزعة الرومانتيكية، ينجح الشاعر في إعادة تأسيس العلاقة الوجودية بين الذات والحرف. هناك وفاءٌ نادر للحرف باعتباره صورة أخرى للنفس، ورفضٌ صامت للانصياع للصمت أو القنوط.

على المستوى الجمالي، تمكن النص من المحافظة على توازن دقيق بين العفوية والإحكام، بين الانسياب العاطفي والإيقاع البنائي. ولعل هذه القصيدة تذكرنا بما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "اللغة" بوصفها "منزل الوجود"، فالشاعرة هنا تحتمي في بيتها اللغوي من برد العالم وقسوته. كما تُحاكي القصيدة روح الرومانسيين أمثال ووردزورث، الذين رأوا في الشعر استجابة طبيعية لعواطف متأججة عبر لغة موزونة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل) للشاعر مقبولة عبد الحليم مثالاً على ما يمكن تسميته "الوجد الشعري المأزوم"، حيث تتحرك الشاعرة في مساحة فاصلة بين حلم الكتابة وكابوس الفناء الروحي. ومن خلال إيقاع متماسك، وصور متدفقة، ينجح في استبقاء حرارة الانفعال رغم ظلال الصمت المخيم.

ومع ذلك، تظل الحاجة قائمة إلى توسيع مساحة الابتكار البلاغي، وتكثيف المشاهد الشعرية، بما يعزز من فرادة التجربة ويجنب القصيدة الوقوع في التقريرية العاطفية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين.

......................

يا شعر مالي عن هواك بديل

يا شعر مالي عن هواك بديلُ

والحرف يسري  في دمي ويقول

*

هل قد تصحّر فيكِ إحساس طغى

قد كان مثل الشهد حين يسيل

*

جودي شعورًا حلّقي وتألقي

رغم المواجع يَعْدُك التعليل

*

مهما ابتعدت وكنت أنت قصيّة

فأنا رفيفك للوصال عجول

*

قد كان نبضك بالقصيدة مولعًا

ماذا جرى كي يعتريه ذبول !!

*

أنا قد رأيت الدمع منك مواسيًا

وطنًا وآهًا في نِداك تطول

*

لكنه الصمت المقيت وأهله

صوت الصدى في الخافقين ثقيل

*

ظلي على عشق التراب وأفرطي

واملي الدنا أملًا وليس يزول

*

كوني الندى والزهر حيث تولهت

فيه الجنائن والشذا مسدول

*

أوجاع فكرك طببيها دلّلي

روحًا عرفتُ وعشقها التدليل

*

رغم المواجع لن تغادر لحظة

فيها نحلّـق للسما ونجول

*

سحرًا جنونًا  يعترينا  يحتفي

فينا تعالي فالجنون جميل

*

فحضنته ناغيته حتى انتشى

وقصيدة صرنا وساد ذهول

*

يا حرف أنت المشتهى والمنتهى

فلقد عشقتك وانتهى التأويل

***

الشاعرة مقبولة عبد الحليم

 

(أوقفني وقال لي إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي. وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وقال لي العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه. وقال لي إذا لم أسووصفك وقلبك إلا على رؤيتي فما تصنع بالمسألة، أتسألني أن أسفر وقد أسفرت أم تسألني أن أحتجب فإلى من تفيض....)

محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف والمخاطبات؛ دار الكتب العلمية بيروت،1417 هـ ــ 1997 م.

***

اعتبر فيلسوف الكينونة مارتن هايدغر اللغة مسكن الوجود، والعالم مقرّ سكن الإنسان بما هو كينونة (Da-sein) ملقاة في معتركه (،هذا العالم) وهي لا تفتأ تعيش تجربة الوجود في العالم (être dans le monde). فالعالم حسب هذه القراءة انبجاس وانفراج، في حين تظلّ الأرض هي العتمة والظُلمة التي تحتاج دوما إلى الاستنارة والإظهار؛ ولعل اللغة هي التي تقوم بهذه الاستنارة بالكشف والإظهار للعالم فيها.[1] بصدد هذه المسألة، ذهب هايدغر أبعد ممّا فعل فيتغنشتاين، حيث عمد إلى ترسيخ استقلالية الوجود، في حركيته انكشافه وانحجابه، عن أيّة علاقة تمثّلية مع اللغة.[2] فكيف سيعيد هذا الأخير مشكلة علاقة اللغة بالعالم إلى أرضيتها الأصلية: أرضية الشعر؟

يتحقق الشعر عندما ينادي الشاعر أشياء العالم للظهور، فينضم الكلام عنها ليجعلها تحضر في قصيده. إنّ الشاعر إذ ينادي على هذه الأشياء، إنما يصغي إليها من حيث كونه لا يتكلم إلاّ بمقدار ما يصغي إلى نداء الوجود (يقول: يتكلم الإنسان بقدار ما يجيب عن الكلام. والإجابة هي الإصغاء. فالإصغاء يحدث حين يتحقّق الصمت).

إنّ الاصغاء يحتاج إلى صمت يسبق فعل المناداة والمناشدة، بذلك لا يقول الشاعر كلامه في القصيد إلا وهو يرتحل جيئة ذهابا بين صمت اصغائي وتكلّم انشادي. هذا ما يسمى في عرف هايدغر لغة الوجود التي هي اصغاء وانشاد. وهذه التأرجح التبادلي لا يتحقق إلاّ في تلك القصائد الشعرية التي تتميز بإصغاء جيد للوجود حضور قوي لصداه، بحيث نستطيع دوما نحن القراء قراءتها وانشادها حتى بدون حاجة إلى ذكر اسم كاتبها.

فإذن، يوجد لدى فيلسوف الكينونة ألف سبب وسبب لجعل الشعر لغة الوجود. ذلك أنّ مقام الشعر، هو أصلا مقام اصغاء، يسبق قول القصيد، لا بل يشرطه. والكلام بوصفه قصيدة، لا يكون شعرا إلاّ متى كان صاحبه قادرا على أن يملي قولا فريدا يسميه: "القصيدة"؛ بحيث إنّ هذا القول هو ما سيظل وسيبقى دوما شعرا طالما هو فريد من نوعه، لأنّه قول لا يقول كلّ مرّة سوى القول ذاته (يقول: كل نص شعري يتكلم انطلاقا من هذا القول الشعري الفريد، ولا يقول ـ في كل مرة ـ سوى هذا القول).

ما يحدث في القصيد شيء عجيب متى تؤمّل من هذا الاعتبار الاشاري الذي يقرأ به هايدغر ماهية الشعر. ولعل هذا ما يدعونا إلى طرح السؤال مرّة أخرى: وهذه القصيدة التي يتحدث عنها هايدغر، ترى ما هي على التحقيق؟

في نص لهايدغر حول "الكلام في القول الشعري" يتحدث عن القاء الشعر، ويقول: "إنّ شاعرا عظيما لا يكون كذلك إلاّ بما يلقيه من قول شعري فريد". (la parole dans l’élément du poème, pp41.42)

بماذا يلقي الشاعر العظيم حسب هذا المنظور؟ يلقي بالفرادة في القول. تميز كبار الشعراء يكمن في اجتراحهم لمسالك ولدروب جديدة في أقوالهم الشعرية. يتفنن الشاعر الكبير في اظهار فرادة قوله الشعري، واخص فرادة يمكن أن تميز قولا شعريا كبيرا هي أن يقول كلّ شيء دفعة واحدة (البلاغ). غير أنّ كل بلاغ يحتاج إلى بيان وتبيين، وعندما يصل هذا البلاغ إلى أوج بيانه يصبح إظهارا للحال والأحوال، وهنا ـ حسب هايدغرـ تفعل اللغة أفاعلها بصاحب القول، فتقحم فكره في حوار شديد الانفعال مع القصيد الشعري، وكون قوله حوارا بين الفكر والقول الشعري.

ينقلنا هايدغر عبر قراءته هذه لشعر تراكل وهولدرلن إلى تلك التخوم التي يلتقي فيها الشعر العظيم مع الفكر الأصيل. يجعل هذا اللقاء بين الفكر والشعر الكلام حوارا ومراوحة بين البيان البليغ للقصيد والتفكير الأصيل. اللغة هنا، بما هي مسكن الوجود، إنّما هي المقام الذي ينبغي أن يهتدي الناس إلى الإقامة فيه (يقول: "يبتغي الحوار بين الفكر والشعر استثارة الكلام وانطاقه حتى يتعلم الفانون كيف يهتدون إلى الإقامة في الكلام من جديد).

مقام الشعر إذن يعود إلى هذا الحوار بين الفكر والقصيد، مادام حوار الفكر الصادق مع القول الشعري لا يمكن أن ينتمي إلى غير الشعر إلاّ إذا كان تفكيرا غير أصيل. يطبق هايدغر هذه الفرضية على قراءة مقاطع شعرية لتراكل وهولدرلن، فيخرج منها بحقيقة مثيرة بخصوص كنه الشعر: لا يمكن أن يوصف الشعر Dichtung بأنّه موضوع قصدي، إذ لا يتولد عن أيّ فعل يمنح المعنى. ولعل بورخيس قريب من توصيف هذا الأمر حين تحدث عن لغز الشعر. وهذا اللغز هو ما يكشف هايدغر عن كنه، حين اعتبر الشعر شيئا نتلقاه فقط ولا نتعلمه، وهو بذلك صدى روح غير بشرية تسري في كلام الشعراء.

قد تعتري الصدمة النقاد، الذين يبحثون عن التفسيرات المجازية لأساليب الشعراء الملغزة، عندما يسمعون بأنّ الشاعر نفسه ليس صاحب قوله الشعري. ففي هذه الحالة، لم تعد أهمية الشعر تعزى إلى الفعالية الإنسانية، بل إلى شيء غريب، يقصد به هايدغر حركة الانجذاب، أو تلك "النشوة التي يكابد فيها الوعي استعمال الكلمات على غير مقتضى أصول الكلام المعتاد (التعسف المجازي)".[3]

أينما كان الشعر، ثمة الكينونة. فنشيد الشاعر إصغاء أصيل لهذه الكينونة. ولطالما كلام الشعر لا يأتي إلاّ خلال صمت هذا الإصغاءً، فالشعر بذلك هو الأكثر قدرة على التقاط نداء الوجود الذي سيفصح عن ذاته، رغم هذه العرضة الدائمة لانحجابه عن مدى الرؤية كل مرة، ليحمل الإنسان موته فيها والبدء من جديد.

إن الشعر بوصفه هذه «القدرة الجوهرية لإقامة الكينونة في اللغة» هو ما يعني لدى الشاعر هُولدرلِن إنّ «الإنسان يسكن العالم على نحو شعري». فالعبور الشعري للكينونة خلال نضم الكلام يتم عبر اللغة بصفتها العنصر الدائم للإنسان في العالم. «اللغة هي مستقر الكينونة»، وحضور الكينونة لا يتمظهر إلا في القصيد، لأن فعل القول الأصلي هو الشعر. هكذا يفسر سؤال هُولدرلِن «لماذا الشعراء في زمن الضيق؟» كلّ شيء بخصوص هذه الحاجة الدائمة إلى الشعر؛ والضرورة الفلسفية هي التي تفرض على الشعراء في مثل هذا الزمن، «زمن الضيق»، أن يقولوا "جوهر الشعر". فالشعر يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، وما اقتصر الناس على استعماله للكلام: أي العبور عبر القصيد إلى العالم. بالنسبة لـ«هيدغر» كل شعر يقول جوهره، وفي نفس الوقت الجوهر الكشّاف للغة، أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[4]

تُبرز القصيدة قوّتها وقدرتها على إظهار الأشياء بالكشف عنها في العالم؛ إنها لا تفعل غير أن تنير العالم أو تسمح بذلك على الأقل، وهذه الخاصية هي ما يمنحها سماكة الأرض وقوّة التأسيس. إنّ الشعر، كما يقول «هيدغر»، هو "اللغة الأصلية" للشعب، أي الفنّ الذي يروي ما تكون اللغة قد أوصلته في صمت تراكمها وتكاثرها الأوّلي إلى المنفتح. وهذا الشعر هو التسمية التأسيسية للكائن ولجوهر كلّ الأشياء (وهو ليس قولا تعسّفيا) التي ستنكشف فيما بعد. إنّه ما يجعل اللغة قادرة على تحقيق (عندما تكون الكلمة الشعرية لغتها الإشارية المسموعة) إقامة الإنسان في العالم على نحو شاعري، عندما تصبح العبارة إشارة رحبة واسعة لا تضيق.

يفتح القصيد الآفاق الرحبة للإقامة في الأرض تحت رعاية السماء، مما يعطي اللغة الأهمية البالغة في إظهار ما يختفي ويتحجّب في هذا الوجود.[5] فأن نسمي الأشياء بإنشاد الشعر يعني، حسب «هيدغر»، أن ندع هذه الأشياء توجد؛ وهي القدرة التي نُسيت تماما من قبل اللغة الأداتية. فأن يُظهر الشعرُ الأشياء كما لو أنّها أعيدت إلى فجر ولادتها، أو كما لو أنّنا "نراها للمرة الأولى"، هو ما يؤكّد قوته على الكشف والإظهار. وهذه القدرة ليست تتم بفضل خيال الشاعر، بل تنتسب إلى الكشف الذي استكملته اللغة قبل ذلك في صمت. وهنا ما على الشاعر سوى أن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت.

على هذا الأساس يمكن تفسير الاهتمام القليل الذي يوليه «هيدغر» لذاتية الشاعر الذي يعظّم حقيقة أرض وحقيقة عالم، بدلا من تجربته. فليس الشاعر هو من يستعمل اللغة، بل اللغة هي من تستعمل الشاعر لتستنفد مهماتها بنجاح. فليس الشعر موسيقى اللغة فقط، أو قدرتها على الكشف فحسب، وإنّما حقيقته تكمن أيضا في الصور التي يولّها بطريقته الاشارية. فالصورة الشعرية ليست نسخة منحطة للواقع، ولا علاقة تماثلية فيها بين المحسوس والمعقول، ولا تخصيصا تجريبيا لرسم خيالي أنتجته ذاتية استعلائية.

إنّ الصورة الشعرية مجرّد طريقة في إيضاح العالم وإنارته، بحيث تمكّننا من رؤية شيء ما بداخله. إنّها تّظهر العالم الذي نعيش بداخله، أي عالمنا اليومي الذي تسعفنا في التواجد فيه؛ وهي إذ تسمح بذلك، تظهره لنا بطريقة خاصّة. إنّها تكشف اللامرئي فيه، أي لغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة والأكثر وضوحا. إنّها، بالأحرى، تخفي ما يتلخّص من العالم العادي المعتاد لنا، فتكون تضمينات لا مرئية للغريب في مظهر المألوف. لكن ما هو هذا الغريب؟ هل هو قضية الفكر الأساسية حقّا؟

يعني عند «هيدغر» انسحاب الكائن المقدّس من عالمنا المعاصر؛ وهو ما يتخذ معنى انسحاب الإله. فالصورة الشعرية، هنا، تعرض الغرابة فجأة ولا تفسّر شيئا، بل وليس من طبيعتها أن تفسّر. هنا يلجأ «هيدغر» مرّة أخرى إلى شاعره الشهير «هولدرلين»، خاصّة في كلامه عن اللغة الشعرية والمقدّس الإله المتواري؛ معتبرا الشعراء، من هذا الطراز، هم رعاة الوجود وحماته الذين يقدرون على قوله شعرا. وهذا هو معنى قول «هولدرلين»: "ما يبقى يؤسّسه الشعراء".

إنّ الشعر لا يؤسّس فقط الوجود، ولكن يؤسّس التاريخ أيضا. فاللغة الشعرية بما هي فضاء رحب، ستكون هي الإقامة الجليلة الجديرة باستقبال هذا اللغز المحيّر والغريب الذي استعصى على طُرقنا المعتادة في استعمال اللغة.[6] فوحدها لغة الشاعر يتأتى عبرها قول ما يكشف عنه هذا الغريب. إنّ الشاعر، باعتباره هذه الكينونة التي يصدح الوجود شعرا عبره، هو الراعي الذي يقول ما يظهر من انكشاف الوجود وتجلّيه في العالم. فليس هناك شعرٌ، إذاً، كما ليس هناك فكر، دون هذه العلاقة الوطيدة التي يحققها الشاعر ويرعاها بين اللغة والوجود.

تكمن مهمّة الشاعر، حسب هذا المنظور، في أن يسائل المقدّس ويطالب به، لا أن يدّعي نبوة معيّنة ووعد بخلاص ما. إنّه الكائن الذي بمكنته أن يعبّر فقط عن شقاء معيّن، شقاء عصره، لا شقاء حياته الخاصّة. لذا، فلغة الشعرية مقدّسة بالمعنى الذي يفيد كونها نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته ناجعة وليست هروبا من نوع سيكولوجي. إنّ حزن الشاعر ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه، كلّ هذه الإحساسات إنّما تهبط إلى أعماق عصره لتتغذّى من ينابيعه.

اللغة، ها هنا، أكبر من أن تكون أداة تعبير ونقل للمعلومة عن العالم فقط، بل هي تدفّق جديد لتاريخ الكينونة. إنّها ليست تصويرية ولا تخيلية، بل إشارية وصوفية. وتأكيدا لدور اللغة في انجاز هذا التفكير لمهمّته بخصوص الأسئلة الأساسية للفكر، اعتبر «هيدغر»، في معرض حديثه الشاعر جورج تراكل (George Trakl) أنّه لو أمكننا الاستماع اليه وهو يلقي إحدى أروع قصائده بنفسه، فإنّنا سنصغي إليه بكل طواعية وهو ينشدها، متخلّين عن أية رغبة في إدراكها بوضوح مباشر.[7]

فالبيّن مما سبق أنّ الشعر هو ما يضطلع بمهمة التفكير في الوجود، وإذ يسمح بذلك فإنّ هذه المهمة لا يحققها سوى الشعراء الكبار الذين ينيرون الوجود ويظهرونه على حقيقته بكل أصالة شعرية. لذلك لن يكون مهما عدد الذين يفهمون شعر الشعراء، بالقدر الذي يهم نوعيتهم وأصالة تفكيرهم وقدرتهم على الإصغاء لنشيد الشعر وهو يلقى على مسامعهم؛ فإلى هؤلاء الذين يولون الشعر أهميته القصوى التي يستحقها كان ينتمي الفيلسوف مارتن هايدغر.[8]

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

.......................

[1] يستعمل هيدغر "الأرض" ولا يقصد بها الطبيعة التي خضعت للآلية الحسابية والموضعة التقنية والعلمية خاصّة في العصور الحديثة؛ حيث تم إفراغها من أسرارها حتى صارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت جميع أسرارها، بينما الأرض بقية غامضة نوعا ما، لا تظهر إلاّ لتنسحب من جديد؛ فهي اللاانكشاف واللاتحجّب الذي يستعصي بطبيعته على أيّ انكشاف.  أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962, p.237.

[2] - Heidegger (M) : En guise de contribution à la grammaire et à l’étymologie du mot « être » ; Introduction en la métaphysique (chap. 2), tr et commenté par Pascal David; éd du Seuil, Paris, p.67.

[3] تيموثي كلارك، المعتمد الأدبي في التفكيك: هايدغر، بلانشو، دريدا؛ ترجمة حسام نايل، مراجعة محم بريري، ط 1، (المركز القومي للترجمة: القاهرة، 2011)، ص 99,

[4] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

[5] تقع قناعة فكرية في صلب تفكير هيدغر مفادها أنّ حقيقة الوجود لا تمنح نفسها لإرادة الهيمنة لدى الإنسان. فلئن كان الموجود معرّض دوما للاستغلال، فإنّ الإنسان بحكم إصراره على أن يبقى قوة مهيمنة لا يتوانى عن تعريض نفسه للإنهاك كما يحدث الآن في العصر الراهن. وعلى خلاف ذلك، يلزم الإنسان أن يتحول عن النمط الحديث للكينونة إلى نمط مختلف جديد يستطيع فيها، باعتباره راعيا للوجود، أن يتعلّم كيف يقيم بجوار الكينونة. يتسم مفهومه للإقامة هذه بطابع روحاني، لأنّه عندما تتعرض هذه "الإقامة الروحية في الوجود" للتصحّر غالبا ما نكون أمام ما يسمّيه هيدغر في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا ب"الانحطاط الروحي للأرض" الذي يسم عصرنا الراهن باعتباره عصر اكتمال التقنية بما هي ميتافيزيقا.  أنظر بهذا الخصوص:

-  Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; traduction par Gilbert Kahn, éd Gallimard, Paris, 1967, p.68.

[6] لقد أعلى هيدغر من شأن الشعر معتبرا الفن في أرقى صوره شعر؛ ولأنّ الفن يهيّئا لانكشاف الحقيقة، حقيقة الوجود، فإنّ المهمة الأساسية للفن الشعري تتمثّل في صياغة الحقيقة شعريا. تكشف الحقيقة عن نفسها شعريا، وهذا ما يجعلها قصيدة (Poème)، واللغة ذاتها هي القصيدة الأصل، حيث يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله.  والأرض هو أساس الفنّ ومأواه ومستقرّه، وهذه الأرض نفسها هي اللغة باعتبارها مأوى الوجود؛ والشعر بما هو، فنّ أصيل، يحاول تأسيس عالم هو بمثابة إنارة للأرض التي هي اللغة الأصلية، فغاية الشعر هنا أن يحاول حمل الوجود على الظهور إلى حيّز الظهور والانكشاف رغم استعصائه وتواريه الدائم. أنظر بهذا الخصوص:

Heidegger (M): Chemins qui ne mènent nulle part; éd Gallimard, Paris, 1987, p.28-29.

[7]  - Heidegger (M): Question 4; nrf, éd Gallimard, 1976, p.50.

[8] مارتن هيدغر، التقنية، الحقيقة، الوجود؛ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، نشرة المركز الثقافي العربي، ط الأولى، بيروت / الدار البيضاء، 1995، ص 38.

 

زعم (ذو القُروح) في مساقه السابق أنَّه كان للمناكفة بين شرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) دَورها في اختلافهم في شرح شِعره؛ وذلك للمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في شرح البيت صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. فسألته:

ـ ماذا تقصد بالصَّرْف والعَدْل؟

ـ لقد أكثر اللُّغويُّون في تفسير هذا التعبير العَرَبي( )، مع أنَّ معناه يبدو مجازًا واضحًا؛ يشير إلى عدم قبول أيِّ مقابل، لا صَرْفًا ماليًّا للقِيمة، ولا عَدْلًا مِثْليًّا عينيًّا، على سبيل المقايضة. وكثيرًا ما يُعقِّد هؤلاء الأعاجم المسائل الواضحات حتى تستحيل إلى مستغلقات، وكأنها بلغةٍ غير العَرَبيَّة.

ـ لكن ما شأن العَرَب بالصَّرْف بمعناه المالي؟

ـ ما أكثر ما نبالغ في تصوُّر تخلُّف العَرَب قبل الإسلام وعُزلتهم عن شؤون الحضارة! على أنَّ من شواهد النُّحاة، قول الشاعر:

تَنْفِي يداها الحَصَى في كُلِّ هاجرةٍ

نَفْيَ الدَّراهيمِ تنقادُ الصياريفِ

وقال (أَوس بن حَجَر):

وما عَدَلَتْ نَفْسِي بِنَفْسِكَ سَيِّدًا

سَمِعْتُ بِهِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ والأَدَمْ

قيل معناه: بين (العِراق) و(اليَمَن)؛ لأنَّ مبايعاتهم في العِراق بالدَّراهم، وفي اليَمَن بالمقايضة. وقال (أُحَيحَة بن الجُلاح):

فما هِبْرِزِيٌّ مِن دَنانيرِ أَيْلَةٍ

بِأَيْـدِي الوُشاةِ ناصِعٌ يَتَأَكَّلُ

ـ أخرجتنا عن الموضوع قبل أن ندخل فيه!

ـ لا تسأل كي لا نخرج! كنتُ أقول: إنَّ (المتنبِّي) ما ينفكُّ يتلاعب بممدوحيه وشُرَّاح شِعره معًا. ومن ذٰلك ما تقِف عليه في قصيدته يهنِّئ، ظاهرًا، (كافورًا الإخشيدي)، مستهِلًّا بقوله:

إِنَّما التَّهنِئاتُ لِلأَكفاءِ

ولِـمَنْ يَدَّني مِنَ البُعَداءِ

فيصافح كافورًا بهذا المطلع الهجائي، قائلًا: إنه ليس بكُفء للتهنئة أصلًا؛ فإنَّما التهنئات للأكفاء! ومع ذلك، مكثَ بعض الشُّرَّاح هنا ليخرِّجوا هذا البيت، زاعمين أنه إنَّما قصدَ نفسه، وأنَّه ليس بكُفءٍ لكافور ليهنِّئه. على الرغم من قوله: «التَّهنِئاتُ لِلأكفاء»، وليس «من الأكفاء». ثمَّ أعقب هذا بأبياتٍ فيها بعض التمويه. عاودَ بعدها الكرَّة في هجاءٍ صريح:

وبِمِسْكٍ يُكْنَى بِهِ لَيسَ بِالمِسـْ

ـكِ ولَكِنَّـهُ أَريجُ الثَّـناءِ

فكُنية كافور بأبي المِسْك لا جدوى منها، لأنه لا مِسْك له، وإنَّما ثناء الشاعر هو الجدير بأن يكون مِسْكًا لمن لا مِسْك له. مُتْبِعًا ذلك بأبياتٍ تبدو صريحةً في سخريته وتهكُّمه:

تَفضحُ الشَّمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَّمـ

ــسُ بِشَمْسٍ مُـنـيرَةٍ سَـوداءِ

مَن لِبِيْضِ المُـلوكِ أَن تُـبْدِلَ اللَـو

نَ بِلَـونِ الأُسـتاذِ وَالسَّحـناءِ

يـا رَجـاءَ العُـيونِ في كُـلِّ أَرضٍ

لَـم يَكُن غَيرَ أَن أَراكَ رَجائي!

هكذا كان صنيع (أبي الطَّيِّب). ولا عجب، وإنَّما العجب من صنيع الشُّرَّاح؛ لما يفتعلونه من معانٍ من تلقاء أنفسهم، وإنْ ابتعدت عن منطوق الخِطاب الشِّعري.

ـ أهذا كلُّ ما هنالك؟

ـ لا، بل هناك بعض الضَّلالات الدلاليَّة، البيئيَّة بصفةٍ خاصَّة.

ـ مثل ماذا؟

ـ انظر مثلًا إلى ما كان يورده (ابن المستوفي) من معلومات، كغيره من القدماء، تحتاج إلى تدقيق عِلمي. من هذا ما ورد في شرح بيت (المتنبِّي):

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

قالوا في شروحهم: «الخِرِّيت: الدَّليل. والتَّوَى: الهلاك. والحِرباء: دُويبة تستقبل الشمس فتدور معها حيث دارت، وهو ذكَر أُمِّ حُبَيْن، أكبر من العضاة [كذا! والصواب: العظاية] شيئًا.»(2) هكذا قالوا.

ـ (ابن المستوفي) أم (ابن المستوفى)؟ بالياء أم بالألف المقصورة؟

ـ (ابن المستوفي) بالياء المنقوطة، لا بالألف المقصورة، كما يُكتَب عادةً في الطبعات المِصْريَّة: (ابن المستوفى)، دأبَ المطابع المِصْريَّة التي لا تنقط الياء كسائر العَرَب. وهذا ما جعل الإذاعيَّ المِصْريَّ المعروف بإذاعة الرياض (عبدالملك عبدالرحيم، رحمه الله) في تسجيله الصوتي لـ«ديوان أبي تمَّام» بشرح (الخطيب التبريزي)- على موقع «يوتيوب»، ولعلَّ ذلك التسجيل كان لـ(مكتبة الرياض الناطقة)- يُرَدِّد اسمه على أنه (ابن المستوفَى)!

ـ ولولا شهرة الشاعر والشارح لربما قرأ العنوان أيضًا هكذا: «ديوان أبَى تمَّام بشرح الخطيب التبريزَى»! وهو معذور- قراءةً حرفيَّةً- لأنَّ الياءات مطبوعة أمامه ألفات؛ بهذا الرسم بلا إعجام! لكن عُد بنا إلى ما كنَّا فيه!

ـ ليسمح لنا (ابن المستوفي) ورفقاؤه من شُرَّاح شِعر (المتنبِّي) بالمداخلة، لا مناكفة هاهنا، كما انتقدنا ذلك لدَى بعضهم أحيانًا، ولكن لاستدراكٍ في ما ورد في شرح البيت. ذلك أنَّنا نعرف في بيئاتنا الريفيَّة ما أشار إليه الشاعر في البيت. وقد كان التأمُّل في أحوال البيئة ومخلوقاتها شُغل الأطفال الشاغل قديمًا، يعرفون عنها كما يعرف الأطفال اليوم عن الألعاب الإلكترونيَّة. ولذا يبدو أنَّ وصف الشُّراح فيه ما فيه.

ـ ماذا فيه؟

ـ  أوَّلًا، التصور العامُّ أنَّ الحِرباء- الذي يُعرف عِلميًّا باسم Chamaeleo Calyptratus- يتلوَّن بحسب المحيط الذي يكون فيه؛ فإنْ كان على غُصنٍ أخضر صار لونه أخضر، وإنْ أصبح على جذع شجرة ذي لون بُنِّي، استحال إلى لون بُنِّي، وهكذا، هو تصوُّر من الناحية العلميَّة غير دقيق، فتلوُّنه غير خاضع للون البيئة المحيطة، بل لعوامل فيسيولجيَّة خاصَّة به. وقد أشار المتنبِّي مع التلوُّن إلى «خَوف التَّوَى». وهو ما لم يلحظه الشُّرَّاح. ذلك أنَّ الناس- كما في (جبال فَيْفاء)- يضربون بالحِرباء المثَل في الخوف والتوجُّس؛ لطريقته في الحركة، حين يمدُّ رِجله الأمامية مرارًا قبل أن يُمسِك بغُصن من فروع النَّبت أو الشَّجَر، وهكذا في خطواته التالية. وربما زعموا أنَّه إنَّما يفعل ذلك خوفًا من أن يخسف الله به الأرض، وذلك هو سبب تردُّده وبُطئه في السَّير، إلَّا أنَّنا لم نحفظ عنهم قِصَّة محتملة حول ذلك. والعَرَب تضرب بالحِرباء المَثَل في الرَّجُل الحازم؛ قالوا: لأَنَّ الحِرْبَاء لا تُفارق رجله الغُصْنَ الأوَّلَ حتى تَثْبُتَ على الغُصْن الآخَر، من نحو ما وصفنا أعلاه. وقد وصف (ابن ظَفَر الصِّقِلِّي، ـ565هـ)(3) الحِرْباء- خلال سرده حكاية (عبدالملك بن مروان) مع وزرائه، إذ تمرَّد عليه (عمرو بن سعيد العاص)، في غضون الحملة على (عبدالله بن الزُّبير)- فقال أحد الوزراء: «وددتُ والله أني كنت حِرباء على عودٍ من أعواد تهامة، حتى تنقضي هذه الفِتَن.»  ولا يبدو في تمنِّي القائل: «وددتُ أني كنتُ حِرْباء على عُود...»، إلَّا لما أشرنا إليه من تصوُّرٍ شَعبيِّ أنَّ الحِرباء إنَّما يتوخَّى الحذَر، ولا يُُقْدِم على خطوة حتى يحسب حسابها في أناةٍ وتردُّد! غير أنَّ الصِّقِلِّيَّ بدَوره يشير إلى وصف الحرباء المتوارث، كما وقع في مثل ما وقع فيه شراح بيت أبي الطَّيب، من الزعم أنه يدور مع الشمس. ولعلَّ هذا يتعلَّق بنوع من الحرابي؛ ذلك أننا لا نعرف عن هذه الدُّوَيبة أنها تدور مع الشمس حيث دارت، كما زعموا، وإنَّما هذا معروف في بعض النباتات، كذلك النبات الذي يُسمى (عبَّاد الشمس)، أو (دوَّار الشمس). على أنَّ من أسماء الحِرباء في بعض بيئات (الخليج العَرَبي): محارب الشمس. وقد يكون ما وصفوا ملحوظًا في حرابي الصحراء خاصَّة.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................................

(1)  يُنظر مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (صرف).

(2) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 399.

(3) (1999)، السُّلوانيَّات: سُلوان المطاع في عدوان الأتباع، تحقيق: أيمن عبدالجبَّار البحيري، (القاهرة: الآفاق العَرَبيَّة)، 29.

ويُلحظ أنَّ المحقِّق ذكر في ترجمة (الصِّقلِّي) أنَّ اسمه «عبدالله بن محمَّد»، (تُنظَر: ص9)، مخالفًا ما ورد على الغلاف، من أنه: «أبو عبدالله محمَّد»!  والصواب أنه: كما جاء في المخطوط، (تُنظَر: ص10): محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر.  وإنَّما قال المؤلِّف: «قال الفقير إلى الله الغني به محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر المَكِّي...»، فسمَّاه المحقِّق: «عبدالله بن محمَّد...»! وهو: «أبو عبدالله محمَّد بن أبي محمَّد عبدالله بن محمَّد بن ظَفَر الصِّقلِّي.» وكذا ذكر محقِّق كتابه أنَّ وفاته «570هـ»، وعلى الغلاف كتب تاريخ الوفاة «568هـ»! والأرجح ما ذكرناها. (وتُنظَر ترجمته في: جمهرة أشعار الصِّقليِّين: تحقيق ودراسة، أسامة اختيار، (بيروت: دار المقتبس، 2016)،  198- 209).

 

دِراسَةٌ نَقديَّةٌ في سَرديَّاتِ الوَجع والمُفارَقةِ القِصصيَّةِ

تَقديـمٌ: لا شكَّ أنَّ اللُّغة التعبيرية للكاتب في جنس التسريد القصصي أو أي جنسٍ أدبي آخر على الرغم من كونها مهمَّةُ جدَّاً في صيانة معمارية النصِّ الأدبي وبلاغته الأُسلوبية من حيث بنية الشكل والمضمون والمُعجم، بيدَ أنَّها لم تكن كافية العمل ما لم تلك اللُّغة الفنيَّة قادرةً على أداء وظائفها البنائية والتركيبية، ومهيمنةً على موحياتها الدلاليَّة والمعنويَّة القريبة والبعيدة بإتقانٍ فريدٍ وعالٍ.

والتي من خلالها يجوس القارئ أو المتلقِّي أرض هذه السردية القصصية ويتمكَّن من جَني ثمار حراثتها وبذارها فكريَّاً ودلاليَّاً؛ ليعيش أجواء ومناخات تلك اللَّحظات الروحية الهاربة التي أنتجها مضمون النصِّ الأدبي على شكل حكاياتٍ وأفكارٍ وقصصٍ سرديةٍ مُتجدِّدةٍ ومتواليةٍ تركت آثارها النفسية المُذهلة وانطباعاتها الكليَّة الراسخة، وأظهرت إسقاطاتها الواقعية المُتراتبة على ذهنية القارئ الواعي، وهيمنت فنيَّاً وجمالياً على مَساقط ظلِّه الفكريَّة المُتعدِّدة، واستحوذت على مِساحاتٍ لونيةٍ واسعةٍ من لَدُنِ اهتماماته الذاتية والفكرية ووعيه بتجلِّيات الخطاب السردي الموجه إليه.

إنَّ هذه الفيوضات الّلُّغوية التي أفرزها جماليات القراءة الصحيحة وآليات التلقِّي المعرفي الحديث هي ما تشي به قصص مدوَّنة (خيانةُ الناَّطورِ) للكاتبِ والباحث والأديب والقاصِّ العراقي المثابر لطيف عبد سالم. والِّذي اتَّخذ من أفياء اللُّغة السرديَّة وظلالها المعرفية أداةً فنيةً طيِّعةً في التمكُّن من أدواته التعبيرية القصصية كمبدعٍ واعدٍ بالجمالِ أحكم قبضه الفنيَّة من خلالها على عناصر القصَّة الأساسية، وأركانها الفنيًّة المهمَّة، والتي تمثَّلت في (الشَّخصيَّات الفواعلية، والحِبكة التي هي سلسلة الأحداث الفعليَّة الثابتة والمُتحركة للصراع، ووحدتا البنية المكانيَّة والزمانيَّة الملتصقتان معاً، وعنصر الصراع، مركز الإثارة الحسيَّة والنفسيَّة الذي يولِّد التشويق القصصي والمتعة النفسيَّة).

أمَّا لُغةُ القَصِّ الحكائي وفاعليةُ الأُسلوب التعبيري اللَّذين هما من أدوات الكاتب الثانويَّة، فضلاً عن مجموعة الرموز والإيحاءات والدلالات والعلامات السِّيميائيَّة، ووجهات نظر الكاتب، وأدوار الشَّخصيَّات الرئيسة، والنهايات القصصيَّة، والتي عادةً ما تكون مُغلقةً أو مفتوحة أو موضوعيةً أو إدهاشيةً فجائيةً صَادمةً لأفقِ توقُّع القارئ بحسب مقال النصِّ ومقامه الثيمي، فإنَّ هذه العناصر جميعها تسهمُ إسهاماً كبيراً وفاعلاً ومكيناً في صُنع وتخليقِ الوحدة الموضوعية لآليات فاعلية الخطاب السردي القصصي.

وهي على الرغم من كونها تُشكلُ عناصرَ وأركاناً ثانويةً في العمل القصصي، بيدَ أنَّها في حقيقة الأمر لها أثرها الفنِّي الكبيرالفاعل في تعضيد البناء القصصي وتوحيد تكامله الفنِّي الصحيح.

العَتبةُ العُنوانيةُ لِلمدوَّنةِ القَصصيَّةِ:

تُمثِّل دالة العنوان في مقاربة حدِّه التعريفي القريب الموجز مفتاحَ مفاتيحِ الدخول (الماستر) إلى بوابة النصِّ الموازي السرديِّة، وتُعدُّ العنونة شاخصها المضيء الأوحد في توجيه بوصلة الدليل أو ومكنوناتها العميقة، وتَقفي آثارها ورموزها البعيدة؛ للكشفِ عن لُقاها الفكريَّة ومكامنها الجوهرية الثمينة. فلا يمكن أن يكون هناك نصٌّ موازٍ قائمٌ بذاته التعبيريَّة من غير أن تكونَ له بالمقابل عتبةٌ عنوانيةٌ قارةٌ تُفصح عن أثر مجاهيله ومرموزاته ومُوحياته الجماليَّة والفنيَّة القريبة منها والبعيدة.

وعلى وفق ما هو مثبتٌ من عتبة المدوَّنة العنوانية الرئيسة (خيانةُ النَاطورِ) يمكن أنْ نقول، لا خيانةٌ يمكنُ أنْ تَحدثَ على أرض فضاء الواقع ما لم يكنْ لها ناطورٌ مسؤولٌ عنها وعن فعلتها الحدثية الشائنة. ولا يصحُّ أبداً ،اْنْ نقولَ ناطوراً ما لم يكن ذلك الناطور مُؤتمناً بحقٍّ عن نطارته، والمحافظة على حقوق رعيته التي أُنيطت له مهمَّة حراسة بوابتها، وإلا فَلنُردِّدَ مُنشدينَ ما أباحَ به أبو تمَّام في توصيفه الرثائي: (كَذَا فَليَجلَّ الخَطبُ وَليَفدحِ الأمرُ فَليسَ لِعينٍ لَمْ يَفضْ مَاؤُها عُذرُ)

وحينَ نُجيل النظرَ مليَّاً في لوحة العنوان الرئيس والعام لمدوَّنة (خيانةُ الناطورِ)، لا بُدَّ وأنْ نستقرئ ونفهم بتدبرٍ واعٍ مضامينه الدلالية ونفكِّكَ شفراته اللُّغوية ومقصدياته المعنوية؛ لنقفَ بتؤدةٍ مُطمئنين عمن هو (الناطورُ) المعيَّن بهذا المعن الدلالي الظاهر والمُضمر الخَفيّ نسقياً وثقافَّياً؟ فلو ذهبنا إلى تجلِّيات المعنى الدلالي القريب لِدالةِ (النَّاطورُ) لاتضحَ لنا أنَّها تعني (الحارسَ) الذي ارتبط فعله الحركي والسكوني الثابت بمهمًّة النطارة اللَّيلية أو الحراسة المكانية التي صارت بعهدته أمنياً. فهوَ أقرب ما يكون شبيهاً بما يُسمَّى في لهجتنا المحليَّة (البَاصوَانِي)أو الحارس اللِّيلي.

في حين أنَّ موحيات المعنى اللُّغوي الدلالي البعيد لمفردة (النَّاطورِ) تعطينا أكثر من معنىً ودلالةٍ توصيفيةٍ دقيقةٍ وجديدةٍ، فالناطور وفقَ ذلك المعنى الآخر البعيد هُوَ العَينُ الحارسة الساهرة التي لا تنامُ، وهو حائط الصدِّ المحافظُ، وهو المسؤول عن حقوق الناس ورعايتها، وهو أيضاً الأمين والمؤتمن، والراعي لحقِّ رعيته، تذكيراً بحديث الرسول الأكرم (ص) القائل: (ألَا كُلكُم رَاعٍ وَكُلكُم مَسؤولٌ عَنْ رَعِيتِهِ). فالرجل راع لأُسرته، والقائد راعٍ لشعبه وأُمَّته، والمعلِّم راعٍ لطُلابه، والأديبُ المبدع راعٍ لأدبه وقرَّائِه، والطبيب راعٍ لمَرضَاه، والأمُّ أسريَّاً راعيةٌ لأبنائها وبناتها.

أمَّا معنى دالة (الخيانةُ)، فهي بالتأكيد الفعل الإنساني السلبي الشائن المَعيب مُطلقاً الذي ترفضه كُلُّ الأعراف والعادات الاجتماعية، ولا تقرُّه سُننُ الدين والشرائع السماويَّة والأرضيَّة المُوحدة. ولا يمكن أن تأتلف دلالة (الخيانةُ) وتتوحدن مع دلالة (الناطور)إنسانياً وفكريَّاً وأخلاقيَّاً وعرفيَّاً أبداً.

فالناطور، إذنْ كلمة لا يمكن أنْ يُختزَلُ معناها اللُّغوي ويختصُّ بمعنى دلالي واحدٍ فقط، أو يقصرها عليه ويُحيِّد عملَها الفعلي تعسفاً. نعم الناطور هو الحارس؛ ولكنَّه حارس من نوعٍ آخر، الحارسُ لأمرٍ مُهمٍّ ما جَللٍّ؛ لذلك يمكن أنْ نعده في مقاربات اللُّغة الحاكم والمسؤول والقائد والإمام والسادن والراهب والحِبرَ. وهو سفينة الصدق والنجاة، ومرفأُ بَرِّ الوصول، وشاطئ الأمن والأمان، وهو ميزان الحقِّ والعدل الذي لا يبخسُ أشياءَه، وهوَ المسؤول عن أشيائه في السراء والضراء، وفي السر والعَلنِ دوماً. فهذا هو المعنى الدلالي البعيد الذي أراده الكاتب (القاصُ) وتوخاه وتقنَعَ به أمام أنظار ومرأى قرَّائه في معماريَّة عنوانه العام لمجموعة (خِيانةُ النَّاطور).

وقد أشار الكاتب إلى تلك التوريات الدلالية، والانزياحات اللُّغوية المتعدَّدة الأصل لمعنى كلمة (الناطورُ) في مستهل توطئته الكتابية الموجزة لهذه التسمية العنوانية القريبة من حياة الناس في مدوُّنته (خيانةُ الناطورِ)، إذ أفصح قائلاً: " ُربَّما يَكونُ بَاعثَاً علَى تَحريكِ الفُضولِ لَدَى المُتلقِّي، ودَافعَاً إلَى السُّؤالِ عَنْ دِلالاتِهِ، فَضلَاً عَمَّنْ هُوَ المَعنِي بِهذَا المَعنَى؟" (خيانةُ الناطورِ، ص7). وختم الكاتب خلاصة ما أراد إيصاله بمجموعته القصصية هذه بالقول: "إذ إنَّ الإخلالَ بِأصولِ أيِّ مَسؤوليَّةٍ ومُخالفةَ قَواعدِها النَّاطقةَ يُعدُّ خِيانةً". (خِيانةُ الناطورِ، ص 9)، وقد تكون خيانة كبرى لا تُغتفرُ.

وعلى وفق تلك التعدُّدية المعنوية فإنَّ العتبة العنوانيةالرئيسة (خيانةُ الناطورِ)قد أدَّت جميع وظائفها العملية الأربع بإقناعٍ وتمكُنٍ. تلك الوظائف التي أكَّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتاب عتباته العنوانية المتعدِّدة (مِنَ النّصِّ إلى المَناصِّ)،لأيِّ منتوجٍ، شعرياً أكان جنسه أمْ سرديَّاً نثرياً؟ ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ (خيانة الناطور) عتبةٌ لقصَّةٍ فرعيَّةٍ اُخيترتْ لتكونَ عنواناً عامَّاً للمُدونة. ويَحصل هذا الاختيارُ كثيراً من باب إطلاق الجزءِ على الكُلِّ لاعتباراتٍ فنيٍّة وجَماليَّةٍ وموضوعيةٍ.

أمَّا العنوانات الفرعية أو الثانوية لعتبات النصِّ الموازي لمدوَّنة (خيانةُ النّاطورِ)، فقد انمازت بلاغتها اللُّغوية بقصرها وجمال اقتصادها اللغوي المكثَّف تركيباً ودلالةً. وقد تناصفت من حيثُ عددها الكمي مع بعضها في بنائها التركيبي النحوي وتوازنت في توصيفها الأُسلوبي بين العنوانات الموضوعية المُباشرة، والَّتي مثَّلتها القصصُ الست: (مواءمةٌ، والمجهولُ، واستلابٌ، والمواجهةٌ، وصرخةٌ، والمَأزقُ)، ونظيراتها العنوانات الفنيَّة الأخرى التي تمثَّلت بالقصص الست: (وأدُ حُلمٍ، وخيانةُ النَاطورِ، وقلبٌ استوطنهُ الأملُ، وضَياعُ الذَاتِ، ونُتوءٌ فِي شَغافِ القلبِ، وجُرحٌ نازفٌ).

أمَّا عتبات نصِّ هذا الكتاب الأخرى فيقف في مقدمتها الإهداء الذي تصدَّرَ مُستهل مدوَّنته لهذا المجموعة القصصيَّة، وقد حرصَ الكاتب لطيف عبد سالم على أنْ يكون إهداؤه الشخصي جَمعياً عامَّاً لا ذاتياً ضيِّقاً فَصدَّره ُإلى أبناء الجامعة الإنسانية التي تُمثل الإنسان المُكابد الآخر من سَواد الناس المكافحينَ إذ قال: "إلَى النُّفوسِ الَّتي تَتوَارى بِأوجاعِها خَلفَ رُكامِ الأيَامِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 5).

تعدُّ مجموعة (خيانة الناطور) من المجاميع القصصيَّة القليلة النظائر من التي احتوت على عتبة توطئة تقديمية تُمهِّد الدخول إلى توضيح إشكاليات العنوان العامِ وتَحسمُ تداعياته الدلاليَّة الكثيرة، وتقف على تعدُّدِ آفاق مرجعياته الموضوعية، وأنساقه الثقافية العامَّة والخاصَّة والظاهرة الجليَّة والمُضمرَة الخفيَّة التي كشفت جوانبه الفنيَّة والجماليَّة. مُؤكِّداً في الوقت ذاته على قِول أبي الطيِّب المُتنبِّي في توصيفِ نواطيرَ مِصرَ التي تراوحت معانيها بين حراسِها (النَواطيرِ) وثعالبِها من اللُّصوص وبينَ سادتها وأشرافها: (نَامتْ نَواطيرُ مِصرَ عَنْ ثِعالبِهَا فَقدْ بَشمَنَ وَمَا تَفنَى العَناقيدُ).

