قراءات نقدية

قراءات نقدية

بقلم: كاثرين شورد

ترجمة: صالح الرزوق

***

يرتدي مايكل كاين ساعتي يد: إحداهما لتحديد الوقت والثانية أبل لكل شيء غيره. قال لي باهتمام: حتى أنها تحدد نبضه. والآن تشير أن درجة حرارة الشقة تبلغ 26م: دافئة بما يكفي لتسكب له زوجته القهوة في دورقه، ولكنها ليست حارة لدرجة تسمح بفتح أبواب الشرفة تلك: "وإلا سوف تهب عليهم عاصفة لعينة هنا".

زلقت الأبواب وأغلقتها قليلا. سألته: هل هذا مناسب؟ أم أقوى. يكفي؟. المزيد قليلا. ضغطت أكثر. فشعر بالاطمئنان.

يعيش كاين في شيلسي هاربور. في شقة تعود للثمانينات مع صالة رياضة من النوع الذي تحبه ديانا أميرة ويلز. ويرتاح لنظام الأمان ولا يزعجه الحوامات. يغطي أرض الشقة اللندنية التي تحتل آخر طابق في البرج سجاد بلون الكراميلا، وترى منها مشاهد منبسطة بزاوية  360ْ، ولكن على الجدار شهادتا أوسكار و5000  صورة فوتوغرافية لأحفاده.

تحتنا يمتد جسر باترسي، المد منخفض، والشاطئ يلمع. أخبرني وهو يزمجر: أنه لم يكن ينفق وقته على الشاطئ وهو ينقب في الوحل. سألته: لم لا؟. فأولى رواياته ستصدر في تشرين الثاني وهي عن عمال نظافة يعثرون على اليورانيوم في النفايات هناك. قال بشكل غامض: "حسنا. آخرون يقومون بأعمال متنوعة وكل شيء يتم على ما يرام. ولكن إذا أنا فعلت ذلك ستكون النهاية سيئة".

نظر باتجاهي. كنا بانتظار شريكه المعروف جون ستاندنغ، الذي أخره الزحام. كاين رجل كبير يمكن أن تجري معه حوارا بسيطا. وخلاله، حين يتكلم، لا تشعر أن ذهنك في تيار من موجات قصيرة (مايكل كاين ؟!؟!)، فهو في الـ 90، وطوله 6 أقدام و2 بوصة، غير هياب، وبكل بساطة استفزازي.

ألقى عام 1987 محاضرة كشف فيها عن سر قوته على الشاشة. كان 1) لا يطرف بعينه 2)  وله نظرة داكنة شديدة السواد. وكانت المحاضرة على الخشبة وجها لوجه. وهي الأولى من نوعها في كل حال.

قال كاين: خلال قصف لندن كان يراقب المدينة من مأواه في كامبرويل وهي تتداعى. من هنا يراها تنهض مجددا.  وهو مغرم بالبناء الحديث والأثاث الرقيق ولديه ذكريات رجل عاش في سقيفة بلا ماء ساخن، مع دورة مياه خارجية وألم في العظام. وكلما سقطت قنبلة، يقفز الفراش. "كنت أنا وأخي نضحك خلال الهجمات الجوية اللعينة".

توضيح: سيصل ستاندنغ قريبا. امتدحت أصيص النبات فتباكى كاين على حديقته. فقد أخلى بيته إلى بيركشير، وهناك كان يأكل علبة سردين يوميا، وفي أيام عطل الأسبوع يمكث في خزانة مغلقة. ثم نقلوه إلى ريف نورفولك، حيث اكتشف هيامه بالبساتين - ثم في وقت لاحق اهتم بنفسه وبذل جهده لترتيب بيته في أوكسفوردشير وسوري Surry.

ولكن الأمر ليس كذلك في هوليوود. فقد باع هناك بعد أن أخبره أحدهم أنه إذا أراد ان يزرع النرجس البري عليه أن يضع البصلات في الثلاجة لأسبوعين. "هذا هو الشرط. آخر قشة".

ولكن هل امتثل للأمر؟. قال: "آه. نعم. ونجحت".

ودخل ستاندنغ. كان 89 عاما. متلعثما مثل مبتدئ. واعتذر بتهذيب بالغ. ثم جلسا معا. وتبادلا الكلام عن الطقس، وانفتحت نافذة خلسة. تأمل كاين الآي باد الخاص بي، واعتقد أنه هاتف. قال: "يا إلهي. هذا جهاز كبير".

ثم أعربت له عن سروري بفيلم "الهارب الخطير". أدهش كاين أنني شاهدته ناهيك عن استمتاعي به.

قال: "حقا؟".

قلت له: "نعم. ولكن أنا أستمتع بأفلام لا يحبها الآخرون".

لا أستغرب أن الفيلم أغراهما بالتقاعد: الأدوار الدسمة لا تأتي حينما يقترب عمرك من 100.  لعب كاين دور "بيرنارد جوردان"، وهو مقاتل حقيقي من البحرية الملكية، وقد صنع عناوين الأخبار عام 2014 حينما سافر منفردا من بيت الرعاية الذي يقطنه في هوف، من إيست ساسيكس، إلى نورماندي للاحتفال بالذكرى 70 ليوم النصر. الفيلم - متماسك أكثر مما تظن، ومؤثر - يسرد حكاية صداقة مع آرثر، الذي التقى به على متن السفينة، وهو قبطان سابق في القوى الجوية الملكية (يمثله ستاندنغ). 

أدى الممثلان خدمة العلم في برلين بعد الحرب. ثم نقل كاين إلى كوريا - قال: "سفلة" (وهذه عبارة مخففة وردت في مذكراته). "حينما بلغنا المكان قالوا هناك: أرسل الصينيون مليون جندي. ماذا؟. كانوا أطفالا وكبار سن، ولا يمكن هدر ذخائرنا عليهم. لكن أطلقنا النار عليهم ثم جاء المقاتلون الحقيقيون. صينيون متمرسون".  

في الفيلم يحج الاثنان إلى مقبرة الشهداء في بايو في النورماندي. يصيح برنارد: " يا للخسارة". وتقترب الكاميرا لنشاهد صفوفا من شواهد القبور. لا يوافقه كاين. ويقول: "من المفروض أن يكون لدينا مقابر مزدحمة بالأموات لأننا قاتلنا الجيش الألماني، وهو ليس جماعة من الحمقى. ويجب إيقاف الألمان عند حدهم".

سألته: وكوريا؟. يقول ستاندنغ: حسنا  الشيوعية "مرعبة تماما".

يوافقه كاين بصمت. "إنها لا تعتني بالطبقة العاملة كما يزعمون. كان والدي صياد سمك في بيلينغزغايت. وحينما قابلت  الشيوعيين علمت أنهم لا يعلمون عما يتكلمون. هل يوجد شخص واحد من الطبقة العاملة يرغب بالحياة في شمال كوريا؟".

ويعتقد كلاهما أنه يجب العودة لنظام خدمة العلم. قال كاين: "لأنه يمنحك فهما جديدا للحياة. واليوم ألاحظ اختلاف طرق حياتنا.  نحن متحررون جدا. ولكن الخدمة العسكرية تجعلك تؤمن بمساعدة الآخرين. أحفادي - لا يعرفون شيئا غير كرة القدم" (يضيف لاحقا: لا يزالون كذلك. "عجيب، لا يصدق، يهتمون بأمر الآخرين - وهذا شيء يمكن أن أفهمه").

يقاطعنا ستاندنغ: واحدة من بناته "حكيمة قليلا" حذرته من التصرف الطائش. "فظيع. من غير المقبول أن نقول شيئا. تألمت من ذلك. يا إلهي أنت غير حر . وإلا نبحت عليك الكلاب".

مجددا. عاد للموضوع السابق. وقال كاين: "كانت الأمور أقل تعقيدا" قبل 70 عاما. ابتسم بمكر وأضاف لكن "هاتفك يلفت النظر. لا أتخيل شيئا أكبر منه ولا في أحلامي. ويعطينا كل المعلومات التي نريد. يمكن أن تكلمي به هنري الثامن. هل رأيت رجلا من الخشب والحديد يلعب لعبة سهلة كالبينغ بونغ ويهزم بريطانيا عاديا أمامه؟".

أنا لم أشاهد ذلك. ويقر كاين ببعض القلق من الروبوتات - وهذا جزئيا موضوع روايته، التشويق. "لكن أنا في ال 90. ولا أخاف من المستقبل. وأخشى أن لا أعيش حتى يحين وقت الغداء".

التقى كاين وستاندنغ أول مرة في يوم حار، من صيف 1976، حين شاركا في فيلم حربي آخر هو "هبوط النسر على الأرض". أدى كاين دور نازي يتشوق لاغتيال تشرشل، أما ستاندنغ فأدى دور قس ضعيف. كانت ذكريات التصوير قليلة، ولكن اتفقا أن صناعة الأفلام لم تتبدل كثيرا.

قال كاين: "أنا أخلق عالمي. وإذا استعانوا بي، عليهم أن يتركوا لي حرية الأداء. وإلا سأفشل. وحتى إذا تصرفت بحريتي، قد أرتبك أيضا".

ضحك كلاهما. قال ستاندنغ: "آه منك يا عزيزي مايكل".

سألت هل طرأ عليهما تبدل.

تنهد ستاندنغ وقال: "فقط بلغنا من العمر عتيا".

قال كاين: "ولكن نحن كما نحن".

"وهذا عجيب. كل رفاقي خبز أسمر".

"آه. الجميع. شين كونري. روجير مور. الجميع ماتوا. شيء مذهل".

سألت وكيف تشعران حيال ذلك؟.

قال كاين: "بالوحدة. تناولت الليلة السابقة الغداء مع ثماني نساء. شاكيرا أحضرتهن. ليس أنا. وهن زوجات أصدقائي. غالبا ما أجلس على طاولة مع الكثير من الأرامل".

أكد ستاندنغ قائلا "مئات النساء حول شخص واحد. والآخر جالس هناك ويفكر: أريد استراحة. اسألوني عن شيء ما. أي شيء".

يوافق كاين. "اسألوني عن كرة القدم. ولكن أنا سعيد مع البنات. وأحبهن".

مجددا: يستشير مذكراته لمزيد من التفاصيل. ولكن وجد أنه عبر عن ما يريد. أمضى كاين الخمسينات والستينات وبواكير السبعينات يحوم حول الجذابات في قارات العالم. وفكر بعلاقة  مع ناتالي وود ونانسي سيناترا وكان يشحن نفسه بالفودكا مع تيرينس ستامب وبيتر أوتول.

وحينما قال في 1972 إنه تعب من حياة العزوبية أمكن أن نصدقه - لا بد أنه كان منهكا. ثم حصل على ليلته. شاهد بيت ماكسويل في إعلان في التلفزيون، وقرر أن يسافر إلى البرازيل في الصباح التالي ليتزوج من المرأة التي تهز الخشخاشة. قال له شاب: لا توجد ضرورة. هي هندية وليست برازيلية. وتعيش في فولهام رود في غرب لندن.

أعتقد أن هذه الحكاية مثل أخبار كاين التي يخبرنا عنها في برامجه الحوارية المنتظمة. واليوم خصنا بهذا الخبر. قال: "لقد تابعتها حتى وجدتها. شيء لا يصدق". كاين يشبه علبة موسيقا خاصة - الحكايات تبدأ من ذكر عابر لكاري أو لاري أو فرانك - ولكن نظرا لما لديه من مخزون، يصعب أن تقاطعه. مع أنه يسليك يتحكم بالحوار كله - وتقبل ستاندنغ ذلك.

سألته: هل يحن للستينات؟.

قال: "لا أشتاق لها. ولكن أحب أنني عشتها. كنت أتورط بمشاكل مستمرة".

تزوج بشاكيرا قبل أكثر من 50 عاما. التقدم بالعمر أقل مرارة، وينصحنا بقوله: "إن تزوجت بإنسانة جميلة حقا لن تكبر بالسن.  كنت أستيقظ كل صباح وأراها أمامي". صحيح: شاكيرا 76 عاما وتبدو صبورة بشكل مذهل وساحرة. أضاف: "ما أعشقه فيها أنها ذكية جدا. كانت سكرتيرة في… نسيت ما هو موطنها الأصلي (ولدت شاكيرا في غويانا البريطانية وتسمى الآن غويانا)، كانت سكرتيرة في السفارة الأمريكية، ورأيت أنها سكرتيرة ممتازة لي. كانت تدير كل شيء، هذا فوق العقل".

في حبكة "الهارب الخطير" زواج آخر طويل، طرفاه بيرني وإيرين، وتمثل فيه غليندا جاكسون، وكان آخر أفلامها. عملت هي وكاين معا طيلة 48 عاما مضت. قال: "كانت شابة وجميلة جدا. جذابة جدا. ممثلة هامة ولعينة. ولكنها اشتراكية ويسارية وأنا لا أفكر إلا بجني النقود لأن خلفياتي الاجتماعية فقيرة للغاية". ولكن لم يتكلما بالسياسة أبدا - كانا مشغولين بالتمثيل. وقابلها قبل وفاتها بخمسة أيام في حزيران: "كانت تبدو معافاة". وما يخفف عنه أنها رحلت بسرعة دون وقت للتفكير.

بيرني وإيرين زوجان مخلصان. ومع أن الفيلم لا يتطرق إلى ذلك، كانا بلا أولاد. هل هذا أثر في ديناميكية الاثنين؟. قال كاين: "آه. كثيرا. لا يوجد كلام عن أحدهما بمعزل عن الآخر. كل الوقت أحدهما يتكلم عن رفيقه. ولا يجب أن تحكمي على مشاعر أي شخص حيال غيره. هذا يخصك وحدك".

هذه فلسفة عميقة، ولا سيما أنه كان شخصيا "محاطا بأولاد مثل نار ملتهبة". ولدت دومينيك أكبر بناته وهو بعمر 23 عاما، خلال زواج قصير مع الممثلة باتريشيا هاينز.  وأنجب من شاكيرا ابنة ثانية اسمها ناتاشا، وأخبرتني شاكيرا لاحقا أنه يستمتع بمرافقة أكبر أحفاده من المدرسة إلى البيت في آخر الأسبوع. قال كأنه يدلي بشيء هام: " أنا أحب الأولاد".

همهم ستاندنغ بالموافقة. فهو متزوج منذ عهود. قال السر  هو "أننا نضحك معا".

كان كاين أقل إيمانا بذلك.  قال"لا تجادل. ولا تحاول أن تبرهن بالجدل أو اللغو. هذا شيء بينهم".

قال ستاندنغ: "لكن النساء رقم 1 في كل حال. هن المكان الوحيد لإنتاج الاطفال".

وافق كاين.

قال ستاندنغ: "لكن يجب الآن أن أعترف. مايكل: هل رأيت ماذا بمقدور النساء أن يصنعن حاليا؟". جمد بموقف دراماتيكي. فهو مناضل من الويست إند، واختصاصه الكوميديا الخفيفة. قال: "القتال في قفص". التفت نحوي وأضاف: "ماذا يجعل جنسك يذهب بهذا الاتجاه؟. الرجال لا يفكرون بقتال الأقفاص. أما النساء - بم، بم، بم، يضربن وجوه بعضهن البعض. دون وعي. وهذه هي حياتنا الحديثة".

سألت هل شاهد كاين ذلك؟.

قال بملء فمه: " آه. نعم. على شاشة التلفزيون.".

ثم؟.

"صدمني".

"لماذا؟".

"لن أفعل ذلك مع الآخرين. حتى لو كنت لا أحبهم. سألقيهم أرضا وأتابع في طريقي".

الموضوع الحقيقي لفيلم "الهارب الخطير"  - حتى لو لم يظهر في البوستر - أن الهرب الوحيد الممكن من التقدم بالعمر هو الموت. تابع كاين وستاندنغ تقديم الأعمال التي ستستمر بعد رحيلهما. كتب كاين أولى رواياته وهو طريح الفراش خلال الإغلاق،  وحاليا يكتب الثانية. ستاندنغ رسام محترف. ولديهما ست أولاد معا. هل أحد هذه الاستثمارات يقترب من الأفضل أو الأسوأ خلال البحث المحموم عن الخلود؟. قال كاين: في ذهني نقطة واحدة فقط، "التهذيب". وربما الحياة. وأنشودة عيد الميلاد الحمقاء.

قال ستاندنغ: "عزيزي مايكل. قلت لإحداهن في يوم ما: هل سمعت ببيتر أوتول.؟. قالت: حسنا. سمعت بالاسم. ما أن تموت يعني أنك ميت. فكر ببوغارت. لكن فقط الشباب يعرفون غوز. ما اسمه؟ غوزلنغ. الأسماء الكبيرة في مسرح غيلغود لا تعني شيئا".

يعتقدون أن تلك المهنة وتلك الطبقة صنعا التاريخ. سألته: من هو النسخة التي تشبهه الآن، أقر بعدم وجود أحد. "لأنه لا يوجد الآن شباب يتصلون بماضي المجتمع البعيد، ويقفزون إلى الأمام بخطوات واسعة. أعتقد أن نوعي قد انقرض. ولا أستطيع أن أفكر بإنسان يعيش حياة تشبه حياتي".

قال: لم أكن أعاني من الجوع فقط، ولكن هناك كوريا، وبعد ست شهور، المالاريا (تقريبا لقي حتفه). "وهذه الحلقات لا تنتهي كما تعلمين؟ حتى يحين الأجل المناسب".

ولكن لم يئن الأوان. بقي كاين أيقونة وقت وطاقة تنحو نحو الغرائبية باضطراد. لا يزال يقول عن نفسه طبقة عاملة ويقلق من احتمال خيانة ممكنة لجذوره. ويقلقه مصير ستانلي أخيه. "وقف هناك وحسب وراقب كيف أصبح مليونيرا بينما هو عاطل عن العمل. وتحول إلى إنسان مشلول الحركة. كان يجب أن أغيب عن ناظريه ليتحرك".

مرة كان كاين يشتري كنبة وظهر ستانلي - وكان متواريا لفترة- وكان مع جماعة يأتون من الخلف.  قبضت عليه. قلت له: يجب أن لا تكون هنا. كم كان الأمر فظيعا. لم أكن أعلم أين توارى عن النظر.

"أصبح كحوليا. اشتريت له بيتين: أحدهما ليعيش فيه وأحدهما للإيجار ليحصل على نقود ليشتري بها المشروب". احمرت عينا كاين وأضاف: "كان أصغر مني بثلاث سنوات. مع ذلك مات قبلي منذ خمس سنوات".

وهناك دافيد وهو أخ أكبر بالعمر. ولد وهو يعاني من صرع حاد وأودع في مصحة. ولم يعرف به كاين إلا بعد وفاة أمهم - كانت تزور دافيد سرا كل أسبوع. حاول كاين أن يوفر له سبل الراحة الممكنة. أنفقت أمه سنواتها الأخيرة في أحد البيوت التي اشتراها لها وعين لها وصيفة لديها ابنان صغيران" وقد أحبا أمي كأنها جدتهما. وكنت سعيدا جدا بذلك. لقد فعلت ما أمكنني للجميع. وهذا كل شيء. وها أنا أجلس هنا، وقد أديت واجبي. ولا يمكن أن أفعل ما هو أكثر".

"الهارب الخطير" حسب الأقوال الشائعة آخر أفلام كاين، مثلما حصل مع هاري براون عام 2009. لكنه أضاف لتاريخه 24 فيلما تاليا - الأكثر مشاهدة كان في عام 2021. لذلك هذا ليس آخره. فهو سيصور فيلما في كانون الثاني: "وهو عن إنسان مشهور لم أسمع به من قبل. شارلز، شارلز..".

قال ستاندنغ: " … داروين".

"نعم. سأمثل دور شارلز دارون. وهذا كل شيء. لن أمثل بعده".

سألته هل هو متأكد؟.

أجاب: "كلا. لكن المشكلة هي هل يمكن أن أفعلها؟. هل يمكن أن أتذكر كل السيناريو؟ فقد اعتدت على الكسل والمكوث في السرير حتى 11 صباحا والسهر لوقت متأخر في الخارج. وأنا أحب ذلك".

في "الهارب الخطير" تذكر جاكسون مقولة عن متع الحياة في مقتبل العمر، لكن ما أن تبلغ مرحلة متقدمة "ينتابك اليأس".

في الجلسة الحالية ظل غريب من هذه العبارة.

قال كاين: "آه يا إلهي. أنا مستمتع جدا". يوافقه ستاندنغ. تنازله الوحيد أمام التقدم بالعمر هو التخلي عن رقصة النقر - ولكن أشتبه أنه سيفعلها محرجا في حالات استثنائية.

كلاهما لا يمكنه التفكير بموقف مؤسف بسبب التقدم بالعمر.

قال كاين: "لا أحد أضر بمشاعري".

قال ستاندنغ: "لا يبدو أننا نحتاج للمساعدة".

في حالة كاين هذا ليس صحيحا تماما. جسمه ناعم، خداه منتفخان - "كنت محظوظا جدا لأن كل وجهي لم يسقط" - كانت عروض "الهارب الخطير" حافلة بلقطات قريبة رائعة. ومع ذلك هو يستعمل العصا والكرسي المتحرك. ولم يشعر بالخجل من رؤيته وهو يستعين بهما. قال: "كلا. هذه حياتي وأنا أفعل بها ما أريد".

قال ستاندنغ: "أعتقد أنك جريء لدرجة الجنون. كلام رجل لرجل يا مايكل. شيء يثير الإعجاب أن تقول: 'لا يهم، سأمثل هذا الفيلم'. رغم كل تلك المشاكل".

أعتقد أنه على صواب.  بالنسبة لشخص معروف - ومألوف - مثل كاين، الضعف غير الملحوظ دليل على الشجاعة.

قلت: من المؤسف أن صعوبة "الحركة" كانت السبب الذي منع الملكة من حضور مناسبات مختلفة في نهاية عمرها - لا يمكن أن نفهم أنها على كرسي متحرك.

لم يرغب كاين أن ينتقد الملكة. بل روى قصة أول لقاء تم بينهما، في حفل غداء، حينما طلبت منه أن يخبرها بطرفة. ولم يخطر له طرفة نظيفة. "أشارت لرجل على جانبها الآخر وقالت: سأكلمه على انفراد. وسأعود بعد خمس دقائق وأريد طرفة منك".

لا أعلم كيف كان الانطباع الذي تخلف عن مايكل كاين عند الملكة، ولكنه بالتأكيد مرعب جدا. قلت له بعد أن انتهى من الطرفة (كانت طويلة وعن الدجاج): هذا مخيف.

وسألته: هل رأى بينهما تشابها؟.

قال: "يعتقد الجميع بوجود تشابه بينهم وبين الملكة".

لكن ستاندنغ، وهو بارون فعلا، اعترض على ذلك. أما كاين فيعتقد أنهما يشتركان بأمر ما - ربما هو الإحراج والتحفز الذي يشعر به الآخرون إذا ظهرا - هو أو الملكة. هذا هو الأثر الذي تركه "الهارب الخطير".  قال آرثر في الختام (شخصية في الفيلم ويؤدي ستاندنغ هذا الدور): لقد حرك بيرني في الناس أفكارا عميقة، دون عمد.

سألت هل لكاين علاقة؟.

قال: "لا أعلم. ربما نعم لكن بقدر قليل. ولكنه ليس سارا. وأنا لا أقوم بأفعال غير سارة".

ولكن تعتقد أن لديك تلك المقدرة؟.

"نعم. آه. نعم".

وماذا يبدو ذلك؟.

قطب وجهه وقال: "مريح".

انتهى وقتنا. نظر كاين لساعته. قال: "28ْ درجة مئوية. والنافذة اللعينة مفتوحة".

***

....................

- عن الغارديان الجمعة 29 أيلول 2023

- كاثرين شورد Catherine Shoard محررة صفحة الأفلام في جريدة الغارديان البريطانية.

ترجمة: صالح الرزوق

1- بين الانتشاء بالخلق والاحتفاء بالجسد:

لئن كانت المرأة في ادبنا العربي بصفة عامة الشخصية المراوغة المحتمية بظل الرجل فإن امرأة المسعدي ميمونة تبدو في هذا المقطع من الجزء الخامس من كتاب "السد" المرأة الشجاعة الصادقة مع نفسها التي يدفعها صدقها غلى القسوة على غليان و"سده" و"فعله" في موقف لا مجال فيه للتغافل والتجاهل فإذا هي تدعوه بعد تفكير لكي يمارس معها "الجنس" و"الحب" وإذا هو يرفض ذلك بكل إيمان وصلابة فكيف دافع كل منهما على اعتقاده؟ فإذا كانت ميمونة وغيلان يمثلان ثنائية في الإنسان فكيف يمكن تجاوزها؟

لم يكن هذا النص بداية الصراع بين بطلي "السد" "ميمونة" و"غيلان" بل نهايته وذلك لمسحتي الحزن واليأس اللتان تغشيان المناخ المحيط بالطرفين واللتان توحيان بقرب الانشقاق وحل الروابط التي كانت تجمع بينهما.

بدأ النص بالصمت المطبق بين الطرفين وهو الذي قطعه غيلان بمبادرته بسؤال ميمونة في ما تفكر. والصمت أثقل وطأة على غيلان من الكلام. فميمونة تفكر في رعونة غيلان وكبريائه. فهذا السد "قائم" شامخ مستو يعانق زرقة السماء وغيلان "متخم" بنشوة الفعل "والخلق" يقف وقفة خشوع وتأمل وزهو أمام صنعه ساعة "تمام الصنع والخلق " وميمونة فقدت صبرها وجلدها وقد تكرّرت دعوتها مرات ومرات ولكن السد حال بينها وبين غيلان فكانت محاولاتها لا تنفذ إلى قلبه ولكنها لم تياس بل تحاول من جديد لأنها تشعر بأن وجودها لا يتم إلا بغيلان فهو مكملها وهي مكملته كما أنها تخاف عليه من السد ومن التردي في "الزيف"و "الخيال" وأخيرا وقد اعوزتهما الحيلة تلتجئ إلى سلاحها الخاص بها وبكل مراة الجنس "دودة" غيلان ودودة الإنسان وداؤه. كانت دعوتها بعد تفكير فجاءت مسلحة بشحنة فكرية وعاطفية قوية ثقيلة الوقع على غيلان قاسية عليه تدعوه فيها إلى "الكهف" غيلان الذي يصوب نظره دائما إلى السماء ويهزأ من الأرض ومن الجسم لأنه يعتقد بأنه ليس إلا "عقلا" خالصا و"فعلا" خالصا. في حين أن ميمونة تحاول أن تنبهه إلى انه جسم ممتد مثل سائر الأجسام ويتحتم عليه أن يعترف بالحيز المكاني الذي يشغله وبقية الموجودات التي حوله هي تدعوه إلى جوف الأرض إلى "الكهف" وفي حركة الدخول انحناء الرأس وفي ذلك خضوع واستكانة وإذعان وفي ظلمة الكهف رضاء بالحياة بظلامها ونورها وخيرها وشرها وجمالها وقبحها وهي تسأله قضاء يوم واحد وهنا إشارة إلى الزمان وكيف أن اللذة لا تدوم فهي عاجلة. فلذة فترة قصيرة تعقبها آلام طويلة مبرحة ورغم ذلك ترى ميمونة بأنّ على غيلان بل على كل إنسان ان يكون صادقا مع نفسه ولو لفترة وجيزة من حياته. إنما المأساة الحقيقية في أن نقضي حياتنا كلها في "الخيال" و"الزيف" دون أن تكون لدينا الشجاعة على مجابهة مشاكلنا وقبول الضعف اللاصق بنا بكل شجاعة بل ترى ميمونة بان لا بد لهما من أن "يتجردا" من ثيابهما ويعتكفا في الكهف ليعيدا الإحساس بجسديهما ويتمرغا في الظلمة و"الغبار" والأرض ويعتزلا السد والآلات والعمال وصياحهم ويقلعا عن الكلام ليسمعا صوت الحياة صوت "الصدق" صوت "الكون " يدعوهما إليه لكي يتعاطفا معه فيمارسان لذة الحب. ونلاحظ من خلال هذه الدعوة انفجار طاقة ميمونة الجنسية التي كبتتها طيلة عشرتها لغيلان فتجلّت لنا المرأة العاشقة التي تريد أن تثأر لجنسها ولحبها ولجسدها الذي هزأ به غيلان. وتريد أن يأتيها غيلان مخذولا عاريا من السد إذ السد غريم ميمونة كما نلاحظ ان نوع الحب الذي تدعو إليه ميمونة هو حب ذاتين حرّتين متساويتين ومفهوم الحرية عند ميمونة هو في التخلص من قيود الخوف ومغالطة النفس والمماطلة في مجابهة النفس بنقصها وعجزها وبمحدوديتها. هنا تكمن الحرية فاعتكافها في الكهف هو من أجل "التطهر" "كطهارة الوحوش" و"الحيوان " و"الأرض" و"النور" و"النار" فميمونة مارست هذه الطهارة في تجربتها الحسية الوجدانية مع الكون تعرت وخرجت "للهواء" "للنار" و"النور" منفتحة على الطبيعة بكل حواسها متعاطفة معها بكل أحاسيسها في حين أن غيلان متفرغ إلى سده وإلى عزمه وزيفه يخفي وراءه عجزه وعورته ويصنع سدا منيعا بينه وبين العراء لكن السد ليس إلا وهما أمام العراء الطبيعي عراء الجسد عراء "الكون " لذا فميمونة تدعوه كي يتخلى عن سدّه ويتطهر "بالنور " لا بالماء لان الماء في كون الآلهة كون النور والنار آسن "لعين" "ملعون" لا يطهر ولكن غيلان يرفض دعوتها ولذلك لم تنجح ميمونة في إحباط عزائمه لان إيمانه بالإنسان أقوى من كل شيء فالسد قائم والعقل قائم وغيلان مازال يتجاهل ضعفه وواقعه إذ الواقع لديه هو الممكن والخيال لذلك فقد ضحى بنصفه الآخر ميمونة شكّه وحيرته ليبني على أنقاضها سدّه المنتصب في خيلاء ومع ذلك فهو يحس بثقلها عليه ولكنه يتعامى ويتصامم لقد فصله السد عن الكون فإذا به غريب عنه لا يتعاطف معه ولا يفهمه فعلاقتهما ببعضهما علاقة عداوة.

فغيلان يعيش تجربة "خلق" ويرى بان التفكير والصمت والجلال من صفات السد هنا السد هو لحظة الصمت ولحظة "الخلق " ولحظة "إفراز القيح " لذا فقد هزأ من ميمونة عندما صمتت وفكرت وهو المتعالي والمتسامي عن بقية الموجودات. يريد أن ينفرد بذاته "فيتوحد" لكن غيلان لهو "العتي" و"الكبر" لقد أخذ به الغرور كل مأخذ فأعماه عن واقعه لو نظر غيلان إلى الأرض لو لبى دعوة ميمونة لرأى قامته ممتدة لاصقة بالأرض تلامس الكون والوجود ولرأى ان ميمونة نصفه الذي لا بد منه ولكنه لا يرى غيلان يفكر دون أن يرى فحمل "فرحه" أكثر من طاقته فإذا به "الخيال" و"الوهم" و"الزيف" إذ كيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من جلده كيف له أن يهرب ويتفصّى من جوهره الأصلي هو هذه الثنائية هذا التلاقح بين الجسد والعقل فإذا فقد أحدهما لم يعد للإنسان معنى. فهذه الثنائية في الإنسان تجعله دائما متردّدا بين الألوهية والحيوانية تشدّه المادة إلى الأرض وتحتم عليه سبل التصالح مع الكون والانفتاح عليه وترفعه القوة و"العزم" و"الإرادة" "الإنسانية " اللامحدودة إلى حمل القرح على أن "يفرز قيحه " "فيفعل" و"يخلق" و"ينشىء" ويبني" السدود ينازع بها الآلهة ويقضّ مضجعها "لإثبات وجوده ولعل فشل غيلان يتمثل في "لا إنسانيته" إذ هو يهزأ من الجماعة ويعتقد في وحدانيته بالإضافة إلى أنه حاول التخلص من نصفه ميمونة فبقي شطرا وحيدا يصارع الأهوال والعراقيل والسدود فقضى على نفسه وعلى سده بالفشل. وفي الحقيقة ما وجود الإنسان إلا في مكانته الوسطى بين هذين القطبين الذين يمزقانه بصراعهما وما جوهره إلا هذا الصراع والجهاد من أجل تكوين شخصية معتدلة ومتزنة. لذا فالإنسان الحقيقي لهو ميمونة وغيلان متحابين متصافيين في حبهما وجنسهما وفعلهما وإرادتهما بين الكهف والسد بين الجبل والوهد بين الماء والنار والنور يأخذان من الطرفين ويتمتعان بأجمل ما في الكون ويتجاوزان المصاعب والعراقيل بعزم وقوة.

2- الصراع بين الانشداد إلى الوجود والتوق إلى المنشود:

التزمت ميمونة الصدق فقررت ان تكون نارا على كل من يحاول أن يخادعها أو يخادع نفسه ويحملها على الزيف والكذب.

و لقد كان هدفها من بداية مسرحية "السد" غيلان تصارعه رغم الحب ورغم الجنس ورغم كيانها وجوهرها كامرأة وصمت منذ القدم بوصمة التبعية ولكنها في هذا المنظر السادس من كتاب السد تقول "يا غيلان بلغت جهدي كفاني التصاعد والتعالي كفاني ! "

فإن كانت ميمونة تشكو الجهد والتعب والمعاناة فماهي معاناتها وماهو جهدها وتعبها طيلة عشرتها لغيلان؟ وما هي أبعاد هذه الشخصية من خلال كتاب السد؟ وماذا يمثل كل من ميمونة وغيلان؟ لقد أدركت ميمونة من البداية أن علاقتها بغيلان لن تكون علاقة حب صافية لا تشوبها شائبة لانها لمست اختلافا جوهريا بينهما يحتم عليها ان يكون موقفها موقفا حازما لا مجال فيه للتخاذل والتجاهل لان القضية قضية وجود أو عدم.

فاختارت أن تكون على غيلان لعنة وخزيا وحيرة حتى يرجع إلى رشده ووعيه رغم ما في هذه المغامرة من مجازفة لان غيلان مفعم بنشوة الفعل والخلق يريد تحقيق الممكن وبناء سد يحبس الماء ليحول القحط إلى خصب والجفاف رواء ويحول عالم الآلهة عالم النور والنار إلى عالم سد وماء ورواء لا يشوبه غبار الأرض الكالحة ولا لفحات الشمس المحرقة. لقد انتصب غيلان بين الجبل والوهد يخطط لبناء سد يصل إلى السماء ويفرض نفسه على كون الالهة "صاهباء" ويتيه به على الجبل وعلى صاهباء وهواتفها ولقد أحست ميمونة منذ البداية بخطر ما هو مقدم عليه فحاولت أن تثنيه عن عزمه ولفت انتباهه إلى الجبل قائلة " إنه جبل وليس بجبل " لقد أدركت ميمونة بان عالم غيلان عالم معاد له مهيمن على الإنسان والحيوان والطبيعة عالم الآلهة حيث يتحول فيه الجبل إلى "غول" يغتال غيلان ويحبط أعماله ويبعث فيه الضعف والوهن إنه صورة لخلق صاهباء وعتوها وعظمتها وليس لغيلان أن يحاول محاكاته آو التمرد عليه ولقد كانت ميمونة في البداية تشعر غيلان بزيفه وصلفه وتحذره مغبة استهتاره واستهزائه بصاهباء ولكم حاولت إقناعه بان أهل الوادي قانعون راضون وان ضعفهم إنّما هو عين التطهر وأن لا سبيل لتغيير نواميس الطبيعة. و لكن غيلان صامد يبني سده بكل إيمان وقوة معتقدا أن النواميس لا بد لها أن تتغير وان التطهر يجب أن يكون بالماء فالماء وحده هو القادر على التطهير وبعث حياة جديدة مبنية على الأمل والثقة بالإنسان وإمكانياته ومستقبله فما كان من ميمونة إلا أن تسايره في طريقه الوعر هذا الطريق الذي جبن عنه الكثير ولعل ذلك راجع لاستحالتة وبعده عن الواقع. وكيف لها ان تتركه وحده وهي تحس في قرارة نفسها بأنه نصفها الذي يكملها؟ لقد تبعته على مضض كالأم التي تراقب ابنها وتخشى عليه من مغبة غروره أن يلحق به أذى والمرأة التي تشعر بان زوجها هو قدرها الذي يجب أن تتبعه حيثما كان أحبت ذلك أم كرهت.

ولقد حاول غيلان أن يجعلها تعيش فعله وخلقه وأن يثنيها عن عزمها ويقنعها بوجوب مساعدته إلا أن عاطفتها لم تذهب بها إلى الحد الذي يجعلها تستجيب إليه. لقد كانت تخذله وتفضح عجزه وزيفه وتفتخر "بعرائها" وتجردها وتفاعلها مع الطبيعة

لقد تعرت ميمونة وخرجت للكون تتطهر بالشمس والهواء تحاكي "الصّفاة " و"النّسر" و"الحيوان " تناغي الوجود وتتمتع بنقائه وجماله الحسي ولكم أرادت أن يشاركها غيلان ويصل معها إلي قمة اللذة بأن يشاركها "تجردها" و"تطهرها" فيفعلا الحب والجنس محاكيين في ذلك النار والتراب والحيوان فيكونان صادقين إلى أبعد حدود "الصدق" قويين إلى أبعد حدود القوة ولكن هذه الدعوة بقيت بدون صدى لان غيلان لا يحس. غيلان يفكر وغيلان لا يلتفت إلى الطبيعة ولا ينظر إلى الاسفل إنّه ينظر إلى الأعالي ويركز اهتمامه على صاهباء كأنه يريد أن يستعيد شيئا سرقته منه أو كانه يتحين فرصة غفلتها ليختطف منها قدرتها وخلقها ولكم فشلت ميمونة في تحسيس غيلان بوجودها ووجود الطبيعة والكون حولهما وكأنها لم تجد منفذا تصل به إلى قلبه لقد حاولت ذلك عن طريق العقل ففشلت وحاولت ذلك عن طريق الحس فانهارت وإنها لأثقل طعنة توجه لميمونة ولكل امرأة أن تطعن في الحس والجنس ولقد عبّرت عن هذه المرارة في حلمها. ولقد صحبت ميمونة غيلان في رحلته إلى الفعل والخلق وكانت تعتقد أنها تفرّ بحبّها ولكنّها كانت "تخونه"في لاوعيها حينما تمنت أن يأتيها غيلان مخذ ولا عاريا بدون سد فتختلي به لنفسها وقد أصبح جسدا خالصا فيكون الفوز ويكون الانتصار ولعلها تمنت أن يفعلا سدا حسيا وأن تنجب أطفالا فتكتمل ماهيتها وتحقق وجودها فتقوى بذلك على الضعف وتواجهه بكل صدق ولكن ذلك بقي حلما وبقي غيلان كما عهدته هازئا صارما متصلبا ليس لتحويله عن عزمه سبيل.

ولقد استعانت ميمونة بالعمال وبصاهباء وبالظواهر الطبيعية مثل الأعاصير والرعود التي نالت من السد ولكنها كانت كلها تمثل لدى غيلان فترة من الضعف والهون لا تلبث أن تتبدد أمام بأسه وعزمه وقوته وعناده. لقد لازم الأمل غيلان وعلق به علوق الجوهر فليس إلى انفصالها سبيل. فإذا به يتعامى ويتصامم ويتجاهل كل ما حوله مفتونا بفكرة الفعل والخلق. و لقد أحست ميمونة في الآخر بان صحبتها له أصبحت مستحيلة وأن لا سبيل إلى إقناعه "فطلقت "نفسها وتخلت عنه عندما اكتشفت زيفه وانخداعه. و بعدما سئمت التصاعد دون الصعود والتعالي دون العلو وبعدما يئست من صدقه وسئمت منه ومن اختفائه وراء سده "المنتصف" "صورة منه إليه " وتركت المجال لمياري "عتوّه" و"عقله فاقدا الرشد"

و لعل ميمونة هي من أهم الشخصيات التي اهتم بها المسعدي بصفة خاصة وتعاطف معها لأنها كانت طيلة مقاطع السد تمثل ذلك الجانب. الإنسان الأصيل الساكن المتوازن الذي رضي بالحياة بآلامها وسعادتها ورأى في التصالح معها عين الصدق ذلك الجانب في "الذات" الذي يحن إلى "الموضوع " ولعلها في اتحادهما يصلان إلى الاعتدال والتأله والتوازن المنشود.

إن روح ميمونة هي روح الإنسان الواعي بمشاكله الذي لم تنطل عليه مختلف الإيديولوجيات المتداولة عبر العصور كما لم تغتر بمقدرته فلم يكن إيمانه بنفسه يدفعه إلى الغرور. لقد كانت شخصية متئدة عميقة الأبعاد تمثل من بعض وجوهها مجتمعنا الشرقي المستكين الخاضع لنواميس الوجود المتفاعل معه المؤمن بالجماعة والتقدم الواثق في الإنسان ثقة نابعة من وعيه بالعجز وأن بإمكانه تجاوز هذا العجز بقبوله ولعل واقعية ميمونة تتمثل في كونها تؤمن بان الواقع هو الموجود أما الواقع بالخيال فوهم محض وأن غيلان الذي حاول إقامة الوجود بالعقل إنما كان حلوله بالكون حلول الدود بالثمرة فالثمرة إلى التعفن والفساد. و لقد تفطنت ميمونة إلى أن محاربة الآلهة وجميع القوى الغيبية لهو استنزاف للقوة الإنسانية ولمواهبها وقدراتها كما اعتقدت أن هذه القوة كان من مهمتها أن تسخر التصالح مع الكون والذوبان فيه لما تتطلبه هذه العملية من قوة وتجرد وصفاء. و لكن ميمونة وإن مثلت ذلك الجانب المستكين من الإنسان الواعي الذكي المتزن فقد مثل غيلان ذلك النصف الآخر من الإنسان الذي تأبى عليه إنسانيته إلا أن يجاهد ويناضل لتهديم خلق الآلهة وبناء عالم إنساني يكون الإنسان محوره الأساسي. لقد كان غيلان تلك القوة الإنسانية الجانحة بصفة متواصلة إلى المقاومة والمجاهدة لتحقيق الممكن عن طريق الحلم والحزم ولعل أقصى ما يصبو إليه الإنسان هو تحقيق ميمونة وغيلان معا فالواقع موجود بالفعل ولا سبيل إلى إنكاره إنّما هي الحقيقة والمعضلة في نفس الوقت ولكن عمل الإنسان يتمثل في تجاوز هذه الحواجز وتحقيق السعادة الإنسانية عن طريق الحلم الذي يتحول إلى حقيقة بفضل الجهد والطاقات الإنسانية الخلاقة. ولعل "تحفّر" الأرض تحت قدمي ميمونة و"تلاشي" غيلان في السماء لأكبر دليل على فشل كل منهما بمفرده إنما النجاح الحقيقي والسعادة الحقيقية في تلاقحهما وتعاطفهما وتضامنهما.

***

بقلم: مفيدة البرغوثي - شاعرة وكاتبة

تشبعات المداليل وتحايلات مغاليق الداخل النصي

الفصل الثاني ــ المبحث (1)

توطئة:

أن أغلب ما قرأنا في آداب العقود الرومانسية وحقب الخرافات والأليغوريات وحكايا الجان ــ جميعها لم تكن سوى جملة من الأجناس والأنواع ما قبل الحداثوية والميتاحداثوية، إذ لم تؤخذ من قبل نقاد ما بعد الحداثة ذلك المأخذ في إيجاد مساحة خاصة من الغاية والأهمية، اللهم إلا من حدود تلك الإثباتات المرجعية أو الاستشهادية على نحو مفارق لجدية المواثيق في دراسة النصوص الممارس مقاربتها من ناحية موضوعية وأسلوبية. غير أن القارىء والناقد بنصوص الروائي جوزيه ساراماغو، لربما يجد ذاته إزاء عوالم تخييلية تتجاوز ملموسية التعرف الأجناسي والنوعي في ماهية هذا الأسلوب الذي وطن عليه ذاته ساراماغو في تراكيب أعماله الروائية، خصوصا ما عثرنا عليه في رواية (انقطاعات الموت) ورواية (العمى) موضع مبحثنا في عوالم الروائي الإمكانية والممكنة بطريقة ما يمكننا تأشيرها على إنها الأواصر والصلات المتراتبة في أفق الخطاب الأتفاقي الكامن في مضمرات السارد الشهودي. على إنها ذلك المظهر المتعارض وحقيقة ظاهرة خطابها الخارجي. الذي هو بذاته يشكل معطيات مرصوصة من سلسلة وقائع متكونة من اللاتحديد أو اللاوجود في تصديقات الأحوال العاملية المعتمدة شكلا وإطارا. يمكننا بالطبع تمييز النزعة الاسلوبية من جهة غاية في الموضوعية والدقة الاستدلالية حول بنيات رواية جوزيف ساراماغو، ولكن بعيدا عن الرؤية الإسقاطية والعجالة العابثة في مداولة مفردات مكوناته السردية، لذا أثرنا على دراستها في الصورة التي لامست نزعتها المتوارية خلف مؤشرات المعادل الرمزي والتحليلي والتأويلي، وصولا إلى متعلقات جوهرها الانطولوجي الذي سعى من خلاله ساراماغو إلى أن يكون مدركا للابعاد الذاتية والنفسية في حيوات الشكل والبنية والعلامة الايديولوجية في متعلقات الطابع والفحوى المجتمعية من حياة ومصير الشعوب إزاء تلك الكيانات السياسية اللامشخصة دالا ودليلا في الأواصر والصلات المتراتبة في الخطاب الاتفاقي في مضمرات السارد المنمذج.

ـــ الزمن السردي واحتمالات الأوجه المعادلة:

يثير فينا مستوى التضمين والإحالة بما لا يشكل ظهورا في صيغة الأحوال الدلالية، عبر ذلك الأفق بأتساع التأويلات حول ماهية موضوعة الطرح السردي تحديدا. أقول أن صيغة العلاقة فاعلة في شكلها التوظيفي، ولكنها بالتواصل الفعلي، بدت وكأنها حقيقية يحددها الهدف الامتدادي اللاحق من مسكونية المفترض أو المعادل من المعنى المعياري والتخييلي. تتشكل دلالات الاحوال عبر ملفوظها التركيزي حول غائية ذا حمولة موسومة بالشك والاضطراب والحمى الوهمية، وقد تكون المحددات في وسائل الأفعال والمسرود، متمثلة في الأصل الموقفي من قضية ما في الواقع المجتمعي، أو إنها الطرف الغائب من المتجلي في طموحات الفرد العاملي الذي هو أحوج للتوسع في طرح املاءات واقعه بصيغة البدائل المعادلة لانعكاس أوجه ذاته الكلية والجزئية من رهان السؤال والقلق الكبير.

1ــ إشكالية زمنية ومكانية تداخلات العمى اللاإرادي:

إقرارا يمكننا الاعتقاد بأن سياق معطيات الأحداث الروائية، قد حلت في حدود ذلك (الأفق التفارقي) وحتى لا نقول من جهتنا بأن الرواية أهدرت زمننا في ظلماء الوهم، سوف نعاين حتما أواصر القيمة الكفائية والإمكانية في وسائل ووسائط السرد، والاقتناع بمدى الاقتدار في متواترات الحكي، بما راح يمنحنا قصدية مألوفة في معاينة مستويات وآليات اللحظات الأكثر قضوية من الشك في نزوع السرد إلى الكشف الجانبي المبتسر. إن الخاصية الزمنية في ضوء معطيات الوقائع السردية في مستهل وحدات الرواية، بدت مرتهنة في مساحة تعزز البعد المكاني الذي غدا متفردا في المستهدف من ناحيتي (السياق ــ المؤول) فكم من الوقائع الجادة في مستويات النصوص، ما تتحول إلى مكونات خلفية بالتوالي الامتدادي للزمن والمكان والعامل المقصدي. إلا أن توظيف الخاصات من المكون المكاني، راح معتمدا على مقدرات الاستعادة والتخصيص في تحويل صيغة الإنتاج عبر نظام خاص من أفعال المتابعة المنتجة: (أبقى السائقون أقدامهم المتعجلة على دواسة القابض، تاركين سياراتهم في وضع الاستعداد، تتقدم للأمام، وتتراجع مثل خيول هلعة يمكنها أن تتحسس السوط الذي يوشك أن يهوي عليها ــ بعض الأشخاص يؤكدون قائلين إن هذا التأخير الذي يبدو غير مهم ظاهريا، سوف يتضاعف بفعل آلاف الإشارات المرورية الموجودة في المدينة. /ص19 الرواية) ربما من الواضح أن صيغة هذا النوع من (التعطيل = الوقوف الزمني) تتطلع إلى حالة خاصة من الوعي الذاتي إلى حقيقة ملازمة تفرضها إحالات السارد العليم بطريقة موحية إلى كلا القوة الشبيهة بقدرة المصادرة والتمثيل لهما في حقيقة مثال الطبقة الايديولوجية التي يتمتع بها إباطير الوجود السياسي، وهذه الكيفية بذاتها تصويرا نحو انغلاق كينونة الأفراد وغشاوة رؤيتهم عن رؤية الأشياء والحالات في شكلها الصريح. وربما من جهة خاصة أن حياة الفرد غدت أكثر تدرجا نحو تقاطعات الحقيقة المادية الواضحة، لذا أصبحت التمثيلات الايعائقية أكثر رؤية من صفاء الذات عبر وازعها الضمائري وجهة نظر السارد في موضع القصد المتعين في حياة الأفراد الداخلية، وهذا هو الموضع عينه الذي يبدأ منه مفهوم (العمى) عند قرارة الوعي الذاتي تبصرا، فهو العماء الانعكاسي في المكان والزمن، وبالأساس الأول في ما يتعلق في موضع الضمير الإنساني والإغفال عنه، طالما أصبحت ممارسات الأنظمة الاجتماعية شكلات من الاهتمامات بالخارج المعطى، كعلامة تعنى في ما تعنيه، الاستحالة البصرية عن رؤية المعنى القلبي واستبعاده من مزامنة الفرد لمشروع وجوده في ظل الاشارات القمعية المنتجة لحيوات أكثر عكسية لمصداقية أطروحة فطرية الإنسان: (اشتعلت الاشارة الخضراء أخيرا، فانطلقت السيارات مسرعة، لكن تبين فيما بعد أن ليس جميع السيارات انطلقت بالسرعة نفسها عند اشتعال الإشارة. /ص20 الرواية) هناك ما ينبغي أن يعلمه القارىء، بأن طبيعة مؤشرات الروائي ساراماغو، أكثر إعادة في تشييد المتضادات في التتابع الإجمالي من انطلاقة السرد، فهو، ــ أي ساراماغو ــ من أشد الكتاب استبعادا للمحاور الفعلية في ظهور الأدوار الشخوصية، لذا فإننا عادة ما نجد صوت السارد هو العلامة المتوحدة في زمن نطقها عن مواضع التحليلات للمواقف الشخوصية، كذلك أيضا ما يخص نظام ترتيب الأحداث وتواترها، وعلى هذا النحو وجدنا أغلب رواياته تتمثل ب (أطروحة المؤلف) والسارد من خلفه، شبيها بالترجيعات الحدثية والنفسية والكلامية الطافحة بالمكونات الدالة عن عوالم الشخصيات الصورية والشذرية والحلقية: (تبين الأمر حين تمكن أحدهم، أخيرا، من فتح باب سيارته ــ أنا أعمى ــ. /ص20 الرواية).

2ــ حسية الإمكان الوقائعي وغشاوة الوعي الباطن:

لعل رهانات المتحكم المعادل للصورة الأنموذجية للذات الفردية في أحوال صفة العمى الفجائي في وقائع حياة الشخوص، هي الحالة الانشطارية التي يمكننا من خلالها عد هذا الموصوف دون الصفة الحقيقية لوقوعه الفعلي، بل ما أراده التخييل، هو الكشف عن وجود حالات تعمى في هواجسها وأبصارها الباطنية وليس دون ذلك من حقيقة الظاهرة الفعلية من صفة العماء. إذن لابد وأن هناك من الدليل على أثبات حسية وحقيقة هذا العماء المثالي. ولابد من القول هنا أن السياق النصي غدا يكتسب بعدا فنطازيا قريبا من عوالم المسخ والتحول,وينطق البطل الشخوصي بهواجسه المقلقة كونه بات يشعر بعدم الرؤية، وهو الأمر الذي راح يجعل من التصور الذهني لديه بأنه على أتم الانزلاق في هاوية الغشاوة البيضاء التي تصله بالمجرد من التباعد عن الأشياء وضبابية المرأى منها: (توسل إليهم الرجل الضرير قائلا: أرجوكم، هل يستطيع أحدكم أن يأخذني إلى منزلي.. المرأة التي اقترحت أنها حالة ناجمة عن الأعصاب، هي التي اقترحت فكرة استدعاء سيارة إسعاف كي تقوم بنقل الرجل المسكين إلى المستشفى، إلا أن الرجل الكفيف أبى أن ينصت إليها، بطريقة لا ضرورة لها على الإطلاق.. كانت هنالك هممات، شعر الرجل الأعمى أن أحد الأشخاص يأخذه من ذراعه: تعال، تعال معي؟. /ص22 الرواية) تبعا لهذه الوحدات من التلفظ الخطابي، نستدل بأن حكاية الرجل الضرير، لم تأت كما يبدو عليه حال الفارض المزمن في العماء فطريا، بل أنه ذلك النوع من الضر المفاجئ، والمعاينة التأويلية في مثل هكذا حال، لربما تقودها اعتبارات وإحالات خاصة في الوضع النفسي، وليس بالضرورة أن يكون العارض عضويا، وهذا ما ندركه تحديدا، عندما يصل الرجل الضرير مقتادا بمساعدة رجلا آخر إلى قعر منزله: (كانا قد وصلا إلى مدخل المبنى السكني، تطلعت امرأتان من الجيران بفضول وهما تريان جارهما يقاد من ذراعه غير أن أيا منهما لم تفكر في طرح أي سؤال ــ هل تشكو من شيء ما في عينك. /ص24 الرواية) يتحول كلام الشخصية في هذا المشهد إلى علاقة تنافذية تجمع كلا من (السارد ــ الشخصية = تداخل الوعي) ولو أردنا معرفة مؤطرات الترتيب العلاماتي والإيحاء بنوع من العودة إلى دائرة الحكي عبر مراحل مغامرة وصول الرجل الضمير إلى منزله، لواجهتنا ثمة علامات خاصة توحي للقارىء، بأن هناك علاقة خفية بين أضواء إشارات المرور وخاصية عماء الرجل ذاته: (كان حائرا لأنهما يجب أن يبقيا في موضعهما: ــ لماذا لا تتحرك، سأل: الإشارة الضوئية حمراء؟ رد عليه الرجل الآخر. من الآن فصاعدا لن يعود يعرف متى تكون الإشارة الضوئية حمراء. /ص23 الرواية) وقد لا يتعلق الأمر بدوره هنا على كون الزمن عبر تبدلاته يطرح البداهة المباشرة في كون الرجل أصبح فعلا في حالة عمى، لذا فإنه منطقيا لا يرى بعد الآن، لا أبدا ليس الأمر هكذا فهناك وحدات في أكثر من مكان في بدايات الرواية، تعول حوله المقارنة بين عالم (الشخصيات ــ علامات المرور الضوئية) ويظهر لنا الأمر كحالة نوعية بأن دلالات (التوفق = العبور) تشكلان تأكيدا رمزيا تخص حالة العماء ظرفيا ونفسيا وسياسيا معا. وإذا أردنا معرفية رصيد الأفعال المتقدمة في فحوى هذا الشأن، لوجدنا العديد من تضاعيف هذه المرمزات قد تدخل في وجوه غريبة من حياة الشخوص في الرواية، كحال هذه النماذج من الوحدات: (اشتعلت الإشارة الخضراء أخيرا. ص20 / كانت الإشارات الضوئية قد تغيرت مرة أخرى. ص21 / وهي إشارة مرورية حمراء مستديرة عند الإشارات المرورية. ص21 / اشتعلت الإشارة الكهرمائية. ص19 الرواية) كذلك يمكننا معاينة تمثلات الاشتغالات الاستباقية، وبالتضافر مع عناصر خطية في حوار الرجل الضرير مع الرجل الذي أوصله إلى بيته: (لا تشكرني، اليوم أنت، وربما سيأتي الدور عليك أنت في الغد. /ص24 الرواية) وعلى هذا النحو من المصادفات الاستباقية، تتحقق فعلا إصابة الرجل الآخر بالعمى مستقبلا وبذات الغاية والوسيلة من العماء الفجائي الذي حدث للرجل الأول صاحب السيارة.

ــ فصول من العماء الجماعي وكوامن برزخ الغشاوة البيضاء:

أعتقد أن معنى الاختلاف في فن رواية ساراماغو ما هو إلا حالة مؤسسة على فكرة العلامات المستخلصة من بنيات موضوعاتية خارج دلالات الواقع الانتاجي النمطي في أعراف وسنن الموضوعة الروائية، فهناك إمكانية تشكل تعارفا في صناعة الموضوعة من ناحية قبولها الواقعي، ولكن هذه الموضوعة رغم سياقها الاختلافي مع نسيج الصحة القبولية للموضوعة، تراها بين السطور تشكل جملة محمولات رمزية إحالية ثرية بالمعنى والعلامة والعلاقة المتشكلة بعدة فواعل تفارقية، لذا فإن من الصعوبة تأويل نصوص ساراماغو بمعنى المفاهيم الخطية في رسم الأشكال والمضامين الروائية السائدة الآن، ولكنها رغم ذلك تبقى خروجا عن واصلات المعنى التتابعي، لتسجل لذاتها ذلك الاختلاف النوعي في الأسلوب والرؤية والموضوعة والأداة إجمالا. أردت أن أقول تباعا، أن حقيقة عناصر دلالة العمى، أصبحت من الخصوصية الشائعة في مدينة (انقطاعات الموت) والآن وصولا إلى (العمى) بأعتباره العارض الوجودي في وقائع أحوال المدينة، ولكن يمكننا من هنا طرح الأسئلة حول صور وأحوال ومداليل هذا المركب هذا المركب الاستثنائي من العمى، فهل خصوصيته بوصفه علامة متأتية عن كيفية معادلة من التوجه النفسي وظلام الضمير؟أم إنه صيغة انتقادية من شأنها وصف تمثيلات خاصة بالطبقة الايديولوجية بطريقة ما؟. وربما سوف أتفق أخيرا مع مواضع سردية من الرواية ذاتها، على أن حصيلة الإصابة بعارض العماء، هو بإختصار تلك المعالجة لا شد حالات الذات نزوعا نحو ملازمة عوالم أهواء النفس وانطوائها في مواقع الدونية من ملاذات النفس الآثمة. هذه الخلاصة اللامستقرة، لا تعفينا من معاينة مواضع (ميتاروائية) في حدوثات وتراكيب الرواية ذاتها أوغيرها من روايات الكاتب: (إذ كان هنالك بياض غير قابل للاختراق يغطي كل شيء. /ص25 الرواية) هنا البناء السرد يتعلق بملامح نفسية، تقدمها دلالات التمويه لتتخطى المظهر الخطي في بعض انطباعات الوحدات: ولكن إلى أين يمكن أن تتعلق دلالات العمى المستشرية في مفاصل تلاءم فقط تلك الانماذج الآثمة تحديدا؟وهل أراد ساراماغو لوظائف دليل العمى تلك اللوثة التي تصيب أصحاب العوائق السلوكية من المجتمع جدلا؟.

1ــ الرؤية النفسية وبلاغة مفاجأة العمى البياضي:

يمكننا معرفة والتعرف على الآليات والكيفيات في بناء الرواية وحالات اشتغالاتها الموضوعية والتقانية. وقد هدفت عناصرها المسارية في المسرود والسرد والوصف والأخبار، إلى تكوين عوارض جسيمة من الإصابة بذلك العارض من العمى الفجائي، والذي هو ليس بالعمى العضوي تماما، كما أوضحته بعض تقارير الأطباء والفحوصات المجهرية إلى تلك الظاهرة المنقوصة في تعليلها: (: ــ ابق عينيك مفتوحتين ولا تتحرك؟. اقتربت المرأة من زوجها، وضعت يدها على كتفه، وأنبرت قائلة: ــ سوف يتم تشخيص الأمر، سترى؟. /ص36 الرواية) رغم أنني لا أريد القفز خارج تتابعية معطيات الاحوال السردية، ولكني أحببت أن لا يتوهم القارىء بأن هناك حالة من الأغفال في إجرائية الدراسة في مبحثنا الأولي هذه العناصر ومكونات الرواية. أردت أن أقول أن المؤلف لا يعكس زاوية ثانوية من المحاور التي تلعب في أدوار النص المكرسة دورا نسبيا ما، بل هناك إشارات قصدية ــ عضوية، لا يمكن تجاوزها في مقاربة النص ووحداته الأولى. رغم أن سياق الوحدات كما أسلفنا لا تعكس اللحظة الحقيقية من الفعل الخطابي دليلا ومؤشرا، لذا ظلت متصلات المنظور السردي، تتوارى، تتماهى، خارج حينا وداخل حينا من إشارات الوحدات المتأتية والقادمة من إجراءات مذوبة في بنية علاقة تنسجها الأسباب وتفارقها العلل الكظيمة. يتخفى في السرد الوارد المنكشف، ولا يحدث في زمن المطروح سوى جملة شوارد تلاحق مخالب الظاهرة العصية من (العماء ــ البياض ــ غشاوة الزمن) ويبدو من وراء هذا الأمر الذي أستعصى على الأطباء تشخيصه، ما يشكل بذاته بالحادث المنظور من جهة الطالع اللاكتمالي، سعيا منه إلى تقويض الراكد من العوارض اللامرئية التابعة في الأنفس والأرواح البشرية، تماشيا مع التحولات الايديولوجية والاجتماعية داخل واقع هو شتات من ألوان البنيات والقوالب الخارجية والداخلية من الذوات.

ــ تعليق القراءة:

في الواقع أن رواية (العمى) تكتظ بصور ذهنية ونفسانية، بمختلف مشخصاتها وحالاتها، وما استقامتها إلا في البحث في أقصى دلالات القيم والمقامات التي تعالج وتطالب الذات الفردية من الانعتاق من شراك الماثول الانحرافي في النفس الآدمية. حاولنا تقديم في معرض مبحث دراستنا الأولية هذه، المأزق المفترض من عارض وظاهرة العماء التي هي الرؤية الرمزية لأشد حالات النفس الفردية انتهاكا لقيم الاخلاق والاعتبارات الطهرية في الطبيعة الفطرية لكل كائن إنساني.. إذن كثيرا ما تشكل مشاهد الرواية، رموزا مهيبة لمحمولات خطيرة، والتفكر فيها بدقة وعناية لربما يقودنا نحن أيضا إلى حالة قصوى ومرعبة من العماء والغثيان والعار ونحن نواجه ظلال مراحلنا العمرية كلها وسط أروقة الغشاوة والعمى القهري خصوصا ونحن نمارس حياتنا اليومية بين سلالم الصعود والهبوط نحو طقوس الضحك والبكاء، الطفولة والشيخوخة ونحن نلهث أخيرا وسط زحمة الظلام واللامرئي من خطايا غشاوة وجودنا المنحرف.

***

حيدر عبد الرضا

- شاغل قراءه بعنصر الدهشة ليقف على مسافة الحيرى في دواخلهم

- جسد صورة حسية رائعة اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري

- (ما زلتُ أؤمن، إننا كنا معاً في حياة سابقة منذ عقود أو حتى قرون.. فيما نحن الآن على شكل أوهامٍ في سراباتِ توقِ الأمسِ، وأشواقهِ المجبولةِ بأحلامِ أجملِ لقاء مُنْتَظَر)........ مؤيد عبد القادر

الشعر في كله أو جزئه إيحاء وشعور، تنظم تلك الأحاسيس عبر مفردات تُنظم في أبيات القصيدة وفق قواعد تحكم نُظمها وترتيبها، ومنها تظهر الحبكة الفنية للعمل (باعتبار الشعر فناً من الفنون الأدبية) وهي التي تمنح القصيدة الرؤية التي تتناسب والمحتوى والشكل العام للقصيدة، كما أن الغرض من الكتابة يحكم التصور الذي عليه القصيدة، فالوجداني له أبواب، والهجاء كذلك، ومثله المديح أو شعر الحماس، والوصف الذي سنبين من خلال شروطه وأسبابه عائدية قصيدة "مؤيد عبد القادر" إليه.

يحاول مؤيد عبد القادر أن يلفت نظر القارئ بدلالة (الأنا) الرمزية التي بدأ بها مطلع قصيدته، مستخدماً الدلالة كرمزية (لَونتُ)، (أنا) والتاء بعائدية للدلالة على من قام بفعل (التلوين)، لكن هذه (التاء) بعائديتها الشخصية ألحقها مؤيد بمفردات من المبالغة لأغراض تهويل المشهد فيما بعد، وليكون مطلع قصيدته أكثر مؤثر يحمل المزيد من التشويق، وإلا كيف لصاحب (الأنا) إضفاء اللون على أشرطة الغبار، هي صيغة للمبالغة بالتهويل وشد القارئ نحو تعظيم الصورة الشعرية التي نجح برسمها في أول شطر من القصيدة.