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ موضوعيَّاً:

القارئ النابه الذي يتتبع بعين نقدية واعية متئدةٍ الهندسةَ المعماريَّةَ والفكريَّةَ لخريطة تأثيث

مدوَّنة (خيانةُ الناطورِ) القصصية، الصادرة بطبعتها الأولى عام 2020م عن مكتبة فضاءات للفنِّ والطباعة والنشر ببغداد، سيلفتُ نظره الفكري أنَّ هذه المجموعة على الرُّغم من صغر حجمها الكمي العددي البالغ اثنتي عشرة قصةً أو نصَّاً سرديَّاً، وبِمساحةٍ وَقيةٍ تَجاوزت الثمانين صفحةً ومن القطع الكتابي فوق المتوسط، فإنها انمازت بسعة كيفها النوعي والموضوعي والدلالي المكين الذي يمنحها درجة التميُّز والتفرُّد القرائي المحبَّب لدى القارئ العادي والقارئ الناقد الحاذق على الرغم من كونها المجموعة القصصية الأولى في سلسلة تعدُّد كتابات الكاتب لطيف سالم المتنوِّعة.

وقد تراوحت مِساحات هذه المجموعة القصصية النَّفسِيَّةِ بين القصص القصيرة والمتوسِّطة والطويلة نوعاً ما، والتي لا يشعر معها القارئ بأيِّ ضَجرٍ أو إملالٍ في قراءتها؛ كونها كٌتُبَتْ بلغةٍ تحشيدٍ سردية مكثفةٍ أنيقةٍ وماتعةٍ، واقتصاد لغويٍّ موجز واعٍ، وبمهارةٍ فنيةٍ احترافيةٍ سَلِسةِ الحَبكِ والسَّبكِ اللُّغوي والدلالي المعنوي بعيداً عن كلِّ أشكال التعقيد اللفظي والغموض المعنوي والإطالة والإطناب،ولا أثر للترهُّل فيها ذلك الذي لا يُحفزُّ القارئ إلَّا على التواصل معها دون الفكاك عنها.

لقد استنَدَ الكاتب والقاصُّ لطيف عبد سالم في تأثيث وبناء مدوَّنته القصصيَّة إلى مجموعةٍ ثرَّةٍ من الأنساق والمراجع الثَّقافيَّة، والموضوعات الفكريَّة اللَّافتة للذهنِ، والِّتي اختارها بعنايةٍ فائقةٍ واهتمامٍ كبيرٍ من تَمظهرات صراع الواقع الحياتي المجتمعي المَديني والرِّيفِي المَعيش لِهُويَّةِ الذات الفردية وعلاقتها الازدواجية الإنسانيَّة المُتوحدنة جِدَاً معَ الذات الأخرى الفرديَّة الجمعية المشتركة.

ومن أمثلة ذلك الصراع قصة (ضياعُ الذاتِ)التي يتحدَّث فيها عن بطلها القادم من أعماق الريف بحثاً عن فرصة عملٍ تُعوُّضهُ عن شعوره الذاتي بالضياع "فِي فَجرِ مُعتَم مُلَبَّدٍ بِالغُيومِ خَرجَ كَعادتِهِ بَاحثَاً عَنْ رِزقهِ. فَرَشَ إزارَ حَظهِ عَلَى رَصيفِ (مَسطَرِ العَمَّالةِ)،جَلسَ طَويلَاً،أَخذَ مِنهُ البَردُ مَأخذَاً، شَارَكَ بَعضَ العُمَّالِ فِي إشعالِ النَّارِ بَحثَاً عَنِ الشُّعُورِ بِالدفءِ، ظَلَّ يَترقَّبُ مِنْ دُونَ جَدوَى، أرهقَهُ الاِنتظارُ بَعدَ أنْ يَأسَ مِنَ الحُصولِ عَلَى فُرصةِ عَملٍ فِي ذَلكَ اليَومِ، أحسَّ بِحاجةٍ مَاسَّةٍ لِلراحةِ، فَلمْ يَجدْ مَكانَاً لِيستريحَ بِهِ أفضلَ مِنَ مُقهَى (العُمَّال) المُطلَّةِ عَلَى المَسْطَرِ". (خِيانةُ النَّاطور، ص 47).

وقد هَيمنتْ تجلِّيات صراع ثنائية المقدَّس والمدنَّس الواقعية السرديَّة بظلالها السحرية والجديدة على تشكَّلات بنية هذه المجموعة القصصية، وعلى إيقاع حمولاتها الفكرية ومخرجاتها الحدثية والموضوعية الفاعلة. والتي كانت تمثِّل مناطق إشعاعٍ بارزةٍ وفناراتٍ ضوئيةً لافتةً في الإبداع والابتداع الفنِّي لا يمكن تجاوزها في خانة الميتا سرد الحداثوي العراقي المُعصرن نوعاً وكمَّاً.

واعتمد القاص لطيف سالم كثيراً في مُعجمه السَّردي والقصصي على إشكاليات وأزمات الواقع العراقي الحداثوي على وجه الخصوص، وعلى وقع تداعياته الحياتية الساخنة. فكانت مواجعه وخيباته وانكساراته ونكوصاته التخاذلية المتكرِّرة تمثِّلُ بحقٍّ مظاهر ديستوبيا فوضى هذا الواقع الشرير والمدنَّس الحياتي لِهُويةُ الآخر في خطِّ علاقته الجدليَّة والإشكالية المباشرة وفي تشاكله التضادي والحدِّي مع يوتوبيا مدينة المقدَّس الإنساني الذي ينشد صفاتِ المحبَّة والفضيلة، ويسعى إلى الوئام في ظلٍّ مجتمع فاضلٍ يسوده السلام والأمان؛ لذلك كان النهج الواقعي نواة بيت حكايات المدونة السردية (خيانة الناطورٍ) التي منحها الكاتب جُلَّ اهتماماته ووضعها نَصبَ عينهِ السَّرديَّة:

"الحَربُ سَلبتنِي اِبنِي فِي مُقتَبِل عُمرِهِ، وَاليومَ أظنُّ أنَّ خُيُولَ المَوتِ تَزحفُ صَوبَ مَنْ سَلَبَتْ قُلوبَ العَائلةِ، وَأسَرتْ أرواحَهُم بِضحكاتِهَا وَبَراءةِ حَركَاتِهَا، وَقَلبِي لَمْ يُسعَدْ بِهَا بَعدَ. وَلَمْ يَقطعْ عَليهِ صَمتِهِ وَهوَ يَحتضنُهَا سِوَى صَوتِ كَابحِ السَّيَّارةِ، وَإِشعارِ صَاحبِهَا إيَّاهُ بُوصولِ المُستشفَى". (خِيانةُ الناطورِ، ص62، 63). هذا الفقدُ الحزين الظالم هو ما كشفت عنه قصَّة (نُتوءٌ فِي شِغافِ القَلبِ).

لم تكن أفكار الواقع وحكايات صراعه المتجدِّدة هي المُهيمن الثيمي الصوري الأوحد الذي فرض سطوته السرديَّة وفاعليته السحرية الحكائية على وحدات مجموعة (خيانةُ الناطورِ) الفكرية والموضوعية فحسب، وإنَّما كانت لتمظهرات التراث أو الموروث الشعبي العراقي والتاريخي الحديث الحصَّةُ الأهمُّ والأسمى في إنتاج هذه المدوَّنة. ومن نماذج التراث الشعبي العراقي الجيِّدة التي تصوُّر مشاهد الصراع القائم بين الإقطاع الجائر والفلَّاح المسالم قصة (استلابُ) الحقوق منه:

"لَمْ يَجدْ بُداً مِنْ اللُّجوءِ إلَى التَّوسُّلِ وَهوَ يُقسِمُ بِأغلظِ الأَيمَانِ بَينَ يَديهِ، أنَّهُ لَا يَقصدُ أيَّ شَيءٍ فِيهِ مَساسٌ بِمنزلَةِ الشَّيخِ أو سُركَالِهِ، إلَّا أنَّ مَا تَوَالَى مِنْ مَحاولاتهِ قَصَدَ اِستعطافَ السُّركالِ لَمْ تُجدِ نَفعَاً أمامَ قَسوتِهِ الَتيِ تُميِّزهُ عَنْ غَيرهِ، حَيثُ أعمَتْ نَشوةُ السُّلطةِ والشَّهوةِ فِي إذلالِ الرِّجالِ بَصيرتِه، لَمْ يَتوانَ عَنْ مُمارسةِ مَا عُرِفَ بِهِ مٍنْ عُنجهيةٍ، فَشرَعَ بإهانتهِ وَشتَمِهِ عَلَى مَرأى وَمَسمعٍ مِنْ جِيرانِهِ الَّذينَ أثارَهُم الفُضولُ وَدَفعَهُم لِلتَوافدِ، إلّى جَانبِ زَوجتِه الَّتي لَمْ تَبَسْ بِبِنتِ شَفةٍ، ثُمَّ أمَرَهُ بصوتٍ عَالٍ قَائِلَاً: - تَحرَّكْ أمَامِي.. تَحرَّكْ أمِامِي..-يَا كَلبُ..". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 24، 25).

وقد أبدع الكاتب والقاص لطيف عبد سالم في تخليق وإنتاج لوحات التمثيل القصصي الحكائي والدرامي لشخصيات التراث العراقي الشعبي وإظهار رموزه الحاكمة والمحكومة بمختلف أشكاله ومسمياته الزمانية والمكانية وخاصةً في زمن حكم شيوخ سلطة الاستلاب القبلي الإقطاعي وسطوته القبلية الجائرة على الذات الإنسانية الفلاحية التي تمثل السواد الأعظم من عامَّة الناس.

وقد رسم الكاتب في خبايا مدوَّنته (خيانةُ الناطورٍ) -وفي تلافيف قصَّته بالذات (وأدُ حلمٍ) - رسم بحيادية واتقانٍ موضوعي صوراً وحشيةً حزينةً ومؤلمةً جدَّاً وعديدةً عن دكتاتورية وظلم واستبداد وتجاوزات ذلك الواقع الزمكاني الجائر والمهيمن للذات الإنسانية. وقد أسهمت مفاهيم ومصطلحات ذلك الواقع مثل، (السّركالُ والمَحفُوظُ والحَاشيَّة) كرموز وأصوات ناشزة وطاغية في تجسيد أدوار الشخصيَّات الرئيسة والثانوية وإظهارها بالصورة الإيموجية المرئية والحركية الدراميَّة البشعة التي تناسبها في تمثيل واتقانِ فاعلية واقعة الحدث الحكائية السردية التي جاء فصالها على قياسها:

"ذَاكرتُهُ الحُبلَى بِنشيجِ الأيامِ تَسرَحُ بِفضاءٍ فَسيحٍ، فِي غَمرةِ تَواردِ خَواطرهِ المَشحونةٍ بِصورِ ظُلمِ الإقطاعِ وَجَورِ جَحيمهِ، أغمضَ عَينيهِ طَمَعَاً فِي إغفاءَةٍ قَصيرةٍ، َاستَسلَمَ لِلنومِ سَريعَاً، اِلتبسَ عَليهِ الحُلُمُ بِغيرهِ بَعدَ أنْ أيقظتهُ رَفَسَةٌ مَسمومةٌ تَزَامَنَ فِعلُ وقُوعِهَا عَلَى خَاصرتِهِ مَعَ نَشازِ أصواتِ ثُلَّةٍ مِنَ الرِّجالِ: أيُّهذَا الشَّقيُّ..المَحَفُوظُ أَمَرَ بِجلائِكَ بَعيدَاً عَنِ القَريةِ!" (خِيانةُ النَاطورِ، ص 15).

لقد كان القاصُّ لطيف أميناً في نقل الأحداث الواقعية والغرائبية والمخيالية بقداستها ودناستها إلى القارئ، وجعله يتعاطف مع وقع تلك الأحداث ويتصوَّرها شكليَّاً وذهنياً، خاصةً وأنها تمثِّل مرحلةً مهمَّةً من مراحل تاريخ العراق السياسي والاجتماعي الحديث، وأحداثه الخفية التي تتستَّر الآيدلوجيا عليها بقناعها الدفين الذي لا يمكن فكُّ شفراته بسهولةٍ؛ الأمر الذي دفعه للوقوف عندها مليَّاً. فَفي ذات السياق يوثِّق القاصُّ للحياة الأُسريَّة في قصَّة (صرخةٌ) وصراع الزوجة الطاهرة النقية مع زوجها بمحاربة أشكال الرذيلة التي يمتهنا ويمارسها سلوكاً عدائياً دنيئاً بحقِّها الوجودي:

"اِستبعادَهُ مَحاولةَ لُجوءِ زَوجتهِ لِاعتمادِ خَيارَ التَّمرُّدِ، شَجعَهُ عَلَى المُضِي فِي غَيهِ، فَلَمْ يَكنْ فِي تَفكيرهِ مَا يُوحِي بِغيرِ مَا اِعتَادَ عَليهِ فِي كُلِّ يَومٍ، لَكنْ ألَمَ جُرحِهَا الغَائرِ فِي أيامِهَا، جَعلَهَا تُلَمْلِمُ بَقايَا إنسانِيتِهَا الضَائعةِ وَتَستعِدُّ لِدفعِ ثَمنِ دُخولِ مَعتَرَكِ رَفضِ خَيبتِهَا، فَلمْ تُعطِهِ ذَاتَ فَجرٍ فُرصةَ التَّلَذُذِ بِأذلالِهَا، إذْ اِعترتْهَا رَعشَةُ غَضَبٍ عِندَ عَودتِهِ إلَى مَنزلِهِ، سُرعانَ مَا أدخلتهَا فِي مُواجَهَةٍ مَعَ مَنْ طَحَنَ إنسانيتَهَا بِرَحَى غُرورِهِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 56).

من هنا تُشكِّلُ مُهيمنات الواقع الحياتي ، وتجلِّيات الموروث الشعبي التراثي والثقافي المعرفي والإنطلوجي والسوسيو ثقافي للمجتمع العراقي نقطةَ الصراع المفصليَّة وبؤرة الأحداث الإشكالية الدائرة بين جدلية (المُقدَّسِ والمدَّنسِ)،والحياة والموت، والخير والشرِّ، والوجود واللَّاوجود أو العدم (أكون أو لا أكون) أشبهُ بما يجسده المشهد الهاملتي الكبير لشكسبير في رواية مسرحيته الشهيرة.

أكون مؤتمناً وراعياً مسؤولاً أو خائناً خذولاً غيرَ مسؤولٍ، فلَا أكون إلَّا عوناً ونصيراً للرَّعية لا مغتصباً لحقوق إنسانها، ولا أكون إلَّا أهلاً للعهد والوفاء، وليس نصيراً للذُّل والاستبداد والخيانة التي لا تغيب عنه الشمس ولا تُحجب بغربالِ الزمن القميء. وتأتي قصة (خيانةُ الناطورِ) التي اُختيرت إن تكونَ عنواناً عامَّاً للمجموعة القصصية في مقدَّمة هذا المقدَّس العلمي الذي تعرَّض لخيانة الانتهاك الدنيء في سرقة جهد باحثٍ أكاديمي رفيع من قبل سطوة الآخر الجاهل المسؤول:

"مَا الخَطبُ يَا صَديقِي؟ قاَلَهَا وَهَبَّ مُسرِعَا إلَّى صَديقهِ الَّذي لَمْ يُكلِّفُ نَفسَهُ الكَلامَ، إذْ سَلَّمَهُ رِسالةَ مَاجستيرٍ، وَهوَ يُشيرُ بِطرفِ إصبِعِهِ إلَى عُنوَانهِ، فُوجِئَ مِثلَ صَاحبِهِ بِالعنوانِ الَّذي كَلَّفَهُ اِختيارَهُ لِدراستِهِ قَبلِ سَنواتٍ أياماً ولياليَ طَويلةً، هَولَ الصَدمَةِ وَعُنفِهَا لَمْ يَفقدُهُ الشُّعورَ بِضرورةِ التَّيقنِ أكثرَ، بَدَأَ يَتَصَفَّحَ الكِتَابَ المَطبوعَ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمِ يَجدْ شيئا قَدْ تَغيَّرَ مِنْ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 41، 42).

أُسلوبيةُ الكَاتبِ القَصصيَّةِ:

بوجهات نظرهِ التعدُّدية المتواضعة وبأسلوبيته الفنيَّة استنطق لطيف عبد سالم أصوت شخصياته ورموزه القصصيَّة الفاعلة على أرض الواقع وتمثيلها دراميَّاً، واستحضر بتلقائيةٍ عفويةٍ مُحنكةٍ ديمومةَ الصراع لفكري الإنساني الوجودي المجتمعي القائم بينها من خلال تَنامي سير فِعليَّاته الحدثية المرتبطة بالوحدات الزمانية والمكانية. واهتم بالتأكيد على تلاحم نسيج الوحدة الموضوعية للخطاب النصِّي وديمومتها الترابطية مع الوحدة العضوية الكبرى للخطاب السردي العام،والإمساك بتلابيب أذيالها في ترجمة الخطاب دون المساس بوحدة عناصره الأساسية أو الخروج عنها فنيَّاً.

وقد عمد الكاتب في أسلوبية فنِّه التعبيريَّة إلى أنْ تكون جميع نصوصه السردية الاثني عشر نصَّاً واقعيةً صرفةً تستمدُّ نسغها الروحي الجوهري، وتنفسَها الرِئَوِي النقيِّ، وتشكُّلَها الحكائي الفنِّي المتنامي من أرضية ومحيط الواقع الحالي، ومن تفاصيل الحياة اليومية المعيشية للإنسان، ومن مرجعيات التراث الحداثوي ومصادر ثقافته النوعية المؤثِّرة، ومن خزائن الموروث الشعبي العراقي التأصيلي الضارب في العمق الريفي والمديني أطناباً من عقود الزمن والتاريخ.

فتنوَّعت أفكار موضوعاته الكتابية التي خصَّ بها الإنسان الذي هو المعادل للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. تلك التعدُّديَّة التي تمثَّل مناطق التبئير المُكثَّف في الوطن العراقي الكبير بمختلف اتجاهاته وطوائفه ومسمياته المذهبية والإثنية والوجودية. ولنقرأ في هذا الخصوص مشهداً ختامياً من قصة (المواجهةُ) التي يشعر فيها البطل في ظل التقاليد وثقل العادات والموروثات الاجتماعية بهزيمته النكراء وَوَهَنهِ وتخاذله الشخصي عن مواجهة قاتل أبيه عمداً:

"ذَاتَ يَومٍ أَسَرَّهُ أحدُهُم عَنْ بَعضِ جَوانبِ فَجيعتهِ قَائلَاً: - كُلُّ تَرْكَةِ وَالدِكَ هُوَ الصِّريفةُ الَّتي تَسكنها، أبوكَ شَيَّدَهَا بِالتَّرجِي وَالاستعطَافِ، وَلَا تَملُكُ مِنهَا سِوَى الطِّينِ. لَمْ يَكترِثْ لِمَا طَرَقَ سَمعَهُ وَلَمْ يَحدْ عَمَّا عَزَمَ عَليهِ، حَدَّثَ نَفسَهً قِائِلَاً: - قَدْ يِكونُ مُخادِعَاً كَمَا قَالتْ وَالدتِي[...] إذْ شَعرَ بِهزيمتِهِ وَهوَ يَتجرَّعُ رياحَ الخَيبةِ، حِينَ أقرَّ بِوهَنهِ أمامَ سَطوةِ قَاتلِ أبيهِ عَمدَاً، فَالنكدُ الَّذي أحرَقَ رُوحَهُ فِي المَاضِي، سَوفَ يُحرقُهَا بِلَا رَيبٍ فِي المُستقبلِ!". (خيانةُ الناطورِ، ص32، 33).

لقد كتب لطيف عبد سالم تسريداته القصصيَّة عن شخوصه ورموزه الصوتية بلغة الحضور أو الغياب للمواءمة بين الذات الأنويَّة والآخر، وللأحلام الموءودة والشعور بالاغتراب النفسي، ووثَّقَ للمصير الإنساني المجهول، ولثقافة استلاب الحاكم الجائر في بخس حقوق الناس. ورسمَ في الوقت نفسه لوحاتٍ قصصيةً رائعةَ الجمال ومدهشةً! للمواجهة بين طرفي الصراع المُختلفينِ، وشخَّصَ أنساقَ خيانةِ الناطورِ المؤتمن على حياة الناس من خلال سوداوية هذا الصراع الدامي بالوجع .

واتشحت بعض قصصه بالأمل الذي يستوطن القلوب المتألمة، وعن ضياعِ الذَّاتِ الإنسانية المُحطَّمة، وسماع صدى صرختها المدويَّة، وكَتبَ عن النتوءات العارضة التي تَصيب شِغاف القلب المَكلومةِ، وختمَ سرديَّاته الحكائية بما يَتعرَّض له الإنسان من مأزقٍ وظلمٍ لا فكاكَ عنه، وجروحٍ نازفةٍ لا بُدَّ منها كونه إنساناً مجتمعيَّاً تَحيق بمحيط تجربته الحياتية ما دام يعيش حيَّاً على أرض وبساط الواقع.

تقنيةُ الخَواتيمِ والبداياتِ القصصيَّةِ:

أمَّا بخصوص فنية التعبير الأسلوبية للبدايات والنهايات، كيف ابتدأت قصص الكاتب؟ وكيف انتهت في مجوعته (خيانةُ الناطورِ). فقد انتهى القاص لطيف عبد سالم في مركز اشتغالاته إلى أن تكون المقاربة التوافقية إحدى وسائله الأسلوبية للموازنة بين بداياته ونهاياته القصصيَّة تارةَ، وتارةً أخرى تكون أسلوبية الانزياح وانحرافاته البلاغية الجديدة سبيلاًموحِّداً لحسن تخلُّصاته الموضوعية النهائيَّة، وتارةً ثالثةً لا سبيل لخواتيمه السردية إلَّا المفارقة الإدهاشيَّة والفجائيَّة الصادمة التوقُّع.

لقد ارتأى الكاتب لطيف عبد سالم فكريَّاً أنْ تكون جميع مطالع مُقدِّماته أو مستهلات حكاياته القصصية مقدِّماتٍ افتتاحيةً خبريةً توصيفيةً لا إنشائيةً عن شخصياته الرئيسة، وحرص أنْ تكون مفاتيحُ تقديمِ لُغتها الطلليَّة لغةً زمانيةً ماتعةً وشائقةً مُحبَّبةً تستهوي قراءتُها المُتلقِّي وتجذبه نفسياً إلى الانجرار مع وقع حكايتها الموضوعية وجماليات موحيات توصيفها الرمزي المُتراتب نسقيَّاً. ولنقف متأملين كيف بدأ القاص لطيف مقدمة قصته التراثية (استلابٌ)؟وكيفَ يُخبرُ عن حركة بطلها زمانياً ومكانياً. "لَا يَعودُ إلَى مَنزلهِ إلَّا مَعَ غُروبِ الشَّمسِ، وَقَدْ غَدَا مِنْ فَرطِ تَعبِ النَّهارِ مَنهوكَ القِوَى، فَاعتَادَ أنْ يَنامَ مُبكِّرَاً فِي أغلبِ الأيامِ، وَيَستيقظَ مَعَ غَبشةِ الفَجرِ". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص23).

وفي الوقت ذاته عكف القاصُّ جديَّاً على أن تكون هندسة نهاياته أو خواتيمه القصصية نهاياتٍ متنوعةً التخلُّص ومتعدِّدة الأفكار والرؤى ، وليست على شاكلةٍ أسلوبيةٍ نمطيةٍ واحدةٍ مملةٍ تأتي رتيبةً. وتأتي (النهايات الموضوعية)أولى خواتيم هذا التنوُّع وتمثِّله قصص خمس وهي: (المَجهولُ، والمُواجهةُ، وضَياعُ الذَّاتِ، وصَرخةٌ، وجُرحٌ نَازفٌ). التي تخبر نهايتها الموضوعية بحركة بطلها الرئيس، "ِانطلَقَ هَائِمَاً عَلَى وَجهِهِ وَهوَ يَحمِلُ جُرحَاً غَائِراً دَامياً مُؤلمَاً، أًبلغُ أثرَاً وَأعمقُ ألمَاً فيِ النَّفسِ مِمَّا تَركتهُ مَشارِطُ الأطبَاءِ مِنْ نُدُوبٍ فِي جِسمِهِ النَّحيلِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 76).:

في حين يأتي النوع الثاني ما يُسمَّى نهاياتِ المُفارقةِ القَصديَّةِ الصَادمةِ بإثارتها، ويمثِّلُها أربع قصص هي: (مواءمةٌ، واستلابٌ، وخِيانةٌ الناطورٍ، وًنُتوءُ في شَغافِ القَلبِ). فلنقرأ ما تعرَّضَ له الباحث العلمي من إجحافٍ بحقِّ ملكيته العلمية التي اُغتصبتْ منه."بَدأَ بِتصفُحِ الكِتابِ المَطبوعِ بِشكلٍ أنيقٍ، لَمْ يًجدْ شًيئاً قَدْ تَغيَّرَ مِنَ دِراستِهِ غَيرَ اِستبدالِ اِسمِ المَسؤولِ بِالباحثِ". (خيانةُ الناطورِ، ص 42). أما في قصة (مواءمةٌ)، فلنستمع إلى ما قاله بطلها الأمّيُّ من مفارقة في خاتمتها المثيرة الأثر. "قَالتْ لَهُ والذُعرُ بَائنٌ فِي نَظراتِها: - كَيفَ تَكتُبُ رِسالةً، وأنتَ لَا تَقرأُ وَتَكتُبُ؟ أشارَ بِيدهِ قَائِلَا: -وَمَا الضَيرُ فِي ذَلكَ ؟ماَدامَ هُوَ أيضَاً لَا يُجيدُ الِقراءةَ والكِتاَبةُ!". (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 12) .

ويأتي النوع الثالث وهو النهايات الفجائية المُدهشة، ويمثِّله القِصتانِ، (وأدُ حُلمٍ، والمَأزقُ)، "حَمَلَ القُرويُّ العَجوزَ عَلَى ظَهرِهِ وَسَارَ بِهَا صُحبةَ شُرطيٍّ فِي شَارعِ مَركزِ النَاحيةِ الرَّئيسِ الَّذي يَنتهِي عِندَ السُّوقِ المَسقوفِ، كَانَ فِي قَرارَةِ نَفسِهِ يَأملُ أنْ يَرَاهَا أحدٌ مِنْ عَائلتِهَا أو مِنْ مَعارِفهَا وَيُخَلِّصُهُ مِنْ عَناءِ حَملِها. طُوالَ الطَّريقِ، كُلَّما شَاهدَ القُرويُّ شَاخصَاً أمامَهُ، أوْ بِمُحاذاتهِ، أوْ قَريبَاً مِنهُ، صَرخَ بِه: -اِفتحِ الطَّريقَ ، تَنحَّى جَانبَاً، وَإلَّا سَتصبَحُ اِبنَهَا!". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 70).

أمَّا النوع الرابع والأخير فهو ما يُسمَّى بالنهايات أو الخواتيم المفتوحة، ويمثِّلهُ تطبيقياً وإجرائيَّاً قصَّة (قَلبٌ استوطنهُ الأملُ)، وتشترك معها في هذا السياق قصَّة (ضَياعُ الذاتِ) التي ورد ذكرها مع قصص النهايات الموضوعية لخيانة الناطور."نَعَمٌ يَا بُنَيَ قَبلَ أنْ التحِفَ الثَرَى أحلمُ بِوطَنٍ أجملَ! استحوذَ الذِّهولُ عَلَى الفَتَى، تَسمَّرَ فِي مَكانهِ، بَاتَ يَشعرُ بِالألم فِي رَأسِهِ وَهوَ يَنظرُ مَبهوتَاً إلَى العَربَة المُتهالكَةِ، وَهيَ تَبتَعدُ عَنْ الزُقاقِ رُويداً رُويداً نَحوَ فَضاءٍ مَجهُولٍ". (خيانةُ النَاطورِ، ص345) .

فهذه التعدُّدية والتنوَّع النهائي في اختيار خواتيم القصص والحكايات دليل على وعي الكاتب وتمكُّنه من أدواته القصصيّة في اختيار وتوظيف النهايات التي تُناسب الشخصية الفواعلية التي قامت بتمثِّل الحدث السردي تمثيلاً حقيقيَّاً.فضلاً عن أنَّ التعددية تمنح النصَّ السردي قبولاً معرفياً وثقافياً إنسانياً مُحبَّباً في كسر أفق جدار الواقع الحياتي المألوف وتحطيم رِتِمِهِ الإيقاعي الثابت. وكما في هذا السياق،"أغلقت البَابَ، اِحتضنَتْ اِبنَهَا، اِمتدَّ بَصرَهَا إلَى الأفُق حيث شروق الشمس، ضحكت بكل جوارحها وهي تشعر بنسائم الصباح لأول مرة في حياتها. (خِيانةُ النَّاطورِ، ص 57).

بِنيةُ المَكانِ القِصصيَّةُ:

يعدُّ المكان وبنيته التعدديَّة من أكثر عناصر السرد القصصيَّة الأساسيَّة التصاقاً بالحدث واهتماماً به، وارتباطاً بحركة الفواعل (الشخصيات) وتنقلاتها السريعة. فالمكان يُجِّد بنية الحدث الفعلية ويمنحها صفة التَفرُّد والاستقلاليَّة وخاصَّية التغيُّر. وفي الوقت نفسه يُحدِّدُ المكان هُوية الشخصيات الفاعلة، ويؤكِّد صلة انتمائها الوجودي في العمل الأدبي أمام أنظار قارئه ومتلقيه الواعي.

لذلك فإنَّ المكان المُحدَّد بزمن معيَّنٍ ما، يكشف عن خبايا العمل السردي وعمق تلافيفه النسقية الظاهرة والمضمرة، ويُلقي بالضوء على أهمِّ مناطقه الجوهرية التي من خلالها يستمتع القارئ بمثاباته ويتواصل مع أحداثه إلى آخر منطقة من مناطقه الحدثية المتساوقة. فلا حدث يحدث من غير مكان يؤصِّله،ولا شخصيَّات يظهر تواصلها إلَّا مع البنية المكانية التي توثق معالمه التاريخية.

وتأتي أهمية المكان الزمكانية من أهمية الحدث، فلا يمكن أنْ نصف مكاناً بالأهمية والسمو ما لم يكن الصراع الحدثي كبيراً وأصيلاً ومضيئاً. لذلكَ فإنَّ المكان عند الكاتب لطيف عبد سالم يأخذ مكانته الدلالية الاعتبارية والفنيَّة الواسعة في وقع مصفوفاته القصصية لمجموعة (خيانة الناطور).

وقد يكون المكان عنده فضاءً فكريَّاً ذهنيَّاً ومعنويَّاً ليس له حيز أو فراغ أو حدود تحدَّه في فضاء النصِّ السردي. وهو المنظور القليل الذي يشغل تفكير شخصياته في مِساحة هذه المدونة ويَهبُها صفة التواصل الحواري والحكائي مع المتلقِّي. وهذا ما سيكشفه وعي القاري النابه الحاذق أو ألمعية (الناقد) في اشتغالات اشتباكه وتصدِّيه لبنية العمل القصصي السردي المكين. وأنَّ النماذج القصصية التي يمكن أنْ تكون المثال الأوفى الجيّد للبنية المكانية المعنوية الذهنية تكمن في القصص الثلاث الأتية: (قَلبٌ استوطنهٌ الأملُ)، و (نَتوءٌ في شِغافِ القَلبِ)، و (جَرحٌ نَازفٌ):

"اِختلطَ الألمُ بِالأملِ، فَاعتدنَا عَلَى الحُزنِ، حَتَّى أصبحَ جُزءاً مِنْ عَوالمِنَا، إلَّا أنَّ الحُلمَ لَا يَزالُ يَلهثُ مَا بَينَنَا. ذُهِلَ الفَتى، زَاتْ حَيرتُهُ، لَمْ يَعد قَادرَاً عَلَى إدراكِ مَا يَبطنُ الرَّجلُ فِي خَبايا أقوَالهِ، فَرجاهُ طَالباً تَوضيحَ مَقاصدِ عِباراتِهِ...". (خيانة الناطور، ص 45) فالألم والأمل والحزن مكانها القلب.

أمَّا الحيز الأكبر الثاني الذي شغلَ تفكير القاص لطيف عبد سالم، فهو البنية المكانية التي لها تمثيل ماديٌّ وجوديٌّ على سطح الأرض في الفضاء النَّصّي السَّردي. وهذا ما انمازت به بنية المكان التعددية في أغلب قصص المجموعة الاثنتي عشرة قصةً. لذلك وظَّف الكاتب مجموعة كبيرة من المثابات المكانية في طيَّات قصصه، بدأً من أصغر وحدةٍ مكانيةٍ إلى أكبر وحدةٍ مكانية تسمو بفاعلية الحدث السردي وتظهر تناميه الحثيث.

فجاءت اشتغالاته المكانية منصبَّةً بالدرجة الأولى على المثابات والأمكنة التي لها الأثر الكبير والفاعل في حياة الإنسان وفي ترسيخ وجوده الاجتماعي. فهذا الاهتمام الكبير بالتقانات المكانية دفعه إلى استحضار وذكر الكثير من الأمكنة التي وردت متجليةً في طيَّات قصصه، فوظف، (البيتَ والأسرةَ والدارَ والمَنزلَ والمُضيفَ والصِّريفةَ والطُولَةَ والشارعَ والزقاق والمَقهى ومجالسَ الخمرَ ومكانَ العملَ والمدينةَ والقريةَ والنَاحيةَ ومكاتبَ الكُتبِ بالمتنبِّي ومِراكزِ العملِ ومَراكزَ البُحوثِ العلميةِ ومَراكزَ الشُّرطةِ وسَطح الدَارِ وقَاعةَ الطَواري والمَشافيَ ومَتاجرَ بغدادَ التِّجاريةِ)،وغيرها من مقاربات تلك الأمكنة والمثابات والمعالم العمرانيةومجاوراتها اللغوية والدلالية في بيت مشغله:

"ارتَدَى ثِيابَهُ، تَأنَقَ وَتَعطَّرَ، هَمَّ بِالخُروجِ؛ لإمضاءِ لَيلتِهِ كَالعادةِ فِي اِرتيادِ مَجالسِ الخَمرِ، مَا إنْ وَضعَ يَدَهُ عَلَى مَقبضِ البَابِ، حَتَّى نَادتهُ زَوجتهُ بِنبرةٍ يَشوبُها الحُزنُ قَائِلةً: اِبنكَ يُعانِي مِنَ الحُمَى مُنذُ ثَلاثةِ أيامٍ! رَدَّ صَارِخاً: - ومَنْ أخبرَكَ أنَّني طَبيبٌ؟! أشاحَتْ وجَهَهَا دُونَهُ قَبلَ أنْ يُطلقَ ضِحكةً عَاليَةً وَيُغادرُ المَنزلَ". (خيانةُ النَاطورِ، ص 55). فَتمثُّلات المكانية واضحة في قصته (صرخةٌ).

والمكان عند لطيف عبد سالم لا يقف عند حدود المدينة المُتحضِّرة وزحام مثاباتها الضوئيَّة المُبهرة، فقد تجاوزت المكانية لديه حدود المَدى المكاني، فتوغل في وجعه السردي بقصصه وحكاياته إلى عالم الريف وإلى فضاء وحداته الزمكانية التي فضحت وكشفت الكثير من تجليات الصراع الوجودي والألم العراقي الذي تعرض له الإنسان ابن الريف ونواته الفواعلية.

وقد ظهرت آثار هذه المكانية الضاربة في العمق من خلال المفارقات القصصيَّة الصادمة السوداء التي عَبَّرت عنها شخصيات قصصه وأصواته الداعية إلى التحرر من العبودية ونبذل أشكال الذل وممارسات الاسترقاق البشري. والتي هي جزء كبير من آيدلوجيَّة الكاتب وفلسفته.

وقد عزفَ القاص لطيف عبد سالم سرديَّاً في أسلوبية لغة موسيقاه المُعجميَّة القصصيَّة على أوتار ذلك الوجع المرير الأسود فأطرب وأبكى، وأمات متلقيه وأحيا، ذلك الوجع الإنساني الكبير الذي كشفت عنه فضاءات قصصه الواقعية بوضوح تامٍ وتجرُّد ونكران ذاتٍ صوبَ القارئ اللبيب:

"رِحلتهُ الَّتِي بَدأهَا فَجرَاً وَهوَ يَنتقلُ مِنْ قَريةٍ إلَى قَريةٍ أُخرَى، لَمْ تُسفرْ عَنْ أيِّ نَتيجةٍ تَشفِي غَليلَهُ فَكَمَا كَانَ يَأملُ، الشَّمسُ فِي طَريقِهَا إلَى المَغيبِ وَقَدْ وَصلَ قَريةً نَائيةً، لَا مَعرفةَ لَهُ فِيهَا بِقريبٍ أو صديقٍ، وَلَا يَتذكَّرُ أنَّهُ زًارَهَا أو مَرَّ بِهَا فِي وَقتٍ سَابقٍ، تَوقَّفَ عَنِ السَّيرِ فِي أطرافِ المَدينةِ بِمُحاذَاةِ جَدولٍ صَغيرٍ، ارخَى قَدميهِ مِنَ السَّرجِ، نَزَلَ مِنَ عَلَى ظَهرِ فَرسِهِ؛ لِيَتركَ لَهَا فُرصةَ الحَصُولِ عَلَى حَاجتِهَا مِنَ المَاءِ". (خِيانةُ النَاطورِ، ص 17). هكذا ينتقل القاصُّ من مكان لأخر، من المدينة إلى القرية، ومن القرية إلى الريف الواسع الأمكنة وعوالم الطبيعة الثابتة والمتحركة.

إنَّ جدلية الخفاء والتجلي السردي لصراع المقدس والمدنس والمفارقة الإدهاشية الصادمة السوداء في ثنائيات المواجهة المحتدمة بين الخير والشر والحياة والموت والوجود والعدم التي استأثرت كثيراً باهتمام الكاتب وتخليقه الإبداعي والفني الإنتاجي تؤكد لنا بصدقٍ أنَّ تجربة القاصِّ والكاتب لطيف عبد سالم الإجرائية الثريَّة في مدونته القصصية (خِيانة ُالناطورِ) يمكن أنْ نعدَها إضافة نوعيةً ومعرفية نافعةً وماتعةً إلى مكتبة سرديات القصة العراقية القصيرة؛ كونها تلقى احترامَ ومقبوليةَ رِضَا القارئ واستحسانه الذوقي والمَعرفي في آليَّات القراءة وجمالياتِ التلقِّي.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عِراقيّ

قراءة في قصيدة " معالمُ السِرِّ الأبهى" للشاعر مصطفى علي

من لجج التجربة الشعرية الفريدة للشاعر مصطفى علي، نستلهم من معينه العرفاني الصوفي الذي يغوص في أغوار النفس الإنسانية، ليكشف عن تجليات الروح في رحلتها الأبدية نحو المطلق.

اسعى هنا الى التمعن في هذه القصيدة الشعرية التي توحد نسيجيها الوجداني والفلسفي، راسمةً ملامح "السر الأبهى" الذي يكمن في جوهر الوجود، ويتجلى في مرآة اللغة الشعرية المكثفة..

لقد اعتمدت في تحليلاتي هذه منهجًا نقديًا يزاوج بين الأدوات الأدبية والفنية والفلسفية، ساعيًا إلى تفكيك البنى الجمالية والدلالية لما ورد فيها، واستكشاف أبعادها النفسية والوجودية. فكل مقطع شعري هنا هو بمثابة نافذة تُفتح على عالم من الرموز والإنزياحات، حيث تتراقص الكلمات على إيقاع الشوق والحنين، وتتجسد المعاني في صور باهرة تتحدى المألوف.

ان الخيط الناظم الذي يجمع هذه المقاطع هو رحلة الإنسان الروحية، بكل ما تحمله من عطش وجودي، وصراع بين الشك واليقين، وتوق إلى الفناء في حضرة الجمال المطلق. من "إيقاد فوانيس القوافي" في دم الشاعر، مرورًا بـ "خصام سمادير الرؤى"، و"السفر السماوي على أجياد عاصفة المنايا"، وصولًا إلى "معانقة أثر الحقيقة المتواري كالظلال"، تتكشف أمامنا دروب هذه الرحلة الشاقة والمضيئة في آن.

اهدف من وراء ذلك إلى تقديم صورة متكاملة ومنسجمة لهذه التجربة الشعرية الثرية، لا بوصفها شذرات متناثرة، بل كأجزاء من مشروع نقدي أوسع، يسعى إلى استجلاء القيم الجمالية والفكرية في الشعر العربي المعاصر ذي النزعة الصوفية والوجودية.

إنها دعوة، في الوقت ذاته، للقارئ كي يشارك في هذا السفر النقدي، متأملاً كيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى "بيارق للغيوب"، وكيف يمكن للسراب أن يصير "ينبوعًا يتفجر من ينابيع الخيال".

بالعنوان: يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي.. إلى السر الأبهى.. والذي يشير إلى نوع من السر الذي يتجاوز المعنى المباشر للكتمان أو الخفاء؛ فكلمة “الأبهى” تعني الأكثر جمالاً وبهاءً، ما يجعل السر هنا ليس مجرد أمر مخفي، بل هو سر مضيء، سر يتجلى فيه الجمال الإلهي أو الوجودي، أو ربما سر الحياة والروح.  والذي سنبحث عنه في مفاصل القصيدة.. علنا نصله...

1. القوافي وصقيع اليومي: الثورة على الجمود

أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي

واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً

موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ

*

نداء مشحون بالعاطفة والرمز:

"أوقد فوانيسَ القوافي في دمي"

في هذه الصورة الباهرة، تتحول القوافي إلى فوانيس، نورًا داخليًا يشتعل في دم الشاعر.. في إشارة إلى الإبداع المنبثق من أعماق الألم والوعي.. انه إنزياح دلالي مدهش: فلا القوافي توقد عادةً، ولا الدم يُضيء.. خرق للمألوف، يجعل الشعر ذاته فعلًا من أفعال الإشراق الداخلي.

ثم وبإنزياح آخر يقول:

"واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً"

هنا يرسم رفضًا للابتذال والروتين، فاليومي العابر مجمَّد، كالصقيع، بلا دفء ولا معنى.. إذن، الدعوة إلى الثورة على المعتاد، والبحث عن وهج الحياة الحقيقي عبر الإبداع والشعر. ليبلغ التصوير ذروته:

"موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ"

حيث يربط الجدال العقيم، الذي لا يلد إلا الوهم، بالجليد الموحش، فكل صراعٍ لغويٍ أو جدلي بلا جوهر، إنما يُنتج برودة وخواء وعدم.

يبني الشاعر صورًا مبتكرة، يتجاوز بها حدود التعبير التقليدي، موظفًا المجاز والاستعارة بلغة مشبعة بالإيقاع الداخلي.

النص يحتج على الابتذال والجمود، ويدعو إلى إشعال جذوة الإبداع والمعنى وسط ركام اليومي العابر.

انه القلق الوجودي الذي يحاصر المبدع، الذي يؤكد الحاجة إلى تحطيم السكون الاجتماعي المفرغ من الدفء.. يكشف النص، وعبر رمزيته، عن حالة الركود التي تصيب المجتمعات حين تستبدل الفعل الحقيقي بالجدال العقيم.

مقطع صغير، لكنه صرخة إبداعٍ ضد خريف الروح، وثورة على موات العادة.. انه إشعالٌ لفتائل القصيدة في ليل الصقيع الإنساني، حيث يبقى الشاعر وحده، حاملًا فوانيسه ليضيء عتمة الحياة التي خانتها الكلمات اليومية.

2. خصام الاوهام وجمر السؤال: في وعي الألم..

خاصمْ سَماديرَ الرؤى

واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي

فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما

يكوي النُهى جمرُ السؤال

*

مواصلة الثورة بمواصلة النضال:

"خاصمْ سَماديرَ الرؤى"

في إنزياح دلالي لافت، إذ يجعل الرؤى كائناتٍ يمكن خصامها، والسَمادير ـ وهي الأوهام والأطياف ـ تتحول هنا إلى خصوم، في استعارة توحي بصراع الذات مع أحلامها المراوغة.

معمّقًا المشهد بالطلب الحارق:

"واشعلْ بقلبي موقِداً ..."

فالإشعال هنا لا يكتفي بإضاءة داخلية، بل يحترق، ليلامس فؤاد الآخر أو فؤاد الشاعر نفسه، مؤكداً وحدة الألم بين الذوات.

وتتجلى الذروة في:

"مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"

حيث يتحول العقل المفكر (النهى) إلى ضحيةٍ لجمر الأسئلة، في مشهدٍ فلسفيٍّ بالغ الإبداع، يحفر في أعماق الحيرة والبحث الإنساني.

مقطع يشعل المجاز حتى لهيب الحيرة.. يصوغ من الألم معرفةً، ومن خصام الرؤى يقظةً، حتى يصير السؤال نارًا تضيء طريق العارف في عتمة التيه.

المقطع الشعري هنا يأتي كثيفًا ومشحونًا، مبحرًا في أعمق طبقات الوعي الإنساني، حيث ينهض الشاعر بنداء وجودي حارق: "خاصمْ" هذه الأطياف المرتبكة بين حلم ووهم، التي تصبح خصمًا يستحق المقاومة، مما يعكس دعوة لتمرّد العقل الإنساني على الإغواءات العاطفية المضللة. إنها صورة باذخة الدلالة؛ حيث يتحول اللاوعي إلى غابة يجب الخروج منها بوعي مشبوب.. املا في ان يتحول القلب إلى ميدان اشتعال داخلي.. احتراق لا يستهلك صاحبه بل ينيره.. حريق معرفي يحفّز الذات على تجاوز التكلس الروحي.

يصل التصعيد الرمزي ذروته عند: "مثلما يكوي النُهى جمرُ السؤال"، في مشهدٍ يُغري بالتأمل؛ فالعقل، الذي يفترض فيه البرودة والاتزان، يكويه السؤال، ليكشف أن البحث عن الحقيقة ليس برودًا بل معاناة ملتهبة.

هنا، تتداخل نار القلب مع جمر الفكر، ليرسم الشاعر لوحة معرفية عن الألم بوصفه بوابة الوعي، وعن خصام الأوهام كشرط ضروري لولادة النور الداخلي، في قصيدة تتقد بالحيرة وتستنير بالتمرد على العتمة.

3. الخلود في الفناء: ذوبان الذات في المثال..

أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي

حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟

انه سؤال وجودي مشحون بالشجن ذلك الذي يطلقه الشاعر بقوله: "أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي".. في إنزياح لغوي ودلالي باهر، يجعل العاشق المتيم معادلًا للخلود، فلا زمانٌ (أيّان) ولا كيفيةٌ تستطيع محو العاشق المولّه. هنا تتجسد استحالة الفناء العاطفي إلا بفناء الذات الكاملة.

ثم يعمق الصورة بإجابه فلسفية مدهشة ومفاجئة:

"حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ" انها لحظة، يتحول العشق فيها إلى مثالية مطلقة لا تكتمل إلا بفناء الأنا الفردية، في تصوير بلاغي يتجاوز العشق الغريزي إلى العشق الروحي الصوفي.

اذن فهو يمدنا بشعلة وجدانية تتوهج بأسئلة الكينونة والحب، حيث يُصبح العاشق نارًا لا تخمد إلا إذا ذابت الذات في المثال الأعلى.. وليجعل من القصيدة مرآة لحريق الإنسان الباحث عن المطلق.

الشاعر يتعامل هنا مع الحب بوصفه فعلاً فلسفيًا مطلقًا، وليس مجرد انفعال عاطفي. في "أيّان بل كيف" حيث يتحول الزمان والمكان إلى أطرٍ عاجزةٍ عن احتواء العاشق، مما يشير إلى تجاوز الحب للأبعاد الوجودية.

أما صورة "فناء الذات" فتمثل أرقى مراحل العشق الصوفي حيث تتلاشى الأنانية الفردية في حضرة المثال.. هكذا يتماهى النص مع تجارب كبار العارفين أمثال الحلاج وابن عربي وسواهما، حيث يكون العشق سبيل الخلاص والذوبان الكوني.

في هذا المقطع تتخذ القصيدة بُعدًا وجوديًا ثريًا، يمزج بين حرارة القلب ونور الفكرة، وينحت الجمال من لهب العشق السرمدي.

4. الغيبوبة والانجذاب: البحث عن المطلق..

ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً

لِطيفِ الغامضِ المخفيّ

سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ

ينطلق الشاعر هنا من صورة وجدانية آسرة:

"ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً"

انه تصوّر الغياب لا كفعلٍ حسي بل كحالة انخطافٍ روحي، حيث تتلاقى الدهشة بالانجذاب. الجمع بين "مندهش" و"مجذوب" يرسم رحلةً إلى غيبوبة الوعي بفعل الجمال المطلق. ثم يتماهى مع الغيب:

"لِطَيفِ الغامضِ المخفيّ"

ليُحيل الغياب إلى تَتبع طيفٍ خفي، مما يعمّق الغموض ويكثف المعنى الصوفيّ للبحث عن المطلق. لتبلغ الذروة:

"سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ"

حيث يتحول السكر من حالةٍ حسية إلى انتشاء معرفي، نابع من ألغاز الإبداع، وليرتقي بالوجدان إلى مقام السُكر العقلي.

مؤكدًا سُكْر المعرفة ودهشة الكشف.. حيث يتوه العاشق بين عتمات الخيال، حاملاً قنديل القريحة صوب الغائب الأبدي.

انه تعامل مع الغياب بوصفه فعلاً من أفعال الاستنارة. "الطيف الغامض المخفي" وهو في الان ذاته، رمزًا للعالم الداخلي الغائر الذي لا يُكشف إلا لمن يسكر بسؤال الإبداع. السكر هنا لا يُفسد العقل، بل يوقظه على ألغاز الخلق.

كما يمزج بين المتعة والارتباك، بين اللذة العقلية والانخطاف الروحي، مما يخلق نصًا مزدوج الطبقات: سردي في ظاهره، صوفي في جوهره.. فيُحيل القارئ إلى تجربة السُكر بمعناه الأسمى: التوحُّد مع غموض الوجود.

انه فتحًا أفقًا تأويليًا أوسع، نظرت إلى الغياب والسُكر بوصفهما مجازات عن السعي الإنساني نحو الحقيقة الماورائية.

بهذا التوليف، تتضح ثنائية ما أراد الشاعر: إبداع لغوي أخّاذ وتجربة فلسفية مشبعة بجماليات الحيرة والانخطاف الروحي.

5. بين الحنين والظمأ: رحلة في تخوم الوجود..

قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً

ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى

وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ

في قلبِ الرِمالْ

*

بمخاطبة الوجدان:

"قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً"،

يحمّل القلب قدرة النُطق والحوار، مما يضفي على العاطفة عمقًا معرفيًا، ويؤسس لجسرٍ بين الذات ومكنونها الخفي. ثم يكمل بصورة شعرية مدهشة:

"ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى"،

مؤكدًا أن العطش هنا ليس حسّيًا بل وجودي، عطشٌ للمعنى وللمطلق يضرب بجذوره في أعماق الإنسانية كلها، في إشارة فلسفية راقية يعززها بصورة باهرة:

"وَحَنينُهم أبداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ"،

إذ يصوّر الروح نهرًا جاريًا (فراتًا) يسعى إليه الورى بظمئهم السرمدي، لينسكب المعنى صافيًا فوق رمال العدم.

يصوغ الشاعر هنا ملحمة عطش الإنسان للروح، حيث يتحول الفؤاد إلى رسولٍ بين صحراء الحياة وينابيع الخلود. حيث يستبطن الشاعر جدلية العطش والحنين كجوهر للوجود الإنساني.

* فـ الظَمأ الوجودي هو استعارة عن الحيرة الأنطولوجية: بحث دائم عن الحقيقة، عن "فرات الروح" الذي قد لا يُبلَغ إلا بالحنين الأبدي.

* بينما الماء، رمز الحياة، لا يسكب في الأجساد بل في الأرواح، مما يشي بحس صوفي عميق حيث تتماهى الذات في نهر المطلق.

بهذا، يتجاوز النص الشعري كونه تصويرًا وجدانيًا ليصبح تأملاً فلسفيًا في حقيقة الوجود الإنساني الظمآن إلى معناه الخالد.

6. جياد الريح، سفر الغيب: وجودية في العبور الشعري..

سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ

المَنايا والرؤى

وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى

للغيبِ والمجهولِ

والسِرِّ المُحالْ

انفجار مجازي أخّاذ:

"سفرٌ سماويٌّ على أجْيادِ عاصفةِ المنايا والرؤى"،

في إنزياح دلالي مزدوج، حيث يُزَوِّج الموت بالحلم، ويجعل العاصفة مطيةً في سفرٍ يتجاوز حدود الأرض. هنا تتماهى الفناءات مع البشارات، ويصبح الإنسان فارسًا بين الرؤى والمنايا. ثم يضاعف الشاعر الإيقاع التصويري:

"وعلى جيادِ الريحِ صاهلةَ الخُطى

للغيب والمجهول والسِرِّ المُحال"،

فجياد الريح، ذات الطبيعة الهوجاء، تصهل بخطى قادمة من الغيب، مواصلة السير نحو المطلق والمستحيل.

إنها معانقة المطلق بجموح الخيال، فالشاعر يمتطي رياح الموت والرؤيا معًا، قاصدًا سديم الغيب، حاملاً توق الإنسان الأزلي إلى الماوراء.. انه تجسيد للرحلة الوجودية الكبرى:

* السفر السماوي لا يُقصد به التنقل المادي، بل التحليق الوجودي بين حقائق الفناء وأحلام الخلود.

* المنايا والرؤى توأمان في طريق الإنسان نحو كشف الحقيقة الكبرى، والجياد الصاهلة رمزٌ للجموح الداخلي نحو المجهول.

* الغيب والمحال في النهاية ليسا نهاية، بل بداية أخرى لا تدرك إلا بنشوة الفناء المتجاوز للأطر المحدودة للعقل البشري.

هكذا يتعانق النص مع الميثولوجيا الصوفية والأساطير الكبرى عن السفر نحو السر الأبدي.

7. أرجوحة الأقدار: بين وعد الخلود وعاصفة الزوال..

أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا

ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ

وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ

عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ

*

اختصار للتوتر الأبدي بين المصير والاختيار

"أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا".

الأرجوحة، رمز الطفولة والفرح، تغدو هنا متهالكة وثملة، مشدودة إلى حبال القدر الواهية، في استعارة تنطوي على قلق وجودي عميق. تلحقها توسعة للمشهد:

"ما بينَ وَعْدٍ دائمٍ في سرمدٍ وحصادِ قَشٍّ زائلٍ"،

في تباين حاد بين الخلود الموعود وهشاشة المكاسب الدنيوية، حينؤ تحترق الأحلام كما تحترق سنابل القش مع أول عاصفة. متوجًا ببناء درامي اخاذ..:

"عصفت به سحب النهاية والزوال"،

فالنهاية ليست هدوءًا بل عاصفة مدمرة، تهدم كل بناء هشّ أنشأه الإنسان فوق رمال الغرور.. انها رقصة المصير الإنساني فوق حبال الفناء، حيث تترنح الآمال بين وعد السرمد وخيبة الزوال.

هذا التعامل مع فكرة القدر بوصفه لعبة عبثية لا تخلو من الإغواء والوهم يمنحنا لحظة تأمل في:

* الأرجوحة السكرى رمز للحياة المتأرجحة بين الإيمان بالمطلق والانخداع بالمحسوس الزائل.

* الوعود السرمدية التي تمثل الأمل الوجودي، بينما حصاد القش رمز للمكاسب الزائلة التي يعصف بها الموت/ النهاية، حسب الرؤية، وهي ليست خاتمة هادئة، بل إعصار يُسقط الأقنعة ويعرّي المصائر.

وبهذا العمق نجد ان النص يُماثل في عمقه نصوص الوجوديين الكبار، حيث الإنسان معلق بين حرية جارحة وقدرٍ لا يرحم.

8. الاحتراق في مجامر التجلّي: في إشراقات الشعر..

أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ

أطْلقتْ أسمائَهُ

مُتَجَلّياً ومُعانِقاً

أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ

*

انفتاح لأفق الروح على اتساعه:

"أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ أطلقتْ أسمائَهُ"

في صورة باهرة، تتماهى الأرواح مع الوجود حتى تتجاوز ذواتها، لتطلق الأسماء كإشارات كونية نحو الحبيب المتجلي.. هذا الانزياح الدلالي يحوّل الذات إلى طاقة متجددة من الحضور. ثم يكمل:

"مُتَجَلّياً وَمُعانِقاً أشواقَ من فازوا بقُربٍ أو وِصالْ"

في انسيابٍ مدهش، يحوّل الشوق إلى مادة حسية تُعانق المتجلي، في مشهدٍ روحي.. إنساني مكثف، يلامس قمة التوق إلى المطلق. ان هذه المفاصل الإبداعية، تجسّد عطش الوجود إلى الانصهار في نور الحضور.

انه تجاوز لحدود الزمان والمكان عبر مفهوم "فرط التواجد"، وهو إحساس فائق بالحضور يتماهى مع فكرة الحلول العرفاني. الأرواح هنا ليست مجرد كينونات معزولة، بل أمواج من التجلّي تذوب في النور الإلهي.

التجلي والمعانقة يتحولان إلى رمز فلسفي لرغبة الكائن في تذويب الفواصل بين الذات والآخر، بين المحدود والمطلق. في نسيج القصيدة، لا يتحدث الشاعر عن لقاءٍ أرضي، بل عن لحظة اتحاد كونية حيث تصبح الأشواق لغة كونية تترجم شغف الوجود..

هكذا، تتحول التجربة الشعرية إلى لحظة إشراق عرفاني، تتلاشى فيها حدود اللغة، فلا يبقى سوى العناق الروحي بين الأرواح والنور.

الشاعر مصطفى يسكب رؤياه اشراقة في كأس العارفين؛ ليجعل من الكلمات سلالمَ نحو الضياء، ومن الأشواق قناديلَ تُنير درب العشاق التائهين في مجاهل الفقد والحنين.

9. نبوءة الأمل المشتعل: في جمرات القصيدة..

ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها

وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ

*

ينسج الشاعر رؤيا كونية دقيقة:

"ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أملٍ تفتّق من لظى أشواقِها"

في صورةٍ مدهشةٍ، يتحول الأمل إلى برعمٍ متفجّر من لظى الأشواق، حيث الانزياح الدلالي يحوّل الألم إلى ولادة، والانتظار إلى اشتعال خلاق. ويواصل الإبداع بقوله:

"وطريقةٍ سحريةٍ للسائرينَ على الطريقِ

يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ"

في تناغم باهر، تصبح المسيرة الإنسانية نحو الكمال طقسًا صوفيًا يحفّه العطش الأبدي للمعنى.. خلق لهالة رمزية بين الحب، والطريق، توطئة للاكتمال، كأنها مرآة لجوع الإنسان الأزلي إلى المطلق.

الشاعر يتموضع هنا في فلسفة وجودية عميقة، حين يتحدث عن الأمل المتفتق من لظى الشوق، والذي لا ينبع من ترف، بل من وجعٍ متأصل.

ان الطريق السحري يشير إلى الرحلة الوجودية التي يقوم بها الكائن البشري، مدفوعًا بظمأ لا يرويه إلا الاقتراب من الكمال.

الشاعر هنا ينسج تجربة صوفية بامتياز، حيث تتحول الحياة إلى عبور نحو المطلق، والسير إلى غاية لا تتحقق بالكامل، لكنها تمنح المعنى لاستمرارية المسير. إنها قصيدة تحرق الذات بحنينها كي تصنع نورها.

ينبع المقطع من رماد الأشواق، ليُشعل فينا عطش البحث عن الجمال المطلق، محولًا الكلمات إلى مرايا تعكس رحلة الإنسان الأبدية بين جمر الشوق وواحات الأمل.

10. بيارق الغيوب: سفر المعنى في فضاء القصيدة..

لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً

تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ

يستحضر الشاعر صورة مذهلة حين يقول:

"لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً"

هنا، تتجاوز العودة معناها الحسي لتصبح ارتحالًا ميتافيزيقيًا من الغياب إلى الحضور، في انزياح دلالي يصور الروح وهي تنتزع المعنى من أقاليم المجهول. ثم يربط ذلك بنداء القيم السامية:

"تقفو نداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ"

حيث تتجسد الحقائق على هيئة بيارق شامخة، تسير خلف نداء الحق في ميادين الصراع، مشعلًا الحلم بالتغيير والنهوض. يبهرنا هذا المقطع بروعته حين يدمج بين الأمل، والالتزام، والفداء في أنشودة خالدة ضد النسيان.

انها جدلية الغياب والحضور؛ حيث تغدو الغيوب مهودًا للمعنى، والحقائق الراسخة لا تخرج إلا من أعماق الغموض.

الفلك هنا رمز للقدر، والبيارق تمثّل الانتصار الأخلاقي في ساحة وجودٍ مشتبك. وفي هذه الرحلة، يستدعي الشاعر فكرة النضال ضد العبث، حيث تكون المعركة في السوح ليست بالسيف فقط، بل بمعاني الروح المتوهجة بالحق.

إنه نشيد المقاتل الذي يرفض السكون في حظيرة النسيان، ويشعل راياته باسم الحق والكرامة.

بهذه الصورة، يصنع الشاعر مجرّة من الوعود، ويبعث من رماد الغيوب بيارقًا للأمل، ليؤكد أن المعنى الحقيقي لا يُولد إلا من صراعٍ مشبعٍ بالحق والنقاء.

11. رحلة الأرواح: إشراق السرى نحو فجور الخلود..

هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ

ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً

ذو الجَلالْ

*

بنصاعةٍ صوفية يقول:

"هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ"

في صورة مدهشة، تتحول الأسفار من تنقّلٍ مادي إلى عبورٍ روحيّ، حيث العشاق هنا هم السائرون على طريق الحقيقة المطلقة. ثم يتابع انزياحه الخلاق:

"ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الأرواح فجراً سرمدياً

ذو الجلالْ"

فالسُرى لا ينتهي بالإنهاك، بل يفضي إلى إشراق داخلي خالد، فجراً أبدياً من الجلال والنور. هنا ينسج الشعر من رحلة التعب.. إشراق الخلود، وتحول من الألم.. طقسًا للانبثاق الروحي المتعالي.

نصير هنا أمام رحلة عارفين لا مسافرين. الأسفار ليست حركةً بين المدن، بل عبورٌ بين المقامات الروحية.

فالفجر السرمدي هو صورة فلسفية مكثفة: لا يشير إلى الفجر التقليدي، بل إلى ولادة دائمة للمعرفة والوجد.

اما في بُعده الاجتماعي، فهو يحتفي ببطولة العاشق الباحث عن المعنى، رغم قسوة السرى وطول الطريق.. في رفض لكل ما هو ساكنٌ وخامل.. هكذا يغدو السُرى فعل تحررٍ داخلي، رحلة باتجاه الله او المطلق، باتجاه الذات المستنيرة.

إنه سفرُ الأرواح نحو فجور لا يغيب، إشراق يتحدى الزمن والعدم، حيث الجلال يغمر الخطوات المكلومة بنور السرمدية.

12. اسفار العشق وسهام الروح: تيه العاطفة الإنسانية..

لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ

وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ

وكم نَفَرَ الغزالْ

*

إنزياح بلاغي مدهش، حين يطلب:

"لا تسألِ العشاق عن أسفارهم"

مُحوِّلًا السفر هنا إلى رمز للرحلة الروحية والعاطفية معًا، لا مجرد انتقال مكاني. الأسفار.. معادل شعري للهجرة الوجدانية المجهولة، حيث تفقد الأسئلة جدواها أمام اتساع التجربة العاطفية. ثم يوجه النص بوصلة الحواس إلى العمق الحقيقي:

"واسألْ سهامَ الروحِ كم طاشتْ"

في تجسيد بليغ للروح كقوسٍ متوتّر، يطلق سهام الشغف، لكنها كثيرًا ما تخطئ أهدافها، في إشارة إلى خيبات العشق وعدم يقينيته. وتأتي الصورة الأخيرة لتعميق المشهد:

"وكم نفرَ الغزالْ"

فيها استعارة حركية مدهشة؛ فالغزال رمز للروح الهاربة من قبضة الحب، مرتبكة بين الانجذاب والفرار. انه فيض من حرارة المشاعر المتوثبة، وصورٍ تكتنز بالمعنى، حيث تصبح الرحلة العاطفية هروبًا مستمرًا، والروح ميدانًا لسهام تتناسل بين الأمل والانكسار.

بالرغم من اعتماد النص على البساطة الظاهرية فانه يمتلك عمقًا داخليًا مثيرًا للتأمل، من خلال ما تصنعه الموسيقى عبر التوازن بين الفعل والجواب (لا تسأل/ واسأل). الإيقاع الداخلي نابض بتوترات الوجد، والمجازات تنفتح على عوالم متعددة دون ادعاء.

الشاعر يطرح هنا فكرة عجز المعرفة الإنسانية عن احتواء التجربة العاطفية.. فالحب هنا لا يُدرك بالسؤال العقلي بل يُعاش بالحدس والألم واشتعال الروح.. فالأسفار الداخلية أعقد من أن تُروى، والروح تضيع سهامها كما تضيع الحقائق أمام الفيض العاطفي.

13. خطى العشق على قارعة التلاشي: تيه القلب في تلابيب الجمال..

وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى

كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي

في تلابيبِ الجمالْ

*

طلب استهلالي وبديع وبليغ:

"واسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى"

حيث يحوّل الخُطى إلى شاهدة حية على رحلة العشق البعيدة الغور، والدليل على ذلك هو ما يمكن ان يجيبه والقيّاف.. ذياك الذي قفي اثار طول السرى.. حتى كاد ان يغدو مرآةً للضياع العاطفي الطويل. ثم ينتقل إلى تصوير مذهل للذوبان الوجداني:

"كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي"

إنها صورة شاعرية مدهشة حيث يتقاطع العشق مع الموت التدريجي، وتبلغ العاطفة أقصى ذروتها حتى قارعة التلاشي.. تكمن روعة التعبير في مزجه بين متناقضين: "قارعة" و"التلاشي"، فالقارعة تُوحي بالدهشة والهول والصدمة، وكأنها طرقٌ عنيفٌ على أبواب القلب(اذا اخذناها من قرع يقرع)، أما التلاشي فيشير إلى الذوبان التدريجي والتبخر الهادئ للذات. وفي هذا التناقض تكمن عبقرية الصورة، إذ يتحول سكون التلاشي إلى صخبٍ داخلي، والفناء الصامت إلى قرعٍ هائلٍ يزلزل أركان الوجود.

أما دلالة "قارعة التلاشي" فتتجاوز معنى "طول السرى" أو الدرب الطويل، لتصل إلى مفهوم أكثر عمقًا وتأثيرًا.. إنها القيامة الصغرى التي تحل بالعاشق، والفاجعة المهيبة التي تُفني كيانه. هي لحظة الانكشاف الكامل أمام حقيقة العشق، حيث يقف الإنسان مذهولًا على حافة الزوال، يرتعد من هول ما يبصر، ويتلذذ بألم الفناء في ذات الوقت.

ويُتوَّج المشهد:

"في تلابيبِ الجمالْ"

فالجمال هنا ليس مظهريًا فقط، بل قيدٌ والتباسٌ أبدي، تتشبث به الروح حتى الاحتراق. نص مشحون بجماليات الذوبان، حيث الحب رحلة أبدية ينمحي فيها الكائن في حضرة الجمال، وتذوب الخطى في صمت السرمدي. كما ويتدفق بإيقاع رقيق ومنساب، مع استخدام كلمات ذات وقع تصويري عالٍ مثل: القيّاف، السرى، التلاشي، التلابيب. هذه المفردات تخلق نسيجًا صوتيًا يمزج بين الرقة والحزن. إضافة الى ذلك يقارب النص مأزق الوجود العاطفي: فالعشق ليس بلوغًا للآخر، بل رحلة احتراق ذاتي في دروب الجمال المستحيل. الحب هنا يلتبس مع الفناء، والسؤال لا يطلب جوابًا بل يحاكي ضياع الأثر وسط التيه الأبدي.

14. سراب القلب وجمر الغرام: في انكسارات العشق الشعري..

فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ

البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ

فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ

ماءاً زُلالْ

في هذا المشهد الشعري الباهر، يقول الشاعر:

"فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ البيدِ"

ينزاح المعنى منذ الوهلة الأولى، إذ يُرى القلب وقد تحول إلى صحراء قاحلة، بينما السَّرابُ .. الوهم المتلألئ الكاذب.. يغدو وعدًا كاذبًا بالنجاة العاطفية، فتتجسد العاطفة في بعدها الخادع. ويتابع:

"يَحْسَبُ موجَهُ فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ ماءاً زُلالْ"

في قلب هذا التصوير، تتماهى الحواس: فالعطش إلى الحب يُرى سرابًا مائيًا، والموج ليس ماءً بل احتدام الغرام والاحتراق. إنها مفارقة مؤلمة ترسم ضياع الإنسان في متاهة رجاءاته الخادعة.

انه رصد لوهم العشق بوجهه الخادع، المفرط بالغرام والمتوسل ان لا يكون السراب الا ماء زلال.. وهو امر محال.. مرجحًا الحاجة الإنسانية إلى التعلّل بالأحلام المستحيلة، املًا بالخلاص والسكينة.

انه تأمل في ميتافيزيقا الرغبة: فالعاشق يطارد صورةً لا وجود لها إلا بوصفها وهمًا داخليًا، كما يطارد الإنسان في حياته الكمال الذي لا يُدرك. الجمر والزلال، الغرام والماء، البيد والسراب.. كلها تناقضات تُلخّص المعركة الوجودية بين الأمل وخيانة الواقع. فالموج ليس رحمة بل احتراق، والماء ليس ارتواءً بل خيبة مستدامة. بهذا يصبح المقطع مرآة فلسفية تعكس سخرية المصير الإنساني.

15. سراب الخيال وبراكين الممكن: في قدرة الوهم على صناعة الحقيقة..

لا تحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا

ما صارَ يُنْبوعاً

تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ

يجيبنا هنا استدراكًا عما عاناه في المقطع السابق

"لا تحسبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا / ما صارَ ينبوعاً تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ"

بإنزياح دلالي مدهش، يرفع السراب من رمزية الوهم إلى إمكانية التحوّل الخلّاق. هنا يتجاوز التصوير الشعري التقليدي، فـ"السراب"، بدلاً من كونه خداعًا محضًا، يتحول إلى ينبوع حقيقي، شريطة أن يتم النظر إليه عبر نوافذ الخيال الخلّاق. إنها صورة شعرية باهرة، تستنهض فينا فكرة أن الوهم أحيانًا هو البذرة الأولى لكل حقيقة ممكنة، وبهذا يُعيد النص الاعتبار للخيال، لا كفرار من الواقع بل كقوة خفية لصناعة الوجود الجديد. على المستوى النفسي والاجتماعي، يوقظ النص الأمل في تجاوز حدود المألوف، وعلى المستوى السياسي، يشي برفض الانحناء أمام مظاهر الهزيمة الظاهرة، والتمسك بأحلام لا تموت. ان هذه الأبيات تحتفي بقدرة الروح الإنسانية على تحويل السراب إلى أنهار، حين يؤمن الخيال بسلطانه، فتتخلق العوالم لا من الماء، بل من إصرار الرؤية.. انه توطيد للعلاقة العميقة بين التجريد والخلق. انه التحوّل: أي أن ما يُظنّ وهماً، قد يكون فقط طورًا أوليًا لحقيقةٍ لم تكتمل. في هذا المعنى، يحوّل الشاعر الخيال من عالم المراوغة إلى مختبر للإمكانيات. السراب ليس خداعًا، بل هو "نواة الإمكان" حين يحلّق الوعي فوق إسار الواقع البارد.

16. ظلال السرّ وهتك الحجاب: في جدلية الحقيقة والمطاردة الشعرية..

فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها

للعارِفينَ بِسرِّها

هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا

أثَراً تراءى كالظِلالْ

ويواصل مستبطنًا الواقع:

"فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها / للعارِفينَ بِسرِّها"

في هذه الصورة الشعرية الباهرة، تظهر الحقيقة ككائن نورانيٍّ يكشف عن جوهره فقط لمن بلغ سرّ المعرفة. الإنزياح هنا يحوّل الحقيقة من فكرة ذهنية إلى كيان مشعّ حيّ، يتطلب استنارةً داخليةً للوصول إليه. ويواصل قائلاً:

"هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا / أثَراً تراءى كالظِلالْ"

العارفون لا يكتفون بالرؤية، بل يهتكون الحجاب، في دلالة رمزية على كسر الحواجز بين الظاهر والباطن. لكن المفارقة المدهشة أن ما يعانقونه ليس الحقيقة المطلقة، بل أثرها الظلّي، ما يعمّق فلسفة الغياب الدائم للحقيقة الكاملة. يتجلى النص بانزياحات دلالية تخترق السائد، أما نفسيًا اوفلسفيًا، فهو تصوير مدهش لعطش الإنسان السرمدي لمعرفة تظل تتوارى خلف ستائر الظنون. انه تجسيد للرحلة الأبدية للإنسان نحو نور الحقيقة، رحلة لا تنتهي إلا بمعانقة الظلال، حيث يظل السرّ معلقًا فوق قلوب العارفين كنجمة لا تُطال. يشتغل هذا المقطع على التوازن بين الرؤيا والضياع؛ فالعارفون، رغم هتك الحجب، لا يلامسون إلا أطياف المعنى. هنا يطرح الشاعر رؤية للمعرفة بوصفها فعلًا لا نهائيًا من الكشف والاشتياق، فالسرّ لا يُمتلك، بل يُلاحق في انعكاساته، كما أن الظلّ يظل دومًا بعيدًا عن اليد.

17.  خيول الشك وخرائط الضلال: في جدلية التيه الروحي..

يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً

والمورياتِ على يقينِ الروحِ

قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلال

*

بخطاب تحذيري قوي بقول:

"يا أيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً"

في صورة شعرية مدهشة، ينزاح العقل المشكك عن مجاله، ليغدو فارسًا جامحًا، يُسرّج الخيول التي لا تجري إلا في ميادين الشك. هذه الخيول العاديات الضوابح تلهث خلف سراب التيه، دون أن تصل إلى يقين. ثم يقول:

"والمورياتِ على يقينِ الروحِ / قدحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ"

يصوّر هنا تصادم الشك باليقين: فالشك يحاول قدح شراراته فوق يقين الروح، لكنه لا يولد إلا وهجًا عابرًا أو ومضة ضياع داخل متاهات الضلال.

الإنزياح هنا يكمن في قلب الأدوار: إذ يصير الشك قنّاصًا، يهاجم أرض الروح، ولكن عبثًا.

يجسّد النص مواجهة شرسة بين الثبات الداخلي وعواصف الفكر المرتاب، أما نفسيًا وسياسيًا، فهو تعبير عن الاضطراب الذي يعيشه الإنسان حين يفقد بوصلة الإيمان بالحقائق الكبرى.

هذا المقطع يُقيم معركة بين العقل المأزوم والروح الواثقة، حيث يخسر الشك، رغم ضجيجه، أمام صمت اليقين الذي لا تُطفئه أعاصير الضلال.

يوظف الشاعر آلية التصعيد الإيقاعي والدرامي من خلال صورة الخيول العاديات، ما يضفي حركية داخلية على النص. يطرح جدلية الشك واليقين: هل الشك علامة حياة أم ضرب من الهلاك؟ يظهر هنا أن الشك الذي لا يهتدي، لا ينجب معرفة، بل ينتج تيهًا دائمًا.

النص، بهذا العمق، يتحول إلى درس تأملي عن طبيعة الحقيقة والهشاشة الوجودية أمام غواية الظن والوهم. 

ان التناص القرآني في هذا المقطع بين وواضح ولن اخوض به

18. رحلة النصال المكسورة: سفر التجربة والوعي الشعري..

سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ

أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى

فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ

*

يفتتح الشاعر المقطع قائلاً:

"سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ"

في ايحاء شعري توكيدي وعميق، يستعير السفر بوصفه مجازًا للحياة ومسيرتها الداخلية، حيث يحلم بأن تعي الراحلة ثقل الرحلة وقسوتها. الانزياح هنا دلالي بالغ: إذ تتحول الراحلة/ البهيمة إلى كائن عاقل منتظر للفهم. ويتابع الشاعر بإضاءة فلسفية:

"أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى"

ليُصوّر التجربة الإنسانية كغوص مستمر نحو الداخل، نحو الجوى، وهو الغمّ العميق، في ملمح نفسي واجتماعي يرصد نضوج الإنسان عبر الانكسارات. وتبلغ الصورة ذروتها في:

"فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ"

مشهد بهيج للألم المتكرر؛ فالنصال لا تتكسر على الصخر، بل على نصال أخرى، مما يخلق مجازًا مدهشًا عن قسوة الحياة، وصراع الإرادات، وانكسار الآمال فوق خيبات أخرى.. وهو تضمين لبيت من قصيدة المتنبي التي مطلعها (نعد المشرفية والعوالي/ وتقتلنا المنون بلا قتال)

فالشاعر يعيد تعريف السفر العرفاني بوصفه انكسارًا متكررًا، ورحلة شاقة صوب معرفة الذات عبر معارك لا تُحسم الا بتكسر النصول على بعضها.

انه يستثمر الكثافة التصويرية والبناء التراكمي للجملة الشعرية، فيغدو النص مشهدًا حيًّا لحركة الوعي في معترك الوجود. كما ويطرح رؤية وجودية للمعاناة:

أن النضج لا يتحقق إلا بالارتحال إلى مواطن الألم، حيث لا انتصار إلا بوعي التكرار المرير للمراس والامتحان، ولا نهوض إلا فوق أنقاض التجربة. بذلك يغدو الألم ذاته دربًا لا مفر منه في تشكيل الكينونة.

19. رهائن المسير الخفي: في معاناة الطريق والجهل البصيري..

هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي

هيهاتَ لو عرفت إذن

ما كانَ أدركها الهُزالْ؟

يقول الشاعر:

"هل أدركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي"

في استهلال مشبع بالأسى العميق، يتساءل الشاعر عن وعي الرواحِل.. وهي استعارة للذات أو القوة الداخلية.. بجوهر الرحلة، أي المسيرة الوجودية المضنية. الإنزياح هنا بالغ الذكاء، إذ تسند الإدراك للراحلة (البهيمة العجماء)، كأنها كيانٌ يعي ويتألم. ثم يواصل:

"هيهاتَ لو عرفت إذن / ما كانَ أدركها الهُزالْ"

بإنسيابية مدهشة، ينتقل إلى تظهير المأساة: لو أدركت الرواحِل حجم التحديات، لما نخرها الهزال!. تتجلى هنا صورة نفسية واجتماعية باهرة: التعب لا يأتي فقط من الطريق، بل من الجهل بحجم الرحلة، ومن الآمال العمياء. عليه نرى ان النص.. ببنيته وأبعاده.. يرسم الضعف الإنساني حين يسير في دروب الوجود دون بوصلة، حتى تتآكله خيبات الطريق دون وعي.

الشاعر يلخص هنا تراجيديا الإنسان السائر في العتمة: أن الجهل بكُنه المسير هو بداية الإنهاك، وأن المعرفة وحدها هي التي تؤجل الهزال، أو ترفعه.

الصور الشعرية تتوهج بدفق شعوري عميق.. فالرواحِل ليست فقط أدوات سفر، بل رموز للروح المسافرة في متاهة الحياة.

ان جدلية الإدراك والمعاناة التي تطرح هنا: أن هي الا البصيرة التي تقي الروح من التهالك العبثي، فيما يؤدي العمى الوجودي إلى الذبول قبل الأوان.

إنها مرثية خفية للذات البشرية السائرة نحو مصيرها، بين وعي مأساوي أو هلاك غير مُدرك.

20. رحلة الضوال: في أشواق الإنسان وسراب المصير..

هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ

أشواقُها كَدموعها لا تنتهي

حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ

يقول الشاعر:

"هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ"

من الوهلة الأولى، يصوغ الشاعر جملة قصيرة لكنها مشبعة بالمعنى.. فالحياة ـ أو الوجود ذاته ـ يُصاغ كـ"رحلة" لا تعرف النهاية.. إنه انزياح بلاغي يجعل من الزمن المجهول قافلة دائمة. ويواصل:

"أشواقُها كَدموعها لا تنتهي"

في هذه الصورة الباهرة، يوازي بين الأشواق والدموع: كلاهما تيارٌ جارٍ، لا يعرف السكون. الانزياح هنا أن الشوق والدَّمع يصبحان جوهر هذه الرحلة الأبدية، وقوامها العاطفي المؤلم. ليختم بقوله:

"حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ"

صورة مدهشة للروح كمسافرة تلهث خلف الضوالٍ "جمع ضالة"، وعودٍ ضائعة أو أحلامٍ مفقودة، تكمل انكسارات الرحلة.

انها تلك الحياةً الإنسانية المحكومة بالبحث الدائم والافتقاد الدائم، في تشريح نفسي.. وجودي لاهث وعميق.

الشاعر ينسج سيمفونية حزينة لمسيرة الإنسان، حيث الأشواق والدموع تتقاطعان في طريق مفتوح نحو وعدٍ لا يُمسك، بل يظل يحوم في ضباب الأبد.

هذا النص يتميز بكثافة رمزية عالية، يعمل فيها الشاعر على المزاوجة بين حركة الروح المستمرة وبين سراب الأمل.

إضافة الى ما يتجلى فيه، كمرآة صافية لفكرة العبث الوجودي: أن كل بحث روحي في الحياة، هو بحث عن ضوالٍ لا تكتمل أبدًا، مما يجعل من الحياة نفسها وعدًا مؤجلًا.

وهكذا يخلق الشاعر عبر رشاقة الكلمات حزنًا ميتافيزيقيًا ناعمًا يتسلل إلى وجدان القارئ دون استئذان.

نختم لنقول:

ان العنوان يحمل في طياته دعوة للتأمل والبحث عن المعنى العميق للحياة والوجود. انه عنوان فلسفي قبل كل شيء، يدعو إلى عدم الاكتفاء بالسطح، وإلى البحث عن العلامات التي تدل على سر الحياة الأبهى، سر الجمال، سر الوجود.

العنوان يجمع بين الفلسفة الوجودية، والمعرفة التأملية، والبعد الصوفي، ليقدم لنا رؤية شاملة عن الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يسعى إلى ما هو مخفي، إلى السر الأبهى.

**

طارق الحلفي – شاعر وناقد / ألمانيا

.........................

رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/980992

الأديبة عفاف عمورة (إينانا.. سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ)

تحمل قصيدة "إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ" للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة طاقةً رمزيةً كثيفة، تتجلّى من خلال استدعاء الرمز الأسطوري لإينانا، آلهة الحياة والخصب والموت، والانبعاث في الميثولوجيا السومرية. هذا الاستدعاء لا يُقصد به مجرد إحالة جمالية، بل ينبثق من عمق نفسي وشعوري يجعل من القصيدة رحلة وجودية داخل الذات الأنثوية المعذّبة والمنبعثة في آن. تنتمي هذه القراءة إلى المنهج النفساني الرمزي، مستندةً إلى مفاهيم كارل غوستاف يونغ، لا سيما "الذات"، "الأنيموس"، "الظل"، و"الرحلة التحولية".

المحور الأول: إينانا كرمز أرشيتيبي — تجلّي الأنوثة الكونية:

في اللاوعي الجمعي بحسب كارل غوستاف يونغ، تمثل الآلهات الإناث (كإينانا، عشتار، ديميتير، إيزيس...) صورة الأنيما، وهي الأنثى الداخلية الموجودة في نفس الرجل، كما تمثّل الأنوثة الكونية الخلّاقة في وعي المرأة. تقول في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ، وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،"

هنا نرصد حركة إينانا من الركود إلى النهوض، من الظلام إلى النور، وهي سمة أساسية في بنية "الرحلة البطولية" الأنثوية. إينانا ليست مجازاً للمرأة، بل المرأة بوصفها أسطورة، قادرة على التجدّد من تحت ركام الألم والخيانة والزمن،والقهر السياسي والعسكري المدمّر، وهو ما يرسّخ حضورها كرمز للذات المتمرّدة على الاستلاب.

المحور الثاني: الرحلة إلى العمق — النزول إلى الظل والموت الرمزي:

يحدّثنا كارل غوستاف يونغ عن أهمية مواجهة "الظل"، أي الجانب المظلم من النفس، في سبيل تحقيق التكامل النفسي. تظهر هذه الرحلة في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات، واجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف، وتعودينَ منهُ مكلّلةً بأكاليلِ البقاء."

إنها رحلة التحوّل الداخلي، حيث تنزل البطلة إلى عتمة الذات، تواجه موتاً رمزياً، لكنها تعود — كما في الأسطورة — محمّلةً بوعي جديد، ببذور الولادة التالية. في هذا السياق، يُقرأ الموت لا كفناء بل كمرحلة من مراحل النضج النفسي، وفقاً لما يؤكده يونغ: "لا يُمكن للإنسان أن يصبح مستنيراً بتخيّل صور النور، بل عبر جعل الظلمة واعية".

المحور الثالث: الحبّ كقوة شافية — الأيروس الإلهي لا الغريزي:

في مقابل العنف والانكسار، تتمركز الأنثى في القصيدة كينبوع حبّ غير مشروط ، تقول: "تُحبّينَ لا كالبشرِ، بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها، وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر."

الحبّ هنا ليس فعلاً شخصياً بل كوسمولوجياً، ينتمي إلى دائرة الأيروس المقدّس في فكر  كارل غوستاف يونغ، حيث يصبح الحبّ قوة شافية، طاقة تدمج الأضداد: الحنوّ والغضب، الجسد والروح، الموت والحياة. بهذا الحبّ، تُضمّد الشاعرة الجراح الجمعية، وتحوّل الأنثى إلى كاهنة/مُعالجة، لا مجرد حبيبة.

المحور الرابع: اللغة بوصفها مسكن الأنثى وصوتها، تقول :

 "تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها، وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق."

هنا تتحوّل اللغة إلى امتداد للكيان الأنثوي. ليست الكتابة ترفاً، بل وسيلة للبقاء، ولإعادة كتابة الزمن/القدر. وفقاً ليونغ، تصبح اللغة إحدى وسائل تحقيق "الذات" وتفريغ اللاوعي. الكتابة الشعرية، إذاً، تُشكّل هنا طقساَ طهورياً، وتحريراً من الصمت والجُرح.

المحور الخامس: حضور الوطن والمنفى — البعد الجماعي للذات الأنثوية. تقول الشاعرة عفاف عمورة : "تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب، وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ شهوةَ العودةِ إلى الحياة."

تُجسّد إينانا المعاصرة هنا الأنثى اللاجئة/المنفية، الحاملة لذاكرة الوطن السليب والحنين لكل ذرة تراب فيه وهو فلسطين من البحر إلى النهر ، لكن من موقع منيع لا هش. في هذا البُعد، تتقاطع الذات الأنثوية مع الهوية الجماعية الفلسطينية، فتُصبح المرأة هنا حاملًا للذاكرة، ومعادلاً للوطن المسلوب، بل ومحفّزاً على استرداده.

خاتمة: إينانا الجديدة — بين الأسطورة والتحقّق النفسي.

في قصيدة عفاف عمورة، لا تظهر إينانا بوصفها تمثالًا أسطورياً جامداً، بل كطاقة رمزية متحرّكة، تتلبّس الذات الأنثوية المعاصرة، لتقدّم من خلالها مشروعاً للنهضة النفسية والوجودية. تُصبح الأنثى بذلك رمزاً للحياة وسط الموت، وللمعنى وسط الفراغ، وللنور وسط الظلمة.

إنها القصيدة التي تُعيد للرمز الأسطوري حياته، وتمنحه جسداً نابضاً، ينهض من تحت أنقاض الحروب والخذلان، ويُعلن: "أنا البداية التي لا تنطفئ".

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ

مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ،

وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،

تسيرينَ بثوبِ النورِ،

فتنحني لكِ الجهاتُ،

وتُشرِقُ في خطاكِ معالمُ البدايات.

*

كأنكِ دعاءُ الأمهاتِ في المهاجر،

أو دمعةُ العاشقِ حينَ يضيعُ الوطن،

كأنكِ البُشرى التي تهمسُ بها النجومُ

لقلبِ الأرضِ المتعبِ.

*

تُحيينَ ما ماتَ من القصائدِ،

وتنثرينَ على قلوبِ الذاهلينَ

عبقَ الدهشةِ الأولى،

كأنكِ نارٌ أوقدها العشاقُ

في معابدِ الانتظار،

تُضيئينَ بها ليالي الغيابِ

وتُطهّرينَ بها جُرحَ الصمتِ.

*

حينَ تسقطُ المدنُ،

وتخفتُ في الشرايينِ أنفاسُ الانتماء،

تكونينَ الحنينَ الذي لا يُنسى،

والصوتَ الذي يُعيدُ للهويةِ معناها.

أنتِ يا ابنةَ الفجرِ،

من رَشّت على ترابِ الوجودِ

ندى البدايات.

*

تُحبّينَ لا كالبشرِ،

بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها،

وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر.

تُحبينَ بحنوِّ السكينة،

وبغضبِ الأعاصير،

وتُضمّدينَ بالقبلِ ما مزّقتهُ الحروبُ في الأرواح.

*

تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها،

وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق،

تمشينَ فوقَ جراحِنا

كأنكِ نشيدٌ لا يُنسى،

وكأنكِ وعدٌ لا يُخلف.

*

مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات،

تواجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف،

وتعودينَ منهُ

مكلّلةً بأكاليلِ البقاء.

*

أنتِ القصيدةُ التي لم تُكتبْ بعد،

والأُمنيةُ التي تأبى أن تموت.

تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب،

وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ

شهوةَ العودةِ إلى الحياة.

*

أنتِ، مثلُ إينانا،

سيدةُ النهاياتِ التي تبدأ،

وملكةُ البداياتِ التي لا تنطفئ،

سِرُّ الحياةِ حينَ تُنسى،

ونبضُها حينَ تُطفأُ القلوب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

لرواية (الوقوف على عتبات الأمس) للأديب المصري أحمد طايل.. دراسة نقدية سيميائية

عنوان الرواية "الوقوف على عتبات الأمس" للأديب المصري أحمد طايل، عنوان يحمل في طياته دلالات نفسية واجتماعية وفكرية عميقة تتجاوز المعنى السطحي للكلمات، لتصل إلى تساؤلات في الهوية والانتماء، بل تسجيل موقف، هو موقف كاتب العمل، وانحيازه للهوية المصرية، بحركتها الحضارية الديناميكية، دون ان يغرق نفسه في تقديس كل ما ينتمي إلى الماضي؛ وسنثبت استنتاجنا هذا من خلال تفكيك عنوان الرواية، باعتباره العتبة الأولى، والأهم، واستخراج دلالاته ، ومن ثم الانتقال إلى متن الرواية التي امتدّت على أكثر من 140 صفحة من القطع المتوسط، في النسخة الإلكترونية المتوفرة عندي، واستخراج الدلالات والإشارات التي تؤكد مضمون العنوان.

تفكيك دلالات العنوان:

الوقوف: يشير إلى حالة من التردد أو التأمل أو الترقب. البطل في الرواية ليس منغمسًا تمامًا في الماضي، ولكنه أيضًا ليس منفصلًا عنه. إنه يقف على أعتابه، يسترجع ذكرياته ويقارنها بالحاضر. هذا الوقوف يعكس حالة نفسية معقدة من الحنين والضياع والرغبة في استعادة الهوية.

عتبات: توحي بالحدود أو الفواصل بين مرحلتين أو عالمين. العتبة مكان انتقالي، يفصل بين مكانين، زمانين، أو حالتين مختلفتين، ولكن، متلاصقتين أيضاً، وهو أيضًا مكان يثير التساؤلات والذكريات. عتبات الأمس تمثل ذكريات الماضي، وتقاليده، وقيمه. الوقوف على هذه العتبات يعني استحضار الماضي ومواجهته.

الأمس: يرمز إلى الماضي بكل ما يحمله من ذكريات، وأشخاص، وأحداث. الأمس ليس مجرد فترة زمنية، ولكنه أيضًا مخزن للهوية والتراث والقيم. في الرواية، الأمس هو القرية بكل تفاصيلها البسيطة والحميمة.

الدلالات المستخرجة من العنوان:

الحنين والذاكرة: العنوان يعكس بقوة موضوع الحنين إلى الماضي واستعادة الذكريات. البطل يقف على عتبات الأمس يسترجع أيامه الخوالي ويحن إلى بساطة وجمال الحياة في القرية.

صراع الهوية: العنوان يوحي بصراع الهوية الذي يعيشه البطل، بين هويته القديمة المتجذرة في القرية، وهويته الحديثة التي تشكلت في المدينة. إنه يقف على عتبة هذا الصراع، يحاول التوفيق بين العالمين.

التغير والتطور: العنوان يحمل في طياته فكرة التغير والتطور الذي يشهده المجتمع. الوقوف على عتبات الأمس يعني أيضًا مواجهة التغيرات التي طرأت على القرية ومحاولة فهم تأثيرها على الهوية والقيم.

التأمل والتساؤل: العنوان يعكس حالة التأمل والتساؤل التي يمر بها البطل. إنه يتأمل في الماضي، ويتساءل عن الحاضر والمستقبل، ويحاول إيجاد معنى لوجوده في هذا العالم المتغير.

باختصار، عنوان الرواية "الوقوف على عتبات الأمس" هو عنوان مكثف ومعبر، يحمل في طياته العديد من الدلالات والمواضيع الرئيسية التي تتناولها الرواية. إنه عنوان يلخص رحلة البطل النفسية والروحية، ويعكس صراع الهوية والحنين إلى الماضي في وجه التغيرات الحديثة.

نظام العلامات

السيميولوجيا، كما طوّرها فرديناند دي سوسير، تركز على العلاقة بين الدال (الصيغة اللغوية) والمدلول (المفهوم أو الفكرة). في الرواية، تُستخدم العلامات لاستكشاف مواضيع مثل الهوية، الذاكرة، والتغيير الاجتماعي.

مقدمة

رواية "الوقوف على عتبات الأمس" هي عملٌ سرديٌّ يجمع بين الذكريات الشخصية والانتماء الجمعي، مع التركيز على الصراع بين التراث والحداثة في سياق مصري ريفي. يتمحور التحليل السيميولوجي حول دراسة العلامات (الكلمات، الشخصيات، الأحداث، الرموز) وكيفية تكوينها للمعنى، مستخدمًا الاقتباسات من النص لتوضيح كل جانب.

١. بنية الثنائيات الضدية:

الثنائيات المعارضة هي زوج من المفاهيم المتناقضة تساعد في ترتيب المعنى في النص.

ثنائية الماضي والحاضر:

تتجاوز هذه الثنائية مجرد الحنين، لتصبح صراعًا بين الأصالة والمعاصرة. الماضي يمثل القيم الريفية الأصيلة، بينما الحاضر يجسد تأثيرات العولمة والتغيرات الاجتماعية. العودة إلى القرية ليست مجرد رحلة نوستالجية، بل هي محاولة لإعادة اكتشاف الذات في مواجهة التغيرات. البطل يصارع بين هويته القديمة والواقع الجديد.

لنقرأ هذا الاقتباس الذي يوضح التحول المادي الملموس الذي يراه البطل: "هذا الطريق الذي كنت أسير به ذهابًا وعودة لسنوات طويلة، كان مجرد حقول على الجانبين، الآن لا وجود لأي نوع من الزراعات"، والاقتباس التالي يعمّق فكرة الحنين إلى الماضي كحنين إلى قيم اجتماعية وإنسانية: "أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح".

من ناحيةٍ أخرى فإنّ توقّع المجتمع لعودة البطل دلالةٌ ذكيّةٌ على قوة الذاكرة الجمعية والانتماء الدائمة، مما يشكل علامة للاستمرارية: "كنا ننتظر هذا اليوم من سنوات وكنا جميعًا على ثقة أنك عائد عائد فالأيام لا تمحو ما فعلت حتى إن بعدت لعقود حزنًا على تغييرات حدثت ما كنت تتوقعها" (ص. 4).

ثنائية المدينة والقرية:

لا تقتصر الثنائية على المكان، بل تمتد لتشمل نمط الحياة، والعلاقات الاجتماعية، والقيم. المدينة تمثل الفردية والتحرر، بينما القرية تمثل الجماعية والترابط الأسري. البطل، المثقف العائد من المدينة، يحمل في داخله صراعًا بين هذين العالمين، ويعي المفارقة بين رفاهية الحياة في المدينة، ودفء الحياة في القرية: "على الرغم من سكناي بأرقى الأماكن ومدى الرفاهية التي أعيشها إلا أن أجمل لحظاتي هي ذهابي للموعد الشهري الذي نلتقي به جميعا كإخوة"؛ والاقتباس التالي يلخص انتماء البطل العاطفي للقرية: " باختصار كلما قارنت بين القرية والمدينة، أحن إلى خبز أمي. هذا أنا..."