وفي (الأنا) أيضاً يكمل مؤيد خطابه الذي ضمنه الحوار الشخصي بصيغة المتكلم يؤكد حقيقها كونية مفادها، أن وجود الإنسان ما هو إلا لحظة من عمر هذا الكون، وهي إشارة صريحة ذات دلالة رمزية دقيقة جداً، وظف فيها الحقيقة بقصد الإقناع والتأثير على المتلقي، وهذا الأخير حين يقرأ ما يحتويه النص من حقائق مؤكدة يؤمن بها سيعمد إلى توظيف عناصر الثقة بينه وبين الشاعر، وهذه الحالة تخلق تواصلاً روحياً بينهما، كما يركز التواصل النفسي بين المتلقي وما يكتب الشاعر، أي أن مؤيد لعب بذكاء وفطنة ليضرب عدة عصافير ببيت واحد، أفرد من خلاله مساحة واسعة من التصور أتاحت للقارئ أن ينمي ملكة التفكير في الوجود الإنساني (لم أكن في الكون إلا لحظة) وفتراته التي لا تعادل لحظات من عمر الكون، ثم أفسح له التصور الواقعي حينما نقله بحقيقة مؤكدة تمثلت بمعادلة وجوده بلحظة. تلك اللحظة هي (حَجر) مؤيد عبد القادر الذي جمع من خلاله كل المقاصد في بيت من شطرين، وتلك عبقرية طاغية وإبداع في تصوير المشهد الشعري الذي كتب بدلالة رمزية هائلة ضمنها صوراً غاية في الجمال والروعة.

لوّنتُ أشرطةَ الغبارِ،

ولم أكنْ في الكونِ إلا لحظةً

أقعى بها زمنُ الزوالِ

مسكينةٌ هذي الخُطى،

تمضي على أفِقِ الأسى،

تستدرجُ الأحزانَ من حالٍ لحالِ

ويجيءُ مرسوماً على خطوِ التعثّرِ صوتُها:

هذي انفعالاتُ التوغّلِ في مفازاتِ المُحالِ

استخدم مؤيد عبد القادر مفهوم الدلالة الحركية للخروج من الجمود في النص وأراد منها ايضاً أن يخرج من الثبات في الصورة، فجعل من الحركة هاجساً يوحي للقارئ أن هناك تغيراً في المفهوم سيَلمسه المتلقي في القادم من أبيات القصيدة، لذلك جاء بكلمات دالة على الحركة (أقعى، زمن الزوال، الخطى)، وغلف أبياته بنبرة تدل على مسحة من الحزن (مسكينة) وهذه للتفاعل مع القارئ وتبيان الحالة الموصوفة بالحزن، والتعبير على التعاطف والحزن يبدأ بلفظ (مسكين أو مسكينة) ومن ثم نأتي لشرح ما بعد تلك الصفة التي سبقت تبيان الحالة، حينها سنجد أن التوصيف الذي أدخله (مؤيد عبد القادر) على أبياته ضمنه استمرار السرد، فأخذ يبرر صفة (المسكينة) حين ذهب لشرح الحالة في أبياته وكأنه يسرد قصة مشوقة بالتتابع الزمني الوصفي والمكاني، فجاء على تبيان الحالة بأنها كثيرة الأسى، والمراد (بأفق الأسى) استمرار المعاناة، فالأفق مفتوح والذي يسير عليه لا تنتهي معاناته كونه لا نهاية له، فأراد مؤيد منها أن الأسى الذي تعانيه الروح (المسكينة) لا تنتهي معاناتها.

واستمراراً للوصف العام كان المشهد الأول لقصيدة مؤيد عبد القادر شبه ثابت في وصفه لما تعانيه (المسكينة) الخطى وهي كناية عن الروح أي الإنسان مثله مؤيد بالخطى، فهي التي تأخذ الإنسان حيث يريد، وذهب لشرح ما تعاني حسب تبدل حالتها من (الجلوس في الأسى إلى استدراج الأحزان) تلك التي أخذت شكل المشهد الأول من القصيدة، وكأن مؤيد أراد لها أن تكون قصيدة أحزان، أو رثاء يرثي من خلالها ما سقط من نفوس البشر من الصفات الحميد وبات الأسى هو الطابع العام للنفس البشرية. ثم ليسدل الستار على مشهده الحزين على أن ذلك الأفق المفتوح ما هو إلا محال يسر وراءه الناس نحو اللاشيء، وتلك تعدو أكثر من انفعالات تخلقها الحالة التي عليها النفس البشرية التي تحاول الخلاص مما تعاني. رغم الحزن الطاغي على المشهد مطلع قصيدة مؤيد عبد القادر إلا أنها كانت تتمثل بالتوصيف الدقيق والمناسب للحالة، ومؤيد لا يعاب عليه ما يكتب فهو أستاذ في التوصيف والدلالة وله باع طويل في الميدان الثقافي الأدبي بكل تفاصيله.

فامشِ كما يمشي الدبيبُ

على جبينِ البيدِ رملاً

سفَّ بالكسلِ المُدجّنِ

في مسافاتٍ من البلوى طوالِ

لا أدرينَّ، لمن أمدّ يدَ الزمام:

للموتِ مقتعداً سماواتي،

على كثبٍ حيالي،

أمْ للتي صارت،

برغمِ مسيرةِ الأمسِ الطويلِ حبيبتي،

أم للمُكدّسِ من خيالي؟

القصيدة تحمل الطابع الوصفي، وهي متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثل بعناصر البناء، ناهيك عن أن موسيقاها تتناغم والمفردات التي وظفها "مؤيد عبد القادر" هي لوحة نابعة من صميم معاناة، جسد مؤيد من خلالها صورة تتناسب وحبكة الحدث التي شكل منها القصيدة.

استكمالاً للمعنى الذي ضمنه المشهد الأول مطلع قصيدته، (وأنا فضلت أن أجزئ القصيدة إلى ثلاثة مشاهد) لتكون القراءة هادفة مستوفية لجوانب الإبداع فيها، فقد عرفنا (مؤيد عبد القادر) مبدعاً في فنون الصحافة وكاتباً من الطراز الأول بفنه وإبداعه في كل المفاصل التي كتب عنها. وبالعودة للقصيدة نجد أنه قد أكثر من الوصف الدلالي، أ أنه وظف (التوصيف المقترن بالدلالة للوصل إلى وتثبيت المعنى) وهي طريقة رائعة مبسطة يكتب بها حتى الكبار من الشعراء الرواد ومن ورث إبداعهم من جيل الستينات، تمنح القصيدة معنى شفيفاً يسهل على القارئ فهمه دون تعقيد أو استخدام ألفاظ صعبة تحيل القصيدة وإن كانت تندرج في خانة الإبداع إلى تصور جامد منفر عند القارئ سرعان ما يغادرها، وأرى أن هذا الوصف لا ينطبق على ما جاء به مؤيد عبد القادر من صورة حسية رائعة اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري.

المفردات الدالة التي تضمنتها القصيدة تنم عن حركة بطيئة تحمل ذاك الأسى الذي أشرنا إليه في المشهد الأول، وهي دلالة حية تخلق تفاعلاً وتواصلاً ما بين القصيدة والمتلقي (يمشي الدبيب، جبين البيد، الكسل المدجن، مسافات من البلوى، طوال)، كما تمنح الاستمرار للحدث الذي مثله مؤيد (بالأسى) أو التيه (جبين البيد)، (دبيب) ومشي الصحراء (البيد) يكون على شاكلة الدبيب، وهو كما معروف (للنمل ومشابهه من الكائنات)، ودائماً ما تكون طريقة المشي في الصحارى متكاسلة لطول المسافة ربما أو لصعوبة الحركة وسط الرمال، وهي التي أراد منها مؤيد أن يصف حال من استطالت عليه الأحداث الثقال المؤلمة، حينذاك تكون بلوى (في مسافات من البلوى طوال) تعبير مجازي رائع يجسد صورة شعرية هائلة المعاني وظفها مؤيد بدقة وعناية.

إلا أنه في نهاية المشهد غير مسار القصيدة نحو الحيرى، وكتب بطريقة من يبحث عن جواب ربما، وهذه الصورة أكثر إبداعاً من الأولى التي أطال فيها الأسى، بحيث أدخل من خلال أبياته القارئ في دهشة الحدث أو الحبكة التي بنى عليها المشهد الشعري، فتوقف عند حيرت السؤال الذي يحمل في طياته العديد من التساؤلات، أي أن مؤيد أراد للقارئ أن يعمل التفكير في تشعبات القصيدة ومضامينها، وهل أن السؤال موجه للقارئ ليقف على جواب، أو أن مؤيداً نفسه سيجيب عن تلك التساؤلات في نهاية القصيدة، ما يجبر المتلقي أن يكمل القراءة والتفاعل مع أبياتها والعيش في أجواء الأسى والحيرى والدهشة التي أرادها مؤيد عبد القادر (لا أدرينَ لمن أمد يد الزمام) دهشة تامة تلف هذا البيت، الذي أودعه مؤيد في عقل القارئ ليأخذه نحو متاهات لاخلاص منها إلا بتأويل الحدث الذي لا يكتمل من الدهشة على اليقين، ليتضح في البيت الأخير من المشهد أن هناك من كان يخاطبها مؤيد ضمنياً في القصيدة ولم تعرف هويتها الصريحة وبقيت خافية على المتلقي الذي عرف أن هناك مخاطباً غائباً لم تظهر ملامحه حتى الآن، ثم ليقف عند تداخل المعاني والتوصيف في البيت الأخير ليعود مؤيد ويسحب القارئ ليعيده إلى الدهشة والحيرى ثانية، وليتضح أمامه المشهد بأنه لازال في دائرة الدهشة، ولم يصل لنتيجة تذكر، وهو مدعاة لاستكمال الحدث الذي ربما يتضمنه المشهد الأخير، أقول ربما، ذلك تصور القارئ أنقله هنا بدلالة (ربما) .

يا مُضْرمَ النيرانِ في كبدِ الرؤى،

يا مستحيلاً ضجَّ من غَليانهِ بردُ احتمالي

مَنْ يَقْتحمْ نضوَ افتعالِ دقائقي

ليكونَ محضَ مُسابقٍ خطوي،

قريباً من خيالي

يستنفرُ الإدقاعَ والشَبَعَ الحقيرَ،

مُسْتَوْفزاً رؤيا حبيبٍ لا يُبالي

إنْ كنتُ كومةَ ميّتٍ، أو بعضَ وَشْلٍ

في كفوفِ الارتحالِ

وَهْماً يلازمهُ خيالي !

جاء " مؤيد" بالنداء متداخلاً مع التوصيف ليشكل منه مزيجاً من التهويل في شكل الخطاب للمنادى، وللتوصيف الدقيق، مستخدماً الصورة الحسية الملموسة، والتوصيف الدلالي لخلق مشهد أبعد ما يكون عن الرتابة، لذلك وظف المنادى في مطلع المشهد الأخير للدلالة على وقوع الحدث كدالة فعلية، واستخدم عناصر وأدوات التناظر والتشابه ليرسم الصورة التي أفاق على مشهد رؤيتها القارئ ليرى أن الحدث وقع واستوفى شروطه (يامضرم النيران، يا مستحيلاً، كبد الرؤى، غليانه، برد احتمالي) فيما وظف مؤيد المتناقضات بشكل رائع وجميل ليكمل معنى التضاد والتشابه الذي جاء به في بداية المشهد (مسابق خطوي، قريباً من خيالي، الإدقاع، الشبع الحقير، حبيب لايبالي) تلك المترادفات في المعنى كلمات تخلق جواً من الجمال والحيرى عند القارئ لايخرج منها إلا بتأويل الحدث (الحبكة) الذي أبدع فيها مؤيد ليصنع لنا لوحة جميلة هادفة، رسمها بحيرى التساؤلات الضمنية في أبياتها، استدرجني مؤيد والقارئ معي إلى قاع الدهشة والغرابة، ليتنامى في أذهاننا تساؤل مفاده، هل هي قصيدة غزل أم تحريض أم استنكار، أم تراها شكوى من محب؟

لأصل وعن قناعة ولا أدري كيف يفسرها القراء الكرام لأقول أنها قصيدة شكوى و(الشكوى من الشعر الوجداني)، بدلالة التوصيف الدال على طبيعة التوظيف الدلالي واستخدام عناصر التأويل والاستبدال لرسم من خلالها مؤيد عبد القادر صورة شعرية رائعة، استطاع من خلالها إيهام القراء أنها قصيدة استنكار لواقع مشبع بالأسى، ليتضح بعدها أنها غزل وشكوى؟

ذلك هو التوظيف الدلالي الرائع لمن يستطيع أن يستخدمه بإتقان، ومؤيد أتقن توظيف وتجسيد الصورة الشعرية المشبعة بالدلالة الوصفية ليستكمل المشهد الشعري الرصين الذي بنى عليه قصيدته التي (نسي اسمها كما ذكرلأنه "ختير")

لم يركن مؤيد عبد القادر لحال ثابت في قصيدته، فجعل تَبدل الحالة العامة أو الشكل البنائي للقصيد غير ثابت على حالة واحدة يصل إليها المتلقي، ما يثير الاستغراب عند القارئ حول المبتغى والمعنى الذي أراده الشاعر، إلا أن تلك الدهشة وذلك الاستغراب يتبدد عند النهاية المشهد الأخير من القصيدة الذي ختمه مؤيد عبد القادر بمخاطبة (متيمته البعيدة).

مهلاً، متيِّمتي البعيدةُ، لم يَزَل

حُلُمي يُطاردُ وجنتَيكِ،

لا يعبأنَّ بما تمرُّ من الليالي

في دربيَ المسكونِ في وَهَداتِها.

***

سعد الدغمان

يعرف الشعر المسرحي بأنه كتابة نص مسرحي وفقا لمواصفات ومقاييس الكتابة الشعرية التي تعتمد على القصيدة المقفاة أو غير المقفاة أساسا لبناء النص المسرحي بمفهومه التقليدي، وللشعر المسرحي عدة مسميات منها الدراما الشعرية أو المسرحية الشعرية، أو الشعر الدرامي.

والشعر المسرحي فن من الفنون الادبية التي ظهرت في أوربا، فقد ظهر الشعر المسرحي والتمثيلي في إنجلترا أوائل القرن السادس عشر وفي أوج إزدهاره في فرنسا في القرن السابع عشر حيث كان المسرح يكتب شعرا مقفى ومرسلا في إنجلتر او يعتبر جون ليلي وروبرت جرين وجون بيل الرواد الحقيقين في مجال الكوميديا الرومانسية ذلك الشكل الفني الذي تفردت به الدراما الانجليزية عن غيرها والذي طوره ووصل به مرحلة الاكتمال الكاتب الكبير وليم شكسبير، وامتزج العرض المسرحي بالشارع وبدأت عناصر جديدة تزحف اليه مثل استخدام اللغة المحلية ودخول بعض الشخصيات الواقعية وقد تعامل المسرح الانجليزي مع التاريخ القومي المكتوب ونجح في ترجمة أحداث التاريخ الى صراعات وشخصيات واحداث درامية لخلق عالما مسرحيا كامنا يموج بالدفء والحياة فالى جانب المسرحيات التي استوحى فيها التاريخ الروماني مثل يوليوس قيصر وانطونيو وكليوباترا، وكريولانوس، وترويلاس وكريسدا، نجده يتناول في سلسلة متعاقبة من المسرحيات تاريخ انكلترا وقد كان المؤلف يستخدم اللغة في الاشارة الى الزمان والمكان ويخلق الاحساس به من خلال الوصف الايحائي وكان المتفرج يمتلك نظرة ثاقبة وخيالا واسعا يقظا يشارك مشاركة فاعلة في اكمال عناصر الدراما والمنظر المسرحي.

أما الشعر المسرحي في الادب العربي فهو اضافة جديدة حيث اتجهت اليه الاضواء في العصر الحديث لاشعاره الموسيقية وعاطفته العميقة وكانت المحاولة الاولى على يد خليل اليازجي مسرحية (المرؤة والوفاء) عام1876 ، واشهر من قام في هذا المجال احمد شوقي حيث سعى سعيا بالغا لتنمية هذا الفن الرائع حيث اشتهر بمسرحياته الشعرية فيقال له ابو الشعر المسرحي في الادب العربي ، ثم جاء بعده عزيز أباظة وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وحمد علي الخفاجي.

واذا أردنا أن نعرف الفرق بين الشعر المسرحي والمسرح الشعري، فنقول: إن الاول يهتم باللغة الشعرية ويهيمن عليه الطابع الغنائي والحوار والحبكة والصراع الدرامي، بينما المسرح الشعري يكون فيه الشعر وسيلة للتعبير عما يجول في خلجات الشخصيات وليس هدفا او غاية.

ويتصف الشعر المسرحي بعدد من الخصائص أهمها:

-  إنها لغة إيقاعية.

-  تتسم المشاعر في المسرحية الشعرية بالقوة والكثافة.

-  يعتمد الشعر المسرحي بشكل مباشر على الغموض فإنه يعزز سيطرة الايحاء على المسرحية.

-  يعتمد الشعر المسرحي على التصوير غير المحسوس وغير المرئي ، بمعنى إنه يترك الباب مفتوحا للتخيل والاستنتاج.

ومن أبرز شعراء الشعر المسرحي:

أحمد شوقي ومسرحياته: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، ومسرحية عنترة.

- مارون النقّاش وأشهر مسرحياته: البخيل، ابو الحسن المغفل، السليطي الحسود.

- اليازجي ومن اشهر مسرحياته المروءة والوفاء.

- محمود عباس ومن اشهر مسرحياته قمبيز في الميزان.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن الشعر المسرحي نستأذن بالدخول الى دار المسنين لنحاور كلكامش على لسان الشاعر الكبير د.ريكان إبراهيم وقصيدته كلكامش في دار المسنين..

يبدأ الشاعر الطبيب قصيدته بالدخول الى دار المسنين وقد وصفها بوصفٍ مؤسف يدل على إفول الحياة واحتضارها في فصل خامس لامكان له ولازمان فيقول:

ماذا تسمي البيت حين يكون مقبرة

وفيها أهلها يتحركون

ماذا تسمي الميتين بدون موت

والناطقين بدون صوت؟

ماذا تسمي القبر حين يصير قبل الموت بيت

هذا هو الانسان يبدأُ بالولادةْ

متوهمًا إن الحياةَ هي الطريق الى السعادةْ

كي ينتهي إمّا إلى قبرٍ وإمّا أن يُؤجِّل موتَهُ

قبل الرحيل

ليعيشَ في دارٍ يرى عنها الفناء أحبّ من عيش ذليل

بدأ الحوار بين الطبيب الذي بدأ بالتعريف عن نفسه، وقد أوغل بالافصاح عن خلجاته التي باتت حملا ثقيلا أرهق كاهله لما يرى ويسمع ويعيش كل حالة تصادفه للعلاج، فهو الذي نذر نفسه ليحل مشاكل الناس النفسية التي أرّقته وباتت جزءا منه ، ذلك الجزء الذي بدأ يتنمر عليه ويحتل عالمه وبلا رحمة وهو يحاول الهرب منه إلى أي مكان حتى وإن دخل آلة الزمن ليجمد جزءا من يومهِ الذي أصبح أقسى عليه من الموت نفسه!

قد قال لي: من أنتَ؟ من في الباب؟

قلتُ: أنا الطبيب

أنا عالم النفس المليئة بالخراب وبالنحيب

أنا من نذرتُ بقيتي لعلاج من عاشوا

وهم موتى، فبعض حياتنا موتٌ، وبعض

الموت أهون من ترقبَّه الرقيب

أنا جئتُ أفحص ميتين بلا رقيب

فأنا صديق الاشقياء فأنت من ؟

هذا الحوار الذي دار رحاه في دار المسنين بين الطبيب النفسي الذي آلمه حال الحياة التي تحتضر بين يديه متمثلة بمأساة كل مريض نفسي يعاني ويطلب العون للخلاص، تلك المآسي التي بدأ ثقلها واضحا على نفسية الطبيب التي تصدعت أركانها وجعًا وطريقًا ينشد الخلاص، ووسط كل الافكار المتشعبة والقلق الذي ينتاب الطبيب فقد بادر بسؤال من بادره بالسؤال ليتعرف عليه فأجاب:

أنا حارسٌ في باب دار مسنين بآلة الزمن العصيب

- حسنًا وممن أنت تحرسهم؟ يقولُ: من الهرب

- ياصاحبي، أرأيت في دنياكَ

موتى يهربون؟

أقعى على حقويهِ ثانيةً وقال:

إدخل لتعرف ماهناك ومنْ هناك

دار المسنين الذين تزورهم ياسيدي

هي آخر الوقفات في دربِ الذهاب الى الهلاك

إن الرمزية في هذه القصيدة التي فيها من الثيمات ما يحرث في عالم الباراسيكولوجي الكثير مما يترك الباب مفتوحا لكمٍ هائل من التأويلات التي عمد الشاعر على إبقاءها مسرحا خياليا يلقي الضوء على مسرح الحياة بازمان مختلفة وأماكن متبادلة وأحداث متفاوتة القصد والموضوع وهذا النوع من القصائد لا يخوض غماره إلا شاعرا متمكنا من أدواته يستنبط النتائج قبل الاسباب لوضع خطة عمله الذي يأخذ اتجاهات تصب في خدمة أهداف القصيدة، فهل تغلب الذاتية أم الموضوعية على هذه القصيدة؟

في الحقيقة إن تداخل الذاتية بالموضوع العام للقصيدة أخذ أبعادا أخرى لذات الشخصية التي تقلدها الطبيب تارة والشاعر أخرى ومن زاوية أخرى فقد أخذ الشاعر على عاتقه مهمة المؤرخ مقابل رقابة الرقيب وهو يتجول في دار المسنين التي جعل منها مقبرة لاحياء يرتدون الاكفان وهم بكامل استسلامهم للفناء، ففطرة الانسان تدّعه دعّا للصراع من أجل البقاء أما في هذه الدار فالكل يرفع راياته البيضاء بلا منازع

رأيتُ أسرة موتٍ.. وقمصان نومٍ

وأكفان موتى

بدار المسنين لا قيمة للزمن

وخير الذي قد تراه الاخاء، فلا من خصام ولا من صراع

لان الجميع بقايا حياة

وحب الحياة أنانية ربما تستحق النزاع

إن اختيار كلكامش ليكون عنوانا لقصيدة بهذا الحجم فيها من التأويل والتاريخ مايكون شاهدا على ناظمها ودليلا على جودة العمل الذي أرشف الاحداث في مسرح تراجيدي الحدث وهو (موت الاحياء)، ففي الدار الكثير من القصص وهناك راو وشاهد ، فلما اختار الشاعر كلكامش ليضعه في دار المسنين؟

إن استعارة الشاعر لاسم كلكامش بملحمته التي تضم اساطيرا وفي الاسطورة يندرج الكثير تحت بند الخرافة باشارة منه الى ان الذي يحدث في هذه الايام العصيبة التي يمر بها المجتمع من شيخوخة فكرية وثقافية بل واخلاقية وانسانية تدق ناقوس الخطر على موت المجتمعات وهي حيّة!

أخي من أنت؟ أسأله فينظرني بنصف العين

ثم يقول كلكامش

- أعد ماقلت!من تعني؟

- أأنت صديق أنكيدو؟

أأنت الفارس المسؤول عن طوفان وادينا

بمعنى موت المشاعر والمبادئ والقيم العليا على مذابح الأنا النرجسيّة!

إن الابحار ثم الغوص في عالم النفس يحتم على المبحر أن يكون ملما ومتقد الذكاء ومتأهبا ومتوقعا لكل المخاطر التي تصادفه ، فهذه المغامرة ليست مزحة أبدا بل هي مواجهة حقيقية للدخول الى نفس أخرى بكل شجاعة وتحدٍ!

إن تجوّل الطبيب الشاعر في هذه الدار ومحاكاة كل تفصيلة فيها والسعي الى معرفة كل مايدور من أحداث كورتها العصور لتستحضر ماغاب عنها وشذ أو تشرذم تحت أي بند أو عنوان، فحواره مع كلكامش يختصر كل أوجه الحضارة وإن ركز الشاعر فيها على الوجه الاصفر وهو الاحتضار والموت، لكنه ترك للقارئ وجها آخرا وهو الخلود وقد ذكره لفظا و حسّا وشاهدا فبمجرد إنه لفظ وكتب وحاور كلكامش فإنه قد استحضر فينيق الحضارة كشاهد على ايقونة الخلود

فإنّي هاهنا أحيا خالداً أبدا

فنحن اثنان لن نفنى

أنا وصديقتي الافعى

وقد ذكر الافعى كناية عن الخلود، كيف لا وهي التي اكلت العشبة رافعة صولجانها من عهد آدم وهي استعارة رائعة كناية عن الشيطان!

وكلكامش الرقيب يمثل القدر أو إن صح التعبير يمثل ملك الموت الذي يقعى على حقويه مترصدا فلا أحد يستطيع الهرب منه!

فدار المسنين تمثل الحياة بكل حذافيرها فهي تمثل الفناء والخلود، الحياة والموت، الظلمات والنور وبرأيه فالحياة هي الجريمة والعقاب هو الموت ويبقى كلكامش الساحر البابلي اسيرا لاسمه ينتظر القطار الاخير!!

وكانوا يسمونني الساحر البابلي

أنا الآن أؤمن أني منحت الخلود

المحدد قسرا غلى أن يجئ لأجلي

القطار الاخير.

لقد ذكر الشاعر كلمة الاخرى ولم يقل الثانية دلالة على الحياة الاخرة وهي ثيمة رائعة دسّها الشاعر دسّا ليلقي الضوء على براعته اللغويّة بتطويع المفردات:

هنا ابتسما

وقال: المرة الاخرى ستلقاني.. أنا وحدي..

لاذكر كل ماعندي

لقد تكلم كلكامش- القدر-  عن نزلاء الدار والامهم وقصصهم الحزينة التي ابتدأت مع اصفرار أول الاوراق ملوّحة بالأفول، فالكل هنا سواسية كما في المقبرة لافرق بين غني وفقير ، عالم وجاهل، حكيم وساذج ، الكل هنا ينتظر أفول آخر الاوراق ليحلّق بورقتة الاخيرة الى الدار الاخرة

دار المسنين ياكلكامش ازدحمت

بالطاعنين ومن في وعيهم خرفوا

ضاقت بمن ضيعوا عمرا وضيعهم

نسيان من خلفوا أفضال من سلفوا

دار المسنين تعني أن من عقروا

لصالح ناقة جيل به صلفُ

جيل من الناكرين الفضل، غير اللؤم ما عرفوا

والشاعر هنا يتكلم عن جحود الاجيال ونكرانهم للجميل وهي سمة العصر! والحقيقة إن الشاعر هو من يدير الحوار ويوزع الادوار ويتكلم بلسان كل الشخصيات، فإذن هذه خلجات الشاعر التي اعتمرت بدوامة تفكيره تجاه أمر حدث أمامه وأخذ منه مأخذه فولدت القصيدة وهي تكابد جذوة الاحداث متوهجة بأحاسيس تبدو مضطربة تارة ومتضادة أخرى، فالدار تمثل ثيمة رائعة وهي احتضار القيم وموتها قبل موت الانسان والاستسلام للقدر مهما كان لملاقاة المصير المحتوم!

يا عاشق الخلد، يا كلكامش

انتحرت

قصيدتي وهوى من نخلها السعف

ابكى عيوني مصير الساكنين هنا

ويسقط الناس إن يسقط لهم شرف

والحقيقة إن كل ما يقال عن هذه القصيدة يبقى ضئيلا أمام هذا الابداع الشعري والثقافة الثرة والقدرة الموسوعية على استلهام الاحداث وتطويعها كبحر تتماوج عنده العصور هادئة تارة وثائرة أخرى، فيالهذا الوهج الشعري الفذ والمقدرة المتفردة على كتابة التاريخ بمسرح الحياة مأساة تتلهى بالفناء!!

بورك هذا الحرف الذي حفظ الوصية كوثيقة ملحمية تتدارى خلفها العصور..

طوبى لنا هذا العقل النيّر والحرف المنير وطوبى للعراق بنجومٍ أشرقت في فضاءات الشعر إشراقة حضارة..

تحايا مباركة لجناب الشاعر الكبير والاب القدير د. ريكان ابراهيم ونتمنى أن يكون بألف خير وعافية ودعائي لجنابه الكريم بموفور الصحة والعافية.

***

مريم لطفي الالوسي

تشخيص أدبي لأزمة نفسية عانت منها عدة أجيال بسبب خلل في النهضة العربية الحديثة.

تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية الفطحل وادعاءاته ومغامراته وفضائحه في الوطن وفي المهجر. وهي شخصية بلهاء وصولية تعيش في عالم من الأوهام حول عبقريتها المزعومة، ولهذا أصبحت بؤرة النميمة لدى عراقيي الخارج. للفطحل هذا أسماء مستعارة كثيرة تختلف حسب مزاجه وتقلباته وأفضلها كان عوني الملاخ! يترك الفطحل المدرسة ليتفرغ لشعره، يهاجر مع زوجته العراقية الى بلغاريا ليطلقها ويتزوج من بلغارية، فيسارع الى ترجمة بعض القصائد البلغارية دون اي علم بلغتها الأصلية أو تاريخ أدبها، ثم يطلق زوجته الثانية مهاجرا هذه المرة الى شمال أوروبا ليبدأ سلسلة جديدة من الادعاءات والفتوحات الخيالية، وعند بداية الغزو الأمريكي للعراق يحاول الفطحل أن يقحم نفسه في الحرب بصفته "معارض عراقي وكاتب من المنفى، ممثل البرلمان العراقي في الشمال الأوروبي"، وينتهي به الأمر في مصير مجهول، إذ تكثر الإشاعات حوله فمنهم من يقول إنه أُغتُصبَ وأهين، ومنهم من ادعى أن صديقته البولندية أنقذته وأنه الآن يعيش في بولندا، الخ. مصير الفطحل مجهول. ولعله من الطريف والمفيد أن الأديب العراقي المعروف عدنان المبارك نشر قصة بعنوان تقلبات الفطحل، هي عبارة عن تشخيص لما آلت له حياة هذا المدّعي الصغير حيث يعمل خادما في إحدى قرى البصرة ويتعرض لمختلف أنواع الإساءة! أنظر موقع القصة العراقية.

والفطحل هذا ينشد الاستحسان والشفقة من الآخرين، فيدعي مثلا أن أهله هلكوا جميعا في العراق الدكتاتوري، بما في ذلك أمه التي كانت حية ترزق، فاصطنع قصة من المعاناة والأسى التي قد تناسب صورة الشاعر المرهف الإحساس الذي عانى الأمرّين والذي يتكلم عن معاناة عميقة، والطامة الكبرى أنه يصدق كذبته. ورغم هذا كله شعرت أكثر من مرة بالأسف تجاه هذا المسكين الأبله "على قد نيته"، كلما سمح لي الراوي بالدخول الى مجالس النميمة، حيث يجتمع عراقيو المهجر وبعض العرب ممن يعيشون على برامج المساعدة الأوروبية، لا ينفكون عن السخرية منه ونهش لحمه حيا، فموضوع "الفطحل" مٌسكِّن للآلام يشفي غليل فشلهم وألم غربتهم، والأنكى من هذا كله أن لهؤلاء آراءَهم النقدية والفنية الخاصة بهم! إن ردود فعلهم على سفاهة الفطحل هي الجزء الأكبر من المشكلة! بل يمكن القول إن الناس من حوله هم من يزيدون شأنه، ولا يقلون عنه جهلاً.

من عادتي أن أفكّر في التأثير الكلي نفسيا وفكريا لأي كتاب بعد قراءته مرة أو مرتين، وهذا التفكير بحد ذاته جهد أو عمل نقدي له شرعيته ولا يحتاج لأي تبرير، و"الفطحل" كتاب يستحق التفكير لتأثيره الغريب علي، فكما سبق بيانه اختلطت المشاعر بين الاستهزاء والسخرية من جهة، والشفقة والألم من ناحية أخرى، وبين الإفراط بالضحك والتهكم من شخصية هي في الحقيقة مسكينة لا تضر ولا تنفع، عدا عن أن عنصر التشويق لم يختفِ ولو لحظة!

هناك الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب التي استحوذت على انتباهي كدور الأحلام مثلا والتي لا تقتصر أهميتها على الأسلوب السردي من ناحية تقنية، بل يتعداها الى الجانب الرمزي أيضا، إضافة الى علاقة الراوي بالفطحل والشكل الأدبي، هي كذلك جوانب مثيرة للإهتمام في هذه الرواية التي يصر كاتبها أن يصنفها كمحاكاة. ولا يمكنني أن أعطي كل هذه الجوانب حقها في هذا المقال، ولهذا سأركز أولا هنا على المسألة الأكثر إلحاحا بالنسبة لي شخصيا وهي الشكل الأدبي في المقام الأول ومن ثمة شخصية الفطحل نفسه.

- العام والخاص:

هناك في رأيي ازدواجية مهمة في شخصية الفطحل التي نجح الكاتب في بنائها، وتلك هي ثنائية العام والخاص. لقد نجح المؤلف في بناء شخصية مركبة، أو بعبارة أخرى، "عامة" يعرفها الكثير من الناس في المهجر والوطن. أي أن الفطحل هذا يوحي بنزعة يعرفها الكثير من القراء في العالم العربي، فهو يشير ويذكر القارئ بتلك النزعة، فشعوره بأن الفطحل نوعية أو صنف من الناس قد مرً عليه سابقا يزيد من حيويته على الرغم من فرديته. فكم تذكرت فلاناً وعلاناً من أيام الدراسة في المدرسة الابتدائية والثانوية، وكم تذكرت أشخاصا قابلتهم في الجامعة والمهجر بين العرب، حيث يزدحم الفطاحلة من كل مذهب ومشرب، من الفطحل "الإسلامي" الذي لا يتوقف عند تكفير داروين ونظريته دون أن يقرأ سطرا واحدا في الكتاب المشؤوم بنفسه فيعمل فكره فيه، إلى "الماركسي" الذي يتحدث عن ماركس وإنجلز صباحا مساء دون أن يقرأ أي كتاب لهما، وإلى الفطحل الأدبي الذي لم يكتشفه أحد، إلى الناقد "العبقري" الذي يشتم امرأ القيس "المنحط" دون أن يقرأ معلقته وهلم جرا!

يمكن القول إن الفطحل في هذه الرواية تشخيص أدبي لحالة أو أزمة نفسية وعقلية أصابت أكثر من جيل في العالم العربي، تعود بدايتها إلى خلل أساسي في النهضة العربية الحديثة.

أرفض اختزال النص الأدبي في نية الكاتب، حيث يبرز المعنى من تفاعل القارئ مع النص، ولهذا تختلف القراءات والمعاني. بكلمات أخرى، لا يهمنا هنا فيما إذا كان الفطحل شخصا "حقيقيا" مستمدا من حياة الكاتب أو العكس. المهم هنا هو الإزدواجية بين فردية الفطحل كشخصية أدبية عراقية محددة من جهة، وعموميته من حيث هو ظاهرة إجتماعية بامتياز. وهنا تكمن في رأيي فاعلية هذه الشخصية الأدبية، فهي في المقام الأول محددة وفريدة، وليست شخصا "حقيقيا" بدَّل الكاتب اسمه ب"غوني الملاخ". لكنه أحد أعراض "المرض العربي" المزمن إن صح التعبير، وهو ما سأوضحه لاحقا. أظن إن أغلب القراء العرب سيشعرون أنهم قابلوا أو مروا على هذه "النوعية" في حياتهم أكثر من مرة. وهنا تكمن الإزدواجية أو أوجه الشبه بين الشخصية "العراقية" ذات الأسم والهوية المحددتين من جهة والتشخيصية العامة التي تطال وتصور أكثر من شخص أو "نوعية" في أغلب أنحاء العالم العربي. أشعر أن هذا التشخيص العام هو السبب الرئيس خلف ضحكي المستمر، إذ عرفت هذه "النوعية" وتفاعلت كقارىء معها أو الحالة المرضية ومع كيفية تعامل الآخرين معها.

- " عروبة " الفطحل

وتُعد الظاهرة الفطحلية أو الفطحليزم كما يحلو للكاتب ان يسميها ساخراً مرضا مزمنا في البلاد العربية. إنها ظاهرة عربية بإمتياز حيث لدينا العديد من المدّعين ممن يريدون أن يكونوا مفكرين وفلاسفة وقادة سياسيين عباقرة باي ثمن. وأود أن أشدد هنا على "عروبة" الفطحل حتى النخاع! يشدد ويؤكد بعض النقاد على "عراقية" النص من حيث اللغة وشخصية الفطحل ذاته، وصحيح أن لغة النص عراقية أحيانا وأن عددا من الأمثال الشعبية أو التشبيهات استعصت علي كقارىء فلسطيني، لكن لابد في رأيي المتواضع من التأكيد على عروبة الفطحل التي أثرت في قرائتي للكتاب رغم عدم "عراقيتي". إن تفاعلي الحي مع النص ومع شخصيته الرئيسة وفهمي لمعضلات الإنسان العراقي فيه رغم الفارق بيني وبينه دليلٌ يؤكد انتشار هذه الظاهرة.

 غوني الملاخ "الطايح الحظ"، "ذو العين الكريمة" مصاب بمرض "الفطحلة" هذا في الميدانين السياسي والأدبي، همه الأول والأخير النجومية والشهرة باي ثمن كان، فهو إذ لم يتمكن من تحقيق هذا كله كأديب فذ، إنقلب الى السياسة منتهزا فرصة الإجتياح الأمريكي للعراق. ولا أعرف بالتحديد أسباب انتشار هذه الظاهرة في العالم العربي، لكن يبدو لي من حيث المبدأ أنها نتيجة تشابه الظروف فيه.

يبدو لي أن جذور "الفطحلة" أو الوصولية السياسية تعود الى الإختراق الغربي للعالم العربي خصوصا عقب انهيار الإتحاد السوفيتي التي تمثلت بسلسلة أحداث متشابهة مثل الإجتياح الأمريكي للعراق، اتفاقية أوسلو وسياسة الإنفتاح في مصر، فكثرت المشاريع الديموقراطية السطحية التي تمولها الدول المانحة، وتفجر عدد "الخبراء" الذين صاروا يجيدون اللغة السياسية "المربحة" التي أضحت تجارة.

- الشكل الأدبي

هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي تتناول شخصية تبدو فردية بمعنى أنها لا تشكل ظاهرة عامة لكنها بعد إمعان النظر فيها تبدو "عامة" أيضا مثل "الأبله" و"المقامر" لدوستويفسكي و"دون كيشوتي" لسيرفانتيس الخ. لاحظ هنا استعمال الصفات بدلا من الأسماء المحددة الفردية أو أسماء العلم في العناوين أعلاه كما هو الحال في "الفطحل"،  ويبدو أن اختيار المؤلف لمفهوم "المحاكاة parody" كتصنيف أدبي لكتابه مصدره مثل هذا الإعتبار.

لآ أرى من حيث المبدأ أي تعارض بين الرواية كصنف أدبي والمحاكاة عموما، سواء أكانت ساخرة أو جدية، لسببين رئيسين. يجدر بنا هنا أن نتذكر، أولا وقبل كل شيء، أن المحاكاة  الساخرة ليست شكلا أو صنفا أدبيا بحد ذاتها. لابد هنا أولا أن نوضح المفاهيم كما أستعملها هنا. يمكن ترجمة كلمة "محاكاة"  بالمعنى الإصطلاحي الأدبي الى "mimesis" أو "parody" بالإنجليزية، وهي كلمات من أصل إغريقي. المعنى الأول هو مفهوم عام فلسفي وأدبي يدور حول أهمية "التقليد" أو "المحاكاة" في عملية التربية والنضوج في المجتمع وفي الفنون والأدب. ليس هذا المفهوم المقصود في موضوعنا الحالي، بل هو المعنى الثاني، أي "parody"، وهي أسلوب أدبي وفني ذو معنى محدود على العكس من الأول، حيث يقلد الكاتب، الشاعر أو الفنان عملا معينا إما بغرض نقده، أو نقض الذوق الأدبي في العصر الذي ينتمي اليه العمل المعني.

أما السبب الثاني لرأيي أعلاه في انعدام التعارض بين الرواية والمحاكاة، فهو أن الرواية كشكل أدبي وبالمعنى الحديث كلها مبني أصلا وتاريخيا على المحاكاة، وبالذات المحاكاة الساخرة. يحاكي سيرفانتيس مثلا في رائعته "دون كيشوته" التي نشرت لأول مرة في العام 1605 تراثا أدبيا طويلا طغى على أوروبا في العصور الوسطى يدعى بالأدب الفروسي "chivalric romance" والتي تناولت بطولات أسطورية لفرسان كثر خصوصا "مغامرات أماديس الغاليْ" إضافة الى "إنجازات إيسبلانديان" وغيرهما من الأبطال الحقيقيين والوهميين على السواء،  فإما كانوا جزءا من الحملات الصليبية أو فرسانا تصدوا أو قاوموا جيوش المسلمين في إسبانيا. فكان الأدب الفروسي الديني هذا طاغيا تسلطت على كل محاولة إبداعية تجديدية، وانكسرت شوكتها بصدور "دون كيشوته"، ومع أن الراوي يسخر بطريقة لاذعة مؤلمة من بطله، إلا أن القارئ قد يبكي على موت دون كيشوته في نهاية الكتاب. لكن وعلى الرغم من هذا كله فلا تعتبر جمهرة النقاد هذا العمل محاكاة، بل على العكس من هذا تماما، إذ ترى الأغلبية أن "دون كيشوته" أول رواية في العالم بالمعنى الحديث للكلمة.

لا أرى للأسباب أعلاه خاصية تميز المحاكاة عن الرواية. إن ما يميز رواية "الفطحل" هو كونها مبنية على أجزاء متقطعة إن صح التعبير، فالسرد فيها يبدو لأول وهلة وكأنه مكون من شظايا fragments، أي تبدو لأول وهلة وكأنها تفتقد إلى حبكة وبنية سردية    narrativeبالمعنى التقليدي للكلمة، من حيث إن تسلسل الأحداث لا يتبع في هذه الرواية "ثم كذا ثم كذا"، من بداية واضحة لحبكة محددة تُتَوَّج في ذروة تنحل عقدتها في النهاية، لكن هناك عوامل جامعة من حيث الشكل، فإضافة الى وحدة الموضوع ووحدة الشخصية المتمثلة في الفطحل، وهي بديهية في رأيي، إلا أن هناك عوامل شكلية أهم، ف"الفطحل" عمل  نثري ذو امتداد زمني واضح منذ العام 1990 إلى 2006 تحديدا. هناك أيضا صوت الراوي، وهو العمل الأساسي في وحدة السرد والشكل.

يتابعنا صوت الراوي في رواية "الفطحل" من البداية الى النهاية، وقد يتناسى القارئ هنا دوره بسبب شخصية الفطحل. لكن لابد في رأيي من مناقشة دور هذا الراوي المشاكس الذي يعرف تماما أن القارئ تحت رحمته!  ليس سهلا أن نحدد علاقة هذا الراوي بالأشخاص الأخرين في الرواية لاسيما الفطحل ذاته، لكن أظن أن الراوي هنا كان زميله منذ أيام الدراسة وأنه رافقه في الغربة حتى اختفائه.

وراوي "الفطحل" هنا بالمناسة مشاكس محترف، لأنه يحجب عن القارئ مصير البطل الفطحل، فهو لاريب يعلم بعاقبته ويتلذذ في تخمينات الجهلة من أصحاب النميمة. كيف لا يعرف بمصير الفطحل وهو يعلم سريرة كل أشخاصه بل حتى أحلام الفطحل وكوابيسه في الليل؟ هذا الراوي الذي ينصح الفطحل بالزواج والعمل، متعاطفاً معه رغم علمه بتفاهته، ما علاقته بالفطحل؟ لا شك في أن الراوي يتعاطف مع الفطحل الأبله، على الأرجح شفقةً. ناهيك عن أن الراوي يغير أسلوبه السردي ووجهة النظر بين عدة شخصيات، بما في ذلك الفطحل نفسه. يستهل الراوي سرده بضمير الغائب "هو" في الفصلين الأول والثاني، فيحدثنا هنا عن كل كبيرة وصغيرة من أحلام الفطحل وكوابيسه، ثم ينقلب فجأة في الباب الثالث إلى ضمير المخاطب "أنت" وكأنه يتكلم مباشرة إلى الفطحل والقارء بشكل غير مباشر، ثم يعود الى ضمير الغائب في الفصول اللاحقة.

كذلك تتبدل وجهة النظر، فتارة نرى الأحداث بعيني الراوي، وأخرى بعيون الآخرين، لكن الراوي هو نفسه الراوي لا يتبدل. الراوي هنا لا يكتفي بالمراقبة من بعيد، أو يتظاهر بذلك كي لا يبدو مباشرا وتقليديا ولكي يجمع بين السرد والدراما مطلا برأسه بين فترة واخرى، فيحس القارء بوجوده عدة مرات. يذكرني الراوي هنا بنظيره في رواية العجوز والبحر Moby Dick للكاتب الأمريكي Herman Melville. فالراوي يطل فجأة من المحيط السردي ليعلق على الأحداث مثل الحوت في الرواية، والحوت هنا ليس شخصية فردية بل هي نمطية ورمزية الى حد بعيد.

ولا يمكنني في هذا المقال أن أعطي مسألة الشكل الأدبي في هذه الرواية حقها من النقاش، وأضيف الى هذا الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب الجديرة بالانتباه كدور الأحلام وعلاقة الراوي بأشخاصه.

لقد نجح الكاتب في بلورة شخصية مدّعية ووصولية "عربية" بامتياز بعيون نقدية ولغة لاذعة، سنحت لي أن أرى بعض الأفراد والإشكاليات بعيون مختلفة، شخصية عامة وفردية في آن معا، أضحكتني من "شر البلية" لساعات طوال ممتعة ومؤلمة!

***

جمال جودة - ماجستير في الألسنيات من جامعة كوبنهاجن،

استاذ اللغتين الدنماركية والانجليزية في كوبنهاجن

صدرت مسرحية غوغول – (المفتش) عام 1835 في روسيا، وتم عرضها على المسرح في مدينة بطرسبورغ الروسية لاول مرة عام 1836 بحضور قيصر روسيا نفسه آنذاك، ومنذ ذلك الحين والى وقتنا الحاضر تعرض (بضم التاء) في مسارح روسيا و العالم، بعد ان ترجموها الى لغات عديدة . ان وصول مسرحية (المفتش) لغوغول الى مكانتها العالمية تعني انها لا تجسّد مشكلة روسية موجودة في النظام القيصري الروسي تحديدا كما كانوا يقولون ويؤكدون في الزمن السوفيتي انطلاقا من الانتقاد الدائم للنظام القيصري في روسيا السوفيتية والحديث عن سلبيات ذلك النظام، وانما تعني ان هذه المسرحية تجسّد مشكلة اجتماعية عالمية متأصلة في اعماق الانسان، كل انسان، ويمكن لهذه الموضوعة ان تظهر وتتبلور وتنطلق حسب الموقف الملائم لها بغض النظر عن طبيعة المجتمع والنظام السائد فيه، وليس عبثا، ان هذه المسرحية انتقلت بعدئذ الى الفنون الاخرى، مثل الفن التشكيلي (رسما ونحتا)، ثم الى الفن السينمائي، ونظن، انه من المهم والمناسب جدا ان نشير هنا، الى ان المرحومة أ.د. حياة شرارة كتبت مقالة في جريدة الجمهورية البغدادية في الربع الاخير من القرن العشرين حول مسلسل تلفزيوني مصري عرضه التلفزيون العراقي آنذاك عنوانه (غريب في المدينة) وتابعه المشاهدون في العراق باهتمام كبير ولافت للنظر، وهو مسلسل مقتبس من مسرحية غوغول (المفتش)، وجعلوا احداثه تدور في مصر آنذاك، ولازالت المصادر المختلفة عن حياة شرارة تتحدث عن اهمية تلك المقالة في تراثها الفكري حول الادب الروسي وارتباطه بالعالم العربي وتفاعله معه وتأثيره عليه، وغوغول ومفتشه طبعا هو المحور المباشر لكل ذلك الارتباط والتفاعل هنا قبل كل شئ، والذي تناولته المرحومة حياة شرارة في مقالتها تلك بعد قرنين تقريبا من ظهور مسرحية غوغول (المفتش) في روسيا نفسها، والحليم تكفيه الاشارة طبعا .

 مقالتنا هذه  تتناول تاريخ مسرحية (المفتش) لغوغول في الفن السينمائي، وظهور افلام سينمائية لمفتش غوغول تعني (فيما تعنيه)، ان هذه المسرحية لازالت تتعايش مع عصرنا الحاضر وتتفاعل بحيوية معه، وهذا تأكيد واضح و جديد على عدم دقّة تلك الاقوال، التي أشرنا اليها حول علاقة المسرحية بنظام سياسي معيّن ومحدد . ومن الطريف والمهم ايضا ان نشير، الى ان اول فلم سينمائي لمسرحية غوغول لم يكن فلما روسيّا، اي ان (المفتش) الروسي في مدينة روسيّة لكاتب مسرحي روسي لم يبتدأ سينمائيا في روسيا، وانما ابتدأ في اوروبا، اي خارج روسيا، لان موضوعة المسرحية تعتبر ظاهرة عالمية فعلا، اما في السينما الروسية فتوجد في بعض المصادر اشارة الى فلم صامت ظهر عام 1912 ولكن لا توجد منه الان اي نسخة ولم نجد مراجع عنه بتاتا، ولكن الانتاج الحقيقي لاول فلم روسي لهذه المسرحية ظهر عام 1952 فقط، بعد ان خرجت روسيا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتنفست الصعداء قليلا، وبدأت تضع لمسات حياتها الاجتماعية الاعتيادية، وكان من الطبيعي ان تنتبه – قبل كل شئ - الى ادبها العملاق في القرن التاسع عشر، وهكذا ولد (مفتش) غوغول في روسيا من جديد، ولكن ليس في المسرح، وانما في السينما هذه المرّة، لأن الفن السينمائي اصبح سيّد الفنون في القرن العشرين، ان صحّ التعبير. لقد التزم فلم عام 1952 حرفيا بالنص كما كتبه غوغول لدرجة، ان احد المعلقين قال عنه ساخرا، ان تلاميذ المدارس يمكن ان يشاهدوا هذا الفلم بدلا من قراءة النص المطلوب حسب المناهج الدراسية، وربما هكذا كانت خصائص وصفات الافلام السينمائية السوفيتية في تلك المرحلة بالذات من مراحل مسيرتها، الا ان الانتاج الثاني سينمائيا للمفتش قد تحرر من (..ذلك الالتزام الحرفي بالنص الغوغولي..) في الفلم الذي تم انتاجه عام 1977، و حتى بالنسبة لعنوان  الفلم، اذ  جاء الفلم بعنوان – (متنكر من بطرسبورغ)، وليس (المفتش) كما هو عند غوغول، والعنوان الجديد قول مقتبس من نص تلك المسرحية ولا يتعارض بتاتا معها، بل بالعكس، فهو يؤكد على جوهرها، اذ ان المفتش كان يجب ان يكون متنكرا فعلا ومن بطرسبورغ بالذات . لقد حاز هذا الفلم على نجاح باهر في حينه، ولازال يشغل مكانة متميّزة بين الافلام الروسية لهذه المسرحية، بل ولازال مطلوبا من قبل المشاهدين لحد الان، اذ انهم يجدون فيه (كما قال احد اصدقائي معلّقا على هذا الفلم!!!) بقايا تلك المظاهر الواضحة والصارخة – بعض الاحيان - في مسيرة حياتهم اليومية بروسيا المعاصرة في الوقت الحاضر، وهي مظاهر (معشعشة!) هنا وهناك، والتي تجعل مفتش غوغول (حيّا يرزق !) في الحياة الروسية .

الانتاج الثالث لمسرحية (المفتش) ظهر عام 1982 في السينما الروسية، وهو في الواقع مسرحية قدمتها فرقة مسرح (ساتيرا) الروسي بموسكو، وعلى الرغم من تحويل هذا العرض المسرحي الى فلم سينمائي، الا ان الاجواء المسرحية بقيت واضحة المعالم في هذا الفلم، اما الانتاج السينمائي الاخير للمسرحية فقد تمّ في عام 1996، ولم يكن هذا الفلم تنفيذا حرفيا للمسرحية تلك، وانما جاء (حسب موضوعها العام) فقط، رغم انه لم يبتعد عن الاحداث الرئيسية للمسرحية .

مفتش غوغول لازال يعيش بيننا، ويمكن له ان يظهر في كل مكان، عندنا وفي اجواء  عالمنا العربي خصوصا، وعندهم ايضا، والا لماذا يعودون اليه لحد الان في فنونهم المتنوعة ؟   

من كتاب – (خمسون مقالة عن غوغول)، الذي سيصدر قريبا عن دار نوّار للنشر في بغداد وموسكو قريبا .

***

ضياء نافع  

فيرجيني ديسبُنت

إعداد: فراس ميهوب

***

في رواية عزيزي النذل، يتبادل الكاتب الأربعيني المعروف أوسكار جاياك الرسائلَ مع ريبيكا لاتي، الممثلة المشهورة التي تكبره بأعوام قليلة، تبدأ بالسخرية والشتائم وتنتهي بإعلان الصداقة.

تتمحور أحداثُ الرواية على مناصرة ريبيكا لفتاة اسمها زوي كاتانا التي تدَّعي تعرضها للتحرش والاغتصاب من الكاتب الذي كانت تعمل معه كمساعدة صحفية في دار نشر قبل عشر سنوات.

ينكر أوسكار أي سلوك شائن، لكنه يعترف جزئيا بعد ذلك.

تستعرضُ الرواية وجهات نظر متعددة عن العلاقات الجنسية، السياسة، السينما والأدب، وتعرج على انتشار وباء الكوفيد ١٩، وما صاحبه من تغيرات في سلوك الناس.

تدخل تحت النوع الواقعي المعاصر، وتدور أحداثها في السنوات الأربعة الأخيرة في فرنسا، مع تذكر لأحداث قديمة تعود إلى عشر سنوات سابقة، ومراحل من طفولة أبطالها.

تتجلى وجهة نظر الكاتبة بتبني شكل الرسائل المتبادلة بين البطلين الرئيسيين، ومقتطفات من مدونة زوي كاتانا ذات الثلاثين عاما، الناشطة النسوية.

باريس هي الإطار المكاني للرواية مع بعض مدن فرنسا المحيطية كنانسي، وتولوز، وكذلك مدينة برشلونة في إسبانيا.

أهمية الزمان والمكان محدودة في بناء الرواية. يتراجع كذلك دور الأحداث والمنعطفات، وتغلب أهمية وجهات النظر، وإن كان بعضها جديرا بالنقاش والاهتمام، فإنها لم تخلُ من لهجة تقريرية أحيانا. ورغم جدية الموضوع لكن السخرية تطبع الرواية من بدايتها إلى النهاية.

الرواية سلسة القراءة، ولكنها طويلة نسبيا قياسا على قلة الأحداث. يتجلى الحدثُ الرئيسي باعتداء الكاتب المشهور على الفتاة العشرينية الضعيفة، مع أحداث ثانوية كانتشار وباء الكوفيد، ومرض شقيقة البطل ودخولها للمستشفى.

من النقاط التي تحسب للرواية: دفاع الفتاة الضحية زوي كاتانا عن وجهة نظرها بما يتعلق بالدفاع عن المرأة ضد عدوانية بعض الرجال، وحقها في التعبير عن رغباتها الجنسية تماما كالرجل، ورفض الخضوع لنظام بطريركي ذكوري يدفعها للخجل من نفسها، يجعل من الاغتصاب أمرا عاديا، ويهدد المرأة بتفاصيل علاقتها الجنسية برجل اختارته.

تعرَّجُ الرواية على ظاهرة "أنا أيضا" أو

Me too

التي انتشرت في الغرب، وكشفت الاعتداءات الجنسية التي قام بها المنتج والمخرج الأمريكي هارفي وينشتاين، وألقت الضوء عن التحرش الجنسي في عالم السينما.

في مرور لافت للنظر في مقطع يعتبر الأجمل والأكثر جرأة في الرواية، توجه الكاتبة نقدا صريحا لصناعة السينما التي كرَّست غلبة الذكور البيض الأغنياء، والصورة النمطية عن الملونين، والنساء، والبدناء، وحظرت الأفكار التحررية، وأكدَّت على الابتذال ، فتلخصت رسائل السينما بالإغواء واستخدام لغة الدعاية الموجهة إلى اللا وعي ليحيا الأغنياء النافذون وتمجَّد الحروب.

تحلل الكاتبة شخصيات الرواية نفسيا، مع مقاربة دور الهوية الجنسية، وإشكالات الطفولة، وتعقيد العلاقات العاطفية والجنسية.

تشيرُ إلى بعض الظواهر السلبية في عالم الأدب والنشر، تداخل إدمان الكحول والجنس والسياسة.

تنوه فاليري ديسبُنت في روايتها إلى حاجة الفنان والكاتب لمحبة المتلقي، ولكن بنفس الوقت ضرورة حفظ استقلال المبدع وقدرته على قول ما يريد دون أن يصبح سلعة تباع.

تدلُّ الكاتبة بجرأة إلى محرمات المجتمع الغربي: اليهود، السود، الضرائب، اليمين المتطرف، تويتر، والحذر بالتعامل مع الفتيات.

تقاربُ الرواية أزمة تقبِّل التقدم بالسن، وتغير واقع الحياة وخصوصا للعاملين في مهنة التمثيل.

انتشار الإدمان على الكحول والمخدرات في المجتمع، ولكن بنفس الوقت الإشارة إلى دور بعض الجمعيات في الإقلاع عنه مثل "جمعية المدمنين المجهولين"،...

صعوبة التعامل مع الأبناء في سن المراهقة في ظل المؤثرات المختلفة وغير القابلة للمراقبة والسيطرة مع انتشار الإدمانات والانحرافات المتعددة.

تتحدثُ الرواية عن المعطيات الجديدة للمجتمع الفرنسي والغربي المعاصر: فنانيه كمغنيِّ الراب، وموسيقيين كبووبا، بيلي إيليش، لانا ديل روي، ليل ناس إكس. وأدبائه كلويس فيرديناند سيلين، مارغريت دوراس، هيمنغواي، بوكوفسكي، ويلّيام بيروغس، كالافير، وجاك كيرواك، ودور الحركة النسوية و رائداتها مثل فاليري سولاناس، مونيك ويتيغ، وبالمقابل عدم إغفال الأصوات النسائية المعارضة لها والتي دافعت عمّا اسمته بحرية الإزعاج مثل كاترين دونوف وبريجيت لاهاي.

تعرِّجُ الرواية إلى ذكر لغة العصر ومفرداتها السائدة بين الشباب، الكلمات السوقية والبذيئة، وبعض الألفاظ الجديدة القادمة من لغات أخرى انكليزية وعربية.

تدرسُ الكاتبة مفهوم الشهرة المستجد في عصر الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، وتراجع دور المبدع "التقليدي" لصالح الناشطين الجدد متقني الوسائل المستحدثة.

تتعرَّضُ من جهة أخرى للمخاطر الحديثة المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، وتتطرق إلى مصطلحاتها الجديدة.

لا تخلُ الرواية من طرافة في مقاربتها للعلاقة المعقدة بين بطليها الرئيسيين، وحاجة كل منهما للبوح، وشخصية فرانسواز الثانوية  ذات الكراكتر الغريب الذي يلخص تناقضات المجتمع فهي عجوز، نسوية، يسارية، سكيرة، مدخنة، وتتقن مع ذلك التعامل مع وسائل الاتصال الرقمية الحديثة.

من سلبيات الرواية طولها المبالغ به قياسا على قلة الأحداث، وغياب المفاجآت والتحولات.

العنوان الأصلي للكتاب

Cher Connard

المؤلفة

Virginie DESPENTES

اللغة: الفرنسية.

تاريخ النشر: آب- ٢٠٢٢

دار النشر: غراسيه- فرنسا

عدد الصفحات: ٣٤٤

***

فراس ميهوب

2023/03/19

..................

الكاتبة: فيرجيني ديسبُنت: روائية فرنسية، ولدت عام ١٩٦٩م، صدر لها عدة روايات منها: الأشياء الجميلة، نظرية كينغ كونغ، حصلت على جوائز أدبية عديدة منها جائزة رينودو، وسان فالنتان.

تعبرُّ عن وجهة نظر نسوية، ومثيرة للجدل في كتاباتها.

اعتبرت روايتها آنفة الذكر "عزيزي النذل" من بين أفضل روايات العام الماضي ٢٠٢٢م في فرنسا.

 (دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّها تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في نماذجنا المدروسة.

وداخل إطار الرمزيَّة في (الثور الوحشي) للرجل الجاهلي- وما تحرِّكه هذه الرمزيَّة من جَماليَّات، متَّصلةٍ بجَماليَّات المرموز إليه/ الرَّجُل- تبدو صورتان: صورةٌ تُمثِّل الشاعر، أو قل: تُمثِّل نموذج الرُّجولة عنده، ضِمن سياجٍ من القِيَم الخيريَّة، وصورةٌ أخرى تمثِّل العَدُوَّ، بمقاييسه وصفاته المعهودة في الشِّعر الجاهلي، التي لا ينتقص منها الشاعر شيئًا، إنْ لم يمنحها من مزيد الوصف ما يُعرِب به عن جدارة العَدُوِّ بالمُواجهة، وجدارته هو بقهره.  وهي الصُّورة التي يعبِّر بها الشاعر عمَّن حالَ بينه وبين محبوبته، إذ يقول، مثلًا، في ذِكر رحيل صاحبته، واختفاء رَكبها خلف مجال الإبصار:

أَتَى دُونَها ذَبُّ الرِّيادِ كأنَّهُ         

                                                 فَتًى فارسيٌّ في سَراويلَ رامِحُ(1)

وبهذا يتحكَّم المرموز إليه في جَماليَّات الرمز، فيرسم له لوحة، قد يكون رآها، تمثِّل: فتًى فارسيًّا في سراويل رامحًا؛ لا على إرادة تشبيه هيئة (الثور الوحشي) بهيئة هذا المحارب أصلًا، بل لأنَّه كذلك يتخيَّل عَدُوَّه الذي حالَ من دون حبيبته: يُشْبِه تلك الصُّورة التي رآها، بفُتوَّة الفتى المرسوم فيها، وبِزَّته الحربيَّة، ورُمحه، وتحفُّزه للقتال، ملقيًا ذلك كلَّه على رمزه عنده: الثور الوحشي.