ثنائية الحياة والموت:

الموت ليس نهاية، بل هو جزء من دورة الحياة في القرية. وخير ما يمثل هذه الفكرة في الرواية هي زيارة المقابر التي تذكّر البطل بالروابط العائلية والاجتماعية التي تتجاوز الموت. فالمقبرة تصبح مكانًا للتواصل مع الماضي والأجداد، وتأكيدًا على استمرارية الهوية. "مررت بيدي على الجدران وكأنني أطلب منهم السلام عليّ، وجدت نفسي لا إراديًّا أجثو على قدمي، أرفع يديّ أقرأ الفاتحة بصوت عال بعض الشىء ولساني يلهج بالدعوات"، وهل هناك علاقة روحية آكثر من الحديث بين الأحياء والأموات؟

2. تحليل سيميائية الشخصيات والعلاقات:

البطل (رشدي):

يمثل المثقف الحائر بين الماضي والحاضر، والباحث عن الهوية في زمن التغير. تطوره النفسي خلال الرواية مهم، حيث يبدأ برحلة نوستالجية وينتهي بمشروع لإحياء قريته. * "عدت؛ لأن هذه قريتي وهؤلاء أهلي، لم أبحث عن شغل فراغ كما قلت؛ لأني لست موظفا، أنا صاحب شركات لها اسمها".

أهل القرية:

يمثلون مجتمعًا متماسكًا يحافظ على قيمه وتقاليده، ولكنهم أيضًا يواجهون تحديات التحديث. هناك تنوع في الشخصيات (الشيوخ، الشباب، المتعلمون) مما يثري صورة المجتمع... "قريتنا تثير غيرة القرى المجاورة بها عدد قد يدهشك إن صرحت به من أساتذة الجامعة في كل مجالات العلم".

العلاقات الأسرية:

تلعب دورًا محوريًا في الرواية، حيث تمثل الأسرة مصدر الدعم والانتماء للبطل. علاقة البطل بأبيه المتوفى دلالة على استمرار مجتمع الرواية يتوارث القيم على تعاقب الزمن، بمعنى آخر: القيم الأصيلة لا تموت.

3. تحليل سيميائية المواضيع والرموز:

الحنين إلى الماضي:

يتجاوز كونه شعورًا شخصيًا ليصبح قوة دافعة للتغيير الإيجابي في الحاضر.

الماضي يقدم حلولًا أو قيمًا يمكن الاستفادة منها في مواجهة تحديات الحاضر... "أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح".

التغير الاجتماعي:

يتم استكشافه من خلال مظاهر مادية (تغير شكل البيوت والزراعة) وقيمية (تغير العلاقات الاجتماعية والأخلاق).  الرواية تقدم رؤية نقدية للتحديث السطحي الذي يركز على المظاهر ويتجاهل الجوهر..."حتى بعض الفلاحين تغيرت بعض أمورهم، الكثير منهم بالحقول صار يرتدي البنطلون، وبين أيديهم أجهزة المحمول على تنوع ماركاته، حتى الفتيات تغير تام حدث لهن، ثياب على أحدث الموضات، ورأيت شابات يحتضنَّ أيادي الشباب، ذهب الخجل العفوي الذي كان مصاحبًا لهن، فقد كن يسرن دومًا على مسافات متباعدة عن الشباب، حقًّا العولمة تزحف سريعًا". "نحن نأخذ من أيِّ متغير القشرة الخارجية لا يهمنا المحتوى".

4. الرموز والعلامات:

* البيت: يرمز إلى الهوية والجذور والانتماء، وهو مكان استعادة الذكريات والقيم الأصيلة.

* الحقول والزرع: ترمز إلى الخصوبة والعطاء والارتباط بالأصل، وهي مصدر فخر واعتزاز لأهل القرية؛ لكنها تتقلص مع الزحف العمراني، مما يعكس فقدان جزء من الهوية.

* الجذع الشجري المنحني: يرمز إلى استمرارية الحياة وتجددها، والارتباط العميق بين الإنسان والطبيعة.

* إرث الأب: رمز للثروة الحقيقية، ليست مادية، بل مبنية على الروابط الإنسانية والإيثار. هذا يضع معيارًا أخلاقيًا يسعى البطل لتحقيقه، مما يعكس علامة للقيم الثقافية..

5. بنية السرد وزمن الرواية:

بنية السرد واستخدام الزمن في الرواية لهما أهمية كبيرة في التحليل السيميولوجي.

* الوصف الغني:

اعتمد السرد على الوصف المفصّل للمشاهد والشخصيات والأحداث، مما خلق جوًا واقعيًا وحيويًا. الوصف ليس مجرد تزيين بلاغي أو بياني، بل هو أداة لإبراز الثنائيات الضدية والمواضيع الرئيسية.

* تعدد الأصوات:

لم تقتصر الرواية على صوت البطل، بل تضمنت أصواتًا أخرى من أهل القرية، مما يثري السرد ويقدّم وجهات نظر مختلفة. هذا التعدد الصوتي يساعد في رسم صورة شاملة للمجتمع الريفي.

* تكسير الزمن الخطي

يتنقل السرد بين الماضي والحاضر، مما يعكس رحلة البطل الداخلية. هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.

* الزمن الدوري:

عودة البطل إلى القرية وقراره البقاء يشيران إلى نمط دوري، حيث أن الذهاب والعودة جزء من دورة حياة أكبر.

هذه الدورية تعزز موضوع الاستمرارية وطبيعة الروابط الثقافية والعائلية الدائمة، مما يعكس علامة للاستدامة.

* التركيز على الذاكرة:

يعتمد السرد، في الرواية، وبشكلٍ كبيرٍ، على الذاكرة واسترجاع الماضي، مما يخلق بنية زمنية غير خطية؛ والذكريات ليست مجرد استطرادات، بل هي جزءٌ أساسيٌّ من بناء المعنى وتطوّر الشخصيات.

اقتباس: الأحلام التي تدفع عودة البطل هي أداة رئيسية لدمج الماضي بالحاضر.

هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.

الخلاصة:

رواية "الوقوف على عتبات الأمس"، للأديب المصري أحمد طايل، هي عمل أدبي غني بالدلالات والعلامات السيميولوجية المعقدة. من خلال تحليل الثنائيات الضدية، والشخصيات، والمواضيع، والرموز، وبنية السرد، نرى أن الرواية تتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي لتقديم رؤية عميقة للتغير الاجتماعي وصراع الهوية في المجتمعات الريفية. إنها دعوة للتوازن بين الأصالة والمعاصرة، وللحفاظ على القيم الإنسانية في وجه التحديات الحديثة.

***

منذر فالح الغزالي

بون/ ألمانيا الاتحادية في ٣/٥/٢٠٢٥

 

يُعْتَبَر الشاعرُ السوري نِزار قَبَّاني (1923 دِمَشْق _ 1998 لندن) أَحَدَ أبرز وأشهر الشُّعَراء العرب في القرن العشرين، وَهُوَ أكثرُ شُعراء العربية إنتاجًا وشُهرةً ومَبِيعًا وجَمَاهيرية، بسبب أُسلوبه السَّهْل المُمْتَنِع، وشَفَافيةِ شِعْرِه، وغِنائيته، وبساطته، وسُهولة الوُصول إلى الجُمهور، مِمَّا جَعَلَه يَحْظَى بِشَعبية واسعة في العَالَمِ العربي.

أَصْدَرَ أَوَّلَ دَواوينه عام 1944، بِعُنوان (قالتْ لِيَ السَّمْراء)، وَقَدْ نَشَرَه خِلال دِراسته الحُقُوق، حَيْثُ قامَ بطبعه عَلى نَفَقَتِه الخَاصَّة، وَقَدْ أثارتْ قصائدُ دِيوانِه الأوَّلِ _ الذي ضَمَّ قصائد جريئة في الغَزَلِ والتَّغَنِّي بِجَسَدِ المَرْأةِ ومَفَاتِنِهَا _ جَدَلًا واسعًا، وَذَاعَ صِيتُهُ بَعْدَ نَشْرِ الدِّيوان كَشَاعِرٍ إبَاحِيٍّ. وَقَدْ هُوجِمَ مِنْ قِبَلِ الشَّرائحِ المُحَافِظَةِ التي اعْتَبَرَتْهُ شِعْرًا إبَاحِيًّا هَدَّامًا. والصَّرَاحَةُ الجِنْسِيَّةُ في البيئة الدِّمَشْقِيَّة المُحَافِظَة كَانَتْ تَعَدِّيًا واضحًا على العاداتِ والتقاليدِ والقِيَمِ، لَمْ يَجْرُؤْ عَلَيْهِ سِوَى شَابٍّ صَغِير السِّنِّ.

يَقُولُ قَبَّاني بأسى عَمَّا جَرَى حِينَ صُدور ذلك الدِّيوان: " أَحْدَثَ وَجَعًا عَمِيقًا في جَسَدِ المَدينةِ التي تَرْفُضُ أنْ تَعترفَ بِجَسَدِهَا أوْ بأحلامِها، لَقَدْ هَاجَمُوني بِشَراسةِ وَحْشٍ مَطْعُون، وكانَ لَحْمِي يَوْمَئِذٍ طَرِيًّا ".

وفي هذا الدِّيوانِ، تَتَعَدَّد الأصواتُ الشِّعْرية، وتَتكاثرُ الاتِّجَاهاتُ الوِجْدانية والحِسِّية، والقَصائدُ تَتَرَاوَحُ في خِطَابِهَا بَيْنَ العَاشِقِ وَالعَاشِقَةِ، بَيْنَ البَغِيِّ والفَتَاةِ الضَّحِيَّةِ، بَيْنَ مُتَسَوِّلِ المُتعةِ العابرةِ وَالواقعِ الهَشِّ الذي قَدْ يُفْضِي لاستجداءِ العاطفةِ.

إحدى قَصائدِ الدِّيوانِ بِعُنوانِ (وَرَقَة إلى القارئ) يَقُولُ فِيهَا قَبَّاني : " شِرَاعٌ أنا لا يُطِيقُ الوُصُولَ / ضَيَاعٌ أنا لا يُرِيدُ الهُدَى ". هَذا البَيْتُ الشِّعْرِيُّ يُمَثِّلُ البِطاقةَ التَّعريفية الأُولَى للشاعرِ السُّوري في بِدَاياته، بِمَا يَحْمِلُه مِنْ رَفْضِ الشَّبَابِ وثَوْرَتِهِ وتَمَرُّدِهِ وَعُنْفُوَانِه. كما أنَّ قَصائدَ الدِّيوانِ تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى المَشاعرِ الجَيَّاشَةِ والعَوَاطِفِ الفائرةِ للشَّابِّ الذي يَعِيشُ أُولَى سَنَوَاتِ العِشْرِين.

والرَّفْضُ كَانَ مَنْهَجًا شِعريًّا قائمًا بذاته عِند قَبَّاني في كُلِّ مَراحلِ حَيَاتِهِ الشِّعْرِية، وَلَمْ يَكُنْ شُعورًا عابرًا، والتَّمَرُّدُ كَانَ سِياسةً لُغوية في جَميعِ كِتاباته الشِّعْرية والنَّثْرية، وَلَمْ يَكُنْ إحْسَاسًا وَلِيدَ الصُّدْفَةِ. أي إنَّ الرَّفْضَ والتَّمَرُّدَ شَكَّلا هُوِيَّةً وُجوديةً دائمةً ومُستمرة للشَّاعِرِ الذي سَيَطْغَى اسْمُهُ ويَنتشر صِيتُهُ في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِرِ، لذلكَ آثَرَ قَبَّاني تَربيةَ العَدَاوَاتِ معَ السُّلْطَةِ، وَلَيْسَ مُجاملتها والتَّقَرُّب إلَيْهَا والانخراط تَحْتَ ظِلِّ شُعراءِ البَلاطِ.

وَقَدْ هَاجَمَ الشَّيْخُ علي الطنطاوي نزارَ قَبَّاني ودِيوانَه (قالتْ لِيَ السَّمْرَاء) قائلًا : " طُبع في دِمَشْق مُنْذُ سَنَة كتاب صغير، زاهي الغِلاف ناعمه ملفوف بالورق الشَّفَّاف الذي تُلَفُّ بِهِ عُلَبُ الشُّكولاتةِ في الأعراس، مَعْقُود عليه شريط أحمر كالذي أوجبَ الفرنسيون أوَّلَ العهد باحتلالهم الشَّام وَضْعَه في خُصورِ بَعْضِهِنَّ لِيُعْرَفْنَ بِه، فيه كلام مَطبوع على صِفَة الشِّعْر، فيه أشطار طُولها واحد، إذا قِسْتَهَا بالسنتمترات، يَشتمل عَلى وَصْفِ مَا يَكُون بَيْنَ الفَاسقِ القَارحِ، والبَغِيِّ المُتَمَرِّسَةِ المُتَوَقِّحَة، وَصْفًا واقعيًّا، لا خَيَال فيه، لأنَّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخَيَال، بَلْ هُوَ مُدَلَّلٌ، غني، عزيز على أَبَوَيْه، وهو طالب في مدرسة، وَقَدْ قَرَأَ كِتَابَه الطلابُ في مدارسهم، والطالباتُ " [مجلة الرِّسَالة، العدد 661، 4 آذار (مارس) 1946].

وكما يَظْهَر اسْمُ الشاعر نِزار قَبَّاني وديوانُه (قالتْ لِيَ السَّمْرَاء) في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِر، يَظْهَرُ اسْمُ الشَّاعر التشيلي بابلو نِيرودا (1904_1973/ نوبل 1971) في الشِّعْرِ الإسبانيِّ المُعَاصِر وَدِيوانُه (عِشْرُون قصيدة حُب وأُغْنِيَةٌ يائسةٌ / 1924)، وَقَدْ أثارَ الجَدَلَ بسبب مُحْتواه الجِنْسِيِّ، لا سِيَّمَا بالنَّظَر إلى سِنِّ المُؤلِّف المُبَكِّرَة جِدًّا. وَيَعْتَبِرُهُ النُّقَّادُ أشهرَ دِيوان شِعْري في اللغة الإسبانية، بَلْ إنَّهُ أكثر الدواوين انتشارًا ومَبِيعًا في تاريخ هذه اللغة على الإطلاق.

يَنْتمي هَذا الكِتَابُ إلى فَترةِ شباب نِيرودا، وكثيرًا مَا يُوصَف بأنَّه تَطَوُّر واعٍ لأُسلوبِه الشِّعْرِيِّ، مُتَجَاوِزًا القَوالِب الحَدَاثية السائدة التي مَيَّزَتْ أعْمَالَه السَّابقة. ومعَ أنَّ القَصائد مُسْتَوْحَاة مِنْ تَجَارِب نِيرودا العاطفية الواقعية في شبابه، إلا أنَّ الكتاب لَيْسَ مُهْدى لحبيبة واحدة فقط.

والشاعرُ يَمْزُجُ الصِّفَات الجَسدية لِمُخْتَلَفِ النِّسَاءِ في شَبَابِه لِيُشَكِّلَ مِثَالًا لِلْحَبيبةِ، لا يُشير إلى أيِّ شخص مُحَدَّد، بَلْ يُجَسِّد فِكرةً شِعريةً بَحْتَة عَنْ حَبيبته. وَقَد ابتعدَ نِيرودا عَن الطُّمُوحِ الشِّعْرِيِّ والبَلاغَةِ الرَّفيعةِ التي سَعَتْ إلى تَجسيدِ أسرارِ الإنسانيةِ والكَوْنِ، وَاقْتَرَبَ مِنَ البَسَاطَةِ والعَفْوِيَّةِ، حَيْثُ تَتَمَيَّزُ مُفْرَدَاتُ الدِّيوانِ بالسُّهُولَةِ، فَهِيَ تَنْتَمِي إلى نِطَاقِ اللغة الأدبية التقليدية المُرتبطة بالرُّومانسية والحَدَاثة. وهَذا الدِّيوانُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَه ذَا طَابَعٍ حَزين ومُؤلِم بَيْنَ أعمالِ نِيرودا، فَقَدْ عَاصَرَ الشاعرُ التشيلي مُعْظَمَ الحُروب والأحداث التي عَصَفَتْ ببلاده وبالعَالَمِ خِلال القَرْن العِشْرين.

وَمِنْ أبرزِ الأحداثِ التي تَرَكَتْ جِرَاحًا غائرةً في نَفْسِه، مَقْتَلُ أو انتحار صَدِيقِهِ الرَّئيس التشيلي المُنْتَخَب آنذاك سَلْفادور أليندي داخل القَصْر الرئاسي عام 1973، الذي أطاحَ بِهِ قائدُ الجَيْشِ أُوغستو بينوشيه. وَقَدْ تُوُفِّيَ نِيرودا بَعْدَ مَقْتَلِ أليندي ببضعة أيام، وكانَ آخَرُ الجُمَلِ، وَلَعَلَّهَا آخِرُ جُملة في سِيرته الذاتية (أعترفُ بأنَّني قَدْ عِشْتُ): " لَقَدْ عَادُوا لِيَخُونوا تشيلي مَرَّةً أُخْرَى ".

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

"يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر

المقدمة: يُعد الشعر العربي الحديث، ولا سيما في تجاربه ما بعد التفعيلة، مساحةً رحبة لاستبطان الذات في علاقتها بالكون والمصير والآخر. ومن بين هذه الأصوات المعاصرة، يبرز الشاعر العراقي فارس مطر، الذي يحمل تجربته الوجودية عبر نسيج لغوي متوترٍ بين الفقد والانبعاث.

مؤكداً أنَّ الثقافة العربية المعاصرة تشهد صراعاً على المفاهيم وتداخلاً في الدلالات، ولعلّ أبرزها مفهوم التعدّدية، الذي حُصر في إطاره السياسي الحزبي الضيق، وتُركت أبعاده الحضارية والأنتروبولوجية والثقافية خارج التداول أو التفعيل. في الوقت ذاته، تواصل القصيدة العربية الحديثة لعب دورها في التعبير عن تلك الأزمة، عبر مساءلة الوجود والهوية والذاكرة من داخل فضاء لغوي مشحون بالرمز والمنفى والانتماء المتشظي.

إنّ المفهوم الرائج للتعددية في المشهد العربي يكاد ينحصر في البعد الحزبي أو التياري، بوصفها مجرَّد ترخيص قانوني لوجود آراء سياسية متعدّدة. غير أنّ التعدّدية في بعدها العميق، كما يراها مفكرون كـالمفكر الجزائري (مالك بن نبي) أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين والمفكر المغربي (محمد عابد الجابري)، تتعلق بقدرة الثقافة على تمثّل الآخر، وهضم التنوع وإعادة إنتاجه من داخل الذات، دون أن يُنظر إليه كتهديد.

إنّ المجتمعات التي لم تطوّر أدوات معرفية وهوياتية تستوعب التعدد، تفشل في تحويل التنوع إلى طاقة، وتحوّله بدلاً من ذلك إلى صراع أو انقسام. وهذا ما عبّر عنه عالِم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان حين قال: "المجتمع الذي لا يتقن فنّ الاختلاف، لا ينجو من شبح التفكك."

في المقابل، نرى أنَّ التعددية في الحضارة العربية الإسلامية، في فترات ازدهارها، لم تكن مجرد تسامح سلبي، بل مشروعاً فعلياً للتفاعل الخلاق مع الآخر؛ فمدن مثل بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق والقدس لم تكن محطات عبور ثقافية فقط، بل مختبرات كبرى لإنتاج معرفة متعددة اللغات والانتماءات، كتبها وأثراها شعراء وفلاسفة وأطباء من أديان وقوميات شتى.

وهذا ما يجعلنا نعيد التفكير في التعددية، لا كسياسة، بل كـ (حس حضاري)، كما يسميه الناقد والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، يكون بمثابة القدرة على الإصغاء إلى الآخر دون أن ترتعد ذاتك.

في ظل هذا العجز عن تمثل التعددية كهوية حضارية، تأتي القصيدة الحديثة، ومنها نص فارس مطر، لتجسد مأساة الذات العربية الممزقة بين أصل منسي ومنفى دائم. القصيدة "يقول النهر أنت ابني" ليست فقط تأملاً في العلاقة بين الإنسان والمكان، بل مرآة لخيبة ثقافية أعمق.

من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى دمج مسارين فكريين متوازيين: الأول نقدي ثقافي يرصد الخلل في تلقي وتوظيف مفهوم التعددية في الثقافة العربية، والثاني تحليل شعري يتخذ من قصيدة "يقول النهر أنت ابني" لفارس مطر نموذجاً لتجسيد أزمة الهوية والمنفى والبحث عن الأصل. وسنرى كيف يتقاطع الرمز الشعري مع المفهوم الثقافي لتشكيل صورة بانورامية لأزمة الوعي العربي الحديث، بين عجزه عن تمثل التعددية حضارياً، وحنينه المستميت إلى ضفاف مفقودة.

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يعيد الشاعر مطر تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة في بنيةٍ دراميةٍ تضع الذات في مواجهة مأساوية مع الزمن والذاكرة والموت.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية موسعة للقصيدة، عبر تحليل بنيتها الموضوعية والرمزية واللغوية، من خلال تفكيك عناصرها الموضوعية والرمزية والأسلوبية، واستجلاء أبعادها الفكرية والشعورية. مع مقارنتها ببعض نماذج الشعر العربي الحديث. حيث تمثل قصيدة "يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر نموذجاً رفيعاً للقصيدة الحديثة التي تتوسل الرمز والأسطورة لإعادة تشكيل علاقة الإنسان بالمكان والوجود. هنا يتداخل النهر باعتباره معلماً طبيعياً وحاملاً للذاكرة مع شخصية الجد المنفي، مما يمنح النص كثافة شعورية ويؤسسه على قاعدة الغربة والحنين والبحث عن هوية مفقودة.

تدور القصيدة حول نداء داخلي تتلبسه صورة "النهر"، الذي يخاطب الذات عبر الذاكرة الجمعية الممثلة بالجد المنفي.  حيث نجد الشاعر فارس مطر يستنطق النهر ككائن حي، حامل للذاكرة والموت والحياة، مكوّناً نصاً يقوم على ثنائية الوجود والغياب. بكاء الإنسان، عبثية البناء، ضياع الآثار، كلّها رموز لفشل الإنسان في ترك بصمته الخالدة. ومع ذلك، ثمة دعوة صريحة للانبعاث عبر الكلمة، عبر القصيدة ذاتها، بما يجعل من فعل الكتابة محاولة خلاص أو مقاومة للعدم.

وهذا يدفعنا للخوض في البنية الموضوعية للقصيدة، كونها تتمحور حول حوار وجودي بين النهر (ككيان طبيعي ورمزي) وبين الشاعر أو أسلافه المنفيين. منذ البداية، يواجهنا الشاعر مطر بتساؤل وجودي: لماذا لم تبكِ؟ ما يضع الفعل العاطفي البسيط (البكاء) في مرتبة المصير والموقف من الحياة.

يمضي النص في تتبع علاقة الذات بالزمن والمكان عبر صورة قافلة تضيع قبل أن تبدأ مسيرتها، مما يوحي بعقم المحاولة الإنسانية في مواجهة المطلق.

يتحول النهر هنا إلى شاهد أبوي على خيبة المسيرة الإنسانية، ثم إلى موصٍ ينصح بالوفاء للذاكرة وإطلاق الأسماء كوسيلة لإعادة خلق الوجود الضائع. فالنهر هنا رمز وليس مجرد طبيعة صامتة، بل يتحوّل إلى "أب" يتبنّى الإنسان الغريب والمنفي. هو معلم زمني ومكاني، يحفظ الذاكرة ويمنح الشرعية للهوية الضائعة. وهذا التوظيف الرمزي يعيد إلى الأذهان استلهامات نهر الفرات ودجلة في الوجدان العراقي كشرايين للحضارة والهوية. وهو رمز للذاكرة، للأصل، وللانتماء المنكسر. وهو صوت التاريخ الطبيعي الذي يطالب بالاستمرارية رغم الغربة والمحو.

تنعكس في خطاب الجدّ المنفي رمزية النفي من الوطن أو الوجود الأصلي، حيث يصبح التيه قدراً ملازماً. الغربة هنا ليست سياسية فقط بل كينونية: "لا وجهٌ ولا ضفةٌ"، أي غياب المكان المألوف والانتماء.

أما الدمع فإنّه يمثل الرمزية، وهو إحدى الأدوات المركزية في بناء القصيدة كما يمثل الاعتراف بالمحدودية البشرية، والبكاء كفعل خلاص داخلي.

هنا نبدأ من جديد في البحث عن رمزية العباءة التي تعبّر تمام التعبير عن استعارة من الإرث الثقيل للهم الإنساني والجماعي.

أما الحصان المُسمّى ريحاً، فهو استعارة للانفلات والتحرّر من القيود الماديّة، واستعجال المصير.

أما الغربة، فهي رمزٌ للغربة المزدوجة؛ غربة الذات عن المكان وعن ذاتها، مما يكرّس فقدان الضفة والوجه معاً.

هذه الرموز تتجاور في نص ينضح بالأسى من جهة، وبإرادة خافتة للبعث من جهة أخرى.

ـ الأسلوب واللغة:

تتسم لغة فارس مطر بكثافة إيحائية عالية، مع استعمال متقشف للأدوات البلاغية، يفضِّل الإيحاء على التصريح. حيث نلحظ أنّ الجمل قصيرة في الغالب، متقطعة، مما يعكس توتر الوجدان، ويواكب تموجات النهر نفسه. كما يعتمد التوازي بين الصور في المقطع الواحد لخلق إيقاع داخلي غير مرئي، حيث تتناوب أفعال الزمن والفناء والحياة بشكل دائري.

القصيدة مكتوبة بلغة مشحونة بالانفعال والاختزال، حيث الكثافة البلاغية تحلّ محل السرد. الأفعال فيها مكثفة ("لم تكن تبكي"، "يغزل وقته"، "أطلق الأسماء") ما يمنح النص طابعًا ديناميكياً.

ـ البنية المجازية:

اعتمد الشاعر فارس مطر في قصيدته (يقول النهر أنت ابني) على صور حركية مفعمة بالحيوية (القافلة، الرمل، الحصان، الريح)، مما أعطى القصيدة بعداً أسطورياً وطبيعياً معاً. الصورة الشعرية ليست وصفاً بل خلق لعالم موازٍ للواقع.

ـ الحوار الداخلي:

استخدام ضمير المخاطب ("أنت ابني") والحوار مع النهر يمنح النص طابعاً درامياً داخلياً، حيث يتحوّل الحديث من نداء الوجود إلى استكشاف الوعي الفردي والجمعي.

ـ البنية الإيقاعية:

على الرغم من أنَّ القصيدة نثرية، إلّا أنّ بنيتها الإيقاعية تقوم على التكرار الداخلي والجرس الصوتي لبعض المفردات (كالتكرار الجزئي لكلمات مثل "قصيدتك"، "ريحاً"، "أطلق"، "احفظني"). هذه التقنية تمنح القصيدة إيقاعاً خفياً ينوب عن الوزن التقليدي، ما يجعلها تستجيب لمعيار "الموسيقى الداخلية" الذي تحدّث عنه الشاعر والفيلسوف والكاتب الفرنسي بول فاليري والشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر الملقب بـ (أدونيس).

تقدم قصيدة "يقول النهر أنت ابني" عملاً شعرياً مشبعاً بالرمز والحنين، متكئاً على التراث الجغرافي والأسطوري، وعلى التجربة الإنسانية في الغربة والمنفى. يتميّز نص فارس مطر بقدرته على تحويل القلق الوجودي إلى شعر، وتحويل الفقد إلى فعل للكتابة والخلق. إنها قصيدة تقف على تخوم الموت والبعث، وعلى حافة الوطن والغربة، ممهورة بصوت الذاكرة العراقية العميقة.

ـ مقارنة نقدية مع أصوات معاصرة:

... مع الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ابن قرَية جِيْكُور في محافظة البصرة في جنوب العراق، والذي يعدُّ واحداً من الشعراء المشهورين. حيث يتقاطع النص مع تجربة السياب في تحويل عناصر الطبيعة (مطر، نهر) إلى شخصيات شبه أسطورية تتداخل مع مصير الإنسان.

غير أن مطر يتجاوز الرومانتيكية نحو مقاربة أكثر حداثية، ترى في النهر ذاكرة للغياب أكثر مما هو بشارة بالخلاص.

... مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش ابن قرية البروة في الجليل الأعلى، وهو من كبار الشعراء العرب، يحمل النص أصداء غربة درويش، خاصة في تيمات التيه واللاانتماء. لكنّ الشاعر فارس مطر يركّز على وحدة المصير الفردي بعمق أنطولوجي، بعيداً عن النبرة القومية التي غلبت على تجربة الشاعر محمود درويش.

مع الشاعر والمفكر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، ابن قرية قصابين ـ جبلة وهو من الشعراء الكبار في عالمنا العربي الحديث. يتقارب الشاعر فارس مطر مع أدونيس في وعيه بوظيفة اللغة كشريك فاعل في خلق الوجود الشعري. لذا فالقصيدة هنا ليست وصفاً للعالم بل محاولة لإعادة خلقه، حيث الكلمة تميت وتحيي في آن واحد.

في الختام:

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يقدم فارس مطر نصاً شعرياً ينتمي إلى فضاء الحداثة القلقة، حيث تتحوَّل الطبيعة إلى شاهد على غربة الإنسان وعلى صراعه الدائم مع الفناء والنسيان.

تتميز القصيدة ببنائها الرمزي المتين، ولغتها المشحونة بالإيحاء، وانفتاحها على مستويات متعددة من التأويل.

تجربة فارس مطر هنا تؤكد مكانته كشاعر قادر على مزج الوجداني بالكوني، والخسارة الفردية بالمأساة الوجودية الكبرى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

..........................

يقول النهر أنت ابني

لماذا لم تكن تبكي

لِتُعطي الدمعَ فرصَتَهُ

وَتَبني صَرحَكَ الوَهمِي

تَنمو مثلَ قافلَةٍ

تَضيعُ بأوَّلِ الخطواتِ

لا آثارَ

لا أوراقَ

كانَ الرَّملُ يَغزِلُ وقتَهُ أيضاً

سأسأَل عن عباءَةِ هَمِّكَ البَشَرِي

أتَحمِلُني بكامِلِ موتِيَ المُعلَنْ؟

وَتُطفِئُ كُلَّ أورِدَتي؟

*

يَقولُ النَهرُ: أنتَ ابني

يُخاطِبُ جَدِّيَ المَنفيّ

إذا شَرَّقْتَ إحفَظني

ولا تَترُكْ قِرابَكَ دونَ ذاكِرَتي

وأيضاً.. أطلِقِ الأَسماءَ كي تَعدو

حِصانُكَ سَمِّهِ ريحاً

وكُنْ قَلِقَاً

قصيدَتُكَ التي قَتَلَتكَ قد تُحييكَ ثانيَةً

كما انفَعَلَتْ قصائِدُنا

تَهَيَّأ كي تَرى زَمَناً وأمكِنَةً

وأنتَ غَريبُكَ المجهولُ

لا وَجهٌ ولا ضِفَةٌ

***

فارس مطر

إنّي محَييكِ يا أرضي بمِحْبرتي

لمّا علمت بأنّ الشِعْرَ يرتشف

(من قصيدة أمام بابك، ديوان قوافل من كلام)

للشاعر إبراهيم أوحسين

***

لكل إنسان مشكلة يود حلها في حياته، أقصد مسألة وجودية حاسمة وليس فقط مشكلة عادية. وفيما يخصّ حالة صديقنا الشاعر إبراهيم أوحسين، فعلى ما أعرف بالقرب منه رحمه الله، فقد كانت قضيته الشعرية مسألةً فكرية في غاية الجدّية؛ إذ كان شعره مرتبطا بصنف من المشكلات التي تلتصق بحياة أولئك الذين يخاطرون بنمط وجودهم الذاتي المسكون شعرا. أولئك الذين يغامرون بالشعر سبيلا لتسوية مشكلاتهم الوجودية والميتافزيقية.

كان الراحل إبراهيم أوحسين ينتمي إلى هذا الصنف دون أن يعلم حجم المغامرة الفكرية التي دخل معتركها شعريا. حقّا، لم يكن ـ رحمه الله عليه ـ يدري أنّ قدرا ما هو من اختار له الاقتراب من دائرة الخطر هذه؛ أي خطر المجازة بالشعر في دوائر صوّفية شأنها أن تُذيب كينونة هَشَّة في أشواق وشطحات صوفية سمّاها هو بنفسه: "هلوسات شاعر".[1]

والواقع أنّ الشاعر هنا فصح عن شقاء ما، شقاء ليس كشقاء سواد الناس، أي شقاء عصره الذي عاشه: عصر ضمور وتيه الكينونة. لذا كانت لغته الشعرية في أحايين كثيرة مسلكا ومعبرا اشاريا لهذا الشقاء المقدّس: أقصد المعنى الذي يفيد كون هذه اللغة نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته إشراقات صوفية وليس تعبيرات سيكولوجية. وهذا نجده لديه جليا في قصيدة له بعنوان "غريب أنا"[2]:

[...]

وإنني لمّا استفقت من الكَرَى

علمتُ بأني ما برحتُ مكانيا

وهذا بريقُ الحُلمِ أركبني سدى

على فرسٍ لمّا طردت حماريا!

وخلدني فوق العروش كأنني

إذا مِتُّ يوما لن أعُدَّ عِظاميا

كذا عطشُ المنفى وإنْ فاضَ ماؤُهُ

فلا الماءُ مائي، لا الهواءُ هوائيا

تعجَّلتُ موتي قبل موتي وليس لي

سوى قَوْلِ: ربي لا تزِدْنِي الدَّواهِيَا

وما نفْعُها الأفهامُ تحضرُ بعدَما

بأقلاميَ السَّكرى كَتَبْتُ فنائِيِا؟

كسرْتُ زُجاجاتي ولُمْتُ زُجاجها

فمنْ يا تُرى يَبْكِي الدموعَ مكانيَا؟

يوّد الشاعر في هذه القصيدة قول كلّ شيء دفعة واحدة، كما لو كانت كينونته قوة انفجارية تسعى إلى الاندفاع خارج طورها الزماني. هنا، تريد قصيدة "غريب أنا" تأكيد مهمّة الشعر الأساس، وهي: أن تكون شاعرا هو ما يعني أن تغترب في لغة هي بدورها مغتربة في زمنية لا قبل لها بها. فالضرورة الشعرية هي ما يفرض على الشعراء «زمن الضيق» أن يقولوا "جوهر الشعر".

إنّ الشعر بهذا المفهوم هو الذي بمكنته أن يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، أي ما استعصى على الناس قوله بلغتهم العادية المتداولة. إنّ الشعر ما يحقّق هذا العبور عبر القصيدة إلى العالم. فأينما كان الشعر، فثمة كينونة تكابد مصيرها، وما نشيد الشاعر إلاّ إصغاء أصيل لهذه الكينونة.

فلطالما كلام الشعر لا يتأتى إلاّ خلال صمت الإصغاء، كذلك الشاعر لا يكون قادرا على التقاط نداء القصيد ـ الذي يبتغي أن يفصح عن ذاته في قصيدة ـ إلاّ إذا أحسن وأجاد الإصغاء لنداء الكينونة.

بالنسبة لـ«هيدغر»، مثلا، يظلّ كل شعر يقول جوهره طالما هو في ذات الوقت الجوهر الكشّاف للغة: أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[3] فهذا ما تحقّقه قصيدة شاعرنا إبراهيم أوحسين، حيث نجد حزنه بمثابة منفاه الاختياري، ومنفاه هذا علة تمرّده، كما تمرّده علّة عذابه، وعذابه آت من فهمه لأكثر مما ينبغي.

تدفّقا من هذا النمط لا يبرّره سوى أنّ كلمات الشاعر التي تصعد من أعماق وجدانه، إنّما هي في حقيقتها اختراق لشيء يكبر قدرته، شيء ما يعجز المرء على قول ما يريد إزاءه بحرية؛ أوليس ذلك بنداء الكينونة التي تتغذّى من أعماق وينابيع ثقافة عصره؟

يقينا، اللغة هنا هي أكبر من أن تكون مجرّد تعبيرات، أو مجرّد نقل لمعلومات ما عن العالم الذي شكل عصره؛ الأمر على خلاف ذلك، لأنّ اللغة هاته هي على الحقيقة تدفّق للكينونة ولزمانية شعرية ما. إنّها على التحقيق ليست تصويرية ولا تعبيرية، بل إشارية صوفية. 

 مسألة فنّية من هذه الشاكلة ستظلّ غير واضحة ولا مفهومة لمن يقرأ الشعر بنظارات الناقد الأدبي صاحب المنهج. وليسمح لي النقاد الذين يطمئنون لعتبات المناهج النقدية بخصوص وجهة النظر هذه، حيث أرى أنّ تذوقا ما وحده الكفيل بأن يمسك بتلابيب القصيد خاصّة عند إجادة الإصغاء للشعر: أوليس الشعر إصغاء لكينونة تأبى إلاّ أن تقيم في بيت شعري داخل هذا العالم؟

إنّ الشعر لدى صديقنا إبراهيم أوحسين يقد اضطلع فعليا بِمَهمة التفكير، ويتجلى ذلك بقوة حين بحثه المستمر عن سبل رتق تمزّقات كينونة أعياها تمظهرها المتلعثم في اللغة, والشاعر إذ سمح لنا كقراء بالمشاركة في هذه اللعبة الخطرة، يكون قد أنجز أخطر مَهَمة يضطلع بها الشعراء ذوي القدرة على إنارة دروب الحياة الميتافيزيقية، حين يكشفون اللثام عن حقيقتها المأساوية بِكلّ أصالة شعرية.

لذلك ليس مُهِمًّا كم عدد الذين سيقرأون هذا الشعر الجاد في طرح قضيته رَفِيعَة الْمَقَامِ هاته، بالقدر الذي يهم نوعيتهم، وكيف سيقدّرون أهميته الميتافيزيقية الخطيرة.

*** 

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

......................

[1] أنظر إهداءه في بداية ديوانه: قوافل من كلام، ص 5.

[2]  ديوان قوافل من كلام، ص. ص. 39، 40.

[3] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

 

رواية الأطروحة

في رأينا أن التسمية الأقرب لرواية (منازل العطراني) هي ما يسميه النقد الفرنسي (رواية الأطروحة Roman à thèse)، أي أن المؤلف لديه أطروحة (thèse) أو وجهة نظر يريد الدفاع عنها وإيصالها للقارئ وأقناعه بها (سنوضح لاحقا وجهة نظر مؤلف هذه الرواية).

وفي رواية كهذه غالبا ما يركز المؤلف اهتمامه الأكبر على موضوع الرواية، حتى لو تم على حساب التقنية الروائية، أحيانا. وفي الرواية التي نناقشها أختار المؤلف أن تكون روايته مزيجا من سيرة شخصية Biographie يروي فيها وقائع حياة شخص آخر، والده، وفي الوقت نفسه سيرة ذاتية يروي فيها وقائع حياته الخاصة.

ولكن لا نستبعد أن يقرأها آخرون كعملية توثيق وأرشفة لفترة محددة من تاريخ العراق (من خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع القرن الحالي). وربما يعتبرها البعض (مانفيستو) (هجائي) للحزب الشيوعي العراقي.

بالإضافة لذلك، نجد هنا وهناك من صفحات الرواية أرشفة وتسجيل لعادات وتقاليد سكان منطقة محددة من جغرافية العراق (مناطق نهر الغراف)، مما يقرب الرواية الى ميدان السوسيو/ انثروبولوجي (الصفحات 23، 58، 50، 66.)

ومن أجل إيضاح وإيصال وجهة نظره سعى الكاتب، ومنذ البداية لتوظيف كل العناصر التكوينية للرواية: (الاستهلال، الحبكة، طريقة السرد، الحوار، العقدة، تصاعد الأحداث، الزمن الاسترجاعي، الصراع، الشخصيات، الديكور، الزمان، الفضاء المكاني ونوعيته، اللغة... الخ).

ولأن (منازل) سيرة ذاتية، ولأنها تذكر أسماء شخصيات ووقائع تاريخية حقيقية، فمن المتوقع أن يفتش بعض القراء عن (المصداقية) في السرد، ويطرحون تساؤلات منها: هل ما سرده مؤلف (منازل) واقعي، أم من صنع الخيال، صادق أو لا، يتطابق حرفيا مع الواقع أو مبالغ فيه، هل أن المؤلف أمين في النقل أم محايد أو انتقائي؟

سيكون من اللاجدوى أن نشغل أنفسنا بالتساؤلات أعلاه بها، لسببين:

أولهما: أن غلاف الكتاب يحمل مفردة (رواية)، أي عمل أدبي من صنع المخيلة، أو للمخيلة دور كبير فيه. وبهذا يكون أحد الأغراض من وجود مفردة (رواية) على الغلاف، هو استخدامها من قبل المؤلف ك(درع) يحتمي به من عتاب أو لوم أو نقد، وربما حتى هجوم. فلو عاتبه قارئ بقوله: الشخصية الفلانية في روايتك أعرفها جيدا وتعايشت معها وما كانت مثل وصفك لها، أو قال له آخر: أن الحدث الفلاني في روايتك كان بهذا الشكل وليس كما صورته، فأن جواب المؤلف سيكون واحدا: أنا أكتب رواية ولا أنقل وقائع وحقائق.

والسبب الثاني، هو أن أي مؤلف للسيرة الذاتية يوقع على ما يسميه الناقد الفرنسي فيليب لوجن Philippe Lejeune (ميثاق أو تعهد السيرة الذاتية Pacte autobiographique). وهذا العقد، في رأي الناقد، هو ''التزام ضمني يتعهد بموجبه المؤلف أن يسرد حياته كلها، أو جزء منها، ويقدم معلومات صحيحة وحقيقية عنه، بالطبع من وجهة نظر المؤلف، أي المعلومات التي يراها هو صحيحة. أما نحن القراء فما يهمنا هو أن ندرك هل ما يسرده المؤلف محتمل الوقوع أو غير محتمل، متماسك أو غير متماسك، جيد أو سيئ، وما إلى ذلك.'' أي، أن الموضوع ''لا علاقة له بين التمييز بين الحق والباطل.''

عرفنا الضحية لكن من هو الجلاد في (منازل)؟

لا يمكن إجابة هذا السؤال دون معرفة (قصة) الرواية، ودون الاطلاع على الشخصية المركزية فيها، محمد الخلف.

(محمد الخلف) معلم، وناشط سياسي ينتمي الى (جماعة) حزبية. من هي (الجماعة)؟ الرواية لا تذكر أسمها الصريح أبدا، لا على لسان المؤلف ولا الراوي المحايد ولا الشخصيات الرئيسية ولا الثانوية، ولا (وهذا أمر غريب) على لسان الخلف نفسه، ولا حتى على لسان حزبيين ينشطون في صفوف الجماعة (سليم، مثلا). ولا ترد كلمة (الحزب) في الرواية كلها سوى مرة واحدة، وحتى في هذه المرة يرد ذكر الحزب لكن دون ذكر (الشيوعي): ''الزعيم الأوحد والحزب الأوحد كلاهما متألّه يظن أنه يقبض على المعنى ... ص7''. لكن القارئ، إذا كان عراقيا، يفهم بسهولة أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي، خصوصا مع وجود تلميحات كثيرة، وكل تلميح منها يصل حد التصريح.

وبسبب هذا الانتماء الى (الجماعة) تتم محاكمة الخلف ثم مساومته ''في شتم رموز انتمائه السياسي والفكري مقابل الإفراج عنه''، وعندما يرفض يسجن ويفصل من وظيفته، تاركا عائلته دون معيل، ثم يهرب من السجن، ويظل متخفيا قبل العودة لأسرته. هذه هي القصة.

أما شخصية محمد الخلف فهي كالتالي:

محمد الخلف إنسان أنموذج. لا يملك الا الصفات والشمائل الحميدة على مختلف الأصعدة:

سياسيا: يتمتع بوعي سياسي حاد وقدرة على تحليل الأمور وربط بعضها بالبعض الآخر وصولا الى استنتاجات صحيحة، شجاع لا يتردد ان يتحدى القاضي ويفند بشجاعة الاتهامات ضده ويصفها بأنها ''أكاذيب وافتراء وكلام ملفق ص6''، ولم يندم أو يتراجع عندما صدر بحقه الحكم بالسجن: ''كان هذا اختياري وطريقي مضيت فيه، تركت ورائي عشرة أبناء وزوجة لا ماء ولا زاد ص7''. وهو مبدأي، وفلسفته في الحياة هي: ''يموت الشجر بجانب البئر عطشا، لكنه لا ينحني أبدا لطلب الماء ص7''، أي هو ثابت لا يغير مبادئه ولا يساوم عليها، وبعيد عن أي تفكير وسلوك براغماتي نفعي أو ميكافيلي، وقد قرن القول بالفعل فارتضى لنفسه أن يسجن ويضحي بسعادته وبسعادة أسرته من دفاعا عن المبادئ.

أخلاقيا: يبر الخلف بوالدته، يحترم زوجته حد التقديس، ذو ذهنية حضارية تنويرية، متسامح في تربيته لأولاده وبناته وعلاقته معهم أساسها الاحترام المتبادل.

اجتماعيا: يحب الخلف ويحترم أقاربه ومعارفه وهم بدورهم يبادلونه الحب والاحترام الكبير الى حد أن واحدا منهم قال له في أيام تخفيه: ''أنا حاضر لأي طلب تأمرني به، أنا رهن أشارتك ص 28'‘.

ثقافيا ومعرفيا، يتمتع بثقافة غنية، وله مطالعات أدبية واسعة، وفي شبابه كانت له ''مكتبة تضم كتبا لجورج حنا، طه حسين، سلامة موسى، المنفلوطي، جبران خليل جبران، مجلات الهلال، الآداب، الأديب، أهل النفط، فضلا عن دواوين الشعر وكتب النحو ص49'' بالإضافة لكتاب عرب وأجانب (تقدميين)، المضغوط، دويستوفسكي ص82، وحتى اثناء فترة تشرده وتخفيه ظل مواظبا على قراءة الروايات ص92، ويتمتع بقدرات فنية أبرزها الخط، ضليع بتاريخ بلاده العراق ''منذ فجر التاريخ حتى اليوم ... من الملك السومري لوكالة زاكيي.. حتى مقتل الزعيم (قاسم) ص35''.

باختصار، محمد الخلف (خُلِق مُبَرأ من كل عيب)، مع ذلك لاقى التشريد والفصل من العمل وترك عائلته لمصيرها دون معيل، ثم سجن وهرب وظل متخفيا... الخ.

إذن، محمد الخلف ضحية. ولأن لكل ضحية جلاد فمن هو الجلاد هنا؟

السلطة الحكومية (قلنا السلطة بشكل مطلق ولم نقل السلطات)؟ أم (الجماعة) السياسية التي ينتمي اليها محمد الخلف؟

نحن نفترض أن الرواية ترى أن (الجماعة) هي السبب (الأصلي) في الأذى الذي طال محمد الخلف وأسرته، ثم يأتي دور السلطة السياسية. هذا افتراض منا وسنحاول أثباته كالآتي:

أولا: لولا انتماء محمد الخلف الى (الجماعة) لما لاحقته السلطة السياسية، أصلا، ولوحق من مدينة لأخرى في بداية وظيفته، ولما فصل من وظيفته لاحقا، ولما سجن وفر من سجنه ثم ظل متخفيا وتحملت عائلته الأذى. بل لولا انتمائه الى (الجماعة) لما كانت، أصلا، توجد رواية أسمها (منازل العطراني).

(الجماعة)، كما سنجد ونحن نتقدم في القراءة وحتى الوصول الى الخاتمة، هي (لُب) موضوع الرواية وداينمو أحداثها وثيمتها المركزية التي يتكرر حضورها بتواتر من البداية حتى النهاية، تلميحا مرة وتصريحا مرات، بتعاطف مرات قليلة، وبنقد وهجاء مرات أكثر، وبحيادية، وبحنين نوستالجي أحيانا، ويرد أسمها على ألسنة الجميع: الراوي المحايد والشخصية الرئيسية والشخصيات الثانوية، سواء في زمن الرواية الفعلي أو الزمن الاستذكاري.