وفي صورة قصصيَّة مطوَّلة يقول (الأعشى)(2):

كـأَنـِّي ورَحْلـي والفِـتانَ   ونُمْـرُقـي          

                                                 على ظَهْـرِ طـاوٍ أَسْفَـعِ الخَـدِّ  أَخْـثَـما

علـيـهِ  دَيــابُـوذٌ   تَـسَـرْبَـلَ  تَحْــتَــهُ         

                                                 أَرَنْـدَجَ  إِسْـكافٍ  يُخـالِـطُ  عِـظْـلِـما

فـبـاتَ   عَـذُوبًـا   للسَّـمـاءِ  كـأنـَّـما         

                                                 يُـوائـمُ رَهْـطًـا لِـلْـعَـزُوبَــةِ صُــيَّـما

يَـلُـوذُ  إلى أَرْطَــاةِ  حِـقْـفٍ  تَـلُـفُّــهُ         

                                                 خَـريـقُ  شَـمالٍ تَـتْـرُكُ  الوَجْهَ  أَقْـتَـما

مُـكِـبًّا  على رَوْقَـيْـهِ  يَحْـفِـرُ  عِـرْقَـهـا         

                                                 عـلى ظَـهْـرِ عُـريانِ الطَّريقـةِ  أَهْـيَـما

فـلَـمَّا  أَضـاءَ  الصُّـبْـحُ  قـامَ  مُـبـادِرًا         

                                                 وحـانَ انْطِلاقُ الشَّـاةِ مِنْ حيثُ خَيَّما

فـصَبَّـحَـهُ  عـنـدَ  الشُّـرُوقِ  غُـدَيَّــةً         

                                                 كِـلابُ الفَتَى البَكريِّ عَوفِ بنِ أَرْقَما

فأَطْـلَـقَ  عن  مَجْـنُـوبـِهـا  فـاتَّـبَعْـنَـهُ         

                                                 كـما  هَيـَّـجَ  السَّامِي المُعسِّـلُ خَشْرَما

لَـدُنْ  غُـدْوَةً  حتى  أَتـَى  اللَّيلُ  دونَـهُ         

                                                 وجَـشَّمَ  صَـبْـرًا   رَوْقَــهُ   فَـتَجَـشَّما

وأَنْحَـى  على شُـؤْمَـي  يَدَيـهِ  فذادَهـا         

                                                 بِـأَظْـمَـأَ  مِنْ فَـرْعِ  الذُّؤابَـةِ  أَسْحَـما

وأَنْحَـى  لهـا  إِذْ هَـزَّ في الصَّدْرِ رَوْقَـهُ         

                                                 كما شَـكَّ ذُو العُـوْدِ  الجَرادَ  المُـخَـزَّما

فَشَـكَّ  لها  صَفْحـاتِهـا  صَـدْرُ  رَوْقِـهِ         

                                                 كما  شَكَّ  ذُو  العُـوْدِ  الجَـرادَ  المُـنَظَّما(3)

وأَدْبَـرَ كالشِّعْـرَى  وُضُوحًـا  ونُقْـبَـةً         

                                                 يُـواعِـنُ  مِنْ حَـرِّ  الصَّريمَـةِ  مُـعْظَما

فـذلك  بَعْدَ الجَهْـدِ  شَبَّـهْـتُ نـاقَـتي         

                                                 إذا الشَّـاةُ يَـومًا في الكِـناسِ تَـجَرْثَـما

تَــؤُمُّ   إِيـاســًـا  إِنَّ رَبِّــي  أَبـَـى  لَـهُ         

                                                 يَـدَ   الدَّهْـرِ   إلَّا  عِــزَّةً   وتَـكَــرُّمـا

فها هو ذا (الثور الوحشي) بصورته النمطيَّة، التي تقدَّمت ملامح منها.  ومثلما رأينا الشاعر، في صورة سابقة، فإنه يحرص على تناسق الألوان في صورة الثور، فهو أسفع الخدِّ، أبيض الظهر، أسود القوائم، كأنَّ عليه (دَيابُوذ)، وهو نوع من الثياب، تحته (أَرَنْدَج)، وهو جِلْد أَسْود، يخالط (عِظْلِما)، وهو صِبغ أخضر يميل إلى سواد.  وفي توازي هذين اللونَين (الأبيض والأسود) مغزًى رمزيٌّ، كما سبق القول، تكمِّله هذه الصورة الدراميَّة، التي تمثِّل معاناة الإنسان الجاهلي.  من أجل ذلك يَمُدُّ الشاعر زمن هذا الصِّراع بين الثور الوحشي و(كلاب الصائد) ليستغرق الزمن كلَّه: «لَدُنْ  غُدْوَة حتى أَتَى اللَّيلُ دونَهُ»، ثمَّ بعدئذٍ يقول:

وأَدْبَرَ كالشِّعْرَى وُضُوحًا ونُقْبَةً         

                                                 يُواعِنُ(4) مِنْ حَرِّ الصَّريمةِ مُعْظَما

ليُشير بهذا إلى أنَّ لفظَي «غُدْوَة» و«اللَّيل» لا يعني بهما مدلولهما الزَّمني، وإنَّما عبَّرَ بهما عن الامتداد بلا نهاية للصراع، وإلَّا لكان متناقضًا؛ إذ كيف يُخبِر أنَّ الصِّراع بين (الثور) و(الكلاب) امتدَّ من الصَّباح إلى اللَّيل- مع بُعد هذا عن التصوُّر- ثمَّ يُتبِع ذلك بقوله: إنَّ الثور تخلَّص من الكلاب وانطلق يتَّقي حَـرَّ قائضة النهار، مشبِّهًا إيَّاه بـ(الشِّعْرَى) التي تطلع بعد (الجوزاء) في شِدَّة الحَـرِّ.(5)  وهذا الامتداد الزَّمنيُّ غير النهائيِّ هو مدَى صراع الإنسان الذي يرمز إليه (الأعشى).  بل إنَّه- في بيته ما قبل الأخير- ليُحِسُّ أنَّ صورة الثور الوحشي لا تفي بالتعبير عن جهده، فيومئ إلى أنَّه أشدُّ عناءً منه: «إذا الشَّاةُ يَومًا في الكِناسِ تَجَرْثَما»، وإنَّما شَبَّه به ناقته: « بَعْدَ الجَهْد».   

ولعلَّ هذه العودة الصريحة إلى المشبَّه (ناقة الشاعر) من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر الجاهليَّ، إذ يَستغرق في تصوير (الثور الوحشي)، فإنَّما يفتنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه.  

[وهو ما سنواصل فيه المناقشة الأسبوع المقبل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

............

(1)  ابن مُقْبِل، (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 41/3.   

(2)  (1950)، ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق: محمَّد محمَّد حسين، (مِصْر: المطبعة النموذجيَّة)، 295، 297/ 16- 29. 

(3)  هذا البيت يكرِّر البيت قبله.  وقد أشار الشارح إلى رجحان أنَّه رواية أخرى لسابقه.

(4)  كذا!  وشُرِحت «يُواعِن» بأنها تعني: يدخل في الوِعان، جمع وَعْنَة، وهي الأراضي الصلبة، أو هي أماكن بِيض لا تُنبِت شيئًا.  ولا نجد هذه المفردة لدَى شاعر آخر.  ولعلَّها تصحيف «يُواهِق».  والمُواهَقة: في السير: المواظبة ومَدُّ الأَعناق. (يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (وعن)، (وهق)).  وهذا اللَّفظ هو الموافق، من حيث المعنى، وصفَ الشاعر.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، (شعر).

نقد سيميائي وثقافي لرواية ذاكرة الجسد

محمد شريف مستغانمي، مالك حداد، عبد الحميد بن بديس متتاليات ذكورية تشكل ما يشبه عقدة اليكترا، التي أشار إليها سيمون فرويد في شعور تلك الفتاة القادمة من ذلك الزمن العصيب فصقلت البنية الهندسية لوعي أحلام مستغانمي الدكتورة والروائية الجريئة ....

أحلام مستغانمي المولودة في 13 أفريل 1953 بتونس العاصمة حيث تلقت تربيتها الأولى في واقع سياسي، يقوده الحبيب بورقيبة الذي كان ينسخ تجربة كمال أتاتورك متأثرا بموجة الحداثة الغربية مزيلا من طريقها كل العراقيل العرفية والدينية.....

في هذه البيئة التي يعمل فيها الوالد معلما للغة الفرنسية، لكنه يحمل روحا قومية عربية يلتف حوله أفراد الأسرة الفارة من جحيم أحداث 8 ماي 1945 الدموية، التحاق الخال وانخراط محمد شريف المستغانمي في ثورة التحرير 1 نوفمبر 1954 إن هي إلا حتمية روحية لدى الشرفاء من أبناء هذا الوطن.....

تعد هذه الذاكرة المأساوية موردا أساسيا في تشكيل هوِّية الأديبة، كما يؤكد ذلك المفكر أرنست رينان أن الألآم المشتركة توحد الأفراد والجامعات أكثر من الأفراح، ومن ثمَّ فإن الهوية التاريخية تبنى أساسا على ذاكرة المآسي، فالمآسي والأفراح بورصتي قيم الذاكرة يضمنون إنعاشها واستمرارها ......

فهذه الحالة النفسية الشعورية واللاشعورية هي التي فجرت بركان الإبداع في صورة منتوج روائي " ذاكرة الجسد " عام 1993 كهزة زلزالية قوية تلتها أخرى ارتدادية متعاقبة بنفس الابطال وتنوع الحبكة المسببة لصراع عاطفي فيه الحب عاملا مشتركا بين التعلق بالمرأة والوطن والنضال والشهادة ...........

في فوضى الحواس 1997 وعابر سرير 2003 ........

قبل أن نخوض في دراستنا النقدية السيمائية والثقافية لمضمون النص " ذاكرة الجسد " نسجل هذه الملاحظة الهامة: الأديبة بكل عبقرية وفقه لحالتها النفسية تتلمس شعورها وحتى لا شعورها بالتحليل لتبدأ بمقدمة هامة تجعلها تتخندق في صف أدباء الوطن فيما بعد الكولونيا لية الغيورين على قوميتهم ولغتهم العربية أي ما يقابل صف آخر يعارض استعمال العربية في الحياة ويسمي المتعلمين بها بالقومجيين .

الدفاع عن ثقافة الاستعمار بالدعوة الى البربرية وهو يريد مكانا للفرنسية على حساب العربية.

دعوة أخرى للعلمانية المتطرفة وإزاحة دور الإسلام في الخطاب السياسي للجزائر الفتية، ومن أمثال هؤلاء أمين الزاوي، كاتب ياسين، مولود معمري ......

إن ذكرها لمالك حداد ابن قسنطينة الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألا يكتب بلغة ليست لغته، ثم ذكر

أبيها في المقام الثاني فتقول عساه يجد "هناك "من يتقن العربية فيقرأ له أخيرا هذا الكتاب ..... كتابه ....

لتعيد والدها إلى المقام الأول من باب بر الوالدين .......

يمثل مالك حداد أحد شخصيات النخبة الوطنية ذات البعد العربي القومي ويظهر ذلك جليا في نضاله في المرحلة الكولونيا لية وفيما بعدها، يتجلى هذا النضال في مجموعته الشعرية الأولى " الشقاء في خطر سنة 1956، في روايته الانطباع الأخير " تحية للثورة الجزائرية " المتأججة وهي في عامها الرابع، روايته رصيف الأزهار والتي تستلهم الأديبة أحلام مستغانمي بطلها خالد بن طبال في ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير .....

من هذه النخبة أيضا الأديب محمد الديب صاحب الثلاثية الرائعة: الدار الكبير، الحريق، النول أي المنسج، دون أن ننسى الروائي عبد الحميد بن هدوجه في روايته ريح الجنوب .....

تنتمي أحلام مستغانمي إلى هؤلاء الشرفاء الذين ناضلوا للوطن، للعربية، وقد واجهوا بسبب هذا المسلك الإقصاء والتهميش من النخبة الأخرى الفرنك فليين التي ترى بعين الاستعمار كما ذكر ذلك إدوار سعيد في كتاب الاستشراق 1935 _2003 فالشرق هو ذاك الآخر الهمجي بلا عقل عاجز عن التفكير المنظم، شاذ بليد متعصب أي بمعنى المجنون كما صوره ميشال فوكو في تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي يصفون حركاتها التحررية بشبكة من التنظيمات الخطرة .....

سيمائية العنوان "ذاكرة الجسد «: يمكن اعتبار هنا السيمائية كقسم مهم من الأنثروبولوجيا نظرا لأنها تتعامل مع الماضي الذي تحول إلى ذاكرة في حفريات قسنطينة وتونس ومعاقل الثورة وحاضرا بجامعة السوربون وصالونات باريس بفرنسا ......

الذاكرة في هذا العنوان تحيلنا إلى مفاهيم هامة كما يؤكد ذلك المفكر جويل كندو أن الزمن يهدد كيان الأفراد بالزوال ومن هنا تأتي الذاكرة في استرجاع الذكريات والأحداث الماضية لتخليدها وهذا ما تفعله الأديبة ردا للجميل إلى وطنها بشخوصه وأمكنته الهامة في هويتها الفردية والجماعية، منها الوالد وأدباء، كابن باديس المشاركين في صنع البعد الثقافي الفكري لقسنطينة العريقة.......

لما هذه الخيارات الأدبية؟ كأنها في مرحلة تحديد وهندسة أخيرة لموقفها من هذا العالم المحلي والعالمي المتناقض اجتماعيا، سياسيا واقتصاديا لعلها تحدث شيئا من التكيف والاستقرار الداخلي، رأت أحلام مستغانمي أن تشغيل الذاكرة هو إنعاش وبناء لهوية ذاتها وحفظها من آفة النسيان وإثبات الوجود ورد الاعتبار لنفسها ووالدها أمام أعداء الإبداع قاتلي المواهب .......

فالتذكر حسب ايمانويل كانط "يسمح بربط العلاقة بين ما حدث في الماضي ومالم يحدث بعد بواسطة ما هو حاضر"

ليكون الرضى عن الذات والسكينة الداخلية كعلامة للاستقرار النفسي والشعور بأداء المهمة كاملة في حياة أحلام مستغانمي.

اهتدت الكاتبة بكل عبقرية إلى حيلة تجعل من جراح ومأساة ما حدث للمناضل الثوري محمد شريف مستغانمي ومثله من قدموا الغالي والنفيس للوطن ثم ليجدوا أنفسهم على الهامش كمن لم يشارك بشيء، إن حجم الألم الذي سببه الصراع على الحكم في الجزائر فضيع لهذا شخصت هؤلاء الضحايا ببطلها خالد بن طوبال الذي فقد ذراعه في حرب التحرير ويعيش بذراع واحدة تدفعه ليتعلم فن الرسم الوسيلة الوحيدة المنفسة عن كبت شديد يشعر بحالة من الحزن الدفين، هذا الأمر جدُّ مؤثر في القارئ ...

قد يحمل جسمنا أثارا وندبات تلازمه في كل حين تذكر بالماضي وقد تتحول إلى دلالة وعلامة خاصة تميزك يستدل بها عنك في حالة الضياع بين الموتى والجرحى أو فاقدي الوعي أو دليل وحجة قوية على النضال وأداء المهمة بتفاني واخلاص، وهناك أثار أخرى في أعماق النفس من شدة التعذيب هي جراح تشكل خلفية لكثير من السلوكيات، بل يعمد بعضهم إلى احداث وشم لحوادث يخلدها كطوطامية وهذا مما نهت عنه الشريعة الإسلامية لما فيه تغيير لخلق الله تعالى....

أما إضافة كلمة الجسد للعنوان وكان يمكن الاستغناء عنها بقولها الذاكرة فقط، فهذا يعطي مدلولات أخرى جدُّ هامة في النص إن ما أصاب الجسد من بتر أو تشوه أو مرض عقلي وهو ما حدث لبطلها خالد بن طوبال في الرواية وأصاب محمد الشريف مستغانمي في عالم الواقع هو سبب للنبوغ والابداع في عالم الكتابة والشعر والمراسلات العاطفية والرسم أو الفنون الأخرى لتحويل الطاقة السلبية إلى أخرى طاقة إيجابية تجعل المصاب يعيش في كرامة وهذا نوع من الطب بتوفير وسائل الإبداع للمتعثرين بسبب الظروف الاجتماعية والحروب ......

بل يمكن التلميح إلى ما احدثته الدعاية لأجل التجميل بجلد الذات وتحميل الجسد ما لا يطيق من حمية و شفط للدهون وتكبير أو تصغير لأعضاء الجسم، ينبغي إخراج هذا الجسد المعذب المستعبد بوسائل الإبداع والفن .......

أشارت الروائية في نصها البديع بطريقة بلاغية ساحرة إلى أمراض اجتماعية ناتجة عن أنظمة فاشية شمولية فاسدة منها

خطر الجهاز الاعلامي بقنواته واذاعاته وصحفه التي تحول الكذب إلى حقيقة والهزيمة إلى انتصار حين تذكر ذلك ببيان رائع": هناك صحف يجب ان تغسل يديك ان تصفحتها وإن لم يكن للسبب نفسه كلّ مرة ...فهناك واحدة تترك حبرها عليك ... وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها اليك ...."

تحكي الاديبة المميزة عن ركود سياسي ثقافي اجتماعي بائس يسمح بما سماه المفكر مالك بن نبي قابلية الاستعمار حين تقول: " تراني انا الذي أدخل الشيخوخة أم ترى الوطن بأكمله الذي يدخل اليوم سن اليأس الجماعي..."

تشير بإبداع منقطع النظير إلى مأساة وطنية منها تهميش المعارضين المشاركين في حرب التحرير ليستقروا في ديار الاستعمار ليعيشوا تناقضا صارخا، حيث يجيدون الحماية عند من رفعوا السلاح في وجهه ذات يوم وهو بذلك يستثمر في مشروعه الجديد فيما بعد الكولونيا ليه، فتكتب: ويحدث أن تحزن وأنت تأخذ المترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلَّقة للركاب ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة: " أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل "

" لا ليست هذه الأماكن لك، شيء من العزة ،من بقايا شهامة ،تجعلك تفضل البقاء واقفا معلقا بيد واحدة "......

اللغة العربية من ثوابت هوية المؤلفة النابغة

حين تكتب بحوار جميل: وبأي لغة تكتبين "

" كان يمكن أن أكتب بالفرنسية ،ولكن العربية هي لغة قلبي ... ولا يمكن أن أكتب إلا بها .."

تقول هذا وهي في جامعة السوربون إنها تعي وعيا عميقا برسالتها ومهمتها "

تقدم الأديبة من تجربتها الفرق بين الحب العذري والعشق الجنوني الذي يأتي على الأخضر واليابس يضر بذلك المصلحة الشخصية فتكتب بكل جرأة: ألم يقل برنارد شو تعرف أنك عاشق عندما تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية "

تكشف الأديبة عن عقدة نفسية لعل فرويد لم يتطرق إليها: وهي حالة نفسية لأفراد عائلة الرموز الوطنية والاجتماعية وغيرها حين تكتب: أن يكون أبي أورثني اسما كبيرا، هذا لا يعني شيئا، لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط والعيش مسكونا بهاجس الفشل "

يهود قسنطينة في رواية ذاكرة الجسد : تسرد الروائية بلطف حنين اليهود إلى قسنطينة بخلق شخصية روجيه النقاش صديق طفولتها وغربتها الذي ساعدها بجاهه ومعارفه بباريس ،ثم ذكرت المطربة اليهودية سيمون تمار وهي تغني المالوف والموشحات القسنطينية بأداء وصوت مدهش مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر ،هنا ينبغي استدعاء النقد الثقافي لهذه القضية الحساسة كما قال عبدالله الغذامي ينبغي أن يعامل النص بوصفه أنه حامل لأنساق مضمرة عفوية كانت أو متعمدة تختفي خلف سحر البيان ،إن وصف يهود قسنطينة بهذه الوداعة وعدم ذكر الجانب الإذائي فيهم للشعب الجزائري والثورة الجزائرية سيدفع إلى نسيان الأعداء التقليديين للأمة وتدليس الذاكرة وبالتالي تشويه الهوية الوطنية ،لأن لليهود في قسنطينة اليد الطولى في خدمة الاستعمار الفرنسي مما سبب انتفاضة سكان قسنطينة ضد اليهود في 5 آوت 1934 لاعتداءاتهم على المساجد وقد تم استدعاء الشيخ ابن باديس لتهدئة الوضع فقال قولته المشهورة : أنه في هذه الحالات التي تمس فيها كرامة المسلم وإهانة دينه ورسوله الكريم لا مهادنة ،وبعد الهدنة اطلق ابن باديس على هذه الحادثة " فاجعة قسنطينة " أيضا من ما ينبغي أن تحفظه الذاكرة مجزرة ،12 ماي 1956 نفذها متطرفو اليهود مدعومين بشرطة الاحتلال الفرنسي ....

وإن الحكم للعام ولو شذّ بعضهم بموقف إنساني نبيل مع الثورة الجزائرية، إن شهادة البراءة التي تقبل منهم هي براءتهم من الصهيونية واحتلال فلسطين أما يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي فهذا مكر وخبث لا ينبغي أن نخدع به القارئ .....

نرجع إلى ذكاء المؤلفة عندما تحلل عقدة حب الشهادة التي تعلو فوق مصالح الفرد الذاتية كترك الحبيبة والأهل والأولاد لأجل الوطن، عندما تذكر الشاعر الفلسطيني زياد فتكتب بقلم خاص «قرَّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي "

نظرة المؤلفة لمأساة الصراع بين رفاق السلاح حول من يحكم؟ وكيف يحكم؟  كانت عاطفية غير كاملة، حيث كانت بجانب الرئيس الراحل أحمد بن بلة وهذا شيء طبيعي لأن والدها محمد الشريف المستغانمي كان من رجال الحكومة، ومسيرها لهذا لما هبت رياح التغيير أصابت العائلة وهمشتها، هي سنة التدافع المبني على الدهاء ومن يملك لجام الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحري، وطبيعة الصراع على من يحكم الجزائر بدأت مع ثورة التحرير نوفمبر 1954......

سارت الثورة خلال سبعة سنوات بتسيير جماعي لكن عند اقتراب الاستقلال بدأ النزاع الذي تقوده الباءات الثلاثة، كريم بلقاسم، عبد الحفيظ بوصوف ،لخضر بن طوال ثم أزيحوا بتحالف جماعة وجدة الرئيس احمد بن بلة وحليفه هواري بومدين، ثم ازيح احمد بن بلة بتحالف قائد الجيش هواري بومدين مع طاهر زبيري لتنتهي التصفيات بإزاحة طاهر زبيري و فشل انقلابه ويصفى الحكم للرئيس هواري بومدين الذي كان له الفضل في تثبيت دعائم الدولة والسير بها في نظام اشتراكي استفادت منه طبقات مهمشة من الفلاحين وانطلق التعليم وإنشاء المعاهد والجامعات وترسيخ التعريب وخاض بذلك تجربة عظيمة كانت تلقى معارضة تخريبية من المعزولين ودعاة الفرنك بربر إلى أن كانت وفاة رئيس الجمهورية الثاني بموتة مشبوهة ،إن إقامة الدول ليس بالأمر السهل ولسنا في هذا العالم الوحدين من عاشوا الانتكاسات لكن الحمد لله حققت الثورة الجزائرية دولة قوية لا تزول بزوال الرجال قاومت الإرهاب، قاومت المآمارات الفرنسية ودعاة الفساد إلى الآن، لهذا أقول أن المؤلفة الوطنية القومية العربية أثارت مضمونا يحتاج أن يتكلم فيه المؤرخ بصدق... هي معذورة في ذلك ولها الحق أن تقول ما تشاء لكن النقد الثقافي ينبغي أن يكون حاضرا لتصحيح المفاهيم لدى القارئ ليصنع ماهية وجوده على قواعد صحيحة ..........

فعندما تصرح الاديبة وعلى لسان بطلها خالد بن طوبال عن نظام بأنه دموي (ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، ما زلنا باسم الصمود ووحدة الصف، نصمت على جرائمها؟) لعل الاديبة بعد أن رأت عنف الإرهاب المخترق من طرف الغرب ،ورأت الربيع العربي المخترق من طرف الغرب ،ورأت الربيع الامازيغي و الحراك الفرنك وبربري واغتيال جمال بن اسماعيل تكون قد فهمت أن التغيير ليس هذا هو طريقه وأننا دولة داخل دولة ومؤامرة تجلب مؤامرة وأن الصبر مع الأعور خير من السير في فتنة يقودها الغرب المستعمر، وأظن أن هذا ما جعل الاديبة تصرح لإحدى القنوات الفرنسية فرونس 24 أن العرب لا تصلحهم الا الأنظمة الدكتاتورية وقد راينا لما اغتيل صدام حسين ما وقع للعراق، ولما اغتيل القذافي ما وقع لليبيا ولما اغتيل علي عبد الله صالح ما وقع لليمن...........

ثم يقودنا السرد المتسلسل إلى حبكته الرئيسية قصة حب بين البطل خالد بن طوبال والبطلة حياة وما يكتنفها من صراع شديد موجع، فشخصية البطلة حياة تمثل هذا الوطن الذي لم يسمح بتحقيق أماني عشاقه الذين ضحوا بالغالي والنفيس بل جنحت كطائرة إلى مطار الخونة والوصوليين

تمثل أحيانا شخصية "حياة "مدينة قسنطينة العريقة التي لم تحقق لأبنائها ما كانوا يتوقون إليه فتقول الكاتبة أحلام مستغانمي على لسان بطلها خالد بن طوبال: أنت مدينة ... ولست امرأة، وكلَّما رسمتُ قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا.......

الأديبة الخلوقة لم تهمل الذاكرة الجماعية المحلية " قسنطينة " والوطنية " الجزائر "

وبعدها الحضاري "العربي الإسلامي "كتبت بأروع بلاغة تمشي العروبة معي من حيٍّ إلى آخر .... "

" لا يمكن أن تنتمي إلى هذه المدينة ،دون أن تحمل عروبتها .... العروبة هنا.  زهوٌ ووجاهة وقرون من التحدِّي والعنفوان .... "

مازالت لحية ابن باديس وكلماته تحكم هذه المدينة حتَّى بعد موته."

مازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرن، النشيد غير الرسميّ الوحيد ...الذي نحفظه جميعا:

شعب الجزائر مسلم. ... وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب

تمثل أحلام مستغانمي نموذج للمرأة العربية المتشبعة بهويتها، فهي تعبر عن موقف صعب أمام نخبة كولونيا لية كوقفة محمد الشريف مستغانمي أمام الاستعمار واعداء الإبداع......

ها هي المرأة الجزائرية تفرض وجودها النضالي في عالم الذكور بلا تعصب لأنوثة أو دعوة إلى الانسلاخ

كتبت فأبدعت، فكرت فأصابت أهدافها، خاطبت ببيان وأسمعت بإتقان نتمنى لها مزيدا من التوفيق والنجاح.

***

بقلم: رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

"لم يعد هناك مالم يجربوه، ولا مالم يقولوه، كانوا يقومون بتمهيدات ونوبات أذى مستجدة، كانت أشد إيلاما لمشاعرنا.. ليس فقط أجسادنا، كان يثيرهم اذعاننا، فتهيج رغباتهم على شكل غير متوقع، كان يضربونا بوحشية لنذعن، وليرغمونا على الطاعة "

حكاية تسردها لنا الروائية (هدى محمد حمزة) في روايتها (قــِوامَـة)، الصادرة عن دار شمس للنشر والاعلام، في طبعتها الاولى، 2023.

تحتوي الرواية على خمسة فصول من غير عنونة مكتفية بالتسلسل الرقمي وتركها منسابة دون ان تعنون فصولها لكي تنسجم مع التيمة المطروحة، بواقع 271 صفحة

(قبل الدخول الى عالم المتن السردي تستوقفنا العنونة (قِوامَة) تلك العتبة والواجهة النصية التي عادةً تشكل مدخلا لعالم الرواية الا اني ارى ان هنا العنونة النكرة بمعناها في اللغة : من قام على الشيء، أي حافظ عليه وراعى مصالحه،

 ببنيتها المستقلة ذات الحضور الدلالي وهيمنتها وما لها من علاقة تأثيرية وتشويقية والتمهيد لعلاقة مع المتلقي، لكن بعد الدخول الى عالم الرواية نخرج بالمعنى الذي ارادته الروائية " قـِـوامَـة"1 لمن القـِـوامَـة؟ وبهذا يكون العنوان باب خروج وليس مدخل..

عنونة على لوحة غلاف التي تعد من المناصات ذات التمظهر الايقوني والتي تظهر فيه فتاة تشبه الملكات الفرعونيات ..

تجربة روائية تضاف الى تجارب روائية بأقلام نسائية في مجال السرد تميزت من حيث الشكل والمضمون لما تمتلكه من مقومات حداثية اثبتت حضورا نسويا في المشهد الثقافي على جميع الاصعدة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً والملتصق بوجعها الانثوي.. لتكشف عدة مواضيع تناولتها الكاتبة، ثنائيات ضدية وبأسلوب وجداني قسوة المجتمع اتجاه النساء سواء كانت في السجون او خارجه.

لقد أكد النقد على وجود إبداع نسائي وآخر ذكوري، لكل منهما هويته وملامحه الخاصة وتجاربه النفسية والفكرية التي تؤثر في فهمه للعالم من حوله.

 أن النقد والأدب النسوي ينظر إلى المرأة بوصفها ذاتاً وموضوعاً للكتابة، فهو يعبر بصدق عن الطابع الخاص لتجربة المرأة ويجسد خبرتها في الحياة، فضلاً عن أنه يكشف بوضوح عن اهتمام المرأة بذاتها وإظهار هذه الذات لدى المجتمع..

صورت لنا الكاتبة هموم الذات النسوية بأسلوب الراوي العليم في ثنايا السرد الذي يتتابع بنمطية متدفقة يكون التبئير مركزاً حول شخصية المرأة ورؤيتها السردية، احسنت الروائية في اختيار شخصياتها نلمس في هذا العمل الروائي، تحرر الشخصية الروائية حيث اطلقت لها العنان في التحرك بحرية نراها خارج سلطة ورتابة المؤلف

ثائرة: اختيار الكاتب لاسم (الشخصية المحورية) ذات لغة قصدية وما يحمل الاسم من دلالات الثورة والتمرد

صوت نسائي بارزا في خطابها الروائي تناقش الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المرأة في ظل مجتمع أبوي متسلط، وتكشف الترابط الهش بين المرأة والرجل

تؤكد النصوص فقداناً متعدد الوجوه، الحرية، الحياة الطبيعية، والارادة والرغبة، تهميش دور المرأة، وانها تتعرض لاغتصاب مستمر في عقلها وجهدها ومشاعرها وانسانيتها على الرغم من حضورها الطاغي

" كثيرا ما كانت تهمس: لي أخوات شبيهات لي في كل بلد ، وكل أخت تسكنها لحظات من الصفاء والجنون، هزمنا في معارك فكانت مصلا لانتصاراتنا، فقط علينا مسك رأس الخيط وآخره، وربما قد يستمر ذلك الى ان اكون عجوزا خرفة، فهي كالبهارات اللاذعة بعيون رأسي وتلابيبي، لا استطيع الا ان اتبع الضوء واسترخ تحت ظل السماء.." ص6

نقلت لنا الروائية بوعي سردي صادق الرؤى الجمعية لطبقة النساء المهمشات معتمدة الوصف الذي خلقت لنا ايقاعاً في السرد واحدثت استرخاء وترويح عن النفس بعد مرور الحدث، وقد وظفت الروائية هدى محمد حمزة هذه التقنية فيما يخدم الفكرة، نرى ذلك جليا في استهلال الفصل الاول الذي جاء بنص نثري وبلغة انزياحيه وخروج عن المألوف والسائد..

كل ما هنالك يشيخ

الطريق .. الوقت

الانتظار الطويل

الافواه المغلقة

الا البحر

وصرير الشهيق

في قبضة البياض

الا أكوام الذاكرة

المجلجلة

بسخاء

انها ولجت في اعماق الشخصية حللت سلوكها وتقدمها لنا من جميع الابعاد الجسمية والنفسية، وكذلك اعتمادها نمط سردي آخر (رؤية داخلية) سرد ذاتي تعتمد على راو يقدم الاحداث برؤية ذاتية داخلية على لسان شخصية محورية سارده تفعل وتنفعل بمجريات الاحداث لكونها شخصية محورية (الراوي مشارك) وهي بمثابة (الكاتب الضمني الذات الثانية للكاتب)

قوامة" رواية بوصفها احدى نماذج روايات الاحتجاج والرفض بشكل مباشر وصريح

رواية احتجاجية تعبر عن وضع الأنثى اي المرأة – الزوجة – الأم التي خص وجودها في مستوى الحاجات البايلوجية، احتجاجها على وضع المرأة في العائلة .

" فهو يملك السلطة والحق في الاعتداء، وهو صاحب الامتياز، الذكر الذي يحتضنه المجتمع ويبارك رجولته وأفعاله منذ الازل" ص27

اعتمدت في نصوصها احياناً اسلوب السرد المباشر في حالتي الكشف والاستبطان لشخصية المرأة حيث توثق حركة الشخصية في الزمان والمكان والعلاقة الاجتماعية، وتضافر الرؤية الانثوية والشخصية الانثوية وتلازمهما، وتلك الرؤية السردية التي ظهرت نتيجة ظاهرة الوعي النسوي بالذات والعالم .

"بعد مرور سنة على اعتقالها الاخير ولأسباب سياسية كما في كل مرة، كان مدى سعادتها لا يوصف لتركها المكان والحياة القذرة، لكنها سعادة مطفأة، مشوبة بالحزن الذي حملته معها خارج الاسوار حتى اصبح كقيد ثقيل على قلبها لا يسمح بمرور الفرح مهما كان نوعه وشكله " ص7

كذلك اعتمدت تقنيات وآليات سردية أخرى كالحوار والتداعي والوصف والمنولوج

الذكورة والانوثة:

هذه الثنائية بما تحمله من دلالات التي تؤثر على طبيعة العلاقة الغير متكافئة بين الرجل والمرأة ومنها" على وجه الخصوص:

الخضوع، الاستسلام، الطاعة، الهامشية، الاقلية، الحماية، النفوذ؛ وهي كلمات تؤثر على دونية الانثى"2

كان يقول لها:" نحن الرجال قّــوامـون عليكنَّ، نحن جزء من الذات الالهية ونحن الاعلى والاقوى، أما النساء.. فأنتنَّن سلالة الشيطان، ولا عجب، فقد منحنا كل صفات الالوهة .. الرجال صورة الله التي وردت في خلق آدم.."ص28

عرضت الاحداث برؤية انثوية، تركيز الضوء على قضية الانثى واستبعادها كفاعل وادراجها كمنفعل وذلك " من خلال العبث بهويتها البشرية وخفض قيمتها البشرية والتعالي على الشبكة الوجدانية والفكرية والتي تشكل البطانة الحقيقية لوجوده"3

رواية الأنثى بامتياز ففيها تمثل الأنثى بأدوارها كافة، الأم، الابنة، الزوجة وما يقابلها من حضور السلطة بكل رموزها الرجل الذكر، والأب، والزوج، والحاكم

حيث اجتمعت هذه الرموز لاضطهاد المرأة المغلوب على أمرها والمعبرة عن انتهاك جسد المرأة، واستلاب حريتها ..

" لم يعد هناك مالم يجربوه، ولا مالم يقولوه، كانوا يقومون بتمهيدات ونوبات أذى مستجدة، كانت أشد إيلاما لمشاعرنا.. ليس فقط أجسادنا، كان يثيرهم اذعاننا، فتهيج رغباتهم على شكل غير متوقع، كان يضربونا بوحشية لنذعن، وليرغمونا على الطاعة " ص7

لغة الرواية:

هي وسيلة الرواية التي تستخدمها في بنية روايتها بما فيها من احداث وشخصيات، ضاعفت من الاهتمام بالسرد الذي يعتمد الصورة لان هذا النوع من السرد يسمح للقارئ بأن يشاهد بعيني خياله ما يجري في الرواية

حاولت الكاتبة استعمال لغة ساخرة ناقدة في بعض بنياتها، اتخذت من اللغة أداة لإدانة وتقويض السلطة الذكورية

" القفص الذي يقال انه الذهبي، الذهبي الى الأبد! فلحظة الخروج من بيت القفص، تكون الى القبر لا الى غيره، أليس هو مقياس المرأة الصالحة التي تسمع الكلام؟"ص30

نلمس خصوصية المعاناة عبر جماليات اللغة التي يمتزج فيها الفكر والشعور والتخييل نرى ذلك جليا في توظيف تقنية السارد المشارك:

"أما أنا فقد وأدتني تعاليم اللات والعزة، قبل أن أرى آيات المدينة الفاضلة، انعطفت المسافات بي الى متاهات مربكة في قرية تشوش ذهنها بالاعتقادات الخاطئة حد اليقين، فاين تهرب نحن الطفلات اللواتي ولدن في ثوان قذرة، نحن الامهات المقدسات ذوات الرحم الرحيم، اين نذهب؟ أنتبع الشمس ام تقبع في فضاء منزلي ..؟ ص13

التنوع والثراء في الاحداث المعبر عنها بلغة شعرية شفافة كثيفة وخالية من الاطناب الذي يؤجل حركة السرد ويقطع مسارها، دون ان يفقد السرد طاقته الخلاقة التي يؤججها التوتر، السردي الشعري / نراه جليا من خلال شحنة العنوان، الغموض، والتكثيف الدلالي، والبنية الايقاعية، والانزياحات الاسلوبية: ص38

أمضي دون التفات

يا قدري

أمضي قبل ان يذبل

ورد الابتسام

خلف دموع الاقحوان

أمضي

دون اكتراث

لزكائب الرماد والتراب

دون اكتراث لريح الكآبة

أخلع عن قلبي قميص الصمت

أصرخ بعال الضوء

لتخرج أفاعي الليل

من شجرة الطهارة

الرواية فيها من المتعة واصابة مكامن الحساسية لدى القارئ وهذا الامتاع له علاقة بالتعاطف الوجداني مع الشخصية المحورية(ثائرة) وتأجيج المشاعر القلبية والارتياح العقلي.

***

طالب عمران المعموري

......................

المصادر

1- هدى محمد حمزة، قِــوامَــة، ط1ن شمس للنشر والاعلام، مصر، 2023 .

2- فاطمة كدو، الخطاب النسوي ولغة الاختلاف، مقاربة الانساق الثقافية، ط1المدارس، الدار البيضاء، 2004، ص20.

3- السرد النسوي: الثقافة الابوية، د. عبد الله ابراهيم، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2011 . ص141.

عتبات النص الشعري يمتلك براعة البناء اللغوي القويم، الذي يعزف في شفافية الكلام الشعري الجميل، في دقة الاختيار في الرقة والعذوبة في اختيار المفردات اللغوية والبلاغية، الخفاقة في نبضها في الشعور والإحساس الوجداني الذاتي، كأن البناء اللغوي بمثابة، الارتواء من الظمأ والعطش الروحي الى أبجدية شعرية متلألئة بحروفها الوهاجة في قدرتها التعبيرية، في أدق مشاعر الانسانية وخاصة المرأة الحالمة بالحلم والحب العفيف، المؤطرة بالاطر الإنسانية الدافئة في عطرها ونسائمها، في التناسق الوثيق بين الحلم والانسانية. يشكلان مصدر الصراع القائم في الحياة والوجود، هذا التناسق المترابط، وجد ارضاً خصبة في العشب الشعري الاخضر، في براعة الاهتمام والضغط عليه، كأنه الهرم الاساسي في وجدان الذات ومشاعرها، والعزف على قيثارته، حتى يشعر القارئ بهذا التدفق الحالم، الذي يطرب الروح والوجدان في صوره الباذخة في المعنى، لكن الصور الشعرية في هندستها، تملك حزم من التأويلات المتنوعة والمختلفة، تختلف من قارئ الى آخر، لان الشاعرة (أنعام كمونة) سلكت الطريق الشعري في التلميح، وبالتصريح همساً في الاصطفاء والاختيار في معالم الحلم والحب الانساني، سلكت طريق الإيحاء الرمزي في الرؤيا والروى، تفتح اشرعتها في المنصات التأويلية متنوعة، لكن يبقى هاجس الحالم مصدر الحياة والوجود، ويرطب بنسائم عذبة لجفاف الحياة في عطشها وشقاءها بالقهر والحزن، تواسي صرخات الانين من الضحايا الابرياء، الذين يقعون في زوبعة التيارات العاصفة والمدمرة، قد تقلع الحياة والوجود معاً، لذلك يبقى الحلم والحب العفيف يؤرق هواجس الحياة، حتى لو كانت ضحية الشدائد والمصائب، التي تعكر سلامة الحياة، وتجهض مساراتها، وتجعلها عرضة لطعنات غادرة من كل حدب وصوب في الفعل اليومي والحياتي، في تداعياتهما الموجعة بالحزن والشعور الإنساني الموجع بالالم، الذي يشعر بالاختناق من الغدر بالحلم والانسانية، لياخذ الحياة الى مزالق خطرة في اهوالها، لذلك النص الشعري في قصائد الديوان، تعزف على الشعور الانساني كردة فعل قائم، تجاه هذه الغزوات التي تجهض مسار الحلم، لكي تغرقه في متاهات خطيرة، أو تأخذه الى دهاليز ليس لها مخرجاً من عنق الازمة، ولكن رغم هذه الصعوبات الجمة، يبقى الحلم الانساني طوق النجاة للحياة والوجود، رغم انه يتعرض الى طعنات قاتلة بالغدر والعدوان واراقة الدماء، لكن يظل الحلم الانساني يظل قائماً، على قاعدة وارضية خصبة لها وجهة نظر واقعية ووجودية، وليس توهيمات خيالية واهية تذهب مع ادراج الرياح، بل الحلم الانساني يظل رفيق الحياة والوجود، حتى لو تعرض الى افدح المحن في اهوالها الصعبة والقاسية، ان الحلم والانسانية يسيران معاً، وليس نزوة عابرة، او طارئة، لاتملك رصيداً، بل انهما من صلب الواقع المضطرب والهائج في مساراته المتقلبة في الصراع.

لنأخذ بعض عينات من بعض النصوص الشعرية:

1 - الحلم يتهشم في اعماق البحر:

هذا هاجس الحلم الوصول الى المشتهى والمرام، عبر خوض مجازفة حياتية خطيرة في عبور البحر بقوارب الموت، ينتهي بهم المطاف الى عواقب وخيمة، تتهشم أحلامهم في أعماق البحر، ليكونوا طعماً شهياً لحيتان البحر، ويترك الامهات في لوعة الحزن الحارق، تندب حظهن العاثر في مواويل حزينة في الآهات والأنين، لان البحر انتزع ظلماً فلذات أكبادهن.

أ... أضمتك دموع موجة بين حناياها صارخة لرضاعك..!؟

أ... أهدهدتك فراشات السواحل بكركرات احلامك..؟

كيف لي أن أُصدق ولعبتك بين يدي تعانـــــــــــــــــق..!!

استجار البحر بطيفك..

رفع راياته البيضاء

ببسمات حتفك الباسق...

سرمدي هدير ذكراك... ينتـــــــــــــشي..

2 - ترنيمات الحلم:

يتغنى بزهوٍ وفخر بأصله ونسبه السومري، وانتمائه إلى أرض الطين والاهوار، ويخفق بجناحيه كالفراشات الحالمة في أريج الأقحوان، بالافراح والاعراس، ويدق مزامير الفرح برحلة الاهوار ب (المشحوف) لينسج انشودة الابتهاج بعطر رائحة قصب البردي والطين، ويهدي زهرة من شقائق النعمان الى الهة الحب (إينانا) و(عشتار) في أهازيج الحصاد تتراقص بين المنجل و(الفالة) لتصدح في أنغامها في الاهوار.

ترانيم جداول سومرية العبق ….

يحدوها مشحوفاً *…

ملون الجراغد* …

يغازلُ رشاقة موج طحلبي السحنات

بمجداف ضوء أزرق

ينسج لحاء الأماكن

فراديس تبر برائحة القصب

تعانق خطى كركراتي الفواحة

بحناء ضفائر أُمي

وظلال سدرة تفيأها والدي لعناق صلاتهِ

كنا نسرد أحلامنا الفتية لنجوم (إنانا)

فتهدينا زهرة زقورية ……

تهودج المدى أعراس شبعاد …..

3- الحب المقتول:

في صبيحة يوم العيد، استيقظ الناس في فزع، على تفجير دموي مرعب، حول المكان الى حرائق ودخان وأشلاء متفعمة ومتقطعة، هذا الحلم بأيام الأعياد بان أن تكون متوهجة بحلة الفرح والابتهاج، تحولت إلى أيام كارثية حزينة. من قبل الذئاب البشرية المتوحشة(داعش) في التفجير الدموي في منطقة الكرادة في بغداد.

بين الرصيف ولحظة قصوى ….

بسلام مبتور الوتين

احترقت زغابات الحلم

في كرادة ترابي على حين قضمة

والتصق لون الأسماء بجراح الهوية..؟؟

لن …. يثرينااا دمع نزف ….

لن …. يغنينااا صوت عصف …..

لو فاضت متاريس الخضراء …..

… مناااجم أسف …..

4 - شهادة الحلم:

يرتقي الحلم اعلى منزلة لينال الشهادة بفعل أيادي الغدر، من أرباب المقام والجاه والنفوذ، احتفلوا بنصرهم بنخب الفرح الكبير، وشربوا كؤوس العار من دماء فتية في عمر الزهور، لبوا نداء الوطن بالحلم الموعود أن يخرج الوطن من أزماته نحو رحاب الحرية، فكانت انتفاضة شبابية واسعة المدى، عمت المدن والساحات على اهازيج واغاني للوطن. لكن أصحاب السلاح والنار (الطرف الثالث الملثم) كان لهم بالمرصاد ليجهضوا انتفاضة الشباب بالدماء، اصبحت كالنهر الجاري من الدماء المسفوح على ترابة الوطن، فيا سيد الشهداء والامام العظيم، كما اغرقوك انت وعائلتك الكريمة بالدماء، فإن فتيتك في عمر الزهور، اغرقوهم ايضاً بالدماء، وهم يلبون نداءك العظيم (ليس منا المذلة).

عذرا...... عذرا سيدي الشهيد وجعي

يتهافت مطرا

كلما رويتم صراط الشهادة بدموع دمائكم

يُلَوِحْ عناق أجسادكم الفتية

عرس مذابح بحناء الجراح..!!

وتهاليل رحيل خضبت مأتم الكفن بأنين الصباح

فيااا كبوة صهوة الوطن...

فرســــــــــــــان صهيل الخلود....

عمر.. علي.. هويات سلام

بأطياف قزحية

تحتسي البرد وتمنح الدفء

كيف تناثرت شهية أحلامكم الشجية...

أشلاء.. أشلاء

على سفوح عراق مستباح..!!!

وأوغاد الكؤوس تحتفي بنخب عار..؟!!

5 - ذكريات حالمة ايام العيد في الطفولة

تبقى ذكريات الطفولة ندية، عالقة بمذاقها كالعسل، أيام الاعياد في زمن الطفولة، في البهجة والفرح بقدوم العيد، يعني ملابس جديدة وحلوى وعيدية العيد، وصخب الأراجيح، والفرحة تعلو باصوات الاطفال، معطرة بالفرح العائلي، بطوفان الابتهاج، تبقى حلاوة هذه الذكريات العالقة في الوجدان لتلك الايام الجميلة، وليس أيام الحاضر المشبعة بالبؤس والاحزان والحرمان، تكون ايام الاعياد شحوب وجفاف ونحيب ، نتجرع فيها الروح الألم بزفرة وجع السؤال(بأية حال عدت يا عيد).

أرسمك على زجاج عزلتي تجاعيد عتمة

يؤنس وحشتي جنين ذكريات

"بأيةِ حال عدت يا عيد"*

وكي أشذب زينة آهاتي بوجوبِ فطرةَ القدرِ..

أرتجلُ هفوةَ النظر...

لاسترق روح عيد بألوان حلوى

تزاحم هدايا جيوب جَديّ

وضجيج أراجيح تغمر حقول ايام غرور الفرح

كنا نَشُمُ فجر طفولة العيد بتكبيرة وضوء أبي

فتتعطر براءة الصباح بخضاب ضفيرة أمي

نلهوا براعم نرجس ببساتين نخيل..

أ..أراني أهذي بلسان سجية أيامي..؟ وأنتم..؟

يزاورني وجع السؤال..!!

×× عنوان الكتاب: اصطفيتُك همساً / شعر

×× المؤلف: أنعام كمونة

×× الطبعة الأولى: سنة 2023

×× من إصدارات مؤسسة المثقف سيدني / استراليا

***

جمعة عبدالله

لم تكن نكسة حزيران عام 1967، هزيمة عسكرية فحسب، إنّما مثّلت إفلاسا للبنى الثقافية والفكرية التي كانت سائدة قبلها، وخيبة مسّت جميع الأصعدة العربية، عقب هذه الأجواء صدرت رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" عام 1973 وهي العمل الروائي الاول للكاتب عبد الرحمن منيف،

التي سلطت الضوء على ما كانت تعيشه الأنظمة العربية، التي صنعت لنفسها منظومة من الأساطير والعادات والتقاليد التي توارثتها على مر العصور، وكانت سبباً في تضليل شعوبها، وتغييب وعيها. وقد صورت لنا الرواية الحالة التي كانت تعيشها هذه الشعوب من اضطهاد وتعسف، وذلك من خلال ما تتعرض له الشخصيتان الرئيستان في الرواية: منصور عبد السلام، المثقف الذي يتعرض للملاحقة والاضطهاد ثم الطرد من الوظيفة. والشخصية الثانية الياس نخلة، المواطن البسيط الذي لا يشغل باله سوى في توفير العيش له ولعائلته.

تبدأ الرواية من القطار الذي يهاجر به منصور من بلده من اجل العمل، بعد ان اصبح الحصول على عمل في بلده معجزة يجب ان يقف أمامها المواطن متلاشياً صغيرا. وكانت معاناة منصور كبيرة في الحصول على جواز سفر لهجرة بلده بينما في بلدان غير بلداننا العربية لا يستغرق الحصول عليه اكثر من ساعات: "لا احد يصدق كم انتظرت حتى حصلت على هذه الأوراق اللعينة، نعم لا أحد على وجه الكرة الأرضية يتصور ان أوراقا مثل هذه، لا يكلف انجازها نصف ساعة، تنتظرها أكثر من سنتين.. لكن ما هو الزمن؟ ماذا يعني بالنسبة للآخرين؟ وماذا يعني بالنسبة لك"ص14.."جواز السفر لا يعني هذه الوثيقة الصغيرة التي بين يديك، تخطئ كثيرا اذا تصورت الأمر هكذا! والملفات الكبيرة؟ والتقارير؟ حتى المختار كان يستطيع ان يمنعك من السفر"ص14. ثم يمر أمامه شريط من الملاحقات التي تعرض لها والأسئلة التي كثيرا ما يوجهها الرجال الذين يتابعونه، عند البيت، والذين يسألون بائع السجائر وصاحب الفرن، ويطاردونه في الأزقة ويجلسون في المقهى الذي يجلس فيه: "أتتصور ان هؤلاء سهوا عنك لحظة واحدة؟ لا تتوهم.. كانت آذانهم لا تسهو، تلتقط كل شيء.. بعد ان تتحول كلماتك الى أصوات ميتة في الهواء، تنفجر مرة أخرى، تصبح أشباحا وهي تتراكم في الملفات الزرقاء والحمراء!"ص14.

هذا ما تعرض له منصور وأمثاله، حتى لم يبق أمامه سوى الهجرة من البلد للخلاص من تلك الملاحقات التي تحسب عليه أنفاسه، حتى أصدقائه لم يستطع، او بالأحرى لم يرغب في توديعهم، فهو لا يرغب بالذكرى التي تخلف عاطفة: "اترك كل شيء وراءك".

وبحزن يسائل منصور نفسه: "ما هو الوطن؟ الأرض؟ التلال الجرداء؟ العيون القاسية التي ينصهر منها الحقد والرصاص وكلمات السخرية؟ الوطن ان يجوع الإنسان؟ ان يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون"ص25. كثيرا ما يستخدم الكاتب الحوار الداخلي (المونولوج) في مراجعة منصور للأحداث التي مرت به..

هكذا وبكل توجس وخوف يبدأ سفرته في القطار وفي الدرجة الثانية، (مكان الرواية التي تستمر مع زمن الرحلة التي لا تتعدى الساعات الثلاث). عبدالرحمن منيف يقدم اغلب رواياته في أماكن غير محددة، لكنها تجمع العديد من الصفات المشتركة والممثلة للواقع العربي، ولهذا جاءت أماكن رواياته غير محددة بمكان حقيقي معروف. وفي احد لقاءاته الصحفية يبرر ذلك بان الأمكنة العربية متشابهة بظروفها لذلك يعطي للأمكنة شمولية.

في القطار يتعرف منصور على (الياس) الشخصية الثانية في الرواية، وهو شخص عادي، عمل في كل المهن، هرسته الحياة، حتى أصبح أخيراً مهرباً للملابس القديمة يبيعها في اقرب مدينة بعد الحدود.. وعندما يسأله منصور عن مردود تجارته التي سيشاركه فيها؛ رجال الجمارك وحرس الحدود! كما أخبره ألياس فيجيب:"لقد دفعت في المرة الماضية مبلغاً كبيراً، ولم ينته الأمر أيضاً، أوصوني على ألف شغلة!".. ص27.

فيثير بهذا الجواب حفيظة منصور:"آه لو امتلك السلطة، لو امتلكها يوماً واحداً لدمرت هذا العالم، العالم لا يحتاج إلا الى التدمير. لقد فسد كل شيء فيه، تفتت خلاياه، تعفن، لم يعد ممكناً إصلاحه أبدا"ص27. هذا الشعور بالمرارة والظلم يجعل منصور يتعاطف مع ما يحكيه ألياس من تفاصيل حياته طوال الرحلة. فما الذي أراده الكاتب من جمع هذين الشخصيتين معا في مكان وزمان الرواية (القطار)؟ هل يرمز الى عجز القوى المثقفة والأحزاب التقدمية عن تخلصها من حكوماتها التي تسلطت عليها.

باعتقادي ان شخصية ألياس البسيطة المتشربة بالحياة ترمز الى الطبقات المسحوقة في المجتمع العربي والتي لا تشكل خطراً على حكام تلك الأنظمة، فهي تناضل في سبيل توفير لقمة العيش لها:"أتعرف يا صاحبي ان هذا الذي يجلس أمامك الآن عاش حياة صعبة.. قد تكون ممتعة.. لا ليست ممتعة على الإطلاق، كانت حياة شقية، لا يهم، ولكن كانت حياة. نعم حياة"ص47.

ويحكي الياس الى منصور كيف خالف إرادة أبيه الذي قال له:"يا ألياس هذه الأشجار مثل الأولاد، أغلى من الأولاد، ولا أظن ان في الدنيا إنساناً يقتل أولاده، فأحرص عليها اذ مت، أنا اتركها أمانة في رقبتك، فاذا قطعت شجرة قبل أوانها فأن جسدي في القبر سوف ينتفض"ص47.. مع ذلك خسر ألياس أشجاره التي تعني له حياته في لعبة مقامرة:"هذه الليلة لا نلعب إلا على الأشجار نحن ندفع مالاً وأنت تدفع لنا أشجارا"ص48.. بعد ان يخسرها يحمل البندقية ويذهب الى الجبل، ليصبح لأربع سنوات قاطع طريق، مشردا.

بعد ذلك سافر إلى المدينة وترك مدينته الطيبة لأهلها ورحل. في المدينة لم يترك مهنة لم يعمل بها لكنه لم يوفق فيها جميعاً. وعن المرأة يستثيره منصور قائلا:"المرأة ليست سراً، الرجل هو الذي يحاول ان يجعلها كذلك، وكأنه يلتذ بلعبة القطة والفأر!"ص64.

فيرد عليه ألياس:"ان النساء والأشجار لهن طبيعة واحدة... ماذا تحتاج المرأة؟ المرأة تحتاج الى كلمات حلوة. صح إنني أعطيت كثيرا مما كنت أحمله في الخرج: مناديل مرايا وحناء، وبعض الأحيان سكرا وطحينا، ومع ذلك فان قلب المرأة لا تفتحه إلا الكلمات.. ومع الأيام أصبحت الكلمات كائنات عجيبة لها حياتها..؟ المرأة بدون خيال الرجل لا تعني شيئاً. ماذا تتصور ان تكون المرأة لو لم يوجد الرجل؟".

لغة الحكيم التي يتكلم بها ألياس، من أي جامعة او معهد تعلمها؟ أنها الحياة التي علمته كل دروسها فقد اغترف منها بكل ما يملك من حب للحياة. فأعطته ما أراد. وخلال ذلك السرد الذي يقوم به ألياس لتفاصيل حياته، يحاول منصور عبدالسلام أستاذ الجامعة المقال، المثقف الذي استثار أجهزة الأمن بتحركاته فباتت تراقبه في رواحه ومجيئه، ان يقارن بين حياته التي قضاها في الدراسة ثم سفره لإكمال دراسته في الخارج والعلاقات العاطفية التي كان يقيمها مع فتيات مررن به خلال حياته هذه في بلده وخارجه وعدم استطاعته، مع أكثرهن، مفاتحتهن بحبه. وقد تركنه ليتزوجن بآخرين، وبين حياة ألياس المشبعة بحب الحياة! لماذا يتناسى المثقف حياته الخاصة وينغمس في هموم بلده؟ انها ضريبة الوعي التي يدفعها..

"ألياس نخلة.. رجل في الخمسين تجاوز الخمسين.. ليس له عمر.. لم يوجد ابداً، موجود من الأزل، يتلاشى كالغبار، يقف بصلابة الصخرة العظيمة في فم النهر، يبتسم بحزن"ص159.

هل أراد المؤلف ان يرمز الى ألياس نخلة باعتباره الطبقة المسحوقة في المجتمع.. رغم كل معاناتها وكبواتها المستمرة غير أنها تنهض بعد كل سقطة لتعاود المحاولة متمسكة بالأمل وبحب الحياة.

وبالمقابل؛ منصور عبدالسلام الذي يرمز الى الفئة المثقفة الواعية التي تتسلح بالعلم والمعرفة، تجاوز الخامسة والثلاثين، غير متزوج، يحس بالإحباط والعجز عن تغيير واقع بلده. تعرف على الكثير من الفتيات اللائي احبهن، لكنهن جميعهن تركنه وتزوجن آخرين، ويبدو ان آثار إخفاقه في هذه العلاقات ما تزال تبدو في الحزن المرسوم على وجهه، يحب القراءة، فالكتاب بالنسبة له يعادل رجلاً.. كثير ما يتذكر:"حتى وقت قريب كنت أحتفظ بمكتبة صغيرة، كانت بعض الكتب تتمتع لدي بمزايا تفوق أي شيء في هذا الوجود"ص184.

و"في السجن ثلاثون سجيناً في غرفة لا تتسع لثلاثة، وكنا قد صنعنا من بقايا أكياس الخيش مروحة ربطناها بحبل، وكنا نتناوب الحراسة، كل ساعة حارس، من أجل ان نتنفس، ومن اجل ان نفسح مكاناً لإنسان ينام.. كان حارس الساعة يشد المروحة، ويقرأ او يفكر"ص185.

"لو تركت الأحلام وفكرت بهدوء رجل متزن، تجاوز الثلاثين وكان مدرساً للتاريخ.. لو أن هذا حصل، لما تعقدت الأمور الى هذه الدرجة، لو تركت الكتب لأصبحت نمطاً آخر من الرجال.. هذا النوع الذي يفهم الواقع، يعيش فيه، ويتعامل معه دون ان يكفر او يستسلم..."

"اللغة في الرواية تعد الركيزة الأولى والأهم لبنائها الفني، فاللغة تصف الشخصية أو تمكن الشخصية من وصف شيء ما. واللغة هي التي تحدد وتبني غيرها من عناصر الرواية كحيّزي الزمان والمكان. واللغة هي أيضاً التي تحدد وتبني الحدث الذي يجري في هذين الحيّزين"(2). وقد اتصفت اللغة التي استعملها منيف في روايته"الأشجار والاغتيال مرزوق"بنوعين من المستوى ففي الحوار اتصفت بالبساطة حتى تقربها في بعض الأحيان من اللغة المحلية كما في الحوارات الآتية:

"- حسب التيسير، ولكن المعدل بين ساعتين وثلاث ساعات!"ص17

"- شكرا؟؟ والحمد لله!"ص18

"- اشتري ملابس قديمة، وأبيعها في أول مدينة بعد الحدود

- وتربح من ذلك؟

- ربك ساترها!"ص22

"يجب ان لا تتركيه هكذا. اليوم شقاوة أولاد، لكن غدا عندما يكبر يصبح مجرما ويدخل السجن. الشوارع تربي الأولاد على الرذيلة والسرقة والقتل والمقتول!"ص180

"وقال الرجال: الخيالة قتلت واحدا.. قتلت اثنين.. قتلت ثلاثة. وبعد كل قتيل كان غضب الرجال يزداد ويزداد جنونهم، حتى اكتسح كل شيء!"ص190

"والله يا أستاذ منصور المال ليس مهما، المال يأتي ويروح، المهم الأخلاق والسمعة الحسنة، وانت ولله الحمد، منصور عبدالسلام على عيننا وراسنا"ص224.

اعتقد ان كتابة الحوار في الرواية بهذا الشكل البسيط هو محاولة من المؤلف لتوصيل الحوار الى القارئ بيسر وسهولة لإعطاء الصورة القريبة عن الشخوص الذين يتحدثون هذه اللغة. ومشكلة الحوار عند بعض الروائيين تكمن في أن البعض يحمل الحوار ثقلا اكبر مما يحتاجه.

بالمقابل نرى لغة الوصف في الرواية تختلف عن لغة الحوار من حيث فخامة التعابير، لرسم صور واضحة وعميقة من خلال هذه اللغة التي تصور لنا اللوحات التي اراد لها المؤلف ان تؤطر أحداث روايته:

"المدينة تبتعد، وتبتعد معها الأضواء التي بدت، أول الأمر، مثل نجوم سماء ومقلوبة، ثم أخذت تنتظم في أشرطة طويلة متداخلة، تهتز مع اهتزازات القطار الذي يصعد باتجاه الشمال.. عندما تزايدت سرعة القطار أصبحت حركاته رتيبة كأنها ضربات قلب حيوان خرافي"ص17.

"الليل في الخارج مثل خيمة سوداء قاتمة، القطار يلهث وهو يصعد التلال باتجاه الحدود."ص20.

".. كانت المدينة تنام تحت وطأة الغروب، تنام مثل جريح نزفت دماؤه طوال النهار، لم يبق إلا ان ينزلق ويموت"ص175.

".. ومنذ ذلك اليوم بدأت اقول.. واتوهم، وبدأت اركض في أحلامي، كنت اسقط الخيالة عن خيولهم، واضربهم حتى يموتوا، ولم اصرخ في وجه ذلك السمين القصير.. ولكن تمنيت لو أشدُّ لحيته!"ص191.

أهمية العنوان في الرواية

يعتبر العنوان أحد العناصر المهمة للرواية ومدخلا أساسياً في قراءة الرواية. وكثيرا ما يشير الى نص الرواية او لأهم احداثها. "ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا وتحليلا وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان. الباحث المغربي إدريس الناقوري يقول"للعنوان وظيفة اشهارية وقانونية تتجاوز دلالاته الفنية والجمالية، تندرج في اطار العلاقة التبادلية الاقتصادية؛ وذلك لأن الكتاب لا يعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتجا تجاريا يفترض فيه أن تكون له علاقة مميزة وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان، المنتج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول"(3)

وهو المفتاح الذي يسهل او ينوه عن الأحداث وإيقاع نسقها الدرامي وتصاعدها السردي. ومدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد ثيمات الخطاب القصصي، وإضاءة لها.

والعنوان يجسد المدخل النظري الى عالم الرواية الذي يسميه: لكنه لا يخلق النص فالعلاقة بين الطرفين لا تكون مباشرة في جميع الأحيان؛ انطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية للعناوين وفقا لعلاقتها بالشرح الروائي بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى.

إن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وثيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز.

لاعتبار العنوان الروائي بنية عامة قابلة للتحليل والتفسير والتقويم من خلال علاقته بعناصر النص الأساسية التي تتمثل في بناه وخطاباته، ومنظوره الفني في الشخوص والأحداث والفضاء الروائي. ولا تعبر العناوين الروائية دائماً عن مضامين نصوصها، بطريقة مباشرة او تعكسها بوضوح. فبعض العناوين غامضة ومبهمة ورمزية وضعيفة، لذلك اعتقد ان العنوان الذي اختاره مؤلف رواية"الاشجار واغتيال مرزوق"غير موفق! فمع ان"الأشجار" وهو الجزء الاول من العنوان، التي ترمز الى الحياة من خلال ما كانت تعنيه للشخصية الثانية في الرواية الياس، وإحساسه بعد خسارته لاشجاره، بضياعه واقتلاعه من جذوره التي تشكل قرية الطيبة رمزها، وهروبه الى الجبل والعيش فيه مقطوع الصلة بأهله (أمه وناس القرية) والسنوات السبع التي قضاها في الجبل هائماً يحمل سلاحه ويقتات على الحشائش وعلى صيد الحيوانات، هو رمز لفقدان هذا الشخص آدميته وتحوله الى كائن آخر، وحتى مهاجمته لبعض الناس والاعتداء عليهم, هو رمز لفقدانه مبررات عيشه مثل الآخرين، بعد ان فقد جذوره الآدمية بخسارة أشجاره، قد جاء متعلقا ومشيرا الى النص الروائي.

فنجد ان الجزء الثاني من العنوان" اغتيال مرزوق" ليس له من علاقة باحداث الرواية، ولا تجد لـ"مرزوق" علاقة بأحداث الرواية، ولا تجد له ذكر سوى في بعض صفحات "اليوميات" التي تسجل الأحداث التي مرت بها الشخصية الرئيسة منصور عبدالسلام، بعد هجرته من بلده بسبب ما كان يعانيه من اضطهاد ومحاربته من قبل أجهزة الأمن التي كانت تطارده. وبعد ان تقيله من عمله (أستاذ جامعي) بسبب آرائه التي تخالف السلطة، وتمنع عليه العمل في كل المجالات، وتصل به الحاجة الى تمني العمل صباغاً للأحذية. لذلك يضطر للهجرة من بلده والعمل مترجم في بعثة تنقيب عن الآثار.

لم يأت ذكر لمرزوق في كل أحداث الرواية، إلا في وريقات من "اليوميات".. وكأن الراوي قد استدرك في هذه اليوميات القليلة فذكره بشكل مكثف ليبرر وجوده:

"الجمعة 14 نيسان:

كآبة زجاجية حادة تسيطر عليّ الآن: كل شيء تافه وله رائحة كريهة. لم أنم الليلة الماضية لحظة واحدة قتلوا مرزوق. لا احد يدري كيف قتل. قالوا انه وجد مقتولاً والسلام!.

مرزوق الأسمر، الحصان، الضاحك.. مرزوق الانسان الذي ذرع ارض الوطن من الشمال الى الجنوب، من اجل ان يصبحوا حكاماً.. مرزوق الآن ميت. هل له قبر؟ هل دفنه أحد؟

مرزوق الآن بارد كالحجر. مرزوق غير موجود. كما قتلوه؟ لماذا لماذا؟ (ص301).

الثلاثاء 18 نيسان:

مرزوق ليس واحدا، مرزوق كل الناس. مرزوق شجرة. مرزوق ينبوع. مرزوق هو الياس نخلة الذي لا يموت"ص306.

الأربعاء 25 نيسان:

هل قتل مرزوق؟ ألا يحتمل ان تخطئ الجرائد؟ الا يحتمل ان يكون غيره الذي قتل؟ ولكن الجريدة التي أمامي تقول: "وجدت قرب محطة السكك، جثة رجل، تبين بعد الفحص ان القتيل يدعى مرزوق عبدالله مدرس للجغرافية، عمره ثلاث وثلاثون سنة وأمه هايله".

فليس من المقنع ان تكون لمرزوق هذه الأهمية في الرواية ولم يذكر عنه أي شيء او لم يذكره منصور عبد السلام وهو يتذكر ما مر به في حياته حتى حصوله على جواز السفر ومن ثم رحلته في القطار وفي الدرجة الثانية!

لكن تبقى الرواية تسجيلاً رائعا لما تعرضت له الشعوب العربية وقواها الوطنية من قبل حكامها من محاربة وقمع وتصفيات جسدية. وما حالة الشخصيتين الرئيستين في الرواية؛ الياس نخلة الذي يعيش في دوامة الخوف والحاجة والابتزاز من قبل رجال الكمارك وحرس الحدود، وما تنتهي اليه شخصية منصور عبد السلام من الإحباط والجنون إلا بسبب المعاناة التي عاشها في بلاده، ولم يعرف الراحة حتى في البلد الذي هاجر إليه ليجد له عملا فيه!

***

يوسف علوان

................

1- محمد البغدادي / لغة السرد في الرواية الجديدة/ موقع مجلة الخليج/ انترنيت.

2- إدريس الناقوري: لعبة النسيان- دراسة تحليلية نقدية-، الدار العالمية للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 1995.

رصدت روايات إسماعيل فهد إسماعيل الكثير من الهموم والأزمات التي مرت بها مجتمعاتنا العربية، ومثل اغلب كتّاب الرواية العرب، حاول ان يتكلم عن هذه الأزمات من خلال تصويرها في رواياته! واستطاع من خلال هذا الرصد، واساليب السرد المتعددة والملائمة، لكل واحدة من هذه الهموم، ان يترك بصمته الواضحة على ساحة القصة والرواية العربية.

وقد أولى هذه الهموم، -التي خلقتها الانظمة الاستبدادية العربية واكتوى بها المواطن لاعوام طوال- أهمية كبيرة، وعلى رأس هذه القضايا قضية الحريات، ومنها حرية المواطنة وحرية الرأي التي عانت منها اغلب الشعوب العربية، وكذلك تحسين مستوى حياتها المعيشية والتعليم واستثمار الخيرات الكثيرة التي تمتلكها هذه البلدان، لبناء حياة كريمة تليق بالانسان، اسوةً بشعوب بلدان العالم الأخرى. ولا نبالغ اذ نقول؛ ان هذه الانظمة، في اكثر الاحيان تكون سببا في استمرار وتفاقم هذه الازمات!

في رواية اسماعيل فهد اسماعيل" في ظل العنقاء والخلّ الوفي "طرحت مشكلة الـ "بدون" في الكويت – البدون في اكثر من دولة خليجية وليست حصرا على الكويت - وقد حرم الكثيرون من هؤلاء المواطنين الذين يسمون (الوافدين) حق المواطنة؛ (الجنسية) والهوية المدنية، مما يفوت عليهم فرص الحصول على متطلبات الحياة الأساسية، التي يتمتع بها الكويتيون، كالحق في الالتحاق بالمدارس الحكومية المجانية، والرعاية الصحية المجانية، وحق العمل بالقطاع الحكومي والملكية العقارية، إضافة لتوثيق عقود الزواج والطلاق، والحق في التنقل بين البلدان بجواز السفر. وهذا التمايز يشمل حتى الذين ولدوا في الكويت، ولم يعرفوا وطناً غيره!

ومن خلال عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي "الذي يشير الى استحالة الحصول على هذا الحق (الجنسية الكويتية) الذي رمز له بالعنقاء، معتبرا اياه: من المستحيلات، اذ كان العرب يعدون هذه المستحيلات ثلاثا: "الغول والعنقاء والخلّ الوفي" والعنقاء هو: طَائِرٌ وَهْمِيٌّ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ فِي تَصَوُّرِ الإِنْسَانِ وَخَيَالِهِ. وقد وصفه العرب في حكاياتهم انه طائر عظيم يبعد في طيرانه، ويُضرَب به المثل في طلب المُحال الذي لا يُنال. وكانوا عندما يبالغون في وصف شيء بالمستحيل يقولون أنه (من رابع المستحيلات). ويتكلم (منسي) الذي لقبه زملاؤه في المسرح بـ"ابن ابيه" كناية لعدم حصوله على الجنسية الكويتية برغم ولادته في الكويت، عن سعي والدته منذ سنوات طفولته في الحصول على الجنسية، وامتلاكهم ملفاً في الدوائر المختصة، لطلب هذه الجنسية التي اصبحت بالنسبة له ولوالدته "العنقاء" التي بات الوصول اليها مستحيلا، كذلك رؤية ابنته التي حرم منها، منذ ان رحلت زوجته، قبل ان تلدها، مع اخوها (سعود) الى سوريا لكي تحتفظ بها لوحدها. والزوجة عهود هي المستحيل الثاني (الخل الوفي) الذي يصعب الحصول عليه في هذه الايام فقد انقلبت عليه، بعد احتلال العراق للكويت عام 1990، واختلفت علاقتها به لكونه من الذين لا يحملون الجنسية الكويتية (البدون). وقد اعتبرت كل المقيمين في الكويت مساهمين في احتلال بلدها! لذلك حرمته من رؤية ابنته، رغم ان الكثيرين من المقاومين لجيش الاحتلال هم من فئة البدون، وقد قاتل الكثيرين منهم واستشهدوا، وتعرض البعض الآخر منهم للتعذيب في سجون النظام الصدامي في الكويت قبل تحريرها! وقد اتفقت مع شقيقها (سعود) -المتدين الجشع الذي استولى على جميع املاك العائلة، وتحول الى واحد من اصحاب المشاريع السياحية- لاجبار منسي على تطليقها. وسعود هو السبب في القاء القبض على منسي من قبل اجهزة المحتل، بسبب وشايته لهذه الأجهزة عن منسي، بدعوى اتهامه بالعمل مع المقاومين الكويتيين للاحتلال. وقد أجبرته هذه الأجهزة على التطوع في قوات (الجيش الشعبي) مقابل التغاضي عن هذه التهمة. وبعد التحرير اعاد سعود التلفيق على منسي مرة ثانية بانه من الذين ساعدوا قوات الاحتلال! مع العلم ان الكثيرين من المقاومين الكويتيين شهدوا له بالعمل في صفوف المقاومة. كل ذلك من اجل ان يجبر منسي على الموافقة لتطليق شقيقته عهود! ليتسنى له الاستحواذ على حصتها في الأرث، بالرغم من ان عهود تعرف نوايا شقيقها سعود في اجبارها التنازل عن حصتها من الورث، مثلما فعل لاختها جود؛ "لا يستطيع الكتابة عن الآلام بالشكل المقنع إلا من كان الألم في نفسه"- ص237!

هذه هي موضوعة الرواية التي تناولها الكاتب الكبير اسماعيل فهد اسماعيل الذي عرف من خلال رواياته التي تزيد على 20 عملاً روائياً، كاتباً مبدعاً كانت له الريادة في نزعة التجديد في تقنيات السرد العربي منذ روايته الاولى «كانت السماء زرقاء" التي اعتبرت رواية رائدة بنزعتها التجريبية وابتكاراتها الفنية، وقد اختلفت اساليب كتابته لهذه الروايات كلٌ بما يلائمها، ففي هذه الرواية التي جاءت على شكل رسائل او رسالة لابنته التي لم يرها ابداً، لتوضيح الصورة التي يجوز ان يشوهها البعض عنه، هو الذي لم يعرف وطناً غير الكويت لكن اقرب الناس له ينظرون اليه على انه غريب! "يا زينب، منذ عام 1996م، كنتِ وقتها في خامستكِ، وأنا أجاهدني بالكتابة إليكِ، أشرعُ أسوّدُ عشرات الصفحات ثمّ انقلب عليّ جرّاء يقيني إنّي في غفلة مني أكتب بانفعال غير مبرر، أصرفني عن الكتابة سنة أو أكثر، ريثما يعود توقي للتواصل بكِ" ص9.

بداية الرسالة تنمُ عن تعلق بأمل معدوم، لكن من خلال هذه الرسالة يحاول منسي ان يوضح الأمور لابنته، لتتعرف على شخصية ابيها الحقيقية، التي يتوقع ان يكون قد شوهها البعض؛ خالها سعود الذي لا هم له سوى الاستيلاء على اموال العائلة. وأمها عهود التي هربت بها الى خارج الكويت بعد تحريرها، وحرمته من رؤيتها، بسبب ضيق نظرتها وتعصبها ضد الآخرين؛ غير الكويتيين، ومنهم زوجها منسي! وهذه الرسائل، ليس الغرض منها التوضيح المهم بالنسبة له فقط! ولكن هذه الرسائل هي حياته التي لا يريد ان ينساها: "أدريك يا زينب غير معنية بقراءة تفاصيل لا تمت لكِ او لزمنكِ بصلة بينة، لكنها تفاصيلي تعيد لزمني ذاك دفئاً يحفزني أواصل"(ص14). الرواية كتبت بلغة سلسة وبسيطة، وباسلوب واضح، كأنه كتب الرواية لابنته زينب لذلك جاءت الاحداث متتابعة بصورة واضحة، عكس ما عرف عن هذا الكاتب الذي سمي بالمشاكس في كتاباته، فأغلب رواياته يتطلب قراءتها من القارئ قدرا كبيراً من الجهد، للاستمتاع والتلذذ بها، والاحاطة بجوانب صورها المليئة بزخرف الابهار التي يجيدها الكاتب. وانا مع رأي الاستاذة الكاتبة والشاعرة الكبيرة سعدية مفرّح في المقدمة التي أستُهلتْ بها الرواية والتي تقول فيها: "الرواية صعبة ليس على صعيد الكتابة وحدها بل على صعيد القراءة، وأتوقع من المتلقي أن يجتهد كثيرا في سبيل استخلاص المتع الراسبة بين نهايات الفصول حتماً"(ص 6)، مع ان اسلوب هذه الرواية جاء بسيطاً وهي قريبة للغة رواية السيرة، فالحدث من خلال الرسائل التي يكتبها منسي لابنته جاءت متسلسلة وبسيطة وليس فيها من اساليبه السردية التي وجدناها في رواياته الأُخريات. ومع هذه البساطة التي ذكرناها فلا ننسى ان عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي" قد حمل سخرية مؤلمة من الواقع الذي عاشته الشخصية الرئيسة في الرواية (منسي)! واوضحت لنا أحداث الرواية. واكيد ان اختيار هذا العنوان لم يكن اعتباطاً وانما اشارة واضحة اراد بها هذا الكاتب الكبير ان يؤكد ان خيبة منسي في الحصول على الجنسية وفي استرداد ابنته زينب ستستمر وقد اكد استمراريتها في (فصل أخير) للرواية الذي لم يضم سوى سطرين: "ورد في سفر الأحوال، إذا بلغ الكلام منتهاه حان أوان ما يسمى القول الفصل، هذا الفصل لا حول ولا قول له، زينب"(387)، فهذه الرسائل التي كتبها لابنته (زينب) مجرد شكوى هو أعلم بعدم جدواها، لأن الذي يشكو له منسي هو مثل حاله "بدون" لا حول ولا قوة لها!

***

قراءة: يوسف علوان

قراءة في القصة "رجل ينقصه الطمع" للمبدعة سلوى الإدريسي.

العنوان طريف للغاية "رجل ينقصه الطمع". طرافته تتجلى وكأن الكاتبة تعتبر آفة "الطمع" صفة مستشارة في مجتمعاتنا، وقليل من الناس من يقدر على مقاومتها في حياته اليومية. وبذلك، فكل من ينجح في النيل من هذه الظاهرة في سلوكه يعتبر حسب عمق كلمات العنوان حالة ذات خصوصية في أوطاننا العربية الإسلامية. كلمة "رجل" جاءت نكرة، والجملة في قراءتها تغوي للنطق بها بعلامة تعجب.

القصة جذابة بمنطق توالي الأحداث ولغتها الجميلة. السارد، المتسول والمتشرد في نفس الآن، يصف أوضاع الشارع العام نهارا وليلا. أثار إشكالية غزو الغرابة لحياة الإنسان في المدينة. فبالرغم من نور النهار، فهو لا يميز بين المارة رجالا ونساء. إنه يصف لنا تحولات عميقة في سلوك الناس اليومي. إنه زمن التيه والسرعة والبحث عن الترفيه المبالغ فيه ولو في الأحلام بالنسبة للمحرومين. المشاغل وهموم الحياة تبتلع ساعات أهالي المدن. يتحركون في الشارع العام لا أحد يرى وجه الآخر. الكومة السوداء ترمز لضبابية المآل والملاذ. حتى من يفكر في التعاضد وإعانة المتسولين والمشردين ماديا لا يسمح لنفسه حتى بانحناءة إنسانية لتلطيف وتدفئة نفسية المحتاجين وجبر خاطرهم والتهوين عن معاناتهم. لقد لعبت شخصية ثانوية وهامة في القصة دور هذا النموذج من الناس لإبراز استفحال مثل هذا السلوك الفتاك المنافي للمرجعيات الإنسانية المعتادة. إنه لا ينحني، يرمي النقود من علوه الشامخ، ويمضي بدوره إلى الكومة السوداء. الحياة تزداد صخابة للأقليات، وتزداد في نفس الآن صعوبة بالنسبة للعامة.

السارد المتسول، رفع شعار هزمه للطمع، لكنه مدمن طمع أكثر نبذا. قسا عليه الزمن وتنكر له القدر. يهرول كل يوم للوصول إلى عتبة منزل لا يهدأ من الصخب. متعته مرتبطة بالوصول إلى المنزل المعلوم، فيستسلم للتسلية بقهقهات أهله وشجاراتهم في منتصف الليل، بحيث تعمه النشوة الكبرى وهو يستحضر في ليله جاذبية امرأة السيد صاحب المنزل. إنه سحر المرأة الذي يستفز مكبوتاته وحرمانه كل يوم. اختيار ذلك المنزل لم يكن محط صدفة بل ارتبط بالصحب ووجود المرأة رمز زينة الحياة. يغلب عليه النوم بسرعة ليدخل عالمه اللاشعوري عبر الأحلام الحلوة. يضع رأسه فوق حياة تلك الأسرة ويغمض عينيه، يدخل منزلها في أحلامه، يركل الباب بقدميه معبرا عن كرامة وجوده المفقودة، ولا يبحث إلا عن زوجة السيد فيقبلها بعنف، ويلقيها على الأريكة... المرأة تصمت وكأنها تتذوق عالما جديدا ينسيها آلام التكرار والروتين، يدخل بعد ذلك المطبخ أمام أعينها وهي دائما صامتة، يلتهم ما تبقى من طعام العشاء. عشقه للمرأة جعله يفكر في أبنائها متعطشا للعب دور الراعي كباقي الخلق. إنه يحلم بأسرة خاصة به تقيه من طمع غزو الحيوات المقدسة للناس. يعود لزوجة السيد التي لازالت ملقاة فوق الأريكة، فيطلب منها أن تسمعه تلك التنهيدة التي لا يتملكما في واقع حياته اليومية....

هو لا يطمع إلا في الوصول إلى عتبة المنزل خائفا من فقدها في هذا الليل المتناثر في كل مكان، ثم الاستسلام لأحلامه اللذيذة ... حياته تختزل كل يوم في التسول وجمع عدد من القطع النقدية الذي يضمن له مواجهة براثن الجوع، ليستعد للدخول في مغامرة أحلام العتبة داخل كيسه البلاستيكي، الأول حلم في عقر منزل السيد منتهكا حرمته، والثاني وسط البحر داخل قارب صغير يتقاسم العواطف ولذة الوجود مع نفس المرأة... محاولته للاقتراب منها لا تكتمل. ينقطع الحلم بركلة يصوبها الزوج في وسط بطنه بحذائه الأسود اللامع، ناهرا إياه ومحذرا له بعدم العودة إلى عتبة بابه.

***

الحسين بوخرطة

.......................

قصة قصيرة: رجل ينقصه الطمع

كانت ليلة باردة جدا، دخان كثيف يملأ الشارع، لا أحد يرى وجه الآخر ..معاطف طويلة وأحذية سوداء بعضها رجالية وأخرى نسائية .. يمرون على طول الشارع إلى أن يختفوا داخل كومة سوداء لا أدري إلى أين توصل ..

يقترب مني أحدهم، يلقي داخل الصحن القصديري قطعة معدنية، أراقبها وهي تتأرجح، يتناغم صوتها مع صوت الأحذية التي تطرق الأرض كالأحصنة، لا أرى وجه ذاك الرجل أيضا، إنه لا ينحني، يرمي النقود من علوه الشامخ، ويمضي إلى الكومة السوداء. لقد جمعت ما يكفي لليوم فأنا لست رجلا طماعا على أية حال. دخلت داخل الكيس البلاستيكي، لأحتمي من هطول مطر مفاجئ، وضعت رأسي فوق عتبة منزل لا يهدأ من الصخب، تسليني قهقهاتهم، شجاراتهم بعد منتصف الليل، أصوات الصحون وهم يضعون طعام العشاء فوق الطاولة. أضع رأسي فوق حياتهم وأغمض عيني، أدخل منزلهم في أحلامي، أركل الباب بقدمي، أبحث عن زوجة السيد أقبلها بعنف، ألقيها على الأريكة التي لا أعلم مكانها بالضبط، أدخل المطبخ، ألتهم ما تبقى من طعام العشاء، أطل على غرفة الصغار، أضع الغطاء على الولد المشاغب، أقبله كأني والده، ثم أعود لزوجة السيد التي لازالت ملقاة فوق الأريكة، أطلب منها أن تسمعني تلك التنهيدة، ثم أغادر المنزل، فأنا لست رجلا طماعا...

تبدأ زخات المطر بالتراقص فوق الكيس البلاستيكي، أشعر ببعض القشعريرة، يطفئ السيد أضواء المنزل ويتركني أتحسس العتبة، خوفا من فقدها في هذا الليل المتناثر في كل مكان ..يغرق الحي بالمياه ويبدأ حلم جديد، أنا وزوجة السيد داخل قارب صغير وسط البحر، تتلاطمنا الأمواج.. أحاول الإقتراب منها، فيظهر زوجها فجأة، يركلني في وسط بطني بحذائه الأسود اللامع، وهو يقول: إنهض أيها الحقير من عتبة بابي، سأبلغ عنك الشرطة.

***

سلوى الإدريسي /المغرب

تدور أحداث رواية" الظمأ للحب"، في مزرعة فنلندية قريبة من الغابة، وتجسّد أحداثها قصة حب فريدة من نوعها، تدور بين غريب يفد إلى المزرعة للعمل فيها، وبين زوجة شابة عافت الحياة الزوجية مع زوج سكّير خامل، قضى سابقًا عامين في مصحّة عقلية، وفقد أو كاد أن يفقد جانبًا هامًا من حسّه الانساني في التعامل مع زوجته المُرهفة التي سامحته على زلّاته معها المرة تلو المرة، دون أن يتغيّر شيء فيه.. كما أرادت وتوقعت.

قبل أن أعرّف الاخوة القراء بهذه الرواية الفريدة، أود أن أعرّفهم بكاتبها.. صاحب هذه الرواية هو الكاتب الفنلندي ميكا والتاري (Mika Waltari؛ هلسنكي، 19 سبتمبر/ ايلول 1908 – هلسنكي، 26 أغسطس/ آب 1979)، (تمّ وصفه على غلاف الرواية بأنه عميد الادب الفنلندي)، وقد تعرّفت على جانب من أعماله الروائية في الثمانينيات، بعد أن قرأت روايته المشهورة "سنوحي" أو" المصري"- 1945-، وبعدها روايته القصيرة الفاتنة "شجرة الاحلام"-1961-. ابتدأ والتاري الكتابة وهو لمّا يزل على مقاعد الدراسة، وصدر له عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، مجموعة قصصية لفتت إليه الانظار. اشتهر والتاري خلال العقدين الاولين من حياته الادبية في بلاده، وقيّمه النقّاد والقرّاء تقييمًا عاليًا، إلا أنه لم يُعرف على مستوى عالمي إلا بعد أن قامت هوليوود بإنتاج فيلم عن قصته" سنوحي"، فالتفت إليه العالم، وبات شخصية أدبية هامة، يَنظر إليه محبّو الادب الروائي في مختلف أصقاع العالم، باحترام وتقدير عاليين لأدبه الروائي، ويُذكّر هذا بالكاتب السوري المبدع حنّا مينة، فهو لم يُعرف على نطاق واسع إلا بعد أن تمّ تحويل روايته الرائدة" نهاية رجل شجاع"، إلى مسلسل تلفزيوني تمّ بثه في بداية الالفية الجارية عبر أكثر من قناة تلفزية وشاهده الملايين.

تَرجم رواية "الظمأ للحب" -1947-، الكاتب المصري محمد بدر الدين خليل، المعروف بترجماته الوفيرة من الانجليزية إلى العربية، وصدرت الرواية ضمن سلسلة أدبية اشتهرت منذ الخمسينيات، حتى هذه الايام، هي سلسلة " مطبوعات كتابي"، التي بادر لإصدارها الكاتب العربي المصري حلمي مراد، فقد شاهدت واقتنيت عددًا كبيرًا من إصداراتها بعد إعادة طباعتها، وأنوّه أن هذه السلسلة الهامّة قدمت خدمات جُلّى لأدبنا العربي الحديث بتقديمها عيونًا مختارة من الآداب الاجنبية المترجمة، وأغنت المكتبة العربية، علمًا أنها سلسلة شعبية جدًا.

صدرت رواية الظمأ للحب أول مرة بلغتها الفنلندية، تحت عنوان هو " غريب في المزرعة"، إلا أن مؤلّفها ما لبث أن أصدرها في طبعة تالية تحت العنوان، الذي تُرجمت به إلى اللغة العربية، أو تحت عنوان قريب منه.

يُمكننا تلخيص أحداث الرواية بأسطر قليلة، كما أوردنا في مفتتح حديثنا هذا، مع إضافة طفيفة، تتمثّل في أن بطلة الرواية، التي تبقى حتى نهايتها بدون اسم، تُضحي بالكثير من أجل راحة زوجها، إلا أنه لا يُقدّر هذه التضحية، ابتداءً من شِرائها المزرعة لاعتقادها أنه توفّر له جوًّا ملائمًا لصحته المعتلّة، انتهاءً بتحمّلها فظاظته في معاملته لها، مرورًا بمحاولاته المتكررة لمباضعتها دونًا عن إرادتها ورغمًا عنها. العلاقة بينها وبين الغريب ويُدعى التونين، تتطور رويدًا رويدًا، وتساعد الظروف في توفير المناخ المناسب لازدهار هذا الحب، وذلك بعد أن يقوم الزوج، ويُدعى الفريد، بسرقة مال ادخرته، وتوجّه إلى إحدى الحانات البعيدة عن المزرعة، فيتوجّه التونين برفقة هيرمان- الشخصية الذكورية الثالثة في الرواية- ويعيدانه، بعد أن ينهالا عليه بالضرب، إلى المزرعة، وفي المساء يحاول الفريد اغتصاب زوجته رغمًا عنها، فيهبّ الغريب لنجدتها ويضع بذلك حدًّا لانتهاكه حرمتها. وهنا توفّر الظروف إمكانية أخرى لنموّ قصة الحب بين الغريب العامل في المزرعة وبين صاحبتها المتزوّجة. في المقابل لهذه القصة الغرامية، يَعثر الزوج/ الفريد، خلال عمله في الارض على بندقية روسية قد يكون أحد الجنود الروس دفنها هناك على أمل أن يعود لأخذها، فيخبئها احتياطًا لحاجةٍ دنا وقتُها. في النهاية يلحق الزوج عشيق زوجته إلى أعماق الغابة حيث يعمل العامل الغريب/ التونين بتقطيع الحطب، ويُطلق عليه النار. الزوجة تستمع إلى إطلاق النار هذا، فتهرع إلى حيث استمعت إليه، وهناك ترفع البلطة التي كان زوجها/ الفريد يقطّع بها الاحطاب، وتنهال بها على رأسه.

بهذا الحدث الفظيع تنتهي الرواية.

أحداث الرواية كما تتبدّى لقارئها، لي على الاقل، عادية جدًا ومن المألوف أن يقع مثلها في أي مكان من العالم، فنقرأ عنه خبرًا في صحيفة وينتهي الامر، إلا أن صاحب الرواية ميكا والتاري، تمكّن بقدرته الفائقة على السرد، أن يصنع منه رواية عظيمة، وللحقيقة هو لم يختلف في إبداعه هذا عن معظم مَن قرأنا لهم روايات من مختلف انحاء العالم، فمعظم هذه الروايات ما هي إلا قصص عاديّة، تمكّنت المُخيّلة المبدعة مِن بعث الحياة فيها لتتحول بالتالي إلى رواية أدبية من طراز رفيع وتُضاهي ما نعايشه، كلّ على حدة، مِن أحداث.. نرى أنها الاهم في العالم.

رغبة في تقريب الاخوة القرّاء من أجواء هذه الرواية أقدّم فقرة أو أكثر منها، يصف الكاتب والتاري النوبات الشهوانية الحيوانية التي كانت تنتاب الزوج/ الفريد على النحو التالي:" وكان يحبو على أربع ليضرع إلى زوجه ويتوسّل.. وقد أحس بوقدة تسري في كلّ جسمه: كل شريان تحوّل إلى أتون ملتهب.. وكلّ عصب في كيانه كان يرتعش شهوة!.. وما لبثت الابتسامة العريضة، التي كانت شفتاه الغليظتان تنفرجان عنها، أن تحولت إلى السباب.. وكانت الكلمات البذيئة تنساب من فمه، وقد تجلّت على أسارير وجهه مظاهر العته.. كانت شهوته هي جحيمه! وما أفظع جحيم الشهوة التي كانت تستعر في جوانحه- دون أن تجد إطفاء- فتلفح ريحها كلّ مَن يقترب منه..!". أما الزوجة فانه يصفها بقوله:" على أن المرأة شعرت- في ساعة الاسى المرير- أن في حياتها شيئًا واحدًا يخلق بها أن تحمد السماء عليه.. ذلك هو أنها لم تُرزق بولد.. من أجل هذا، على الاقل، كانت تكبح شهوة زوجها، حتى لا تضطر قطّ، إلى أن تعاني فظاعة وبشاعة أن تحمل في أحشائها حياة نفثها ذلك البدين الرخو، الناضح بالخمر.. وأن تشهد الطفل ينمو ويكبر فترى في عينيه تلك النظرة المعتوهة التي تلمع في عيني زوجها، وتلمس في ملامحه ما في ملامح ذلك الرجل من ضعف النفس، ومن الغش والخداع، ومن الشهوة البدينة.. وأصبحت تكره نفسها وجسدها، لأنها كانت مضطرة للخضوع لهذا الرجل..".

الظمأ للحب رواية رائعة.. أقترح عليكم قراءتها.. وهي تذكّر بالرواية الفاتنة "عشيق الليدي تشاترلي"، للكاتب الانجليزي ذائع الصيت دي. اتش، لورنس.

***

ناجي تظاهر

يُقصد بتعالق شيء ما، محدّد - معيّن، أن يُمسك بشيء آخر، مثْله، وأن يُمسك به هذا الشيء الآخر، في المقابل، ممّا يعني، حتماً، أنّهما متّسقان تناسباً أو تناسقاً لأوّلهما بثانيهما. إذاً: كِلاهما جزءٌ من كُلٍّ، هنا، حيث هذا الكُلّ، الآن، ذو عدّة أجزاء، ثلاثة فأكثر، يجب عليها، حتى لو بأدنى ضرورة؟!، أن تكون ذات بناء تعالقيٍّ دالٍّ على تماسكها المتمالِك الثابت. هذا البناء التعالقي، الذي يغدو بهذه الكينونة كُلّاً لكُلٍّ، يُفترض أنّ له كياناً جليّاً في أيِّ نص روائي ذي عنوان فإهداء <كذلك: تصدير أو تمهيد، وأمثالهما> ثمّ متن، تماماً، مثلما هو في (المواطنة 247)* لـ"بشرى الهلالي".

فالعنوان: كلمات على رأس النص تشير لمحتواه الكلي، بحسب /لوي هويك/، حيث "المواطنة 247" في سجلّ الأمن لدى منظومة الدولة، أيْ نظامها، موجودة داخل المتن عبْر "العميل (س)" مُذِ (انتقل الى ملاحظاته حول المواطنة (247)، "..." التي يعرفها حقّ المعرفة ص58) بعدما (أغلقَ القدر ملف آمنة قبل عشرين عاماً ليعودَ ويفتحه من جديد بعد أن صارتْ آمنة المواطنة (247). ص68) والآن (ها هي يده التي ساهمتْ في تأسيس الشبكة توصلُه الى آمنة، المواطنة (247)، ص75).

هنا "العميل (س)"، الذي تعالقَ به المتن مع العنوان، سيُدرك (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك هذا لا يعني أبداً أنّك تمتلكُه. ص75)، حدّ التأكّد، وهذا الإدراك هو التصدير، لكنْ هكذا: (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك.. هذا لا يعني بأنّك تمتلكُه ص5)، حيث أنه: ذو وظيفة تلخيصية، بحسب "فيليب لان"، لذلك، بتعالق: عنوان ـ تصدير ـ متن، تراتبيّاً، يتوالى سردٌ عن ذوي رؤوس على أكتاف: (تَملمَلت الأم في جلستها.. تلمّستْ رقبتها، موضع الرأس، ص6)، (اعترضت الفتاة الصغرى "...": ـ "..." أنتظرُ خروج العصفور لأعرف ان الساعة حانت لاسترداد رؤوسنا ص7)، (استجمع الأب كلّ قواه الجسدية، ضغطَ على رقبته "...": ـ "..."، رأسي خاضع لل..لل..برمجة. ص9)، (ها هو طفلها ذو الأحد عشر عاما، يعود "..."، وفمه يفرقعُ بمضغات التفاحة، "..."، كيف يمكنه أن يشعرَ بالجوع إن كان بلا رأس؟ ص16)، (لا يعنيني ان صادروا رؤوسنا، فما حاجتي الى رأس لا أعرف كيفية استخدامه، فأنا لم أفلح في دراستي، بالكاد أكملتُ الصف الأول المتوسط، ص18).

بهؤلاء "الخمسة"، هنا، يتعالق الاستهلال مع: العنوان ـ التصدير، الآن، حيث وظيفته المركزية: ضمان القراءة الجيدة للنص، بحسب "جيرار جينيت"، إذ يجمعهم ضمن أولى فقرات المتن: (تسمّرتْ أجسادهم الخمسة باتجاه الساعة العتيقة المثبتة على الحائط.. كتلٌ من اللحم والعظم، تكدّستْ أربعة منها على أريكة، الأب والأم والصبي ذو الأحد عشر عاما والفتاة ذات السبعة أعوام، بينما تكوّرتْ الصبية ذات الأربعة عشر عاماً في كرسي منفصل. ص6).

إنّهم أفراد خمسة لعائلة واحدة، إذاً، خلال تسعينيات القرن الماضي، ثم بُعيد 9 / 4 / 2003، أبرزُهم "الأم"، لا "الأب"، لأنها ماضياً "آمنة" حبيبة "سلام"، ذي القبلة المشؤومة: (لم يعد يفصل بيننا سوى هسهسة أنفاسنا التي تجري في جسدين منفصلين اتّحدا بقبلة، "..."، فتحتُ عينيّ لأرى قامة بدتْ لي شاهقة "..." ـ "..."، هيا معي الى مركز الشرطة ص36)، وهي حاضراً "المواطنة (247)" قبالة "العميل (س)"، المراقب لبرمجة الرؤوس: (صار محور تركيزه هو حمايتها من عيون المتلصّصين. ص75)، أيْ تعالَق بهما الزمنان المتنائيان: الماضي ـ الحاضر.

هذا التعالق الزمني، بوصفه جزءاً من البناء التعالقي، له مثيل عبْر <"آمنة جابر" = "المواطنة 247"> ذاتها: إذ أن ماضي "الأم" ـ بسنّ الـ17 ـ مع "ابن الجيران" مُذ (قذف بورقة مطوية، عثرتْ عليها "..." حين كانتْ تنشر الملابس، ص52)، ثم راح (يرسل لها الأشعار، يدسُّ لها الرسائل في كتاب مدرسيّ، يغني لها عبر الهاتف، ص54)، سوف يكرّره حاضر ابنتها ـ بسنّ الـ13 ـ مع "ابن الجيران" أيضاً: (رمى لي وردة حين كنتُ أراجعُ دروسي قبل سنة. ص20)، حتى: (فاجأتني أمي "..."، اثناء نزولي السلّم متسلّلة بعد رحلة عاطفية نظّمتُها للاحتفال بعيد ميلادي مع حبيبي ص19)، لذلك تواجه الابنة أُمّها: (أحببته من خلالكِ "...".. بذاكرتك التي كانتْ تعرفُ الحب، على سطح الدار ص20)، مضيفةً: (حين كنتِ في مثل سنّي ص.ن)، وحين تطلب "الأم" من "الأب" إيقافها عند حدّها، بعدما (تجد ابنتها في أحضان شاب وفي سطح دارهم، ص54)، يواجهها مستهجناً: (ألم تفعلي شيئا مماثلا في سنّها؟ ص.ن).

كِلا التعالقين الزمنيين هذين تمثيلٌ غيْر حصريٍّ عن تداخلات جليّة للماضي بالحاضر، متشارِكة لا متقاسِمة، يُمتّن ترابطها مع تماسكها ساردٌ خارجيّ، إطاريّ، بأنْ يستدعي لأيِّ واحد منها سارداً داخليّاً، صوريّاً، أنّى ارتآه ضرورةً:

ففي المقطع {3}، بعد سرده المقطعين السابقين عن الأفراد الخمسة للعائلة الواحدة، يستدعي "الأم" منذ استهلاله: (أما أنا، فلا أشبه غيري من النساء. ص14)، حتى: (تمنّيت أحيانا لو أني ولدتُ برأس بلا زوايا ولا أفكار، "..."، "...". ص16)، ثم يتولّى السرد عنها عقِب فصلة ثلاثية (***): (لم يتبقّ سوى ساعتين على انتهاء القطع ليعود رأسها، ص.ن).

وفي المقطع {4}، بعده، يستدعي "الصبية ذات الأربعة عشر عاماً" منذ استهلاله أيضاً: (أما أنا فلا تعنيني البرمجة، ص18)، حيث "أمّا" لافتتاح الكلام، أيْ في "أما أنا فلا" دلالة على تشبّهها بأُمّها، التي قالت قبْلها "أما أنا، فلا"، لهذا يستدعي "الأم" للسرد بعدها عقِب فصلة ثلاثية (***) كذلك: (مدهش أن يكبرَ الأبناء دون أن نلاحظ ذلك، ربّما نلاحظ! ص22).

أيضاً يستدعيها في المقطع {5} منذ استهلاله: ("..." اسمي كان.. وما يزال.. حسبما أتذكر.. آمنة، ص24)، مؤكِّدا أهمّيتها، ثم يستعيد السرد منها، عقِب فصلة ثلاثية (***) أخرى، إنّما عنها: (ما زالت تتكوّم على السلّمة الأولى حيث تركتْها ابنتها الكبرى ص25).

أخيراً يتذكّر "الأب" في المقطع {6}، بعد خمسة مقاطع كاملة!، فيستدعيه منذ استهلاله: (فعلوا خيراً حين صادروا رؤوسنا، وحجبوا الذاكرة.. فرأسي يكاد ينفجر حين يعود الى مكانه. ص30)، تماماً، لكنه يستردّ السرد منه سريعاً، حتى بدون فصلة ثلاثية (***)، حين تنتابه قرقرة (وعندما.. عندما.. عن..د..ما.. ص31)، أيْ حُجبت عنه ذاكرته، إذ (قرقرَ وهو يرفع يده الى مكان الرأس ليتأكد من وجوده.. ص.ن).

فهو يركّز على "الأم"، لا "الأب"، لذا يستدعيها مرة رابعة منذ استهلال المقطع {7} (أول قبلة، هل سأنالها حقّاً؟ ص34) مفصّلةً بتسع صفحات حدث القُبلة المشؤومة لأنه محوريٌّ.

ثم يستدعي "الفتاة ذات السبعة أعوام" منذ استهلال المقطع {8}: (بسببه كرهتُ البرتقال، ص47)، تقصد أباها صاحِب تسميتها بـ"البرتقالة"، لكنْ لصفحة واحدة وبضعة أسطر، فقط، لأنها مجرّد بنت صغرى لا أهمّية ملحوظة لها.

بعكسها "الصبية ذات الأربعة عشر عاماً"، أيِ البنت الكبرى، فلَها الأهمية الملحوظة المتأتّية من تشبّهها بـ"الأم"، لا "المواطنة 247" بل "آمنة جابر" هنا، لهذا يستدعيها مرة ثانية منذ استهلال المقطع {9}: (ادّخرتُ مصروفي لمدة شهر كي أقتنيه، ص51)، متحدّثة عن طلاء أظافر، وعندما يسترد السرد منها، عقِب فاصلة ثلاثية (***) كالمعتاد، يُبقيه عنها بوساطة أُمّها: (كان عليها أن تخبره بالأمر، "...". يجب أن يعلم فهذا الأمر ليس بالهين، "..."، يعني ان الابنة في خطر، ص54).

بعدها يعود إلى "الأب" في المقطع {11}، بعدما سرد سابقه {10} عن ("العميل (س)" > "سلام")، منذ استهلاله: ("لـ"طالما ظننتُ انني أستخدمُ رأسي بالشكل الصحيح، ص59)، لذا أصبح مدرّس تاريخ، إلّا أنّ هذه العودة بصفحة واحدة فقط، لا أكثر، إذ يستعيد السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) أيضاً، بأنْ يتناول لأربع صفحات وثلاثة أسطر علاقته مع زوجته التي (لم تتقبّل فحولته يوماً. ص60).

في المقطع {16}، بعدما سرد مقطعين عن ("سلام" > "العميل (س)") ومثلهما عن ("المواطنة (247)" > "آمنة")، يستدعي "الصبي ذا الأحد عشر عاما" منذ استهلاله: ("...". هذا ما كانت ماما تردّده دائما في سنواتي الأولى، ص84)، أيْ (ستُصبح مهندساً حين تكبر. ص.ن)، ويستردّ السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) طبعاً، لكنْ عنه (في ذلك النهار.. يتذكر الصبي ص88) ثم عن أُمه (في ذلك اليوم، عادت آمنة ص90).

بعده يستأثر بسرد جميع المقاطع الأخيرة، من {17} إلى {30}، ممّا يعني أنّ استدعاءه ساردين داخليّين، صوريّين، قد اقتصر على: الأب والأم والصبي ذي الأحد عشر عاما والفتاة ذات السبعة أعوام والصبية ذات الأربعة عشر عاماً، أيْ عائلة "آمنة جابر"، دون سواهم، خمستهم، بمن في <سواهم> ثمّة ("سلام" = "العميل (س)") خصوصاً، حدّ الحصر!، بالرغم من محوريّته، التي تُماثل محورية حبيبته الوحيدة، إنّما يجعله سارداً ضمنيّاً، تلميحيّاً، بأنْ يبعث <رسالة أخيرة> إلى ("آمنة" = "المواطنة (247)")، تبدأ هكذا: (حين تصلك رسالتي هذه، أكون قد ابتعدتُ تماماً، ص150)، فتعدمها: (طوت الرسالة دون اهتمام وألقتها في سلة المهملات القريبة من سريرها، تأففتْ، نهضت، لتلتقطها ثانية من السلة، مزّقتْها قطعا صغيرة، دسّتها ثانية في قعر السلة، فما جدوى الاحتفاظ برسالة منه! ص151).

إنّ في إعدامها هذه "الرسالة"، والشيءُ يُذكَر بالشيءِ، ما يدلُّ على تخلّصها من آخر آثار الحكم السابق (كالعديد من أتباع السلطة وذوي المناصب والذين يعملون في أماكن حسّاسة حتى وإن لم يكن لديهم منصب سياسي أو عسكري "حيث" سلام" أحد هؤلاء، ص148)، بعدما سقط (منذ دخلت القوات الأجنبية العاصمة ومحافظات البلد الأخرى، ص.ن)، إذ كانت مناوئةً له: واقعيّةً بصفتها "آمنة جابر" (يوما بعد يوم، ازدادَ عدد التوابيت التي دخلتْ حيّنا يقابله خفوت لعلعة الزغاريد، ليرتفعَ صوت الصراخ والعويل فقط، ويصل أحيانا الى حدّ السباب والشتم والدعاء على من كان السبب، فلم يعد الأهالي يفخرون بابنهم (الشهيد) قدر حرقتهم على فقدانه، حتى أمي، لم تعدْ تولولُ هي الأخرى عندما ترى مشهد التابوت المغلف بعلمٍ عراقي وهو يُقدّم لأهل الشاب كهدية ليلة الميلاد المفاجئة، مضافاً إليها شهادة الوفاة. ص25) – رمزيّةً بوصفها "المواطنة (247)" (ذاكرتي حية، لذا ما زلتُ حية، ويجب أن أفعلَ شيئا، لنْ أستمرّ بقبول هذا.. أن أظل سجينة البرمجة، لن أسمح لهم بأن يأخذوا رأسي متى شاؤوا ليعبثوا به بأصابعهم القذرة، لتتجوّل فيه أعينهم اللئيمة كما يتفحص الجنود غنائم الحرب. ص44).

ولأنّ العنوان هو "المواطنة (247)"، لا "آمنة جابر"، هيمنت على المتن، حتى استغلاقه: (بما تبقى لها من ذاكرة، أدركتْ بأن رياح التغيير أطاحت برؤوسهم من جديد...! من الذي أعاد العمل بنظام..ال..ب...ر...م....ج....ة! ص152)، ما عُرفت اختصاراً ببرمجة الذاكرة، المأخوذة فكرتها من برمجة كهرباء (العراق) خلال تسعينيات القرن العشرين الماضي، إذ هي (أكبر منظومة للتجسس على رؤوس المواطنين، وصولاً إلى حجب الذاكرة، "..." ببرمجةٍ تسمح للفرد أن يمارس فعالياته الحيوية والحياتية بما يكفي لبقائه ولأدائه عمله. ص75) بشرط أنّه (يعرف ان أي اختراق للرأس من قبل شخص آخر غير الجهات المختصة قد يتسبّب في خلل في البرمجة، الأمر الذي ينتج عنه القبض على الشخص وإيداعه في سجون التربية العقلية في حال اُكتشفَ الأمر، هذا ان لم تكلّف الشخص خسارة رأسه الى الأبد. ص: 79 ـ 80) مع وجود (لجنة المراقبة لإحصاء الرؤوس وتسجيل أسماء أصحابها ومنح كل واحد منهم رقما يظل محفوظا في سجلات سرية لا يسمح لغير لجنة المراقبة الاطلاع عليها. ص92)، هنالك عند (أبعد نقطة في العاصمة حيث يقبع مركز مراقبة الذاكرة، البعض يقول انّه ملحق بالقصر الرئاسي ولا يمكن الدخول اليه الا بموافقة القائد أو من ينوب عنه من المقربين، والبعض يقول انه يقبع في أعماق دجلة في غواصة لا يغادرها الخبراء الذين يعملون عليها الا للضرورة القصوى، كموت أحدهم مثلا. ص79)، وهذه كُلّها كناية عن القبضة المزدوجة للحكم السابق: الحديديّة الناريّة، الأمنيّة العسكريّة، السياسيّة الآيديولوجيّة، إلخ؟!، والتي تراخت كثيراً منذ نهايات تلكم التسعينيات حدّ السقوط قبيل الضربة الشاملة للاحتلال اللاحق: (اقترب بسرعة وانحنى واضعاً يده اليسرى على المكتب قائلا بصوت متقطع من أثر اللهاث: - تمّ اختراق منظومة المراقبة، قمْ بإتلاف ما تستطيعه من ملفّات يا سلام، حتى لو اضطررتَ الى تحطيم الحاسبة. اتّسعت حدقتاه وهو ينقل نظره بين المدير والشاشة كأنه يعجز عن الفهم، كرّر المدير العبارات بنفاد صبر: - نعم إنها مصيبة، الاختراق ليس من داخل البلد، انها طائرات أمريكية مسيّرة، ص130).

هكذا شُيّد، إذاً، البناء التعالقي لـ((المواطنة 247))، نصّاً روائيّاً، على أساسين متينين: أوّلهما "السارد" بأنواعه الثلاثة: الخارجي ـ الداخلي ـ الضمني _ "المسرود" بمكوّناته الأربعة: الحدث ـ الشخصية ـ الزمن ـ المكان، معاً، جامعيْن لـ(السرد): شعريّة تقنيّة "بويطيقيّة" + علاميّة دلاليّة "سيميائيّة"، متناسقتين متساوقتين، وهذا يُحسب لـ"بشرى الهلالي".

* المواطنة 247، رواية، بشرى الهلالي، منشورات تأويل للنشر والترجمة ـ بغداد "العراق"، ط1، 2023.

***

بشير حاجم  

"لست أنت" مجموعة قصصية للقاصة والأديبة صبيحة شبر، صدرت عن دار (ضفاف) للطباعة والنشر والتوزيع / 2012 ضمت 18 قصة قصيرة. وكانت القاصة قد أصدرت مجموعتها القصصية الأولى (التمثال) في الكويت عام 1976، غادرت وطنها العراق عام 1979 بسبب النظام الديكتاتوري في العراق، واصلت الكتابة في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد). استقرت بها الأمور في المغرب عام 1986، نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 – 2004، أصدرت مجموعتها القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في جمهورية مصر العربية، صدرت لها المجموعة القصصية الثالثة (لائحة الاتهام تطول) في 2007، التابوت، مجموعة قصصية صدرت عن دار كيان للنشر والتوزيع/ مصر 2008. كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب في عام 2007. اختيرت افضل كاتبة في المحيط العربي عام 2009.

تثير شخوص قصص وروايات الكاتبة صبيحة شبر، هموم وهواجس المرأة العراقية، فأكثر هذه الشخوص هي لنساء يعانين من أبناء جاحدين، وازواج ظالمين، ومجتمع ينظر لهن بدونية مؤلمة، فهن نساء مستضعفات ينتظرن مصيرهن الذي يفرضه عليهن مجتمعهن، وما يحكم هذا المجتمع من تقاليد بالية تنظر للمرأة كحاجة ضرورية للرجل من حقه ان يرفضها او يستبدلها متى ما شاء. يقول الكاتب ناطق خلوصي : "ان عالم المرأة القاصة الفسيح ينفتح على حزمة من هموم وهواجس ومشاغل وارهاصات ومشاعر خاصة بها، لا يمتلك غيرها القدرة على اختراقها ابداعياً، للتعبير عنها بالشكل الذي يغطي اشكالياتها المختلفة، وبما تمليه أحاسيسها الداخلية، بخلاف ما يفعله القاص الذي يتعامل معها من الخارج عند تناوله لها، فيتجلى في ذلك الفارق في مستوى الصدق في التعبير عنها بينهما". لذلك تجد في قصص الكثير من هذه النماذج التي استطاعت ان تعبر عنها بشكل رائع فهاهي؛ الأم التي تنتظر ان يزورها ابنائها ، رغم نسيانهم لها خلال هذه الفترة الطويلة لكنها تبقى تمني النفس في هذا الأمل وهي التي تضن على نفسها فيما تحتاجه، حتى الدواء الذي يطلب منها الدكتور الذي يعالجها ان تأخذه في أوقاته. وبسبب طلباتهم التي لا تنتهي فتقنع نفسها؛ "صحتي ممتازة، والله وهبني قدرة على الاحتمال وهم احبتي" ص6.

"يوم جميل، جهزت له نفسك، هيأت أطعمة تعرفين ان احبابك يرغبون بها، ذهبت الى أسواق بعيدة، لتوفيرها في هذا اليوم" ص7.

لهفتها لسماعهم يقولون لها "عيد سعيد يا أمي" دفعتها للأهتمام بالبيت وأحضار ما كانوا يودون رؤيته سابقا عندما كانوا يحضرون لرؤيتها في هذه المناسبات. نسيت مرضها وانغمرت في التحضير لهذه المناسبة، تذكرت: "كان المنزل مليئاً بالمحبة، وزوجك باسط ذراعيه الحانيتين، يتغلبان عل أي هفوة من الأبناء غير مقصودة، قد تسبب لك الألم" ص7.

في ساعات الانتظار الثقيلة، تتذكرين سنين عمرك التي قضيتيها من أجل اسعادهم، وكنت تحلمين ان تريهم رجالا سعداء، ها أنت تنتظرين قدومهم، أنهم أولادك، حريصون على هنائك سوف يحضرون ليهنئوك.. "أيامك هانئة أمي" ص9.

"تمضي الساعات، ونظراتك معلقة على النافذة، عل أحدهم يسرع، ليضع حدا لمعاناتك التي لا تنتهي، انت الثكلى وأبناؤك أحياء يرزقون" ص9.

اللغة التي تتسعملها القاصة تزيد من قتامة الصورة التي ترسمها لحياة هذه الأم التي تنتظر ولكن ليس من أمل: "أنت الثكلى وأبناؤك أحياء يرزقون" سخرية التسميات "أبناؤك أحياء يرزقون" وما فائدتهم لها، اذا لم يسألوا عنها في مثل هذا اليوم!!

في القصة التي حملت المجموعة اسمها "لست أنت" صراع مع النفس ليس من أجل أقناعها، بل من أجل خداعها، فـ"لست انت" تأكيد لنفي النفي، أنت لست أنت! محاولة لتحسين صورة شخص ما، ترفضه النفس، لكن بقايا حب يحاول ان يجد له موطئ قدم في حاضر خائب.

ما الذي يجعلنا نتعلق بشخص سافر ونسى أهله وأحبابه وماضيه، سوى الاصرار للتعلق بأمل واهي؛ "خمس سنوات، مرت عليّ كدهر بتعاستها وقسوتها، نسيت كل آلامي ووحدتي وشدة غربتي، طوال سفرك، وفرحت من كل قلبي، لانك عدت بعد السفر والبعاد" ص 83.

محاولة لتكذيب الواقع، والتعلق بأمل لم يعد موجود، لكنها محاولة للعيش على ماضٍ شهدنا موته؛ "أقمع اسئلة عديدة يطرحها عقل ما زال يعمل، قد أجد لك عذرا، انك لم تتصل بي، لكن ما علتك للانقطاع عن شخصين تعبا من أجلك؟" ص 84

خمس سنوات من دون ان يسأل عنها، غير أنها انتظرته، يا لبئس الأنتظار، الذي لم تغيره محاولاتها لاقناع النفس، بعدم معرفتها بالظروف التي كان يعيشها. ولعلها هي السبب الذي تتعلل به لانقطاعه عن السؤال عنها وعن عائلته. رغم محاولة أخيها؛ "هل تطمئنين اليه؟ لقد باع ابوه المنزل البسيط الذي يسكن فيه من أجل ان يبعث له النقود" ص86. ولم يسأل عن والده ولو مرة واحدة. ورغم ذلك فأنها مصرة على العيش من أجل أمل دفن قبل خمس سنين. لكن الأمل يتلاشى حينما ترينه بعد هذا الزمن البعيد: "استقبال بارد، لم أجد أنت بدفئك القديم، مخلوق اخر يشبهك، أناقة مفرطة، تبدو عليك الوجاهة والغنى، لم اشعر أنني خطيبتك، وكيف لي بهذا الشعور وانت لم تتصل بي ابدا" ص87..

لقد اجادت القاصة في تصوير المعاناة التي تعيشها المرأة في حياتها اليومية، فهذه الأم التي تأمل ان يزورها اولادها، ليردوا لها ما اعطته لهم، خلال سنوات عمرها الذي شارف على نهايته في قصة (ابناء أبرار). والمرأة المريضة الذي يخبرها الطبيب انها شفيت غير ان تحليلاتها الأخيرة تكشف لها غير ما اخبرها الطبيب المعالج في قصة (التشخيص). وفي قصة أخرى (التابعة) تصور لنا حالة المرأة الضعيفة البلهاء التي لا شخصية لها. والمرأة التي تتقبل نسيان حبيبها لها وتبرره في القصة (لست أنت).

***

قراءة: يوسف علوان

عتبة النص/العرض

العنوان هو العتبة التي يخطو المتلقي من خلالها الى الانطباع الاولي، ويدخله الى عوالم النص/العرض، والعتبة هنا (أنا) ماكبث وليس كل التركيب النفسي لشخصية ماكبث. شخصية الإنسان مكونة من (الهو – الانا – الانا الاعلى) بحسب (سيغموند فرويد) الأنا هي وعي الفرد الخالص لا تخالطه الرغبات والغرائز وليست وعيا جزئيا، ماكبث واضح، فلا عقد لديه ولا صراعات ولا مشاكل تعكر صفو الدفاع عن نفسه، انه يريد إثبات براءته من جريمة قتل الملك (دنكان) بتعزيز من زوجته المساندة له دائما، قدم المؤلف (الأنا) على جميع الشخصيات والأحداث وجعلها بارزة في بنية النص، ومن البراعة اختيار المؤلف لأجواء ما بعد الموت لوقائع دفاع (أنا) ماكبث عن نفسها، انها تريد إحقاق الحق حتى لو كان هو والقاضي الملك لير ودنكان الملك المقتول في قعر الجحيم ويحيط بهم حراسها

جاء وصف حالة ماكبث النفسية على لسان إحدى الساحرات: (ان ماكبث يصرخ ويثور ويغلي كالتنور في كل ليلة صارخا برفات الموتى بأنه قد غدر به التاريخ وحواشي الملوك ومدوني الشعر) ينهض ماكبث وتبدأ الأحداث لتشكك المتلقي بما عُرِف من مسرحية شكسبير، وتزيح قناعته بصدقية كتابته للتاريخ، مع ملاحظة ان الصدق الشعري الذي جاء في المسرحية أكثر بلاغة من الصدق التاريخي بل وأوسع انتشارا، وهنا جاء المؤلف منير راضي ليعيد كتابة (ماكبث) بصدق شعري جديد، على وفق قراءة معاصرة ذات وجهات عدة منها:

- ما كتبه الشاعر (شكسبير)

- ما كتبه المؤرخون / روفائيل هولينشيد

- ما ورد في متصفح جوجل

-  ما جاء على لسان الساحرات (المعاصرات)

تم استعراض هذه الوجهات برؤية يستشفها المتلقي بعد أن حدد مسارها المؤلف منير راضي والمخرج طلال هادي في العرض، حتى لو تشابهت الوجهات، لابد أن يتضمن الفن/الدراما شيء من عدم التطابق مع وقائع التاريخ ومع ما قدم من الأقدمين /السابقين لأن الفن – بالتأكيد – ليس نسخا ولا تسجيلا، بل هو رؤية جديدة محاطة بهالة جمالية تقدم للجمهور المعاصر، وهذا ما سعى إليه القائمون على عرض مسرحية (أنا ماكبث).3760 انا مكبث

تناغم التأليف والإخراج وافتراقاته:

ان يكون المؤلف معاصرا وحاضرا الى جنب المخرج، ذلك امر يستدعي الكثير من الحوار والنقاش بينهما، بدأً من الخطوة الأولى في عملية الإخراج (اختيار النص) وانتهاء الخطوة الاخيرة (الجنرال بروڤة) وصولا الى يوم العرض الأخير. وقد لا يعني المتلقي حضور او عدم حضور المؤلف وملازمته التمارين، لأن الحصيلة النهائية هي العرض بصورته الماثلة أمامه، لقد افترق المخرج عن نص المؤلف بحذف شخصيات وتكثيف حوارات وتقديم إضافات وتناغم بالرؤية وصنع الأحداث وانشاء الأجواء، فكانت المحصلة: إن حضور المؤلف انعكس ايجابيا على الإخراج وفي بناء العرض لأنهما (المخرج والمؤلف) يشعرون ويفكرون بـ (الآن وهنا وبما يكمن في الوعي المجتمعي).

تأسس العرض على فكرة مركزية هي: أن التاريخ والشعر قد ينطوي على تظليل، لذا يجب اعادة صياغة الاحداث على وفق المنطق الفني المعاصر مع الأخذ بالاعتبار (أن الطغاة لا يعرفون أنهم طغاة ما لم يواجَهوا بما فعلوا) يقول ماكبث مخاطبا زوجته في النص:

ماكبث: من أجلك سيولد ماكبث من جديد، سأفك قيد التاريخ، وسأرفع ستائر الليل الهزيع عن نوافذ الزمن الصائحة ببراءتك وبياض صفحتي.

فكانت بداية أحداث العرض بمطالبة من (ماكبث) وبتحريض واسناد من زوجته ببراءته مما نسب إليه في قضية اغتيال الملك (دنكان) في قصره.

تكونت بنية العرض من جزئين غير متناظرين من حيث الزمن وتدفق الفعل الدرامي، ففي الجزء الأول ساد التشويق وعمت الاكتشافات وتصاعد الفعل منذ البداية بتضامن الحوار والموسيقى ومكونات السينوغرافيا وحركة جميع الشخصيات الموضعية والانتقالية التي غطت مساحة الخشبة بتوازن جمالي معبر ومتنوع المداخل والمخارج، وصولا الى لحظة مغادرة (دنكان) بيئة الحدث بعدما أدلت الساحرات بشهادتها وقالت:

- قُتِل الملك دنكان في معركة قرب مدينة الجين

- نعم وليس في غرفته وعلى فراشه كما ذكر في سفر الرواية

ويقر (الملك دنكان) بصحة كلام الساحرات، فيتضح زيف رواية شكسبير التي كتبها ارضاءا للملك وأعوانه وحاشيته بحسب قول ماكبث، وتشهد الساحرات لصالح ماكبث وتزكيه (كانت البلاد في حكم ماكبث تنعم بالهدوء والسلام لمدة سبعة عشر عاما)

لقد حفل الجزء الاول من زمن العرض بتسارع في وتيرة الأحداث وتفعيل قطع المنظر الساكنة من خلال تحريكها وجعلها علامات تسهم في تعزيز بنية العرض الدرامية، فضلا عن تعرف الشخصيات وانكشاف الأشكال غير المتوقعة التي بدت عليها وبنيتها المغايرة للصورة التقليدية التي يحتفظ بها المتلقي في ثقافته.3761 انا مكبث

حيوية الساحرات

صورة الساحرات التقليدية: كبيرات في السن، شريرات، اشكال اقرب للقبح، لديهن اكسسوارات لإظهار قدراتهن السحرية المخيفة ) صورة الساحرات في ( انا ماكبث) فتيات كثيرات الحركة والفعل ويحضرن إلى الخشبة بقول يحسم أمرا، لديهن اكسسوارات معاصرة - قبعات، وتزينهن اجنحة ملائكية، خفيفات الظل، وبلا مبالغة إن قلنا أنهن الروح الحيوية التي أسهمت بصورة فاعلة بتقريب مجريات الخشبة من الجمهور وصنعت وشائج جمالية بين العرض ومتلقيه من خلال كسر التوقعات وما حملن من مفاجآت، وضبط إيقاع العرض الذي تلافى صيغة الإلقاء - وهو امر حتمته لغة المؤلف.

في الجزء الثاني من العرض التزمت الشخصيات – عدا الساحرات - موقعا محددا من خشبة المسرح (بقي الملك لير في مكانه –وسط وسط المسرح - لم يتحرك، أتخذ ماكبث جانب يمين الخشبة غالبا بعد ان تحرر من قبره، شكسبير يتحرك في يسار الخشبة، حراس الجحيم يشكلون خلفية في عمق الخشبة وجوانبها، أما الليدي ماكبث فقد كان ظهورها واختفائها المفاجئ وكلماتها القصيرة المؤثرة في دفع براءة ماكبث وإضفاء شحنة عاطفية على الجو النفسي العام.

لقد فَعّلَ المخرج شخصيات الساحرات بحركة انتقالية وحوار انتهك اللغة الفخمة التي تمتعت بها الشخصيات الاخرى مما جعلها فاعلة وإن كانت تتحرك موضعيا.

في الجزء الثاني من العرض وتحديدا بعد انسحاب دنكان من الجلسة عندما داهمته الساحرات بحقيقة مقتله بعيدا عن قصر ماكبث، انتهت المفاجآت، وحضرت السجالات بين شكسبير وماكبث وبينهما القاضي الملك لير، وتجلت قوة لغة الحوار وصوره الشعرية بأصوات الممثلين المحكمة الأداء مما جعلها فعلا اخراجيا مقصودا لعودة سيادة الكلمة الى المسرح حيث سادت الكلمة وبادت الحركة، حتى النهاية، وكان امر لغة القاء الحوار الذي بدا مؤثرا عندما القى (لير) خطبة قصيرة وتفاعل الجمهور بالتصفيق لها.

علامات بارزة ختمت العرض:

غوغل: بعد أن كان شعار متصفح الويب جوجل متدليا، هبط من الاعلى وظهرت شخصية تتحدث باسمه و أدلت بشهادة، مما جعل امتداد حكاية أحداث المسرحية هو من تاريخ كتابتها بقلم شكسبير عام 1606 م تقريبا والى (الآن)

الساعة المثلومة: توسط مجسم الساعة فضاء المسرح مع احتواءه على جزء مفقود وارقام ممسوحة، ثمة ثغرة في الزمن يمكن النفاذ منها.

لقد كتب (منير راضي) واخرج طلال هادي وقدم الممثلون والفنيون مصداقا بدرجة عالية لمقولة (هربرت ريد): " إن الوظيفة الحقيقية للفن هي التعبير عن (الإحساس) ونقل (الفهم) وهذا هو ما تحقق منه الإغريق بصورة كاملة، وهذا هو ما عناه أرسطو كما أعتقد، حينما قال بأن هدف الدراما هو أن تطهر مشاعرنا. إننا نأتي إلى العمل الفني ونحن محملون فعلا بتعقيدات وجدانية معينة، ونحن لا نجد في العمل الفني الأصيل الحقيقي تحقيقا لتلك المشاعر أو تطابقا معها، وإنما نجد السلام والسكينة والاتزان العقلي" (1)

***

حبيب ظاهر حبيب

.....................

* عرضت الفرقة الوطنية للتمثيل مسرحية (أنا .. ماكبث) بتاريخ 14-16/ 9/ 2023 على مسرح الرشيد.

(1) هربرت ريد: معنى الفن، ط2، ترجمة: سامي خشبة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص296 .

عادل مردان يكتب الشعر كباحث، لا يكف عن البحث، موضوعاته، مادته، يوسعها حتى النهاية، أو يعيد التفكير فيها، المعرفة في الشعر تدخل في نصوص أشهر شعراء العصر: إليوت، باوند، وبيرس، وآخرين، المعرفة في الشعر ذات خصوصية تنتظم في اكتساب الأداة الشعرية، المعرفة في العالم هي نفسها المعرفة في الشعر، مع انها تستعمل وسائل أخرى، الفرق هي الوسيلة  وليس في الغاية.

يحاول الشاعر عادل مردان في (كتاب جامع الأصداف 2023)، أن يلعب هذه اللعبة، أي أن تكون الكلمة بذاتها نوعاً من الكيمياء، نوعاً من التركيب الذي تكمن اسراره في الاحتمال، والنتائج والمعاني الخفية.

هذه هي المغامرة الحقيقية، هي أن تدخل الكلام في تركيب النظرة الشعرية، وهذا يعني رأساً أنني أنفر النظرية، لأنها مقيدة.

قصيدة عادل لا تبدأ بموضوع، الموضوع كمادة للشعر يفقد الكثير من اغراءاته، انما الموضوع احد مكتشفات القصيدة، احدى منصاتها للتوغل في الحقول الحسيةالتي تنبع من خصوصيته، من شخصيته هو، أي من التجربة الحياتية، تسليم القدرة الى اللغة الى الكلمات التي تكون وفيةعادة، بصدق ووفاء الشاعر لها.

ها نحن نترك على صرحها الأكاليل

هل ماتت الحقيقة؟

الأرض تهرع بأثداء دامية الى الكهوف

في صحراء العالم صوت جارح

يقطع سكون الليل

هناك دهاليز تنبع من احساس الشاعر لحظة الكتابة، هي التي تفرض التسلسل المنطقي للنص ولمفرداته، في شعر عادل نجد أشياءً مثل : الخشخاش، الأريكة، الحمام، الخشب، الوحل، القوقعة، الغازات السامة، القنطرة، الشرشف، جرة النبيذ، عربة الخردوات، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما ندخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تطفو وتأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا  الى فكرة السيميائية في الشعر.

دائماً يضطجع البله

في مقمورة الثناء

ان أهم ما نلاحظه في هذه النصوص جميعاً، هو تسللها الى مناطق الظل في الحياة اليومية، تتسلل بمهارة وهدوء الى هذه المناطق والأقاليم، لكن لتهتك عاديتها ويوميتها، هذه اللغة لغة راهب، مباغتة ومفاجئة ومراوغة، ومن هنا أهمية المفاجأة، لأنها تأتي من حيث عبورها، انطلاقاً من اليومي، من أمكنة تبدو قريبة ومتاحة، حميمة، لكنه يجعلها حين يمارس فعل التحويل فيها، سحيقة وبعيدة في أغوار ومجاهل الذات، رؤية الانسان للعالم.