وفي مقابل هذا الحضور الكاسح ل(الجماعة)، فأن السلطة السياسية حضورها ضعيف جدا، وتكاد تغيب نهائيا ويتوقف حضورها ودورها في منتصف الرواية، كما سنوضح تاليا.

ثانيا: في رواية (منازل) محمد الخلف هو البطل protagoniste، ووفقا لمواصفات رواية كلاسيكية مثل (منازل)، يفترض أن يوجد خصم للبطل antagoniste، أي شخصية (حقيقية أو معنوية) يساهم وجودها في احتدام الصراع وتحريك الأحداث، ويزيد القصة توترا، وتكون حاضرة (سواء حضورها المادي المباشر أو حضورها المعنوي اللامباشر، أي أفكارها) من البداية حتى النهاية، وتسبب الأذى للبطل.

من يمثل هذا العنصر، أي الخصم L’adversaire وتنطبق عليه هذه المواصفات في (منازل)؟ الافتراض (وفقا للاستهلال في السطور الأولى من الصفحة الأولى) يؤشر على السلطة السياسية، لأنها هي التي سجنت الخلف، ورأيناه هاربا من سجنها ومشاركا في تظاهرة سياسية.

لكن هذا الافتراض يضعف كلما تقدمنا في قراءة الرواية، وهذا الضعف يتم بالتوازي مع ضعف ثم تلاشي (حضور) السلطة السياسية في الرواية.

السلطة السياسية، بصراعاتها وانقلاباتها العسكرية وعسسها ومخبريها تكاد تكون (غائبة) في تفاصيل (حياة) محمد الخلف؛ غائبة في تفكيره وتأملاته وذاكرته الاسترجاعية. السلطة السياسية في الرواية ليست خصما واقعيا وانما هي (خصم شبحي وهمي faux adversaire)، وحتى إذا وُجدت فهي هشة حد الانكسار، إذ استطاع الخلف ان يتحداها وينتصر عليها، منذ بداية الرواية.

فقد تحدى محمد الخلف بجرأة السلطتين القضائية والتنفيذية (رمز الظلم والقمع)، وصار في قاعة المحكمة هو (القاضي) الذي يّكَذب ويدحض ويفند أقوال القاضي الرسمي. وحتى بعد أن أوُدع السجن استطاع أن يفر منه. ثم، أن الخلف استطاع أن يعيش، متخفيا، بعيدا عن رقابة ونفوذ ووطأة السلطة السياسية القمعية، لكن (الجماعة) لم تغب أبدا وظلت حاضرة معه، وكانت (أفكار)ها ترافقه حتى الى سرير نومه، وتتسلل اليه مع ذرات الهواء.

ثالثا: (من الناحية التقنية) تكف السلطة السياسية، ك(شخصية) روائية معنوية في الرواية، عن ممارسة دورها المعرقل لمسيرة البطل، بصورة تكاد ان تكون نهائية، في منتصف الرواية، بل حتى قبل منتصفها. فبعد مرور عشرة أشهر على بداية الرواية (زمن الرواية خمس سنوات)، وبعد مائة صفحة (الرواية تتكون من 235 صفحة) فكر الأبن البكر خالد ''بشكل جاد في عودة والده'' من (مخبأه) في منطقة الغراف الى بغداد لأن ''إجراءات التفتيش على الطرق الخارجية ليست بالصرامة والتشدد التي كانت عليه سابقا ص102''. وفعلا عاد الخلف الى بيته في بغداد؛ عاد '' الى دفء البيت والتفكير بالعمل والمستقبل ص129''، والتأم شمل الأسرة من جديد ''هرع اليه أولاده، تلقوه بلهفة''، وبعد فترة قصيرة حصل الخلف على عمل مؤقت يعين به عائلته.

وجهة نظر المؤلف

هنا، في هذا الجزء من الرواية عادت الأمور الى طبيعتها قبل السجن؛ انتهت (رحلة) البطل وحُلتْ عقدة الرواية، ووصل السرد الى ذروته. وبالنتيجة، هذا يعني زوال التشوق والترقب والتوقع عند القارئ بعد أن وصل الأمر الى نهاية التوتر والإثارة والمخاطر وبدأ الانفراج، أي وصلنا لخاتمة الصراع.

ومادامت (رحلة) البطل وصلت خاتمتها، فماذا تبقى لبطل الرواية أن يفعله، وماذا تبقى للرواية أن تقوله في الصفحات القادمة؟

ما تبقى، في رأينا، هو (وجهة نظر المؤلف)؛ ما تبقى هو، الموضوع الذي تعتبره الرواية الأكثر أهمية؛ ما تبقى هو (الخطيئة الأصلية)، عندما أنتمى محمد الخلف الى (الجماعة) في شبابه، وما تبقى، أيضا، هو صراع محمد الخلف مع نفسه (ولحد كبير جدا مع أسرته وخصوصا ابنه البكر، خالد) في وجوب حسم موقفه النهائي والخروج نهائيا من (الجماعة) لأنه بسبب سياستها، يقول الخلف ''سلمنا أنفسنا للذبح''، وظل أعضائها يجنون ''هذا التوارث الأبدي للخسارات''، وهي ك(جماعة) سياسية لم تنتج في ''كتبها سوى اللغو.''

ذكرنا في البداية أن (الجماعة) هي الحزب الشيوعي العراقي. ومن حق مؤلف (منازل) أن يقول ما يريد بحق الحزب الشيوعي، وأي موضوع آخر يناقشه، مثلما يحق لأي مؤلف آخر أن يدافع أو ينتقد أو يناقش في أي موضوع يختاره. هذا حق لا جدال فيه. وكل ما يراد من المؤلف، في هذه الحال، أن يكون طرحه متماسكا ومقنعا، من الناحية التقنية. فيما يخص مؤلف الرواية التي نناقشها، فأنه أراد الدفاع عن وجهة نظره، كما قلنا، منذ السطور الأولى، أي الاستهلال.

الاستهلال

الواقع، أن موضوع علاقة الخلف ب(الجماعة) (وهو زبدة الزبدة) طرحته الرواية منذ سطورها الأولى، أي منذ الاستهلال (أنسبت incipit).

وببراعة تحسب له اختار مؤلف (منازل) ما يسميه النقد الفرنسي (الاستهلال الساكن l’incipit Statique) الذي بموجبه يلجأ المؤلف، منذ البداية، الى تزويد القارئ بمعلومات وافية فيما يخص معظم العناصر التكوينية لروايته.

يبدأ الاستهلال في (المنازل) هكذا:

'' أين المسار؟ بعد أن بت ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت، أصبحت طليقا الآن، قالها محمد الخلف بحيرة وذهول، ما زلت في ملابس السجن!! المصادفة وحدها أنقذتك من العودة الى الزنزانة مرة ثانية، وجدت نفسك من جديد وسط المتظاهرين (يسقط ... يعيش)، يلمحك (صالح كيطان) أحد أصدقائك القدامى فيسرع في مناشدتك للانسحاب من التظاهرة بسرعة، التوجه نحو منزله في وسط المدينة، أدرك (صالح) عدم جدوى الاحتجاج مع صراخ البيانات المتصاعدة من الأذاعة، وتسارع الأحداث التي تنبئ بسيطرة الانقلابيين على السلطة، امتثلت لمناشدته أخيرا، بينما تعلو وجهه دهشة السؤال: ما الذي جاء بك الى السجن يا محمد؟ لست مستعدا الآن أن أذكر الأسباب يا صديقي وسط هذا الجو المشحون بالقلق والتوتر، دعنا نصل الى البيت بأمان'' ص5.''

وبفضل هذه الأسطر القليلة نجح المؤلف أن يزودنا بمعلومات وافية وجوهرية: اسم الشخصية المركزية، محمد الخلف، ووضعه الاجتماعي السياسي، اسم المكان (الكوت)، الزمن (8 شباط 1963)، الأجواء القائمة، وهي اضطراب سياسي نتيجة انقلاب عسكري وحدوث ردود أفعال جماهيرية ضده (تظاهرات وسط الكوت). وبفضل هذا الاستهلال استطاع المؤلف أن يخلق أفق من التوقع عند القارئ، وسَّهلَ له أن يستنتج نوع القصة التي سيقرأها، فهي رواية سياسية وليست من الخيال العلمي، مثلا، ولا قصة تاريخية، ولا فلسفية ولا رواية رعب ولا رواية مغامرات ولا خيال علمي، بل هي ستدور حول تخفي سجين سياسي هارب.

هذه كلها، كما قلنا، معلومات مهمة، لكن الأكثر أهمية (عندي على الأقل) هو شخصية (صالح كيطان) التي خلقها المؤلف، لتخدم غرضا في غاية الأهمية (هكذا نفترض.)

صالح لا يستمر دوره في الرواية كلها أكثر من 24 ساعة، ولا يقوم ألا بفعل واحد (استضاف الخلف في بيته ليلة واحدة) ولا يتفوه الا بعدة جمل، ثم يختفي نهائيا من الرواية ولم نعد نلتقيه أبدا، وكأن الروائي لم يخلقه، لكن بعد أن أنجز دوره الاستراتيجي الذي أعده له المؤلف، والمتمثل في (إحباط) محمد الخلف. إن صالح كيطان هو أخطر شخصية (أحباطية) في الرواية، ودوره، رغم قصره، محوري. ونذهب أبعد فنقول إن صالح هو بطل الرواية الفعلي وهو عمودها الفقري، وهو الغائب الحاضر، وسنرى أن (فلسفته) أو أفكاره هي التي تنتصر في نهاية الرواية. والغريب، أننا لا نعثر على معلومات عنه في الرواية، لا على لسانه هو ولا على لسان الراوي المحايد (العليم بكل شيء)، ولا على لسان محمد خلف ولا الشخصيات الثانوية.

كل ما نعرفه هو أن صالح ‘'صديق قديم'' للخلف. وما خلا هذه المعلومة فما من معلومات آخري عنه. ولهذا سنضطر نحن القراء للاستعانة بالتخمين والافتراض، واعتمادا على النزر القليل جدا من أقواله، للتعرف عليه.

يبدو أن صالح كان (ونشدد على مفردة كان) ناشطا سياسيا ومنتميا لذات (الجماعة) الحزبية لكنه، كما يبدو أيضا، غادر صفوفها (مكرها) لسبب أو آخر، والأرجح بسبب (فعل) يتعارض ويتناقض مع تفكير (الجماعة) وقيمها، كأن يكون قد (أُجبر) على إعلانه البراءة من (الجماعة)، أو تقديمه اعترافات على الجماعة، كما كان شائعا تلك الأيام. هذا مجرد تخمين منا تشجعنا على تبنيه (المحاضرة حول فلسفة البراءة) التي القاها صالح على الخلف. فعندما قال الأخير أنه دخل السجن مخلفا ورائه عائلة كبيرة العدد بدون معيل، لأنه رفض أن يشتم ''رموز انتمائه السياسي والفكري'‘، رد عليه صالح بنبرة (أستاذية)، فيها لوم وتقريع، وبلغة أنيقة وفارهة، ومنتقاة بعناية خصوصا سطرها الأخير:

'' هل هذا صحيح في اعتقادك؟ أن تترك عائلة بهذا العدد، ماذا يحصل لو شتمت الرموز يا أخي؟ هل سيزعلون عليك؟ أم تنقلب الدنيا؟ الإنسان يؤكد وجوده بفاعلية وحضور وازدهار عبر ممارسة الفكر بصورة حية خلاقة متجددة بناءة مثمرة، هنا البطولة الحقيقية لا في السجون ص 7''

لكن هذه (الفلسفة) التي يبشر بها صالح والتي ترفضها (الجماعة)، وكان محمد الخلف نفسه قد رفضها وظل يرفضها قبل لقائه بصالح ويعتبرها (خيانة) و(انهيار) و(سقوط أخلاقي)، تخفي مشاعر إحباط وخيبة ويأس (يبدو) أن صالح يعاني منها. يقول صالح، وهو يسمع اخبار نجاح انقلاب 8 شباط: ''أصبحت الأماني هباء يا محمد! كل شيء صار واضحا ص9''

ويضع صالح مسؤولية نجاح انقلاب 8 شباط على عاتق (الجماعة) بسبب تعاليها وابتعادها عن مطالب عامة الناس واحتكارها للحقيقة ورفضها للديمقراطية والليبرالية والتعددية الحزبية: ''منطق التعصب الذي يفتك بالإنسان، الزعيم الأوحد والحزب الأوحد، كلاهما متأله يظن أنه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة وحده لا شريك له، يملك الحلول للإصلاح ص7''

الآن صار واضحا أن ''الأماني'' التي يتحدث عنها صالح ليست شخصية، تخصه وحده، أنما هي أماني سياسية عامة (كان) يأمل من الحزب أن يحققها (هذه المرة الأولى في الرواية كلها ترد مفردة ''الحزب''، وصالح يعني الحزب الشيوعي العراقي، كما هو واضح في السياقات.)

وبما أن (الأماني أصبحت هباء) كما يستنتج صالح، والحزب أو (الجماعة) سائرة في طريق الانتحار الجماعي، فأنه من العبث واللاجدوى، وفقا لآرائه، أن يدافع المرء عن قضية عامة، ناهيك عن البقاء في صفوف (الجماعة) التي ينتمي اليها الخلف، والدفاع عنها. وهذه القناعة عند صالح ليست بنت يومها، أي لم تتولد عنده صباح 8 شباط بعد نجاح الانقلاب، وإنما هي سابقة للانقلاب. والدليل هو، أن أول فعل قام به صالح هو ''مناشدة محمد الخلف، عندما التقاه بعد غياب، للانسحاب بسرعة من التظاهرة'' التي كان المشاركون فيها يهتفون ضد انقلاب 8 شباط 1963، فوافق الخلف (فورا).

هنا، إذا تحدثنا من الناحية التقنية، صارت الرواية وهي ما تزال في بدايتها،، أمام مفترق طريقين: أما أن يظل محمد الخلف كما كان في السجن قبل لقاءه بصالح كيطان: الخلف الديناميكي، المتفاؤل والمفعم بالأمل، الذي يتحدى السجانين مرددا مع زملائه في السجن ''وكأنهم في عرس'' ''السجن ليس لنا ...''، الجريء المغامر، الفار من سجنه طوعا لمواصلة نشاطه السياسي الحزبي، المضحي بسعادة أسرته لقاء دفاعه عن مبادئ يؤمن بها، الرافض للبراغماتية كفلسفة عملية في الحياة.

أما الطريق الآخر هو، أن ينتصر صالح كيطان (أي أفكاره وآرائه ونصائحه، لأنه شخصيا لن يظهر ثانية في الرواية، كما قلنا)، ذو العقلية البراغماتية، الواقعي، والمحبط، اليائس، الذي لا يجد جدوى من التظاهر ضد انقلاب شباط، والذي يفضل أن يتبرأ الناشط الحزبي من جماعته ولا يظل قابعا داخل سجن، والذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة.

إذا انتصر محمد الخلف، أي اذا استمر محمد الخلف كما هو، محمد الخلف الديناميكي، فستنعكس ديناميكيته على الدينامية الداخلية للرواية، لأنه سيظل، لأنه بطل الرواية أو الشخصية المركزية فيها، يبحث عن أفكار وحلول، ويظل القارئ يبحث معه أيضا؛ وإذا حدث العكس وانتصرت أفكار صالح (الذي يملك حلا جاهزا معاكسا أو مضادا) فستنطفئ الديناميكية الداخلية للرواية وتصاب بفقر الدم. ما قلناه توا ليس موقفا منا، ولا هو رفض أو تعاطف مع أي شخصية في الرواية.

نقوله لأن المؤلف لم يمهد الطريق أمامنا نحن القراء ولم يهيأنا لهذا التحول الراديكالي عند محمد الخلف بعد لقائه بصديقه صالح، حتى نقتنع. فلكي يحدث تغير أو تحول عميق (عاطفي، نفسي، فكري، سياسي، جسدي) عند شخصية روائية ما فأنه يجب أن يكون نتيجة لمرور الشخصية بتجارب أو مواقف أو ممارسة أفعال، أو نقد ذاتي تدريجي ومتواصل، أو نتيجة تشخيص الشخصية لعيوبها، أو تعلمها من دروس حياتية مهمة. وهذا كله لم يحدث لمحمد الخلف (حتى ولو على شكل تململ) قبل لقائه بصديقه صالح كيطان.

فالمؤلف قدم لنا محمد الخلف، في أول ظهور له، ك(ضد) و(نقيض) لصالح كيطان: الخلف شخص راديكالي، أو مبدأي بلغته وبلغة الجماعة التي ينتمي اليها، مؤمن بقضية فكرية ومنتمي ل(جماعة) سياسية يضحي بأسرته وبراحته وبوظيفته حتى لا يشتم قادتها أو رموزها، وقبل ذلك كان قد تشرد من مدينة لأخرى، قوي وبمواصفات قائد. وعندما فر من السجن فإنه فعل ذلك، وفقا للمنطق، لا ليظل متخفيا وإنما ليواصل نشاطه السياسي الحزبي مثلما يفعل، عادة، كل السجناء الفارين. ومثلما فعل هو عندما غامر واشترك، وهو بملابس السجن، في التظاهرة المناوئة للانقلاب، قبل أن يخرجه منها صالح كيطان.

بالإضافة لهذا كله، فأن محمد الخلف ليس ساذجا حتى يغير آرائه وقناعاته بمجرد أن يلتقي أحد أصدقائه القدامى، بل يتمتع بوعي سياسي وقدرة على فهم ما يدور في بلاده، وتحليل وربط الأحداث. والأهم من هذا، أنه لا يوجد ما يدل، لا تصريحا ولا تلميحا، على مواقف انتقادية كان الخلف يجاهر بها ضد (الجماعة) سابقا، أي قبل لقائه بصالح كيطان.

ولهذا فأنه لا يبدو أمرا مقنعا ومتماسكا ومنطقيا (من ناحية تقنية صرف) أن يكون صالح كيطان هو الشخصية (الساندة L’allié) للشخصية الرئيسية، أي أن يكون محمد الخلف في ''مأزق'' وأن ''يشفق'' عليه صالح كيطان، وليس العكس، ويقدم له صالح الأسناد العون والنصيحة: ''إهدأ قليلا يا محمد، أنا حاضر لمساعدتك ص6''.

أيضا ليس منطقيا أن يصبح الخلف، بمجرد لقائه بصديقة صالح، يائسا ومستسلما لقدره ''الفاس وقع بالراس ص6''، وكان هو نفسه قبل يوم ينشد ''السجن ليس لنا نحن الأباة'' ص14''، ويرى أمامه في الكوت كيف يتظاهر بسطاء الناس شجبا للانقلاب، ويسمع عن ''فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب ص14'' !

كذلك ليس منطقيا أن يتفق الخلف مع أراء صالح، هكذا بسرعة وبدون نقاشات وطرح أسئلة. فبعد مقولة صالح التي ذكرناها توا: ‘‘أصبحت الأماني هباء يا محمد كل شيء صار واضحا!'' وافقه محمد الخلف الرأي فورا وبدون أي تفكير أو مراجعة أو استفسار، قائلا: '' نعم يا صالح لقد توارى زمن الآمال، استحالت الى ركام. ص9 ''. وعندما تمادى صالح في لوم وتقريع محمد الخلف فأن الأخير لم يرد ولم يحاول تفنيد أقوال صالح، إنما راح يتوسل به قائلا: ''ارحمني يا صالح استعين بك لا تجلدني أكثر أرجوك! ص7''

إن ما حدث لبطل (منازل)، محمد الخلف، هو كما لو أنه تعرض الى توسنامي فكري سياسي في ليلة واحدة، أو أُخضع لعملية غسيل دماغ سياسي فكري وتم حقنه بوعي سياسي مضاد لوعيه السابق، فصار الخلف نسخة (فوتو كوبي) من صالح.

والغريب حد الاندهاش هو، أن صالح حقق نجاحا باهرا يشبه السحر، فبعدما غادر الخلف منزل صديقه في الصباح التالي واستقل سيارة متجها نحو الجنوب، صار يرى فقراء الفلاحين المتعبين وقد تراصفوا ''كالخراف''، وأحاديثهم ''ثرثرة'' !!

وظل محمد الخلف، منذ لحظة خروجه من دار صالح كيطان، يزداد تغيرا، وابتعادا عن ما كانه داخل السجن، كلما كانت الأيام تتقدم. فقد بدأ بمرور الأيام ''يجد نفسه في متاهة... لا يعلم وجهته أين؟ '' ويرى '' أن ما يجري أشبه بالعبث واللاجدوى (و) شعوره بالمأزق الذي فيه يتعمق ''. وظل الخلف يسأل نفسه ''من أدخلك في هذه الورطة؟ ويردد مع نفسه' ‘كنت غارقا بوهم'' '' ويعلن بتشاؤم شديد '' ستغدو الأيام المقبلة مرعبة ''، وشرع ''يقاضي نفسه في عزلة تامة (وبدت) تضيع كل تلك الرؤى، الأحلام، الأصدقاء، تتعذر الرؤية، تغيم الدنيا كأن لا تاريخ، لا موقف، لا محبة ... ''. وبعد أن كان الخلف يردد مع زملاءه داخل السجن ببسالة وتحد وبفرح غامر وتحد (السجن ليس لنا نحن الأباة) صار الآن، وهو حر طليق، مذعورا خائفا مثل طفل يحتمي بأمه: '' بي شوق لأمي تحضر معي هذه العزلة'' (الصفحات،60،83، 61، 20، 29، 33).

والغريب، أو المفارقة هي، أن محمد الخلف (الثاني) ظل يبتعد عن محمد الخلف (الأول) كلما كانت الأوضاع الأمنية العامة في البلاد تتحسن، ويزول الخطر عنه ويشعر هو باستقرار وبأمان أكثر مع أسرته. فبعد أن عاد لأسرته والتأم الشمل وشعر بالأمان، بتنا نسمعه يوبخ نفسه والذين كانوا ينشطون معه في صفوف الجماعة: '' اشد ما أخشى ان نكون مصابين بعمى الألوان، فنفقد القدرة على التمييز. ص208''، وعن (الجماعة) يقول: ''لم يدرك واحد منهم ان الزمن يتحرك ص172.. انه الوهم الذي قادنا الى هذا المصير ص173'')

و ظل يردد أمام أبنه البكر: ''تاهت السفن والأشرعة يا ولدي. ص223''، ويقول لسليم الذي اقترح عليه العودة الى صفوف (الجماعة): ''أنا يا صديقي حتى الجهات الأربع ضيعتها، أبدو كمن علق في فضاء فارغ في مهب رياح عاتية ... ذاكرتي لا تعمل كما ينبغي ... شيء ما يموت في مكان بعيد ص208''، ويتساءل بمرارة وبأسف وبندم: ‘'لماذا أسلمنا أنفسنا للذبح؟ لم نعد نقرأ في كتبنا سوى اللغو ص91''.

و (اللغو) الذي يعنيه الخلف هو ما كان يعتبرها سابقا (أسس) النظرية التي يؤمن بها، والتي بموجبها يوجد (أعداء) (طبقيين)، فها هو الآن يسائل نفسه في مونولوغ داخلي: ''لِمَ كان يكافح؟ ومن أجل من؟ من هم الأعداء؟ ص206''. وأخيرا يعلن ''إن شعلة الحنين الى عالمي الأول همدت ص''.

ثم الوصول الى الاستنتاج الأعظم والذي من أجله كُتبت الرواية: ''لم أعد أصلح للجماعة ص207''.

تقنية تخدم المؤلف

''لم أعد أصلح للجماعة.'' هل هذا استنتاج أو قرار محمد الخلف نفسه، يقوله بحرية كاملة، أو وضعه المؤلف على لسانه ؟

نفضل أن تمر الإجابة على السؤال أعلاه عبر معرفة تقنية السرد. فقد اختار مؤلف (منازل أن تكون روايته مشابهة للنوع الذي يطلق عليه النقد تسمية رواية بولوفونيك ( polyphonique)، أي تحتوي على عدة رواة يروون عدة أحداث، كل واحد يروي الحدث وفقا لوجهة نظره. وفي (منازل) يتعدد الرواة ويتبادلون السرد بالتناوب وتتداخل أصواتهم حتى في ذات الصفحة الواحدة، الى حد تختلط الأمور أحيانا فلا نعرف من يتحدث.

والأرجح أن المؤلف اعتمد هذه التقنية لأنها تخدم غرضه، وهو عدم اقتصار البطولة على الشخصية المركزية، محمد الخلف وحده، أو لنقل حتى لا يصبح صوت الخلف هو الصوت الوحيد السائد، ولهذا خلق شخصيات ثانوية لكنها تقترب من البطولة، بل أن صوتها يعلو، أحيانا، على صوت الخلف نفسه (الأبن البكر، مثلا).

شخصية روائية بعدة نسخ

لكن، عن أي محمد الخلف نتحدث؟ فنحن أمام أربع نسخ للخلف وليست واحدة: الخلف السياسي، والخلف رب الأسرة، والخلف السياسي منذ شبابه وانتمائه الى (الجماعة) وحتى هروبه من السجن ولقائه بصديقه صالح كيطان، وأخيرا الخلف السياسي ما بعد هذا اللقاء وحتى نهاية الرواية.

فرغم ان محمد الخلف هو الشخصية المركزية التي لولا وجودها ما وُجدت الرواية أصلا، الا أنه ليس (البطل) في الرواية. كل شخصيات الرواية، تقريبا، هم أبطال: الأبن خالد، الأم زهرة، الأقارب، الأصدقاء. ولهذا فأن محمد الخلف لا يمكن اعتباره الراوي البطل (narrateur héros)، إنما يشاركه كما قلنا، أبطال آخرون، تعمد المؤلف، وبإلحاح، أن يمنحهم، وعلى امتداد صفحات الرواية، فرصا ذهبية لكي يكونوا، هم أيضا، رواة لهم مواقفهم ولهم آرائهم المهمة. وهنا بالذات يواجهنا (أشكال)، تقني. فالغرض من استخدام تقنية تعددية الأصوات في (رواية البولوفينيك) هو، إيصال وجهات نظر مختلفة، وهذا لا نجده في (منازل). فنحن أمام وجهتي نظر؛ (البطل) محمد الخلف من جهة، ويقابله من جهة أخرى أبنه خالد وزوجته زهرة ومعهم الراوي. هولاء كلهم يجمعهم رأي (واحد) هو، نقد حتى لا نقول (تسفيه) (الجماعة) السياسية التي ينتمي لها وينشط فيها محمد الخلف، وصولا إلى ثنيه نهائيا عن العودة لها ثانية، وهذا ما حصل. ودائما ما يتبادل هولاء السرد، سواء قصر أو طال الوقت الذي ’يمنح لهم، وحتى السارد بصيغة المتكلم (أنا) فهو شبه غائب، وكذلك الراوي العليم بكل شيء ( omniscient third person) فهو غائب.

وكما ذكرنا فأن هذا التعدد في وجود الرواة لم يتم صدفة أو بدون هدف، بل هو يعكس، استراتيجيا، 'وجهة نظر' المؤلف، أي تصوره وفهمه وتقيميه للموضوع الجوهري، أو الثيمة الرئيسية، أو الموضوع، أو الأطروحة المركزية في الرواية: تمجيد يصل حد التقديس لمحمد الخلف (الإنسان) (رب الأسرة) (المبرأ من كل عيب) كما ذكرنا، وهجاء (الجماعة) السياسية التي ينشط فيها محمد الخلف، (جماعة سلاتين) كما تسميهم زهرة زوجة الخلف، أو 'جماعتك' كما يسميهم الأبن خالد مخاطبا أباه.

بالطبع، تعدد الأصوات في أي عمل روائي هو أمر ديمقراطي، لكن في (منازل) يؤدي دورا مغايرا، لأن تعدد الأصوات يتم على حساب تقليص مساحة حرية التعبير عند (بطل) الرواية، حتى لا نقول إسكاته. بطل (منازل)، محمد الخلف، ليس بمقدوره أن يعبر عن مكنوناته بوضوح وبحرية، بسبب (رقابة)، كي لا نقول (قمع) يُفرض عليه، بتواطئ بين المؤلف، والراوي المحايد، والشخصيات الرئيسية.

فالروائي منذ بداية الرواية يُخرج بطله محمد الخلف من السجن ثم يلقيه في (سجن) صديقه صالح كيطان ليغسل له (ذنوبه) السياسية الحزبية، ثم يخرجه المؤلف ويلقيه في غياهب (سجن) آخر، هو الحفرة، أو مكان اختبائه. بعد ذلك يعيده إلى بغداد لكن دون أي أتصال مع الناس: (لم أدخل مقهى أو متنزها، لا أزور أحدا ولا يزورني.ص136 )، وكأنه مصاب بمرض نقص المناعة، ثم يرسله الى (سجن) آخر في الرمادي: '' اخبرني سليم عليك الاستعداد بعد غد للالتحاق بعملك الجديد في الرمادي ص 163.'') (ص166، 167) ورغم أن سليم يخبر الخلف بأن ''المشروع يضم عددا من المغضوب عليهم من المفصولين والمعتقلين سابقا من جماعتك '' ألا أننا لم نر ولم نسمع نقاشات، مهما كانت، تدور بين الخلف و(رفاقه) السابقين، بل نجد الخلف ''في الليل يخلو الى نفسه في غرفة منزوية عن بقية الغرف الأخرى داخل موقع المشروع'' ص171).

وبالإضافة لهذه العزلة المفروضة على بطل الرواية من قبل المؤلف، فأن الأخير لم يفسح المجال أمام بطله ليتحدث عن نفسه. فمثلا، لم يتحدث محمد الخلف من بداية الرواية حتى نهايتها عن سنواته التي قضاها في صفوف (الجماعة)، ولم يتحدث الخلف عن معتقداته وآرائه ومواقف (جماعته)، أو ما يسميه هو ''انتمائي السياسي والفكري ص 7 '' لا أمام أفراد عائلته ولا أقاربه ولا أمام زملائه في العمل في الرمادي ولا أمام أي شخص التقاه ؛ لم يتحدث عنها لا اثناء وجوده في السجن ولا في الفترات التي سبقتها بدليل أننا لم نسمعه يتحدث، ولم يتحدث عنها خلال فترة التخفي ولا لاحقا ’ حتى بدا محمد الخلف انسانا لا علاقة له بالسياسة.

وحتى عندما يريد محمد الخلف أن يعبر بصراحة وبحرية عن ما يجول في خاطره خصوصا في القضايا السياسية، فأنه يجد أمامه قامعين يترصدونه، وأشرسهم نجله البكر، خالد، حتى أضطر الخلف في أحدى المرات أن يعلن عن غضبه فقال موبخا نجله: '' أود لفت انتباهك الى أنك غالبا ما تتحدث عن (جماعتي)، كأنك تحاسبني كمذنب أمام تاريخي وانتمائي ص 141''، ومثل الأب انتبهت الزوجة زهرة للقسوة السياسية التي كان خالد يتعامل بها مع أبيه فأرادت ''ثني خالد عن توجيه اللوم لوالده ص49''.

ثم يأتي دور أم الخلف التي تؤنبه محذرة '' خلي سلاتين يسلتكم ص 33 ''، ترددها كنوع من العتاب ... لأبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، ثم تظهر ثانية، زوجة الخلف، زهرة وهي تخاطب ابنها: '' أنت وابوك وأمثالكم من البشر دفعتم الثمن غاليا ص 44 ''

وحتى عندما يغالي الأبن في (لوم) أبيه بحدة، او كما يقول الأب: ''بلهجة لم أسمعه يتحدث معي بها سابقا'' وويتهيأ الأب لتعنيف أبنه، فأن المؤلف يتدخل ويمنعه ثم يدفعه أن يقول: ''تهيأت لتعنيفه (الأبن خالد) لأني لم أسمعه يتحدث معي بهذه اللهجة، لكني سرعان ما ترددت بعد أن أظهر لي مودة وأسفا شديدا حينها ادركت أنه أهل للمسؤولية ص50''.

وكما نرى فأن محمد الخلف (ونحن نتحدث هنا عن محمد خلف السياسي، وليس رب العائلة) يبدو وكأنه (محاصر) من قبل الجميع، ومنطفئ: لا مغامرات، لا أفعال خلاقة، لا مشاريع ولا أهداف مستقبلية، ولا حتى حرية تعبير يتمتع بها.

وعلى امتداد زمن الرواية الذي يبدأ في 8 شباط 1963 (كي لا نذكر الزمن الاسترجاعي الاستذكاري) وتنتهي مطلع عام 2003 حيث''حشود العساكر (التي) تنتظر على الحدود لاحتلال البلاد وغزوها ص252 ''، لا نسمع محمد الخلف يعلق أو يدلي برأيه، رغم ان العراق شهد خلال هذه الفترة أحداث عاصفة: انقلاب 1963 وما تبعه من عمليات انتقامية عشوائية في غاية العنف، انقلاب 18 تشرين بقيادة عبد السلام عارف ؛ نكسة حزيران التي تركت أثارها في المجتمع العراقي خصوصا عند النخب ؛ عودة البعث ثانية للسلطة، الحرب العراقية الإيرانية، حرب الكويت، انتفاضة آذار الشعبية، الحصار الاقتصادي، ''حشود العساكر التي تنتظر احتلال البلاد''.

الخلف يبدو وكأن مهمته التي خلق من أجلها في الرواية، هي توبيخ ولوم نفسه بسبب انتمائه السابق الى (الجماعة)، و(تجريح) (الجماعة) سواء بأسلوب الجلد الذاتي، أو عن طريق جلد الآخرين له، خصوصا أبنه البكر، وصولا الى القرار الاستراتيجي ''أنا لا أصلح للجماعة''

***

د. حسين كركوش

(إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ) من ديوانه – ثورة الورد.

الشاعر "منير محمد خلف" من مواليد: الحسكة – سورية 1970· عضو اتحاد الكتاب العرب (عضو جمعية الشعر) يعمل مدرساً للغة العربيّة · صدر له المجموعات الشعرية التالية:

1. غبار على نوافذ الروح – دار الحصاد – دمشق.1995

2. سقوط آخر الأنهار - دمشق 1997.

3. لمن تأخذون البلاد؟ اتحاد الكتاب العرب 2000.

4. جنازة الإرث – اتحاد الكتاب العرب.2002

- نال عدداً من الجوائز الشعرية في سورية وخارجها من أبرزها:

1- جائزة سعاد الصباح في الكويت 1995.

2- جائزة المزرعة عن أفضل مجموعة شعرية في السويداء 2001.

3- جائزة طنجة في المغرب 2002.

4- جائزة أديب عباسي في الأردن 2004 وغيرها.

ينشر في الدوريات العربية والمحلية.

البنية الدلاليّة للنص:

دمشق في كل دلالاتها وزخمها وحضورها في الماضي والحاضر والمستقبل، التي عبر عنها الشاعر "منير الخلف" في هذه القصيدة، تظل عنده (روضةً من زخرفِ الأحلامِ)، شكلت حالة عشقٍ لروح هائمة في نور وظلال حضورها الأبدي، وفي نبض ياسمينها وزخرف أحلامها، التي لم يجد ذاته يوما إلا بين ياسمينها وعطره.

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

هي عينا دمشق التي لم تعرف النوم عبر تاريخها، هي بوابة التاريخ، وجذوة المجد التي لم تنطفئ... هي سر الخلود وشعلة النور التي تضيء لأهلها ومن يعرف معنى الحلم والأمل عندما يغفو التاريخ.

دمشق التي أنهكها اليوم الجوع والقهر والحصار والموت وشهوة الدم، حتى خَفَتَ نور عينها ولم تعد تشع كي تضيء للمتعبين من أهلها طريق الخلاص... دمشق التي لم تعرف النوم عبر تاريخها، ها هي اليوم تكاد تغمض عينيها وتغفو من ظلم تتر ومغول العصر، حتى راح شعراؤها ومحبّوها يتمنون لها النوم والراحة والسكينة والخلاص من كل ما عانته، لعلها تصحو من جديد لتستعيد مجدها.

يخاطبها الشاعر "منير الخلف" وفي روحه وعقله ألف سؤال وسؤال:

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟

هو يخاطب دمشق المكلومة في وجودها، يخاطب مشعل التاريخ.. ونبض قلبه وقلب كل عشاق الحريّة الذين أتعبهم ما أصابها من رزايا،، حيث لم يدرِ كيف الدخول إلى مجدها من جديد، وهو يرى الصمت وغياب البهجة في حضورها... وهذا ما يحزنه ويجعل القهر وعذاب الروح ينالا منه.. ويتساءل في داخله من ذا الذي يستطيع أن يفسر حبنا وأشواقنا لك يا دمشق، وكل أحلامنا ورغباتنا التي تأججت اليوم في مسامات وجودنا، تنتظر ارتياحك وعودة مجد التاريخ في عينيك؟.

ها هو الشاعر "منير" يدعوها أن تنام... أن ترتاح من قهرها على زند انتظاره وانتظار كلِ محبيها، لعلها تصحو من جديد. وهنا يحضرني شوق ولهفة الشاعر "سعيد عقل" لدمشق وهو يقول:

طالَتْ نَـوَىً وبَكَـى مِـن شَوْقِـهِ الوَتَـرُ

خُـذنِـي بِعَينَـيـكَ وَاهْـــرُبْ أيُّـهــا الـقَـمَـرُ

لم يَبقَ في الليلِ إلا الصّوتُ مُرتَعِشاً

إلا الـحَـمَــائِــمُ، إلا الــضَــائِــعُ الـــزَّهَــــرُ

كيف لا تصحو دمشق أيقونة التاريخ وهناك من يعشقها وهي من ألهم كل من عرفها سر البلاغة ونبض الحرف. يدعوها الشاعر "منير" بعد أن عاش هو آلامها أن تنام قائلاً:

نامي على زندِ انتظاري، إنَّهُ

وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ نامي

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

نعم... كيف لا تنهض دمشق من جديد... وهي الشآم التي لا يغيب حضورها رغم كل ما حاكه أعداء الإنسانيّة والجمال والحب ضدها... وهذا يعيدني ثانية لسعيد عقل وهو يخاطب دمشق:

(شَــآمُ يــا ابـنــةَ مـــاضٍ حـاضِــرٍ أبـــداً

كـأنّـكِ السَّـيـفُ مـجـدَ الـقـولِ يَخْتَـصِـرُ

حَـمَـلـتِ دُنـيــا عـلــى كـفَّـيـكِ فالتَـفَـتَـتْ

إلـيـكِ دُنـيـا، وأغـضَـى دُونَـــك الـقَــدَر).

يقول الشاعر "منير خلف" مخاطباً دمشق الروح والعشق والبهجة والحضور، ومحطة لعناق الروح والجسد بينها وبين محبيها ومغرميها:

سأجيءُ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهامِ.

كيف لا يجيد شاعرنا ويعشق عناقها وهي الشآم التي عشقها كل شاعر عربي عرفها وعرف أهلها بطيبهم وحبهم.. ألم يقل "سعيد عقل" بها:

(شـــــآمُ أهــلـــوكِ أحـبــابــي، وَمَـوعِــدُنــا

أواخِــرُ الصَّـيـفِ، آنَ الـكَـرْمُ يُعتَـصَـرُ

نُـعَـتِّــقُ الـنـغَـمَـاتِ الـبــيــضَ نَـرشُـفُـهــا

يــومَ الأمَـاسِـي، لا خَـمــرٌ ولا سَـهَــرُ

شَــآمُ يــا ابـنــةَ مـــاضٍ حـاضِــرٍ أبـــداً

كـأنّـكِ السَّـيـفُ مـجـدَ الـقـولِ يَخْتَـصِـر).

البعد الجمالي في القصيدة:

يركز البعد الجمالي على تحليل وتقييم الجماليات في الأعمال الأدبيّة، وفهم كيفيّة استخدام العناصر الجماليّة مثل اللغة، الأسلوب، الصور، والرموز في النصوص الأدبيّة لإثارة المشاعر والتأثير في القارئ. وعلى هذا الأساس تأتي دراستنا للغة القصيدة أولاً.

لغة القصيدة:

لقد شكلت اللغة هنا آليّةً استراتيجية هامة في البناء الشعري للقصيدة، فهي كسفينة راحت تنقل الشاعر والمتلقي معاً إلى آفاق المجهول من أجل الكشف عن الرؤى الهاربة في المتاهات السريّة البعيدة، الأمر الذي يجعل المتلقي يذهب إلى تأويل ملفوظ القصيدة تأويلاً استعاريّاً، عندما يدرك غموض المعنى في لغة النص. (إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ).. (عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ)... (ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي).. (مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟). مع هذا الغموض في النص يفتح المتلقي بنية وآفاق القصيدة على كل ما تمثله معارفه عن دمشق التاريخ... فبوابة التاريخ وعمقه ومجده، هي بحر عميق في كنوز دلالات حضورها فتسهل للمتلقي أن يغرف من كنوز هذه الدلالات كل ما يستطيع عقله وعاطفته وحبه وشوقه لدمشق.

تمتاز لغة النص بسلاستها ونصوعها وسهولتها وفصاحتها. فالكلام الفصيح هو الظاهر البين الذي يستلذ السمع منه ويميل إليه. وما يميز لغة النص أيضاً، عذوبة (النسيب) في لغة القصيدة التي فرضها عشق الشاعر لدمشق، فهناك تهالك في الصبابة، وإفراط في الوجد واللوعة والرقة، وأخيراً جودة المعنى التي تأتي من "اتفاق المقال مع واقع الحال"، كما يقال... يخاطب الشاعر "منير الخلف" دمشق:

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟.

الرمز في القصيدة:

إن للرمز قبل كل شيء معنىً خفيّاً وايحاءً، يحاول الأديب عكس ما يدور في خلده عن طريق الرمز والقناع والأسطورة، وهو في الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالأديب يصعب عليه أن يطلق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة، لذلك يلجأ الى تقنية الرمز. وتزداد قيمة الرمز وأثره محل الأشياء بكونه تعبيراً لا شعوريّاً يتجاوز الواقع الى الايحاء به، فهو قد يبدأ من الواقع ولكن لا يرسم الواقع، بل يُردُّ الى الذات، وفيها ينهار عالم المادة وعلاقاتها الطبيعيّة لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتيّة لمستخدم الرمز.

بيد أن الرمز في القصيدة عند الشاعر "منير خلف" جاء هنا ليعبر عن عمق تاريخ دمشق وتعدد سجاياها الجميلة، إن كان في طبيعتها أو طبيعة أهلها عبر التاريخ.

ففي عنوان القصيدة (إليها "هاءً" غيرَ قابلٍ للسكتِ)، يأتي حرف (الهاء) هنا، الحرف الأول لاسم حبيبة الشاعر، هذه الحبيبة التي تساوت في عشقه لها مع عشقه لدمشق... فالمرأة تظل في رمزيتها كـ"عشتار" الخصب والعطاء الذي لا ينضب، أو ك"فينوس" آلهة الجمال التي تحقق الدهشة، ودمشق كذلك.

كما يأتي (الياسمين) في القصيدة رمزاً يعبر عن جمالها وعطر ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فهي (روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ.)، كما وصفها الشاعر.

أما أن تكون دمشق عند الشاعر (مفاتيح اللغات)، فتعدد اللغات (رمز) يدل على عمق دمشق الحضاري، ومنها كانت أول أبجدية في التاريخ وعلى أرضها قامت حضارات، ومرت عليها شعوب عديدة تركت الكثير من مفردات لغاتها ممتزجة ومتعانقة مع لغتها العربيّة حتى اليوم.

لقد وظف الشاعر الرمز في القصيدة ببراعة عالية، يريد به إبراز قدراته الابداعيّة والجماليّة من جهة. إضافة لكونه يعني حالة باطنيّة معقّدة من أحوال النفس، وموقفا عاطفيّاً أو وجدانيّاً من جهة ثانية. وبوصفه أيضاً أكثر فاعليّةً وقدرةً على التعبير بدلالات واسعة مختلفة من جهة ثالثة.

الصور الشعريّة في القصيدة:

تظل الصور الشعريّة هي الوسيلة التي يستخدمها الشعراء لنقل الأفكار والمشاعر بطريقة ذهنيّة أو حسيّة ملموسة. كما تحتل الصورة أهميّهً كبيرةً في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه، هو صورة، يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. ومن خلال استخدام الصور الشعريّة، يمكن للشاعر أن يخلق عوالم خياليّة غنيّة بالتفاصيل، مما يسمح للقراء بقراءة النص بشكل أعمق وأكثر تفاعليّة.

من هذا المنطلق المنهجي، اعتمد الشاعر "منير خلف" كثيراً على الصورة الذهنيّة والحسيّة معاً، ساعياً بخبرته وتراكم معرفته بدور الصورة وأهميتها فنيّاً وجماليّاً ومعرفيّاً، حيث قام بتشخيص تلك الصور الذهنيّة خاصة في النص، عبر اللغة ومحسناتها البديعيّة البلاغيّة من التشبيه والاستعارة والكناية. فصار للمعنى وجوداً آخر من جهة دلالة الألفاظ وجماليّة صياغتها، والتطابق بين الصورة والتجربة الشعريّة للشاعر، إضافة لتحقيق حيويتها وايحائيتها، والمتعة الفنيّة في ذاتها، بما تحويه من خيال بديع.

لقد جاءت القصيدة بمعظمها مشبعة بصور حسيّة وذهنيّة عالية التشكيل، لتشكل من كل هذه الصور المنفردة ومجتمعة، صورة كليّة لدمشق التي حركت كل أحاسيس الشاعر وكوامن وجدانه، وألهمته معنى الحياة والخلود والبوح:

(عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ).. (يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ).. (أأطرق.. باب الفؤاد).. (عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ).. (وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ).. (مفاتيحَ اللّغاتِ)...

شعريّة المكان في القصيدة:

تظل العلاقة بين الإنسان والمكان علاقة قديمة متجذرة في أعماق النفس البشريّة، وطبيعة هذه الوشيجة تشكلها تلك العلاقة الحميميّة بين البيئتين الطبيعيّة والاجتماعيّة اللتين ترعرع فيهما الإنسان، ونمت إدراكاته وأحاسيسه وتشكل هويته وإحساسه بذاته. فالشاعر الجاهلي تعلق بالطلل وبالرسوم الدارسة وأماكن الظعن، وانعكست أشجانه ورؤاه الشعريّة على تلك الأماكن، فكان يسافر إليها للذكرى والتذكر، ويقف حيالها حزيناً يذرف الدمع مدرارا ويستعيد لحظات الماضي بكل تفاصيله في لذّة وشجن وحرقة والتياع. ويركز الشاعر الحديث على موطنه ومسقط رأسه ثم يخرج من هذه الرؤية الضيقة وتتوسع نظرته لتشمل أماكن متعددة كالبيت والنهر والقرية والمدينة...إلخ. ولكن هناك علاقة أخرى أشد عمقاً تربط الإنسان بالمكان، وهي الوطن الذي يعبر عن انتماء الإنسان وارتباطه الحضاري بكل مفرداته من لغة وثقافة وآمال وألام وعيش مشترك، ففي هذا الانتماء الحضاري تبقى العلاقة وطيدة بين الذكريات والمكان، لتشكل جزءاً هاماً من تجربة الشاعر، فيبني علاقات مع جمادات المكان، ويعمل على أنسنتها، من خلال مخاطبتها ومحاورتها.. وهذا ما عبر عنه الشاعر "محمد خلف" في انتمائه لدمشق التي راح يبين لنا عبر كل تلك الصور الذهنيّة والحسيّة واللغة الشفافة التي جاءت في القصيدة، عن حبه وعشقه وانتمائه لها.. حيث يقول:

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

نامي على زندِ انتظاري...

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

لأفكَّ شِفرةَ شوقيَ المتُنامي

سأجيئ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهامِ

الموسيقى الخارجية والإيقاع الداخلي في النص الشعري:

تظل الموسيقي تلازم الخطاب الشعري، وهي جزء من القصيدة لا تنفصل عنها، لأنها تنشأ في داخلها، مراوحةً بين الحركات والسكنات، ولا تنفصل عن سياق المعنى، فينضبط ويرتبط بها.

إن مصدر الموسيقى في التشكيل الخارجي للقصيدة متعلق بالتفعيلة (الوزن) والقافية.

أما الإيقاع فهو ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر، التي تتطابق وتتناغم مع طبيعة كلمات القصيدة وحروفها وتراكيبها وصورها ونسيجها البلاغي من تشابيه واستعارة وكناية وجناس وطباق وغير ذلك. وبالتالي مدى قدرة الشاعر على تحقيق الانسجام والوحدة بين مكونات القصيدة كي يصدر عنها رتم موسيقي ينسجم مع بنيتها العامة.