أسمالنا شاردة على الأرض

يسبح الصبية

وأنا أتأمل النهر

*

أتأمل من النافذة

اشتعال الاكاسيا

يتكتك عصفور الساعة

آه... انها الواحدة

تزود ايها العابر

ويبقى هذا الفعل بما هو شعري ذا أهمية قصوى بالنسبة للنصوص، انها تدخل على متلقيها دهشة متفردة غير متوقعة، تقدم نفسها ببساطة، لكنها تعيد خلق التفاصيل في نسيج مركب:

يلفك الغموض

من أنت ايتها الطموح:

أنا قنبلة كهرومغناطيسية

مصممة لمحو الخلائق

هناك نبضة داخل النبضة، ونبضة أخرى داخل النبضة الثانية، هناك تراكب وراثي حلزوني لا ينتهي في النص، الاسئلة التي تطرحها النصوص، تعيدنا الى الانصات لرنين الكلام الأول، يعني كلام الانسان الطري البدائي، وهنا تحضر فكرة القصيدة المفتوحة بما هي مفتوحة، تحاول ان تستعيد تجربة الانسان بحنينه الشعري في العالم المعاصر الى تجربته الشعرية الاولى، بطراوتها وكثافتها وغموضها:

سأبخس حقها

حتى لو كانت فرائد

على الرغم من جزعي

سأقرأها الى الجدران

أحياناً احتاج

الى رفقة الأشباح

الشاعر عادل مردان، لم يدخل الشعر من النوافذ، بل مرّ عبر أكثر المسالك وعورة، وظل مخلصاً لتجربته الشعرية، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم، أو بريق مواقعهم، مردان في طليعة الشعراء ذوي التجربة المتميزة، بحريقها، وبريقها كذلك، لا يتمسح بأعطاف الشهرة، إذ يقول كلمته ويمضي، ليظل معانقاً اسطورة الترحال في أقاليم الشعر:

لا ترافق الشعر عنوة

اجلس تحت شجرة العالم

فهي حكيمة الغاب

 في قلبها بلسم الروح

لقد راح عادل في ذروة قلقه  أن ينقل رؤاه مصغياً الى صوت جهاز الرنين، تلك هي النفثة الأخيرة من هاجس العدم الطاغي في أغلب النصوص:

يتوهم المحشور

في جهاز الرنين

انه داخل تابوت فخم

تنبعث منه الاصوات

المأساة، أنه يصغي، يشعر بانهيارات في أعماقه، يستيقظ فيه العالم، ريح تحرك أنفاسه، ربما اعترته رغبة في الهروب:

تكويني صار قديماً

أريد ان أتخلق

بكيان آخر

الشاعر مردان في جامع الاصداف، غير راض عن العالم حوله، يعيش مصير الآخرين، لكنه في حيرة وحده، مهما يكن في روعة المغانم، والمغريات، يقرفص تحت صفصافة في حديقة المشفى، اسماله بيضاء على العشب، كاره الضوء، يتجه الى البحر، فهو بحار يجمع الاصداف، يبحث في أعماق الاغوار، لا يحمل يأسه هو، بل يحمل يأس الاجيال، ويأس ساكني المدن المنطفئة. يبحر في مياه مجهولة، فيذهب مع تلاطم الموج، وتلاطم الأشرعة، يحاور بحاري السفن على مدى السنين.

لا زمرد في الخصب

لا مطر يرحم الارض

لكنها العمائم

تندرج في الطرقات

قصائد عادل مردان، تقدم نفسها كياناً مستقلاً، ذا قيمة جمالية وحضور فريد، تعلن عن ذاتها انها فوق المقارنة، تنمو بتطور المعنى. القصائد بمجموعها تمثل غابة شعرية، حافلة بالطراوة، والمشاهد العجيبة، متشابكة، كثيفة في الصور والايقاعات، متصلة،  ثمة تنافر بين مقطع وآخر، واتحاد وتلاحم في مقاطع أخرى، انه شرط من شروط طبيعتها، لكنها في صراع مع نفسها، هذا الصراع بين ضدين الأسود والأبيض كما جسده مصمم غلاف الكتاب صالح جادري،  ليعطي الكتاب صفة أخرى، في التعبير عن حالة التوازن، أو التقارب، أو تجسيد الدلالة المهمة في الحالة الشاعرة، ولقطها من قلبها.

***

د. جمال العتابي

بانوراما برجُ بابل للشاعر الكبير جمال مصطفى

استهلال: تختلف الملاحم الشعرية تبعا للعادات الثقافية والموروث، وتعتبرالقصيدة الملحمية ألاقرب الى الشعر وهي تتحدث عن نضال المحاربين أو إنجازات الملوك، أو أنها تتحدث عن مكان بعينه أو بطل بعينه أو عدة أبطال .

والقصيدة الملحمية هي قصة طويلة ومثيرة تحاكي شاعريتها حدث ما أو بطل أستهوت بطولاته كاتب الملحمة، وكانت الملاحم تحفظ من عصر لعصر أما عن طريق الرواة قبل عصر التدوين أو عن طريق الالواح المرقومة فيما بعد..

إن الاساس في الشعر الملحمي هو أن يكون قصصيا، بمعنى أنه يقوم على السرد لحادثة أو سلسلة حوادث لايصال جوهر الفكرة التي قد تقوم على الخوارق والعادات والطقوس والخلط بين الحقيقة والاسطورة، بلغة صافية واضحة، فهي توضح الجوانب القومية لما تحويه من من أرث حضاري وتراث عريق يتناول الجوانب الدينية، الاجتماعية، الفكرية، السياسية، الاقتصادية، والحربية بفلسفة تحاكي روح العصر لتظهر الجانب البطولي والمشرق الذي يتفرد بقيم عالية في الموروث الشعبي متمثلا بشخص أو عدة أشخاص قاموا بأمر يعتبر خارقا أو بطوليا ويرتبط هذا الحدث بمكان البطولة وزمنها.

ويعتبر السرد أو القصة الشعرية إن صح التعبير هو المحور الذي يقوم عليه الشعر الملحمي، ولابد أن تدور أحداثه حول حقبة معينة مع سرد القصص التي حدثت فيها، ومن الممكن أن تتعدد القصص في الملحمة الواحدة مثل (الالياذة) والتي تعتبر منظومة شعرية طويلة جدا.

وتتميز القصائد الملحمية بكثرة موضوعاتها وتشعبها نظرا لصعوبة الفصل بين الحقيقة والاسطورة مما يجعل تهويل الاحداث والمبالغة فيها عنصرا اساسيا في الشعر الملحمي، اضافة الى التوظيف الفلسفي في تفسير الاحداث، واهم الملاحم الشعرية التي تميزت بتعدد موضوعاتها وتشعبها ملحمة كلكامش التي تعبر عن الوعي الانساني الاول من حيث الهدف والمضمون.

كما وتعتبر الموضوعية من أهم الركائز للشعر الملحمي، والموضوعية لاتعني ذات الكاتب، إذ إن هوميروس لم يقحم ذاتيته في الالياذة، إنما ترك الباب مفتوحا للشخصيات التي تحكي الوقائع من خلال تصرفاتها بكل حرية.

وتمتاز الملحمة الشعرية بعدد كلماتها الكثيرة وعدد أبياتها، كما تمتاز بفخامة الاسلوب ولغته الرصينة الرفيعة التي لايشوبها ضغف وهذا ماوجدناه في ملحمة كلكامش التي عبرت عن أسفار طويلة بطابع جمالي يبرز مدى الجهد المبذول واسلوبها الفخم الذي أسهم في خلودها كأروع ملحمة حيّة حتى يومنا هذا.

وتتداخل الاسطورة مع الملحمة، فالملحمة قد تضم بعضا من الاساطير وليس العكس، لان الاسطورة تتحدث عن الالهة فيما تتحدث الملحمة عن الاشخاص والاماكن.

وبعد هذه المقدمة الموجزة جدا نود أن نستأذن للدخول إلى بابل (بوابة الاله) الملحمة البابلية التي تضاهي بجمالها وفخامتها وتنوع مواضيعها ملحمة كلكامش، إنها ملحمة بانورامية في سفر بابل بقلم الشاعر الكبير جمال مصطفى والتي أرسى لها عنوانا: بانوراما برج بابل

قد جاءَ في ديباجة اللوحِ

الكتاب بأنّهُ

من ألفِ باب، كلُّ بابٍ ألفُ لوحٍ

هل قرأتَ؟

تبدأ القصيدة باستهلالٍ للدخول الى هذا العالم الشاسع الذي يطوي بين أطواره فجر الحضارة وسلالة التأريخ وولادة الحرف الأول، فالشاعر يخبرنا بأن البرج يتكون من ألف باب ولكل باب الف لوح، وحقيقة فالملحمة تعتمد على الاخبار وهو أحد شروطها الذي يعتمد على السرد والسارد، إذا ما أخذنا بالحسبان حقيقة وجود البرج الذي وصلتنا عن طريق التوراة والعهد القديم والرواة والالواح المرقومة.، وقد اختلف المؤرخون على مر العصور على حقيقة وجوده الذي ارتبط بعدة روايات منها قصة النمرود المعروفة، حيث ادعى الربوبية وغضب الله عليه وعنده تبلبلت الالسن، في حين إن اللغة جاءت على لسان كل نبي بلغة قومه،  أومنها إنه شيد من قبل سلالة نوح بعد الطوفان، ومنها أن الاسكندر الاكبر قام بهدم البرج واستخدم حجارته لبناء المسرح البابلي، ومهما يكن من أمر ومهما تعددت الروايات فالرواية الاكثر تصديقا إن البرج كان موجودا وقد تناقلت وجوده الالسن والالواح وهذا ماذكره الشاعر في مطلع القصيدة فأجاد الوصف.

ثم يتابع الشاعر عروجه خلال البرج واصفا كل حجرة من حجراته بمنتهى الدقة معتمدا على مخياله الشعري البحت وخلفيته الثقافية الشعرية الواسعة وثقافته التاريخية واللغوية التي تحدى بها الغموض وشاكس الاحداث وتجاوزالغموض ليرسم بانوراما حقيقية حية تبحر بين العصور تختزل الازمان تتيح للقارئ أن يبحر معها في أجواء ترفل بالحضارة والتاريخ الذي حاكى حقبة تنوعت وازدحمت فيها الحضارات والديانات على اختلافها وتضاربت فيها الروايات مابين المعجزة والاسطورة تارة وبين الواقع المروي والمكتوب تارة أخرى.

وتعتبر بابل المحافظة العراقية الوحيدة التي ذكرت في التوراة والانجيل والقران لاهميتها التاريخية والانسانية والدينية، فقد شهدت المدينة ولادة التاريخ الانساني والحضاري والديني لشعب بلاد مابين التهرين، وقدكان لاهل بابل مكانة في الشرق والغرب والتي ازدهرت في عهد حمورابي المشرع الاول في التاريخ الانساني.

لم يتوانى الشاعر في ذكر تفاصيل بابل الكثيرة والمتشعبة بكل ماتحمله قلبا وقالبا وهو يعرج بين مداراتها راسما أحجارها حُجرا تستضيف نزلائها من شتى الاجناس والاصناف اناسا وكهنوتا ملوكا وعبيدا طوائف وشعوبا سكنت وعاشت وتبلورت أحداثها لترسم الخطوط العريضة لبرج بابل الذي هيكل وأثث وبنى القصيدة أو البانوراما الملحمية بهذه اللغة الشاعرية السردية التي تفصح عن عبقرية فذة ولغة متفردة ومخيالا شعريا هائلا أضفى وأضاف ورمم جوانبا واستحدث اخرى، فقد وصف البرج وكأنه مكتبة فيها رفوف وكل رف يمثل حقبة زمنية معينة بأشكالها ورسومها وطقوسها وطلاسمها التي سعى الى فك رموزها تباعا

ها أنت تصعدُ

هاهي الثيرانُ

جَنّحها على الجدرانِ ناحِتها

لتنفتح السقوف

نحن أمام موهبة شعرية قل نظيرها للاحتفاء بما وهب الله من فصاحة وبلاغة تتدفق كأسراب الطيور تطرز السماء ببديع أسرابها كيمام سميراميس

في البرج برجُ للطيور

معًأ تَطيرُ لكي تُطرز في الصباح

سماء بابل

إن الاقدام على كتابة عمل ملحمي بهذا الايغال في عمق الحضارة التاريخية العتيقة واستحضار تفاصيل عن طريق شحذ إلهامها شحذا والوقوف عند المحطات المترامية القدم والموغلة في بطون التاريخ الغويطة انما تعكس قوة العمل وبراعة القدرة وشجاعة الخطوة وماورائية المقصد وموسوعية الهدف بهذا التنوع الادبي التاريخي الهائل الذي يجعل القارئ سائحا بماشاء الله من التحف الرصينة التي أرشفت الحضارة بوجوهها المترامية راسمة وجها واحدا وإرثا خالدا ومنارة تتوسط التاريخ متبرجة ببرج أسطوري الخلود واقعي الاثر، وقد جسد جوهرته الثمينة بموشورها المشرق في الطابق العشرون الذي يعتبر جوهرة التاج للقصيدة

الطابق العشرون متحفُ(سوف كان) وفيهِ:أجنحةٌ

لجبرائيل، ألواح الزمردِ، نعل آدم، مشط حواء، البراق

وفلك نوحٍ، صور إسرافيل، والرخُّ الذي عبر البحار

محلقًا بالسندباد، فرائض الاسرار ترتعدُ ارتعادا

في ضمير الغيب قرب عمامة الخضرِ، الدفوف تزف بدرا

إن اكتناز هذه القصيدة بالصورالمبهرة الممرغة بقواريرٍ لازوردية الطيف بهذا التفخيم الجرئ الذي يدور فلكه سابحا بأجرام التاريخ متوسما بمواسم الخصب منتهلا من نواعير فراتها ظلا ظليلا يتبارى مع فصولها بأجنحة ترسم الشمس لها طريق العنفوان..

في البدءِ كان البرجُ محمولا

على رُخ الخرافة

حتى أناخ بأرضِ بابل

أخذته منهُ قصيدتي

كالهودج الحلزون تحملهُ زرافة

وبه تطوف على المدائن

لقد اجتمعت بهذه الملحمة الشعرية كل مقومات العمل البانورامي الذي يحاكي العصور متمثلا بشخوصها وانجازاتهم الحضارية التي تركت بصمة ومكانة سامية تدور أفلاكها في سماءٍ كل مجراتها تنطق بالحضارة وتتسربل التاريخ جلبابا يقلدها مسؤولية الوجود والحضور والتطور والازدهاروالاشراق لخير الانام الحبيب المصطفى

هي حجرةٌ للمصطفى

فيها على الجدرانِ آياتٌ لتسمع ماتراه

مهندس البرج ارتأى الكوفيَّ خطَّا

والكتابةَ لِ ابن مقله

ثم استعان بمقرئٍ من مصر يَصدحُ:

(إذا الشمس كُورت)

هي حجرةٌ للمصطفى

يأتي إلى إفريزها ديكٌ يؤذن كلّ فجرْ

هذا التناغم المتسلسل للاحداث الذي يجعل من التأريخ سفينة طوفانها نجاة تركب الموج باحرة تشاكس الموج تارة وتستكين أخرى تعبر الخلجان زادها العلم وزوادتها البلاغة الادبية الرفيعة التي استحضرت التاريخ ليركب معها من كل زوجين أثنين عابرة بأحداثها سحباطوفانية هائلة متخذة من الكلمة الرصينة مرساة لها في كل محطة وكل مرسى لها حرف عراقي الاصل بابلي الهوى

البرج من بعد الخراب

أثرٌ كما الختم اسطواني

طبعٌ عراقي المعاني

في الشعر في شجن الاغاني

في النوحِ مرّا

في معاتبة الزمان

الحقيقة تبدو جلية كعين الشمس فمن كتب كلكامش لابد أنه ترك الوصية والعهد لسلفٍ أحرص منه على الاحتفاظ بهذه الكنوز العظيمة المترامية الاطراف، ومن شرب من زلال الرافدين لابد أن يكون له مدادا يستقي منه القصيدة..

ومهما قلنا لنف حق هذه البانوراما فهو قليل أمام هذا الصرح الملحمي الذي يحاكي حضارة الرافدين.

طوبى للعراق بهذه الالواح التي احترفت طريق الحرف شرعة ومنهاجا وتدبرت نقشه وعزفه بأوتار ذهبية الصوت والصدى ..

طوبى لنا عرس القصيد وصولجان الحرف العتيد

ولعمري فنحن أمام تحفة أدبية معلقة كجوهرة تاج لارض بابل.

ولنا في كلكامش خير خلف..

الف مبارك والف تحية لجناب الشاعر الكبير أ.جمال مصطفى والله الموفق.

***

مريم لطفي الالوسي

ارتطام لم يسمع له دوي

اهتمت الدراسات السيميائية، بدراسة العتبات التي تحيط بالنص وتسمى "النصوص الموازية" وهي: العنوان الرئيس والعناوين الداخلية، والإهداء، والرسومات التوضيحية، وافتتاحيات ومقاطع الفصول، وهذا الأمر قد عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًا في دراسة النصوص الأدبية.

وكان لعنوان الرواية أهمية كبيرة في هذه الدراسات، فهو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في معانيه، والخوض في اسراره الخفية. وهو الأداة التي يتحقق بها اتساق النص وانسجامه، وبه تتكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة ايضا. وبالتالي، فالعنوان والنص، أحدهما مكمل للآخر، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية، وعلاقات إيحائية، أوعلاقات كلية أو جزئية. ولا يمكن مقاربة العنوان مقاربة علمية موضوعية إلا بتمثل المقاربة السيميوطيقية التي تتعامل مع إشارات العناوين، وذلك بوصفها علامات، أو أيقونات واستعارات ورموز . ومن ثم، فلابد من دراسة هذه العناوين تحليلا وتأويلا، لان العنوان يعتبر مفتاحا إجرائيا في التعامل مع النص في بعديه : الدلالي والرمزي.

من خلال هذين البعدين سوف نحاول قراءة رواية: "ارتطام لم يسمع له دوي" للكاتبة بثينة العيسى، والارتطام هو النتيجة الطبيعية لفعل "السقوط"، الذي ارادت ان تشير له الكاتبة في روايتها التي صدرت لها اكثر من طبعة منذ العام 2004.

العنوان يحمل حالة تناقض في مقطعيه الذين يتكون منهما: "ارتطام - لكن هذا الارتطام – لم يسمع له دوي" وهذا التناقض الذي يرمز له العنوان؛ يعني سقوطاً آخر - لان السقوط العادي يستوجب ارتطاماً مع حدوث دوي نتيجة السقوط - بينما هذا الذي رمزت له الكاتبة هو أكثر وقعاً وإيلاماً، ولكن لا نسمع له صوت! فنحن في بلداننا العربية، التي تخلفت عن بقية بلدان العالم. اصبح مواطنها الذي يسافر إلى بلدان العالم الاخرى لا يستطيع ان يجري – ولو بينه وبين نفسه – مقارنة بين حال تلك البلدان التي سعت ووفرت كل ما يحتاجه مواطنوها، وبين ما نعيشه نحن، لاننا مثل الذي يقارن الليل بالنهار، فكل منهم يجري في فلك! بينما غيرنا شملته نعمة التقدم وإن بنسب مختلفة!

ثيمة الرواية تتحدث عن مشاركة طالبة كويتية، في مسابقة علمية للطلبة لمعرفة آخر الاكتشافات العلمية، التي يدرسها الطلبة في جميع مدارسهم، وهذه الطالبة تعلم ان اختيارها في هذه المسابقة هو ليس لتفوقها على بقية زملائها، ولكن لنوايا استاذها البعيدة عن هدف هذه المسابقة، لذلك عند حضورها ومشاركتها في اعمال هذه المسابقة، تكتشف مدى تخلف التعليم في بلدها وبلدان المنطقة العربية على العموم، عما يدرسه الطلبة في بلدان العالم الأخرى، فتصاب بالذهول لفقر معلوماتها التي درستها! "وكأن أصواتهم تتلاقح، تتمخضُ ضجيجاً، وفد الصين، وفد فرنسا، وفد المكسيك، وفد فنلندا، ودولٌ لم أسمع بوجودها من قبل، أبدو بينهم كعشبة ضارة، الجميع - ربما- لا يراني إلا برميل نفطٍ وبلادة!.

هذا الاحساس بالدونية لم يأت من فراغ، فإهمال مسؤولينا في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية، جعلتنا نفغر أفواهنا دهشة لكل ما نشاهده عند هذه الدول، التي - اكثرها - لا تمتلك ما في بلداننا من ثروات وأموال مكدسة، لم تستغل في اسعاد مواطنيها، بل اصبحت سبباً للعذاب، وبقيت جوانب حياتنا؛ الصحية والتعليمية والعمرانية، في ذيل القوائم التي تصدرها بعض المنظمات العالمية، للمقارنة بين شعوب المعمورة، التي صرنا نحسب عليها عبئاً، ما الذي نتعلمه في مدارسنا، لم نزل نعيش في اوهام ماضينا الذي لا نرضى ان نودعه، حتى معارفنا هي لنا وحدنا، فقد هجرها الآخرون وباتوا يلاحقون التطورات العلمية التي تتجدد كل يوم: "الجميع ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، يبدون كأنهم يتلقون معلومات يألفونها، وحدي اضيع في اللا أدري، يتضمخ وجهي عرقاً أحاول – عبثا – أن أهز رأسي مثلهم".

الرواية بدأت بإهداء صارخ:"الى جميع "ضواري هذا العالم"، وهو تعزيز لرمزية العنوان الرئيس، فكل بلداننا العربية لا تختلف حكوماتها في اهمال شأن مواطنيها. بلداننا التي تضم الناس الطيبين والبسطاء، تضم ايضا "الضواري"، والضواري هي الحيوانات التي تصل وحشيتها الى حد الافتراس والقضاء على بعضها البعض، لمجرد رغبتها في الحصول على ما ترغب به، حتى لو كان ذلك على حساب هؤلاء الناس البسطاء ولو كانوا مواطنين معهم في بلدانهم!

تضمنت الرواية فصلين وهذان الفصلان تكونا من 26 مقطعا. 13 مقطعا لكل فصل؛ الفصل الأول الذي استهل بـمقطع شعري: "عندما تندس الطفلة الصغيرة/ داخل لحاف من غيمٍ ومطر/ وتحلمُ بالشمس/ ستكبر/ نجمةً مجنونة!" وهذه الكلمات هي اشارة واضحة إلى الشخصية الرئيسة في الرواية "فرح" التي تكشف لها مشاركتها في أحدى المسابقات العالمية في بلدة اوربية صغيرة "إبسالا" ما غاب عن بالها، وهو يغيب عن بال كل ناس بلدها، عندما شاهدت هذه البلدة الصغيرة التي اقيمت فيها المسابقة العلمية، وما ضمته من جمال لطبيعتها واهتمام مسؤوليها بها، وتوفير كل شيء لمواطنيها، بأمكانياتها البسيطة. في هذه المسابقة عرفت مدى تخلف بلدها وبلداننا العربية، عن ما وصلت اليه الدول الاخرى، على الرغم من كل الثروات الهائلة التي تمتلكها دولنا العربية، لكن مواطنيها لا يجدون ابسط الاحتياجات الانسانية! وهذا الواقع الذي اكتشفته في سفرتها سوف يؤدي بها الى الاحساس بالحيف والتخلف الذي تعيشه في بلدها! فتتغير مشاعرها الى بغض بلدها، بعد ان تربت على حبه والتفاني من اجله. وعندما يتكلم لها ضاري عن الكويت التي حرمته من ان تهبه جنسيتها رغم أنه ولد فيها! "وكأن الحياة تسخر مني. لم تكن ثمة شرفة أطل منها على الكويت الا من خلالك، أنت الذي ما فتئت تنتهز أية فرصة لتسدد طعنة أخرى لقدسية الوطن، تجيء بالشكوك فوق الشكوك، تلقي بها في حجري لتتأمل - بتشف كاف- مصرع ثوابتي.

الفصل الثاني استهل ايضا بـهذه الكلمات: "كل شيء/ يتكوّر/ مثل حزني/ في دمعة!"

ويحسب لهذه الكاتبة انها تطرح قضية كبيرة في بلدها الكويت وهي قضية "البدون" فالفصل الثاني يبدأ بهذه الكلمة، وهي كلمة متداولة في بلدان الخليج. تطلق على الوافدين لهذه البلدان، بعد اكتشاف النفط ووصول مواطني دول الجوار، الذين يبحثون عن فرص العمل وتمني حياة افضل لما كانوا يعيشونه في بلدانهم، وهؤلاء الـ"بدون" الذي استوطنوا منذ عشرات السنين، بل اكثرهم ولدوا في هذه البلدان النفطية التي لم تمنحهم جنسيتها التي تكفل لهم بعض من الامتيازات التي يحصل عليها مواطنوا البلد الاصليين. وفي هذا الفصل الذي يكشف لها ضاري عن مشاعره المتناقضة عن الكويت فهو بقدر ما يهرب من الكويت، لانها مثل أم تركت رضيعها، حرمته من ما وجب عليها ان تعطيه من حنان وأهتمام، تبقى الكويت هي الحبيبة التي لا يستطيع ان ينساها رغم ابتعاده عنها، وعندما تحين له الفرصة ليساعد احد مواطنيها في حضور مؤتمر علمي لا ينسى ان يعبر عن حبه للكويت بمشاعر مرتبكة متداخلة: "هذا الذي أمارسه فيك الان، انتقامٌ طفيف ومؤذٍ، أنا اشوه فرحكِ التافه بوطنٍ أعي ابعاد فتنته، أستبسل لأجعلك تشبهينني وهو لا تعين خطورته بعد، أنتِ الكويت بتفاصيلها الباذخة مصبوبة في هيئة أنثى، اشتهي إيذاءكِ، لكنك لن تشعري بالأذى إلا لاحقا، بعد ان تتسلل دماء المنفى الباردة الى عروقكِ، وتجدي ارتطامك بالوطن مؤلماً ودونما شغف.

ما الذي يربط ضاري بهذا الوطن الذي لم يهبه ما اراده، وهو القليل؛ ليس سوى الابوة التي فقدها منذ كان صغيراً يبيع مناديل عند اشارة المرور، ان تعيش بلا مستقبل، بلا ضمان، تلاحقك السلطات تطرق ابواب الآخرين من أجل كفالة أو ما شابه: " أحد عشر عاماً قضيتها في المنفى أبذل جهدي لكي أتواءم مع كل ما لا يشبهني، فهذا أنا في النهاية لا أشبه وطني ولا منفاي".

بعض الروايات التي تقرأها، تتمنى ان لا تنتهي، وان تبقى تعيش في اجوائها، وهذا دليل على ان كاتبها او كاتبتها قد بذلت جهدا كبيرا وعاشت صراعا طويلا لانجازها، وليس هذا فقط، ولكن، استطاعت ان توصل الفكرة أو الصورة التي ارادت ان توصلها لقرائها بنجاح. ولا ابالغ اذ اقول انه نجاح كبير للكاتبة بثينة العيسى في عملها الروائي الاول هذا، فقد استطاعت ان تمتلك قدرة وخبرة الآخرين ،الذين امتلكوها بعد رواياتهم العديدة التي كتبوها، واكتسبوا بها امكانية التحكم في قرائهم بعد اجادة هذا الفن، بينما هي حققت هذا الانجاز في روايتها الاولى، وهذا ما يحسب لها أيضاً.

استعانت الكاتبة في روايتها هذه على تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع، واسلوب التقطيع هذا يعتبر عملية منهجية مفيدة، تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهي ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي؛ "الفصل أو أجزائه الـ 32 مقطعا التي تكونت منها الرواية" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاعت الكاتبة التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعملت له الأرقام "1... 2... 3... الخ"، لتبقى حركتها حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخصيتي الرواية افراح وضاري، وقد حرصت الكاتبة على إنهاء اكثر مقاطع الرواية بجمل تجعل القارئ متلهفاً لمعرفة المقطع التالي، وكانت تنهيها بكلمات محملة بالسخرية واللطافة، كأنها تعتذر عن عملية نقل القارئ من مقطع الى آخر.

اللغة السلسلة والبسيطة التي كُتبتْ بها الرواية، والصورالجميلة التي تلاحقت على مدى صفحاتها الـتي تجعل القارئ مواظبا ومتلهفاً لمعرفة القادم من الصفحات، كلما انهى صفحة من الرواية أو مقطعا! تلهف لما بعده ليستشف من الجمل الرصينة، واللغة الرائقة، احداثا كانت تفاجئه بجديدها: "أشيحُ ببصري، السيارة تمضي، أنت لا تلوح، وأنا لا ألتفت".

***

يوسف علوان

"قداس الكردينال" هي  رواية للأكاديمي الجزائري سليم بتقة، والصادرة في طبعتها الأولى عن دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر، بعدما  فازت بالمرتبة الأولى في المسابقة التي نظمتها هذه الدار في نسختها الأولى عام 2023.

تستدعي الرواية لحظة تاريخية تخص المجزرة التي قامت بها السلطات الاستعمارية ضد الأبرياء من سكان مدينة بسكرة، في 29 جويلية 1956، وهو ما يعرف في التاريخ الجزائري بـ"الأحد الأسود" حيث سقط المئات من القتلى الأبرياء في شوارع وساحات المدينة.

وقد حاول الروائي تمثيل  هذا الحدث التاريخي عن طريق عملية التخييل منتجا بذلك نصا روائيا يضاف إلى قائمة الروايات الجزائرية التي تعيد تشكيل التاريخ الجزائري خاصة الوطني منه، وتخضع بعض السرديات التي خلفها الاستعمار الفرنسي إلى مصفاة الفحص النقدي، ولهذا فأن رواية قداس الكردينال تنخرط في حقل الرد بالكتابة، من خلال تبيين مواطن العنف الاستعماري الفظيع الممارس بطريقة ممنهجة في حق الشعب الجزائري دون استثناء.

وتعيد هذه الرواية عملية استئناف النقاش الدائم الذي يخص التاريخ الجزائري في علاقته بالفترة الاستعمارية وضرورة إعادة كتابته من أسفل بعيدا عن الرؤية الكلية التي حاولت بعض المدارس التاريخية تكريسها. بمعنى حان الوقت من أجل إعادة إحياء الحوادث التاريخية التي تجاوزتها الخطابات التاريخية والإبداعية في نسختها الكلانية.

وقد تمكن سليم بتقة في عمله الروائي من تحريك السردية التاريخية المحلية/ الوطنية بتوظيف مدينته التي يعيش فيها "بسكرة" وما لحق بأهلها عام 1956 جراء الآلة الاستعمارية التي قتلت الرجال و الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة، وتجاهل الأمر من قبل الإعلام الاستعماري أنذاك.

وبعيدا عن السجال القائم داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية حول الحقيقة التاريخية والتخييل الجمالي والفني، فإننا يجب أن نتعامل مع هذه الرواية على أنها خطاب أدبي يجمع كما تقول ديانا ولاس بين التاريخ الذي هو حقيقة أو واقعة وبين القص الذي هو غير حقيقي أو مخترع، ولكن هذا النوع من التخيل التاريخي قد يستهدف نوعا مختلفا من الحقيقة.

ولا تكتفي هذه الرواية بتوظيف الحدث التاريخي لموقعة ساحة الكردينال لافيجري في مدينة بسكرة فحسب، بل إنها تمزج ذلك بنوع من الذاكرة الثقافية من خلال الحديث عن هذه المدينة ونسيجها الاجتماعي ومستويات الحياة اليومية فيها، وطرق الاحتفاء وأنماط الاستشفاء وأطباق الطعام وطرق الاحتفال بالعائدين من الحج وغيرها .

وتحضر بسكرة بأحيائها الشعبية المقاومة مثل 'حي المسيد" ، وحدائقها العالمية مثل حديقة "لاندو" وكذا الشخصيات الأدبية العالمية المعروفة  التي زارت بسكرة أو حلمت بزيارتها، مثل صاحب رواية اللأخلاقي أندري جيد الذي كان "يرى جمال بسكرة في صفاء سمائها وشمسها وخضرة بساتينها، ووداعة أهلها، وفي أزقتها وحارتها ومقاهيها.. جمال لو قدر لأمير النثر شاتوبريان لكان وحيا له ولأمي الشعراء لامارتين..." ص118. وأوسكار وايلد وكارل ماركس وغيرهم.

وتتوزع شخصيات الرواية بين شخصيات تاريخية "حقيقية" وشخصيات تحيل على نماذج عاشت الحادثة المروعة ولكن ليس بالضرورة أن تكون حقيقية اسما وحضورا تاريخيا. فشخصية العيد الرجل البسيط الذي غادر قريته "أوماش"  يمثل الجزائري البسيط الذي كان يحلم بعمل يعيل به عائلته الصغيرة، والذي لم تكن له ثقافة نضالية أو حس وطني كبيريين،  ولكنه رغم هذا نجده قد رفض رفضا قاطعا أن يهان من قبل أحد الجنود الأفارقة الذين جلبتهم فرنسا الاستعمارية معها، فرفقة قريبه مسعود تمكن العيد من قتل ...جنديان ذوا سحنة إفريقية، قتلا طعنا بالسكين على ما يبدو في جميع أنحاء الجسم، أكثر من طعنة في البطن، في الظهر في الحوض وفي الوجه... ص 147

يمثل ما قام به العيد ومسعود  ردة فعل طبيعية من أناس بسطاء تم شحنهم بكمية كبيرة من كره للاستعمار الذي استعمل كل أساليب العنف ضد الجزائريين قتلا وتعذيبا وتشريدا وتجويعا وحرقا ورميا من الطائرات الحربية وغير ذلك كثير. مما خلق عندهم نوعا من العنف المضاد.

كما نقف في رواية قداس الكردينال على شخصيات فرنسية كانت تساند الجزائريين والثورة الجزائرية، ومنهم شخصية السيد دانيال صاحب فندق روايال الذي وقف ضد الجنود الفرنسيين، محاولا الدفاع عن الأبرياء ممن تعرضوا للقتل في ذلك اليوم، مما كلفه بعد ذلك السجن، فقد كان " مشاكسا وساخطا على الظلم المطبق على أهالي بسكرة وأبنائهم..."ص 84.  وهو الذي تمنى أن يكون "قادرا في يوم الأيام على شرح كيف أمكن هؤلاء المرضى نفسيا أن يحولوا بلدا متحضرا مثل فرنسا إلى آلة قتل بليدة، وعديمة الأخلاق." ص191

كما  يأتي أيضا استحضار لشخصيات تاريخية منهم شباح المكي و "موريس لابان" وغيرهم

وقد استطاع سليم بتقة في روايته أن يجمع بين مسويات ثلاثة من اللغة، اللغة العربية التي كتب بها العمل، ومستى اللهجة الجزائرية في نسخة أهل بسكرة وقد استعملها في أغلب حوارات الشخصيات التي تعيش حياة عادية وبسيطة مثل العيد ومسعود و"نانا هنية" وبولخراص وغيرهم، ومستوى اللغة الفرنسية حيث جاءت معظم حوارات الجنود والساسة الفرنسيين باللغة الفرنسية.

وتستند الرواية في رسم هذا اليوم الأسود  في حياة الجزائريين على تفاصيل مروعة تعيد تمثيل العنف الهمجي الذي مارسه الاستعمار في شوارع المدينة إلى حد العبث، فقد قتل بعد أسبوعين من احتفال الرابع عشر من جويلية المئات دون تمييز بينهم، ...فهذا صبي   في العاشرة من عمره يركض باتجاه الرصيف..كان شاحبا جدا..وخائفا لدرجة أنه نسي أن يتوقف أمام ضابط قادم من المقر الرئيس للقوات الفرنسية..قبض عليه هذا الأخير ودون أن ينبس ببنت شفة، سحب مسدسه ووجهه نحو رأس الصبي وأطلق النار..." ص 165

ويمكن لنا أن نقول بأن رواية قداس الكردينال قد استندت على الذاكرة من أجل إعادة بعث الماضي وتدويره، والخروج من سجنه، فمن مهمات الذاكرة هو عدم سجن أنفسنا داخل الماضي، بل السعي إلى تخليصه من النسيان. خاصة إذا استحضرنا الاهتمام البليغ بمبحث الذاكرة في الدرس التاريخي المعاصر. والتخلص من السرديات الكبرى التي كرستها الكتابات الكولونيالية. ولهذا يرى "كروين لي كلاين  أن الذاكرة لها القدرة على إعادة الفتنة والسحر إلى علاقة الأفراد بعالمهم الذي يعيشون فيه، والقدرة أيضا على استرجاع الماضي في الحاضر والعكس مرة أخرى.

وتحضر مدينة بسكرة في هذه الرواية باعتبارها فضاء مركزيا تؤثث داخله الأحداث، ولكننا مع نكتشف أخيرا أن هذه المدينة هي بطل الرواية، وليست شخصيات العيد ومسعود وسي بوبكر ودانيال والتجار اليهود والجنود الأفارقة ورجال السياسة والدين الفرنسيين، بل إن بسكرة هي التي تنتصر في الأخير كونها تملك مقومات حضارية وثقافية وذاكرة تاريخية تمكنها من تذويب كل هذه النماذج البشرية وتجاوزها.  إنها بمثابة المدينة: الحلم والذاكرة.  فقد رأت "نانا هنية" في حلمها أن مدينة بسكرة "قد استعادت حياتها المفقودة، عاد إليها أطفالها .. وادي سيدي زرزور يجلب حرارة الصيف إلى حوافه..تتزاحم القوارب عند شطآنه  لنقل أنواع التمور والبرتقال والزيتون.. كما عادت أمسيات الصيف وامتلأت المدينة بالإلهام مثل كأس الشاي المنعنع واهتزت ساحة الكردينال لافيجري بضوضائها المعتادة من الفجر، تألقت الأضواء الكهربائية  متحدة مع وهج الشفق..كأنما هو يوم احتفال..في نهاية هذا الشارع الجميل، أقيمت حفلة مثل حفلة زفاف مضاءة بالشموع، وبأصوات الأبواق والطبول." ص196.

يمكن لرواية قداس الكردينال أن تكون ضمن النصوص الروائية ذات الطابع التاريخي التي تساهم في إنتاج خطاب أدبي ليس ضدا للدرس التاريخي، بل يتقاسم معه مهمة تخليص الذاكرة من كل أنواع النسيان. وتخليص التاريخ من سلطة السرد الكولونيالي.

***

طارق بوحالة

"يا مريم" رواية للكاتب سنان انطون، صدرت عام 2012 عن منشورات الجمل، ترشحت لجائزة البوكر العربية عام 2013 ووصلت إلى القائمة القصيرة. وهي الرواية الثالثة له بعد روايتيه؛ "اعجام" التي صدرت عن دار الآداب عام 2004، ورواية "وحدها شجرة الرمان" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عام 2010. حاول الكاتب في روايته هذه ان يصور لنا جزءا مما يعانيه المسيحيون في العراق وبالأخص بعد 2003، وعمليات القتل والتفجير التي تطال هذه الفئة من الشعب العراقي. غير ان استهداف هذه الفئة، وهي ثاني ديانة في العراق من حيث عدد الأتباع بعد الإسلام، ومُعترَف بها حسب الدستور العراقي، ليس بمعزل عن ما تتعرض له باقي فئات الشعب العراقي.

استفاد الكاتب من أسلوب التقطيع الذي كتب به الرواية، فقد قسمت الرواية الى خمسة فصول وقسمت الفصول الى عدة أجزاء. ويعتبر تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع الصغيرة أو الكبيرة، عملية منهجية مفيدة تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهذه العملية ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي "الفصل أو أجزائه" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاع الكاتب التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعمل له الكاتب الفصول والأرقام، لتبقى حركته حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخوص وأحداث الرواية، التي ظلت الشخصية الرئيسة فيها "يوسف" تعيش الحاضر من خلال الماضي.3746 سنان انطوان

الرواية تستعرض لنا "رؤيتين متناقضتين لشخصين من عائلة عراقية مسيحية، تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد" كما جاء في الغلاف الأخير للرواية، هاتان الشخصيتان شاهدنا الكثير منهما في حياتنا، فالشخصية الأولى "يوسف"، "رجل وحيد في خريف العمر، يرفض ان يترك بلده، متشبثاً بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته، ومها، شابة عصف العنف الطائفي بحياتها، فشرد عائلتها وفرقها عنهم لتعيش لاجئة في بلدها، ونزيلة في بيت يوسف". ومثل الكثيرين من عائلة يوسف، تفشل مها في جعله يترك العراق وبالأخص بعد ما يتعرض له المسيحيون من استهداف من قبل الميليشيات الإسلامية المتشددة من خلال المضايقة عليهم وإجبارهم على ارتداء ما لا يرغبون ارتداءه، ومحاربتهم كذلك في قطع أرزاقهم، فهو يرى أن الظروف التي يمر بها البلد طارئة ولديه أمل ان يعود البلد الى ما كان عليه. وهي لا تتوقع ان تتحسن ظروف البلد الذي لم يعد صالحاً للعيش بالنسبة لهم، بسبب ما يتعرضون له من تهجير وتهميش، وعندما يصر كل طرف منهما على رأيه تحاول مها ان تلقي بآخر ما عندها من الأسلحة، وهو اتهامه بأنه يعيش على ماض لم يعد موجودا "إنت عيش بالماضي عمو!". وتتركه لتصعد الى غرفتها في الطابق الثاني.

تبدأ الرواية في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "ان تعيش في الماضي" من نقطة الاختلاف بين يوسف ومهما التي وصلت الى اللاعودة.. عندما تصرخ مها بصوت مرتفع "إنت عيش بالماضي.." تثير هذه العاصفة التي أحدثها الوصف تساؤله: إذا كان الحاضر مليئاً بالبشاعة؛ متفجرات وقتل على الهوية؟ فلماذا لا أعيش في الماضي، كما اتهمتني؟" لكنه يتردد "يجب أن أسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي. هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكرا، أما أنا فقد عشت أزمنة الخير وما أزال اتذكرها وأصدق بانها حقيقة".

كأن الحاضر المؤلم الذي يقاومه بكل عزم ويحاول أن يتخطاه، أصبح كبيرا حتى بالنسبة إليه، فبات يتوجس عندما يتذكر الماضي الذي عاشه وهو الذي يمتلك القدرة على استعادته، في أفكاره، كأن هذا الحاضر يحاول أن يشكك في داخله صدق ذلك الماضي الجميل!.

في الفصل الثاني من الرواية الذي وضع له عنوان "صور"، ومن استعراضه لهذه الصور التي يصل عمر البعض منها أكثر من نصف قرن، يرسم لنا يوسف تاريخ عائلته واصفا تعلق والده بالإصرار على لبس "الصاية واليشماغ، ولا يقبل ان يلبس (البنطرون) اعتزازا بموروثه، مستعرضاً أفراد العائلة والى ما آل إليه هؤلاء الأفراد في الوقت الحاضر: "تفرقوا بعدها في ارجاء البيت وأرجاء الدنيا ليظهروا في صور أخرى".

الأخ الأول غازي يعمل في "الآي ي سي" في كركوك حتى عام 1961. جميل يعمل مع شركة شاكر ابراهيم واخوانه، ثم يسافر الى بيروت عام 1969 بعد ان يعدموا صديقه بتهمة الماسونية. الياس يدرس الحقوق لكنه يتورط في السياسة ويدخل السجن عدة مرات. ميخائيل يعمل بعد تخرجه من كلية بغداد مترجماً مثل يوسف.

صورة أخرى ليوسف يرتدي بذلة داكنة وربطة عنق ويجلس وراء مكتب اصطفت فوقه ملفات وأوراق، استغل أوقات الفراغ في مطالعة بعض الكتب التي كانت متوفرة في مكتبة الدائرة الصغيرة وكان معظمها عن الزراعة والتجارة. كتاب لأحد المستشرقين؛ السير روجر كنغسلي عن الشجرة المقدسة "النخيل في الجصارات السامية" فتنته المقدمة التاريخية عن النخيل ومكانته عند العراقيين القدامى. كانت النخلة تحتفظ بمكانة مقدسة فتوجد نقوش وصور تمثلها في هياكل بابل وآشور وعلى جدران المعابد ومداخل المدن والعروش والتيجان. كانت شريعة حمورابي تقضي بتقديم كل من يقطع نخلة.

وتنص مادة اخرى على ان لا يهمل الفلاح بستان النخل وان يسهر على مراقبة الطلع وتلقيحه. وبمرور الزمن أصبحت النخلة شبه مقدسة لدى يوسف أيضا لأنه مدين برزقه لها وللملايين من أخواتها.

وتتكلم إحدى الصور عن أوقات الدراسة التي قضاها يوسف مع زميليه نسيم حسقيل وسالم حسين عام 1950 ، وعن إسقاط الجنسية عن اليهود، واصرار (ابو نسيم) على البقاء في العراق وكان نسيم يكرر ما يقوله ابوه: "إنها غيمة عابرة وإنهم سيظلون في العراق". ورغم اصرار ه على البقاء إلا ان الأحداث التي تلت ذلك والتي استهدفت اليهود اجبرت عائلة نسيم حسقيل على الهجرة إلى إسرائيل. ولهذا تصف مها ما يتعرض له المسيحيون في الوقت الحاضر بتهجير اليهود في العراق.

ورغم ان الصور التي تملأ الغرفة والتي تملأ الالبومات التي تحتفظ بها العائلة في حقائب وأماكن أخرى تساعده على تذكر الماضي الجميل الذي عاشه، إلا أن صورة واحدة يحتفظ بها يوسف في ظرف صغير في دولاب غرفته وفي كل مكان على جدران قلبه وروحه: "وبالرغم من ان الكثير من زوايا قلبه قد غرقت في عتمة خريف العمر، إلا انها كانت تضيء نفسها بين حين وآخر عندما تستيقظ الذكريات".

إنها صورة "دلال" التي أحبها والتي كانت تصغره بأكثر من عشرين سنة، كما أنها كانت مسلمة وهو مسيحي، وهذا يعني جبالا اجتماعية شاهقة الارتفاع لابد من تسلقها.

يذكر رومان ياكبسون: أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية وميتالغوية، وهي اللغة الصورية، وتسمى أيضاً باللغة الواصفة. وحسب معرفتي البسيطة ان سنان انطوان في روايته هذه من قلائل الكتاب الذين استعملوا تكرار العنوان الفرعي بقصدية واضحة أراد منها أن ينبه القارئ إلى أن الفصل الأول من الرواية الذي حمل عنوان "ان تعيش في الماضي" ما زال مستمراً بعد الفصل الثاني "صور" من خلال تكرار العنوان في الفصل الثالث "ان تعيش في الماضي" وهذه حالة من التقطيع الذي أجاد بها، واستطاع أن يعود الى الحاضر مستعرضا لقاءه بصديقه الوحيد الذي بقى له، سعدون الذي يجيد حفظ الشعر وإلقاءه، ويسأله سعدون ما الأمر الذي يشغل بالك؟ عندما يشاهده مهموماً. يخبره يوسف عن ما دار بينه وبين مها، فيجيبه سعدون بكل عفوية:

"أي مو چذب هالحجي، تره إحنا انتيكات، هذا اللوتي أوس هذاك اليوم يكوللي: جدو أنت شگد قديم، تصور".

في الفصل الرابع "الأم الحزينة" يصف لنا الراوي ما تعرضت له مها وعائلتها من تهجير وتهديد وتفجير سيارة ملغمة أمام بيت أهلها في الدورة يسقط على إثرها طفلها الذي تحمله، والذي كان الأمل الوحيد الذي يبقيها متحملة البقاء في البلد حتى ولادته، لكنها تخسره بسبب هذا الانفجار الذي تتبعه انفجارات أخرى في المنطقة التي يسكنها الكثير من المسيحيين. والذي سبقته تهديدات عديدة تعرضت لها عائلتها وبقية العائلات المسيحية، وتسميتهم بأهل الذمة ومطالبتهم بدفع الجزية أو اعتناق الدين الإسلامي. ثم اختطاف خالها الذي اخذ المختطفون منهم الفدية ثم قتلوه، وتهجيرهم من الدورة وذهاب عائلتها، مثل الكثير من الأسر الى عينكاوة او مناطق أخرى في محافظات شمال العراق التي يسكن فيها غالبية من المسيحيين. "روحي وجدت ملاذاً في عالم آخر أطل من نوافذه على آلام القديسين واحزان العذراء وأبنها".

في الفصل الخامس الذي كان تحت عنوان "الذبيحة الإلهية" يصور لنا الأحداث التي جرت في كنيسة النجاة في بغداد عام 2010، وقد ثبت المؤلف في نهاية الرواية في صفحة منفصلة ملاحظة: "تتقاطع أحداث الرواية مع حادثة الهجوم على كنيسة النجاة في عام 2010، لكن النص وشخصياته من نسيج الخيال، وأي تطابق او تشابه في الأسماء غير مقصود". فلماذا "الذبيحة ـ يوسف" الذي سار بأقدامه الى الكنيسة كأنه يعرف ان اليوم سيكون هو الضحية التي سيقدمها مع الآخرين فداءاً عن طائفته المسيحية تشبهاً بالتضحية التي قدمها "يسوع المسيح على خشبة الصليب ودمه الذي سفك من أجل آثامنا. الرب يسوع مات بدلا عنا . البار من أجل الأثمة. قدّم نفسه قربانا من أجلنا مرّة واحدة وإلى الأبد، فبواسطته نلنا المصالحة مع الله وأصبحت لنا الثقة بالدخول إلى محضر الأب بدمه. طريقا كرّسه لنا بجسده، أمام الله كلنا بدون استثناء خطاة وبحاجة إلى التكفير عن ذنوبنا"

أثناء الصلات التي تقيمها الكنيسة قرأ الأب ثائر بصوته الرخيم وقال للمصلين: "فلنصلي يا أحبتي كي يعم السلام في بلدنا الحبيب وننعم به جميعاً. وندعو لله كي تتشكل حكومة جديدة تحافظ على سلامتنا وتحمينا".

اقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددونها. ارتبك البعض في أول الأمر وسرت همهمة، لكن الغالبية استمروا في الصلاة، فقد تعودوا على اصوات إطلاق الرصاص والانفجارات في السنين الأخيرة".

ارتبك يوسف وظل واقفاً لا يعرف ما الذي يمكن له ان يفعله. لمح مها تندفع من أقصى اليسار الى المذبح. هم باللحاق بها وناداها مرتين لكنها لم تسمع. لأن الأبواب الثلاثة التي في المدخل كانت قد انفتحت على مصراعيها، ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء. انبطح يوسف ارضاً مثل البقية.

ظل جسد يوسف مسجى على ارض الكنيسة لأكثر من اربع ساعات. قبل ان يحمل الى الخارج بعد تخليص الرهائن واخلاء الجرحى، كان محاطاً باشلاء بشرية وبقطع الزجاج المكسور والجص وببركة صغيرة من الدم الذي ظل ينزفه.

"وقبل أن يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت "يا مريم" لكنه لم يكمل جملته. ظلت عيناه مفتوحتين حتى وهما تغرقان في ظلام الموت".

***

قراءة : يوسف علوان

إذا أردت أن تقرأ عن الألم والوجع.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن الأمل.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن القهر والعذاب والظلم.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن العناد والإصرار ومجابهة الحياة.. اقرأ صباح بشير

تنطلق الكاتبة صباح بشير معنا في رحلة مع البطلة حنان لتخوض معترك حياة قاسية، مارس فيها النّاس أبشع صور الظّلم والجبروت، وانضم الزّمان هو الآخر ليكون عونًا لهم في النّيل من الإنسان الآمل المتفتّح المتنوّر، الباحث عن الذّات المقهورة أو المحروقة داخليًّا دون أن يحسّ أو يشعر بها أحد؛ ولهذا نجد العذابات والمعاناة والقهر الذي لا حدود له، فقد حملت البطلة من الهم ما تنوء بحمله الجبال، غير أنّها قاومت وصبرت وعاندت الرّياح العاتية الّتي كانت تعصف بها في كلّ مرحلة من مراحل حياتها.

تعود بنا الكاتبة بالبطلة إلى الوراء، بعد أن ضّلت بها الطّريق وتاهت بها السّبل، لا بل ضاعت في غياهب المرغوب والممنوع، والحلال والحرام، وهربت الأمنيات والأماني، وعادت بنا معها إلى ذكريات الطفولة، حيث فات ما فات من جميل الأوقات، وبعد أن أغلقت الحياة أبوابها، غير أنّ اليقين كان حاضرًا وإن بدا نور الأمل خافتًا، وبمزيد من الصّبر والقوّة والإرادة اشتعل الأمل من جديد وتوقّدت شعلته، حيث تنبعث الحياة ثانية دون أن تنكسر أو تستسلم، وإن كانت نادمة على شيء من الماضي الذي علّمها الكثير. يمكن عزو ما ورد في هذه الرواية إلى الأدب التذكاري الذي يستند في حقيقته على أحداث واقعيّة في إطار ذاتي أو غيريّ يتم تسجيلها.3344 صباح بشير

ونحن نقرأ الرواية نشعر بأنّنا نعايش أحداثًا ألفناها أو سمعنا عنها كثيرًا في الواقع المعاش، وما من شكّ أنّ الكاتبة استطاعت وبنجاح أن تكتب للحياة انطلاقًا من الواقع، ذلك الواقع الذي أنتج هذا النّص الرّوائي الرّصين، ولولا أنّ النماذج الواقعية لحنان وأضرابها من النّساء ما كانت موجودة في المجتمع، ما استطاعت صباح أن تكتب روايتها هذه.

يشعر القارئ لهذه الرواية التي تندرج ضمن الرواية الواقعية كما أسفلت بأنّ حروفها تتفكّك وتتنافر، وتلتقي ثانية لتتآلف على مساحة أسطرها التي تطول، وينطق بها قلب حزين مكلوم.

تطالعنا هذه الرواية بالحديث عن عالمنا الشّرقي المليء بالتناقضات التي تعود بنا إلى الزّمن الغابر، وهذا منوط بطبيعة المجتمع ومكوناته وعاداته وتقاليده المتأصّلة في ذات كلّ فرد، وتمثّل انعكاسا واضحا للقناعات المترسّخة في الضّمير والوجدان مهما تقدّم الفرد وارتقى علمًا وثقافةً وحضارةً وفهمًا، غير أن عُقدة العُقد تنحصر في "القال والقيل" نهجًا لا يفارق مسرح الحياة الواسع، وهذا ما يضيّق الحياة على الرّغم من فضائها الرّحب ومساحتها الممتدة.

من يقرأ هذا العمل يتجرّع الأنين ويتحسّس الآهات، ويتفحّص الأوجاع والعذابات التي تذيب القلب من شدّة الكمد، وتفيض العيون بالدّموع حزنًّا وألما على الحظّ العاثر، بعد أن كانت البطلة حنان تعيش جسدًا بلا روح بعد زواجها الأوّل، حيث الإهانات، والسّباب، والنّكد، والغيرة، والحسد، والكيد، ويكشف القاموس الحافل للكاتبة عن وجه قاتم لمجتمع لا يرحم، فما من مفردة إلا وخَلْفَهَا التّنهيد والوجع، والغُصّة، والحُرقة واللّوعة.

وما من شكّ في أنّ الظّلم أبشعُ شيء في الحياة، فالبطلة حنان ظلمت كثيرًا، ولم تُقدّر أو تُحترم، وهنا الألم، فقد ظُلمت من الحماة، والزّوج، والأخت، وزميلات العمل، لا لشيء إلّا لأنّها تختلف عنهم في الفكر أوّلًا، والجمال الذي يكون أحيانًا وبالًا على صاحبه.

ومن يتلقّف هذا العمل لن يستطيع الفكاك من وقع الأنّات والجراحات الغائرة التي انصبّت كسياط عذاب على البطلة (حنان) التي تمثّل قولا واحدًا واقع الأنثى في مجتمعنا الشّرقي، الذي لا يعرف من معايير الحياة سوى بداية بعض الجُمل وأنصاف الآيات والأحاديث، ولا بل يحصرها أحيانًا في الأمثال الشّعبية، دون أن يلقي بالا لما يحدثه ما يفوه به من كلام قاس كالحجارة أو أشدّ قسوة، ويُشعل نارا تتأرجح بين الطّاعة والحياء والأدب، وكل هذا يقتلها ويظهرها ضعيفة وإن بدت على ملامحها أمارات القوّة أحيانًا، فيشعرها على الدّوام بأنّها بحاجة إلى سند ينتشلها كجثة هامدة من بين ركام الجهل والحقد والغيرة والكراهية .

"رحلة إلى ذات امرأة" رواية تجذب القارئ وتدفعه لمواصلة فعل القراءة، إذ يتشارك المتلقي مع الأديبة ما فيها من قسوة وحبّ وحنان وحزن وأمل على الرّغم من قساوة التّجربة التي تكرّرت مرّتين، في المرة الأولى لم يكن لها رأي في الاختيار، فكانت التجربة قاسية جداً، وحريّ بنا الإشارة إلى أنّ تجربة الزواج الثانية كانت باختيارها، وهذا ما عمّق المأساة وفتح الجرح ثانية، وعليه فهي المسؤول أولا وأخيرا عن هذا الاختيار، ومع ذلك فإنّنا لا نستطيع أن نراهن على تجربة متواضعة ضمن صداقة بين زميلين نجاحا أو فشلا من خلال موقف، غير أن الخوف من الخذلان ظلّ ملازما لها على الدّوام خوفا من تكرار التّجربة، وبالفعل شخصت العيون وتحقّقت الظنون وكان ما كان.

تحاول الكاتبة أن تشي بأنّ الغيرة من ثقافة البطلة وجمالها هي السبب الكامن وراء تحطيمها، في ظل وجود صورة تتناقض تمامًا معها حيث العجز والنّقص، والرّغبة في تعويضه عن الهيمنة الذكورية.

برعت الكاتبة في رسم الشّخصيّات وإبراز صفاتها المعنوية والحسّيّة، وكذلك الأمكنة، والمشاعر والأحاسيس، ولديها خيال خصب واسع فيّاض، دون أن تغرق في طغيان الخيال على الموصوفات، وقد جاء كلّ ذلك في سياقه الطّبيعي، دون أن يكون مقحمًا على المشاهد الموصوفة، ولهذا الوصف أثره في التّأثير على القارئ في الأحداث التي سيقرؤها لاحقًا، وبدورها تعمّق الرّؤية لدى المتلقي بحيث تجعله يعيش المشهد وكأنّه ماثل أمامه. وهذا ما لمسته وأنا أقرأ هذا العمل.

الشّخصيّات:

صورة الأب: من الشخصيات النامية في الرواية، والتي كان لها حضورها البارز، فقد كان دائما في موقف إيجابي على العكس تمامًا من الأم التي كانت تمثل الجانب السلبي في كل موقف، وهي قريبة إليه أكثر من الأم، وهذا النّموذج يتناقض مع الواقع في المجتمعات الشّرقيّة.

نماذج نسائية متناقضة:

تقصّدت الكاتبة استحضار نماذج نسائية متناقضة لتكشف لنا من خلالها عن الفوارق في التفكير.

البطلة حنان: الحالمة العاشقة، الرّقيقة الودودة الطيبة، مرهفة الأحاسيس والمشاعر، مترددة لم تجد الطريق إلى نفسها منذ البدايات، بعد أن ترك زواجها الأول لاختيار الأهل. محطات من حياتها شكّلت مرتكزا ومحورا أساسيا في الرواية، لا تعرف اليأس والاستسلام، مضت تواجه إعصار الحياة بإرادة صلبة، على طريق تحقيق الحلم ورغم شدّة الضَربات قررت أن تخطو الخطوة الأولى فدرست وتعلّمت، وكدّت وتعبت، وحاولت تغيير حياتها لكنّ التعاسة ظلّت ملازمة لها.

صورة الأم: لها شخصية مزدوجة، فتارة تبدو رحيمة عطوفة، وأخرى رعناء متهورة، سريعة الغضب، تحسب حسابًا للناس والمجتمع على حساب تعاسة ابنتها، ويتجلى هذا في موقفها من زواج ابنتها الأوّل، وهي سريعة الأحكام، فمن أول لقاء حكمت على عمرَ بأنه إنسان طيّب، تفسّر الأمور على هواها، فتفسر الرّفض بالتمرّد. تقول: "عمر إنسان طيب بسيط لا ينقصه شيء، العيب في طريقة تفكيرك وتمرّدك، تعلّمي كيف تتعاملين معه، كوني له أمة يكن لك عبدًا". وتنعت ابنتها بالتكبر والاستعلاء، وهي سطحية التفكير إذ إنها تبرر نتيجة توتر العلاقة بين ابنتها وزوجها بالحسد، وبتعليل بائس "عين وصابتكم"، ولديها مشكلة في إيجاد الحلول للخروج من المأزق متذرعة بكثرة الإنجاب حينا، والملاطفة والاحتواء حينا آخر، وحينما تفشل تلقي باللائمة على القدر، فتقول لابنتها: "هذا قدرك" ألم تكن هي السبب وراء كل ما حصل لها؟ تقول على لسان حنان صفحة 155" لقد دمرتني مفاهيم والدتي المترسخة عن الزواج في مجتمعنا".

أم إبراهيم: أم الشّهيد خالد، قويّة، صابرة، مناضلة، غير متعلّمة، مربّية فاضلة، تعتمد على ذاتها، وتنطلق للعمل لتعول أسرتها.

الأخت الصغرى غادة: بدينة، متوسطة الجمال، دائمة الانتقاد، غيورة، مراوغة، كاذبة، مفترية، مضللة، أنانية، عدوانية، حاقدة ناقمة على أختها حنان وبخاصة عندما جاءوا لخطبتها فظنوا أنّ حنانا هي العروس، وهذا ما زاد من غيرتها وحنقها.

الأخت الكبرى هبة: ذكية، جادة

الزوج الأول عمر: رسمت له صورة قاتمة في الصفحة الحادية والأربعين، فبدت كارهة له منذ أن أبصرته، وهذه الصورة مخالفة تمامًا لتلك الصورة التي رسمتها في مخيلتها لفارس أحلامها، جاء في الصفحة الثالثة والأربعين على لسان أمه أنه مرح اجتماعي، وصاحب نكتة ودعابة، غير أنّ هذا لم يكن أبدًا خلال سرد مجريات الأحداث. فلديه شخصية مزدوجة، متخلّف، ولديه نظرة مشوهة عن المرأة، مراوغ، بارع في استبدال الأقنعة. رسمت له صورة سلبية ساخرة في الصفحة 86 وكأنها تزدريه.

الزّوج الثاني نادر: مرواغ، يعرف كيف يتقمّص، كاذب، لكنها عاشت معها حياة عوضتها ولو بجزء بسيط عن القهر. نادر وعمر نموذجان متناقضان تماما، أفضيا إلى كارثة حقيقية ألمّت بالبطلة .

أم عمر: مخادعة، خبيثة، متسلطة، قاسية القلب، محرّضة تقول صفحة 109 "لا تستمع لرأيها يا عمر، ألم تسمع بالمثل القائل الفرس من الفارس"، متحجّرة المشاعر.

ماري: صديقة صادقة، متفهّمة، ذات تفكير عقلاني، على الدوام كانت الملجأ والملاذ لحنان كلّما عصفت بها الأزمات. لها نظرة في الحياة تقول الراوية على لسانها: "هكذا يربون الإناث على الحياء والخضوع" فهذه العبارة تختزل تفصيلات كثيرة.

أكثر ما أثارني في هذه الرّواية تلك اللّغة المشهديّة التي استطاعت من خلالها الكاتبة اختراق مكنونات النفس الإنسانية بعيدا عن الغرائز أو الماديّات، فكان التركيز منصبًّا على الأبعاد المعنوية كالنفسية والفلسفية بعيدا عن سرد الأحداث التي قد تبدو للقارئ السّطحي عادية، ولا سيّما أنّه يقرأ عن قضيّة باتت مألوفة لديه، غير أنّ هذا لا يتأتّى إلّا لمن ملك ناصية اللّغة، وأجاد الرّسم بالكلمات ببراعة.

في الوقت نفسه تعرض نماذج متناقضة أخرى كالصورة التي رسمتها لعم عمر المتحضر اللطيف، وزوجته الودودة،

المكان:

تركز الكاتبة في وصفها على الأماكن المفتوحة والمغلقة، قدمت لنا مقارنة بين زمنين أو حياتين عاشتهما داخل الوطن وخارجه، والذي يوازن بين الأمكنة الموصوفة يجد بونًا شاسعًا في الوصف، وإن بدا يسير على السّمت نفسه وبالطّريقة ذاتها، غير أنّ تفاصيل الأمكنة داخل الوطن تدلّ على عميق انتماء وكبير تشبّث بالأرض الّتي أحبّت، والمكان الذي عشقت – أعني القدس- تلك المدينة الّتي ظلّت حاضرة في ذهن البطلة، وحملتها قلبًا أينما ذهبت أو توجّهت، وقد أجادت الكاتبة توصيف أماكن جميلة في ثنايا الرّواية، وكأنّها ماثلة أمامنا بأدقّ تفصيلاتها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ مكان له خصوصيّة جماليّة، وإن بدا مختلفًا إذا ما قيس مع غيره، فالمكان الثّاني بكلّ ما فيه من طبيعة وجمال وحياة وراحة، بدا مألوفًا لدى البطلة الّتي عاشت فيه بعد أن حاصرها أهلها وضاقت عليها الأرض، فاضطرّت إلى الرّحيل هربًا من الأذى النّفسي والعذابات الّتي كانت تعيشها كلّ يوم، وكثيرًا ما راودها الحنين إلى وطنها، إذ كانت تشعر بأنّ روحها قد انتزعت من جسدها، وظلّ صهيل الذّكريات حاضرًا كلّما عصف بها الحنين ودفعها الشّوق إلى تذكار الأحبّة.

تطرح الكاتبة عددًا من القضايا التي ينبغي الوقوف عندها مطوّلًا، وإعادة النّظر حول تلك المفاهيم وبخاصّة:

- الزواج

- الذكورية

- الطلاق ونظرة المجتمع إلى المطلقات

- الدين والفهم الخاطئ له .

إيجابيات لدى الراوية:

1- لديها نفس طويل في سرد الأحداث.

2- لغة الكتابة رائعة، فلديها قاموس ثرّ يدلّ على أنّها لديها ثقافة عالية واطلاع كبير، وما من شكّ في أنّ الكاتبة قارئة نهمة لكثير من الأعمال الرّوائية لكتّاب آخرين، وهذا ما أثرى لغتها.

3- اهتمامها بقضايا اجتماعية بحاجة إلى تسليط الضوء عليها.

4- تحاول باستمرار خلق أحداث ثانوية إلى جانب الحدث المركزي.

5- تقسيم الرواية إلى مشاهد وفصول.

6- الاهتمام بالصور الأدبية بمختلف أشكالها.

7- تطعيم لغتها الفصحى بألفاظ عامية عندما يتطلب الأمر.

8- طغت اللغة الأدبية على أحداث الرواية.

9- - المقدرة على سرد الأحداث في الرواية الواقعية بأسلوب منطقي.

10- الاهتمام بالبعد الديني والاجتماعي في سرد الأحداث.

نصائح للراوية:

- ضرورة الاهتمام بمواضع التقديم والتأخير، والبعد عن تكرار بعض العبارات التي ورد ذكرها في الرواية.

-  الوصول إلى المعنى المراد بأقل عدد ممكن من الألفاظ دون إطالة، فتكثيف العبارات من أبرز مزايا الكتابة الأدبية.

- الإكثار من قراءة الأعمال الأدبية الواقعية، لا سيما روايات نجيب محفوظ، فقراءتها سيساعد الراوية على امتلاك أكثر من مهارة، كإجادة خلق الحبكة في السرد ببراعة، والتمكن من العبارات البلاغية التي تروق للقارئ، فتجذبه للاستمرار في القراءة.

- تجنب تقديم الأحداث للقارئ، فقارئ اليوم قادر على فهم الروايات التي تنتمي لمدارس أدبية مغرقة في الغموض والترميز، فكيف بنا إذا تعلق الأمر برواية واقعية كهذه؟ فالتقديم ينزع القارئ من جو الرواية، فيتحول إلى شخص يقرأ تقريرا عاديا، كما أنه يحد من قدرة القارئ على التخيل والاندماج في الأحداث.

- الابتعاد عن تكرار الأحداث و(الفلاش باك) إلا في المواقف التي تستلزم ذلك.

- أتمنى على الراوية في الروايات الواقعية ألا تجعل العاطفة تطغى على قلمها، فنحن نقرأ الأحداث في الرواية على أنّها أمر مسلم به، رغم أن طبيعتها في بعض الأحيان كانت تدين البطلة باستمرار وبخاصة عند صمتها؛ فاستطاعت إقناعنا بأنّها ضحية زواج فاشل منذ البدايات، وهذا يتضح من شخصيتها أثناء سرد الأحداث وزاوجها للمرة الثانية يكشف على أنها متهورة بعض الشيء، وفي رأينا أنّها لم تتعلّم من التجربة الأولى، فوجدتها منساقة وراء هواها بعض الشّيء.

- لم تقنعني الراوية ولو مرة واحدة أن عمر إنسان بتلك الصفات السيئة التي خلعتها عليه زوجته، فهو رجل خلوق ومهذب على نحو ما ذكر في الصفحة 35، لكنها رسمت له في الصفحة 41+42 صورة قاتمة بشعة ركزت فيها على صفاته المعنوية، كشفت من خلالها عن رفضها الزواج به، والمرأة حباها الله بنقاط قوة كثيرة تجعلها قادرة على توجيه زوجها كما ترغب، لكن حنان لم تفلح وكانت تفتعل المشاكل، لكني هنا لا ألوم الراوية فهي تسرد ما سمعته وعايشته بأمانة.

- كنت أتمنى على الراوية أن تكون أكثر حزما في مواجهة أختها الصّغرى "غادة" .

ختاما.. برأينا فإنّ الأم هي السّبب الأوّل والرّئيس في كلّ الأزمة، تقول مثلا في الصفحة الثالثة ومن كلامها أقتبس "كل شيء تطور من حولنا آنذاك إلا تفكير أمّي"، إذ إنّ أفكارًا قديمة تسيطر على عقليتها، فهمّها الأوّل "القال والقيل"، "العيب"، "السمعة"، والرّغبة في السّيطرة وفرض رأيها، وعدم تقبل آراء الآخرين.

***

د. محمد بنات

لحسين عبد اللطيف، المعنى التلويني وحجب مرموزات الأفق الشعري، الفصل الخامس ـــ المبحث (1)

توطئة: تستدعي حالات وظواهر وأساليب بناء التشكيل الشعري، ثمة عمليات استثنائية من خواص الأذواق والادراكات والتخيلات التحليلية الضابطة في التفكير واستقراء مسارات الشعوري واللاإرادي في تكوين (الداخل ــ الخارج) من ملازمات الإجراءات النفسية الباطنة والظاهرة من مستودع الذاكرة والصور والمعاني والدالات اللاشعورية.إذن أن عملية الابداع الشعري عبارة عن إشكاليات حازمة ومضطربة في توليد حالات التجربة الجمالية والأدائية في مداليل القصيدة.. لذا تبقى خيارات الشاعر في تدوينها سوى من خلال ذلك الحلول اللاوجودي / اللاشعوري، من قرار أهميتها في توطيد التذوق للأشياء في أجلى وصولات المعنى أو اللامعنى أو الاستدلال أو اللاأستدلال كدورا أوليا في ملامسة الشعور الاستاطبقي في لذة مخاطبة الذات عبر محاور الأنا الواصفة ضمن متعلقات غاياتها في البحث الدؤوب في مجمل كليات وجزئيات الأوضاع المحسوسة من مواضع المتعلقات ذاتها الأشياء.لعلنا ونحن نطالع مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) للشاعر الفذ الأستاذ (حسين عبد اللطيف) واجهتنا العديد من الأغراض والملامح الفريدة في تدوين (التصور المقابل) وما تتوقف عليه من مثالات ودلالات قائمة في أشد اللحظات مغايرة ومزاولة في الوعي الشعري عبر حالاته (الباطنة ــ الظاهرة) وما ينبغي التأكيد عليه في ما يخص الغائية القصوى ــ التراكزية ــ في أفعال قصيدة الشاعر، هو ذلك الجهد المعادل في تعيين صفات التسوية الناجزة بين الذات كلحظة انبثاق وتصريح، وبالفكرة كمجاورة في حدود المقاربة الفعلية للقصيدة وما يمكن أن تجده من أوليات القصد والتمثل في ما وراء صيغة المعنى، حيث يبدو الغرض أخيرا من القصيدة هو العملية النواتية الباطنة في ملامح انعطاف الذات الشعرية في معنى التجسيد والاستكمال لغايات أوجه (الربط ــ الانطلاقة ــ الصيغة المعادلة) ومن خلال ما يتحدد به الإيقاظ الشعري من مشروعية دلالات التعيين والمضاف الأحوالي والتحول الداخلي، نستدرك بأن غواية الواقعة الشعرية قائمة بين (أقامة الحلم) أو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) اعتبارا مرمزا لا يتخلى عن مدعومية المعطيات الاستراتيجية للحلم الذاتي بالتمثل التصوري لشتى الانطباعات والحالات المألوفة أو اللاتأكيدية الأداة المتصورة في حاضنة (الصورة ــ الدال ــ الحال) أي بمعنى ما أننا ندرك المعنى حينا من حدود وعي آخر خارج مسارات ماهية التعرف والتصنيف المحسوس أو اللامحسوس في تماثلات أصوات الدال الشعري.

ــ الرؤية المصاغة بأنثيالات المماثلة الحلمية:

يعتقد هايدجر، انسجاما مع فلسفة الفنومنولوجية ــ الوجودية، أن الفن الشعري لا يبدع العالم بل يجمله ويحاكيه أو يعدو به كاشفا. / فلسفة الفن عند هايدجر، ص59 ــ 60. وهكذا على هذا النحو يعطينا شعر حسين عبد اللطيف رؤى دواله انفتاحا بصورة مستترة، تكشف لنا ديمومة الذات، كوجود في (تحولات الوعي) وحقيقة الأفعال المحاكية لأقصى حدود إمكانية اللغة ووسائلها الأدائية المتحققة في كشف (رؤى الحلم):

أنظر إلى الخارطة.. .

هذه تاهيتي

التي تخمخ جسدها

برائحة الأناناس

وتتدلى من أذنيها

أقراط الموز./ص349، قصيدة: خريطة

غالبا ما تتحول آليات الكشف الشعري لدى الشاعر إلى واصلات مرهونة بالتماهي إزاء غايات مشحونة بتوجيهات فردية، إذ إننا نعلم من ثريا عنونة (خريطة) هو المبثوث الوصولي إلى مواقع وعلامات ومحددات ناجزة، تأثرا بذلك المقترح الجغرافي الذي يحدد مكونات إقليمية ما.ولكننا عندما نتعامل مع خريطة الشاعر، نجدها بوصلة في تحريك الحالات عن مواضعها المقرورة، وليس قولنا أن الشاعر هنا يحرف المواقع عن مواضعها الجغرافية، بل إنه غدا يستنبط من خلالها جمالياتها الصفاتية وهواجسها الكيفية في مساع خاصة من دلالات الكشف الصفاتي: (أنظر إلى الخارطة:هذه تاهيتي) المشار إليه هنا يشكل قراءة بالمعاينة الحرفية، ولكن آلية الحلم إجرائيا تتعدى توكيدية الموضع التعييني: (تضمخ جسدها، برائحة الأناناس، وتتدلى من أذنيها، أقراط الموز) لذا هنا تكمن غائية استدعاء الحلم بموجب (اختصار الزمن ـ تقيد الحال ـ ذاكرة الليل) ويمكننا تبني مقاطع شعرية أخرى تحمل في شاهدها ذات الخاصية من (استقصاء المشهد):

هذه هاواي

تتقلد عقدا من الزهور

وهي بسمرتها وألوانها

ترقص عارية. /ص349

إن الحالة الذهنية لدى الشاعر تدعونا إلى علاقات شكلية، أراد لها الشاعر الوصول من ناحية (النظر ــ التأمل ــ الذاكرة ــ التخييل ) دورا يتم بالتلقي الترسيمي في الصفة والحال والوجود والتذوق، والإنتقال من هنا إلى هناك لا يتم دون الإيقاع الحلمي الكامن في علاقة (الشاعر ــ المكانية ــ الزمانية ــ الاندماج) وربما تنتج آليات هذه الحركة الحلمية في الذات نحو الأشكال إلى تجاوز المحدد الموقعي الراهن للذات، فيصبح الزمان والمكان والموضوع الحقيقي للذات هو ما كان مستغرقا فيه من قبل الذات:

أطفىء المصباح

لأنام حالما. /ص350

لاشك أن أبعاد الحلم الأول من مشاهد النص، كانت دليلا عن حلم الشاعر المحاكاتي الذي طاف فيه فلك الحواس، ليتلمس تحرير فعل ذاكراتي مبثوث بالحلم الصفاتي للأشكال والأغراض في عالم الخريطة، وعلى هذا النحو أصبحت حواس الشاعر قارئة في ظهورها المسكوت عنه في اللازمن المحدد بالخطوط والنتواءاتعلى امداد الخارطة.أما بخصوص النتيجة الختامية فقد جاءنا صوت الشاعر بـ (أطفىء المصباح ــ لأنام حالما) إذن هناك مستويين من الحلم الأول هو (أقامة الحلم) أما الثاني فهو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) أي ما وراء عالم غيبي إيهامي، بالاعتبار الآخر من طبيعة اللاوعي للنوم.ولو كان الشاعر عالما في اللاوعي لما قال منذ بداية النص: (أنظر إلى الخارطة) إذ حالة الحلم بالصفات كان بدءا من جملة (هذه تاهيتي.. التي تمضخ جسدها.. برائحة الأناناس) وجملة اللاحق أيضا (وتتدلى من أذنيها.. أقراط الموز) وبهذا يمكننا معرفة أن الانفتاح الحلمي الأولي لدى الشاعر، كانت بوصفة التمثل الحلمي في التطور، أما بخوص الآخر فهو بوصفه ما وراء الحلم الاستقبالي والثبوتي.وبالرغم من تحرك كل منهما من داخل عتبة فضاء آنوي واحدة، إلا إن وسيلة المتلكم والأداء حتما سوف تكون مرتهنة بمؤولات تتنكبها حضورية أو اللاحضورية لحقيقة الحلمان ذاتها.

ــ فعالية الصراع الأحادي وانقطاع سلطة الحلم:

إذا كان الخطاب الشعري ــ جمعا ــ بين وحدات الأضداد أو ذلك المستوى البنائي للشكل الدوالي الذي يكون كمحتمل من أوجه حيثيات ثنائية (الانفصال ــ الاتصال) حيث أن التواصل يغدو داخل الخطاب كآلية تفترض لذاتها انقلابا أحواليا في تصورات المعنى الانفصالي الختامي:

أتى المساء

والمساء قد ذهل

وفوق التل ذلك البعير ما يزال

والليالي ترتعي سنامه./ص351، قصيدة: الذي بقي من التل

من الواجب هنا مراعاة العملية الشعرية وهي تتجاوز محدودية حركة الأحوال النوعية للموضوعة بدءا.فالجمل الشعرية الاستهلالية والعنونة للنص، تأتي من حيث سياق (بقي على التل) والأشارة فيها تردنا إلى الدليل الذاتي المتوحد، وصولا إلى إعطاءه علاقة إجرائية، تتلخص في حال جملة (أتى المساء) إلحاقا بجملة (والمساء قد ذهب) وهاتان الجملتان تعدان بدأتهما حلقة التمركز الأولي المحتملة من تركيبة القابلية المرسلة من (الذي بقى على التل) فيما تبقى النزعة الظرفية في تركيبة الزمن (أتى المساء.. والمساء قد ذهب) بمثابة البوصلة المؤشرة على اعتبارية تدخل (الذات الراوية) في صيغة وصفها عن حالها الواقف كحال (ذلك البعير) وعند معاينة مستويات الماثلة الدلالية نتبين أن الذات الفاعلة متخيلة تماهيا مع دلالات المعادلة الأحوالية المشتركة بين (الذي بقي على التل: البعير= سباق ماثولي/ الأنا = الطرف المعادل) وعلى هذا النحو فإن جملة (الليالي ترتقي من سنامه) توكيدا على حجم الاستنزاف الزمني الذي راح يمخر من الطرف الآخر جل طاقاته الديمومية، محولا من وجوده الاعتباري إلى محض بؤرة خاوية تتغذى من رغيف جوعها ومرارة.التمثل بلبوس التعطيل الأحوالي (ويرتعي هو السغب) إن المحرك التصويري لهذا الاستقدام المعادل، قد حل حلولا مشابها إلى أوضاع الأنا بالمقارنة مع حال ذلك البعير الواقف على التل، تتولى عليه من كل جهات علامات الأسى، فيما يقوض نموذجه الإحيائي ذلك الفعل الدهري بالهلاك والغلبة (قد تأبد إلى الأبد) وقد تطول الجمل الشعرية في موصوف حال الأنا المعادل (وقد أسن.. أو أصابه الجرب!) بفرائض أوجه المحتمل التقريبي أو ما هو مكتظا بالحساسية المقاربة بالنموذج المشار إليه (ذلك البعير؟) اقترانا بكونات مشتركة الطرق تغالب حال وتصور عدمية الذات الواصفة.

ــ التقابل الزمني والتماثل الذواتي:

1ــ الحساسية المكانية مضمرة في تخوم الضمير النفسي:

لاشك أن جميع محاور الأفكار والرؤى الشعرية في عوالم تجربة حسين عبد اللطيف، تعد انطلاقة نفسانية ذات نوازع سوداوية وعدمية، تقودنا أحيانا إلى الاستجابة الخالصة منا، بأن للشاعر كيانة المقلق الخاص، لذا كثيرا ما نجد مكونات قصيدته عبارة عن رحلة مأساوية وقاهرة في مفردات الحزن الزمني والمكاني الآسر نقرأ ما جاءت به قصيدة (المحطة) من أوجه ووسائل زمنية لا تذر بغير الفواجع النفسانية والذاتية اللتان أهلكتهما مفارقة الوجود اللاعتباري في تقاويم أسفار قطارات الشاعر الراحلة والعائدة دون جدوى منه تماما:

في الصمت تقع المحطة

وفي انتظارها الملول

تستكين./ص353

إن توالدات الدوال، تخلق في العامل المكاني، ثمة كيفية ذاتية مقاربة في المادة الموضوعية والحسية، أي بمعنى ما أن القابلية الإحالية في الوازع المكاني راح يشكل علاقة ذات نحوا استجابيا بين (الأنا = المكان) دلالة تتكشف أواصرها بما تمليه عليها داخلية حال الذات الراوية (الصمت ــ تقبع ــ المحطة ــ في انتظارها الملول ــ تستكين = أنا القصد) وعلى هذا الحال ترتبط مقاصد الراوي في سفره بالضمير المكاني والزمني إلى خصوصية الأشارات والعلامات في الحمل اللاحقة من النص:

على الصليب تنقضي الليالي

والسنون وهي كالحجر

نقر لا تريح./ص353

ومن السهولة معاينة حيوات الذات المنصرمة عبر أعلى درجات يبوسها وحلبها في الأحوال الانتقالية للذات، وصولا به أقسى مراحل جملة (والسنون وهي كالحجر.. نقر لا تريح) وتتضاعف ضغوطات الأزمنة الناضرة على مقومات الذات التي كادت تشبه فراغ الإعادة الزمنية في شتى محاورها ودوراتها الرتيبة (يغادر القطار.. ويقبل القطار.. وثمة مسافرون يصعدون.. آخرون ينزلون) إن طوعية روابط علاقات الزمن، راحت تخلق في الذات ذلك التضخم بالتكرارية وعبوس إعادة الأشياء ذاتها بذاتها وكأن الحياة تعيد دورتها على مضض وشططا، فليس هناك في ماهية الأحوال الحياتية سوى ذلك الطابع السكوني في ما جربه (ووحدها تنتظر المحطة.. إلى متى ستنتظر؟) إن الكيفية التي يتعامل وإياها الشاعر مع الزمن وحالات الوجود، لا تسعه حيزا ما من الدلالة الإيجابية في واقعة الذاتي والنفسي، لذا ظلت ممارسة الحياة في نظره وكأنه محطة القطار التي لا ندرك منها ذلك البقاء التشخيصي، كما ولا ترتخيه جل الخيارات القادمة من الزمن (وما الذي تراها تنتظر.. وهذه الرياح.. تسف والرمال.. تسفي عليها.. ).

ــ تعليق القراءة:

هكذا وجدنا جميع الاشارات والمقاصد واضحة في قصيدة تجربة الشاعر، فهي كحال اللوحات العدمية التي لا تمسك لها بأي حال من علاقة ما من شأنها اليقظة من حلم الذات السوداوية في شتى أحوالها ومؤولاتها التي راحت تستقيم مع روابط وأواصر وأبعاد شعرية لها من الاستدلالات الظاهرة والباطنة والمسكوت عنها ما يخولها على أن تكون القصيدة الحاوية على الخصائص الإمكانية الكاملة على قبولها كشعرية استقصائية لأدق عوالم الذائقة النفسية والحسية للذات وحالات أفقها الجوهري بمسافات دلالية مباشرة وغير مباشرة من المعنى التلويني أو ما وراء حجب مرموزات الإشارات العلاماتية والإيحائية والإحالية الكبرى.

***

حيدر عبد الرضا

تُعد كتابة مرحلة معينة من التاريخ وانتاجها روائيا مجازفة كبيرة، لأن هذا العمل سيُحمّلُ –الرواية- أبعادا رمزية، لذلك فإن مثل هذه الروايات ستحيل النص الروائي، بسبب تعدد مصادرها واختلاف بنيتها الدلالية والنصية، إلى إشكالية ذات جدليات فكرية، تصل في كثير من الأحيان إلى الضبابية العقائدية. فهناك اختلاف بين الرواية التي تعيد كتابة التاريخ، والرواية التي تجعل من التاريخ خلفية قصصية داخل السرد، لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته الروائية المعروفة. فالتاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة، ولا رواية بدون تاريخ، ولا اختلاف في أن التاريخ يحرّك مسار بناء الرواية، التي لا تتم بدونه أو من خارجه حتى ولو كان هذا التاريخ تاريخا متخيلا وليس واقعيا. فالروائي لا يدرس الإنسان في روايته، ولكنه يجعله يحمل أفكاره ورؤيته، ويعيد صياغته عاطفياً من خلال الحوار والمواقف الفرعية التي يبتدعها ليحمل رسالته الفنية، بل إنه يبتدع الشخصيات الروائية لكي يسد النقص الذي تحدثه كتابة التاريخ عادة في هذه النواحي. وهو بذلك يقدم البعد الغائب في الكتابة التاريخية وهو البعد العاطفي والوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادة.

ولا بد من القول إن التاريخ ثروة روائية هائلة ومتنوعة، تتمثل في التجارب الإنسانية الغنية التي تفوق أي قدرة خيالية فردية على الإبداع في كل الأحوال. وإذا كان الروائي الذي يتعامل مع الحاضر يعيش هذا الحاضر، فإنه بالضرورة لا يستطيع أن يرى هذا الحاضر من منظور شامل، وسوف تكون رؤيته جزئية بسبب القصور الفردى البشري. صحيح أن الفنان يرى الاحداث من منظور موهبته التي لاتتوافر للإنسان العادي، ولكن الرواية عادة ما تكون متمركزة حول الجزئي لتكون بمنزلة الشرفة التي يطل منها الروائي على الكل. ويجد الروائي في متناوله مايشبه المخزن الهائل الذي يحوي تجارب إنسانية لامتناهية في تنوعها وثرائها. فالتاريخ، بوصفه سجل النشاط الإنسانى متنوع الوجوه والاتجاهات، وبوصفه رصدا لحركة الإنسان في الكون بأبعادها الثلاثية (الإنسان، والزمان، والمكان) يشبه رواية هائلة لكنها تخلو من الخيال الفني، كما أن الرواية من ناحية أخرى ترصد التفاعلات داخل المنظومة الثلاثية نفسها، لكنها تستعين بالخيال الفني، لكى تضفي على التجربة الإنسانية تلك الحيوية التي تفتقر إليها الكتابات التاريخية.

وقد جهد الكاتب في هذه الناحية، فساق لنا احداثا سمع بها القراء او شهدوا بعضا من أحداثها، او جرت على البعض منهم! وأبتدع شخصيات واقعية؛ هاشم، ومحمد رفيقه في السجن الذي اطلق سراحه بعد توقيع (براءته) من الحزب ومقتله بعد هجرته من العراق، ووالده سلمان، بينما خلق شخصيات غير واقعية كان يتحدث عنها كأنه يعيش في حلم، عندما ذهب ليستكشف قرية (أم المساكين) التي أخبرته عنها القابلة في السوق الذي كان يتردد عليها مثل الآخرين، كذلك حكى عن ما كان يحدث داخل المعتقلات والسجون، وكذلك عوائل هؤلاء وما عاشوه من انتظار لعودة أبنائهم الذين تعرضوا للتغييب او القتل!!

في رواية "العالم الأهم" التي صدرت عن (دار المثقف للطباعة والنشر) في 2018 للكاتب والشاعر يعقوب زامل الربيعي، صورت رحلة زمنية مضنية، أمتدت عبر ازمنة الخوف والاعتقال والتغييب والموت او الهجرة في بلدان الغربة، ومن الناحية الاخرى رسمت صورة محزنة، لحالة الأحباط التي عاشها الكثير من الذين وقفوا بالضد من سياسات النظام السابق، لتغيير الواقع الذي كان يعيشه البلد، وكان لضياع بوصلة هذه القوى وكثرة الاختلافات فيما بينها، سببا في وصول الكثير من كوادرها الى مرحلة الضياع والنكوص، وفي احيان كثيرة الى نهاياتهم في سجون النظام البعثي وأجهزته القمعية. وكانت بعض اطراف تلك الحركة تعتقد وتصر ان طريقها ومنهجها الذي سلكته هو الأصوب. وبسبب هذا الاصرار ضعفت قواها وتأثيراتها في مجريات الأحداث اليومية، ووصلت حد التخبط في تصرفاتها، فدفعت هذه القوى الكثير من الشهداء الابرياء، يقابلها سلطة قمعية أمتلكت شروط قوتها الذاتية بتملكها السلطة والمال، ووقوف دولا كانت تعتبر صديقة للشعب العراقي الذي عول عليها كثيرا، فاعانت هذه الدول الصديقة السلطة القمعية بكل ما تحتاج من سلاح، ودربت أجهزتها القمعية على أحدث الطرق لاذلال القوى المعارضة والقضاء عليها.

عن هذه الفترة التاريخية التي أمتدت من اسقاط اول جمهورية عراقية في العام 1963 وحتى عام احتلال العراق 2003 من قبل قوات التحالف التي كانت تقودها الولايات المتحدة الامريكية. رحلة الاعوام السود التي عاشتها القوى السياسية المعارضة، والكثير من العراقيين الذين لم يتقبلوا ممارسات البعث وطغيانه وتفرده بالسلطة، ومازالوا يحسون بأشباحها وعذاباتها شاخصة أمام أعينهم، بالرغم من ان أعواما طوالا مرت عليها، إلا ان روائحها وخيالاتها لم تزل ملتصقة في عقول الذين عاشوها وأكتووا بنارها، فهذه الصور باقية معهم مشتعلة في مشاعرهم، تطرد من عيونهم النوم وتبعد عنهم الراحة! ساعات التعذيب التي لايستطيع ممن عاشها ان يصفها ويجيد تصويرها للذين كانوا بعيدين عنها. أهوال جعلت حتى الذين مارسوها على اخوتهم العراقييين، ينقلبون الى وحوش من عالم غريب، يستلذون ويبتكرون طرق لتعذيب المعتقلين دون نأمة رحمة!! من الذي حول هؤلاء البشر الى قتلة ومصاصي دماء يتشفون بتعذيب ضحاياهم؟ حيث يجعلون الشخص الذي يعذبونه يحلم بالموت للخلاص من الألم الذي يذوقه كل يوم وكل ساعة على أيديهم..

وقد اعتمد كاتب الرواية في سياق سرده لاحداثها عملية التقطيع السردي، الوسيلة التي تحقق التنقل من حدث لآخر ومن شخصية لأخرى، وتأخذ اشكالا متعددة، مثل جعل السرد في الرواية يكتب على شكل فصول او مقاطع بعناوين داخلية، او بأرقام في اعلى الصفحة التي يبدأ بها المقطع الجديد، او مجرد وضع علامة تؤشر لانتهاء مقطع وبداية مقطع جديد. وقد اختار كاتب الرواية وضع نجمة (*) بعد كل مقطع من مقاطع الرواية، وهذا التقطيع في السرد يهيئ له فرصة التنقل بين احداث الرواية دون الخضوع للتسلسل الزمني للسرد، أي يستطيع ان يُقدم ويُأخر في احداث الرواية بحسب حاجته.

شكلت المرأة في هذه الرواية ركناً اساسيا فهي؛ الأم والأخت والحبيبة والرمز، وأغلب تلك النساء تكلم عنهن الكاتب بألم، من خلال نقل صورة لما كن يعيشنه، من فقر واضطهاد وحرمان. اولئك النسوة كُنَّ يمثلن غالبية المجتمع العراقي بعد ما أكلت الحروب العبثية التي شنها ذلك النظام البغيض، أغلب الرجال وبالأخص الشباب منهم! وهذه الشخصيات النسوية لهن مخاوف وآمال وخيبات، ولهن نقاط ضعف ونقاط قوة، وسنجد هذه الصفات واضحة بالاخص لدى امينة، الام التي توصي زوجها سلمان قبل موتها ليخبر ابنها هاشم: "-قل لهاشم عن لساني: بُني أوصيك بالصبر، فأنه دواء للعلل، وسبيل للغايات"(ص 5). هاشم الذي اخذه الولع بالسياسة وحب الصراع مع السلطات الحاكمة، فلم يكن امامه وامام ابيه اخيرا من خيار سوى الهجرة من البلد والهرب من مصير القتل الذي يتربصه كل يوم من قبل الأجهزة القمعية ويتربص الآخرين، بسبب الحرب العبثية الذي زج بها النظام الاف الشباب في آتون الموت والأسر. فيرحل البعض منهم لبلاد الغربة، في مدن الله الواسعة كي ينجون بجلودهم، وعكس حياة أمه التي سقطت مرة واحدة دون أن تنبس بأي كلمة. فقد بقيت حياته تتساقط على الدوام بين الجنوح والتراجع، بين الرغبة والصوم، كأن مفاتيح الدنيا أعيتها الحيلة ولم تفتح له مغلقا واحدا! ومثلما ذكرت أمه؛ ان ليس لأي قفل مفتاح غير الصبر! أمه التي أنجبت سبعة اولاد، بنينا وبنات، وفقدت ابنها نبيل في الحرب اللعينة التي استمرت ثمان اعوام، وكانت من قبل قد فقدت اربع من اولادها: "لي اخوين واخت لفهم الموت لجوف شراهته صغارا، لم ارى أي منهم، سوى تلك الاخت التي ما ان تخطت لتوها على الارض مشيا حتى لوى شبح مرض السحايا رقبتها لتموت بعد ايام من الألم(9). يتذكر هاشم كيف صدم يوما، حين علم ان أمه تخزن في حقائب خاصة ما تشتريه من لوازم عرس له ولاخيه. يومها ضحك عاليا لهذه الصدمة المباغتة وقال: "- ستطول الحرب وسيأخذونني خلفه"(21). ذوت عافيتها مذ جيء بولدها نبيل قتيلا، وهروب هاشم الى بلاد الغربة، لكنها ظلت تتعلق بالعافية، غير ان هزالها يزداد كل يوم. امست كيانا متشبثا بحائط الحياة الاملس كيانا يعاني خرابا مستمرا، وكما توقع سلمان؛ وجد جسدها "صلبا كلوح من الثلج، فكف عقله من الحركة وتيبس جسده أمامه مشدوها"(67).

أما (قند) حبيبة هاشم منذ الطفولة فقد ولدت وعاشت طفولتها معه، وبعد ان كبرا وشاعت حكاية حبها لهاشم بين الناس، أجبرها ابيها (عيدان منخي) التي توفيت زوجته (نباهن)، على الزواج من زميل له في الحراسات الليلية، الذي يكبرها باكثر من خمسة وعشرين عام. وبعد زواجها ونزوح ابيها لمكان آخر، بسبب هروب زوجته الجديدة (سومه) مع عريف الشرطة فوزي. انقطع اخر خيط من خيوط الوصل بين قند وهاشم. وكان هاجسها ان تبتعد مكرهة عن هاشم، وذلك موافقة لرغبة ابيها وواقع الامر. وبقيت تعاني من الوحدة وسوء الخاطر ليلا وليس هذا فقط انما كان يعذبها ان ترى بأن نهر من الدفء والحنان، قد أخذ يجف شيئا فشيئا.

القابلة التي تجاوزت سن إثارة الرجال، تعرف عليها هاشم في السوق، وعندما أحست ان هاشم يختلف عن الأشخاص الذين يأتون لها في الليل ليشبعوا رغبتهم فيها، أخبرته عن حكاية ولادتها التي روتها لها أمها: "ساعة شؤم لفظتهاالأقدار فيها من رحمها للارض"(13).. ولدت في قرية تسمى "أم المساكين"! وتسأل هاشم؛ هل سمعت بقرية ام المساكين فيجيبها بلا "ان ما حصل فيها، وكما حكته أمي، سيجللك بالبياض من هامتك حتى قدميك وسيدمي قلبك!"(ص17) وما خلفته صورة فجيعة هذه القرية في رأسها سيبقى مثل ملازمة الليل والنهار. "كانت القرية تحمل معنى حلم خرافة الحياة التي يتمنونها"(18)

راجحة: من ام شامية واب موصلي، بعد سبع اعوام من زواج والديها يتوفى الزوج ولم تخلف منه امرأته الشامية سوى ابنة واحدة. راجحة قاربت الخمسين في عمرها، يسكن هاشم غرفة في بيتها، ورغم انها لا تتقرب للرجال إلا أنها رأت فيه رجلا مختلفا عن الآخرين، فترعاه وتتعلق به، وعندما يحتاج الفران الذي يعمل لديه هاشم لبعض المال ويطلبه من راجحة تشترط ان تشتري نصف الفرن وتسجله باسم هاشم. عندما يحكي لها عن أسباب هجرته من العراق وما كان يعانيه، تتعاطف معه. لكن عندما أراد العودة لبلده، حاولت ان تستبقيه معها من خلال تذكيره بما ينتظره إن عاد: "ان اردت العودة للنار، فأنت حر"(41). وقد احبها هاشم في غربته وتعلق بها وأحس بها قريبة لنفسه وكانت علاقته بها حاجة انسانية بعد العذاب الذي ذاقه في السنين التي مضت. وعندما يخبره صديقه محمد ان علاقته براجحة باتت اهم ما يشغله ويعتبره قد ضمن مستقبله يجيبه هاشم: "ان راجحة بعض هذا السلام الثمين. أليس الحب هو السلام الأعم يا صديقي؟!"(120). ويظل هاشم يعيش صراعا داخلياً ويحاول ان يعود لبلده ليعيد بناء حلمه الذي استشهد الكثيرين من أجله، والذي قضي حياته على أمل تحقيقه!

***

قراءة: يوسف علوان

دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات

كانت لـ(المها) في الشِّعر العَرَبي صُوَرٌ نمطيَّة، تتكرَّر عناصرها.  وما يهمُّنا منها هاهنا جوانبها الجَماليَّة.  والشُّعراء عادةً يدخلون إلى تصوير ذَكَر المها (الثور الوحشي) بتشبيه (الناقة) به، فإذا هم ينطلقون في تصويره إلى ما شاؤوا؛ فيَصِفُون مَظهره، وحركته، ثمَّ صراعه مع (كِلاب الصائد) عند الإصباح.  من ذلك قول (ابن مُقْبِل)(1)، مثلًا:

تَـبَوَّعُ  رِسلًا  في الزِّمـامِ  كما  نَجَا

أَحَمُّ  الشَّوَى  فَرْدٌ  بِأَجمادِ  حَوْمَلا

*

كأنَّ حِبالَ الرَّحْلِ مِنهـا تَوَشَّحتْ

سَـراةَ لَياحٍ  أَكْلَفِ الوَجْهِ أَكْحَلا

*

تُـساقِـطُ رَوقـاهُ بِكُـلِّ خَـمِيْـلَـةٍ

مِنَ الرَّمْلِ كُـرَّاثًا طَويلًا وعُنْصُلا

ففي هذه الصورة يهتمُّ الشاعر بسواد القوائم، والوجه، وبياض الظهر، وكَحَل العينَين.  وقد تكون لملامح المظهر الخارجيِّ هذه قيمةٌ رمزيَّةٌ لدَى الشاعر، تتَّصل بعلاقة الثور الأُسطوريَّة بـ(القمر) المقدَّس، حتى لقد عُرِف القمر بـ(ثور).(2)  غير أنَّ الجانب الآخَر من الصورة- وهو الجانب النفسي، المتمثِّل في: قلق الثور، وانفراده- يبدو هو الغالب على الصُّورة.  ولعلَّ ذلك يمثِّل قلق الناقة، أو بالأحرى قلق صاحبها؛ لأنَّ الثور الوحشي في صورته النمطيَّة الجاهليَّة يمكن أن تُرى فيه رمزيَّةٌ للرجل (أو للذُّكورة) تتصل بالقمر، كما أمكن أن تُرى في (المهاة) رمزيَّةٌ للمرأة (أو للأُنوثة) تتصل بـ(الشمس).(3)

ومن هنا يتضح أنَّ المدخل إلى تفهُّم جَماليَّة الصُّورة في هذه الأبيات، وما ماثلها حول (الثور الوحشي)، يَلزم أن يكون ميثولوجيًّا؛ لأنَّ ذلك من الأُسس- إنْ لم يكن هو الأساس- التي بَنَى الشاعر عليها جَماليَّات الصُّورة.

والشاعر، من جهةٍ شكليَّة، يحرص على تناغم الألوان في صورته: أَحَمُّ، لَياحٌ، أكْلفُ، أكحلُ. وكذلك يُعنَى بالتوزيع المساحيِّ للألوان، والأبعاد التناسبيَّة بينها: أَحَمُّ الشَّوَى، سَراةُ لَياح، أَكْلَفُ الوَجْه، أَكْحَل: (أي: أَسْود القوائم، أَبْيض الظَّهر، لون وجهه ضاربٌ إلى السواد، أَكْحَل العَينين).  غير أنَّ هذا لا يكشف عن رؤيةٍ جَماليَّةٍ شكليَّة، بمقدار ما يَحْمِلنا على تلمُّس رمزيَّات الحيوان المقدَّسة عند الشاعر، ممَّا يدور حول (القَمَر)، الذي يُشْبِه- ببياضه، وكَلَفِ وجهه- (الثورَ الوحشي)، ثمَّ حول الرَّجُل الذي يُشْبِهُه بكفاحه، وقلقه، وشَبابه.  لذا يقول في أبياتٍ أخرى- بعد أن شبَّه المرأة بـ(المهاة: البقرة الوحشيَّة)-:

رَبِـيْـبَـةُ  حُـرٍّ  دافعـتْ  فـي حُـقُـوفِـهِ

رَخـاخَ  الثَّـرَى  والأُقْـحُـوانَ  المُـدَيَّـما

*

تُـراعِـي  شَـبُـوبًـا  فـي  المَـرادِ كَـأَنَّـهُ

سُهَـيْـلٌ بَـدا  فـي عارضٍ مِن يَـلَمْـلَما

*

تَـظَـلُّ  الرُّخامَـى  غَـضَّـةً  فـي مَـرادِهِ

مِن الأَمْـسِ أَعلـَى  لِيطِـها  قد تَهَـضَّـما

*

حَشا ضِغْثَ شُقَّارَى شَراسِيفَ ضُمَّـرا

تَـخَـذَّمَ  مِـن  أَطْـرافِـهـا  ما تَـخَـذَّمـا

*

يَـبـيـتُ  عَلـيهـا  طـاوِيـًـا بـمَـبـيـتِـهِ

بِـما  خَـفَّ مِن زادٍ وما طـابَ  مَطْـعَـما

*

يَـظَـلُّ  إلى  أَرطـاةِ  حِـقْـفٍ  يُـثِـيرُهـا

يُكَـابِـدُ  عَـنـهـا  تُـرْبَهـا  أن  يُـهَـدَّمـا

*

يَـبـيـتُ  وحُـرِّيٌّ  مِـن  الرَّمْـلِ  تَحْـتَـهُ

إلى نَـعِـجٍ  مِـن ضائِـنِ  الرَّمْـلِ أَهْـيَـما

*

كَـأَنَّ  مَجـوســيًّـا  أَتـَى دونَ  ظِـلِّـهــا

ومـاتَ النَّـدَى مِن جانِـبَيـْهِ فَأَضْـرَمـا

*

غَـدا كالفِرِنْـدِ  العَضْبِ  يَهْـتَـزُّ  مَتْـنُـهُ

مِـن  العِـتْـقِ  لَـولا  لِـيْـتُـهُ  لَـتَـحَـطَّما

*

تُـوَرِّعُــهُ  الأَهـوالُ  مِن  دُونِ  هَـمـِّـهِ

كما  وَرَّعَ الرَّاعِـي الفَـنِـيـقَ  المُسَـدَّمـا(4)

فهو ثورٌ شابٌّ، كأنَّه (سُهيل)، يبيت قانعًا بما قلَّ من زاد، يظلُّ يُكابد الرِّمال- ليُهَيِّئ لنفسه كِناسًا- عند أصول شجر (الأَرطَى).  وكأنَّه مجوسيٌّ عليه يَلْمَق أبيض، أضرم النار عند انقطاع المطر، ذلك الانقطاع الذي يُشخِّصه في «موت الندى».  ثمَّ يغدو (الثَّور) كالسَّيف مَضاءً، تُورِّعه الأهوال من دون همِّه.  وصورته تَكتسب تعاطف القارئ وإعجابه؛ لهذه الروح الإنسانيَّة التي بعثها الشاعر فيها.  تلك الروح من الأَنْسَنَة المنبثقة عن البُعد الرَّمزي الذي يمثِّله (الثور الوحشي) في مخيِّلة الشاعر؛ بحيث أرانا فيه صورة الإنسان، بكلِّ جَماليَّاتها الحسيَّة والمعنويَّة: شابًّا، مُنيفًا كنجم (سُهيل) على جبل (يَلَمْلَم)، قنوعًا، مكافحًا، لا تهزمه الشدائد، ماضيًا في سبيله، كالسَّيف، أو كالفَنِيْق (الفحل من الإبل)، برغم الأهوال من حوله.  والقِيَم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة تتحكَّم في جَماليَّات الصُّورة هاهنا بعنفوانٍ وفعاليَّة؛ لأنَّه يتعيَّن أن تليق الصُّورة في النهاية بالإنسان الذي ترمز إليه.  ومن ثَمَّ يقول الشاعر في صُورةٍ أخرى:

يَـظَـلُّ بـهـا  ذَبُّ الـرِّيــادِ كـأَنَّــهُ

سُـرادِقُ أَعْـرابٍ بحَـبـلَينِ  مُطْـنَبُ

*

غَـدا ناشِـطًا كالبَربريِّ وفي الحَـشا

لُعـاعـةُ مَـكْـرٍ في دَكـادكَ  مُـرْطِـبُ

*

تَحَـدَّرُ صِبْـيانُ الصَّـَبا  فَوْقَ مَـتْـنِـهِ

كـما لاح في سِلْـكٍ  جُـمانٌ  مُـثَـقَّــبُ

*

لَـياحٌ  تَـظَـلُّ  العائـذاتُ  يَسُـفْـنَهُ

كَسَوْفِ العَذارَى ذا القَرابةِ  مُنْجِبُ(5)

والعلاقة الشَّبَهيَّة الشكليَّة بين (الثور الوحشي) وسُرادق الأعراب تبدو واهية، لكنَّ العلاقة وثيقةٌ من جانبها المعنويِّ الرمزيِّ، الذي يمثِّله الثور الوحشي في الشِّعر الجاهلي؛ من حيث إنَّ الإنسان الجاهليَّ- أو الرَّجُل بالتحديد- هو «ذَبُّ الرِّياد» المقصود في مثل هذه الصورة، إذ لا يستقرُّ في مكان، بل هو رحَّالٌ في طلب الماء والكلأ(6)، إلَّا أنَّه كالسُّرادق يحنو على أهله.  تمامًا كما يصوِّر رمز المرأة (الشمس) بقوله:

ولِلشَّمسِ أسبابٌ كأنَّ شُعاعَها

مَـمَدُّ حِبالٍ في خِباءٍ مُطَـنَّبِ(7)

وهو (أبٌ)- كما كانوا يَدْعُون (القمر)(8)- مُنْجِبٌ، علاقته بالأُنثى علاقة وُدٍّ حميمة وإخصاب.  ولا ينسى أن يصف بياضه: (لياح)، ونشاطه، وقناعته بزهيد الزاد.

وهكذا تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في هذه النماذج.

[للحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1)  (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 213/19- 21.

(2)  يُنظَر: علي، جواد، (1973)، المفصَّل في تاريخ العَرَب قبل الإسلام، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 6: 163- 000.

(3)  ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 657- 662.

(4)  ابن مُقْبِل، 284- 286/ 6-15.

(5)  م.ن، 21/38- 41.

(6)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (رود).

(7)  ابن مُقْبِل، 9/3.

(8)  يُنظَر: علي، جواد، 6: 163- 000.

قصة مترجمة من اللغة الأسبانية وتعتبر من قصص ادب الاطفال العالمية تبحث في أهمية اللغات والترجمة

أعداد وترجمة الدكتورة غيداء قيس إبراهيم

***

كان سبب اختياري ترجمة قصة في أدب الأطفال دون غيرها في الوقت الحالي، ذلك الشغف الشخصي والأدبي الذي اتى متفقاً مع مؤلف القصة "خوان مانويل غسبرت"، في أن للأطفال أدباً وثقافة خاصة بهم، وهو أدب غير أدب الكبار والبالغين، في سماته وخصائصه وأهمية دوره ووظائفه بما فيها من جمال ومتعة وثقافة فتبعث في ذواتهم ونفوسهم حب الخير وقيم الحق والجمال والعدل، تخلق عندهم روح المرح والاستمتاع والمشاركة، إضافة إلى اهتمامي المهني كمترجمة ومختصة في مجال اللغة الاسبانية والتي تجعل من قصص الاطفال وحكاياتهم هي بالتأكيد نمط اتصال وتواصل إنساني، لغة موحدة بين الشعوب، وأسلوب تثقيف ووسيلة تعلم وتعليم في المجتمعات الإنسانية المختلفة لنقل الأفكار والثقافة والقيم الأخلاقية والروحية، وأنماط السلوك والأعراف والتقاليد والعادات.

 لذا، قمت بانتقاء قصة "حلم الملك السري" والتي حرصت على ترجمة عنوانها في طبعتها الاولى كما هو موجود على غلاف القصة بنسختها الاسبانية وقمت بعد ذلك بتعديل عنوانها الى " حلم الملك فلوريان" في الطبعة الثانية وهي " للمؤلف الاسباني "خوان مانويل غسبيرت" الذي رحب شخصياً بعد اتصالي به بفكرة ترجمتها للعربية ونشرها إيمانا منه بالوصول الى تلك المساحات والفضاءات الذي يسعى ان يحلق فيها بقصصه على اطفال العالم. تم اختيار هذه القصة تحديداً، لأنها نُشرت من ضمن مجموعة قصصية تعليمية مصادق عليها من قبل وزارة التربية والعلوم الاسبانية في سنة 1987، كون القصة ذات طابع تعليمي، بينت أهمية اللغات والترجمة ومكانة المترجمين في كل مكان وزمان،وكيف إن تعلم اللغات قديما وحديثا ساعد على فهم الغاز وقصص عديدة لشعوب وثقافات في مختلف بقاع الأرض.3712 قصص اطفال

لقد حاولت من خلال ترجمة وأعداد هذه المجموعة من قصص الأطفال عن الأدب العلمي والعالمي، والتي ستكون حلقة أولى في سلسلة متواصلة إنشاء ألله، أن نرفد مكتباتنا بحلقة تواصل مع الطفولة في كل مكان لأجل ضمان حصولهم على مستقبل علمي صحيح بتحبيبهم بكافة أنواع العلوم والمعرفة وإعطائهم فكرة من خلال هذه القصص على احترام ثقافات الشعوب وتعلم لغاتها، فهم زينة الحياة الدنيا وهم اعز ما لدينا. قناعة مني بأهمية الاهتمام بالقصص في الطفولة لخلق قراء المستقبل، لأنهم شريان تواصلنا معه. ولكي ابدأ، من المهم إعطاء نبذة مختصرة عن مؤلف القصة: ولد خوان مانويل غسبرت، في مدينة برشلونة في ال 16 من شهر أكتوبر عام 1949، هو كاتب متخصص في أدب الاطفال والشباب، وقد تُرجمت كتبه إلى عشر لغات. في بداية حياته المهنية، حصل على درجة البكالوريوس في الهندسة، لكن شغفه كان يجذبه أكثر نحو ألمسرح، لذا قرر استرداد بعض الوقت الضائع منه من خلال سفره المتكرر لبلد الفن " باريس " لغرض دراسة الفنون المسرحية. لدى عودته إلى برشلونة، شارك كمدير مسرحي في العديد من العروض المسرحية لمرحلة كانت تسمى آنذاك بالمسرح التجريبي أو المستقل. استطاع وهو في قمة انشغاله في العمل المسرحي الدخول في عالم النشر. هذا العالم الذي ساعده اكثر في إيجاد طريقه الحقيقي، حيث انه كان يشعر بالحاجة الى عالم يستطيع من خلاله ان يعبر فنياً عما يجول بعالمه الخاص بعيداً عن خشبة المسرح. أصبح معروفا ككاتب للقراء الشباب، نشر اول اعماله "سيناريوهات رائعة" في عام 1979، والتي حازت على جوائز عديدة، فاتحة للكاتب ابواب كثيرة في عالم القصص، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، "لغز جزيرة توكلاند" و " متحف الاحلام" و " المهندس المعماري والامبراطور العربي" وغيرها الكثير التي اضافت بصمات رائعة في سيرته الادبية. في عام1995 قامت المجلة الاسبانية CLIJ في إجراء استفتاء بين ابرز النقاد والمختصين في عالم القصة لتحديد من هم الاكثر بروز وقيمة في مجال تأليف أدب الشباب والأطفال في اسبانيا، والتي فيها حصد خوان نسبة عالية من الاصوات التي اشادت بموهبته في فن كتابة القصة. يُلاحظ في أعمال غسبرت تأثره الشديد بكتاب الأدب والخيال والمغامرات مثل فيرن Verne و آرثر كلارك Arthur C.Clarke , و برادبري Bradbury وكتّاب كلاسيكيات الأدب في امريكا اللاتينية وخاصة بورخيس Borges وكورتازار Cortázar.. يغلب على أعمال خوان مانويل طابع الخيال الذي يعتبره من وجهة نظره الشخصية امتداد للواقع الذي يبدأ صعوداً إلى مناطق كثيرة لا تزال مجهولة او غامضة، تلك الافكار التي يرسمها بقصصه للأطفال والتي يكمن خلفها فكرة فنية رائعة مستمدة اساسها من حقائق علمية، والتي لا تزال تشكل تحدياً للمعرفة في مجالات غير معروفة كثيرة، لم تستكشف بما فيه الكفاية، الفكرة التي طالما اجتهد في ايصالها للأطفال والشباب تتلخص وعلى حد قوله بالتالي :

" من المهم جدا ان تأخذوا في الاعتبار دائما أن كل واحدا منكم هو مشروع فريد من نوعه في تاريخ العالم. لا تدع شيء يفسد ذلك المشروع. ستكون لديك الفرصة في أي لحظة من حياتك في التحكم وقيادة الاحداث، الاعمال، الناس، اللحظات والإبداعات التي لن تحدث إلا اذا جعلتموها ممكنة، الجميع عليه أن يعطي أحسن ما عنده في أحداث حياته. سيكون ذلك هو نصره الحقيقي. وبذلك نعطي المعنى الحقيقي للحياة. أنا اعتبر نفسي ناقلا للتأريخ، ذلك الشخص الذي يمزج الخيال بالواقع، سأقوم بكتابتها للناس، في يوم يكون فيه غروب الشمس أكثر عتمة وتبدأ الرياح تعزف اصواتها بين أغصان الشجر، في منتصف الليل، سيبدأ شخص ما بسرد حكايتي المليئة بالغموض والتي ستستمر احداثها لغاية الفجر، ستوقظ في داخلك الخوف القديم والجديد، ذلك الخوف الذي إذا تجاوزناها سنصبح اكثر قوة وتحدي لأي لغز جديدة، قلمي هو قوتي الذي استمد منه تحريك الزمن، فتح المساحات والوصول الى فكر القارئ ومساعدته في التحلي على الجرأة في عبور ذلك الجزء الخفي والغامض الذي عادة ما يكون في الصفحات الاولى من القصة ".

سأقوم بأعطاء ملخص للقصة التي قمت بترجمتها " حلم الملك فلوريان"لكي نفهم فكر هذا المؤلف المبدع وكيف قام بدمج الخيال بالواقع :

 تدور أحداثها بشكل مختصر حول ملك كان يُدعى " فلوريان" الذي استدعى منجميه في البلاط بعد رؤيته لحلم محيرّ وغريب يصعب شرحه و لا يستطيع إبعاده عن مخيلته لإيجاد من يستطيع أن يفسر ما شاهده في حلمه من إسرار وكلمات غير مفهومة. راقب المنجمون النجوم في السماء وقبلَ طلوعِ الفجر، اكتشفوا وجودَ أربع نجوم جديدة ظهرت في الاتجاهات الأربعة : الشمال، الجنوب، الشرق،والغرب، فعلموا أن من هذه الاتجاهات سيأتي أربعة قصاصين في هذا الزمان لحل اللغز. أمر الملك بإرسال أربعةُ سُفراء مجهزين جيداً، كلُّ واحدٍ منهم لديه مهمة العودة مع أشهر قصاص راويات على الأرض،وبعد مجهود استطاع السفراء أن يعثروا على أربعة قصاصين ومن بلدان مختلفة. اكتشف الملك فلوريان أن أللغاتُ التي يتكلمها القصاصون كانت مجهولةً في قصره، ورغبةً منه في عدم تفويت أي كلمة مما يقولون، أصدر فلوريان مرسوماً تضمَّنَ احتياج المملكة لمترجمين ورصد مكافأة لمن يجيدَ تكلم أللغات، ويستطيعُ أن يترجمَ كل ما يقالُ من ضيوف الشرف الأربعة الواصلين من بلادٍ بعيدة. وبعد بحث طويل وجد الملك معلم لغات كبير في السن يستطيع أن يترجم هذه اللغات الأربعة. لكن القصاصون – ولسبب خفي- رفضوا تفسير حلم الملك، لذا هربوا ليلا من البلاط خوفا منه. الملك فلوريان، لم يستسلم في إيجاد الحقيقة ولم يخف من المجهول، سافر وحيداً في الغابات لكي يبحث عنهم دون الحرسِ أو الحاشية، في مكانٍ معزولٍ في الغابات. بعيدا ً عن القصر بدأت تتطور الأحداث والمغامرات. أستطاع الملك في نهاية القصة من تفُسير كل شيء بفضل ترجمة وفهم الأصوات والكلمات الغريبة التي سمعها في حلمه الغريب، فكتب كل ما دار من أحداث في كتاب لكي يجعل اسمه معروفا ًولكي لا ينسى الناس القوةَ الفعّالةَ لسحرِ الكلمات واللغة في المستقبل. بعدَ مرورِ أكثر من ثمانمائة عام، في أيامنا هذه، عُثِر َعلى كتاب الملك فلوريان في ألمانيا، في أثارِ قلعةٍ قديمة، داخل علبة صلبة من الحديد والتي كشف فيها على هذه الحكاية التي تتكلم عن أهمية تعلم اللغات والترجمة وكيف إن الكلمات والأصوات هي مفتاح لأي لغز في هذه الحياة.

القصة أتت مرتبطة حاملة طابع من حكايات الخيال الكلاسيكية والقصص العربية او ما يطلق عليها من قبل الاسبان بمصطلح "القصص الشرقية"، مع مزيج من رواية المغامرة والخيال العلمي والغموض. اعتبر غسبرت ان الغموض الذي يلف القصة يشكل دائما تحديا وتحفيزاً للعقل، للاستكشاف والتحقيق لإيجاد الحل، هو مقتنع ان عملية توضيح لغزا معقدا هو واحد من أعظم المتع حتى لو ان حل اللغز كان بعيداً عن متناول أيدينا، الغاية منها امتاع القارئ. اما من ناحية هيكلية القصة، الاحداث بدأت بالتصاعد نحو المجهول، يفعل ذلك دون أن يفقد اهتمام القارئ، من خلال إضافة عناصر غموض وأسئلة دون اجابة، يتم حلها في الصفحات الأخيرة من القصة.

أكثر ما يميز القصة هو البعد الانساني الذي ظهر فيها من خلال البحث عن المغامرة والمعرفة والتعلم دون البحث عن مكافأة مادية في المقابل، شجعت على الغوص في القابليات الفردية ومعرفة حدودها وإمكانية الوصول الى الاهداف وتحقيق الاحلام التي تسعى لحل النزاعات الموجودة فيها من خلال فك الغازها. حتى الاشارة الى التنجيم في القصة لم يجعله يتعدى حدود العلم والحقيقة، عندما قدم لنا في القصة عالم الفلك " آستور"الذي يعمل بالقصر منجم للملك، والذي قدم المشورة للملك المبنية على اسسس علمية دقيقة في تحديد مواقع النجوم الاربعة.

فلسفة المؤلف تكمن في التغلب على الخوف، والذي سينقل الطفل من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ. البطل في القصة يحاول من خلال حل اللغز ان يخرج من المتاهات، وأن يجتاز الاختبارات العديدة التي تظهر في احداث القصة. قصة غسبرت تحمل في طابعها بعض الرمزية. اما ابطال القصة الاخرين هم "المستكشفين أو المغامرين " على استعداد لفعل أي شيء للحصول على ما وراء المعرفة. الابطال يبحثون في ذاتهم ليصلوا إلى حدود لم تكن متوقعة، الى معرفة القدرة الحقيقية للذات البشرية والتي تتسلح بالعلم والمعرفة لكي تجابه المجهول الخارجي، وأسرار غير مكتشفة بعد.

***

أكتب كما أتـكلم! "رشيده أحمد التركي"

لا أبالغ إن قلت إن لغة عصر الحنين تتميز بسردية هادئة ولهذا فهي إحدى أهم المجموعات القصصية التي قرأتها في نهاية العام الماضي. هذه المجموعة تجعلني أهتم بموضوع اللغة بالذات ولهذا أحاول هنا أن أوجه إهتمامي له ولأهميته في النتاج الفني.

تبدأ رشيده أحمد قصة كشف القناع بمقطع "ليت أعماق النفس تضاء هكذا" من رواية الكاتب العراقي فؤاد التكرلي "الرجع البعيد"، التي ترجمتها إلى الفرنسية. هذه إشارة أعتقد ان لها اكثر من دلاله ومهمة قبل الحديث عن موضوع اللغة كما سنرى لا حقا.

تحاول القاصة الكشف عن أغوار النفس الداخلية وإضاءة أعماقها وهمومها في قصص قصيرة مختلفة الأحجام، بل إن حجم بعضها لا يتعدى الصفحة الواحدة.

لغة النتاج الفني كائن حي ومتطور له شخصية ومواصفاتها الخاصة به ولكنه كائن غير منعزل ولا معزول ولا مفصول عن الشخصيات التي تتحدث بها ولا اللوحات والمشاهد التي توصف بها.

كأننا هنا أمام صورة فنطازية، تظهر فيها اللغة لتقول للكاتب: أنا هنا كائن حي لي مواصفاتي ومزاجي واهتماماتي وهمومي ونسيجي الداخلي، انا إنسان لي قلب ينبض ودورة دموية وأحاسيس شاعرية فحذار حذار أن تلمسني بدون رغبتي او تتدخل بسلوكي، هذا أمر ينفرني.

لم تستخدم رشيده أحمد مثل هذه اللغة المضطَهدَة إن جاز التعبير حيث يتدخل الكتّاب اثناء استعمالاتهم لها بصغيرتها وكبيرتها دون فسح المجال لها لتمارس حركيتها وتكون روافدها المتنوعة و نسيجها الداخلي.

هذه أمور أعتقد أن بعض النقاد العرب المهتمين بالشأن القصصي لا يولوها أهمية كبيرة تستحقها ولهذا أرى من الضروري في هذه المناسبة التوقف عندها.

اللغة العربية لها خصوصيتها لأنها أولا وقبل كل شىء لغة شعر وتقاليد ومفاهيم لغوية ضاربة في عمق الإنسان العربي ولأنها لغة لهجات وثقافات متنوعة وحوارات مختلفة ومحكيّات ولهجات وبيانٍ ومعانٍ ولغة فصيحة لا تستخدم إلا في القراءة والكتابة. ولكن هناك لغة وسط، لغة أحاسيس شاملة يفكر بها كل العرب ويتكلمون بها. هذا الاستخدام اللغوي هام للغاية وعلى الأديب أن يهتم بتطويره.

تكمن موهبة الفنان العربي في استخدام كل هذه النشاطات الكلامية في شكل لغوي يقع وسط كل هذه الأشكال، نعني هنا لغة فنية سرديه عربية معاصرة.

يجد أحيانا بعض الكتاب العرب صعوبة في استخدام الكتابة الفنية بعيداً عن الشرح الذي يُعد بالنسبة للكثيرين سذاجةً وهناتٍ وعيوباً تنتقص من العمل الفني.

أشير هنا إلى أن ما يسمى المباشرة أو تقديم المعلومة عن الشخصيات يمكن بالتأكيد ممارستها بطريقة فنية، إذ إن كل شيء متوقف على طبيعة العمل الأدبي ولغته ونسيجها الداخلي وتلقائيتها وطريقة الكاتب في التعامل مع أسلوبه ولغته. علينا أن نتذكر أن الأسلوب هو الرجل أو لكل شيخ طريقته كما يقول العرب.

تكمن موهبة الكاتب ايضا في تجسيد نشاط لغوي موجود في الأصل ولكنه مغمور ومعتبرعلى أنه أسلوب غير فني بل واطىء. هناك العديد من المفردات يمكن استخدامها بلغة سهلة ليس بالضرورة أن تكون مباشرةً ولا تقريريةً إذا ما أعطيت للتلقائية فرصة لتأخذ مكانها ولتمارس دورها في تكوين لغة كتابة فنية.

هذه الخاصية إضطرت وتضطر بعض القصاصين لممارسة لغتهم بطريقة لا تخلو من افتعال استخدام التشبيهات والكنايات والاستعارات والمجاز وغيرها من صيغ البيان والمعاني لكي يحيطوا لغتهم بهالة الفنية ولكي يبتعدوا عن السهولة أو المباشرة، إلا أن النتيجة تكون نسيجا مهلهلا يشبه قطعة القماش المرقعة بألوان فاقعة ينقصها الإنسجام.

تنفر اللغة من مثل هذه الاستخدامات المفتعلة فيحصل خلل في بنية نسيجها الداخلي وعالمها الخاص فتفتقر إلى الانسيابية والانسجامية ويؤدي كل هذا بالتالي إلى عدم تقبل النص من قبل المتلقي وعدم انسجامه معه.

لغة السردية الفنية

هذه مقدمة وددتُ أن تكون مناسبة في الحديث عن لغة مجموعة "عصر الحنين" للكاتبة التونسية رشيده أحمد، التي اختارت ان تضيء الهموم الإنسانية الداخلية قبل كل شي وهذا يعني أنها بصدد استخدام لغة معينة لا يمكن الاستغناء عنها بمواصفات تحجزها حسب الطلب أو تفتعلها. أقول مستنتجا وباختصار إنها لغة تلقائية تمارس حريتها في بناء نسيجها الداخلي، تبتعد عن الافتعال والانشائية، لغة الكتابة السردية الفنية.

ولكن ماهي مواصفات هذه اللغة؟ تتصف هذه اللغة بالحيوية والتدفق فهي تشبه إلى حد ما لغة الرواية ولهذا هي تصلح لكي تكون وسيله الحديث الهموم النفسية.

إنها لغة تهتم بالمفردة إهتماما كبيرا وتضعها في مكانها المناسب، تستعمل الوصف في الوقت المناسب مما يضفي عليها حيوية تتميز بها عن الإنشائية.

وهي لغة متابعة سردية متواصلة من خلال وصف الشخصيات وحركاتها وتصرفاتها الصغيرة مثلا في قصة "الكشف عن القناع".

نلاحظ أن القاصة لم تكتفِ بالإشارة إلى اللون الأصفر في هذه القصة بل تابعت الحالة و وصفته بالكامل، بل وظفته لإضاءة هموم شخصيتها و استمرت في التعامل معه و وَصف "المرأة المتصابية والضحكة الصفراء" عصر الحنين. ص6

يجد القارئ أن الكاتبة تعطي الموضوع حقه في الوصف والتحليل بجمل قصيرة ولغة تخلو من المفردات المفتعلة. أنظر وصف اللوحة مثلا والإهتمام بها “اللوحة أمامها تحطم الأعصاب، مصرة على غموضها” ص12 ولكن غموض اللوحة له علاقة بالحدث وليس اللغة.

أبدت رشيده أحمد قدرةً واضحة في إضائتها لموضوعة إضطهاد المرأة وتعرضها للسلب أو التحرش الجنسي وأظهرت موهبة خاصة في طريقة التعامل مع وصف الحالة وغموض الحبكة.

تقول بطلة "الكشف عن القناع" التي تعاني من مشكلة فقدان بكارتها:

"دخلت سيدة تحمل مجلة فرنسية، اتجهت توا إلى مقعد داخل الصالون بدون أن تختار كأنها تجلس عليه منذ قليل. فستانها يزيد من توتر ذاكرتي، وهذه الستائر الصفراء. تلك الملعونة لا تأتي" (تقصد الدورة الشهرية ز. ش) عصر الحنين. ص 19

إذا كانت الكاتبة قد أتاحت الفرصة لبطلتها للتحدث عن عالمها الداخلي وهمومها ومستقبلها ورغبتها في الإنتقام من الرجل بسبب فقدان شرفها، فإنها تلجأ إلى الثمالة لكي يتحدث بطلها عن نفسه في قصة "عيون البحر". البطل هنا كله هموم وقنبلة موقوتة وكأنه هو أيضا يريد الانتقام من نفسه والآخرين بسبب غربته وبعده عن بلاده التي لا تستطيع أن تضمن له حياة طبيعية.