مع شعر الحداثة (التفعيلة أو الشعر المنثور) تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر والقافيّة، إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دورا ًبالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس.

إن هذا التطور في الرتم الموسيقي سيجده المتلقي في قصيدة الشاعر: "منير الخلف" (إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ). لقد استطاع الشاعر في هذه القصيدة القائمة في موسيقاها الخارجيّة على تفعيلة (متفاعل)، وغلبت على نهاية الشطر في بنية القصيدة حرف (الميم) بكل ما يحمل هذا الحرف من دفقات وجدانيّة تخاطب عاطفة المتلقي وحسه وشغاف قلبه ووجدانه. أما على مستوى الموسيقى الداخليّة، فقد جاءت دقة الشاعر في اختيار الألفاظ، ثم قدرته على الملاءمة بين ألفاظه وإيحاءاته الفكريّة، وقدرته التعبيريّة في اختيار الكلمات، ثم تحقيقه لحالة الانسجام بين الأصوات ودلالاتها، ساهم كل ذلك في تشكيل رتم موسيقي تعانق فيه نغم الموسيقي الخارجي الصادر عن الوزن والقافية مع الإيقاع الداخلي أو الموسيقى الداخليّة للنص، وبالتالي منح مكونات القصيدة التناغم والتوازي والتساوي بين أجزاء الكلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

....................

(إليها هاءً غيرَ قابلٍ للسكتِ)

عيناكِ نبْضَا ياسمينِ الشَّامِ

يا روضةً من زُخْرُفِ الأحلامِ

عيناكِ.. لا أدري أأطرقُ مُتعباً

بابَ الفؤادِ بقبضتَي إحجامِ؟

عيناكِ عنقودَا كلامٍ صامتٍ

مَنْ ذا يُترجِمُ يقظتي لتنامي؟

نامي على زندِ انتظاري، إنَّهُ

وَشْمٌ على خدِّ البَلاغةِ نامي

ودعي مفاتيحَ اللّغاتِ على يَدِي

لأفكَّ شِفرةَ شوقيَ المتُنامي

سأجيئ نحوَكِ شاعراً كَلِفَاً بِمَ

جَادَ العِنَاق بثروةِ الإلهام

مقدمة تحليل قصيدة "العمائم": الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير

عند التوغل في أبعاد الصور الشعرية التي يصوغها شاعرنا الكبير، تظهر بوضوح مفارقة جوهرية تُعدّ أساساً لأعماله؛ إذ يتجلى فيها عشقه للحرية، ورفضه القاطع لكل مظاهر الاضطهاد والاستغلال. في نصوصه، لا تقتصر مهمة الكلمة على إبراز جمالها فقط، بل تتعدى ذلك لتغوص في أعماق الواقع المتصدع، فتستخرج رؤى مبتكرة مفعمة بالإبداع وتُجسّد تجارب شخصيته الاستثنائية.

ليس شعره مجرد لعبة لغوية، أو نزوة فكرية عابرة، بل يُمثل بيانًا أدبيًا وفكريًا محمّلًا برسائل تهدف إلى إيقاظ الوعي وتحفيز التأمل والإبداع. هذا ابن بغداد، الذي ترعرع على ضفاف دجلة، وحافظ على خيوط الأمل متماسكة رغم تجربة النفي والغربة، لم يتخلَّ عن بريق التفاؤل. كما عبّر عن ذلك قائلًا: لم أفقد الأمل بانتصار الأمل. فيتصور كشخصية الفارس الذي، رغم العواصف التي تلاحقه، يظل يحلق نحو النور.

تشغل قصيدة "العمائم" مكانة مميزة في تجربتها الأدبية، من خلال تناول آثار ما بعد الحرب؛ فتفتح أبوابها على مشهد مزدوج، يجمع بين نقد بنية القهر الجديدة، وكشف الجراح العميقة التي يتركها الصراع على أرواح وأجساد البشر. لا تُقدَّم الحرب على أنها لحظة عابرة أو مجرد حدث انتهى، بل تتحول إلى زمن داخلي يأكل من الروح، حتى بعد صمت المدافع. الجندي الذي يجد نفسه على عتبة الأسئلة لا يظهر كبطل منتصر ولا كضحية فقط، بل يصبح رمزًا لمعاناة شعوب بأكملها أُعيد تشكيلها قسرًا من دون أن يترك لها خيار أو اعتبار لرغبتها في تحمّل هذا الإرث الثقيل من الخذلان.

وفي هذا السياق، يتجلى الشاعر كمثقف عضوي نابض بالحيوية، بحسب رؤية غرامشي، لا يكتفي بتوثيق تشوهات الأنظمة، بل يسعى جاهدًا إلى إيقاظ الوعي وسط سبات الجماعات. قصيدة "العمائم" ليست مجرد تمرين جمالي محض، بل هي موقف وجودي وموقف مقاوم ضد التزييف والعنف المغلف بالرموز الزائفة. تتحدى القوى المهيمنة متسائلة: هل تتحول معاناة الحرب إلى وجه جديد أم أن السلطة تكتفي بتشكيلها تحت غطاء عمائم مصطنعة؟

عرض القصيدة

العمائم...

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ أحلامَكَ

المتعبةَ

من دوران نهار اليوم.

في الليلْ

حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

في رأسكَ

تُسلمُ عينيكَ للذةِ هذي الفكرةِ:

أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

فترى الأشباحَ الحائمةَ

أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ

والناس

هناكَ ....

حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى

(حسن عجمي) *.

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

بينَ أصابعهِ المرتعشة.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

العتبة، العنوان: "العمائم" كمفتاح تأويلي

يُعدّ عنوان "العمائم" مفتاحًا تأويليًا يكشف التحولات السياسية والرمزية في القصيدة؛ فهو لا يخدم وظيفة جمالية فقط، بل يشكك أيضًا في استخدام الرموز الدينية لتبرير منظومة سلطوية جديدة بعد الاحتلال. فقد تحولت العمائم من رمز ديني نمطي إلى استعارة سياسية تُشير إلى سلطة تخفي وراءها وجه المقدّس آليات إعادة إنتاج القمع والفساد باسم الهوية والدين.

إن صياغة العنوان بصيغة الجمع تبرز انتشار هذه الظاهرة واتساع مدارها، مما يمنح العنوان دلالة تتجاوز الفرد لتطال بنية السلطة بأكملها. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في تساؤل الجندي الختامي، الذي يُظهر تحوّلًا من قمع عسكري مباشر إلى قمع مؤدلج ديني، فيصبح العنوان بذلك بوابة لفهم التوتر بين الماضي والحاضر—وبحث عن هوية يُخفيها خطاب زائف تُزيّفه العمائم

المقطع الأول: استدعاء الذاكرة في ليل الذات

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ

أحلامَكَ المتعبةَ

 من دوران نهار اليوم

يقدّم الشاعر تصويرًا للّيل على أنه أكثر من مجرد فترة هدوء، حيث يتجلى كزمن تتبدى فيه التوترات الداخلية بوضوح، لتصبح العزلة انعكاسًا يعكس الإنهاك المتراكم من واقع مضطرب ومليء بالتحديات. ففي العبارة "حين ينام الكون فوق فراش أصابعك"، يوحي المشهد الظاهري بالهدوء، إلا أن أصابع الشاعر تحمل في طيّاتها عبء العالم بأسره. هذا التصوير الرمزي يشير إلى وعيٍ مثقل بمزيج من العجز والحذر المستمر. وليس الليل هنا محطة للراحة أو الاستشفاء، بل هو مساحة يعري فيها استمرار الألم الكامن، حيث يتحوّل السكون الخارجي إلى معترك داخلي دائم. وفي هذا المشهد، يلتقي الإحساس العميق بالحنين مع وعي مأزوم يعي حضوره ويتأمل ذاته، لكنه يبقى عاجزًا عن الفعل المباشر.

تُعتبر تكتكة الساعة في النص رمزًا ذا دلالة مزدوجة؛ فهي من ناحية تمثل صوت الزمن المستمر في تسجيله، الذي يكشف عن ثقل تعاقب الأيام، ويوقظ الأحلام لا كمهرب بل كأعباء مرهقة تحكمها قسوة الواقع، حيث يمتد دوران النهار إلى أعماق ليل الذات. ومن ناحية أخرى، تعكس هذه التكتكة نبضًا يحمل في طياته ذاكرة مفعمة بندوب الحرب، ما يجعلها رمزًا للصمود في وجه الرتابة وسجلًا داخليًا للآلام المتراكمة.

إن ربط "الأحلام" بـ"التعب" و"النهار" يشير إلى أن التجربة اليومية للذات لا تُفارقها حتى في أكثر لحظات الهدوء المفترض. فالنهار الذي قد يُحيل إلى السلطة والواقع الاجتماعي المتغير في القصيدة، لا يترك مجالًا للراحة، بل يُخلف أثرًا نفسيًا يتجلّى ليلًا في شكل وعي قلق وأفكار متعبة.

المقطع الثاني: الليل كفضاء للاستعادة والإنصات: جدلية الحضور الغائب

"في الليل،

 حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

 في رأسكَ،

 تُسلِّمُ عينيكَ للذّةِ هذه الفكرة:"

"أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

 فترى الأشباحَ الحائمةَ

 أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ."

يمهّد الشاعر من خلال هذا المقطع لمشهدٍ تأملي عميق تنفتح فيه الذات على استعادة الماضي، لا بوصفه حدثًا مضى، بل كحالة تأملية مستمرة تعيد تشكيل الإدراك في لحظة السكون الليلي. الليل هنا لا يُقدّم كمجرد زمن خارجي، بل كفضاء داخلي، تتجلّى فيه الذكرى عبر "تغريد أطياف الماضي"، في مفارقة شعرية تربط بين الجمال (التغريد) والألم (الطيف).

هذا التوظيف ينقل الذكرى من كونها عبئًا إلى مصدر لذّة تأملية؛ إذ يتخلى الشاعر عن مقاومة الذكرى ويُسلّم عينيه للفكرة، كما لو أن الألم ذاته بات مألوفًا، وربما مرغوبًا، لما يحمله من حضور يُعيد تثبيت هوية الذات في مواجهة النسيان.

"أن تنظر في الظلمة حواليك" لا تعني فقط النظر الحسي، بل التوجه بالبصيرة نحو الغياب، فيتحول الظلام من عتمة صامتة إلى مجال بصري داخلي تظهر فيه "الأشباح الحائمة". هذه الأشباح ليست مرعبة، بل شاهدة، تمثل حضورًا غيابيًا لمن عبروا، وتشير إلى أن الأمكنة، مثل "الشارع"، لا تخلو من ذاكرة، بل تجري فيها "أنهار" من الذكرى، كما تجري الحياة في العروق.

المزج بين "الأشباح" و"أنهار من ذاكرة الشارع" يُنتج صورة مركبة تعبر عن الوعي الجمعي؛ الأشباح كمجاز للراحلين أو الضحايا، والشارع كحيّز للتجربة اليومية التي لم تَعُد محايدة، بل مشبعة بتاريخ خفي يُقيم في الجدران والأرصفة.

في هذا المقطع، يتحول الليل من مجرد خلفية شعرية إلى حالة ذهنية، تتكثف فيها الرؤى والحنين، ويصير الظلام حافزًا للتأمل لا للاختباء. إنه وعي يتجاوز الحاضر، ويستحضر التاريخ الشخصي والجمعي في آن، حيث الذكرى لا تُستعاد فقط، بل تُعاد صياغتها كحضور قائم بذاته

المقطع الثالث: الناس هناك: استدعاء الوطن من موقع المنفى وتفكيك حلم المثقف

"والناس هناك...

 حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى (حسن عجمي)"

في هذا المقطع، يستحضر الشاعر الوطن من موقع الاغتراب، مستخدمًا تعبير "الناس هناك" كإشارة مكانية مشبعة بدلالة الانفصال، تُحيل إلى أولئك الذين بقوا داخل جغرافيا الوطن، بينما الذات الشاعرة تعيش خارجه، في المنفى أو المنفى الرمزي. لا ترد العبارة بوصفها حيادية أو توصيفًا عاديًا للمكان، بل تنطوي على مسافة شعورية تتوزع بين الحنين والخذلان، إذ تتحول "هناك" إلى مكان مُتخيَّلٍ مفعم بالذاكرة والألم.

يرتكز المشهد الشعري على مقهى "حسن عجمي"، وهو أكثر من معلم واقعي، إذ يتجلّى بوصفه رمزًا للحراك الثقافي ومجتمع المثقفين، حيث كان التقاء المثقفين والأدباء في مثل هذه الفضاءات يمثّل بؤرًا للجدل الفكري والتعبير الحر. غير أن صورة "الحلم" في هذا السياق لا تأتي مشرقة أو حيّة، بل تُقدَّم في أقصى حالاتها انكسارًا، إذ يُختزل في "بقايا جثةِ نادل".

النادل، الشخصية الهامشية في المشهد اليومي، يُستدعى هنا كأيقونة للزمن الثقافي الذي مضى؛ فما كان يدور حوله من تفاعل حيوي صار الآن أثرًا بعد عين، مجسّدًا في "بقايا جثة". لا يشير الشاعر إلى النادل كشخص فحسب، بل كجزء من منظومة ثقافية بأكملها تآكلت، فتفكك الحلم الذي كان ذات يوم يرفرف في فضاء المقهى وارتبط بحيوية الكلمة والنقاش.

إن توصيف الحلم بأنه "جثة" لا يحمل فقط دلالة على الفقد، بل يكشف تحوّل الفضاء الثقافي إلى موقع مأساوي، يوحي بأنّ الحلم الجماعي الذي كان يربط الأدباء والمفكرين بالمكان قد انتهى نهاية مأساوية، بل مشوّهة. هذا ما يجعل المقطع يتجاوز الحنين إلى صيغة نقدية جارحة لواقع المثقف والوطن، حيث تحوّلت رموز الحياة الثقافية إلى شواهد على موت المعنى.

ويُلاحظ أن الشاعر لا يُصوّر الوطن في حالة مواجهة مباشرة، بل يُركّب صورة من خلال انعكاسات الذاكرة، حيث تتحوّل الأماكن إلى مقابر رمزية للأحلام، والمقهى، بكونه مركزًا ثقافيًا، يصبح رمزًا لما كان يمكن أن يكون ولم يتحقق.

الخلاصة:

تُعبّر هذه الصورة عن ثنائية الحنين والخذلان، وعن المفارقة بين وطنٍ محفوظ في الذاكرة بوصفه مساحة للأمل، ووطنٍ متلاشٍ في الواقع حيث تحوّلت الأحلام إلى أشلاء رمزية. بقايا جثة نادل المقهى ليست سوى استعارة عن انهيار المشروع الثقافي والجماعي الذي كان يحتضنه المكان، وتُصبح "الناس هناك" عبارة شحن شعوري موجّه من مغترب يواجه الوطن بوصفه ماضيًا منهارًا لا يستعاد. منها إلّا بقايا.

المقطع الرابع: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

في هذا المقطع الشعري، تُبنى التجربة على ثنائية الليل/النهار بوصفها إطارًا زمنيًا وشعوريًا يعكس التوتر الداخلي الناتج عن الحرب. إذ يُقدّم الليل لا بوصفه فضاءً للسكينة فحسب، بل كمساحة تأمُّلٍ ذاتي، يُستدعى فيها المكبوت والمقموع، حيث "ينام" المتكلم ظاهريًا، لكنه "يحتضن دقات القلب"، بما يشير إلى يقظة وجدانية تُقاوم السكون الخارجي.

تشير عبارة "أسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ" إلى النهار بوصفه معادلاً للمعاناة اليومية، حيث يتحول الزمن إلى بنية مغلقة تحاصر الذات. فـ"الأسوار" لا تُمثّل هنا مجرد بُنية مكانية، بل دلالة على آثار التجربة المُعاشة، أي أن الشاعر يعكس أثر الزمن المؤلم على البنية النفسية للشخصية الشعرية.

في هذا السياق، يُستدعى "وجه الجندي العائد من ساحات الحرب" ليشكّل صورةً رمزية للذات المجروحة، سواء أكانت ذاتًا فردية أم جمعية. فـ"العودة" هنا لا تُمثّل نهاية الصراع أو الانعتاق من الحرب، بل على العكس، تشير إلى استمرارية أثرها. إذ يظهر "الجندي" وقد التصق به غبار المعركة حتى بعد عودته، حيث يقول:

 "وغبارُ المعركةِ تنهشُ بمساماتِ الجلدِ الأسمر".

هذه الصورة تتجاوز الطابع الفيزيائي للغبار لتُحيله إلى رمز للذاكرة القتالية، تلك التي تتسلل إلى مسامات الجسد وتستقر فيه. فالـ "غبار" لا يمثّل هنا أثرًا خارجيًا عابرًا، بل حالة من الالتصاق الوجودي، إذ تنهش الحرب الجسد وتُعيد تشكيله بوصفه شاهداً دائمًا على عنفها.

أما عبارة "والعينان بلا أفق" فتُكثّف البعد النفسي للمشهد، إذ تُعلن انهيار القدرة على التطلّع إلى المستقبل. فـ"العينان" اللتان تُعدان رمزًا للرؤية والرجاء، تتحوّلان إلى مرآة للفراغ، ما يشي بحالة من الانكسار العميق وفقدان الإيمان بإمكانية التغيير أو النجاة.

خلاصة:

تقوم هذه الأبيات على ترسيم معمار شعري تُنقل فيه آثار الحرب من حيز الزمان والمكان إلى داخل الجسد والوعي. إنها تجربة لا تنتهي بانتهاء المعركة، بل تظل تنهش النفس والجسد معًا، كما في استعارة "الغبار" و"العينان بلا أفق". هنا تتجلى الحرب لا كحدث تاريخي، بل كزمن داخلي مستمر، يُحوّل الإنسان العائد ذاتًا تُصارع ماضيها في كل لحظة ليل.

المقطع الخامس: تمازج الواقعية بالرمزية السريالية:

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

يمكن تأويل هذا المشهد الشعري بوصفه مثالًا مركّبًا على تمازج الواقعية بالرمزية السريالية، حيث يخلق الشاعر توتّرًا شعريًا يعبّر عن الهوة بين الرغبة والحرمان، ويعيد مساءلة بنى القيم الجمالية والاجتماعية ضمن سياقٍ معاصر. النص يشتغل على ثنائية الجسد/الرغبة والحرمان/القهر، محوّلاً الرموز اليومية إلى أدوات تفكيك للواقع الاجتماعي.

1- "شقوق اليدين" – رمز العمل والحرمان: يمثل تعبير "شقوق اليدين" بعدًا واقعيًا يحيل إلى المعاناة الجسدية الناتجة عن الفقر والعمل اليدوي القاسي. غير أن هذه الصورة لا تكتفي بالإشارة إلى البعد الفيزيائي، بل تتحول إلى أثر رمزي يدلّ على جراح أعمق في الكرامة الإنسانية، وعلى ماضيٍ مثقل بالتجربة القهرية. تتحول اليد – أداة الفعل والإنتاج – إلى وثيقة مرئية للخذلان الاجتماعي، حيث الجسد يصبح حاملًا لتاريخ الاضطهاد الطبقي.

2- عن Nivia cream

– ترف مستحيل ورغبة مقموعة: إن استحضار منتج تجميلي غربي مثل "Nivia cream" داخل نص شعري عربي تقليدي التكوين، يمثّل خرقًا متعمدًا لأفق التوقّع وكسرًا لتراتبية الصور الشعرية المعتادة. هنا، لا يُذكر الكريم بوصفه غرضًا ماديًا فقط، بل يتحوّل إلى رمز للرغبة المؤجلة، بل ربما إلى استعارة عن الحلم بالراحة، بالترف، بالأنوثة كما تُسوّق في الثقافة الغربية. حضور هذه العلامة التجارية في سياق الفقر يمنحها دلالة عبثية: الرغبة غير موجهة إلى المرأة ذاتها، بل إلى "الكريم" الذي يعبر عن بُعد استهلاكي غير متاح، مما يُنتج انزياحًا في مركز الرغبة من الجسد إلى الرمز.

3. "في صدر امرأة عارية" – التوتر بين الجسد والرمز: يقدّم الشاعر جسد المرأة – عاريًا – لا بوصفه موضوعًا للرغبة بحد ذاته، بل كفضاء يتم فيه تموضع الحلم. المفارقة أن الرغبة لا تتجه نحو الجسد مباشرة، بل إلى شيء ثانوي موجود عليه: الكريم. بهذا التوجيه، تتحوّل المرأة إلى مرآة تعكس حاجة الشاعر لا إلى العلاقة، بل إلى التعويض؛ التعويض عن الفقر والخذلان والتشييء. الجسد الأنثوي هنا ليس بؤرة الشبق، بل إطارًا لرغبة ضائعة في منتجٍ استهلاكي يعجز الإنسان عن بلوغه.

قراءة شمولية:

يُشكّل هذا المقطع نموذجًا لما يمكن تسميته "سريالية الحرمان"، حيث تُمزَج مفردات الواقع القاسي بعناصر سوريالية متخيلة، فتُنتج حالة من المفارقة التجربة الذاتية العميقة. يتقاطع النقد الطبقي مع النقد الثقافي في هذا المقطع، حيث يظهر المنتج الغربي بوصفه رمزًا للمُحال في واقع عربي مسكون بالعوز والذل. واللافت أن الرغبة، في هذا السياق، لم تعد غريزية بحتة، بل غدت مشوّهة، مَرضيّة، تائهة، تبحث عن تجسدٍ رمزيٍ للكرامة ولو في منتج تجميلي.

المقطع السادس: يظل الماضي جرحًا مفتوحًا يلاحق من عاشه.

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

في هذه الأبيات، يرسم الشاعر مشهدًا شديد الواقعية والمرارة، مشبعًا بالرموز التي تُلامس وجدان الإنسان في زمن الخيبة، حيث تختلط تفاصيل المكان واللحظة بحمولة تاريخية ونفسية كثيفة.

"عند مساءٍ مظلم": الافتتاح الزمني هنا ليس توصيفًا للوقت فحسب، بل إيحاء لحالة الاغتراب النفسي يتراجع فيها الضوء، وتطفو على السطح مشاعر الوحدة والانطفاء الداخلي. هو المساء الذي لا يهب الراحة، بل يُغرق النفس في قتامتها.

"في البار الغافي": البار ليس ملهى، بل محطة إنسانية للهروب المؤقت من واقعٍ خانق؛ إنه ملاذ المرتجفين من الحروب والقلق، مكان لا يزدهر بالضوء بل يغفو على أنين المتعبين.

"في حضن شارع الرشيد بمقابل سينما الزوراء": يُسند المشهد إلى ذاكرة المدينة؛ شارع الرشيد ليس مجرد عنوان، بل ذاكرة معمّدة بالمجد والتاريخ. وسينما الزوراء هنا تمثل الحنين إلى زمن ثقافي كانت فيه الصورة تعني شيئًا، وكان للفن دور في تشكيل الوعي. هذا التحديد المكاني يُحمّل القصيدة طابعًا شجيًّا، يربط الحاضر المنكسر بماضٍ لا يزال يُقاوم النسيان.

"جلس بجوارك عند المائدة ذاك الجندي": هذا الجندي ليس شخصية محددة، بل صورة جامعة لأرواح أُحرقت في أتون الحروب. لا يحمل وجهًا بعينه، لأن وجهه وجه كل من نجا ولم ينجُ، كل من عاد ولم يعد كما كان. يجلس عند المائدة ليشاركك لحظة صامتة تُحاكي مرارة العيش بعد العاصفة.

"وكؤوس البيرة (الدرافت) عامرة حتى آخر نبض في الرأس":هنا تظهر محاولة يائسة للانغماس في النسيان؛ البيرة لا تُسكر بقدر ما تُحاول أن تضع حاجزًا شفافًا بين المرء وذاكرته، ولكن "حتى آخر نبض" توحي بأن الألم مستمر، وأن كل رشفة ليست هروبًا بل تأكيدًا على عمق الخسارة.

"أقراص الڤاليوم المستوردة من شركات بلاد القاتل": في هذا السطر تتكثف المفارقة المأساوية: فالعلاج يأتي من الجهة نفسها التي صنعت الألم. الفاليوم – رمز الهروب الكيميائي – يُنتج من قبل أولئك الذين يراكمون أرباحهم من خراب أرواح الآخرين. إنها سلعة الهدوء في عالمٍ لا يعرف السكينة.

"ودهاليز تجار الحرب خارج صلاحية النوم": الخاتمة تلقي بكامل الثقل: من يحكم هذا المشهد هم تجار الدم، أولئك الذين لا ينامون لأنهم يستثمرون في استمرار القلق. أما الإنسان العادي، فخارج صلاحية النوم؛ لا أحلام له، فقط سهرٌ يقظٌ يحرس جراحه المفتوحة.

خلاصة وتأمل

في هذه اللوحة الشعرية، يلتقط الشاعر لحظة إنسانية جامعة، حيث يتحوّل المكان العادي – بار وشارع وسينما – إلى مسرح للوجع الإنساني الممتد. لا حاجة إلى الكلمات الثقيلة أو الشعارات، لأن الجندي المرهق، والدواء المُسَكِّن، والكأس الممتلئة، كلها كافية لتقول ما لا يُقال.

القصيدة لا تُدين شخصًا بعينه، بل ترسم ملامح نظام عبثي تُصنع فيه المخدرات الروحية من نفس المواد التي صيغ منها العنف. إنها قصيدة عن الذين لا يملكون صوتًا، فيُشاركونك الطاولة والشراب والخذلان ذاته.

المقطع السابع (الذروة): البحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

بينَ أصابعهِ المرتعشهْ.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

يُبرز هذا المقطع مشهدًا شعريًا غنيًا بالصور الحسية والرموز التي تكشف عن حالة نفسية وجودية معقدة، تتمثل في توتر داخلي واغتراب نفسي وسط أجواء حياتية يومية تفرض ضغوطًا خانقة على الذات الإنسانية.

1- "الأصابع المرتعشة " تجسيد للتوتر النفسي والجسدي. يبدأ المقطع بتفصيل جسدي بسيط، لكنه يحمل دلالة عميقة؛ إذ تُبرز الأصابع المرتعشة حالة من القلق والخوف، وهو توتر جسدي يعكس اضطرابًا نفسيًا داخليًا، وكأنه صرخة صامتة تعبّر عن اضطراب روحي مستمر.

2- "البيرةُ كانتْ باردةً،" برودة البيرة فقدان الدفء العاطفي. يتحول مشروب مألوف إلى رمز لانعدام الحنان والراحة النفسية. وصف "البيرة كانت باردة" لا يعبر فقط عن حالة حرارية، بل عن برودة عاطفية وانقطاع التواصل الإنساني، مما يعكس حالة من العزلة والاغتراب في وسط مألوف لكنه فاقد للحياة.

3- "الجو الخانق وقطع الأنفاس" تصوير رمزي للضغوط والتوتر النفسي. تُعبّر عبارة "الجو الخانق يقطع أنفاس محاربنا" عن شعور الاختناق، ليس فقط الجسدي، بل الوجودي. الشخص "المحارب" لا يرمز إلى نصر، بل إلى صراع مستمر ومتعب ينهك الروح، حيث تتحول أبسط الحقوق الإنسانية مثل التنفس إلى معركة.

4- "الرواد كزبائن خارج" العالم الاغتراب في الفضاء الاجتماعي. تشبيه الرواد بـ"زبائن خارج هذا العالم" ينقل إحساسًا بالغربة والانعزال الاجتماعي. الأشخاص في هذا الفضاء لا ينتمون إليه، بل يمرون من خلاله كزائرين أو مستهلكين بلا جذور، مما يعكس شحة التواصل الإنساني والدفء في العلاقات.

5- "عرق الجالس بجانبك تجسيد مرئي للضغط و التعب. عرق الشخص الجالس بجانب المتحدث يرمز إلى إجهاد نفسي وجسدي مزمن، علامة على الضغط المستمر الذي يثقل كاهل الإنسان، حتى في لحظات السكون والراحة الظاهرية، ما يدل على استحالة الهروب من هذا العبء.

6- الغناء في هذيان التعبير عن حالة نفسية مختلطة. الغناء هنا لا يعبر عن الفرح أو الاستقرار، بل هو تصدّر صوتي لحالة هذيان ذهني، كأنّه محاولة لتفجير مشاعر متراكمة أو تحرر من ضغوط نفسية، ما يمنح الغناء بعدًا غامضًا ومتناقضًا.

7- الهذيان الطبي استعارة للحالة النفسية الجسدية المنهارة. المقارنة بين هذيان الجندي وهذيان المريض المحموم في مستشفى الأمراض الصدرية تجمع بين الضعف الجسدي والنفسي، وتُبرز مدى انهيار الذات وافتقادها للسيطرة على الذات والتنفس، مما يشي بفقدان عميق للقدرة على الصمود.

خلاصة:

تشكل الأبيات سردًا شعريًا يعكس التوترات الداخلية التي يعيشها الإنسان في زمن يغلب عليه الاغتراب والبرودة العاطفية. تلتقي التفاصيل اليومية الدقيقة مع معاناة عميقة، مما يصنع حالة متشابكة من الألم النفسي والاغتراب الاجتماعي. كما أن اللغة التصويرية تغوص في مشهد إنساني هشّ يتصارع مع قيد الاختناق الروحي والجسدي، بينما الغناء في خضم الهذيان يظهر كصوت وحيد يعبّر عن الألم المستمر والبحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

المقطع الثامن- الأبعاد الداخلية والشعورية للذات: الشاعر بعد الحرب. لا يُقدَّم الجندي هنا كبطل منتصر، بل كإنسان يعيش على هامش الأمن، محاصرًا بأسئلة الهوية والجدوى، وسط عالم يغطّ في نوم جماعي لا يُبالي.

في هذا المقطع، يرسم الشاعر لوحة ليلية خافتة، لكنها مكتظة بالتوتر الداخلي والاغتراب النفسي، من خلال صورة "الجندي أولًا: زمن الصمت وصوت اليقظة

"في الليل، حين ينام العالم" — هي لحظة فارقة لا تنتمي إلى الزمن الكوني المعتاد، بل إلى منطقة خارجة عن الإيقاع العام، حيث يتوقف ضجيج الخارج ليبدأ صخب الداخل. العالم ينام؛ أي أن المجتمعات اختارت النسيان أو الاستسلام، بينما تبقى الذات الفردية، ممثَّلة بالجندي، يقظة في مواجهة الذاكرة والتاريخ.

ثانيًا: سرير الأمن: خديعة الاستقرار: "فوق سرير الأمن" ليست عبارة تُعبّر عن الطمأنينة، بل عن المفارقة؛ فبينما يُفترض أن يكون "السرير" موضع راحة، يصبح رمزًا مقلوبًا لاستقرارٍ مزيّف. إنه الأمان الذي يُبنى على هشاشة، ويُقدَّم كتعويض رمزي لأولئك الذين فقدوا كل شيء. أما الجندي، فلا ينام عليه، بل يسهر فوقه، كما لو أنه حارسٌ لوهمٍ جماعي.

ثالثًا: الصريفة والجوع واللا أمن: الواقع المادي العاري: يصف الشاعر "صريفةً" لا تُبنى بالإسمنت أو الطين، بل بـ"مخالب الجوع" و"هدير اللاأمن". الصريفة ليست مأوى فحسب، بل شهادة على واقع القهر الاقتصادي والاجتماعي. الجوع ليس حالة طارئة، بل بُنية داخلية للمكان. أما اللاأمن، فهو ليس غياب النظام فحسب، بل صوت داخلي دائم يشبه هديرًا لا ينقطع، يُعكر على الجندي أي احتمال للاستقرار.

رابعًا: "هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟" السؤال المصيري: هوية الجندي وموقعه من السلطة: "هنا، يبلغ الصراع ذروته. "ثوب الحرب" ليس لباسًا عسكريًا، بل كناية عن تجربة وجودية قاسية شكّلت وعي الجندي وجرّحته. في المقابل، تُحيل "العمائم" إلى رمز ثقافي-اجتماعي يشير إلى سلطة جديدة تسعى لفرض شكل من أشكال الامتثال أو إعادة تشكيل الهوية الفردية ضمن قالبها الخاص.

 السؤال ليس عن مجرد تبديل مظهر، بل عن مصير: هل يتخلى الإنسان عن تاريخه الشخصي ليذوب في شكل من أشكال التماهي الجماعي الذي قد يمنحه الأمان لكنه يسلبه ذاته؟

إسقاط على الواقع العراقي: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب: يأخذ هذا النص أبعادًا أوسع إذا ما قرأناه ضمن سياق العراق المعاصر. فـ"الجندي الساهر" ليس فردًا معزولًا، بل مرآة لشعبٍ بكامله عاش في ظل الحروب، كثيرًا ما وجد نفسه مجرد وقودٍ لصراعات لم يخترها، ولا ناقة له فيها ولا جمل.

الصريفة المبنية بالجوع هي استعارة دقيقة لحياة ملايين العراقيين في أطراف المدن، ممن دُفعوا دفعًا إلى حروب لم تكن لهم يد في إشعالها، ثم تُركوا في مواجهة تبعاتها وحدهم.

أما "العمائم"، فليست بالضرورة رمزًا دينيًا، بل قد تشير إلى سلطات ما بعد الحرب، التي رفعت شعارات العدالة لكنها أسست لنظام جديد من التبعية والانقسام، وسعت لإعادة تشكيل الوعي الجمعي على أسس طائفية أو فئوية. وهنا يطرح النص تساؤلًا حادًا:

 هل المطلوب من الإنسان أن ينسى الحرب، بكل مرارتها، ليقبل نظامًا جديدًا يُجبره على الصمت والامتثال مقابل فتات الأمان؟

الخلاصة الأدبية الواقعية

في هذا المقطع، لا يقدّم الشاعر موقفًا سياسيًا مباشرًا، بل يرسم مشهدًا إنسانيًا عميقًا لجندي يقف عند حافة الأسئلة. النص يُدين الحرب، لكنه لا يبرئ ما بعدها. ينتقد الغفلة الجماعية، لكنه لا يلوم الفرد على حيرته. هو نصٌّ عن التمزق، عن شعبٍ كامل مثّلته ذات الجندي، يجد نفسه كل مرة يُعاد تشكيله من جديد، دون أن يُسأل: هل ترغب أن تكون جزءًا من هذا المشهد تكتسي القصيدة بعدًا بلاغيًا ولغويًا متكاملاً يتجاوز مجرد الإخبار؛ فهي مشبعة بالاستعارات و الانزياحات الدلالية التي تكشف عن صراعات داخلية وعلاقة معقدة بين الفرد والواقع. تتنقل لغة القصيدة بسلاسة بين النبرة التقريرية والموسيقية، مما يضفي عليها قوة هجائية وتعبيرية مبهرة.

التحليل البلاغي واللغوي والانزياحات الدلالية في قصيدة "العمائم"

تتسم قصيدة "العمائم" بكثافة لغوية تتجاوز مجرد نقل المعلومات، فتغوص في أبعاد بلاغية مركبة يمزج فيها الشاعر بين الحداثة والسياسية وبين الذات والجماعة. يستعمل الشاعر لغة تتحرر من القيود العادية لتبني خطابًا مفعمًا بالاستعارات والانزياحات الدلالية، مما يعكس حالة اغتراب ذات حائرة في زمن ما بعد الحرب.

الاستعارات المحورية:

"هذيان المحموم": استعارة تُعبّر عن اضطراب داخلي عنيف كأن الذات تعاني من حمى مستمرة، في تجسيد للتوتر النفسي والانقسام بين الذاكرة والواقع؛ لغة الألم الذي يستحيل كتمّه.

"صريفة مبنية بمخالب الجوع":

صورة تصويرية تختزل قوة الفقر الذي يتجاوز الإيذاء الجسدي ليعيد تشكيل المكان ذاته؛ إذ تُبنى الصريفة هنا ليس بالحجارة، وإنما بألم الجوع ورمزيه القاسية.

"هدير اللاأمن":

تعبير يصور حالة القلق المستمر كضجيج داخلي لا ينقطع، حتى في لحظات السكون، مما يُبرز توتر الوجود الذي يعتري النفس.

"تغريد الأطياف":

مفارقة شعرية يمنحها الشاعر صوتًا غير معتاد؛ حيث تتردد أصوات الماضي في الحاضر كأنها همسات متلاطمة بين الذكرى والحقيقة، لا تنبع من واقع مادي مُحدد.

الهيكل النصي وبنيته:

الشكل الحر والانتقال الليلي: يعتمد الشاعر على نمط الشعر الحر الذي يتحرر من قيود الوزن والقافية التقليدية، مما يُضفي إحساسًا بحرية السيرورة والانفلات. يتكرر افتتاح البيت بعبارة "في الليل" لتوليد زمن متمدد يعيد إحياء الذكريات المختلطة بين الجنون والحنين.

التنقل الزمني والمكاني: تنتقل القصيدة بسلاسة بين أزمنة الماضي والحاضر، من مشاهد الحرب إلى صخب الحياة اليومية، ومن أماكن محفورة في الذاكرة مثل مقهى حسن عجمي وشارع الرشيد وسينما الزوراء. هذا الانتقال يُشعر القارئ بتلاشي الثبات ليصبح المكان شاهدًا على آلام ومعاناة مجتمع مفكك الهرم.

البنية السلطوية:

تظهر السلطة في القصيدة كمفهوم مهيمن سواء كانت عسكرية أم دينية، حيث يُباع الفرد على أنه مجرد كيان مسحوق تحت نفوذها. يظهر الجندي كرمز لشخص فقد صوته الحر، متوارٍ في خطاب الهيمنة الذي يعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء لتبرير القمع.

البنية الكلية:

من خلال هذا البناء العميق، تُمارس القصيدة نقدًا صارمًا للغة السائدة بفك تشفيرها وبناء لغة بديلة تستمد قوتها من الألم والتجربة الفردية المركبة. تتحرر الكلمات من معانيها التقليدية لتلامس واقعًا جديدًا يفوق القدرة على الاستيعاب في ظل لغة مألوفة ومعلبة. إنها رسالة تُشعل التساؤلات دون تقديم إجابات حاسمة، متنقلة بعمق بين صراع الإنسان وآثار العنف على اللغة والحياة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة "العمائم" نصًا احتجاجيًا يتجاوز البنية التقليدية للرثاء أو الحنين، إذ تقدم قراءة شعرية نقدية لتحولات السلطة والهوية في العراق. فهي تطرح تساؤلًا وجوديًا مركزًا يكشف مأساة ما بعد الحرب، ويتساءل: «هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟"، فيكشف بذلك عن انتقال القهر من سطوة العسكر إلى قناع ديني مؤدلج.

من خلال صورها المكثفة، وانزياحاتها الدلالية ورموزها المركبة، تتقصى القصيدة أثر السلطة المتلبسة بالدين في تشويه الوعي الجمعي، وتحويل "التحرير" إلى شكلٍ آخر من القهر المقنن. ليست مجرد وثيقة أسيرة لخيبة فردية، بل هي مرآة تُعرّي الانكسار الجماعي وتُعيد تشكيل الهوية تحت وطأة نظام يفرض أقنعة رمزية زائفة. وترصد القصيدة لحظة الانكسار، وفي الوقت نفسه تُبدع مقاومة عبر اللغة؛ تتحول الكلمات إلى أدوات فعل، مما يجعل القصيدة مساحة افتكاك رمزي من سطوة الماضي والحاضر المزيف.

وفي خضم هذا الخراب، لا ينهض المعنى تلقائيًا من الركام؛ بل يحتاج إلى من "يوقظه" – إلى شاعر أو مثقف قادر على مواجهة الصمت والإنكار، حاملًا صوت كل نفس منهكة وكل ضمير حيّ. هكذا تُثبت "العمائم" أن الشعر لا يزال قادرًا على استدعاء المعنى من تحت الركام، وإعادة تعريف الحرية بوصفها موقفًا لا يُشترى ولا يُفَوَّت.

وبهذا، تُشكّل القصيدة دعوة نقدية وجوهرية لمقاومة كل منظومة قهر مهما ارتدت من أثواب رمزية متجددة، مما يجعلها خطابًا ثريًا يتمرد على أنظمة الهيمنة من خلال إعادة إحياء الوعي الجمعي واستنهاض المعنى الحقيقي للحرية.

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد

مدام دالاوي والحداثة في الأدب

بقلم: مالليكا ديساي وكونال راي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بأسلوبها التجريبي وتأملاتها الجميلة في الحياة والفقد، تُعد رواية مدام دالاوي لفرجينيا وولف نصًا حداثيًا معقدًا وجذابًا في آن، وأحد أهم الأعمال في المدونة الأدبية البريطانية. تتبع الرواية حياة كلاريسا دالاوي، سيدة من علية القوم، وهي تستعد للحفل الذي ستقيمه مساء ذلك اليوم. كما تُعد واحدة من أكثر أعمال وولف تحديًا، وقد يجدها القارئ غير المعتاد على أسلوبها صعبة منذ البداية. يتجلى هذا في أن الرواية تبدأ بإلقاء القارئ مباشرة في خضم يوم كلاريسا وتدفق أفكارها، دون أي شرح مسبق. إلا أنه ما إن يفهم القارئ استخدام وولف لتقنية تيار الوعي، حتى يصبح من السهل فهم السرد، مما يتيح له التأمل في القضايا التي تعالجها الرواية.

يُعد عمل وولف نصًا حداثيًا مهمًا لأنه يكسر القيود التقليدية بعدة طرق. فهناك مواضيع متعددة تُتناول في الرواية مثل المثلية الجنسية، والاضطرابات النفسية، والتواصل والخصوصية، والاضطهاد، وغيرها، وذلك من خلال الشخصيات، وبنية الحبكة غير التقليدية، والأسلوب السردي. كما أن استخدام وولف لتيار الوعي له أثر فاعل في هذه العناصر أيضًا.

تدخل الرواية في التأملات الداخلية لشخصياتها، مما يخلق تأثيرًا نفسيًا واقعيًا وقويًا. وتُعتبر فرجينيا وولف واحدة من أبرز المدافعين عن تيار الوعي، إذ تتيح للقارئ الدخول إلى عقول وقلوب شخصياتها. فهي تضيف مستوى من الواقعية النفسية لم تتمكن الروايات الفيكتورية من بلوغه. فالأحداث اليومية تُرى من منظور جديد، حيث تُستكشف العمليات الداخلية للشخصيات، وتتنافس الذكريات على الحضور، وتظهر الأفكار دون سابق إنذار، وتُمنح الأمور العميقة والتافهة على حد سواء نفس القدر من الأهمية. وهكذا يُحاكي أسلوب الرواية أنماط التفكير البشري، حيث تتدفق الأفكار دون توقف، وتنتقل فجأة من فكرة إلى أخرى أو من ذكرى إلى أخرى. لذا تشد الرواية انتباه القارئ وتجعله مشاركًا نشطًا في أحداث اليوم.

ينبع انخراط القارئ من غياب الراوي الواحد. إذ تُروى الرواية كاملة من خلال المونولوجات الداخلية للشخصيات، لا من خلال الحوارات الخارجية. وهنا تلعب وولف بفكرة الحوار، حيث إن معظم الشخصيات لا تتحدث بصوت مسموع، لكن تياراتها الفكرية الداخلية واضحة بما يكفي لتوضح التفاعلات فيما بينها. ويتعزز ذلك بتعليقات خفية على السلوكيات الظاهرة والمظاهر الخارجية.

ما يجعل مدام دالاوي رواية ساحرة بحق هو الطريقة التي تنتقل بها الوعي بين الشخصيات بانسيابية تامة. ومع ذلك، فإن هذه التحولات دقيقة وقد تمر دون أن تُلاحظ. قد لا يكون القارئ مستعدًا في المرة الأولى التي تُدخل فيها وولف وعي شخصية أخرى في السرد، والسهولة التي يتم بها ذلك تجعله يتوقف لوهلة ويتساءل عن كيفية تغيُّر وجهة النظر فجأة. تكمن براعة الكاتبة في طريقة صنعها لهذه الروابط، باستخدام أحداث يومية اعتيادية لربط الشخصيات من خلال الزمان والمكان. وكما تتبدل الأفكار، يتبدل الوعي، ويجب على القارئ أن يكون يقظًا لتحديد اللحظة التي يتغير فيها السرد. وتستخدم الرواية هذا الأسلوب ببراعة، خاصة أن الجمل تُصاغ لتتدفق كالأفكار تمامًا.

لذلك، فإن مدام دالاوي ليست رواية تقليدية من حيث السرد. إنها أشبه بفسيفساء من الذكريات والأفكار المتداخلة لشخصيات مختلفة مجتمعة معًا. تجمع بين الماضي والحاضر، وتُفسح المجال لتقاطعات متعددة للمنظور في يوم واحد. أما من حيث الحبكة، فإن الرواية تدفعنا لتجاوز بنيتها الظاهرة وفهم كل شخصية وما تمثله. تلعب الرواية على ثنائية الزمن والزمنية، عبر التنقل بين الماضي والحاضر، مما يعكس التقلّب العاطفي والزمني لدى كلاريسا. والانتقالات بين الأزمنة سريعة حقًا، لكن عقولنا بدورها قد تكون سريعة التحوّل بنفس القدر. فالبشر يبدو أنهم خاضعون لزمن الساعة الذي يتقدم بلا توقف، لكنهم في الواقع ليسوا كذلك. إذ إن عقولهم تتجاهل الزمن الخارجي وتتبع نوعًا آخر من الزمن الداخلي. وتركز الرواية على هذا الإحساس الداخلي بالزمن وتُقابله بمفهوم الزمن الخارجي، عبر تقدم اليوم. وتُعد ساعة "بيج بن" رمزًا دائمًا للزمن في الرواية، إذ تربط حياة الشخصيات من خلال مرور الوقت. وتستخدم وولف بقية المدينة للحفاظ على الإحساس بالزمن أيضًا. فالرواية تكاد ترسم خريطة لمدينة لندن، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من حياة شخصياتها.

وعليه، تُعد مدام دالاوي رواية حداثية مفصلية، لأنها تبتعد عن فكرة وجوب تقديم "حبكة" محكمة للقارئ. فقد رفضت وولف بنفسها أن تكون عبدة للحبكة. وبينما كانت الرواية الفيكتورية التقليدية تولي أهمية كبيرة للبنية والشكل، فإن وولف تركز في روايتها على "لماذا" و"كيف" يحدث الحدث. لا تُقدم الرواية تسلسلاً زمنيًا للأحداث المهمة فحسب، بل تتنقل ذهابًا وإيابًا عبر الزمن، لتُمكِّن القارئ من عيش اليوم ذاته من وجهات نظر شخصيات متعددة. وبهذا، يُعاد تقديم التجربة والذاكرة بطريقة جديدة – كسلسلة غير مترابطة من الأفكار.

لا تتناول الرواية شخصيات ممزقة بين الماضي والحاضر فحسب، بل أيضًا بين مثاليْن متعارضيْن: التقاليد والحداثة. يظهر هذا الموضوع في تأملات كلاريسا، إذ تكافح لإيجاد توازن بين الحفاظ على الدور التقليدي الذي تشغله، وتخيل الحياة التي كان يمكن أن تعيشها لو أنها اختارت التمرد على الأعراف. وتذكّر شخصيتها بشخصية هِيدا جابلر في مسرحية هنريك إبسن، والتي عانت هي الأخرى من قيود المجتمع الفيكتوري وانتهى بها الأمر إلى الانتحار. هذا ما يتقاطع مع نهاية مدام دالاوي حين يقدم سبتيموس – لا كلاريسا – على الانتحار، لأن المجتمع لم يستطع تقبُّل مرضه النفسي أو توفير المساعدة الكافية له.

كما أن ابنة كلاريسا، إليزابيث، ممزقة بدورها بين نموذجين: الأم التقليدية، والسيدة كيلمان التي تمثل المرأة العصرية الجديدة. غير أن فرجينيا وولف لا تستخدم الرواية لتُرجّح إحدى المرأتين أو تُفضّل المنظومة التي تمثلها إحداهما على الأخرى، بل تكتفي بتمثيل تعايش التقليد والحداثة جنبًا إلى جنب.