"أتيتُ هذا البلد لتركيب زجاج السيارات الفرنسية! لِم تقسرنا بلداننا على هجرانها؟.. ص32 سأسكر هذه المرة بالقهوة السوداء، المرة. إن علقمها وسوادها يتناسب و جو نفسي الآن.. تمددت ووضعت يدي تحت رأسي. السقف أبيض، بارد والنور الساطع وسطه يثير الأعصاب ويفتتها. قمت أقطعه. الظلمة. فنجان القهوة لم يفرغ بعد، وأنا لم اسكر بعد بالقهوة. منذ أيام لم يعد المشروب يسكرني ولا حبوب النوم تنيمني". ص 35

إنها بالتأكيد لغة حوار داخلي يتحدث البطل من خلالها عن مشاعره وهمومه في غربته فرنسا وهي الشكل الأقرب بالنسبة لهذا النوع من السردية المباشرة، إذ ليس المهم الكتابة بلغة مليئة بالمعاني والصور بل المهم هو القدرة على تحويل الحكي والكلام العادي إلى فن سردي.

لغة الضمير المتكلم أنا، لغة ضمير الشخص الأول قد تكون هي أيضا اقرب إلى أسلوب المناجاتية كما هو الحال في حديث إيمان بطلة قصة "المرايا".

"قمت من السرير اجلس أمام المرآة الثلاثية الوجه على طاولة الزينة قرب النافذة و أمام السرير. ينعكس وجهي في الصفحة الوسطى من المرآة، بينما يعكس جانبا المرآة شطراً من كتفي. ذلك وجه إيمان. أبلغُ من العمر ستا وعشرين سنة. متزوجة منذ ستة أشهر من رجل احبه واحبته. ماذا يمكن أن اقول عن نفسي أكثر... أنضم ببطء إلى عالم المتزوجين العاديين.. زوجي لم يعد يقرأ سطرا مما أكتبه.. لم أوهموك وأوهمت نفسك بتحقيق اشياء أخرى غير تلك التي تحدث عندما يتزوج الناس". ص40

تركز الكاتبة في هذه القصة بالتأكيد على موضوع المرأة ولكن بشكل أكثر عمومية من "الكشف عن القناع":

تقول البطلة: "سأدافع عن نفسي إن اتهمني بالاتهامات المعروفة. عندما تحاول المرأة أن تتكلم عن نفسها. فَمِنيستْ. حتى وإن لم تكن لها علاقة بتلك المنظمات الغبية. منظمة تحرير المرأة.." ص48

لقد صرح جلال فعلا وبدون تردد ان المرأة للبيت فقط.. إن النساء اللواتي يكتبن إنما لا يكتبن إلا للتبرج، لتصوير نواقصهم في الجنس أو استعباد الرجل". ص 49

تبدأ القاصة سردها بالإشارة إلى فستان العرس الأبيض ص39 وتنتهي بالانتفاض ضد كل مظاهر الزواج البائس الذي يقيد الحياة ويحطم الطموحات ".. أخذت فستان الزفاف الأبيض وطويته بعصبية لأضعه في الحقيبة الرمادية.. لا! لن اكون دميته". ص 54/53

 ستُّ عشرة صفحة مليئة بمتابعة سردية جادة للموضوعة عن نسيج من مظاهر رتابة الحياة الزوجية التي حولت الحب إلى كراهية. أعتقد أن بعض ما أشرتُ له عن خصوصية اللغة ينطبق كثيرا على لغة قصة "شهادة في ملف التحقيق المؤجل" من حيث الاهتمام بالمفردة وتركيب الجملة. نلاحظ انها تبدأ سردها بجملة قصيرة واضحة ومعبرة : "هكذا ُطردت من الشغل رغم استقامتي". ص56 كما لو أنها تعد المتلقي لاستقبال تفصيلات عن الحدث "الطرد من الشغل".

".. كلا! لم ينتهِ النص! هكذا سأكتب نص الدفاع عن نفسي إلى المحامي -إن اقتضي الأمرـ.. إنها ليست أول "جريمة" أدخل فيها دون أن أقترفها.. أنا اخرس. ولذلك أنا أستنجد بالكتابة... فالعالم يتهمني بكل شئ. لماذا أنا عربي؟ ولماذا أنا أخرس؟ وأول تهمة كانت أني بلا أب شرعي.. أنا إبن قارعة الطريق! كما يقولون!.. واليوم لا أزال أنا ذلك الأخرس، لكنني أسمع بعينيّ. نعم صرت أسمع بعينيّ. فأنا ارى!". ص58

"لقد علقت بي كل التهم وقلبي يمتلئ كل يوم بقطرة جديدة تفيض عن الكأس. ومنذ ذلك الحين تعلمت الكتابة لنفسي". ص59

الإنسان العربي يتكلم فلا يقول شيئاً من الواضح أن الخرس يتحول بالتدريج إلى موضوع رمزي له علاقة بالواقع العربي الاجتماعي المعاش الملئ بالقهر والخوف والاستبداد. "هل تعرفون ما معنى أنني أخرس؟ اي أنني لا أتكلم عن نفسي ولن يكفي كل المحامين في العالم أن يتكلموا كما يجب أن أتكلم عن نفسي لو كنت أملك لسانا. والغريب مرة أخرى أن الخوف هو الخوف نفسه.. وتتجمع الدموع فجأة.. أبكي قليلا ثم أسكت. وهل للأخرس حق في البكاء؟..أنا اللص الذي لم يسرق شيئاً. انا المتهم الذي لم يرتكب ذنباً. أنا المذنب الذي لم يقترف إثما". ص60

اعتقد أن الكاتبة وفقت في اختيار شخصيات ملائمة للغتها، أو أنها أعطتها فسحة من الحرية لتمارس نشاطها على ألسنة أبطال يفهمون ماذا تعني المعاناة ومرارتها.

"ولست أدري لماذا أكتبه؟.. لأنني وحيد. والكتابة نوع من الخروج من الوحدة للدخول فيها. تخرجك من وحدتك لترميك فيها. وأكتب أنا لأنني لا أتكلم. ولكنني أرى. أنا أرى !! ولعل الذين يملكون السنة للكلام لا يعلمون مدى الشقاء الذي اعيشه ولايدركون فظاعة ما أرى ! لأنهم لم يغيروا شيئا بألسنتهم. ص62

نلاحظ أن الكاتبة تطور موضوعة الخرس من أمر خاص إلى آخر أكثر عمومية كما أشرتُ، بل أقرب إلى السياسة بدون أن يحدث خدش أو تخلخل في نسيج اللغة من خلال الانتقالة الانسيابية، متجنبة بذلك الوقوع في المباشرة والتقريرية.

يقول البطل : "الخرس يصبح أحيانا نعمة في هذا العالم الذي لا يجدي معه أي نقاء.. يتهمني بأشياء لم اقترفها..عاهتي.. هي الحصن الذي يمنع عني دناءة العالم "المتكلم" وشره.. وبراءتي هي مثل فلسطين الباقية بين الشمس والماء". ص 66 وتقول أيضاً "والإنسان العربي متهم بأنه يحب الحرب ويمارس الإرهاب وهو يملك فيما يملك لسانا عاطلا لا يتكلم أو يتكلم فلا يقول شيئا". ص74

من المفيد هنا أيضا أن نشير إلى ان الكاتبة ناقشت على لسان بطلها بطريقة انسيابية وتلقائية موضوعَ اللغة والكتابة وطريقتها. يقول البطل:

"لن أعطي نصيّ هذا إلى المحامي.. أنا أكتب لنفسي، و من سيقرأه سيلاحظ بأن لغته ليست بلغة النصوص الجاهزة للقراءة. إنني أكتبه كما أحسه. أكتب كما أتكلم. بل أنا أكتب كما لوكنت أتكلم.. ولا أكتب على الورق. لكنني أرى.. أحبها، عاهتي لأنها تحميني ولا تجعلني أعيش الزيف.. وعاهتي لا تمنعني من أن أرى!". ص67

إنها من أهم قصص المجموعة من حيث حركية اللغة وحيويتها وتلقائيتها وعدم تكلفها وتذكرنا بقصة "التنور" 1972 لفؤاد التكرلي حيث يكتب البطل إفادة في سبع صفحات مقدمة من البطل قاتل زوجة أخيه للمحكمة.

لا توجد هنا أحداث ولا حبكات ولا حوارات بين الأبطال ولكن لغةً مليئة، متدفقة. وقد يكون من المناسب هنا الإشارة إلى اوجه الشبه بين لغتي هذه النصوص وطريقة التكرلي في مناقشة موضوعاته ومعالجتها باسلوب اعتيادي استطاع تحويله إلى سرد فني.

أرى ان مثل هذا التشابه أو التأثر أمر طبيعي بالنسبة للكاتبة رشيدة أحمد لعدة اسباب، لعل أهمها هو متابعتها المستمرة لما يكتبه التكرلي وترجمتها لروايته "الرجع البعيد" إلى اللغة الفرنسية كما أشرت في بداية مقالي.

لاتبحث عن تونس في تونس

تتجسد فكرة الحنين في قصتين: "عصر الحنين" و"المدينة الحلم"، تطرح في الأولى أفكارا عن تونس والعالم وانطباعات عامة يتناولها المواطنون العرب في حياتهم اليومية. ".. أما النادل..إذا عرف أنك تونسي. ويل لك! إنهم لا يتملقون إلا السياح وخاصة السياح العرب، الخليجيون". ص84 او ليس الانحطاط قد بدأ فعلا منذ السبعينات.. بعد ذلك لتسمِّ هذا عصر الحنين. الحنين لكل شئ قديم ".. لا تبحث عن تونس في تونس". ص86

أما في قصة "المدينة الحلم" تتجسد هواجس الغربة التي لاحظناها لدى بطل "عيون البحر" العامل التونسي المغترب ".. ماهذا الجدب الذي يطفئ شعلة الحياة فينا؟ لماذا يقضي العصر علينا بما يأمر هو؟ لماذا لا نقاوم؟ لماذا يخنق فينا حتى الحنين إلى عصر كانت فيه الأعماق، الأعماق هي مختبر كل شئ لماذا تسطح العالم من حولنا؟ تلك كانت كلماتها التي تكتبها في دفاترها الصغيرة". ص91 ".. ستنتهي غريبة في بلد غريب. لن يحفل بموتها أحد". ص 92

***

د. زهير ياسين شليبه

للروائي عبدالكريم العبيدي

يعني الفضاء الروائي، في مفهومه الفني، مجموع الأمكنة التي تظهر على امتداد بنية الرواية، مكونا بذلك فضاءها الواسع الشامل الذي يبنى عليه العمل الروائي، ويلعب هذا الفضاء دوراً مهماً في تشكيل نسيج رواية "الذباب والزمرد" للروائي عبد الكريم العبيدي، بل هو العمود الفقري الذي يربط أجزاء هذا العمل بعضها ببعض؛ من شخصيات وأحداث، وأرضية الفعل وخلفيته، فهو مكان تخیلي قائم بذاته، صنعه الروائي لتمكين القارئ من معرفة شخوص الرواية ودقائق الحياة في الفترة المعنية بالسرد، وفي خلق المعنى على المستوى الدلالي، لإضفاء الدلالة على الحكایة، سواء تلك التي تم تصويرها بشكل مباشر أو تلك التي تُدرك بالضرورة، وبطريقة ضمنية مع كل حركة السرد الحكائية. ويؤكد العديد من الباحثين أن الفضاء الفني، يسعى إلى تكوين حالات نفسية خاصة داخلنا، وذلك من خلال جعله ساحة للاحداث لتتقدم من خلاله الصور والشخصيات، فيصور الواقع او الخيال الفكري بشكل فني يحفز القارئ او المتلقي على مواصلة القراءة.

وقد زخرت رواية "الذباب والزمرد" في أغلب فصولها العشرة التي تكونت منها، بسِفر عميق في تاريخ وحاضر مكان الرواية؛ وهذا ما يميز السرد الروائي عن ما يسجله التاريخ، في حدث ما أو مرحلة معينة، فالكثير من الكتاب يدّعون ان التاريخ يعجز في الكتابة عن هذا الحدث، مثلما تسجله الرواية من خلال السرد الذي يعتمد تسجيل الاحداث الصغيرة وتفاصيلها، ولذلك تجيء الرواية محملة بدقائق الأمور التي عانى الناس فيها من ويلات واشكالات تلك الاحداث، وهو ما يسمى ببواطن الأمور، بعكس التاريخ الذي لا يذكر إلا ظواهرها، التي لا تعنى أكثرها بهموم البسطاء من الناس، الذين تقع عليهم اهوال تلك الأحداث ومآسيها.

البصرة مدينة الحدث، وهي مدينة ذاقت ويلات حرب الاعوام الثمان، وكانت حصتها من الخراب أكثر من باقي المحافظات، ثم تناوب عليها الموت والاعتقال والتغييب بعد انتهاء انتفاضتها التي قتل وغيب فيها مئات الالاف، ثم الحصار الذي اجبر الكثيرين على بيع كل ما يملكونه، كذلك القمع الذي جعل الناس تتخوف من خطواتها وتنفسها وأطفالها، فأقل شبهة سوف تؤدي بهم الى الموت على أقل تقدير.

جهد الكاتب في تصوير الفضاء الروائي، الذي كان يلف شخوص الرواية، من خلال الأمكنة التي عاشت فيها والظروف التي كانت تقاسيها، وصور لنا أجواء ما بعد قمع الانتفاضة في البصرة حيث استعادت الأجهزة الأمنية انفاسها، وقامت بمطاردة كل المطلوبين من المساهمين في هذه الانتفاضة، أو حتى ممن لم يساهموا فيها، "لكن بيوت البصريين لم تكتف بكل هذه الآلام. كانت تئن ليلا على ابنائها المفقودين منذ نهارات الانتفاضة وما اعقبها من هجمات مسلحة، وكانت تنوء بأوجاع مراجعات دوائر الأمن والاستخبارات المذلة وما تتلقاه من اهانات وشتائم وتهم لا تحصى بالعمالة والاجرام".

لابد ان نشير الى عملية الاستهلال التي ابتدأ بها الراوي، عندما رسم لنا صورة فولكلورية لاطفال البصرة في العابهم الشعبية، التي يمارسها اغلب الاطفال في العراق، لعبة الشرطي والحرامي؛ وهي عملية حساب يقوم بها الاولاد لقياس قامتهم بواسطة أكفهم الصغيرة، من أسفل القدم حتى قمة الرأس وهم يرددون، مع كل شبر وبصوت مسموع: شرطي/ حرامي، شرطي حرامي.. وقد رمز من خلال صورة هؤلاء الأطفال في آخر عملية قياس قام بها طفل حليق الرأس، ان عدد اللصوص الصغار، وصل الى أحد عشر لصاً مقابل شرطيين! احدهما كان صبياً بديناً حافي القدمين، بينما كان الآخر أعور!.

ولا شك ان هذا العدد من اللصوص أمام الشرطيين الذي كان وصفهم، صورة مُرّةٌ وساخرة، فقد وصل عدد السراق اكثر من رجال الشرطة، وهذا رمز بتفشي السرقة والسراق في هذه المدينة العريقة التي شهدت ثورات اجتماعية اصلاحية كبيرة في تاريخها القديم.!

الوصف الذي نقرؤه عن شوارع البصرة الفارغة، وأماكنها التي يلفها الظلام والخراب شمل المباني التي دمرت وأحرقت، "دخلنا الى سوق المغايز ولم يصدمنا الاحساس بدخولنا الى مقبرة لا تختلف كثيرا عن مقبرة اليهود".

الهرب من الحاضر يتطلب استرجاع الماضي، عندما كان الناس يتمتعون بخيرات البصرة؛ تمورها ونخيلها، كانت تلك المواسم يترقبها الجميع؛ الفقراء ليعملوا خلال الموسم في تجميع التمر، والاغنياء أصحاب "الجراديغ" التي تُعد فيها هذه التمور للحفظ والتصدير. "في تلك النهارات الجميلة كانت كل أسرة تتحلق حول احدى اشجار النخيل. وتظل رؤوس افرادها ترتفع ببطء مع ارتفاع أبصارهم المشدودة الى "الكاصوص" الشخص الذي يتسلق جذع النخلة بحزام خاص" الصاعد بقفزات متوالية وسريعة باتجاه موضع العذوق في اعلى النخلة. لكن هذا الماضي فيه أيضا ما يؤلم، فيوم علقت جثث ثلاثة أشخاص مشنوقين، وبقيت معلقة في ساحة أم البروم طيلة النهار، كان أحدهم يهوديا، هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتآمر على أمن البلد ومجموعة من المحتشدين في الساحة تردد: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"! يذكرنا بما مرت به الجالية اليهودية في البصرة، يوم هجروا واتهموا بهذه التهمة، التي يبدو أنها جاهزة لتلصق بأي فرد غير مرغوب فيه! أيام الفرهود التي شملت يهود العراق ومن بعدها تسفيرهم الى اسرائيل! هؤلاء اليهود الذين كان لهم دور مشهود في بناء هذا البلد، اكثر ممن يدعوون الان حبهم له، من خلال خطبهم وشعاراتهم الجوفاء! "ما زلت يا أبي تهيم بنعيم زلخة رئيس محكمة الاستئناف وروبين بطاطا نائب رئيس محكمة البداءة، والمحامين منشي اسحق وابراهيم شاؤول. وكم مرة أبديت اعجابك بداود سيزائي وعزرا يامين وصالح حسقيل وزعمت انهم أشهر الأدباء اليهود". حتى قبورهم، التي بقيت في العراق لم تسلم من حقد البعثيين، على اهالي البصرة الاصليين من اليهود فقد "شيدت على بعض قبورهم فرقة حزبية، ثم تحولت المقبرة فيما بعد الى ساحة وسوق لبيع المواشي والخيول والأبقار فوطأت أقدام الحيوانات مع أقدام رفاق المهلب بن أبي صفرة القبور لتذكرنا بحكاية الهولوكوست"!

اتخذت هذه المقبرة مكاناً لأغلب شباب البصرة، للجلوس بين هذه القبور، وتناول المشروبات واقامة جلساتهم الليلية، فبين هذه القبور يجد هؤلاء الشباب الأمان، يمضون اغلب لياليهم فيها، وهم يشكون أمور حياتهم التي لا يستطيعون ان يعبروا عنها في أي مكان آخر! هذا الماضي الذي افتقده البصريون والألفة التي ضاعت منهم: "في الليل تختلط قهقهات السكارى مع حواراتهم وتتداخل أصواتهم الصاخبة مع شتائمهم، بينما تدق أصوات البكاء والنحيب أجراس الثمالة والانتشاء بين قبور اليهود. وتتلاشى وحشة المقبرة وظلامها المخيف".

هذه وحدات تكوينية ودلالية للنص الروائي، بوصفها أدوات إحالة مرجعية، لما سيشهده السرد من أحداث قادمة، هيئت له تلك الوحدات لأحداث الرواية التي قادت الشخصيتين المحوريتين في الرواية؛ "الراوي" – الذي لم نعرف له اسماً- و"أوسم" الى شقة بشير لأجل قضاء سهرة في تلك الشقة التي كانت مرصودة منذ فترة من قبل الأجهزة الأمنية باعتبارها "وكرا" لمجموعة تخطط لقيادة انقلاب ضد السلطة! رغم تحذير احد عمال فرن الصمون واشارته لهم بعدم دخول الشقة، غير انهم لم يدركا ما الذي كان يرمي اليه هذا الشخص، فتم اعتقالهما وضربهما، ومن ثم نقلا الى مكان مجهول، كل ذلك يجري وهما وسط ذهول مرعب عن السبب الذي دعا رجال الأمن إلى التعامل معهم بهذه الصورة المخيفة: "احاط بنا الملثمون وانهالوا علينا بالضرب والركل والشتائم، بينما رحنا نتقلب بين عصيهم وأحذيتهم الثقيلة مثل سمكتين أخرجتا من النهر تواً". تنوعت الأماكن في الرواية، ورمزت لحالة الضياع التي عاشها الناس في البصرة، في سنوات الحصار والجوع والقمع، وأساليب التعذيب التي مورست عليهم، وكيف كانت تربط الايادي بالـ"گنارة" وما يسببه التأرجح بهذه الصورة من ألم حاد في الكتف. ثم يبدأ الجلادون جميعهم بتعذيب المعتقلين بالكيبلات، ثم حملات الاعدامات التي كانت تجري كل يوم ثلاثاء، وما يعيشه السجناء بشكل عام، وبالأخص الذين حكموا بالإعدام في المحاكم الخاصة، واستمرار التعذيب اليومي لهؤلاء حتى صعودهم الى المشانق وتنفيذ أحكام الموت بهم، ومن ثم وصف ما سيفعلون بجثث هؤلاء المشنوقين من قلع أعينهم وبعض الأعضاء من جثامينهم، للاستفادة منها في مستشفيات بغداد!

تعددت الأجواء والصور التي ملئت بها فضاءات الرواية، وتوزعت بين الأماكن الحميمة التي مثلت ماضي البصرة الجميل، ومع الناس الذين عاشوه، أيام المحبة والألفة فيما بينهم، وبين الأمكنة التي حملت الموت ورائحة دخان الحروب، والخوف وانتظار الأخبار التي تحمل للناس، أخبار موت أبنائهم في حروب النظام العبثية، وسنوات الحصار التي فُرض على الشعب العراقي، حتى بات هذا الشعب يأكل خبز الحصار الأسود، وانتشار الأمراض ووفيات الأطفال الذين لم تتوفر لهم اللقاحات، التي منعت من دخول العراق، بسبب الخوف من تحويلها الى مواد لصناعة الاسلحة الكيمياوية، التي كان صدام يتوعد العالم بها، وحالات القمع التي ازداد النظام في ممارستها ضد أبناء الشعب، واتهام أي شخص يتفوه بمجرد تساؤل بتهمة الخيانة والموت بعدها، كل ذلك كان مرسوماً في نهاية الشخصية المحورية في الرواية "أوسم"، هذه الشخصية مع شخصية "الراوي العليم" شكلتا القطبان اللذين تتمحور حولهما الخطاب السردي، والأداة التي استخدمها الروائي لتصویر الأحداث، حیث لعبتا دورا رئیسا ومهما في تجسی-;-د فكرة الكاتب، وكانتا عنصرين مهمين في تسی-;-ی-;-ر أحداث العمل، خصوصا نهاية أوسم الدرامية التي انتهت بانتحاره، بعد أن وصلت حالته النفسية الى عدم قدرته على استيعاب ما يحصل له من جراء التعذيب، الذي تحمله في اعتقاله مرتين بسبب اعتقال أخيه "أزيريه" واعتقاله في شقة بشير مع الآخرين الذين اتهموهم بتشكيل حزب سياسي لاسقاط النظام، ودخوله مستشفى الشماعية ومن ثم استغلاله من قبل ادارة المستشفى للاستجداء وأخذ ما يحصل عليه المرضى من هذه المهنة التي يشرف عليها بعض مسؤولي المستشفى، وحالة الهلع والخوف التي دفعته الى الانتحار. استطاع الروائي عبد الكريم العبيدي في هذه الرواية ان يعيد لنا؛ نحن الذين شهدنا وعشنا مثل هذه الحالات التي حصلت في سنوات حروب صدام وأعوام الحصار، وكذلك للأجيال التي سمعت ولم تعش تلك المرحلة السوداء، مشاهد قاسية من سنوات الجوع والخوف والموت، ما زالت آثارها ونتائجها تعيش معنا حتى هذه الأيام، بل حتى بعد سقوط النظام البعثي، فأنظمة الحكم التي جاءت بعد التغيير، لم يعد يهمها حياة العراقيين، انهم حيتان فساد يرون أن كراسي الحكم هي فرصة لسرقة خيرات البلد وتسخير مصالح مواطنيه لمصلحتهم الشخصية التي لا تشبع!

***

يوسف علوان

يسافر الشاعر العربي المصري أحمد عبد المعطي حجازي، في مجموعته الشعرية "كائنات مملكة الليل"، متنقلًا بين عالمين، عالم الغربة والانتماء، أو عالم الريف والمدينة، ويشدّد على براءة الريف وقسوة المدينة، موحيًا أن عالمه الاول/ عالم الريف، هو الاصل، ويتقاطع في هذا كلّه مع العديد من الشعراء الامريكيين الذين امتلأوا احساسًا بالغربة جراء الحضارة وتعقيداتها، فحنّوا إلى الغابة وبراءتها الاولى، وهو ما انعكس في تفضيل الغابة منزلًا دون القصور، كما ورد في قصيدة "المواكب" للكاتب الشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران.

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي من مواليد المنوفية في القطر العربي المصري عام 1935، حفظ القرآن الكريم في سنوات وعيه الاولى. حاز على شهادة في علم الاجتماع من جامعة السوربون، فضلًا عن شهادة الدراسات المعمّقة في الأدب العربي. ويعتبر واحدًا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين والمجددين أيضًا. تشيّع للقصيدة الحديثة/ التفعيلة، وحاول أن يذود عن حياضها رافعًا إياها قُبالة مهاجميها أمثال الكاتب والشاعر العربي المصري عباس محمود العقاد، ومما يُذكر في هذا السياق أنه كتب قصيدة وجّه فيها النقد للكاتب عباس محمود العقاد ردًا على مهاجمته هذا النوع من الشعر.

بلغ عدد مجموعات حجازي الشعرية سبع مجموعات وحملت أولى مجموعاته عنوانًا لافتًا ومعبرًا هو "مدينة بلا قلب" صدرت عام 1959، وفي العام ذاته صدرت مجموعته الثانية "أوراس". في عام 1965، صدرت مجموعته الثالثة بعنوان "لم يبق إلا الاعتراف"، أما مجموعته الرابعة فقد حملت عنوان "مرثية العمر الجميل" وصدرت عام 1972. بعدها أصدر حجازي مجموعة جديدة عنوانها "كائنات مملكة الليل"، صدرت عن "دار العودة" عام 1983، و"أشجار الإسمنت" عام 1989. تُرجم عدد من أعمال حجازي الشعرية إلى العديد من اللغات الاوروبية وحصل على عدد من الجوائز المهمة، ففاز بجائزة كفافيس اليونانية المصرية عام 1989، ونال جائزة الدولة التقديرية للآداب التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في العاصمة المصرية القاهرة، كما فاز عام 2013بجائزة النيل.

تبرز مجموعته "كائنات مملكة الليل" واحدة من المجموعات المميزة، للعديد من الاسباب، منها أن عالمه بدا أكثر وضوحًا وأشد ميلًا للقول الشعري الايحائي، في مقابل القول الشعري المؤدلج والمباشر، فظهر أنه كتبها بين الوعي واللاوعي، ليلتقي الوعيان في نقطة واحدة نعتقد أنها البؤرة الاعمق لكلّ فنّ يريد أن يكون ويود أن يؤثر أو يترك أثرًا لا يزول. واضح من معظم ما ضمّته هذه المجموعة أن حجازي كتبها أو كتب معظمها للحذر والاحتياط إبّان إقامته في أوروبا وتحديدًا في إحدى الجامعات الباريسية مدرّسًا للأدب العربي. أتوقف فيما يلي عند ثلاث محطات أو قصائد ضمن محاولة للتغلغل إلى أعماق المجموعة.

في قصيدته "سفر"، من هذه المجموعة، ونشرت أيضًا في مجلة "العربي" الكويتية، يبدع حجازي في وصف تنقله، بأسلوب فني أشبه ما يكون بالوسن الخفيف، في مولده، وكأنما هي/ القصيدة، ولدت بين الغيبوبة والحضور. يقسّم حجازي قصيدته إلى أربعة مقاطع، كلّ منها ينقل واحدًا من أبعاد تجربته ويوسّع في عمقها. يبتدئ المقطع الاول على النحو التالي. يقول:

بيننا يتغيّر لون الشجر

يتوغّل طير السماوات في بحر هدأته

عالقًا بالخيوط التي تتقاطع في خضرة السهل

أو تتوازى

ويتصل البحر بالليل

ينقص وجه القمر.

أما في المقطع الاخير فإنه يقول:

مدن للعبور فحسب

وأرصفة للصدى المعدني

وفي المدن الهامشية ما يوقظ الذكريات

بين القرى ومدافنها شبه

*

وبين القرى ومدافنها

ينفذ الضوء في ورق الشجرات ولا يتجسّد

أما نهاية القصيدة فتأتي على النحو المُعبّر التالي:

يا أيهذا الجمال الذي ظلّ محتميًا بالصبا

أيهذا الجمال الذي ظل محتميًا بالحجر

اكتفي بهذه الالماحات عن هذه القصيدة ومنها، وأحيل مَن يود من الاخوة القراء على قراءة متعمّقة لها، منشورة ضمن صفحات النت، ويمكن الاطلاع عليها بكبسة خفيفة على محرك البحث العالمي "غوغل". أنتقل بعد هذا إلى مقطع لافت في قصيدته "المراثي أو محطات الزمن الآخر". يقول تحت عنوان " أغنية":

أنت فاتنة

وأنا هرم

أتأمل في صفحة السين وجهي

مبتسمًا دامعًا

أنت فاتنة

تبحثين عن الحب،

لكنني

أقتفي أثرًا ضائعًا

كان لا بدّ أن نلتقي في صباي

إذن،

لعشقتك عشق الجنون

وكنّا رحلنا معًا.

أما المقطع الاخير الذي أود تقديمه من هذه المجموعة، هو عبارة عن قصيدة قصيرة حملت عنوان "بطالة". يقول فيها:

أنا، والثورة العربية

نبحث عن عمل في شوارع باريس،

نبحث عن غرفة

نتسكع في شمس ابريل

*

إن زمانًا مضى

وزمانًا يجيء

قلت للثورة العربية:

لا بد أن ترجعي أنت

أما أنا

فأنا هالك

تحت هذا الرذاذ الدفيء.

***

ناجي ظاهر

قراءة في رواية العشاء الأخير لكارل ماركس للروائي الجزائري فيصل الأحمر

يقدم الروائي الجزائري فيصل الأحمر نصا روائيا جديدا عن شخصية كارل ماركس، وذلك باستحضار الفترة الزمنية التي قضاها في الجزائر من 20 فيفري إلى 2 ماي 1882 قصد العلاج من مرض تنفسي كان يعاني منه. فقد نصحه الأطباء بزيارة شمال إفريقيا، ليقصد الجزائر مركزا على زيارة مدينة بسكرة باعتبارها بوابة الصحراء. والتي لم يزرها لأسباب صحية واكتفى بالمكوث في فندق فيكتوريا في الجزائر العاصمة.

ولا تدعي رواية العشاء الأخير لكارل ماركس الصادرة منذ أسابيع عن دار العين، مصر، تقديم تفاصيل تاريخية عن أيام ماركس في الجزائر، بقدر ما كان يهدف الروائي فيصل الأحمر إلى إثارة مجموعة من الأفكار والقضايا المرتبطة بتاريخ الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي،  وذلك عن طريق إخضاع الأحداث إلى برنامج سردي خاص، حاول من خلاله تأثيث الرواية مكانا وزمانا وشخصيات.

ويمكن أن نستحضر في هذا السياق ما قاله كيفن أندرسون في كتابه ماركس ومجتمعات الأطراف بخصوص قيمة ماركس، حيث ورد قوله: "إن ماركس، من دون شك، مفكر مثير للجدل، وإن عمق هذه السجالات التي يستطيع فكره إثارتها تدل على أنه لا يزال حيّا بيننا، وإن شبحه لا يزال يطارد معارضيه الذين كانوا قد أعلنوا موت فكره مرات عديدة."

ولعل الإشكالية التي تثيرها هذه الرواية ترتبط أساسا بمدى أهمية أفكار كارل ماركس بالنسبة إلى سياقنا العربي المعاصر،  وما الجديد الذي يقدمه لنا مفكر يظهر أن الزمن قد تجاوزه؟

يسافر  ماركس إلى الجزائر ويسكن  في بانسيون الأختين أليس، حيث كان يتقاسم هذا المكان  رفقة كل من فردريك بروان وهو عجوز أمريكي جاء باحثا عن العلاج وجورج كانطي وشقيقته بلوندين وهما في زيارة لابن بولوندين الهارب إلى الجزائر والضابط المتقاعد مكسيمليان شوز وهو إسباني يحمل الجنسية الفرنسية. وقد كانت روزالي هي المشرفة العامة على هذا الفندق، والتي تبين بعد ذلك أنها موظفة من قبل الإدارة الاستعمارية،  بينما تحضر الجزائرية "صافية" من باعتبارها من تقوم بكل أعمال النظافة والخدمة. والتي تؤخذ أوامرها مباشرة من روزالي.

أما "جيني" زوجة ماركس فتحضر هي أيضا أثناء  لحظات وحدته، حين كان يطالع كراسة تركت فيها رسائلها إليه بعدما دونتها أيام تواجدها في المستشفى إثر مرضها الخطير والذي أودى بحياتها، مما خلف عنده حزنا شديدا. فجيني ليست فقط زوجة بل هي رفيقته في مسيرته العلمية وأم ابنتيه لورا وجيني.

وتثير الرواية مجموعة من النقاشات حول قضايا كثيرة تخص العمال والفلاحين البؤساء في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي خاصة مع نهايات القرن التاسع عشر، وكذا الحديث عن أمور تاريخية مثل كمونة باريس، أو عن شخصيات تاريخية معروفة مثل ألكسيس دو طوكفيل ...الرجل الذي كان نصف عقله يقبل استعمار الجزائر لأن الاستعمار صار واقعا لا نقاش فيه.، فيما كان نصفه الآخر وريث الثقافة الإنسانية للنهضة والأنوار يرفض الفظاعات التي يرتكبها الجيش الفرنسي على هامش مهمته الأمنية ، التقتيل والاستيلاء على الأملاك...ص98

وجون فيري الذي "يبدو تلميذا وفيا لطوكفيل.. وإن كان أعرق وأعمق في تربية التناقضات .. كان يشعر بمسافة مزعجة تقف بينه وبين المغاربة. تعوّد على النظر في عيون الجرمان والفرنسيين والإنجليز. تحدث مرارا عنهم فيما ينظرون وإليه ويحركون رؤوسهم إيماء بالموافقة على كلامه. إلا أن عيون الجزائريين كانت تقول شيئا آخر عدا ما كانت عيون أشباههم في أماكن أخرى تقوله. شيئا تأسف لأنه شعر بعمق بأنه عاجز عن فهم هؤلاء المسحوقين المعذبين في الأرض." ص114. وكذا لامرتين وجوزيف برودون وغيرهم من الأسماء الأخرى.

ولا نلمح ماركس في هذه الرواية باعتباره مريضا يطلب الشفاء فحسب، بل إن فيصل الأحمر يبني عمله على مجموع الحوارات والسجالات التي تدور بين ماركس وشخصيات الرواية سواء الذين يقطنون في الفندق  أو القاضي فريني المشرف على راحته أو الطبيب الشاب محمد شوليي أو مكسيمليان شوز. أو خارج الفندق خاصة في نقاشه المحتدم الذي خاضه مع بعض الحاضرين في مأدبة العشاء في بيت الحاكم العام. أو الحوار مع الصحفي الشاب ترسيان باريار.

ومن هذه الحوارات ما دار بينه وبين  مكسيمليان شوز بعد وجبة العشاء ورفقة روزالي والسيدة إليس الصغرى، ليفتح هذا الضابط المتقاعد مساحة رحبة لممارسة جلد الذات، لدرجة أنها تمثل جلسة اعتراف أمام ماركس لما اقترفه من جرائم بشعة في حق أناس أبرياء تحت شعار نشر الحضارة.  يقول السيد شوز: "طوال حياتي لم أفعل شيئا عدا العمل في البحرية العسكرية، ظللت أذهب إلى جزر بعيدة مثل جزر الغويان وكايين وجزر الشيطان، أو إلى كاليدونيا الجديدة والمارتينيك وأبعد منها، كنا ننقل الأسرى والمؤونة . لم أقم طوال حياتي برحلة خيالية من الموتى والمتمردين. حياتي سلسلة طويلة من الخدمة في ميدان نسميه البحرية والمقصود هو الحربية. ونسميه زيارة الجزر والاستكشاف مع فرق العلماء، والواقع أنها كانت تنظيما لمجازر رهيبة، ثم كذب أبيض من خلال إطلاق أسماء علمائنا وأمرائنا الجبناء على نباتات ندعي أننا اكتشفناها فيما أهل البلد يعرفونها ويستعملون معظمها منذ الأزل. وكل من يتحرك ضد ما نفعله نعاقبه بأقسى أشكال التقتيل، حتى لا نخول لغيره من الغاضبين على الوضع نفسه فيتحرك هو أيضا. إنها حضارة القتل والخوف، لا مجد مع الرعب، الرعب ينتج الرعب والكره الكبير." ص 66

كما قلنا سابقا يكشف هذا القول على الكثير من مواطن التحيز والتزييف الذي مارسه الاستعمار الأوربي باسم الحضارة. وكذا الازدواجية التي تميز بها في التعامل مع  القضايا الكبرى مثل الديمقراطية والعدالة والمساواة ويكفي هنا استحضار شعار الثورة الفرنسية.

وفي نموذج آخر من حوارات ماركس ما دار بينه وبين الطبيب محمد شوليي الذي كان يزوره في الفندق، وهو كما تصفه الرواية شاب طويل وعريض أسمر بعيون خضراء ولحية كثة، شخص كأنه ماركس عربي شاب بعين سّلافية...ص 30

وقد أثار هذا الطبيب اهتمام ماركس، فهو ليس مجرد طبيب يحرص على متابعة مرضه، بل اكتشف فيه شابا رافضا للسياسة الاستعمارية ولعل ما يبين ذلك  ما جاء على لسانه وهو يتحدث عن الإدارة الاستعمارية وعلاقتها بالمعمرين  قائلا: " الإدارة جهاز سياسي تشريعي يقبع تحت تصرف رأس المال كما يقول... من تراه يقول هذا الكلام؟ .. آه تذكرت ..إنه مسيو ماركس.. ورأس المال يهيمن عليه أبناء الحرام. تعلم جيدا أن جل الكولون من المساجين والمعارضين السياسيين الذين أريد إبعادهم عن العاصمة، استجلبوا لعمران هذه الأرض أي لنهبها بلا مقابل. ماذا تنتظر من رجل فاقد للأمل كمحكوم عليه بالسجن المؤبد؟ هم لن يعودوا إلى فرنسا ولو جروهم بسلاسل.  وهو أغنى الناس في فرنسا، سواء فرنسا القارية أم فرنسا المستعمَرة. لهذا فهم يؤثرون في السياسة بقوة كبيرة. يشترون ذمما داخل البرلمان . لديهم أموال قارون.. وقارون في هذا المنظور رجل من فرنسيي الجزائر." ص 96

يستمع ماركس جيدا لما يقوله محمد شوليي ثم يستدرك عليه بنصيحة لا تخلو من تحليل، حيث يخبره: " رويدك بنيّ. الأمور معقدة جدا. نظريّتي أوربية محضة. يوجد خلف كل جريمة جهاز يحاربها أو يعمل على متابعتها. سيغتالونك ببساطة فيما أراه. لا فرنسيّ في الجزائر يتصرف كإنسان مسؤول عن القيم الإنسانية. ألاحظ سلوكهم. يبدون جميعا كحارس السجن أو كالجلاد، يكسبون مالا وفيرا  ولا يتمتعون به. كل ما يهمهم تتبع سرقات الأهالي من محاصيلهم وهي كميات صغيرة يعيلون بها أهلهم." ص 96، 97

من جهة أخرى يستحضر الروائي الرسائل التي كان يكتبها ماركس لصديقه المقرب إنجلز ولصهره لافارغ والتي كان يعبر فيها عن موقفه من بعض القضايا التي تخص العلاقة بين المستعمر الفرنسي والجزائريين حيث يعبر في إحدى مواضع الرسالة التي كتبها لإنجلز قائلا: " أعتقد أنني قلّما رأيت قسوة سلطها بشر على بشر مثل هذه التي أراها هنا، موجهة من الفرنسيين صوب الجزائريين. والأغرب في كل هذا هو أن الذي يفعل ذلك هم سادة مثقفون جدا، كلهم مثل جول فيري في نهاية الأمر رجال نظيفون جدا بأيد لا تتعفف عن أن تكون وسخة." ص 105

كما تتحدث الرواية عن تفاصيل يومية لحياة ماركس في فندق فيكتوريا، مركزة على أوقات تخص نومه وتناوله الطعام وجلسات الشرب والتجول داخل الفندق وكذا زيارته لحديقة التجارب رفقة القاضي فيرمي، ثم حضور مأدبة العشاء التي أقامها حاكم الجزائر ....

هذه المأدبة التي تعد أخر عشاء لماركس قبل مغادرته الجزائر، بعد أن خاب أمله في تحسن الطقس لصالحه، كانت هذه المأدبة حلبة للمصارعة المعرفية بين قطبين متعارضين، قطب يمثله ماركس لوحده وقطب يمثله الحاكم العام وبعض الحاضرين خاصة مستر هارسون رجل أعمال وأدب وأحد مساعدي القنصل الأمريكي في الجزائر المستعمرة، حيث أبان هذا النقاش الساخن على قدرة الروائي فيصل الأحمر الفائقة في سبك الحوار وثراءه الفكري والمعرفي. وقد مثل ماركس الصفة التي دائما ما تطلقها زوجته جيني، في قولها "حبيبي ملاكم في عالم الأفكار"

وتسعى الرواية إلى فضح ازدواجية الخطاب الاستعماري خاصة في الجزائر، حين كانت القوة هي الشعار الذي تدافع به فرنسا الاستعمارية عن مشروعها الاستدماري وقمعها لكل محاولات الدفاع عن الأراضي، ولهذا يختار الروائي لسان كارل ماركس للقيام بمهمة فضح هذه الإزدواجية، خاصة في الحوار الذي دار بينه وبين الصحفي الفرنسي الشاب ترستان باريار الذي استفز ماركس بأسئلته الغير بريئة.

يقول باريارفي موضع من حواره مع ماركس: " فهمت. أنت ترى أن البناء الكولونيالي ليس صالحا. ولكن كل المعلقين يرون في الكولونياليّة خيرا لا ريب فيه، ويصنفون الكمونة وأعمال الشغب كحركات بسيطة لا تشكل أي خطر على مسار التطور الرهيب لعالمنا الحديث . ألا تعتقد أنك تريد إقامة حفل عزاء لعالم بائس في دماغك وسط أناس يحتفلون بميلاد عالم جديد يتفاءلون به خيرا في أدمغتهم التي هي أكثر عددا بكثير من دماغك مع احترام المقامات وعدم إهمال الإحصاءات ؟" ص152

والملاحظ أن رواية فيصل الأحمر تجمع بين التاريخي والمتخيل، إلا أنها لا تغفل الواقع فهي ترسل  بعض الإشارات المرتبطة بالتاريخ والذاكرة والتي لم تتخفف العلاقة المتوترة بين الأنا والأخر وومدى ازدواجية الخطاب وعدم الاعتراف.

وتتطلب هذه الرواية معرفة خاصة من أجل محاورتها، كونها تختزن كثيرا من القضايا الفكرية التي تعيد ترتيب مواقف ماركس، الذي بدوره يعيد النظر في مواقفه الكثيرة، ليسقط عنه من خلال حواراته العديدة  تهمة: المفكر الأوربي المتمركز والداعم للكولونيالية

ويجب على القارئ أن يملك قدرة خاصة أيضا تمكنه من فك التشابك بين الحقائق التاريخية وبين مواضع الخييل. وأن يتوصل إلى فكرة مفادها أن الروائي قد أعمل خياله من أجل خلق مساحة رحبة مهمتها هي التعبير عن قضايا الراهن وعلاقتها بقضايا أخرى تاريخية لم يحسم القول فيها بعد.

***

د.طارق بوحالة - الجزائر

الشرق الشرق

قد يبدو لقارىء "الأقلف" أن مؤلفها البحريني عبدالله خليفة أراد ترسيخ هذه الدمغة الإجتماعية المتخلفة على خلق الله اللقطاء باعتبارهم بشرا من الدرجة العاشرة إلا أن الأمر ليس كذلك بالضبط فقد اراد الروائي إثبات العكس.  فهذا يحيى الأقلف الذي تحمل الرواية صفته الأجتماعية لا إسمه يغدو في نهايتها حاملا هموم الناس يطارده تأنيب الضمير ويحملُ هموم الأمة على كتفيه.

ماهي جريمة هذا اللقيط الأقلف يحيى؟ ليس هناك اكثر  من ان والده القادم من "غابات المحبة" غامر بحياته متجها نحو الصحراء ليلقح نخيل الشرق.

لكن مصيبة يحيى أنه بقي وحيدا في هذا العالم الصامت مع جدته الخرساء! لماذا هذه المصادفة؟ أهي صدفة ارادها الروائي ان تكون تحديا للشرق والأصالة والأسلام وبالتالي بلاده البحرين مكان الحدث الروائي؟

هل هي صدفة ان يخرج يحيى "كالنتوء" من بيئة هلامية، رمادية، غامضة مليئة بالقاذورات والحرمان والعدم وأن يكون كل هذا العالم المنسي المظلوم تحديا خطيرا للغرب الأستعماري وثقافته التبشيرية رغم تنصره وحمله الصليب؟

وهل هي صدفة أخرى أن يقف على طريق حياته الأليغوري لقيط آخر لا نعلم إن كان هو ايضا أغلف ام لا، ولكن لم يعد الأمر في هذه المرة يعني شيئا في السرد الروائي إذ إن هناك موضوعات أهم منها.

هل هو تأكيد على الأليغوريا الروائية والمغزى الفني لهذا العمل الذي تنبأ باصطدام الشرق بالغرب ام أنها رفض للمفاهيم الأجتماعية البالية والراسخة في اذهان الناس وتقسيم البشر إلى أصناف وانواع ودرجات إجتماعية؟

الجواب بالتأكيد: كِلا الأمرين فالروائي يضيف إلى هذين الهمّين هموما ومعاناة اخرى واراد ان يكرس روايته لها.

يحيى نتاج بيئته الصماء، كوخ ابكم يضم جدته الخرساء لكنه في حقيقة الأمر ليس اخرس حقيقيا بل مخرسا إن  جاز التعبير، طفل  مهمل لم يحصل على مستلزمات العيش والحنان الكامل.3702 عبد الله خليفة

فالقارىء لا يسمع يحيى يتكلم مع الآخرين إلا بعد لقائه مع زميله في "النغولة" إسحاق حيث يبدأ التعبير عما في خلجات النفس البشرية لدى هذين الكائنين البشريين ليتقاسما مشاعرهما ومعاناتهما من الأضطهاد والفقر والحرمان.

إسحاق هو اللقيط الآخر، بطل الرواية الرئيس أو بالأحرى منافس يحيى في البطولة، بل إنه ينافسه في كل شيء بدءا من المعاناة الروحية والفقر والحرمان وانتهاءا بالبطولات والمغامرات والثبات والتحدي بغض النظر عن الأساليب والأهداف.

يشكل إسحاق التحدي الثاني الذي يقدمه الروائي في هذه الرواية، وهو النتاج الثاني الأكثر إيغالا في معرفة قسوة المكان ووحشيته. إنها في حقيقة الأمر جريمة يقترفها البشر يوميا، يحاول الروائي من خلالها وبزمكانيته الخاصة به أن يميط اللثام عن رياء المجتمع.  ولابد من الإشارة بأنه لا يمكن الحديث هنا عن هذا الأغلف بدون عينه الثانية، إسحاق مرآته الحقيقية، التي يتمثل فيها التحدي الأكبر لعامة الناس "الأسوياء" والإحتلال البريطاني.

يقول هذا اللقيط إسحاق محدّثا زميله يحيى عن نفسه "وحين أنهارُ من التعب، ويسجنني المخزن في عفونته وظلمته وأغدو كيسا من أكياسه، تحرقني مشاعر غربة عنيفة وأصرخ: لماذا.. لماذا.. لماذا  يعاملني أهلي بهذه القسوة ... رحت أحدق في جلدي الغريب.. لم أكن إبنهم. وجدني الأب عند باب المسجد.. صرت إبن حرام!"  أنظر "الأقلف" ص 20.

إذن هما لقيطان يواجهان مقولة "النغل نغل"، التي يرددها الناس في كل مرة يستاؤون فيها منهما  ص21 و هو التحذير الأكبر، الذي اراد  عبد الله خليفه أن يقدمه للمجتمع المحلي والاحتلال البريطاني.

أليغوريا الشرق والغرب

وإذا كان التلاقح غير المشرعن بين الغرب والشرق قد ولد يحيى بلا اعتراف أبعد "غرلته عن موس المسلمين" ص26 لترميه في عزلة على هامش المجتمع، تطارده زرقة عينيه دليل الهجينية المريب، فإن اللقاء الثاني بين هذين العالمين يتم في مستشفى الإرساليات حيث يلتقي بالممرضة ميري، التي تصبح حبيبته وشريكة حياته فيما بعد. وهو لقاء بين شخصين غير متكافئين، فالأول مريض، فقير، معدم، مهمّش، لقيط  ومحروم من كل الحقوق الإنسانية، أما الثانية فهي ممرضة نصرانية غربية، تعمل في مستشفى الإرسالية الأميركية بعقد عمل يصون كامل حقوقها ويعطيها إمتيازات معروفة. يقول يحيى لميري "أبي ليس منهم. لوني وزرقة عينيّ تفضح إنتمائي إليكم. ثمة بحار أو طيار بذر في أمي بذرة ورحل ... أنا لا انتمي إلى هذه المقابر الكالحة ... أنا لا انتمي إلى هذا الخوص الكالح ...". ص85

وهي لغة تمثل بلا شك صوت الكاتب وليس الشخصية الروائية مما ابعدها كثيرا عن الطابع البوليفوني بسبب البون الشاسع بينها ومستواها الفكري والإجتماعي وهذا ما يؤكد أليغوريتها.

حتى التوسل بان على لسان رفيقه في الحرمان إسحاق "بجاه النبي مصطفى وسيدنا عيسى المسيح". ص30

 هل هي اليغوريا علاقة الشرق بالغرب؟ وقد يكون كل هذا الأمر ليس بالصدفة بل من وحي الكاتب واستلهاماته بحيث يبدو جليا في طريقة تفكير ميري وكأنها صياد يطارد فريسته بينما يقوم القس بتقديم الإرشادات لها.

تتميز هذه العلاقة الأليغورية أيضا بإستعلاء الطرف الأول المنقذ ميري على الجانب الآخر الذي تتجسد فيه مظاهر العصور الوسطى. تفكر ميري قائلة عن يحيى :" وقد تراه ذات يوم يجلد نفسه في الشوارع أو يجر إمرأته المحجبة بحبل!". ص 39

فيقع يحيى فريسة بين مخالب التبشير بسبب حاجته للمساعدات الإنسانية في المستشفى ويبدأ بقراءة الإنجيل و"يندهشُ مدرّسُه اللبناني من التبتل الدراسي لهذا الشاب، ومداومته وحفظه السريع وأكله للمعرفة أكلاً، وتجاوزه لأقرانه السئمين من الكتب والحروف، وبمطالبه المعرفية المتزايدة، وضجره من البطء". ص41

 وهل هناك أسهل من استدراج هذا الأقلف المعاني من التهميش والحرمان والرفض حتى من عاهرة تبيع الهوى!  "أنت نجس أيها الكافر غير المختن!". ص69 إلا أن تنصّر يحيى يحمل أيضا أليغوريا شائعة في الشرق "الصبي الأخرس يريد أن يكون موظفا كبيرا، أو شرطيا قاسيا" ص 108، بعد أن يقرأ الإنجيل ُتمحى صفة الخرس عنه "إن الصبي الذي كان أخرس يغدو معلما". ص 70

يدفع تطور الأحداث اللاحقة يحيى إلى إتخاذ موقفٍ آخر مغاير لحالته المستكينة وهو يعاني من الضغط والحرمان والفقر، فإن ظهور" شاحنات إنجليزية مليئة بالجنود الذين بدوا هادئين كالصخور وخوذاتهم وألبستهم البنية وبنادقهم المنتهية بحراب لامعة، بدت مخيفة، لكن الجمع المغبر الصارخ الكثيف سار كأنه يعرف بعض هؤلاء الضباط أيضا، كأنه التصق بهم في حفلات أعياد الميلاد البهيجة....". ص 126

هذه المجابهة العسكرية بين الغرب والشرق حسمت الأمر بالنسبة ليحيى حيث يلتحق بالشعب ويساعد البحار المصوب برصاص الإنجليز مذكرا بموقف جان فلجان بطل "البؤساء".

يُعتقل يحيى ويتم التحقيق معه من قبل ضابط إنجليزي. وعندها تبدأ حالة البوح عن المشاعر والمناجاتية والتعلق بعالم الصبا المتجسد برفيق العمر والشباب ودروبه فيما بعد إسحاق. أنظر الفصل 35 المكرس لعلاقته بإسحاق، الذي يودع في السجن.

لكن هناك غموضا حول تطور يحيى وتوظيفه محررا أو مترجما في صحيفة الإحتلال بعد أن أعتقل من قبل الإنجليز.

وهذا ما يلاحظه القارىء في الفصلين 36 و37 حيث تتميز اللغة بالغموض وكثرة الإنتقالات بين الوعي واللاوعي والحقيقة والخيال والحلم وتطور الأحداث.

ومقابل تجذر الصلة الروحية بينه والرمز الشعبي إسحاق، الذي أصبح له مريدون وحماية شعبية تنتهي علاقته  بميري حيث يقول يحيى في هذه المرة: " ليس لهم علاقة بالإله الذي ُصلب، إنهم حشد من الذئاب الضارية القادمة من وراء الصكوك والأسهم. ص 149

أي أن كل ماكان ينظر إليه نظرة سوداوية وإنتقادية في عالمه القديم أصبح اليوم طعمه أكثر حلاوة وأقرب إلى النفس.

ومن خلال العلاقات الهرونوتوبية تتجسد ثيمة اصطدام الحضارات والأديان والمصالح الإستعمارية وبالذات الشرق والغرب، الإسلام والنصرانية.

العلامة الأولى لهذه المواجهة الخطيرة يعبر عنها السائق الحاج سلمان بقوله موجها كلامه إلى يحيى: "كيف تغير دينك؟ هذا حرام". ص 75

 بينما يُجابَه يحيى برد فعل أعنف من قبل إسحاق نفسه، الذي يتهكم به قائلا:" أنت أغلف وهذه السكين ستحررك...". ص 105

إلا أن هذه المواجهة تأخذ فيما بعد طابعا آخر يبدأ برد فعل يحيى نفسه الذي يضع يده على القضية ويكتشفها بنفسه وينظر إلى هؤلاء القادمين من الغابات الغربية نظرة شكوكية رغم أنه لا يزال على ديانتهم ومنتميا إليهم ويحمل الصليب في رقبته. " كيف نزعم أننا مخلوقات الإله ثم نتقاتل على بقعة زيت وقطعة قماش ...". ص 128

ويكتشف فيما بعد حقيقة القس الأب تومبسون " أهذا هو ذاته الراعي الطيب الذي ينتزع أورام الأجساد والأرواح  والقطيع الهائج البائس إلى مملكة الرب؟ اين ذهبت ترانيم الأحد وصلوات الأعالي؟ بدا له انه خرف أو أصيب بلوثة مفاجئة .... ". ص 132

وفي مكان آخر من الرواية يشير الكاتب إلى هذه الأليغوريا ما بين النخيل والغابات على أنها علاقة الشرق بالغرب وأن إبنة يحيى عائشة تجسيد لهذا التلاقح تجمع هذين الطرفين المتضادين والمتصارعين منذ الأزل. ص 159

لكن هذه الطفلة الهجين عائشه لم تشفع  لا لأبويها ولا للعالم كله كي تحل العقدة ويعم الوئام بين البشر، بل تغدو سلاحا بيد الغرب ضد الشرق حيث يهدده الضابط الإنجليزي قائلا ليحيى "سوف تدلنا على مخبأ إسحاق". ص 16

وبهذا يضع الروائي بطله اللقيط البحريني، الهجين، المتنصر أمام اختبار ُيعد من أهم عناصر الرواية المعاصرة ليختار بين الانتماء إلى مكانه السفلي وبيئته بكل ما فيها من حرمان وقذارات وسفالات والتضحية بحياته وكل إمتيازاته مقابل إنقاذ حياة إسحاق وعدم الغدر به.

يفضل يحيى الخيار الأول فتفصل بينه وبين حياته رصاصة يطلقها الضابط الإنجليزي في راسه ليودع إبنته التي قد تستمر على دربه الأليغوري.

لم تكن عملية تنصر سهلة، بل مرت من خلال عدة مظاهر يتجسد فيها التخلف وإحتقار الإنسان مثل مقابر المسلمين الوسخة. "كانت مقبرة المسلمين الموحشة لا تستقبل سوى الفقراء والجنازات الكئيبة المتقشفة ... اما مقبرتا اليهود والمسيحيين .... فكانت جنازاتها مختلفة، والبشر الحزانى يبدون بجمال غريب: بدلات سوداء وباقات زهور ونعوش خشبية جميلة فيظن ان القوم ذاهبون الى فرح صامت". 

ويقول في مكان آخر من الرواية : "وفي النهار تتفجر الصيحات من مآذن المساجد، ليندفع كورس جماعي يزلزل الفجر والنائمين، وتندفع بعده أصوات الحمير والكلاب والديوك والبشر، ويخرج أناس يقطعون اجسادهم ويضربونها..."أنظر ص 24، وص 46 وإنتقاده للختان وحالة المرض بسببه أنظر صفحات 51، 53

كمثال على ذلك يمكن ايضا الإشارة هنا إلى قصة العلاقة الخفية بين المعلم النصراني التبشيري نصيف البستاني والمرأة المحجبة من عائلة العنود التي ترتدي الملابس السوداء من راسها إلى أخمص قدميها. ص 87

هرونوتوب الرواية

يبدو المكان أبعد عن التوثيق، حاول الكاتب التمويه من خلال الإبتعاد قدر الإمكان عن ذكر أسماء الشوارع والمدن والمحلات وكأننا نعيش في مدينة ما في الشرق. لكنه يستعين بالهرونوتوب او الزمكانية للإشارة إلى مكان الحدث. فهنا كل شيء معلوم ومعروف بالنسبة للقارىء الواعي العارف  والمطلع على تاريخ البحرين  المعاصر.

نقرأ في الرواية: "وجد نفسه... ملحق بكوخ، وبأرض خلاء، وبسماء عالية ... الأرض الخلاء الواسعة التي تلي الأكواخ، تبدو رمادية كالحة، تنتشر فيها الحفر الكبيرة التي تتخذ أمكنة لقضاء الحاجة، وهي تتحول إلى مستنقعات سبخة عندما ينهمر المطر. وتقع فيها مزابل واراضي رحبة مليئة برمل ناعم... وفي شرق هذه الأرض تقع أكواخ تمتليء بعبيد سابقين...". ص 5

اما مدينة الأحداث فإن الروائي يشير إليها بدون ذكر إسمها من خلال وجود شركة النفط ولكن ماهي هذه البلدة مدينة النفط؟

أول مرة يذكر فيها الروائي شركة النفط في صفحة 44  "لكنك تعرفين أننا أخوات جئنا لمهمة مقدسة، وليس لإقامة صداقات مع مهندسي وموظفي شركة النفط". ص44

ويقول ايضا عن مكان الحدث الروائي بطريقة غير مباشرة "إن البلدة تغرق في النوم والظلام ... ذهبتا إلى مدينة النفط ذات البيوت الأوروبية ...". ص46

ومن الملاحظ أن الكاتب يبدأ بوصف المكان ثم يقدم شخصياته على أنها نتاج له: "رأينا في البستان المهجور مجموعة من الصبية. يدخنون ويسطون على الأعشاش، ويمارسون العادة السرية في الزوايا ... أنظر هذا هو عالمك ... مشيا ووصلا السوق. كانت هناك حشود من البشر المصطفة على جوانب الشوارع، تحدق في مسيرات دامية. ... رجال أشباه عراة يضربون أجسادهم بالسيوف...". ص 68

لكن الروائي يذكر إسم مدينة المنامه أول مرة في صفحة 76 حيث يقول : "قالت إن اسمها سارة، وهي يهودية! وابوها القادم من العراق أسس له تجارة مزدهرة في سوق المنامة". ص 76

هناك بعض الغموض في مكان الحدث الروائي وزمانه في بعض الحالات ولا سيما في بداية السرد، لكن القارىء يلاحظ إشارة الروائي في نهاية الرواية إلى جسر يربط مدينة بأخرى "الشاحنة تعبر الجسر لتصل الى المدينة الأخرى..." ص 167

الوصف الخارجي للشخصيات

تظهر ملامح يحيى على دفعات: "كان شكله المميز، ولونه البرونزيين وعيناه الجميلتان، مدعاة لتحسسات لاذعة غامضة لجلده، وكانت ايديهم تتسلل وراءه ..." ويقول في مكان آخر عن نفسه "ابي ليس منهم. لوني وزرقة عيوني تفضح إنتمائي إليكم". ص 84

وتكاد الاوصاف الخارجية لملامح يحيى تقل إن لم نقل تختفي بعد هذه الصفحة. ويمكن القول بشكل عام إن الأوصاف الخارجية للأبطال تبدو غير تفصيلية وغالبا ما تشير إلى الحالة وتكرس كرمز لها.

الناستولجيا

يمكن اعتبار وفاة جدة يحيى بداية حالة الناستولجيا حيث طقوس الفاتحة والدِلال و"صلاة، يقف فيها كما يقفون" ص 121 "ويشتاق إلى أهل حيه، ذهب إلى أكواخهم ودكاكينهم ومجالسهم". ص 122

تتوج ناستولجيا يحيى بحنينه إلى رفيق دربه إسحاق رغم شكوكه بأنه هو الذي حرق الكوخ وجدّتَه "هل يقوم بذلك حقا". ص 122

 لكنه "يود لو يكون قريبا من إسحاق" ويبقى مع ذلك متعلقا به لأنه أصبح رمز المقاومة. ص 125

وتتجسد ثيمة الناستولجيا ايضا بالبحث الدائم والدؤوب عن ملاذ آمن روحيا متمثل بإسحاق الرمز وذكريات الطفولة "سيذهب إلى إسحاق. سيسأله أن ينقذه من هذه الكتابة والرتابة... يندفع إلى الأزقة والمقاهي ويسأل عنه". ص 146

مقابل تعمق ارتباط يحيى بعالمه القديم، نجد أن علاقته مع الجانب الآخر المتمثل بالكنيسة وزوجته ميري تتحول إلى منحى آخر يصل إلى القطيعة والعداء والتضاد في ضل اصطدام القوة الإستعمارية بالشعب.

نقرأ في الرواية: " والآن هو في دورة المياه الفائضة، ... ويرى وجه ميري المتعب يسال عن الأدوية ويصرخ في الشراشف القذرة، وهما يتعاركان فوق السطح بين الغسيل المتطاير والريح وضجة الطائرات العسكرية المدوية الهابطة". ص 146

هل هي نهاية غير سعيدة لعلاقة حميمية بين الشرق والغرب؟ وهل يا ترى ستنتقم الطفلة الهجين عائشة لجريمة قتل والدها يحيى؟ أم أنها ستجرب رأب الصدع بين الشرق والغرب ودمجهما.

قد يفاجؤنا الروائي عبدالله خليفة بالإجابة على هذا السؤال الصعب في رواية جديدة تتناول جيل هذه البنت اليتيمة ومستقبلها في عالم أصبح قرية صغيرة في ظل العولمة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

كان ظاهراً منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأ الكتّاب والمثقفون العرب يتعرفون على الأدب العالمي، وترجمة أعمال أدبية مهمة من لغات أخرى إلى اللغة العربية، تأثراً واضح المعالم في الكتابات الأولى للأدباء العرب. وكان تأثير هذه الروايات العالمية واسع النطاق، إذ أحدث تغييرات كبيرة في الرواية العربية وتطورها بشكل كبير، وكانت من بين التأثيرات الرئيسية التي أحدثتها الرواية العالمية على الأدب العربي والرواية العربية، تقنيات الكتابة والسرد، إذ أثرت الرواية العالمية على التقنيات السردية والأساليب الكتابية في الأدب العربي،  وقدمت أساليباً جديدة في السرد وبناء القصة وتطور الشخصيات، كما كان انتقال المواضيع أيضاً له دوره هوالآخر في التأثر، حيث عرّفت الرواية العالمية المثقفين العرب على مواضيع جديدة ومختلفة عن تلك التي كانوا يعتادون عليها في الأدب التقليدي من كتب التراث، مثل التحولات الاجتماعية والتغيرات النفسية والفكرية التي تتعلق بالوجود وماهيته.

لقد تأثرت الرواية العربية بالأدب العالمي، مما أدى إلى توسع مجال المواضيع في الكتابة العربية، وتعامل الكتّاب العرب مع مواضيع مختلفة، واستكشفوا قضايا جديدة بفضل التأثيرات المتنوعة، منها الأحداث والصراعات والاكتشافات المتسارعة وانتشار الايدلوجيات المتوزعة بين اليسار واليمين والحداثة وغيرها. كما كان توسع الآفاق الثقافية تأثيره هو الآخر، إذ ساهمت الترجمة وانتشارها في توسيع آفاق المثقفين العرب وزيادة تعددية المدارس الأدبية.

ومع انتشار الرواية العالمية، كان لتنوع الأصوات الأدبية فعله الكبير، حيث أصبح هناك تنوع كبير في الأصوات الأدبية العربية، وظهور مؤلفين جدد يمثلون تيارات فكرية ووجهات نظر مختلفة، بفعل الاطلاع والتلاقح الفكري أو ربما التقليد من البعض لينحو بالأسلوب الغربي الجديد الذي أطلعوا عليه، وسعي الكاتب العربي لأكتشاف أفكار جديدة يمكن أن تساعده في كتابة منهج جديد، أو سعيه نحو أتخاذ أسلوب يميزه عن غيره من مجايليه من الكتّاب.