تُجسّد شخصياتها بشكل فعّال نماذج كاريكاتورية لمُثُل المجتمع الفيكتوري، ومع ذلك تبقى قريبة من القارئ بسبب اطلاعه على أفكارها وطريقة معالجتها لحياتها الداخلية. وبذلك، تبعث مدام دالاوي برسالة تدعو إلى ضرورة تحوّل المجتمع في طريقة تفكيره، لا بمجرد وصف أفعال الشخصيات الظاهرة، بل بكشف تياراتهم الفكرية الداخلية. وقد ذكّرني هذا، كقارئ، بعمل إرنست همنجواي أهمية أن تكون جادًا، وهو هجاء للمجتمع الفيكتوري وأعرافه. غير أن مدام دالاوي تُسلّط الضوء على الطبقة العليا في المجتمع، وتُقابلها بشخصية سبتيموس، الجندي السابق الذي شهد أهوال الحرب. وتُوجّه وولف نقدًا لاذعًا للطبقات الحاكمة، لاهتمامها الزائد بالبذخ والمجاملات الاجتماعية، في وقت يعاني فيه أشخاص مثل سبتيموس من صدمات عميقة بسبب غياب الفهم والرعاية في المجتمع.

ومن خلال شخصية كلاريسا، تُبرز وولف كيف أن دورها كمضيفة حفلات ليس سوى صورة للحياة المرسومة لها، مشيرةً بذلك إلى الكيفية التي صُوِّرت بها الشخصيات النسائية في الأدب ما قبل الحداثي. غير أن ظهور الحداثة الأدبية قدّم لنا شخصية مثيرة للاهتمام في كلاريسا، إذ رسمت وولف توازنًا بارعًا في ملامحها، وفي الوقت ذاته سمحت لصراعاتها الداخلية بالظهور من خلال مونولوجاتها الداخلية.

أرادت وولف أن تكون كلاريسا صوت "الحقيقة العاقلة"، بينما يكون سبتيموس صوت "الحقيقة المجنونة"، وقد مكّنه انفصاله عن الواقع من إصدار أحكام قاسية على الآخرين، لا تستطيع كلاريسا إصدارها. ورغم أنه يبدو مختلفًا عنها على السطح، إلا أنه يشترك معها في سمات عديدة. فبصفته "الظل" أو "المرآة لها"، يُجسّد سبتيموس التناقض بين الصراع الواعي لقدامى المحاربين من الطبقة العاملة، وتلك الرفاهية العمياء التي تنعم بها الطبقة العليا. ومعاناته تُشكّك في الكيفية التي يعمل بها المجتمع الإنجليزي. وبما أن أفكاره تتردد كثيرًا في ذهن كلاريسا، تصبح الحدود الفاصلة بين ما يُعتبر عقلانيةً وجنونًا أضيق فأضيق.

رغم أن الأمر قد يحدث تدريجيًا، إلا أن القارئ يُدرك في النهاية أن سبتيموس وكلاريسا، رغم أنهما يبدوان نقيضين تمامًا للوهلة الأولى، متشابهان إلى حدّ كبير في نظرتهما إلى الحياة. فكلاريسا دالاوي، من خلال حفلاتها – رغم سطحيتها – تمنح نفسها للعالم وتشارك في الحياة. أما سبتيموس، فرغم توقه لذلك، فإنه عاجز عن مشاركة الآخرين حياتهم أو العطاء لهم، لأنه لم يبقَ لديه شيء ليمنحه.

وهكذا، فإن الرواية، والتي حملت اسم مدام دالاوي عن حق، تُصوّر مجتمعًا يتمحور حول العلاقات التي يقيمها المرء مع الآخرين. والفكرة التي تنقلها وولف هي أنه، رغم امتلاك الإنسان لأفكار داخلية فردية، إلا أنه يظل خاضعًا لعلاقاته الخارجية. كما تتناول الرواية شكلًا من أشكال الأسر، إذ تسعى الشخصيات للعثور على هويةٍ لها، لكنها تبقى مقيدة بالزمن، ومتطلبات المجتمع، والحرب، وغيرها. ومن هنا، يسري في الرواية شوق عميق إلى الحرية.

تُعد مدام دالاوي عملًا حداثيًا بالغ التحدي، لكنه أيضًا مثالٌ نموذجي، يضم بين دفّتيه طيفًا واسعًا من الموضوعات والأفكار، مما يجعله كتابًا لا غنى عن قراءته لأي شخص مهتم بالأدب.

(انتهت)

***

.................

* مراجعة كتاب – مدام دالاوي لفرجينيا وولف

في وقت ما، واجه معظم الناس روايات اُعتبرت "كلاسيكية"- أعمال دائمة الحضور، لازمنية نُقلت الينا عبر العصور ولايزال صداها يتردد لدى القراء عبر الأجيال. انها صاغت ليس فقط الادب وانما ايضا منْ نحن وكيف نرى العالم. ان جذور الفكر الكلاسيكي تعود الى اليونان القديمة، حيث القصائد الملحمية لهوميروس، في الأليادة والاوديسة والأساطير اليونانية القديمة بشكل عام كونها وضعت الاساس لروايات كلاسيكية معينة.

وعلى مر العصور، استلهم عدد هائل من المؤلفين من الميثولوجيا اليونانية القديمة ليؤلفوا أعمالهم الابداعية الرائعة. أساطير الإثنا عشر إلهاً وشخصيات اخرى مثل اوديسيوس وهرقل وبروميثيوس وايروس ألهبت خيال الكتاب الكلاسيك والحديثين ايضا بدءاً من جيمس جويس حتى اوسكاروايلد.

نعرض هنا خمس روايات كلاسيكية تجذرت في الأساطير اليونانية والتي يجب ان يقرأها كل شخص على الأقل مرة واحدة في حياته.

1- رواية يوليسيس لجيمس جويس

يُعتبر جيمس جويس أحد أعظم الروائيين الايرلنديين في التاريخ، وإعجابه بعمل هوميروس يمتد عميقا. هو اعجب خصيصا باوديسوس الذي اعتبره احد اكثر الشخصيات الادبية شمولا وتعقيدا. رحلة اوديسوس الذي أمضى عشر سنوات في السجن في طريقه الى بلده ايثاكا بعد حرب طروادة، ألهمت جويس في روايته يوليسيس عام 1922 التي يحمل عنوانها شكلا لاتينيا للاوديسة.

في يوليسيس، يخبرنا جويس عن تجربة ثلاثة اشخاص في نفس اليوم وفي نفس المدينة. في دبلن، يوم 16 حزيران 1904. الاشخاص الثلاثة هم ليبولد بلوم وزوجته مولي، وستيفن ديدالوس. الرواية في مستواها الاساسي هي كتاب حول بحث ستيفن عن اب رمزي وعن بحث بلوم عن ابن. هنا يتوازى بحث يوليسيس مع بحث تيليماكوس عن اوديسيوس في الاوديسة. وفي ايماءة للاوديسة، جرى بناء الرواية على شكل حلقات، كل واحدة سُميت بعد لحظة مفصلية في ملحمة هوميروس، بعناوين مثل كاليبسو، آكلة اللوتس، العملاق، سيرس، بينيلوب، ايثاكا.

يرسم جويس ببراعة أوجه تشابه مجازية بين شخصياته وتلك التي في الاوديسة، بالاضافة الى الاشارة لأحداث رئيسية. بطل الرواية ليوبولد بلوم هو نسخة حديثة للاوديسة، بينما زوجته مولي بلوم ترمز الى بينيلوب. هذه الصورة تُستكمل بواسطة ستيفن ديدلوس الذي هو تيليماكوس المقابل لابن اوديسيوس. وكما في معظم عمل جويس، تستكشف يوليسيس مواضيع عن القومية الايرلندية والعلاقات المعقدة مع الحكم البريطاني، مازجة السياسة بالاسطورة القديمة. هذه التوليفة تجعل رواية جويس عملا فنيا شخصيا وعالميا ايضا. جيمس جويس يبني روايته بخيال استثنائي من العمق والثراء. ونظرا لأن الرواية متفردة في تاريخ الادب، فهي اعتُبرت واحدة من أهم الأعمال الممتعة في القرن العشرين.

3- رواية فرانكشتاين لماري شيلي1501 hatam

نُشرت رواية فرانكشتاين لأول مرة عام 1818 لترمز الى عمل شهير في الادب القوطي والخيال العلمي. الرواية تتتبع طموح شاب عالِم هو فيكتور فرانكشتاين الذي تقوده رغبته للتغلب على الموت وكشف اسرار الحياة الى خلق مخلوق في المختبر يشبه الانسان . القصة تتكشف من خلال سلسلة من الرسائل والحكايات، تروي رحلة فيكتور ونتائج خلقه. ونظرا لأن أحداث الرواية وُضعت على خلفية اوربا في اواخر القرن الثامن عشر، فانها تستطلع موضوعات في الاخلاق العلمية، وطبيعة الوحشية ونتائج اللعب مع الله.

ان عنوان رواية ماري شيلي لعام 1818 فرانكشتاين او بروموثيوس الحديث لم يأت صدفة. تستمد شيلي الإلهام من شخصية بروميثيوس "بروميثيوس المقيد" لإسخيليوس. في فرانكشتاين، هي تعيد تصوّر هذه الاسطورة القديمة من خلال عدسة الفكر القوطي الفكتوري. هذا العمل الرائد في خلق الحياة من لاشيء يعكس اسطورة بروميثيوس الذي هزم آلهة الاولمب عبر سرقة النار ليمنحها للانسانية – وبهذا يعطيها القوة لبناء الحضارة.

لكن اشارة شيلي لاسطورة بروميثيوس لا تنتهي هنا. هي ايضا تعكس تأثير عقوبة بروميثيوس في مصير فيكتور. في الميثولوجيا اليونانية، حكم زيوس على برومثيوس بالعذاب الأبدي، مقيدا اياه الى صخرة حيث يلتهم نسر كبده كل يوم، فقط ليتجدد في اليوم التالي.

وبنفس الطريقة، يقع فيكتور في فخ دائرة من الألم والذنب، يطارده بلاهوادة نفس المخلوق الذي أخرجه للحياة. هذه الموازاة بين الاسطورة والتراجيديا الحديثة تجعل فرانكشتاين واحدة من أعظم الاعمال في الادب القوطي. اسطورة بروميثيوس يُعتقد انها إلهام لرواية فرانكشتاين الكلاسيكية.

3- رواية صورة دوريان جراي لاوسكار وايلد1502 hatam

صورة دوريان جراي للكاتب الايرلندي اوسكار وايلد نُشرت عام 1890، وترمز كاستطلاع كلاسيكي للاخلاق ونتائج الرغبة غير المقيدة. الرواية تتبع حياة دوريان جراي الشاب المفتون بقيم المتعة لرجل يسمى لورد هنري. القصة تدخل منعطفا مظلما عندما يرغب دوريان ان تتقدم صورته في العمر بدلا منه مما يقود الى كشف مزعج للانحلال الاخلاقي الناتج عن اسلوب حياته.

وتضيف القصة بان ذلك الشاب المتعجرف يقوده هوسه بالجمال لبيع روحه لشباب أبدي. صديقه الفنان باسل هالوارد يرسم صورة لدوريان الذي يصبح وبشكل غامض أكبر سنا وأكثر فسادا عاكسا آثامه بينما يبقى دوريان ذاته دون مساس في ذلك الوقت.

هذه الفكرة في الغرور تبدو مألوفة: في تركيب الرواية، يستمد وايلد إلهاما فضفاضا من الاسطورة اليونانية القديمة لنرجس. في هذه الاسطورة، الصياد نرجس المشهور بجماله، رفض كل اولئك الذين سعوا للتقرب منه والتودد اليه. بالنهاية، هو اصبح مفتونا بصورته اللامعة المنعكسة في بركة ماء، غير مدرك انها فقط انعكاس له. في افتتانه بجماله، أصاب نرجس الذبول وهو ينظر الى الماء حتى غرق في النهاية.

يمكن النظر الى دوريان جراي كنرجس في العصر الفكتوري، مُستهلك بغروره. هوسه بصورته أصبح أخيرا سببا لهلاكه ومن ثم سقوطه المأساوي. اسطورة نرجس التي يتردد صداها في عمل وايلد تبدو أكثر ملائمة اليوم من أي وقت مضى وان هذا العمل الكلاسيكي يختزن دروسا بليغة وقيّمة.

وايلد ينتقد المجتمع الفيكتوري، ثنائية طبيعة الانسان، وجاذبية الجماليات تدعو القراء للتفكير في نتائج السير وراء المتعة دون مراعاة الحدود الاخلاقية.

4- رواية السيرة الذاتية لريد للمؤلف آن كارسون

رواية السيرة الذاتية لريد هي رواية شعرية معاصرة أكثر كلاسيكية نُشرت عام 1998 للمؤلفة والبروفيسورة الكندية آن كارسون. إلهامها يكمن في اسطورة هرقل وعمله العاشر، حيث كان يجب عليه استرداد الحيوان الاليف من العملاق ثلاثي الجسد جيريون . في الميثولوجيا اليونانية، جرى وصف جيريون كعملاق وحشي، هو حفيد ميدوسا وابن اخ بيغاسوس.

في روايتها، تقدم كارسون تفسيرا مجازيا حيا للاسطورة. جيريون وُصف كشاب "وحشي" يتحمل الإساءة من أخيه الاكبر، ويجد العزاء في التصوير ويشعل علاقة رومانسية مع شاب اسمه هرقل الذي يتخلى عنه في ذروة العشق. لذا ينسجب جوريان الى عالم خلقهُ بكاميرته، مفتونا بجناحيه ولونهما الاحمر . لكن كل ذلك تحطم فجأة بعودة هرقل.

في تصوّرها تبيّن كارسون كيف ان كاتبا ضليعا في الميثولوجيا القديمة يمكنه صياغة هذه القصص لتعبّر عن شيء نقدي خاص به، يتردد صداه بقوة لدى القارئ الحديث. كارسون تنقل قصة جيريون الى العالم الحديث، لذا هو ليس فقط كائن خرافي وانما هو فتى مراهق متقلب المزاج يكافح صعوبات الجنس والحب والهوية.

5- رواية حتى تكون لنا وجوه للكاتب سي.اس. ليوس

رواية حتى نمتلك وجوها، تحكي اسطورة cupid &psyche . وكما يوضح المؤلف في ملاحظة له في النهاية، هو يغير القصة نوعا ما. القصة الناتجة تستطلع موضوعات الايمان والحسد والحب وخداع الكلمات.

الجزء الاول من الرواية كُتب من منظور نفس الاخت الكبرى اوريل، كإتهام ضد الآلهة. القصة صيغت في مملكة غلوم الخيالية، مدينة بدائية يتصل شعبها احيانا مع اليونان الهيلنستية المتحضرة.

في الجزء الثاني من الكتاب يباشر القاص تغييرا في العقلية (ليوس يستعمل مصطلح تحويل) ويفهم بان اتهامها الاول كان ملوثا بفشلها وعيوبها، وان الآلهة حاضرة بكل حب في حياة الانسان.

الرواية نُشرت عام 1956 (1) .المؤلف له ايضا رواية سجلات نارينا. انها تستمد من شخصيتين أقل شهرة في ميثولوجيا اليونان: ايروس، إله الحب، وpsyche إلهة الروح. ليوس يعيد تصوّر القصة القديمة الرغبة Cupid (النظير الروماني للايروس) والنفس psyche كما حُكيت من قبل أبوليوس في القرن الثاني الميلادي في مسعى لتغيير منظورها.

الرواية تحكي اسطورة إله الرغبة والنفس من خلال رؤية الاخت الكبرى للنفس واسمها اوريال. وخلافا للاسطورة اليونانية التي توصف بها اخت النفس كحسودة لعلاقتها مع ايروس، خداع اختهم وخيانتها، يعطي ليوس اوريال صوتا مقنعا. هي تتهم علنا الالهة بمحاولة انقاذ النفس التي ضُحي بها لـ "إله الجبل".

اوريال تقص القصة كما لو انها حدثت "حقا"، متحدية الاسطورة القديمة. على هذا النحو، يبيّن ليوس كيف ان قصة مثل قصته يمكن ان تعيد صياغة معنى الاسطورة.

Greek Reporter, May9, 2025

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) اوريل تدرك بالنهاية ان الآلهة لاتستطيع "مواجهتنا وجها لوجه قبل ان نمتلك وجوها"، ذلك يعني ان امتلاك وجه يتضمن كونك واع بكامل نفس المرء، الخير والشر، وفهم دوافع المرء ونتائج أفعاله.

 

كتب الأستاذ ناجح المعموري* كتاباً خاصاً في صديقه الشاعر موفّق محمد أبو خُمرة شاعراً وإنساناً حليّاً أصيلاً. ساعتمدُ هذا الكتاب مصدراً لمقالي هذا فضلاً عن ديوان الشاعر (ربما هو الأول) المعروف "عبديئيل"** وليس عندي غير ذلك. في لقاء في الحلة ما أعزّه وما أندره مع الشاعر موفّق أبو خُمرة في مقهى الجندول المطل على نهر الفرات وعلى رقبة جسر الحلة الرئيس عصرية أحد أيام شهر شباط الفائت أهداني الأستاذ موفّق كتاباً ألّفه الكاتب والروائي الأستاذ ناجح المعموري بعنوان " قُبّعة موفق محمد ". هناك التقيتُ بنخبة من مثقفي وأدباء وشعراء الحلة كان فيهم الأستاذ ناجح المعموري نفسه. قدّم لي أبو خُمرة هذا الكتاب بكلمة قال فيها [الصديق العزيز وأُستاذي عدنان الظاهر مع محبّتي.. موفّق مُحمد]. كان موفق زمان عبد الكريم قاسم أحد تلاميذي في متوسطة الحلة للبنين وكذلك كان المعموري... دار الزمان لنغدو أصدقاء.

لم يقصّر الأستاذ ناجح المعموري في تقديمه وتحليله لقصائد أبو خُمرة..

وأعجبني فيما كتب أمران وقف عندهما وقفة متأنية متفحّصة هما شدة تعلّق الشاعر بوالدته من جهة وبالنهر، فرات الحلة، من الجهة الأخرى. حلل هذا الأمر نفسياً بل وجنسياً فذكر عُقدة أوديب التي لم أجد لها أثراً فيما كتب أبو خمرة من شعر يخص والدته. تزوج أوديب أُمّه من غير أنْ يعرف أنها أمّه ففقأ عينيه وقد عرفَ الحقيقة ندماً وتكفيراً! حبُّ الوالدات الواعي القصدي هو لا شكَّ غير الزواج منهنَّ عن طريق الخطأ والجهل. أغلب مادة فصل (المكان والذاكرة في نص " محلّة الطاق ") مكرّس لهذه الموضوعة أستعير منه الآتي:

[.. والأم في نصوص موفّق محمد موزعة على ثنائيات الحياة، الحزن / الفرح، الإنبعاث والموات وفي الحالتين كانت وظلّت مُثيرة للذائذ غير المكشوفة والحسيات المرموز لها وأعتقدُ بأنَّ علاقة الشاعر موفق محمد مع الأم علاقة أوديبية تتحقق بالإتصال الثقافي والرمزي وهذا هو سبب تكرار تمركزات الأم في كل قصائده، الأم المقدّسة التي لا يُنقصُ الإتصال من قداستها / الصفحة 70]. نحن لا نعرفُ أمّاً مُقدّسة إنما عرفنا الربّة عشتار سومر وبابل آلهة للخصب والنماء وعرفنا بغايا المعابد المقدسات حيث ممارسة الجنس في المعابد معهنَّ هي عملية مقدّسة: البغاء المقدس. نعم، يتكاثر البشر بهذه الممارسات لكنَّ أحداً لم يعتبر عشتار وسواها من بغايا المعابد أمّاً لأحد. هنَّ أمهات للجميع لا لشخص بعينه. وليس في هذا الأمر من غرابة إذْ مرّت البشرية بمراحل ساد فيها شيوع الجنس وإشاعة الأرض والنساء وكل ما تمتلك العشيرة أو القبيلة أو المجتمع البدائي. جميل أنْ يعرّج الأستاذ المعموري على أسطورة بوذا حيث كتب [.. وهنا انحرفت الأسطورة البوذية التي خصّبت والدة بوذا، عندما نزل إليها شعاع من القمر واتصل معها إدخالاً رمزياً فأنتج بوذا / الصفحة 69]. ألسنا نجد هنا مشابه بين مولد بوذا وقصة مولد عيسى المسيح إبن مريم العذراء؟ بوذا نتاج شعاع قمري دخل أمه وعيسى نتاج روح الله بهيئة بشر أتى مريمَ ليصنعَ لها غُلاماً زكيّاً هو عيسى المسيح [.. فاتخذتْ من دونهم حِجاباً فأرسلنا إليها روحَنا فتمثّلَ لها بَشراً سويّا. قالت إني أعوذُ بالرحمن منكَ إنْ كنتَ تقيّا. قال إنما أنا رسولُ ربّكِ لأهَبَ لكِ غُلاماً زكيّا /  سورة مريم الآيات 17، 18، 19]. وقبل عيسى المسيح خُلِقَ آدمُ بنفخة من روح ربّه [إذْ قال ربّكَ للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين. فإذا سويّتهُ ونفختُ فيه من روحي فقَعوا له ساجدين. سورة ص، الآيات 71، 72]. لا وجود للمرأة في قصة خلق آدم. لم تحمله امرأةٌ في رحمها إنما أصله من طين. وهو بذا يختلف عن كل من بوذا ثم المسيح.

يحضرني في هذا المقام كتاب الكاتب لورانس

D.H.Lawrence

بعنوان " أبناء وعشّاق "

Sons and Lovers

عرض فيه عميق تعلّقه بوالدته حدَّ العشق وكان مثل أبو خُمرة يتيم الأب. كما يحضرني ما كتب ذات يوم الأستاذ أحمد فؤاد نجم من أنه يعشق أمّه.. ولا غرابة في هذه المسألة فطبيعي أنْ يتعلق الصبي أو الشاب اليتيم الأب بأمّه بديلاً وتعويضاً عن أبيه الراحل. وهذا ما جاء بلسان عيسى:

 [وبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّا / سورة مريم، الآية 32]. جهدُ الأستاذ ناجح المعموري جهد مشكور حيث أضاء جوانب من شخصية ونفسية وظروف الشاعر موفق أبو خمرة قد لا يعرفها عنه الكثيرون وهذه إحدى مهمات النقد والناقد فالناقد مكتشف ومحلل ومستنتج ومُنظّر.

لم يترك الأستاذ ناجح المعموري لي فُسحة كبيرة لأكتب عن الجوانب الأكثر جديّة في فن أبو خمرة الشعري والهيكلية النظرية في بناء القصيدة. لذا سأصرف جهدي لجوانب أخرى في شعر الشاعر أبو خُمرة وأحاول معرفة بواطن وخفايا أشعاره وأعدد بعضّ مفاصل حياته التي لعبت أدواراً حاسمة في تحديد طبيعة شعره وأنماط سلوكه.

فجيعة الشاعر بفقده ولده

شارك الإبن الأكبر للشاعر في إنتفاضة شعبان عام 1991 ثم إختفى أثره ولعله انتهى في المقابر الجماعية التي خلّفها نظام صدام حسين وحزبه الحاكم يومذاك. قصيدته " صور مؤطّرة " تحكي فاجعته بولده وما حلَّ بالعراقيين من بؤس ومصائب وقتل عشوائي إثرَ إنتصار النظام على الإنتفاضة الشعبانية (آذار).. يقرأها المرء فينهارُ بكاءً. ما قال فيها؟

(حين رأى بأمِّ عينيه طفليه يشحذانْ

زوجَته رغم دماءِ الحيضِ في معمعة العربانْ

عضَّ على يديهِ

أطبقَ فكيهِ

دقَّ بكل قوّةٍ برأسهِ الحيطانْ

ولم تزلْ عاريةً تُحرق في معمعةِ العُربانْ).

كيف كان رد فعل الأب المفجوع يرى طفليه يستجديان وزوجه حائرة لا تدري ما تصنع؟ لم يبدد طاقته الإنفعالية بالألفاظ إنما عبّر عن حالته بالصور الأكثر بلاغةً من أي كلام. لم يتكلم بل قال: عضَّ على يديه.. أطبقَ فكيهِ.. دقَّ بكلِ قوّةٍ برأسه الحيطانْ. هكذا كان جواب الشاعر: العض بالأسنان والإطباق بها ثمَّ ضرب الرأس بالحيطان. هيجان واحتجاج عاصف وكفر بأخلاق الحكام الذين حكمونا وداسوا على رقابنا بإسم القومية العربية والوحدة العربية ثم زيّنوها بالإشتراكية إطاراً وتبجّحاً وزخرفاً لكي يسرفوا في ظلم وفي قتل شعوبهم. لم يحمل الشاعر السلاح ضد قاتلي ولده ولكنْ صيّرته المأساة شاعراً يعرف كيف يعبّر عن غضبه وكيف يصرّفُ هذا الغضب وفي أي وجه يجري تصريفه.

يمضي الشاعر في رسم صور المحنة الكبرى التي أحاقت بالعراق والعراقيين وهو وعائلته نموذج ممتاز لهذه المحنة. نقرأ في المقطع الثاني كيف غادر الفقيد إطارَ صورته المُعلّقة على أحد جدران بيتهم ليقضي بعض الوقت مع والديه. أرى في هذا المشهد واحدة من قمم الشاعر الإبداعية. إنه يتخيل ويتمنى ويحوّل الرغبة المستحيلة إلى شئ يشبه الواقع.. إنه يحلم بل ويمشي في نومه حالماً والحلم قد يطابق ما نريد وقد يخالفه. المفجوع يخدع نفسه ليؤاسيها ولينسيها هول الكارثة وربما يهرب للكحول أو المخدّرات والشاعر أبو خمرة صريح في هذا الأمر لا يتحرّج من ذكر الكحول في شعره أبداً يتناوله بأشكال وصيغ شتّى من قبيل (إلى علي الندّاف أولاً وإلى نص عَرَق ثانياً / قصيدة زائر الليل / الصفحة 73 من ديوان الشاعر عبديئيل). ثم (شكراً للخمرةِ بعد منتصف الليل.. فقد شدّتْ فوق رقبتي المهروشة رأس ملياردير لم تستطعْ حمله.. فأعنتها على ذلك باليدين / قصيدة برقيات الصفحة 68).

ثمَّ ما قال في قصيدة " الثلج المقلي ":

(أدفعُ بابَ الحانةِ في منتصفِ الليلِ

أنصافُ المشلولين

الجثثُ المُلقاةُ على بعضٍ دون استنكارٍ أو خوفٍ

واليأسُ المصلوبُ على وجهي يفتحُ عينيهِ

على الجيلِ الطالعِ من قنيناتِ العرقِ الأبيضَ مثبوراً)

أكيد كان الكلام هذا زمان الحرب العراقية ـ الإيرانية الدموية والثقيلة.

الشاعر والكحول

يكادُ العرق لا يفارق الشاعر في بعض قصائده فهل هو هروب من تكاليف ومتاعب الحياة أم أنه عامل مساعد للإبداع الشعري كما هو شأن الكثيرين من مشاهير الشعراء والروائيين... الكحول أو المخدّرات أو كلاهما والأمثلة كثيرة ومعروفة. الكحول لأبي خُمرة برزخ مزدوجٌ فرع يُفضي به للخلاص من حالات نفسية متأزمة جرّاء الحصار والجوع   والحروب وتعسف السلطات الحاكمة. أما الفرع الآخر فإنه طريق الإبداع وإجتراح آفاق فنية لا تتأتى للشاعر في ساعات صحوه. يغلبُ على ظني أنَّ الشاعر موفّق لا يقول شيئاً من الشعر إلاّ إذا كان مخموراً أو واقعاً تحت سطوة وسلطان العرق العراقي الأبيض / حليب السباع. في أية درجة من درجات ومستويات السكر يكتب أشعاره؟ لا أحسبُ أنه يُثّقل كثيراً حين يعنُّ له أنْ يكتب شعراً وإلاّ لفقد الخيطَ والعصفور وأشعاره خير شاهد على ذلك، لا يبدو عليها أنها تترنح تحت تأثير المشروب. يكتب تحت سيطرة تامة رغم الخمرة سوى بعض الفلتات القليلة التي تختفي فيها قوة إرادته فيفلت منه الوزن الإيقاعي للقصيدة وتتنوع وتختلط التفعيلات ويمزج الشعر الفصيح بالشعر العامي وببعض الأغاني العراقية كأغاني سعدي الحلّي خاصةً فضلاً عن الأغاني العربية ومنها أغنية لنجاة الصغيرة " وآنة بداري وأخبّي.. ص 75 " وأخرى لفريد الأطرش أغنية " يبو ضحكة جنان مليانة حنان.. ص 81 " التي يحبها كذلك العزيز الفذ الأستاذ صائب خليل. في قصيدة " زائر الليل " المُهداة إلى صديقه علي الندّاف أمثلة كثيرة تؤكّد إستنتاجاتي وفيها من السخرية التي لا يجيدها إلا موفق أبو خمرة فإنه بارع في اصطيادها ووضعها في محلاتها المناسبة فتتألق روح السخرية ممزوجة برائحة وتأثير الخمرة. وما أروعه حين يسخر حيث تدمع العين ويفتّرُ الثغر عن بسمة. نماذج من قصيدة زائر الليل

(يعشقُ القلبُ ولا أعرفُ سِرّهْ

ويُريني بفمِ الإبريقِ سِحرهْ

وهو نصٌّ لم أعدْ أشربُ غيرَهْ

عندما حددّ هذا السوقُ سِعرهْ

لم أعدْ أمشي بخطٍّ مُختلفْ

وبساقٍ تكتبُ الميمَ ألفْ

*

يا نصفيَّ الغائبْ  

يا مُثقَل الرأسين

بستْ يد الخمّارْ

ما باعني بالدَينْ

وأذهبُ أبعدْ

أتسلّقُ جمجمتي المكتظّةَ بالقازوقْ

وأضربُ فيها خيمةَ خمرٍ للفقراء

*

إقرعْ طبلَ الخمرةِ ولنبدأ فصلَ التطبيرْ)

موفق محمد أبو خمرة عالم خاص متميّز وعلامة فارقة في فن الخمريات أقرب في فنه الشعري لعالم البداءة والوحشية المتحضّرة مع وعي ضارب في أعماق التراث العربي الإسلامي. في بعض أشعاره ملامح من طبيعة شعر مظفر النواب وعلي محمود طه المهندس ولا سيما قصيدته " الجندول ". عدا ذلك لم أعثر في شعره على أي أثر لبقية الشعراء القدامى والمحدثين. ثقافته القرآنية واضحة وكذلك حفظه وتمكّنه من نظم الشعر الشعبي. لم يكتب قصيدة واحدة كاملة في الكأس والخمر كما كان شأنُ أبي نؤاس مثلاً. الخمرةُ تتغلغل برشاقة في بعض قصائده فتأتي كأفضل وأحلى ما تكون.

في لحظة فراقنا بعد لقائنا في مقهى الجندول قال لي موفّق: سأحلّق هذه الليلة. قلت له أتعني أنك ستتجاوز ربع العرق في هذه الأمسية؟ أجاب على الفور: بل نص البُطل هو ميزاني اليومي. أحبّته مدينته الحلة لصراحته وجرأته وانفتاح قلبه وصدره وبادلته حبّاً بحب ومحضته الإعجاب والود وإعلاء الشأن. في مقطع " الظل " من قصيدة " قصائد بالكاريكاتير " / الصفحة 111 كتب موفق الشاعر

(قبلَ غيابِ الشمسِ

وفي بارٍ ملغومٍ يترنّحُ من ثقلِ همومي

فاجأني ظلّي وهو يُصفّقُ للنادلِ

يطلبُ رُبعاً آخرَ يشربهُ صِرْفاً

ويقولُ سلامٌ

قلتُ سلاماً شيخَ السكّيرينْ

فبعدَ مغيبِ الشمسِ فأين تنامُ؟).

كعادته... يلتقط الشاعرُ ما يناسب أجواءه النفسية والشعرية من مجزوءات من العديد من سور القرآن. هنا وظّف بعض ما جاء في سورة هود [ولقد جاءتْ رُسُلنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا سلاماً قال سلامٌ فما لبِثَ أنْ جاءَ بعجلٍ حَنيذ / الآية 69]. لم يؤثّر تغيير سياق الوضع الإعرابي لكلمة " سلام " على نسيج وتأثير الجملة على متلقيها. إستشهادات الشاعر بمجزوءات الآيات كثيرة ربما أُلفتُ النظرَ إليها كلاّ في حينه.. ربّما!

سرحتُ بعيداً فأعود لقصيدة " صُوَرٌ مؤطّرة ".

(من صورته المؤطّرة بالموتِ والفضّة والسوادْ

قبّلَ والديهِ

أزاحَ عن عينيهما الرمادْ

فجُنَّ مما قد رأى

حطبٌ من البشرِ المُكدّسِ في صناديقِ العتادْ

سيلٌ من اللعناتِ يقتّصُ العبادَ ويستقرُّ على جحيم

من صورته المؤطّرة بالموتِ والفضةِ والرمادْ

شيّعَ والديهِ

رتّلَ بعضَ الدمعِ في عينيهِ

آياً من الذِكْرِ الحكيمْ

ولفَّ صورته وعادْ).

هذا هو الفقيد الشهيد البار بوالديه يفارق قبره ليكونَ مع أبويهِ.. يقبلّهما... يودّعهما ثم يعود لرقدته الأبدية. أيستحيلُ بقاءُ الميّت مع أبويه حيّاً؟

هذا بعضٌ من قصيدة " صور مؤطّرة ".

فجائع الشاعر بفقد الأصدقاء

عبد الجبار عبّاس

عبد الجبار عبّاس مثقف حلاّوي وناقد معروف في الأوساط الأدبية. إنه شقيق أخينا وزميلنا وصديقنا الأستاذ عبد الأمير عبّاس وباقي أشقّائه ستار وغفّار وزاهر الصغير أو أزهر. لا أعرف ظروف وأسباب وملابسات رحيله ولكنْ أفهم من سياق القصيدة التي كتبها فيه " الجب والعقرب " وقدّم لها " أبانا الذي في المقابر نحنُ ضحاياك ".. إلى الناقد الراحل عبد الجبار عبّاس... أفهم أنه عانى من سجن وتعذيب ربما حتى الموت تحت هذا التعذيب. لم يؤرّخ الشاعر لأحداث موت عبد الجبار كذلك الحال مع كافة قصائد الديوان. يغلبُ على ظني أنَّ الناقد قد فارق الحياة في ثمانينيات القرن الماضي. رسم الشاعر مأساة حياة صديقه في السجن ويبدو أنهما كانا معاً نزيلي هذا السجن.. رسمها بصور دامية يتفطّرُ لها قلبُ القارئ وكتبها بصيغ ودلالات جديدة مُبتكرة لم يأتها الشعراء الذين كتبوا عن حالات مماثلة. كرر الشاعر اسم عبد الجبار مراراً ليحفر في ذاكرتنا أخدوداً عميقاً يذكّرنا بمأساة هذا الإنسان الجميل الوديع المسالم:

(أُقسمُ يا عبدَ الجبّارْ

طيلةَ هذا العمرِ المرِّ

ومنذُ عرفتكَ في غيابةِ هذا الجبِ

لم أتبينْ وجهكَ

فاجأني صوتُكَ منذُ اليومِ الأولِّ مسحوناً

بأنينٍ يتخثّرُ فيهِ الموتُ

فتأبطتُ جراحي

قلتُ اصبرْ يا مَلَكَ الضيمْ

وتجرّعْ من هذا السُمِّ قليلاً

فسيأتي حتماً بعضُ السيّارةْ

وسيصرخُ وارِدُهمْ يا بُشرى

فأجابَ الصمتُ

وتوسّدنا الجبَّ طويلاً).

إذاً كان عبد الجبار تحت التعذيب في أحد سجون الطاغية والمجرم الأكبر الذي أذاق العراقيين الهوان والذل والموت. إنه السجن ـ جب يوسف. يأمل الشاعر ويتمنى أنْ ينقذهما من هذا الموت البطئ منقذٌ كما أنقذت السيّارة يوسف بن يعقوب بإخراجه من الجب. الرجوع مرة أخرى للتراث الديني والتشبث بالأساطير حين تنغلق الأبوابُ وتنسدُّ السبل. طال مكوثُ الشاعر وصديقه الناقد في السجن " وتوسّدنا الجبَّ طويلاً ".

أقتطعُ شذراتٍ من مقاطع هذه القصيدة فالتركيز أفضل وأشد وقعاً من الإطالة والتمدد فوق المساحات:

(مكتوماً كان أنينكَ

ما لكَ لا تنطقُ أو تصرخُ

كنتَ تعبُّ السُمَّ الأزرقَ من أشواكِ الجب

*

دعنا نرحلْ يا عبد الجبار

فلقد أنهكنا هذا الجبُّ العقربُ

*

كحّل عينيكَ ودعنا نرحل

أوكان لزاماً أنْ تحرقنا الكلماتُ

وأنْ توقدَ في الجسدِ التنورَ

*

كيف سنخرجُ؟

قلتُ اصرخْ يا عبدَ الجبّار

فلعلَّ حبالاً تمتدُّ

وامتدّت

أغرقنا الطوفانُ وأودعنا في جبٍّ أعمق

*

وابيّضتْ عيناكَ

وجاءوا بدمٍ كَذبٍ فوق قميصكَ يا عبدَ الجبّار

وقالوا عذّبهُ الترحالُ كثيراً

عذّبهُ الرفضُ كثيراً

وأنتَ تصارعُ في هذا الجبِّ كواسجًهُ

وتمدُّ حروفاً من نورٍ كي تشرقَ شمسُ الكلمات

تشرقُ شمسُ الكلماتِ

ولا أحدٌ يسألُ عن عبد الجبار

*

ساعدكَ اللهُ أيا عبد الجبار

فما من أحدٍ في هذا العالم

مدَّ إليكَ يداً أو قالَ سلاماً

ما دفعتْ ريحٌ ظهركَ يا عبد الجبّار

وحدكَ كنتَ تصارعُ

كان الهمُّ صليبُكَ

والفقرُ صليبُكَ

والفكرُ صليبُكَ

فتوسّدتَ بهذا الثالوثِ وصار لِجاما).

علاقة الشاعر بزوجه

رغم الحصار والحروب والجوع وفقد الأحبّة وما أحاق بالعراق من دمار وخراب وموت ومقابر جماعية... ورغم الميل للخمرة والسكر وقول الشعر... ظلَّ الشاعر موفّق محمد مؤدّباً كيّساً لم يتلفظ كلماتٍ سوقية بذيئة مهما كانت حالته النفسية والشعرية. لم يجدّف أو يكفر. بل ظلَّ في غاية الرقة حين اضطرته الحالات إلى الإشارة إلى سياقات جنسية فأشار ورمز وكنّى وتكلم بالمجاز. هل هو متديّن؟ لا أظن، لكني أراه متأثراً بالأجواء الدينية ولا من غرابة فدار عائلة الشاعر قريبة من نهر الفرات في محلة الطاق تقابلها حسينية آل وتوت وليس بعيداً عنها مسجد ومقر الشبيبة الحسينية. وفي محلة الطاق دارٌ خصصها السيد جعفر القزويني لملتقى المواكب الحسينية وقراءة التعازي في أيام وليالي عاشوراء العشرة. ومحلتا الطاق والجامعين ملأى بالحسينيات وقبور الأولياء. لديَّ دليلان على هذا: حفظه للكثير من الآيات القرآنية ثم هيبته واحترامه للمرأة أمّاً ورمزاً. لنسمع ما قال في قصيدة " زوجة الشاعر " التي جسّد فيها مثاله الأخلاقي العالي حين اقترب من جسد زوجه مخموراً فأبدع في رموزه وكناياته ومجازاته هيبةً لجسد زوجه وأدباً فطرياً وُلد معه في صلب طبيعته:

(تعرفُ هذا العائدَ من عُلب الليلِ

ومن صخبِ الحاناتِ

مملوءاً رعباً ونقاشاً

مُكتظّاً بالأحلامِ المُرّةْ

حاولَ بعد الربعِ الأولِ أنْ يملأَ كلَّ خطوطِ الطولِ

خطوطِ العَرضِ بكبريتٍ

ويفُجّرَ هذا الكونَ ويبني مملكةً الفقراءِ

حاولَ أنْ يسمعَ كلَّ الأصواتِ

وأنْ يشربَ نخْبَ الموتِ الجاثمِ كالليلِ على الطرُقاتْ.

تعرفُ هذا العائدَ مُنقسماً كالرملِ على كفِّ العصرِ

لا يحملُ إلاّ كُتباً وقصائدَ ممنوعةْ

وحنيناً يتفجّرُ كالبركانِ إلى عينيها

تفتحُ بين يديهِ الينبوعَ المتدفّقَ للذّةِ ما بين النهدِ وبين الشفتينِ

يتأرجحُ بين الحلمِ وبين اليقظة

ويُتمتمُ أشياءً لا تعرفها

وتموتُ الرغبةُ في العينين).

إشارات وتلميحات بليغة رائعة تصوّر رغبة الزوج المخمور في ممارسة الجنس المشروع مع حليلته ف [تفتحُ بين يديهِ الينبوعَ المتدفّقَ للذةِ ما بين النهدِ وبين الشفتين]. منعه أدبه وحياؤه واحترامه لأم أولاده من ذكر هذا الينبوع بالإسم! حتى وهو في بيته وحيداً مع زوجه أو مختلياً بها لم يفارقه ذِكرُ الخمرِ خاصة وقد أتاها مخموراً ربما في ساعة متأخرة من الليل. الطب يقول إنَّ الكحولَ يقوّي الرغبة الجنسية لدى متعاطيه لكنه يُضعف القدرة الجنسية.

الإبداع كثير في أشعار الشاعر موفّق محمد أبو خُمرةْ أو... أبو خَمرةْ ولا خَمرة بدون خُمرةٍ وتخمير.

إنتهت سياحتي مع ديوان عبديئيل وقد تركتُ الكثير من روائع قصائده لأنتقلَ إلى الجزء الثاني من هذا العرض. عبد إيل تعني باللغة الآرامية ولغات شرقية أخرى عبد الله، فإيل هو الله ومدينة القدس هي إيلياء. وإسم العَلَم إيليا معروف في الغرب فهو إسم والد زعيم الثورة البلشفية فلاديمير إيليج لينين.. إصل إيليج هو إيليا. كذلك هو الإسم الأول للروائي السوفياتي الشهير إيليا إهرينبورك. بل والإسم إلياس هو من إيليا ولدينا أسطورة خضر الياس ثم إسم العَلَم المعروف في العراق " ياس " والياس نبتة واسعة الإنتشار في العراق رائحتها جيّدة. وأظنُّ أنَّ الإسم ياسين أو يس مشتق من إلياس! المهم...

مع المعموري وكتابه " قبعة موفق محمد "

أنتقل الآن إلى إحدى القصائد التي جاءت ضمن كتاب " قُبّعة موفق محمد " للأستاذ ناجح المعموري فقد استأثرت باهتمامي لما فيها من خصوصيات... أعني قصيدة " سرّي للغاية ". إختياري لهذه القصيدة لا يعني أني لم أُعجب بغيرها لكنها فرضت نفسها عليَّ والنفس ألوان وأشكال وأمزجة. ثم، أجاد الأستاذ المعموري في تناوله لقصائد الشاعر الأخرى عن الحلة ومحلة الطاق وفرات الحلة فكفاني مؤونة التصدي لهذه الموضوعات الطريفة والكثيرة الإغراء لشخص مثلي حلاّوي أباً عن جد، وسعيدٌ من اكتفى بغيره / قول مأثور.

ماذا في قصيدة " سرّي للغاية "؟

فيها السخرية اللاذعة التي تجعلُ القارئ يضحكُ ما شاءَ له الضحك. يسخر الشاعر فيها من نفسه قبل غيره كما يسخر فيها من زمانه ومن ظروفه العراقية وكان بعضها قاتلاً وقد عاصر وعاش تلك الظروف من حروب وغزو وحصار ودمار واحتلال. كيف لا يغرق بالضحك من يقرأ:

(ألمْ ترَ أنْ لاحمارَ في العالم يُشبه موفّق مُحمد

فهو الوحيد الذي يسيرُ على قدمين اثنينِ

عابراً الشوارعَ من المناطق التي يشمُّ فيها جلدَ أخيه الوحشي

لاعناً مَنْ دجّنهُ

فهو يخافُ الحكوماتِ

وهذا وحدهُ كافٍ لتتويجهِ مَلِكاً رغمَ أنه يكرهُ الأضواءَ

فلم يقف شامخاً مُبرطِماً على قاعدةٍ أُسقِطَ صنَمها

مُحذّراً الجماهيرَ بعدَ الذي ذاقتهُ الآن

أنْ لاتفتدي بِدمها أيّاً كان

راسماً بأُذنيهِ علامةَ النصرِ

لاطشاً ذيلَهُ بين إليتهِ خَجلاً

من القادمين الذين عانوا الأمرّين في المنافي

**

دعْ الحمارَ طائراً فوق بساط الفيسيفساء الذي أنضجوهُ حتى احترقَ

ليهبطَ حالماً بالسترِ والأمانِ

وهو المربوطُ إلى العربةِ مُذْ كان جحشاً

بريئاً لاهياً لا يعرفُ معنى القطعة المُعلّقة في رقبتهِ

وهو يسيرُ جَنبَ أخيه الأكبر

الحيوان تحت التجربة

وقد صقلته التجاربُ حلوُها ومُرّها

فانفردَ بالعربة

**

ولم يفرحْ إلاّ مرةً واحدةً

حين قرأ على جدارٍ آيلٍ للسقوطِ البولُ للحميرِ

فماتَ تحته قبلَ أنْ يُفرِغَ ما في رأسهِ من سموم

يشربُ صِرْفاً نخبَ عذاباتِ لم يذُقها

وهو يجلسُ على عجيزتهِ غَرِداً طَرِباً

ماسكاً بيمناهُ بُطلاً من تشريبِ التمر الذي صنعه بيدهِ

بجهاز تقطيرٍ لم تعِرهُ لجانُ التفتيشِ إهتماماً

**

فصنع منه ما صنعَ من أسلحة الدمار الشامل)

هل ترك الشاعر أبو خُمرة أمراً لم يذكرهُ مما مرَّ على العراق من مصائب وكوارث ومِحَن؟ حوّلته الكوارث إلى حمار من باب الإحتجاج على ما لا يستطيعُ ردّه أو الوقوف بوجهه. لم يكن وحده في هذا [الإستحمار] إنما ضرب من نفسه مَثَلاً ليس إلاّ. إستحمرَ الجميعُ لأنهم قبلوا بما جرى واستكانوا للحاكم الغاشم والدموي المستبد الذي ساقهم للموت والحروب والحصار والجوع فما الذي يميّزهم عن الحمير؟ إنه صوت عالٍ صارخ ـ ناهق فهل يا ناسُ مَنْ يسمعُ؟! هنا يؤرّخ الشاعر لإسقاط تمثال صدام حسين في نيسان 2003 من فوق قاعدته في منتصف ساحة الفردوس في بغداد، وقد رأى  العراقيون هذا المشهد على الفضائيات في حينه.. ويُحذّر العراقيين أنْ لا يؤلّهوا حاكماً آخر يفتدونه بدمائهم كما كان الشأن مع صدام حيث كانت هتافات بعض الجماهير (بالروح بالدم نفديك يا زعيم). من صور الشاعر الساخرة النادرة [راسماً بأُذنيهِ علامةَ النصر]. وهذا هو واقع حال آذان الحمير والخيول فإنها دوماً، تقريباً، مُنتصِبة للأعلى كما يصنع أحدنا علامة النصر بسبابته ووسطاه لتشكيل الحرف الإنكليزي

V = Victory

الذي يعني النصر.

لم يترك شاردةً أو ورادة إلاّ ومسّها خفيفاً أو ثقيلاً. إنشغاله بسقوط صدام وفلسفة الحمير لم يُنسيانه ذكرَ العراقيين الذي غادروا أو أُجبروا على مغادرة العراق ولا سيّما الأدباء والشعراء منهم حيث شاعت فكرة أدباء الداخل وأدباء الخارج. يشعر الشاعر بالخجل من هؤلاء المغتربين ويقرر أنه لا رأيَ له بمسألةِ أدب الداخل والخارج

(لاطشاً ذيله بين إليتيهِ خجلاً

من القادمين الذين عانوا الأمرّين في المنافي

*

فلا رأيَ له بأدب الداخل أو الخارج).

لم يفرّط بحق أحد من أعضاء الفريقين... إنه صديق الجميع وإنه حبيب الجميع. كما لم تسلم من سخرية لسانه لجانُ التفتيش الدولية التي كانت تبحث سُدىً عن أسلحة الدمار الشامل وألحّت وألحت حتى أضجرت العراقيين وأسأمتهم. وكما عرفناه جاءت سخريته عميقة المغزى قوية التأثير

(ماسكاً بيمناهُ بُطلاً من تشريب التمر الذي صنعه بيدهِ

بجهاز تقطير لم تعرهُ لجان التفتيش إهتماماً

فصنع منه ما صنعَ من أسلحة الدمار الشامل)

تستحقُ لجان التفتيش والتجسس ومن وقف وراءها مِن وراء البحار والمحيطات.. تستحق ما هو أكثر من هذه النماذج الساخرة.

نمضي مع إبداعات موفّق أبو خمرة وكشوفاته في فنون السخرية غير المسبوقة. قال مُغنيّاً شعراً شعبياً من نظمه، حسبما أعتقد، يضج بالسخرية وتتنوع فيه صور ولوحات بليغة كأنها ملوّنة مُشتقة من عالم وطولات وطبائع الحمير والجحاش أو الجحوش. نفّذَ حفلته أمام جمهور أصغى له ثمَّ:

(فألهبَ الجمهورَ وصفّقوا له كثيراً

وخرجوا وهم يحملونه على أكتافهم هاتفين

[لو نعرفْ إنتَ بيا طولة]

*

لم يخلّفَ أحداً

رغمَ فحولتهِ التي يمكنُ أنْ يقفَ عليها

مُستغنيّاً عن قوائمهِ الأربعة

يخرجُ وحيداً عارياً كما خلقه اللهُ).

الطولة هي الأسطبّل لمن لا يعرف معناها. هل استمتعنا بصورة بالغة الجدّة شديدة التأثير وقوية الدلالة كمثل ما قال في سطرين إثنين فقط هما (رغم فحولته التي يمكن أنْ يقفَ عليها / مُستغنياً عن قوائمه الأربعة)؟ هل تحتاج هذه اللوحة إلى تفسير أم أنَّ معناها فيها غير خافٍ وإشارتها أقوى من البرق الخاطف. ثم:

(فعلامَ خروجكَ يا صاحبي!؟

قالها أخٌ لم يفارقْ طولته منذُ سقوط العهد الملكي

أنا أفكّر إذاً أنا ديخْ).

يُذكرني السؤال: فعلام خروجكَ يا صاحبي بما قال أحمد شوقي في أوبريت مجنون ليلى [ماذا وقوفكَ والفتيانُ قد ساروا]. يبقى التساؤل المشروع عن قصد الشاعر بالأخ الذي لم يفارق طولته منذ سقوط العهد الملكي! هل يقصد العقائديين ممن ثبتوا ولم ينكسروا ولم يخونوا؟ أيقصد نفسه إذْ حافظ على موقعه اليساري ودفاعه عن الفقراء والمستضعفين في الأرض؟ لكنه يلمز هذا الأخ لأنه مفكّرٌ وثائر أو ثوري إذاً هو في نظره حمار آخر.. ديخ.. أي لا يتحرك إلاّ بنهره وزجره بعبارة ديخ الشائعة خصوصاً في الحلة وضواحيها وأريافها. أم أنا على ضلال في تفسيري؟ أرجو ذلك. للحركة في السياسة نظريات وتأويلات وكذلك للسكون والثبات. لمن الأفضلية.. للمتحرك أم للثابت؟ للثابت في حركته أم للمتحرك غير الثابت؟ على أية حال... مَن استعمل قبل موفق كلمة " ديخْ "؟ القديمة التي ربما تعود أصولها للسومريين أو البابليين أو أنها كلمة آرامية صابئية. على الصفحة 143 موجز للتأريخ السياسي والوظيفي للشاعر أبو خُمرة يكشف فيه معاناته ومحنته زمان البعث وما بعد البعث وهو قليل من كثير لم يشأ أنْ يكشفه للحليين ولعموم العراقيين.

أقدّر في الختام جهود الأستاذ ناجح المعموري في نقده وتحليله لقصائد الحلة في أشعار صديقه موفّق محمد أبو خمرة.. أخص منها بالذكر قصيدة غَزَل حلّي وقصيدة شمس الحلة ثم يا حلّة وأخيراً قصيدة محلّة

الطاق.

(تحفّظ غير خطير الشأن).

طه باقر والشاعر من محلة الطاق.. نعم. لكنَّ البصير وعلي جواد الطاهر وعبد الجبار عبّاس.. كلاّ! الراحل الطاهر من محلة جبران [عكد المُفتي] ودار ذويه قريب من دار أهلي في هذا العكد القديم الشهير.

إنها تذكرة للأستاذ ناجح المعموري / الصفحة 78 من كتابه "قبعة موفق محمد".

***

د. عدنان الظاهر

آذار 2013

..............................

* ناجح المعموري / كتاب قبعة موفق محمد. منشورات تموز، دمشق، الطبعة الأولى 2012.

* موفق محمد / ديوان عبديئيل، طباعة وإخراج قوس للطباعة، كوبنهاكن، الطبعة الأولى 2000

 

للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة

تشكل قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة مثالاً شعرياً نادراً يتقاطع فيه البعد الوجودي مع البعد الفني التأويلي، ويعيد تمثّل الشعر كخطاب يتجاوز البلاغة إلى استحضار الكينونة في بعدها الأنطلوجي والزماني. تندرج القصيدة ضمن الشعر الحداثي المتحرر من الأوزان التقليدية، غير أنها تعيد توظيف تراث الخليل وتوقيعات الشعر العربي الكلاسيكي بطريقة تتماهى مع التجريب الصوفي والانخطاف الرؤيوي في لغة معاصرة.

أولًا: في المعمار الفني والعتبة العنوانية:

يحمل العنوان "قلب بين مزدوجين" بعداً دلالياً عميقاً، يُستثمر فيه التشكيل الطباعي (المزدوجين) بوصفه علامة ترميزية تحتضن القلب بين القيد والتمييز، بين الاحتواء والاغتراب، وهو ما يشي بأنّ القصيدة ليست فقط عرضاً لعاطفة، بل هي استبطان لمسار وجودي موارب. فالقلب هنا ليس مركز الانفعال العاطفي فحسب، بل هو مركز المعنى.

ثانياً: الذات الشعرية بين الطفولة والكهولة – جدل الهوية والانشطار "كهلٌ إذا أبصرته / طفلٌ يعاندُ مِفصلَه..."

تبدأ القصيدة بإدخال القارئ إلى منطقة توتر وجودي: الكهل-الطفل. وهذا التناقض ليس سوى صورة عن الانشطار الداخلي للذات المعاصرة التي تعيش شروخات زمنية ونفسية. الذات هنا غير متطابقة، بل متعددة، تعيش كظلٍّ غائب حاضر، تنتمي إلى الماضي وتبحث عن ملامحها في الحاضر المنكسر.

ويظهر هذا الجدل أيضاً في قولها:  "هو كلّ شيء حين نبصر وردة في الريح يغمرها المطر..."

فالذات ليست فقط متشظية، بل تستدعي تمثّلات كونية وعاطفية لجمع شتاتها عبر استعارات الطبيعة والذاكرة.

ثالثًا: بين الغياب والحضور – ثنائية الزمن واللغة:

القصيدة تتداخل فيها مفردات الزمن بشكل مركزي: الغياب، الحنين، الليل، الماضي، الذكرى، المستقبل، وكلها مغموسة في لغة شبه صوفية ترى أن الشعر ليس ترفًا بل أداة لتلمّس الأثر.

 "يا ليل لا تُطل العتاب ولا تنادِ قاتلي / يا ليل كم كتبت على أطرافك الدنيا..."

في هذا المقطع، يتحول الليل إلى كائن رمزي، شاهد على الأحزان ومحاور للشاعرة، في تقليد يذكّر بأفق القصيدة الصوفية والعتابية، كما عند ابن عربي أو النفري، حيث يُستدعى الليل ليكون فضاء الكشف.

رابعًا: الشعر كخلاص – مناجاة الفن ضد العدم.

من أبرز محاور القصيدة إعلانها الفلسفي حول الشعر كملاذ أخير ضد الفناء:

"لماذا الشعر؟... لأن الوجدَ وجهٌ لا يواريه التراب ولا الممات..."

هنا تستعيد القصيدة أطروحة جمالية وجودية: أن الشعر لا يقول فقط ما لا يُقال، بل هو وجه للحضور في وجه العدم، قافية للخلود في زمن هشّ. فالقصيدة تُعلن أن الشعر ليس قولًا جميلاً، بل وجوداً مقاوِماً للفناء.

خامسًا: البنية التأويلية: من الاستعارة إلى التأويل الهيرمينوطيقي.

تفيض القصيدة باستعارات مركبة: الليل، المطر، الرسائل، الكأس، المدى، البيت، فنجان الغيب، وجميعها تستبطن مدلولات وجودية – كلٌّ منها حاملٌ لبعدٍ تأويلي لا يُفكك إلا عبر قراءة دائرية (هرمينوطيقية)، كما يقترح بول ريكور، حيث تنفتح اللغة على أفق لا نهائي للمعنى.

 "هذه القصيدة كالحياة... تُجيد محو الغيب فيك..."

تقوم القصيدة إذن على الشعر بوصفه حدثاً معرفياً وروحياً، يتكشّف شيئاً فشيئاً، لا كإخبار بل كرؤيا.

سادساً: البُعد الوطني والالتزام الرمزي.

تتسلّل إلى ثنايا قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" إشارات وطنية ورمزية عن الأوطان: "يا دُرَّةَ الأوطانِ يا وجعاً يُراقُ على المشاعر..."

هنا يتجاوز الحديث الشعري الذات ليحتضن الذات الجمعية. ولكن الوطن لا يُذكر مباشرة ككيان سياسي، بل يُستحضر ككناية عن الألم الجمعي والأمل المستتر، كأن الشاعرة تريد إعادة الوطن إلى لغته الشاعرية الأولى، لا بوصفه سلطة بل روحاً.

سابعاً: الصوت الأنثوي المتفرد – بين العاشقة والمُؤوِّلة.

تُظهر القصيدة صوتاً نسائياً متمايزاً، بعيداً عن التكرارات السطحية للخطاب العاطفي النسوي، لتنتج لنا شاعرة-مُؤوِّلة، تمزج بين البوح العاطفي والتفكيك الرمزي، وتخلق توازياً بين الأنوثة والقصيدة، بين الحنين والنصّ.

خاتمة:

قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة إيمان مصاروة ليست مجرد تدفّق وجداني، بل عمل شعريّ معماريّ مكتمل، يُزاوج بين اللغة ككائن حيّ والزمن كأثر. الشعر فيها طريقٌ للنجاة، وتأويلٌ للذات، ودفتر حضور في وجه الغياب. إن إيمان مصاروة تقدّم في هذا النصّ شعراً لا يُقرأ فحسب، بل يُعاش ويُتأمَّل، وتحفر بوعي شعري وجودي في بنية اللغة والكينونة معاً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

قَلْبٌ بَيْنَ مُزْدَوَجَيْنِ

هُوَ شَائِكُ المَعْنَى كَثِيرُ الأَسْئِلَهْ 

كَهْلٌ إِذَا أَبْصَرْتَهُ 

طِفْلٌ يُعَانِدُ مِقْصَلَهْ....... 

ظِلٌّ تَرَسَّخَ فِي الْغِيَابِ 

وَحَاضِرٌ إِنْ ضَلَّ فِي الدَّرْبِ الْمُسَافِرُ 

يَقْرَأُ الصُّحُفَ الْقَدِيمَةَ وَالْمَقَاهِيَ حِينَ يَهْجُرُهَا الرِّفَاقُ.... 

وَمَا تَبَقَّى مِنْ رَسَائِلَ لَمْ تَصِلْ.......

عَهْدٌ يَخُونُ الصَّمْتَ وَاللَّيْلَ الطَّوِيلَ 

وَمَا يُقَالُ عَلَى الشِّفَاهِ الْمُقْفَلَهْ....... 

**

هُوَ كُلُّ شَيْءٍ حِينَ نُبْصِرُ وَرْدَةً فِي الرِّيحِ يَغْمُرُهَا الْمَطَرْ..... 

هُوَ لَيْلُنَا الْمُنْثُورُ فِي الطُّرُقَاتِ يَسْأَلُ مَنْ هَجَرْ...... 

هُوَ آيَةُ الْمَنْسِيِّ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ وَذَاكِرَةٌ 

هُوَ كُلُّ أُغْنِيَةٍ يُعَانِقُهَا الْوَتَرْ..... 

هُوَ صَمْتُنَا الْبَاقِي عَلَى جَسَدِ الْحُرُوفِ..... 

فَوَاصِلُ الْآهَاتِ 

مَا أَخْفَى الْمُحِبُّ عَنِ الْحَبِيبَةِ 

حِينَ غَادَرَهَا لِتَبْقَى نَجْمَةً عَذْرَاءَ قَيَّدَهَا الْقَدَرْ..... 

يَالَيْلُ لَا تُطِلْ الْعِتَابَ وَلَا تُنْادِي قَاتِلِي 

يَالَيْلُ كَمْ كَتَبَتْ عَلَى أَطْرَافِكَ 

الدُّنْيَا وَلَمْ تَقْرَأْ جِرَاحَ السَّابِقِينَ 

أَكُنْتُ وَحْدِي أَكْتُبُ الشِّعْرَ الْمُسَجَّى فَوْقَ أَوْزَانِ الْخَلِيلْ.... 

أَمْشِي إِلَيْكَ تُعيدُنِي الأَيَّامُ مَوَّالًا تُرّدِّدُهُ 

الشِّفَاهُ وَيَحْتَوِيهِ الشَّوْقُ فِي دَرْبِ الْحَنِينْ.... 

يَا شِعْرُ مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السِّحْرَ 

مَنْ أَغْوَاكَ مَنْ أَسْقَاكَ كَأْسَ الْعَاشِقِينْ.... 

يَا شِعْرَ قَلْبِي بَيْتُكَ الْحُرُّ الْمُقَيَّدُ 

بَحْرُكَ الْمُمْتَدُّ فِينَا كَالْمَدَى 

وَجْهُ الْكِنَايَةِ وَالرُّؤَى 

سِحْرُكَ الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَاتِ وَالتَّأْوِيلْ..... 

*

أَمْضَيْتُ عُمْرِي فِي حُرُوفِ قَصِيدَةٍ 

لَا تَسْتَرِيحُ كَأَنَّهَا الدُّنْيَا تَدُورُ وَلَا تَبُوحُ 

بِمَا تَكُنْ وَلَيْسَ سِرًّا مَا تَرَى..... 

هَذِي الْقَصِيدَةُ كَالْحَيَاةِ تُجِيدُ مَحْوَ الْغَيْبِ فِيكَ 

تُجِيدُ صَقْلَ الصَّمْتِ... تَحْمِلُ لَيْلَهَا شِعْرًا 

وَتُكْمِلُ فِي الْوُجُودِ غِيَابَهَا 

مَنْ ذَا يُبَعْثِرُ فِي الْجَوَابِ الْأَسْئِلَهْ..... 

لِمَاذَا الشِّعْرُ؟؟!... 

لِأَنَّ الْوَجْدَ وَجْهٌ لَا يُوَارِيْهِ التُّرَابُ وَلَا الْمَمَاتْ 

أَعْمَارُنَا ذِكْرَى وَبَيْتُ الشِّعْرِ قَافِيَةُ الْخُلودْ.... 

قِفَا نَبْكِ".. لَقَدْ رَحَلَ الْجَمِيعُ وَلَمْ يَزَلْ بَاقٍ "

يُذَكُّرُنَا بِليْلَى شَوْقُهَا الْمَأْثُورُ فِي قَوْلِ الرُّوَاةْ 

فَحَيَاتُنَا بِالشِّعْرِ تَكْبُرُ لَا تَشِيخُ وَلَا تَمُوتْ.... 

وَحَيَاتُنَا طِفْلُ الْخُلودِ مُدَثَّرٌ بِالْمُعْجِزَاتِ 

حَيَاتُنَا مَا أَضْمَرَتْ أَنْفَاسُنَا مِنْ أَمنِيَاتْ.... 

فَاكْتُبْ لَهَا شِعْرًا يَلِيقُ بِعَاشِقٍ 

وَطَنِي النَّبِيُّ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَعَانِيهِ أَنَا 

بَيْتَانِ مِنْ صِدْقٍ وَقَافِيَتِي 

تُفَسِّرُ مَا تُوَارِيةِ الْكِنَايَةُ لِلشَّبَابِ 

كَأَنَّهَا أُمٌّ سَتَفْضَحُ سِرَّنَا 

**

سَافَرْتُ فِي مَاضِيكَ يَا قَلْبِي الْجَرِيحْ 

سَافَرْتُ أَقْرَأَ مَا تَعَلَّقَ فِي السَّتَائِرِ 

حَوْلَ كَعْبَتِنَا 

وَنَظَرْتُ حَوْلِي لَا أَرَى إِلَّاكَ 

عَشْرُ قَصَائِدَ وَقَصِيدَتِي فِيكُمْ تُرَتِّلُ فَخْرَهَا 

هَذَا هُوَ الشِّعْرُ الَّذِي حَفِظَ النَّدَى 

وَبَدَا الْمَدَى فِي رَاحَتَيْهِ كَأَنَّهُ الإكسيرُ إِن شِئْتَ الْخُلودْ.... 

فَاحْفَظْ لِنَفْسِكَ شَوْقَهَا وَاكْتُبْ 

فَإِنَّ الْحَرْفَ طِفْلُ الرُّوحِ فِي هَذَا الْوُجُودِ.... 

يَوْمًا سَيَذْكُرُنَا الْمُسَافِرُ لِلطَّرِيقِ 

وَيَنْحَنِي الزَّمَنُ الطَّوِيلُ كَأَنَّهُ الْمُشْتَاقُ لِلذِّكْرَى 

وَلِلْأَحْلَامِ لِلَّنَّجْوَى الَّتِي فِي رَاحَتَيْهِ 

لِفِنْجَانٍ وَحِيدٍ يَقْرَأُ الْغَيْبَ الْمُوَارَى 

أَيُّهَا الْمَاضِي أَتَعْلَمُ مَا غَدِي 

أأنا سَعِيدٌ أَمْ شَقِيٌّ..؟ 

كَتَبَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ أَنَّ السَّعَادَةَ أَنْ تُحَاوِلَ مَا تُرِيدُ.. 

كَتَبَ الَّذِينَ قَضَوْا عَلَى يَأْسِ الْعَبِيدْ 

أَنَّ الشُّعُورَ يَدُ الإِلَٰهِ وَأَنَّ صَوْتَ الشِّعْرِ وَحْيٌ مِنْ جَدِيدْ..... 

كَتَبَتْ يَدِي لِلْعَاشِقِينَ 

اقْرَأْ فَأَنْتَ الْمُبْتَدَأُ 

إقْرَأْ وَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مَا شِئْتَ 

لَسْتَ الْآنَ وَحْدَكَ يَحْتَوِيكَ الشِّعْرُ قَلْبًا دَافِئَ المَعْنَى 

كَتَبَ الْمُسَافِرُ فِي الْأَثَرْ.... 

اللَّيْلُ أَطْوَلُ مِنْ عِنَاقٍ لَا يُرَى 

وَاللَّيْلُ أَعْمَقُ مِنْ خَيَالٍ فِي الرُّؤَى 

وَاللَّيْلُ شِعْرٌ فِي شِفَاهِ الْمُتْعَبِينْ 

وَخَتَمْتُ فِيكُمْ هَا هُنَا بَعْضِي 

جَوَابًا يَسْتَبِيحُ الأَسْئِلَهْ...... 

قَلْبِي الْمُعَلَّقُ فِي الْحُرُوفِ 

وَفِي الْبِحُورِ وَفِي الْعُيُونِ الْمُسْبَلَةْ 

تَارِيخُ شَوْقٍ لَمْ يَزَلْ يَرْوِي النِّهَايَةَ 

وَالنِّهَايَةُ فِيكَ تَسْأَلُ حَنْظَلَهْ....... 

يَا دُرَّةَ الأَوْطَانِ يَا وَجَعًا يُرَاقُ عَلَى الْمَشَاعِرِ 

هَلْ أَرَاكَ بِكُلِّ وَجْهٍ حُرَّةً تَبْدُو كَآخِرِ زَفْرَةٍ 

فِي الرُّوحِ تُزْهِرُ مُشْرِقَهْ  !!!!.....

***

إِيمَانٌ مُصَارَوَة 

النَّاصِرَة \\ 19-5-2025 

حين يصنع الراوي أقدار القارئ

«نحب الذكريات لأنها لا تتغير ولا تشيخ، بينما نحن نتغيّر ونشيخ»..  (الرواية ص 213)

تقديم: ... وأنا أمسك الظرف بيسراي وأفتحه بيمناي لأخرج ما به، هاجمني هجوم من يدعوني إلى عناق أدبي، عنوان الرواية التي وصلتني هدية من الشاعرة والأديبة والروائية فاتحة مرشيد، «ليلة مع رباب (سيرة سيف الراوي)» الصّادرة في طبعتها الأولى 2025 عن المركز الثقافي للكتاب.

أثارني العنوان وهيّج ما بداخلي من أسئلة مفاتيح محتملة للرواية، ووضعني قبل الإبحار في عوالمها السردية، أمام تساؤلات أولية عِدّة، هذه العتبة المفتوحة على كل التأويلات والغامضة، في الآن نفسه، رغم وُضوح علاماتها الفنية والجمالية التي يفصح عنها الغلاف.

قلّبت الصّفحات 220، وأنا أتساءل موظفاً ما ملكت من معرفة بسيطة في عالم الرواية، قارئاً يشاغب على النقد، لأحلّ لغز عتبة «ليلة مع رباب» التي كشفت لي عن بعض أسرارها، من تكون رباب هذه؟ لماذا ليلة وليست ليالي؟ ومن يكون هذا الذي يحلم بليلة واحدة مع رباب؟  ومن سيف هذا؟ وهل هي سيرة "سيف" أو سيرة القارئ؟

اتّسع العنوان ليفتح للقراءة الأولية الكاشفة تأويلاتها، في محاولة لاقتحام معاقلها وفضّ أسرارها الخفية، وسبر أغوار لغة سردها.

عتبة بمثابة باب قلعة الرواية؛ حيث يتحصّن الباب تحت تفسيرات وتأويلات تتعدّد بتعدّد الفاتحين والمغامرين، والمُتعطّشين لِلَذّة الفتح المبين، حين يقفون عند مداخلها منتشين بنصرهم وهم قد خرجوا بإحساس غير الذي دخلوا به، إحساس يمتزج، لا محالة، باللذة والألم، بالحب والكره، بالقوة والضّعف، بالانتصار والهزيمة وهو قدر الفاتحين.

أول الفتح..

دخلت «ليلة مع رباب» قارئا أتحسّسُ معاقلها وخباياها، وأتلمّسُ طريقا إلى شخوصها وفضاءاتها وأحداثها لأجد لي مكانا، ليس ببعيد، للمراقبة، من دون تدخّل، محاولاً الخروج منها برصيد وافر من الأحاسيس والملاحظات والترميمات والإرشادات، راجيا أن تُضفي على الرواية مُسحة من جميل شغفٍ يُحفّز قرّاء محتملين لولوج عالم هذه الرواية.

«ليلة مع رباب»، رواية تسائل في القارئ جزءاً منه، يظنّه منْسيّاً أو متواريّاً في غياهب النفس والذّاكرة، حين تضعه أمام مرآةٍ تعكس ما يهرب منه مبتعداً عنه وهو ملاحقه، عالم يدفعه، من دون مقدّمات ولا حِيَل سردية، بل ببناء تشكّلت أحداثه، وتلاقت شخوصه وتفاعلت، وانفتحت فضاءاته وتنوّعت في غير ضيق، لتبصُم على عمل متميّز يُنبّه، يُسجّل، يحكي بجرأة آسرة، يكتنه أعماق النّفس عبر خطاب يمتاز بغناه وتنوّعه، رغم بساطة لغته القويّة والمتماسكة، الظاهرة والمخادعة.

من الشيخوخة تنطلق الرواية لتنتهي إليها، «إنها الشيخوخة يا سادة» ، يأخذنا السارد عبر اتفاق مبيّت مع الراوي «سيف»، إلى عالم ينسج خطواته ببطء، لكنه لذيذ، يفتح أمام القارئ فرصا للتأمل والوقوف للسؤال، عن ماضيه وحاضره والآتي من أيامه، وما يعتمل فيها من أحداث، توقف القارئ أمام نفسه وأمام الأسئلة العابرة للنص الروائي. فالراوي يتوجّه بالكلام إلى القارئ، يبرم معه اتفاقاً قبل ولوج عالمه الحكائي، ينسج معه شكلاً من الأُلفة تفتح للسرد آفاقاً يلتئم فيها القارئ بالشخوص والأحداث بحلوها ومرها، بنحسها وسعدها، يُعدّه لتلقي الآتي من الحكي الجميل، فاتحاً افق انتظاره على ما سياتي من الأحداث مستعملاً من الأمثال الشعبية ما يضفي على السرد قوته وتماسكه وسيرورته، ومن الأسئلة ما يفتح لفضوله المعرفي أن يغوص في نفسه عبر الشخوص التي تتحرك داخل النص، مع ترك هوامش وتفاصيل يكتبها القارئ بِصَمْتِه وتأمُّلاته ليُعيد تشكيل بعضها حين يضع نفسه في لُججها.

بحس الطبيبة العارفة بمكامن النفس البشرية وخباياها، وبمبضع الجرّاح تتّبع الطبيبة/الكاتبة دروب النّفس ومجاهلها، تُعرّي ما اختبأ تحت أردية الألم والوجع، أو توارى خلف الحبّ والكره، أو تردّد بين الأمل والرجاء، لتفسح مجالات للبوح والكلام والسؤال، والانخراط في صناعة أقدار هذه النفس وتحمّلها ومكابدتها، فتوقِف القارئ/الإنسان أمام ذاته، تذكّره كي لا ينسى أنّه يَجُرّ رجليه جرّاً إلى نهاية محتومة، يعرفها ويتجاهلها، «عن هذه الذات سأحْكي، وبالتحديد عن نسخة منّي لم تعد موجودة» ، فهل هي نسخة من الراوي «سيف» أو نسخة منّا نحن الذين فتحنا الرواية لنكون جزءاً منها؟ «فالنّاس سوف ينسون ما قلته، وسوف ينسون ما فعلته، لكنّهم أبدا لن ينسوا ما جعلتهم يشعرون به» .

بنفس الجرأة التي اقتحمت بها الكاتبة فاتحة مرشيد عوالم رواياتها السابقة، تحاول أن تجعل من الهمّ والألم الإنساني مصدر إلهام امتاز بتدفّق لغوي سلس، هادئ وجِرّيء، في تناسبٍ مع الأحداث وانتقالاتها لتغوص عبر السؤال الحاضر دائما في متن الحكي، يدعم القارئ ويشدّه شداًّ إلى سيرورته المتوالية. تقتحم دهاليز النفس تُشَرِّحها، تعتصرها بهدوء العارفة المتمكّنة من أدواتها، وبوساطة تداخلٍ لغوي يجمع بين عربية سليمة ومثل عامي دارج على الألسن، وذلك لنقل التفاصيل والأحداث التي تبني المعمار الروائي من مبتدئها إلى منتهاها عبر لغة ثرية ثرّة، سلسة الانقياد، سهلة وقوية في نفس الآن بتواشجها مع الأحداث، تتسع دوائرها لتشمل كل مكونات الرواية، مظللة بالأمثال الشعبية المحفورة في ذاكرة الزمان والنّاس، لتجعل منها سيرة «سيف» والقارئ.

«ليلة مع رباب»، رواية تهمس إلى القارئ حين يواكب الأحداث، يرافق الشخوص، يكتشف الفضاءات، ولا سبيل له إلى التراجع حين يقتحم معاقلها، أو التسرّع وهو يجوب دروبها، لأنّها حتماً ستقوده إلى مصيره المحتوم، المسكوت عنه خوفاً أو كرهاً، وهو يقطع مراحل العمر ساهِياً لاهِياً، لا ينتظر ليصله النداء رغماً عنه، سيصل من دون تبريرٍ لذلك، «وما حاجتي على التبرير لكم؟»  وقد دخلتم القلعة تنشدون الفتح، مواجهة مستفزّة، منبّهة تجثم على القلب ضاغطةً، تعيدنا إلينا، قاطعة مع الذي مضى، مستشرفة الآتي الذي لا نعلم عنه شيئا. بما أنّها علامات قاطعة وقاسية مع الحال والحاضر، تهمس لنكتشف ذواتنا/مآلنا، نبحث عنا بين سطور الحكي ومن خلاله، لتنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات «سيف الراوي» الذي هو نحن، ومصاحبته عبر توالي الأحداث وتناميها. لعل الكاتبة تتقصّد، في الإعلان عن الفكرة بسهولة ومن دون مقدمات، ليعرف القارئ الذي تحيطه الأسئلة المُنَبِّهة، أنه هو المقصود، من جهة. ومن جهة أخرى، تُمكّنه من مجاورة الشخوص والتّماهي معها ليخرج من الرواية بأقل الأضرار. فالسارد يعلن ذلك بأسئلة مواكبة للسرد، تلك الأسئلة التي تضع القارئ في قلب السردية، تشده إلى المتن لتجعل منه مشاركاً فاعلاً في الأحداث لا متفرّجاً، ومنتبهاً أن هذا الجسد الذي، يَحمل ويُحمل، أدّى مهمّته، وحان الوقت لأن يستريح، «وهل بمقدور القلب أن يُحيي الخراب؟» ؛ ما دام العطّار لا يصلح ما أفسد الزمان. أحداثٌ تُوقف القارئ أمام نفسه متسائلاً في غير بحثٍ عن جوابٍ، ليحسب سنوات عمره التي تمر تباعاً، وأمام خياريْن: إمّا «أن ما لا نستطيع الحديث عنه، ينبغي أن نتجاوزه في صمت» ، نتجاوزه ونمضي إلى الأمام؛ أو نلزم الصّمت والعيش «خارج الزّمن» حسب تعبير إليوت، ليصبح مجرد ذاكرة، «إنّها مأساة الإنسان، تكمن في تمزّقه.. فقلبه يريد الحب، وعقله يسعى للنّجاح، أمّا روحه فلا تحلم إلا بالسّلام" ، "ولكم أن تفسروا كما يحلوا لكم» .

بنفس الجرأة التي تحرّك دواخل القارئ كما في كل رواياتها، تحاول الكاتبة في «ليلة مع رباب»، فتح موضوع «الشيخوخة» بما قبلها وما بعدها، مواربة باب عيادتها النفسية، بحذر من يملك آليات ولوج النفس الإنسانية بتؤدة يصاحبها التّبصّر والحكمة والذّكاء، نبحث عن أنفسنا ونحن نلج مكتشفين أسرارها، فاتحين معاقلها، نبحث عنّا، نستمع إلى ذواتنا أكثر مما نحكي. تستحضر الكاتبة تلك الأمثال الشعبية التي تغذّي المتن الحكائي وتجعله قريبا من القارئ، بما يتّسق مع الأحداث والحوار والشخصيات أيضا، في تآلف متين، صادق ورصين، وتكتب لتهمس إليك، لا لتعطيك خلاصاً، بل تمنحك مرآة تنظر فيها إليك، يقول الراوي: «كل واحد منكم رسم في ذهنه صورة معينة، هي في الحقيقة تعبّر عنه أكثر مما تعبّر عني» .

ما لا تخطئه عين القارئ، هو امتلاك الكاتبة/الطبيبة الخبرة الكافية مع اتساع اطلاعها عن تجاويف النفس البشرية، وما يصنعها كذات تكابد الآلام والأوجاع، والكره والحب، والانتظار والإقدام، في بحث عن الاستقرار النفسي حين تبوح بهواجسها وما يعتمل بداخلها، و«سيف الراوي» نموذجها، وهو استمرار لنهج الكاتبة المتميّز الذي يلج عوالم ودهاليز النفس الإنسانية بإيقاع سردي عبر لغة لا تخجل من قاموسها الحافل بما يقرّب المعنى ويسهل الغوص فيه.

الرواية أكثر من سرد لسيرة «سيف الراوي» الذي وقف أمام شيخوخته ليروي ماضيه وحاضره بحضور القارئ كشاهد أولاً، ومنتظرٍ لمصيرٍ قد يقترب من مصيره، ما منحها رؤيةً تجمع بين الجسد والعقل، بين التفكير والمغامرة، عامرة بالأسئلة التي لا تنتظر أجوبة آنية من القارئ، وتحفر فيه طريقا إلينا، نكتشف عبره أنفسنا التي نظن أننا نفهم دواخلها رغم حملها لنا، بطريقة غير مباشرة، لأن الأدب عند المبدعة فاتحة مرشيد «غير مجامل، قد يجعلنا نلمس الجانب الإنساني في أعماقنا المعتمة، أو يوقظ إنسانيتنا أمام بشاعة وجهنا الآخر» ، لعلّها صدقت، ونظنّها كذلك حين وصلت بالقارئ إلى مشارف النفس المثقلة بالهموم والباحثة عن لحظات العشق الكاسحة للأحزان، «لا تيأس أبداً أيها العزيز، أزهر من جديد، أثبت لهم أم الذّبول خرافة» ، ولأنه «عبر الكتابة نستطيع ترميم الكثير فينا» .

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء:20/05/2025

 

الذكريات وحدها شاهدة على الفلوات التي مررنا بها، كنّا صغارًا نلعب ونلهو في المزارع والنخيل، وكانت الطبيعة تزف الناظرين، الهواء، المطر الذي كان فورة بركان تتفجر داخل العيون العميقة. وبين الحقول نشاهد العصافير بأشكالها وأنواعها، وما بين المرامي نرى تلك السمكات الصغيرة التي نسميها "الحرسون"، ومن هذا وذاك نرى الحيوانات بأنواعها في الحقول ترعى بالعشب الأخضر، منها البقر والحمير، تلك الدابة التي يستخدمها بعض الفلاحين في التنقل والنقل. بل تراها تجرّ عربتها في الأسواق، تقف مع مالكها تنتظر زبونًا عازمًا للذهاب إلى قريته يحمل احتياجات منزله.

لكنّ الحمار يزدان بأنواع الحنّاء التي تصبغ على جسده، فهي شفرة المالك عندما تضيع أو تُسرق. ولك من الجهالة جزء منها، مع شقاوة اليوم، قد ترى حمارًا يمشي لا مالك يملكه، ضائعًا في أرض الله، وقد يقوم بعض الصبية بإيذائه بالعصي والحجارة، فتسمع نهيقه متألمًا من أفعالهم الشنيعة، وهم يهرجون ويضحكون بكلّ فرح وسرور. بقيت تلك الذكريات مؤلمة في حقّ الحمار الذي يحمل أثقالًا ينوء الإنسان بحملها.

تداعت هذه الصور التراثية إلى مخيلتي وأنا أقرأ رواية "صوت الحمير" للروائي أيمن العتوم، وهي رواية لم تتركني كما كنت قبل قراءتها، إذ ما إن أغلقت آخر صفحاتها، حتى وجدتني أبحث عن أعمال أخرى لكاتبها. الرواية غريبة في فكرتها، مدهشة في طرحها، وتنبض بشيءٍ من السخرية الحزينة التي تُشبه صرخة مكتومة. تدور أحداثها حول الشيخ علي، الرجل الذي كان يومًا غارقًا في السكر والإهمال، ثم جرّته خيانة زوجته وعشيقها إلى لحظة دموية دفعته إلى قتل الاثنين. تلك الجريمة فتحت له باب التوبة، فهرب من قريته، وذهب إلى مصر، حيث التحق بالأزهر وتخرّج إمامًا، ثم عاد إلى قريته ليقود الناس إلى الخير، أو هكذا أراد.

لكن عودته لم تكن خاتمة، بل بداية حقيقية لرحلة أخرى، رحلة وجودية، جسّدها شراؤه لحمار لم يكن يعلم أنه يتكلم. أبو صابر، الحمار الذي يخفي لسانًا بشريًا، وعقلًا ناضجًا، وقلبًا صبورًا. لم تكن العلاقة بين الشيخ علي والحمار علاقة مالك بمملوكه، بل تحوّلت إلى علاقة إنسان بمرآته، بظلّه، وربما بضميره. عبر الحوارات التي تنشأ بينهما، نكتشف عالمًا جديدًا، حيث للحمار رأي وحكمة وتأمل وسخرية لاذعة من بني الإنسان.

في مسيرتهم بين القرى، يتعرضان لمواقف عديدة: الذئاب، السقوط في الهضاب، الضياع، والموت المحدق، وكلّ موقف يحمل تجربة عميقة، يكشف فيها أبو صابر للشيخ علي شيئًا من نفسه ومن الحياة. حين يسقط الشيخ في هوة جبلية وتبدو نجاته مستحيلة، يعود الحمار، في لحظة وفاء ويجلب له النجدة من المدينة، في لحظة اختزلت كلّ شيء. لم يكن مجرّد إنقاذ، بل كان إعلانًا صامتًا عن عمق العلاقة، وعن إنسانية هذا الكائن الذي نُسقط عليه كلّ صفات الغباء والبلادة ظلمًا.

الروائي جعل من الحمار حكيمًا، بينما يجعل من الإنسان موضع التساؤل. قلبَ الصورة النمطية، ليجعل القارئ يعيد النظر في تصوراته الثابتة. فالحمار في ثقافتنا الشعبية رمز للغباء والهوان والاستغلال، بينما هو في الحقيقة مخلوق صبور خدوم، لا يشكو ولا يُقدّر. نسج الكاتب روايته بأسلوب يجمع بين السرد التقليدي والحوار الرمزي، بكلمات مشبعة بشاعرية العتوم المعهودة، وبتأملاته التي تغوص في النفس والدين والوجود، أدت إلى أن تجتمع في شخصية القارئ صفات متضادة، فهو يبتسم ويتألم ويغضب ويتأمل، في آنٍ واحد.

الرواية لا تقف عند حدّ التوبة، أو علاقة الشيخ بالحمار، بل تتجاوزها لتمسّ قضايا أكبر، كالعدالة والرحمة، وأهمية الإنصات إلى الآخر، وفكرة من يملك "الحق في الحديث"، ومن تُمنح له سلطة التوجيه. وربما كانت الرواية كلها صرخة في وجه مجتمع يُقصي المختلف، ويصنف الكائنات، ويمنح التفوق لمن يملك الصوت الأعلى، لا العقل الأعمق.

حين أغلقتُ الرواية، قفزت إلى ذهني مرة أخرى تلك المشاهد التراثية التي تداعت حين كنت أستمتع بقراءة الرواية. كانت مجرّد مشاهد عابرة، لكنها اليوم صارت مشاهد دامعة، بعد أن أعطى العتوم صوتًا لمن لا صوت له. لقد قدّم لنا درسًا في الإنصات، وربما في الإنسانية.

***

فؤاد الجشي - السعودية

تُعد رواية النباتية للكاتبة هانغ كانغ Han Kang  واحدة من الأعمال الأدبيىة الآسيوية البارزة في القرن الواحد والعشرين، التي عبّرت عن التمرد الصامت ضد السلطة الاجتماعية والجسدية، نُشرت الرواية لأول مرة عام 2007، باللغة الكورية، وقد نالت شهرة عالمية بعد فوزها بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت لاحقاً الى عدة لغات، بفضل المترجمة الإنجيليزية التي قامت بها (Deborah Smith)،  تدور الرواية حول تحول بطلتها (يونغ هاي) من إمرأة عادية في المجتمع الكوري المحافظ الى شخصية ترفض تناول اللحوم، بعد ترى في منامها حلماً دموياً، ومن ثم تتجه الى نوع من الانفصال التام عن الجسد والعالم، في رحلة وجودية عميقة وصادمة. ومن خلال هذه القصة الفريدة، تفتح هانغ كانغ الباب أمام قراءات متعددة تتوزع بين الابعاد الفنية والدلالات الرمزية والأدبية.

الأبعاد الفنية في الرواية

الرواية مؤلفة من ثلاثة أجزاء، كل منها يروي من منظور مختلف. فالرواية، تروي من منظور زوج (يونغ هاي) الذي يرى في قرارها نوعاً من الإزعاج والعار الاجتماعي. ثم شخصية الرسام، الذي يروي من وجهة نظر صهرها، وهو فنان يستغلها كمادة لمشروع فني يتجاوز الحدود الأخلاقية. والجزء الثالث، هي أشجار اللهب وتُعد تورية عن شقيقتها الكبرى (إن هاي) التي تحاول إنقاذها من إنهيارها العقلي.

  من الناحية الفنية، تعتمد رواية النباتية على تقنية السرد المجزّء واللغة الشعرية، حيث تروي من خلال ثلاث وجهات نظر مختلفة؛ زوج البطلة، وصهرها، وأختها الكبرى. هذا التعدد في الأصوات السردية لا يضيء فقط على تطور شخصية (يونغ هاي)، بل يعكس أيضاً كيفية رؤية المجتمع لها، ويكشف عن الأنانية واللامبالات التي تحيط بها. (هذا التعدد السردي يُضفي بعداً درامياً ويعكس تحوّل وجهات النظر تجاه (يونغ هاي)، من اللامبالاة الى التشيء ثم الى الشفقة). كما يقول الناقد الأدبي البريطاني (بودي ماكس).

اللغة التي تستخدمها الكاتبة كانغ تتسم بالإقتضاب والشاعرية في آنِ معاً، حيث تُعبر بسلاسة عن العنف الكامن في الحياة اليومية، والمشاعر المعقدة التي تنشأ في العلاقات الإنسانية. أما الصورة الفنية، خاصة تلك المرتبطة بالطبيعة والجسد، تُستخدم بكثافة لتشكل عالم روحي موازِ لعالم الواقع. الرواية لا تُروى من صوت المرأة نفسها، بل من أصوات من حولها كأن العالم لا يسمع صوتها، بل يراقب سقوطها في صمت، فاللغة التي تستخدمها هانغ كانغ، مفعمة بالتوتر والنعومة في آنِ واحد، فالكتابة عندها دقيقة كالشفرة، جافة أحياناً، لكنها قادرة على إختراق النفس.

الأبعاد النفسية: الجنون كتحرر

الرواية تتعمق في البنية النفسية لشخصية (يونغ هاي)، التي تبدأ رحلتها مع قرار التوقف عن أكل اللحوم إثر حلم دموي مرعب، لكن هذا القرار يتحول الى رفض شامل للسلطة الجسدية والاجتماعية. ثم تتدرج حالتها النفسية من العزلة والقلق الى الإنفصال التام عن الذات والواقع، في عملية يمكن قراءتها كتعبير عن إكتئاب حاد أو آضطراب ذهني، لكنها في الوقت ذاته تمثل ثورة صامتة ضد السجن المجتمعي.  من خلال ذلك، تطرح الرواية أسئلة كبرى عن الحرية الفردية والهويات المتمردة، وعن حدود ما يُعتبر (طبيعياً) أو (مقبولاً) في السياق الثقافي الكوري، الذي يميل الى المحافظة والأمتثال.

الحلم الدموي الذي تراه (يونغ هاي)، حيث تصف أشلاء الحيوانات والدم ينزف من فمها، هو نقطة التحوّل التي تدفعها الى رفض تناول اللحوم. كما في نص الرواية: (لقد رأيت دماً، رأيت لحوماً تتفكك، شعرت بأنني كنت آكل نفسي). لكن الأمر لا يتوقف عند هذا القرار الغذائي، بل يتطور الى رغبة في التحول الى نبات. هذا الرفض للجسد البشري ولرغباته يُفسر على أنه نوع من التمرد النفسي ضد القيود الاجتماعية، ولكن أيضاً كتعبير عن ألم عميق دفين. إن الرواية تستدعي في طياتها قراءات فرويدية، حيث يتماهى الكبت الجنسي مع الرفض الغذائي، ويتحول اللاوعي الى أداة مقاومة، وفي النهاية، تنغلق (يونغ هاي) على عالمها، وتغدو كائناً غير إنساني، نباتياً بالمعنى الوجودي. تقول وهي في المصحة: (لا أريد جسداً. لا أحتاج الى لحم. الأشجار لا تُقل دعوها لتعيش).

الدلالات الأدبية والرمزية، الجسد والسلطة والمجتمع

تحمل الرواية رمزية عالية جداً، (فالنباتية هنا ليست فقط موقفاً غذائياُ) بل هي صرخة رمزية ضد العنف، لا سيما العنف الذكوري والإجتماعي،  بدءاً من العنف الغذائي وإنتهاءاً  بالعنف الأسري والمجتمعي، والى الرغبة في التحول الى كائن غير مؤذِ، نقي، بل وحتى نباتي، (بالمعنى الحرفي المجاز). تحاول البطلة أن تتحرر من جسدها، من شهوتها، من كونها كائناً أنثوياً يُستهلك. فالجسد الأنثوي يتحول الى ساحة صراع، حيث يُستغل ويُعاد تشكيله بحسب هوى الآخرين.

تُمثل الرواية أيضاً صراع الفرد مع السلطة الأبوية والبطريركية، فشخصية الزوج، على سبيل المثال، ترى (يونغ هاي) مجرد أداة للراحة الشخصية، لا ككائن مستقل. أما الصهر فيحولها الى مشروع فني مشوّه، في النهاية تنفلت (يونغ هاي) من هذه الشبكة عبر إنهيارها العقلي، وكأن الجنون هو السبيل الوحيد للحرية.  في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية، كذلك، تفتح أيضاً تأويلات بيئية، حيث يمكن إعتبار رفض أكل اللحوم إعتراضاً على العنف البيئي والإستهلاكي، في إسقاط عصري على قضايا المناخ والحقوق الحيوانية.

الزوج على سبيل المثال، يعبر عن إحباطه قائلاً: (كل ما أردته منها أن تكون زوجة عادية. إمرأة تطهو لي وتخدمني. ما الذي حصل لها فجأة؟) أما الصهر، فيستخدم جسدها كلوحة جنسية من دون وعيها الكامل، في إسقاط واضح على العنف الجنسي الرمزي والفعلي. وكأن الكاتبة تقول، إن الجسد الأنثوي في الثقافة الذكورية يُستثمر كموضوع لا كذات.

تأثير الرواية وأهميتها الأدبية

من خلال روايتها، تُعيد هانغ كانغ تعريف حدود الرواية الكورية المعاصرة، حيث تدمج بين الحس الفلسفي والطرح النسوي والقلق الوجودي، وتُعد روايتها النباتية من أبرز الامثلة على الرواية التي تتحدى القارئ فكرياً وعاطفياً، فهي تجربة جمالية ونفسية غير مريحة، ولكنها ضرورية لكل من يؤمن بقوة الأدب. كما ألهمت الرواية العديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولتها من زوايا ما بعد الإستعمار، النسوية، البيئية، والتحليل النفسي، لتغدو واحدة من أكثر الروايات الكورية دراسةً وتفكيكاً في الغرب.

الفن كتحدِ للواقع والقوالب الفنية

رواية النباتية ليست فقط قصة عن الجنون أو الإنعزال، بل هي عمل أدبي يتحدى القوالب الثقافية والجنسية والاجتماعية، عبر لغة حسية وعميقة، وتصوير نفسي معقّد، تقدم هانغ يانغ نقداً مريراً للمجتمع الحديث، وتطرح تساؤلات وجودية حول معنى الإنسان والحرية والجسد والهوية. في النهاية، تبقى النباتية رواية مفتوحة على التأويل، تلامس القارئ من زوايا متعددة، وتبقى محفورة في الذاكرة كصرخة ناعمة ولكنها مزلزلة ضد كل أنواع القهر الممنهج.

رواية النباتية هي إستعارة كبرى عن التمرد الهادئ ضد السيطرة الذكورية، والخروج من نمط الحياة المستهلكة التي تفرضها المجتمعات الحديثة، وهي أكثر من مجرد رواية  الامتناع عن الطعام أو إنهيار نفسي، إنها عمل أدبي بالغ الرمزية، يُدين العنف البنيوي في المجتمعات المحافظة، ويُجسد صرخة أنثوية في وجه التملك والإستغلال، بأسلوب سردي مميز ولغة تختلط فيها الواقعية والرمزية، فهنا تقدم هانغ كانغ عملاً جديراً بالتأمل والقراءة المتأنية، يُعيد مسآءلة معنى الإنسانية والجسد والحرية.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في المثقف اليوم