لقدعرّفت الرواية العالمية المثقفين العرب على التراث الأدبي العالمي وأدخلتهم إلى عالم الأدب العالمي بشكل واسع، وذلك من خلال الانفتاح على التراث العالمي وتفاعله معه والأخذ بالعديد من سلوك الكتابة الفكرية والفلسفية والاجتماعية والنفسية.

ومن نافلة القول؛ إن التأثير كان شاملاً وأحدث تحولات هامة في الأدب العربي، حيث أثرت على المحتوى والشكل والأسلوب، وأدخلت تنوعاً جديداً وإلهاماً للكتّاب والقراء على حد سواء، وعليه فإن تأثير الرواية العالمية على الرواية العربية، كان ظاهرًا وملموسًا على مر العقود السابقة، وتتعدد هذه التأثيرات وتتنوع حسب الحقبة الزمنية والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مر بها العالم العربي.

إن تبادل الثقافات بين الشعوب كان عمقه وتأثيره بلا شك،  فعندما يقرأ الكتّاب العرب روايات من جنسيات وثقافات مختلفة، يتم تبادل الخبرات والتجارب الإنسانية، وبالتالي فأن هذا التبادل يساهم في التعرف على الآخر، وفهم تفاصيل حياتهم وتقاليدهم، مما ينعكس على الرواية العربية ويثريها، والعكس صحيح، لذا فإن الرواية العالمية عملت على تعزيز التواصل الثقافي بين الشعوب وساهمت في تبادل الخبرات والمعرفة، ليس من خلال ترجمة الروايات العالمية إلى اللغة العربية فحسب، إنما كما اشرنا  الى التفاعل بين الشخصية العربية وأعني الكاتب والأديب العربي مع روح النص الغربي، مما جعل الأديب العربي أن يتمكن للوصول الى القراء العرب وآطلاعه على ثقافات وعادات وقيم أخرى.

كما شكل التطور العالمي والثورة الاتصالية أهمية بالغة، إذ أصبحت الرواية العالمية والأدب العالمي بشكل عام، أكثر توافراً للقراء العرب، حيث يمكن للقاريء الآن الوصول إلى الأعمال الأدبية العالمية بسهولة عبر الترجمة والانترنت في الوقت الراهن. مما يسهم هذا في إثراء المشهد الأدبي العربي، فعندما يتعامل الكتّاب العرب مع الرواية العالمية، يمكنهم استيعاب أساليب أدبية وهياكل قصصية جديدة ومستجدة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة التنوع والأبتكار في الرواية العربية، ويمكن للكتّاب أن يطوّروا أساليبهم الكتابية من خلال الاستفادة من الخبرات الأدبية العالمية.

لقد شهدت الرواية العربية بعد الحرب العالمية الثانية تأثراً أكبر، وذلك لزيادة الترجمة من الأعمال الأدبية العالمية، مما أثر في تطور المشهد الأدبي في المنطقة العربية، وبدأ الكتّاب العرب في نهج أسلوب قصصي وروائي يقترب كثيراً من ازمات الحروب وانعكاساتها الاجتماعية السلبية، ومدى تأثيرها على الفرد مع الأخذ بتعزيز ثيمة النص بالجانب الرومانسي، فكانت اصدارات عديدة غزت الاسواق العربية ومكتباتها.

فكانت هذه الاحداث؛ مصدر إلهام للكتاب العرب والروائيين، مما شجعهم ذلك على التعبير عن آرائهم وقصصهم بطرق جديدة ومبتكرة، والذي يعتبرجزء من تحفيز الابداع والتنظير بتعدد اساليب الكتابة لدى الكثيرين من الكتّاب العرب.

كما استطاعت الرواية العالمية معالجة قضايا حديثة ومعاصرة تهم الإنسان المعاصر بشكل عام، وتدفع الكتّاب العرب للتعامل مع هذه القضايا وتناولها بأسلوب جديد وحديث، بما يناسب الواقع البيئي والاجتماعي والسايسي العربي.

فضلاً عن ذلك،  فقد شجعت الكتّاب العرب على تحدي القوالب التقليدية وتجاوز الحدود الأدبية المعتادة، مما يمكن أن يؤدي إلى تحفيز وإلهام الكاتب العربي بظهور تجارب أدبية مبتكرة وجديدة في الرواية العربية، أضافة الى اسهامها في تحسين مستوى الترجمة، إذ أصبحت الترجمة لهذه الروايات ذات أهمية كبيرة، من خلال مراعاة المستوى العالي في دقة الترجمة الادبية.

ومن الجدير بالملاحظة، أن هذا التأثير ليس بالضرورة دائمًا كان إيجابيًا، فهناك مخاطر لإحتمال تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي بطرق تؤثر في تراثه وموارد تأريخه الانساني، وهوية الأدب العربي التقليدية، من خلال التلاعب بالنصوص التراثية القديمة وتأويلها الى النص الروائي الغربي. لذلك يعتمد الأمر على الكاتب في كيفية استيعاب هذه التأثيرات والاحتفاظ بالأصالة الثقافية والأدبية العربية في الوقت نفسه.

ومما لا شك فيه، فأن الرواية العربية اليوم لها موطيء قدم في التنافس الابداعي مع الروايات العالمية على مستوى الانتشار وجذب القراء، هذا التنافس يحفّز الكتّاب العرب على تطوير أعمالهم لتكون في مستوى المعايير العالمية، وقد احتلت مساحة واسعة بين الترشيح الى الجوائزالعربية والعالمية كجائزتي البوكر ونوبل، وقد تصدر منها الكثير بالفوز وجعلت لها موضع قدم عند ادباء العالم وباهتمام شعوبها وفضولهم بالقراءة والاطلاع عليها.

مع ذلك، ينبغي أن نلاحظ أن تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي قد يختلف من كاتب إلى آخر، وقد يكون هذا التأثير إيجابيًا أو سلبيًا بحسب التعامل الفردي للكتّاب مع هذه التجارب الأدبية العالمية، كما ينبغي الأشارة أن تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي لم يكن دائمًا إيجابيًا، فقد تسببت بعض التأثيرات في فقدان بعض العناصر الثقافية التقليدية والتراثية في الرواية العربية.

***

د. عصام البرام

للكاتبة صباح بشير

منذ أن فتحت شهرزاد مخيلة الرجل على السرد، أصبحت المرأة مصدر إلهامه في التعبير عن تصوراته للحياة، فقدّم المرأة كذات فردية تعيش في اطار الواقع الاجتماعي بكل سلبياته وإيجابياته، وتمكّن من اقناع القارئ بصدق الحياة المتخيلة في ابداعاته الروائية والقصصية التي تعيش في ظلّها المرأة، وشكّل بذلك الصورة النمطية للمرأة بأنها تابعة للرجل.

كان لا بد لتلك الصورة النمطية أن تتغير، وبفضل فتح آفاق التعليم، والتطور العلمي والتكنولوجي، ساهمت المرأة الكاتبة في تغيير الصورة فلم تعد المرأة تابعة بل نداً للرجل ونصف المجتمع، ولها حقوق كالرجل تماماً، تساهم في حركة المجتمع كالرجل، وأن حرية المجتمع وتقدّمه تبدأ من تحرر المرأة من سطوة الرجل. فخاضت المرأة الكتابة منذ القرن التاسع عشر للميلاد مؤكدة على ذاتها ووجودها في المشهد الأدبي تماماً كالرجل، ومدافعة عن حقوقها أمام هيمنة الذكورة. ورغم مرورها في حالات المد والانحسار نتيجة عوامل اجتماعية، إلا أنها كانت متواصلة، ولم تنقطع عبر كل السنوات إلى أن وصلت في القرن الحادي والعشرين إلى طفرة روائية نسوية.

تشهد الساحة الأدبية العربية ومن بينها الفلسطينية ظاهرة الرواية النسوية، وزخم روائي نسوي بدأ يفرض نفسه ويتميز في الساحة الأدبية وصل إلى حد المنافسة على الجوائز العالمية، ولكن الغالبية ما زلن أسيرات الذات، وأسيرات الرؤية الشمولية لقضايا المرأة، في منحي التحرر من سطوة الذكورة، وتعرية تشوهات الرجل العربي وفصاميته مع المرأة، ومن قيود المجتمع والانطلاق نحو آفاق أرحب وأوسع. وثمة من قاربن بين الرؤيتين بفتح آفاق وعوالم أخرى مستمدة من الواقع الاجتماعي، فخضن تجارب الكتابة عن الثورات والإرهاب والاستبداد السياسي، وتأثير ذلك على المرأة وعلى مصير الأوطان.

وفي سياق الدفاع عن الذات أمام سطوة المجتمع وهيمنة الرجل، وبلغة سردية متماسكة تأتي رواية الكاتبة الفلسطينية صباح بشير "رحلة إلى ذات امرأة" الصادر عن دار شامل للنشر في نابلس عام 2023. لنسافر معها في أغوار رحلتها الواقعية الاجتماعية للبحث عن ذاتها وسط عالم مليء بالتراكمات الراسخة التي يجب تغييرها وتجاوزها نحو رؤى مجتمعية تدفع نحو تطور المجتمع.

الكاتبة صباح بشير ابنة القدس، حاصلة على ماجستير في الدراسات الثقافية، ومختصة في قضايا المرأة حيث عملت في عدة مؤسسات انسانية وحقوقية واجتماعية، ومحاضرة أكاديمية في كلية بيت بيرل، تكتب المقالات الأدبية والثقافية في الصحافة العربية والمحلية، وتشارك في النشاطات والندوات الأدبية، وعضو فاعل في نادي حيفا الثقافي، وتقيم في حيفا. نشرت كتاباً مشتركاً مع الكاتب جميل السّلحوت بعنوان "رسائل من القدس واليها"، وهذه الرواية هي تجربتها الأولى في مجال الكتابة الروائية.

عتبة العنوان:

يأخذنا عنوان الرواية إلى فضاء من التساؤلات عن الدلالات التي تسعى الكاتبة إلى ترسيخها في ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى، "رحلة إلى ذات امرأة"، فكيف تكون الرحلة إلى ذات امرأة؟ وما معنى الرحلة؟ وماذا تقصد بتلك الرحلة؟ ولماذا في ذات امرأة؟ ومن تكون تلك المرأة؟ وهل هي لسبر أغوار تلك الذات أم ثمة دلالات أخرى؟

هذه الأسئلة يثيرها العنوان، وحين التعمق في السرد يتفكك العنوان لصالح جمالية الرواية، وتعبيرها عن دلالات العنوان المتوافق مع السياق السردي. إن الرحلة تعني الشعور بالسعادة والانبساط الذي يشعر به المرء حينما يقوم برحلة سياحية إلى بلدان يجهلها، أو رحلة بين أحضان الطبيعة يستمتع بجمالها، ولكن رحلتنا مع هذه الرواية ليست بهذا المعنى، بل هي رحلة حياة لاستكشاف وسبر أغوار تجربة اجتماعية في أعماق الذات الإنسانية التي تمتلكها تلك المرأة التي تروي الرواية حكايتها، فيمنحنا العنوان القدرة والإرادة الذاتية المدفوعة بالفضول على الدخول في أعماق المتن السردي لتلك المرأة لاكتشاف ذاتها من خلال تجربتها الإنسانية الاجتماعية.

وذات المرأة تؤكد أننا أمام تجربة ذاتية واقعية، تنحو منحى السيرة الذاتية في قالب روائي، وتستمد عوالمها من مخزون الذات باستخدام ضمير الأنا المتكلم الذي يوحي بذاتية الأحداث وارتباطها بالأنا الساردة، بمعنى أن الساردة تكتب ذاتها لتشارك الآخرين في رؤيتهم لتجربتها، تلك التجربة التي تكون هي ذاتها ضحيتها، نتيجة هيمنة عادات وتقاليد بالية على مجتمع يعلي من قيمة الذكورة في مقابل انحطاط قيمة الأنثى، وهنا تكون رحلة الذات نحو انتقاد الواقع الاجتماعي والكشف عن اللازمة التي تستمد منها الكاتبة عنوان سردها أن المرأة هي ضحية الرجل والمجتمع معاً.

بناء الرواية ودلالات الزمان والمكان:

يستند بناء الرواية على عملية التذكر أو الاسترجاع الذاتي، تقول: "بدأت أرجع بالزمن إلى الوراء وأستذكر الماضي .. عاد بي سنوات إلى ذلك الماضي، لأنبش خباياه وما يجول في ثناياه". وتستخدم ضمير الأنا المتكلم الذي يشعر القارئ بصدق الأحداث لأنه صوت الشخصية المندمجة في ذات الساردة الذي يتقاطع أحياناً مع حوار الساردة مع الشخصيات، ولكن تبقى الساردة مهيمنة على السرد، والناطقة بلسان كل شخصياتها، فهي العليم بكل شيء، وهي صاحبة التجربة القادرة على التعبير عنها. ويتضمن البناء السردي تقنيات فنية وأسلوبية وظفتها الكاتبة في بناء روايتها، فجاءت متوافقة مع السرد ومعمقة للتجربة، حيث استخدمت المراسلات عبر الوسائل الالكترونية، وتوظيف الأمثال الشعبية، والأغاني الوطنية والتراثية، والنصوص الدينية، والحكايات المعبرة عن قسوة المجتمع، مثل حكاية "الجارة أم عارف وابنتها أسماء"، وحكاية (آنا) الفرنسية ذات الأصول العربية التي تخرج من قصتها بحكمة أن "الحياة مع الشريك المناسب أكثر اشراقاً وسعادةً"، مما ينعكس على ماضي حياتها في عدم اختيار الشريك المناسب. وكذلك نماذج التجارب الحكائية التي التقتها لإعداد تقرير عن تعدد الزوجات، ورغم أن هذه التجارب أسلوب تقريري، وسرد لا فائدة منه في العمل الأدبي، ولا يضيف لجمالية الرواية، إلا أن الكاتبة جاءت بهذه الحكايات لكي تؤكد مصداقية الأحداث وواقعيتها، وتعمق رؤيتها الانتقادية للمجتمع، وكان يمكن الاستغناء عنها دون أن تؤثر على مجرى الأحداث ومضمون السرد.

تبدأ الرواية من حيث ينتهي السرد، بعد أن تصل الساردة إلى ختام تجربتها واستقرارها في الوطن، نجدها في آخر سطر من الرواية تكتب "بدأت العمل على ترتيب أموري وأوضاعي، وها أنا أجلس على شرفتي الجميلة وأدون الذكريات"، كأن النهاية هي بداية السرد، حيث نجدها في بداية الرواية تصف ما تراه من عجيج الحياة أثناء جلوسها على الشرفة في البناية التي سكنتها حديثاً بعد عودتها من فرنسا، وهو ما يعرف بالرواية المدورة، وهو أسلوب من أساليب الرواية الحديثة. 

تكشف الذكريات عن الجزء المخفي من حياة الشخصية، الذي لا يمكن معرفته إلا من خلال ذكريات تلك الشخصية، فهي نوع من السيرة الذاتية التي لا تقول كل الحقيقة، بل تسلط الضوء على جانب من شخصيتها يجمع بين الواقع والخيال حينما يتم صياغتها كرواية في محاولة للتفريغ النفسي، أو نوعاً من تأنيب الضمير في حالة عدم رضاها عن أفعالها، أو تكون محاولة من الشخصية لتجاوز الواقع والهروب منه نحو الماضي. في هذه الرواية وذكريات الساردة هي محاولة للتفريغ النفسي بالحديث عن تجربة حياة عاشتها بكل ايجابياتها وسلبياتها، وتسعى لمشاركة القارئ في تفاصيلها، دون أن تمنحه الفرصة ليعبر عن رأيه في ذكرياتها وتجربتها ورؤيتها للواقع، وادانتها للرجل والمجتمع معاً، فهي صاحبة الحق في التعبير وتوجيه القارئ للإيمان بتلك الرؤية التي لم نشعر أن ثمة ادانة للشخصية الساردة، بل هي ضحية لكل من الأسرة، والمجتمع، والرجل، فجميعهم مدانون وسبب معاناتها وأزمتها الاجتماعية والإنسانية.

تتوزع الرواية على سبع عشرة فصلاً، في 273 صفحة. تحمل ذكرياتها ورؤاها وأفكارها والقضايا الاجتماعية التي طرحتها في سبيل كشف ما هو راسخ في المجتمع من عادات وتقاليد وأعراف سائدة منذ زمن قديم وما زال الأبناء يتوارثونها كأنها من مقدسات المجتمع، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد مع العصر. وكانت تلك القيم التي ناقشتها الساردة في روايتها ما زالت تطفو على سطح المجتمع، كالعنف الأسري، والتفريق المجتمعي بين الذكر والأنثى، والزواج التقليدي غير المتكافئ، وعقدة الخوف من عنوسة البنت، وقضايا الطلاق وأسبابها وآثارها، العلاقات الأسرية داخل البيت الواحد. وإلى جانب ذلك كانت ثمة قيم ايجابية حافظ المجتمع عليها: كالتكافل المجتمعي في الأزمات، والعلاقات الاجتماعية الحميمية بين المسلمين والمسيحيين. كما أبرزت الكاتبة تأثيرات الوضع السياسي (الانتفاضة الفلسطينية) على حياة الناس وأحلامهم ومصائرهم، ومشاعر الألم التي تنتاب الأم التي فقدت ابنها شهيداً، وكانت (أم إبراهيم) نموذجاً للأم التي فقدت ولدها (خالد) بما يخالف الصورة التقليدية التي يروجها الإعلام، بأن الأم تزغرد لاستشهاد ابنها، فهي تكشف عن الجانب الآخر لمشاعر الأم التي تعيش أياماً في حالة صدمة وحزن شديد على ابنها "فقد عقدت الصدمة لسانها وانهارت تماماً، فتراها تغفو لبرهة وتصحو دون تركيز". هذه كانت حالة أم إبراهيم. وتصف مشاهد من الانتفاضة وتأثيراتها على أحوال الناس "أزيز الرصاص، والغاز المسيل للدموع ملأ فضاء المدينة والمدن المجاورة، والدخان لون سماءها بالسواد"، كما حطمت الانتفاضة أحلامها في اكمال تعليمها الجامعي بسبب الاغلاق المتكرر للجامعات، واغلاق الطرق.

ونجد الساردة تستغل حدث الانتفاضة لتعبر عن رؤيتها في مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: "البعض يظن أن الكفاح والمقاومة يكمن فقط في حمل السلاح، كم هو ساذج هذا التفكير، فكثيرون وكثيرات حملوا سلاحاً من نوع آخر، سلاح مقاومة الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش بشرف وأمانة". تحاول هنا التوازن بين الكفاح الوطني إلى جانب الكفاح الاجتماعي الذي يحفظ للإنسان كرامته من ذل السؤال.

يشكل الزمان والمكان عنصران متلازمان في العمل الروائي، فلا رواية دون مكان أو زمان. يتخذ الزمان أشكالاً متعددة في العمل الروائي تكون مرتبطة بأحداث الرواية، في هذه الرواية لم يكن ثمة زمان محدد لسرد الأحداث، فهي رحلة حياة ممتدة بدأت ملامحها من السنوات الأولى في بيت الأسرة، وصولاً إلى تبلور زمنها في الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987، وتأثيرها على بطلة السرد وتشكل حياتها ومعاناتها.  فليس ثمة تقيد بالزمن في هذه الرواية، وإنما يخضع لترتيب الأحداث، فنجدها أحياناً تسرع الزمن "هكذا مضت الأيام بحلوها ومرها". وكذلك "تمر الأيام ثقيلة كالسنين". وأحياناً تسترجع الزمن "اليوم، وبعد كل تلك السنين".

وهنا تبرز التقنية الفنية الحديثة التي استخدمتها الكاتبة في سردها وهي تقنية المفارقة الزمنية في السرد، فسرد الأحداث يأتي بعد زمن طويل من وقوعها، فهو سرد قائم على الاسترجاع، فنجدها تقول أثناء تجوالها في القدس: "في طريق العودة سمعنا صوت الأغاني الوطنية الصادرة عن المحلات التجارية التي كانت تبيع الأشرطة الموسيقية آنذاك، لم تكن الأقراص المضغوطة (CD) معروفة بعد". وفي الماضي غابت التكنولوجيا وكانت ثمة وسائل أخرى للترفيه، فنجدها تعيد ذكرياتها عن العرض السينمائي الذي كان يستقطب الكثير من الناس على اختلاف أعمارهم، "لم تكن الأجهزة الحديثة المتطورة متوفرة آنذاك .. كانت أجهزة التلفاز والراديو ودور السينما تتربع على عرش الترفيه في حينها". كذلك تقنية استباق الأحداث بمعنى معرفة تفاصيل الحدث أو الموضوع لاحقاً بعد أن تشير إليه أثناء السرد. نقرأ ما عرفته لاحقاً عن دلالات المثل الذي قالته أمها: "البنت الحرة مثل الذهب بالصرة"، تعرف بعد ذلك كما تقول أن هذا الذهب (المهر) ما هو إلا قيد غليظ"، يكبل حرية المرأة. كأنها أرادت القول أن المهر هو الثمن الذي يدفع في تلك المرأة.

يتوزع الفضاء المكاني في سرد الأحداث من المكان الأكبر إلى المكان الأصغر. يتمثل المكان الأكبر في القدس بكل تجلياتها الجمالية والمكانية، ومنها يتفرع حي واد الجوز مكان ميلاد الساردة ونشأتها، ومنه إلى شوارع الحي وساحاته ومدرسته، ثم تنتقل منه إلى بيت الزوجية، وتخرج من القدس إلى باريس لتعيش جماليات المكان في الشوارع والمقاهي وشقتها والحدائق. وتتراوح هذه الأمكنة بين المكان المفتوح والمكان المغلق وفيهما تتشكل حياة الساردة ورحلتها.

ويتجلى وصف المكان عند الساردة بما يؤكد مصداقية ما ترويه من أحداث، فهي ترسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكناً، وجاعلة من الوصف أداة لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده. نقرأ ما تصف به القدس أثناء تجوالها لشراء لوازم العرس مما يعمق انتمائها وارتباطها بالمكان: "رحت أتأمل المكان وكيف جمع ما فيه بانسجام بديع، من ماضيه العريق إلى حاضره الحزين، شعرت بعبق التاريخ يفوح من كل مكان، اجتاحتني نشوة المعرفة لكل ما هو حقيقي وأصيل يختبئ بين زوايا المدينة، فكل حجر فيها يسرد حكاية الزمان وأصالة الموقع والمقام".

وحين تصف بيت الزوجية تساهم دلالات اللغة في التعبير عن معاناتها في المكان بعد ما لاقته من زوجها عمر وتسلطه عليها، ومعاملة حماتها لها من ذل واهانة. إن ضعف الإنسان أمام الواقع يجعله يستسلم دون إرادة منه، إذا لم يكن لديه القدرة على التمرد تقول: "إنه الضعف، أجل ذلك الضعف والهشاشة التي تجعلنا نتحمل ونصبر ونتقبل الظلم ونتعود عليه"، وهذا الضعف حول حياتها إلى جحيم، وأمام هذا الواقع المرير فضلت العيش على هامش الحياة في بيت الزوجية، فلم تعد تهتم بشيء سوى تربية طفلتها، وأن تكون قدوة لها.

ولكن نظرتها للمكان تتغير عند وصولها لباريس بعد أن حصلت على حريتها بالطلاق من "عمر"، وقد ألقت عن كاهلها كل الذكريات الكئيبة، وانطلقت نحو الحياة الجديدة في باريس والتي رغم بردها إلا أنها شعرت بالدفء الداخلي الذي فقدته بين أهلها وأبناء جلدتها. باريس عالم يموج بالحركة والحياة فقد دهشت من جمالها وتعدد ثقافاتها فأحبتها، تقول: "شعرت بها مدينة للنور، فهي تحرص على وجود الحياة لساكنيها ومواطنيها، مدينة مبتكرة وجريئة، نابضة بالقلوب الخافقة على أنغام الحب".

إن الصفات التي أسقطها الساردة على المكان، تؤكد لنا مدى استثمارها لتلك الصفات لتجلية دلالات معينة تغذي نصها الروائي، وتمثل منعطفات مشعة في عالم النص، تكشف من خلالها عن مفهوم حرية الإنسان ودور المكان في بلورة هذه الحرية.

الشخصيات والساردة المهيمنة:

تعد الشخصية من أبرز المكونات الرئيسية التي يقوم عليها العمل السردي والعامل الذي يؤهل الرواية إلى النجاح والتميز والخلود. طفحت هذه الرواية بالعديد من الشخصيات التي كانت مساندة لبطلة السرد (حنان)، وهي: الأم، الأب، غادة/الأخت الصغرى، هبة/الأخت الكبرى، ماري/جارتها وصديقتها، رحاب/زوجة أخيها، سمية/إبنة الجارة أم عدنان، أم إبراهيم/أم الشهيد خالد، عمر/زوج حنان، أم عمر/حماة حنان، شروق/ابنة حنان، أم عارف/جارتها، أسماء/ابنة أم عارف، تغريد/جارتها وابنها عصام، أصدقاء العمل، ماتيلدا/صديقتها في باريس، آنا/عجوز باريس، نادر شعبان/زوج حنان في باريس.

وقد تميزت هذه الرواية بغياب التمايز بين الشخصيات، بمعنى وجود شخصيات رئيسية وثانوية، بل ثمة شخصية محورية تدور حول الشخصيات والأحداث، وهي التي تعبر وفق رؤيتها عنهم، كما تعبر عن ذاتها، لهذا تروحت نظرة الساردة البطلة إلى ذاتها وإلى الآخرين بما يشكل رؤيتها للعالم.

الأنا الساردة .. والذات:

تتبلور رؤية الذات إلى ذاتها من خلال نظرة الآخرين إليها، أو من خلال نظرتها هي إلى نفسها، حيث أن ادراك الذات لنفسها ومدى رضاها عنها، ونظرة الآخرين لها تعد من الدوافع الأساسية لأفعالها. حيث تبدأ بتقديم الثقافة التي تربت عليها من الموسيقى الأجنبية والعربية إلى الإذاعة البريطانية BBC حيث كانت تستمع وتتابع برامجها الثقافية والتفاعلية التي تناقش قضايا المنطقة والعالم، فأثرت على مستوى ثقافتها، إلا أن المكتبة بسطوة كتبها كانت متعتها الأهم، والطريق الذي سلكته لاكتساب المعرفة، لذا كانت تقتصد من مصروفها لشراء الكتب الثقافية والادبية وبعض المجلات.  

وقد بالغت الذات الساردة "حنان" في وصف نفسها لكي تثبت حضورها ووجودها أمام الآخرين الذين يحاولون التقليل من قيمتها، فقدمت صفاتها الجسدية أمام الحاسدين لها وخاصة أختها غادة تقول: "كنت يافعة حسناء، بملامح ناعمة متسقة، وشعر ناعم مسترسل طويل، صاحبة نفس نقية وروح صافية، عفوية مرحة صاحبة نكتة محببة، ولطالما شد هدوئي من ناحية وقوامي الأهيف الممشوق، ووجهي المستدير الممتلئ نضارة من ناحية أخرى انتباه سيدات الحي".

بعد انتهاء المرحلة الثانوية كان لديها الرغبة في استكمال دراستها الجامعية، ولكن أحداث الانتفاضة وفعاليتها منعتها من التسجيل، فجلست في البيت تواجه حالات أختها "غادة" المريضة بالغرور والحسد، ومواجهة الفتنة التي تزرعها بينها وبين والدتها. ودون سابق معرفة جاءها العريس "عمر" مع أهله خاطباً على الطريقة التقليدية التي ترفضها "كيف لي أن أتزوج من رجل لا أعرفه، ولا تربطني به أية عاطفة"، وترك لها والدها حرية إبداء رأيها في العريس بعد أن تجلس معه، من النظرة الأولى شعرت بالنفور تجاهه فلم تعجبها ملامحه، ولكنها خضعت لضغوطات أمها وتزوجته، وتصف نفسها ليلة العرس بما يتناقض مع شخصية "عمر" الذي لبس بدلة تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، "فتجهزت حتى غدوت مسرة للعيون ومبعث اعجاب لكل من يراني، كأني إحدى حوريات الجنة، شابة في العشرين ممشوقة القوام كالبدر بفستانها الأبيض، وشعرها المنسدل خلف طرحة بيضاء، تدلت على وجهها فلم تزده إلا جمالاً وبهاء". فقد خطفت الأبصار وكان الكل معجب بها.

تعبر الساردة عن ذاتها بكل ثقة من سلوكها وتصرفاتها، حتى أشعرت القارئ أن روايتها قائمة على طرف يخطئ والطرف الأخر وهو المرأة لا تخطئ. لقد خلقت الكاتبة من شخصية "حنان" بما يمثل الملاك أمام الشيطان، تحمل كل أنواع الفضيلة والأخلاق والجمال. فأين البعد الإنساني في هذه الشخصية، فالإنسان سواء امرأة أو رجل يخطئ ويصيب، والمرأة ليست كاملة في كل أبعادها الإنسانية، فلم نلمس خطأ واحداً ارتكبته حنان في حق "عمر" زوجها أو في حق أية شخصية من شخصيات روايتها، بل قدمت "عمر" بصورة تنفر القارئ منه، وكان "نادر" زوجها الثاني الذي أحبته مخادعاً وكاذباً. مما يضعف العمل الأدبي ويجعله ذو نظرة أحادية الجانب أو الرؤية الواحدة في ظل غياب الشخصيات الأخرى وهيمنة الساردة على السرد.

الأنا الساردة .. والآخرون:

تنفتح ذاكرة الساردة حنان على مخزون هائل من الذكريات عن الشخوص الذين مروا في حياتها وكان ثمة ارتباط مباشر معهم، فنجد: الأب، الأم، غادة، ماري، عمر، ونادر. وتعتبر العائلة هي سندها وبها تشعر أنها تقف على أرض صلبة وسماء تظللها، وكان (الأب) بالنسبة لها السند الحقيقي في الحياة، والمناصر لها في كل المواقف، فهذا الأب في رأيها "كان يغدق علينا حباً وحناناً، يشعرنا بتفردنا وتميزنا، كان عاقلاً متواضعاً محبوباً، حسن السمعة". وكان يجمعهم وهم صغاراً ويقرأ عليهم القصص، مما حببها في القراءة والثقافة لاحقاً. وبعد أن ضاقت الحياة المعيشية عليها في بيت زوجها وقف إلى جانبهما وساندهما بالمال. كما وقف إلى جانبهاً مدافعاً عنها أمام اعتراض والدتها على طلاقها، فلم يقبل ما حدث لها من ضرب واهانة، وعاتبها أنها أخفت عنه كل ما كان يحدث معها "كان عليك نبذ تلك الحياة التي تستباح فيها كرامتك، ورفض الضعف والاهانة، فذلك خير من استسلام لا يزيد صاحبة إلا مهانة". ورفع قضية طلاقها في المحكمة.

أما (الأم) رغم حبها لها وشعورها بحنيتها وعطفها، إلا أنها كانت على النقيض من أفكارها الموروثة، وتنتقد أمها في تفكيرها التقليدي الذي ورثته عن أمها قبل خمسين سنة رغم أنها "لم تكن جاهلة لكنها كانت صنيعة مجتمع لا يرحم، تردد الأمثال الشعبية ليل نهار، وتريدنا أن نعيشها كقوانين ملزمة لا نحيد عنها"، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد، لهذا تصف أمها بأن "كل شيء تطور من حولنا إلا تفكير أمي"، فهي مثل كل الأمهات يتوارثن القيم عن الجدات جيلاً بعد جيل": عدم لعب الفتاة مع الصبيان في ساحة الحارة، عدم أكل الفتاة خارج البيت فهذا عيب في العرف الاجتماعي، والفتاة يجب أن تزوج في سن صغيرة فقد حدد المجتمع سن الزواج وإذا تخطته الفتاة تصبح عانس، والطلاق عار يلاحق سمعة المرأة، وعلى المرأة أن تقبل بنصيبها ولا تتمرد على زوجها. وكذلك التعليمات التي بثتها لابنتها قبل أن تجلس مع عريسها "لا ترفعي صوتك، كلما كان صوتك رقيقاً هادئاً كنت أقرب وأجمل، ابتسمي لأية طرفة تسردها أم العريس مهما كانت سخيفة، اجلسي باعتدال وارفعي رأسك، انظري إلى الأرض باستحياء، وإن سئلت عن أي شيء فيجب أن تكون إجابتك مختصرة ومثالية، عامة لا خاصة".

 كما كانت ترفض أمثالها الشعبية التي ترددها باستمرار والمعبرة عن سلوك الفتاة في المجتمع، فكلام الناس وسمعة العائلة أهم لديها من سعادة ابنتها، فعندما عبرت لها "حنان" عن عدم رغبتها في الزواج من عمر، رفضت موقفها واعتبرتها متمردة، وأن فسخ الخطوبة يعد فضيحة أمام الناس، "ألا ترين في ذلك تقليلاً لقدرنا وقيمتنا، آه يا ويلنا، سيلوكون سيرتك وسيرتنا بالحق والباطل". وبعد الزواج والمعاناة التي عاشتها في بيت الزوجية من زوجها وأمه، لم تجد "حنان" من أمها دفاعاً عنها أو سنداً لها، إنما تدعوها إلى الاستسلام والصبر على ما هي عليه، وأن لا تفكر بالطلاق فهو عار يلاحق سمعة المرأة، بل عليها اصلاح الأمر مع زوجها، فهذا قدرك ونصيبك، وعليها أن تعيش في ظل الحيطة وانجاب الطفل لزوجها.

وكانت الأم في كل الوقائع التي تأتي فيها "حنان" باكية وشاكية من حياتها ومعاناتها، كانت توصيها بأن لا تقول لوالدها، حتى لا تشغل ذهنه بأمور ليست ذات أهمية كبيرة.

إن ما تطرحه الأم هو جزء من الواقع الاجتماعي في البيئات المحافظة التي تعلي من قيمة الذكورية وترسيخ سيطرة الرجل، كأنها تعيد سيرة ذاتها التي ورثتها من أمها، وتحاول أن تزرعها في بناتها دون أن تدرك متغيرات العصر، بل تبقى أداتها الأمثال الشعبية التي تعلمتها من أمها سلاحاً تقاوم به حالات تمرد ابنتها على الواقع وعاداته وتقاليده. كما تزرع فيها الخوف من الناس، فالسمعة وكلام الناس هي ثيمة العلاقات الاجتماعية والمكانة الاجتماعية، والكل مرهون بهذه الثيمة، التي ترسخت كعرف اجتماعي دون سند مكتوب بينهم. وتجد الكل متساوق مع هذه الأفكار، فهذه (رحاب) زوجة أخيها رغم تفهمها لموقفها إلا أنها ملتزمة بالقواعد الاجتماعية.

ورغم شعورها بالانسجام داخل الأسرة، إلا أن ثمة من كان ينغص عليها هذا الانسجام وهي أختها (غادة) التي تصغرها بعام، وتصفها بأنها تعاني من عقدة عدم الجمال، فهي بدينة وملامح وجهها صارمة غير متناسقة، إلا أنها ذكية ومتفوقة في دراستها، ولكنها فاشلة في علاقاتها الاجتماعية لعدوانيتها وغرورها وحبها للسيطرة، وعنيفة في حديثها وتصرفاتها، وهذا السلوك انعكس على علاقتها مع أختها "حنان"، فأصبحت العلاقة بينهما قائمة على الحسد والغيرة فخلقت أزمة حب بينهما، وترسم صورة سلبية للعلاقة بين أختين في بيت واحد. في المقابل نجد علاقتها مع صديقتها (ماري) أقوى من علاقتها مع أختها، وماري فتاة مسيحية تقيم بجوارهم ومنذ طفولتهن يلعبن مع بعضهن، وتصف من خلالها العلاقات الحميمية بين المسلمين والمسيحيين في الحي الواحد. وماري فتاة "تحمل فكراً واعياً، وعقلاً مستنيراً وقلباً من الحرير الأبيض"، كانت حنان تستشيرها في كل تفاصيل حياتها، فهي كانت لها بمثابة الحديث بصوت عالي لكي تخرج كل مكبوتاتها. تتزوج ماري من شاب تعرفت عليه، وتنتقل معه للعيش في فرنسا. وعندما تقرر حنان الانتقال للعيش في فرنسا تساندها ماري وزوجها في تسهيل كل الاجراءات، واستقبالها في بيتهم حتى تمكنت من ايجاد بيت مستقل.

كان حلم "حنان" أن تتزوج الشخص الذي يختاره قلبها، ولكنها لم تحقق حلمها، وكان (عمر) هو العريس الذي تقدم إليها، وتزوجته وفق الطريقة التقليدية في المجتمع العربي، وتشكلت مشاعرها السلبية تجاه "عمر" منذ فترة الخطوبة، إلا أنها لم تملك الشجاعة الكافية لمواجهة الأهل بما تحمله نفسها من مشاعر وأحاسيس تجاه "عمر"، فاستسلمت للواقع على مضض. وبعد انتقالها إلى بيت الزوجية تكتشف شخصية "عمر" الحقيقية، فهي شخصية ذكورية جاهلة بكل المشاعر الإنسانية والعاطفية، يستلذ بالحديث عن الناس، ولا يفهم من العلاقة الزوجية إلا الحق الشرعي "فجأة، تحول ذلك الرجل الجامد إلى بربري همجي عنيف، لا يتفهم ولا يراعي حياتي، يتقرب مني بخشونة وأنفاس لهاثه تلفحني، راح يمزق قميص النوم ويتصرف بوحشية بالغة".

تحملت كل تصرفاته السيئة على مدار سنوات من أجل ابنتها (شروق) التي لم تنجب غيرها، وهذا كان سبباً في حدة العلاقة السلبية مع زوجها بتحريض أمه أنها لا تنجب الصبيان. وبعد أن ترك عمر عمله وساءت أحوالهم المعيشية، وطلبت منه أن تكمل تعليمها كي تعمل وتساعده، إلا أنه رفض طلبها، لأن تعليم المرأة خروج عن سيطرة الرجل، ولكن حين عرضت عليه العمل مدرسة في روضة أطفال وافق، لأنها سوف تتحمل مسؤولية مصروف البيت. ورغم كل ما حاولت أن تفعله لإبقاء العلاقة حسنة بينهم، إلا أن عقدة النقص لديه كانت تدفعه إلى فرض سيطرته وتدمير كل محاولاتها.

تقبلت حنان الزواج كمصيبة واقعة، وقررت العيش لابنتها (شروق) التي أعادت لها نبض الحياة، ولكنها أصبحت تخاف عليها من مستقبل الأيام أن يصبح مصيرها كوالدتها، لهذا حاولت أن ترسخ فيها القوة لمواجهة الحياة والأزمات. وكبرت "شروق" وسافرت للدراسة في ولاية ميتشغان الامريكية، ثم تزوجت دون أدنى رعاية أو مسؤولية من والدها الذي تخلى عنها منذ طلاق أمها.

وتصف ملامح عمر حين رأته أول مرة بأنه "شاب أسمر اللون طويل القامة، بجبهة عريضة وعيون واسعة مستديرة، ملامح صارمة، شعره أجعد يتخلله بعض الشعيرات البيضاء في وسط الرأس، أنفه عريض، شفتاه رقيقتان، أذناه صغيرتان تلتصقان برأسه بشكل ملحوظ، وفي صوته خشونة واضحة". فلم يكن هذا فارس أحلامها، ولكنها أجبرت عليه برضاها. وبعد أن تزوجته تجد فيه شخصية غريبة الأطوار، حاد المزاج، يدخن بشراهة، سريع الاستفزاز والغضب، متناقض مع ذاته إذ يظهر أمام الناس بصورة الملاك، تلك الصورة التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن حقيقته، ومستسلم وضعيف أمام شخصية أمه المتسلطة التي جعلت منه شخصية مهزوزة ومسلوبة الإرادة بما تمليه عليه من أفكار وتصرفات، وتصف هذه الحماة (أم عمر) بأنها "امرأة مخادعة، متسلطة خبيثة، قاسية القلب متحجرة المشاعر، لا تحفظ وعداً ولا عهداً، ولا تذكر صنيعاً طيباً لأحد". في هذه الأجواء تربى "عمر" ونشأ على الاصغاء لصوت أمه، فتملكت منه قسوة القلب وانعدام العاطفة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

قدمت الساردة صورة في غاية القتامة والسوداوية والسلبية لشخصية "عمر"، جعلت القارئ ينفر منها، ويتضامن مع حنان في كل مواقفها تجاه تسلط الرجل والمجتمع الذكوري. وهنا قمة الابداع أنها استطاعت التأثير على وعي القارئ واصطفافه إلى جانبها. فالمرأة/ حنان مثل كل امرأة تسعى للبحث عمن ترتبط به إلى التوافق الروحي والنفسي، وليس الاهتمام بالمكانة الاجتماعية بقدر اهتمامها بالقواسم المشتركة التي يمكن أن تجمعها مع زوجها المستقبلي.

ليس ثمة صراع بين الرجل والمرأة، بل ثمة تجسيد لعلاقة الملكية، من صاحب القرار، الرجل أم المرأة؟، في المجتمعات المتطورة القرار يكون مشتركاً وقائماً على التوافق وتبادل الأفكار، أما في المجتمع الشرقي الرجل هو صاحب القرار والمرأة تابعة له، وليس من حقها أن تقرر بعيداً عنه على قاعدة "المرأة ناقصة عقل ودين" لذلك عليها أن تخضع وتستسلم لمشيئة الرجل.

وحين فقدت حنان هذه القواسم المشتركة، رغم محاولاتها العديدة للتغيير من سلوكيات "عمر"، إلا أن ثمة قوة كانت تواجهها أكبر من أمنياتها وأحلامها وهي سيطرة الحماة على ابنها الذي لا يخرج عن طوعها ومستسلم لإرادتها، فلم يقبل التغيير. وهنا أصبحت الحياة بينهما مستحيلة التواصل خاصة بعد أن اعتدى عليها بالضرب الشديد، فغدت أيامها ساكنة عقيمة تكسوها الوحشة والخواء، وشعور بأثر القيم الراسخة على نفسيتها وحياتها، تقول: "فقد دمرتني مفاهيم والدتي المترسخة عن الزواج في مجتمعنا، وهذه هي النتيجة الحتمية لمفاهيم الرجولة الخاطئة المجحفة بحق الأنثى والأنوثة".

قررت حنان الانفصال والطلاق من ""عمر" ومواجهة الأسرة والمجتمع. وعاشت في بيت مستقل، وأنهت تعليمها الجامعي وعملت في مؤسسة اجتماعية كمرشدة نفسية. ولكنها لم تسلم من زوجها "عمر" الذي شوه سمعتها ونغص حياتها، وأثر على عملها، واصطفاف أختها "غادة" إلى جانب "عمر" وعائلته، فما كان منها إلا أن قررت الابتعاد بالسفر إلى فرنسا، وتساعدها ماري في اجراءات السفر.

وبعد وصولها باريس واستقرارها في شقة مستقلة، تبحث عن عمل حتى تجده في إحدى المؤسسات الصحفية، والتي من خلالها تتعرف على (نادر شعبان) رجل الأعمال الذي التقته أثناء تغطيتها لمؤتمر رجال الأعمال العرب بفرنسا، وتنشأ بينهما علاقة تنتهي بالزواج، بعد أن وجدت فيه "إنسان ذكي مجتهد في عمله، رجل مثقف مؤدب حلو القول واللسان، يملك ناصية الحديث ويأسر أذن المستمع". وعاشت أياماً سعيدة، لم تدم طويلاً. لقد خدعها بالكلام المعسول، وهي المحرومة نفسياً، فالحرمان العاطفي يدفع الإنسان إلى الانجرار وراء عواطفه أكثر من التفكير بعقله. فقد رسم نادر لها حياة مبنية على الكذب والخداع، بعد أن أوهمها أنه رجل أعمال ناجح ويمتلك عدة شركات ومؤسسات، وقد عملت صحفية مسؤولة في موقع صحيفته الالكتروني، لتكتشف أنه مقامر وكسب أمواله من القمار، ثم خسرها في القمار، ومطارد لرجال عصابة تقتله في النهاية ويسدل الستار على حياة عاشتها بالكذب والخداع، ولكنها جميلة فما زال حب نادر في قلبها، وتصاب بصدمة شديدة، تدخل على أثرها إلى المستشفى بمساعدة ماري، وقد انتابها شعور بالموت والوحدة والغربة، وتحاول أن تراجع نفسها لما أصابها للوصول إلى قرار، وكان القرار العودة إلى الوطن حصن الأمان بالنسبة لها.

الأنا الساردة .. ورؤية العالم:

إن العمل الأدبي، هو رؤيا فردية للعالم، وقد تختلف هذه الرؤيا الفردية، مع رؤيا المجموعة الاجتماعية أو تتفق معها، وتبقى والرواية بهذا المعنى هي رؤيا كاتبها للعالم، والمبدع عادة ما يصدر عن رؤيا متماسكة للعالم تنعكس بصورة مباشرة في نتاجه الأدبي.

في هذه الرواية منذ صورة الغلاف نلاحظ ما تنشده الكاتبة من روايتها، فالقفص يعبر عن السجن/ القيد، والباب المفتوح يعبر عن الحرية، والمرأة بالملابس المتحررة دلالة على الانطلاق نحو الفضاء الواسع أمامها. فنحن أمام الذات المقموعة والمسكونة بالبحث عن هويتها وسط عالم يحاول أن يلغي تلك الهوية لصالح رؤى تتناقض مع تطورات المجتمع، وعلى اعتبار أن الذات كينونة حوارية في النص الروائي فهي تستدعي الآخر القائم معها في نفس المكان لكي تثبت ذاتها في مقابله من خلال التمايز والخروج عن السائد بأفكار ورؤى مبتكرة.

أن الرؤية التي انطلقت منها الساردة الكاتبة هي انتقاد القيم والأعراف السائدة في المجتمع التي تضطهد المرأة وتحد من قيمتها الاجتماعية، ولا تنتقد المجتمع لمجرد الانتقاد، وإنما لإصلاح الخلل القائم على القيم الاجتماعية البالية لكي تتوازن مع تطورات العصر، فكانت تقدم أفكارها ورؤاها في العديد من المواقف لصالح المرأة. لهذا تلبست الساردة حنان شخصية الكاتبة التي اعتنت بها دون الشخصيات الأخرى لأنها تمثل وجهة نظرها في الحياة، ومعبرة عن أفكارها ورؤاها التي تسعى إلى بثها في المجتمع.

ورغم التجربة الأولية للكاتبة في مجال الرواية، إلا أن هذه التجربة تكشف عن امتلاك الكاتبة الموهبة السردية والثقافة المجتمعية التي صاغت من خلالها رواية واقعية رصدت الأفكار والرؤى الراسخة في المجتمع، وتمكنت من توصيل رؤيتها للقارئ بكل يسر وسهولة بجاذبيتها اللغوية وعنصري التشويق وحب الاستطلاع، وجعلته على اطلاع كامل بكل عادات وتقاليد المجتمع تجاه المرأة في محاولة لكسب صوته من أجل التغيير، كما تمتلك القدرة اللغوية في تشكيل جماليات السرد، وفي صياغة الحبكات والرؤى المتعددة والمتباينة في المواقف والشخصيات، مثل كل عمل أدبي إبداعي، يحتضن التناقضات في ذات كل امرأة. يقول جان بول سارتر في سيرته الذاتية (الكلمات): "لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيراً، لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي".

***

الكاتب والناقد: ناهــض زقــوت

غزة: 12/9/2023

المجموعة القصصية القصيرة جدا للقاص والصحفي حسين رشيد

"روشيرو" مجموعة قصصية قصيرة جدا، للقاص والكاتب الصحفي حسين رشيد، الصادرة عن دار شهريار البصرة / الرافدين بيروت. ضمت المجموعة قصصا قصيرة جدا، قسمت لأربع مجموعات؛ (تعال لأريك، تمعن بتلك، تحدث معك/ ثلاثيات، تخيل ذلك / مشاهد قصصية قصيرة جدا. إذ اختص كل عنوان بوحدة قصصية. وشكلت هذه القصص بمجموعها تجربة فريدة لهذا الكاتب، التي غلبت على قصصه جرأت التجريب وطرح التابوات المسكوت عنها، مثل الجنس والموت والله. من المعلوم أن القصة القصيرة جدا يمكن أن تظهر في مقطع واحد. ويمكن أن تكون جملة واحدة. كذلك يمكن لها أن تتوالى في شكل مقاطع متتابعة ومتوالية، بشرط أن تحافظ على وحدتها التجنيسية والسياقية. ويعتبر تقطيع النص السردي أو الخطاب إلى مجموعة من المقاطع الصغرى أو الكبرى عملية منهجية ناجعة للإحاطة بدلالات النص الظاهرة أو العميقة. وهي خطوة أولية ضرورية لاستخلاص البنيات الصغرى والكبرى التي تتحكم في بناء النص، والتي تعمل على تمطيطه وتوسيعه إطنابا وتكثيفا وإسهابا. وقد أولت السيموطيقيا/علم العلامات عناية كبرى لعملية التقطيع هذه، لما لها من فوائد عملية وعلمية ومعرفية، حيث تساعد السيميائي بصفة خاصة، والباحث والقارئ بصفة عامة، على تحليل وقراءة النص تحليلا علميا دقيقا، ومقاربة الخطاب تفكيكا وتركيبا، واستكشاف وحداته المعنوية، وتحصيل آثار المعنى المباشر وغير المباشر. وأن النص عبارة عن مجموعة من الكلمات والجمل والفقرات والمقاطع والمتواليات، التي تؤلف بدورها وظيفة التواصل والإبلاغ والتداول. وسنتناول ثلاث قصص في هذه المجموعة لقراءتها وتفكيكها وهذه القصص على التوالي:

1- (شقتان – ص 15) تتكون هذه القصة من مقاطع عدة: المقطع الاول أو الاستهلال، يصف لنا الحالة المزرية التي وصلت اليه حالة الشخص المعني، والسبب الذي اوصله لهذه الحال وما الذي فقده: "لم يتبق له ما يمكن العيش من أجله بعد أدمانه الخمرة ولعب القمار، فقدان عمله، وحبيبته، ثم رجولته، في إحدى المشاجرات، الأمر الذي ابقاه حبيس شقته". ويبين لنا القاص ما وصلت اليه حالة الرجل؛ "الدائنون يطرقون بابه، أخذ اثاث الشقة بالتناقص حتى خوت باستثناء فراش نومه المتهالك وكرسي مكسور". وهو بهذا الوصف يهيء القارئ لاحداث المقطع الثاني من القصة!

المقطع الثاني يصف لنا محاولاته للأنتحار وفشله في تنفيذ ذلك، بعد ان صنع أداة موته من فراشه حبلا "علقه في أعلى سقف الغرفة، ثم جاء بالكرسي، ربط الحبل حول عنقه، لكنه كلما حاول القفز عزت عليه نفسه" فيتراجع، بعدها يتذكر ما يمر به فيعيد المحاولة. حاول مرات عدة لكن دون جدوى. صورة التردد والخوف من الموت، والصور المؤلمة التي يعيشها لعدم تسديده ايجار الشقة واحتمال طرده منها بعد انتهاء مهلة مالك السكن له من جانب، وعدم قدرة هذا الشخص اليائس على الانتحار تضع القارئ في حيرة لنهاية هذا الشخص العاجز – هنا نرى قوة التحبيك الذي رسمه القاص من خلال المقطع الثاني واستنفار رغبة القارئ في معرفة ما ستؤول اليه الاحداث؟

المقطع الثالث: "حاول مرات عدة لكن دون جدوى، في المرة الأخيرة التي عزم فيها، خطفت نظره امرأة شبه عارية تتلوى بفراشها في العمارة المقابلة التي يقابل شباك غرفة نومها لشباك غرفة نومه. توقف عن التفكير بكل شيء، غير هذا المشهد... مرر يده بشكل عفوي على عضوه الذكري، استغرب الأمر حين لمس أن الحياة دبت فيه من جديد، أخرجه من زنزانته واخذ يطلقه بيده... وبحركتين او اكثر انتشى، انتشاء كبيرا حتى وصل مرحلة الذروة، وبلحظة القذف تهاوى الكرسي!". مفارقة ساخرة لكنها مؤلمة، سهلت عملية الموت بعد ان أحس ان بعض مما فقده يعود اليه، لكن هذه الفرحة او الراحة التي عاشها في لحظة سريعة كانت هي السبب في نهاية حياته!

- (حفلة – ص 23 ) "في إحدى الليالي الشتائية، وبعد أن انتهيت من كتابة نصي هذا، زارني أبي في المنام، وروى لي ما جرى وحدث في ذلك النهار الكانوني: "وهم يعدون العدّة لأستقبال جنازة شابين. وكيف كانوا يودون الاحتفاء بهما وطرد وحشة القبر عنهما وفراق ذويهما" حاول القاص هنا تشكيل فضاءات دلالية، من خلال اللعب بالفضاء الافتراضي الذي توفره اللغة، زيارة أبيه المتوفي له في المنام وحديثه عن الأموات، بهذا تم نقل القراء الى المقبرة التي يحمل لها كل واحد من القراء صورة ما ، وبهذا بدأت الاحالات التناصية التي تفتح مسارب واسعة للتأويل حول الحياة في المقبرة وكيف يعيشون الموتى.

وبلسان والده المتوفى نقل لنا كيف أنهوا استعداداتهم لاستقبال اموات جدد، اثناء ذلك كان هناك رجل غريب يحوم قرب المقبرة وكأنه ينوي شيئا: "كنا قد أنهينا استعداداتنا لاستقبال الشابين، وفجأة دخل الغريب الى المقبرة.. "الموتى جميعهم بدأوا بالصياح لتنبيه المشيعين، لم يسمع المشيعون صراخهم"عكسنا نحن الذين نعلم بكل من يأتي إلينا زائرا!

"دوى صوت هز كل أرجاء المقبرة، أجزاء متناثرة هنا وهناك من أيدٍ ورؤوس وأقدام مقطعة واصابع مبتورة، شابان أخوان امسك كل منهم الآخر بقوة حتى يحافظ عليه من هول الأنفجار، كانت يداهما ملتحمتين". حتى القبور التي تهدمت والموتى الذين تكسرت عظامهم لم تسلم من هؤلاء! القتلة "جُمعتْ الأجزاء المتناثرة إلا أجزاء ذلك الأهوج، فقد كانت نتنة، ورأسه كرأس حيوان بأسنان أمامية كبيرة، وحاجبين كبيرين شريرين وشفة متهدلة وانف كبير مدور. جمعنا اجزاءه وقمنا بحرقها إلا ان النار رفضت ان ترمى بها وقالت الأرض لا تلوموني وامتنعت ان يدفن فيها، حتى الضواري والكلاب رفضت اكلها". انهم منبوذين في حياتهم وفي موتهم.

3 -(داران – ص 101) "بعد رفضنا ان نكون معهم، ولأنهم وضعونا في خانة الطائفة الأخرى، دسوا من تحت الباب رصاصة لفت بورقة، كتب عليها: (عليكم الرحيل، وإلا فالقتل مصيركم)!.. عائلة تتعرض للتهديد في منطقتها ويطلب منها ان تترك بيتها وتذهب الى الطرف الآخر، ما الذي ستفعله العائلة غير الامتثال لهذا الطلب وباسرع وقت، فليس هناك رحمة في قلوب الذين فعلوا هذا الشيء في هذه المحلة، ومع الاضطرار للمغادرة كنا نمني النفس بعودة قريبة الى كل ما تركناه! المقطع الاول رسم صورة لما كان يجري قبل سنين في بعض محلات بغداد، وما زال الكثير من الناس يتذكرون تلك الاحداث! عمليات العزل الطائفي وكل طائفة افرغت مناطقها من الآخر.

"انتقلنا الى الحي المجاور، اذ كان بيت جدي فارغا. الايام الاولى مرت بسلام غير ان الأمور لم تستمر هكذا" الطائفة التي حُسِبنا عليها طالبونا بحمل السلاح معهم والدفاع عن الحي، ضد الجهة الأخرى، ولاننا لا نملك السلاح ولا المال الكافي لشرائه، "دسوا ورقة ورصاصة أيضا وأمرونا بالرحيل وأتهامنا بالعمالة!" الصورة التي ارادها القاص تصور ما كان يحدث للناس من قبل المتشددين! صورة تحمل الألم والخوف!

"في ذات اليوم فجروا بيتنا الأول متهمينا بنقل المعلومات الى الجهة الأخرى، وحين سمع الطرف الثاني ان بيتا فجر في الحي المجاور وهو في المعتاد يعود لأحد ابناء طائفتهم لم يتهاونوا بتفجير بيتنا الثاني لأننا كنا عملاء للجهة الأخرى وعيونا لهم مثلما جاء بالفتوى!!".

أكثر قصص المجموعة حملت في نهاياتها سخرية مريرة مثل هذه النهاية التي تصور المواطن العراقي وهو يتلقى الضربات من كل الأطراف فجميعهم يدعون دفاعهم عن الناس لكنهم في الحقيقة يسعون لتدمير العراق وتفتيت وحدة الشعب ليتسنى لهم الابقاء على مغانمهم واستمرار مصالحهم.

في فهرست المجموعة، التي قسمت قصصها الى اربع مجاميع، كل مجموعة تألفت من عدد غير معين من القصص القصيرة جدا، في واحدة من عناوين هذه المجاميع اضيف لاسم المجموعة صفة (ثلاثيات) فما الذي اراد ان يقدمه لنا القاص حسين رشيد في هذه الثلاثيات؟ وما هذا النوع من القصص؟ في نسق القصة القصيرة جدا هناك نوعا آخر من الكتابة السردية، تسمى القصة الشذرية تتسم؛ بالتقطيع، والتجزيء، والتشذير، واستعمال الفواصل والمقاطع والفقرات البصرية المركزة، والارتكان إلى الاختزال وتكثيف الوحدات القصصية بشكل من الأشكال. تعتمد الكتابة الشذرية على تقطيع النص الكلي إلى وحدات أو فقرات أو مقاطع أو قصيصات مستقلة بفواصل بصرية وفضائية، وهي عبارة عن نص متفرع إلى نصوص متعددة، قد تصل العلاقة بينها إلى حدّ التناقض! فالشذرات لها استقلالية تامة على مستوى الكتابة والتموضع البصري. كذلك تتوافر القصص الشذرية على معظم الخصائص التي تمتاز بها القصة القصيرة جدا، مثل: الحكائية، والحجم القصصي القصير جدا، وتنويع الفضاء المعماري، وانتقاء الأوصاف، والتوسل بلغة التكثيف والإضمار والحذف، وتوظيف الجمل الفعلية، واستخدام التراكيب الحدثية الديناميكية. من هذه القصص الثلاثية سنتكلم عن إحداها:

"تك، تك، تك

تك

تك، تك، تك، أميال الساعة المنضدية تلاحق بعضها البعض وهي تقف على الرقم سبعة، ما يعني الاستيقاظ. في المطبخ كانت تك، تك، تك، أخرى ترددها فيروز وهي تنادي على أم سليمان وزوجها الذي كان يجمع الخوخ والرمان، الزوجة تنادي على زوجها طالبة منه أن يأتي بالصمون والبيض أو القيمر من المتجر القريب!

تك أولى تعيد التنبيه، وتك ثانية تطلقها فيروز لكن (تك) ثالثة كانت تنتظر الرجل الذي أندمج مع الأغنية أمام الباب وما ان فتحه انتهت التك الأولى، صمتت (التك) الثانية بعد ان دوت التك الثالثة."

"تك ، تك

ظلت أغاني فيروز تدور معه وخاصة (تك) ، (تك، تك) يا أم سليمان حتى أصبحت نشيده الخاص، إذ رافقته مراحله الدراسية حتى تخرج من الجامعة إلا أن فرحة التخرج مسروقة، فالحرب الشرقية دائرة منذ سنين، ولابد من تأدية الخدمة الالزامية التي تمتد شهورا واعواما، الشهور الاولى التي قضاها في التدريب على السلاح. ومع اول معركة اندلعت شرق البصرة، زج مع جمع من الجنود في الصفوف الاولى، منهم من قضى نحبه، ومنهم من فقد، ومنهم من أسر. لكنه مع جندي آخر أضلا الطريق فعاد يردد نشيده الفيروزي ومع خطواتهم الحذرة، سمع (تك، تك) تحت قدم زميله وقضى نحبه و(تك) أخرى سرقت ساقه ليعود بعد سنين الى أمه متكئاً على عكاز موجوع بعدما وقع اسيراً."

"تك، تك، تك

وسط كومة من الساعات مختلفة الاحجام والأنواع والماركات، تمر ساعات يومه مع تكتكة عقارب الساعات ورقاصات البندولات، تدور حول ارقام وجهات تختلف الأوقات في مدنها، نال شهرة واسعة لمهارته ودقته في تصليح الساعات، كما اشتهر في انتقاء الساعات الانتيكة التي لم تعد تسعها جدران المحل.

كان يفتتح يومه بفيروز، وذات وقت جاءه رجل يحمل كيساً يحوي ساعة جدارية ثمينة، كانت خلفية عقاربها صورة الرئيس. وقبل ان يتحدث مع الزبون نادى عليه جاره، ليغلق صوت المذياع ويستعيض عنه بدعاء او قراءة مباركة من القرآن مثلما اسماها، لكنه تجاهل الأمر وعاد الى زبونه الذي طلب منه رفع صورة الرئيس وإبدالها بصورة أخرى كان يحملها معه هذا بعد ان اكد ما قاله جاره، الأمر الذي دفعه الى تجاهله في بادئ الأمر ومن ثم رفضه؟

ومر يوم وآخر وآخر، وذات صباح وهو يهم بفتح محله وجد كيسا عُلقت عليه ورقة بيضاء دون في أعلاها "ارجو تصليح الساعة" وبعد ان فتح باب المحل وهو يتفحص الساعة الثقيلة بعض الشيء، كان يسمع تكتكة أخرى بداخلها لكن عقاربها والرقاص متوقفان، الأمر الذي دعاه الى كشف السبب، إلا أنه لم يتمكن، فعقارب أخرى ورقاص كانا يتسابقان للتطابق فوق بعضهما".

أسم الثلاثية (تك تك تك) تتفرع منها ثلاث مقاطع او قصيصات/ شذرات. اسم الاولى (تك) والثانية (تك، تك) والثالثة (تك، تك، تك) وبالرغم من أن الثلاث تتسم بالتفكك والانفصال على مستوى الظاهر، لكنها تتميز، على مستوى العمق البنيوي، بالوحدة العضوية والموضوعية، والاتساق والانسجام والترابط والتلاحم الموضوعاتي والرؤيوي والمقصدي. وستجد في هذه الشذرات الثلاث المشتركات التالية: تكتكات الساعة وأغنية فيروز، فهذه التكتكة كلنا نعرفها لساعة البيت الكبيرة التي تعني للكثيرين وقت الاستيقاظ الصباحي للذهاب الى العمل او الدراسة بداية ليوم جديد، وهي التي تتعلق معها عيون الشخص الذي ينتظر موعدا مع الحبيب فيبات يعد تكتكتها بولهٍ كبير. لكن هناك تكتكة من نوع آخر هي على النقيض من كل ذلك: أنه الموقت الذي يستعمله الارهابيون في تفجيراتهم ليحصدوا ارواح البشر تكتكة تحمل الموت والدمار! والمصائب التي ابتلى بها الشعب العراقي في حروب النظام السابق العبثية التي دفع ثمنها الانسان موتاَ في ساحات القتال او اضاعة سنين عمره في الأسر او بتر احد اعضاءه في الألغام التي كانت تزرع في الحرب.

"روشيرو" حملها كاتبها حسين رشيد الكثير من الصور القاتمة التي رأيناها في ماضينا القريب ونراها الآن وسنراها في المستقبل لفترات طويلة، الكراهية التي بتنا نحملها للآخرين وباتوا هم يحملونها لنا ليس من السهل ان تتغير وتمسي بعيدة عنا، فنقول عنها "كانت" فنحن نميناها وننميها بثقافتنا التي جبلنا عليها ثقافة عدم قبول الآخر.

***

يوسف علوان

نتوقف طويلاً عند رواية حميد قاسم (ظهر السمكة)، على الرغم من قلة عدد صفحاتها،(119 صفحة)، لا نقول عنها قصيرة، انما رشيقة، بامكان القارئ أن يكمل قراءتها خلال بضع ساعات، منشداً لأحداثها، ولغتها، يتأملها بدهشة وتساؤل: كيف تكون الحرب عاملاً في الابداع، الحرب فعل تدمير، تدمير كل شيء، الحياة، والذاكرة، كل الحروب، التي مرّت على البشرية، أو شاركت فيها، هي ضد الانسان، والحرب اعتداء، مهما قدّمت له من مبررات.

من هذا المعنى للحرب، تبرز ضرورة التمييز بين من يصنع الحرب، أو بين من يتخذ من الحروب سبيلاً لقتل الآخر عندما لا تسعفه السبل الاخرى الأقل ضرواة.

حميد قاسم الشاعر، يقف حائراً أمام هذه التساؤلات، في لحظة شروع لكتابة نص، من أي جنس؟ انه لأمر يفوق التصور أن يكون الكاتب شاهداً على حرب يخوضها مكرهاً، مع الآلاف الذين ساقوهم لمحرقة ليست ذات معنى، الكاتب يريد أن يبوح بحكايات من أحترقوا في المواضع، أن يختزل العذاب، وترقب الموت، بلغة مكثفة، موحية، معبرة، صادقة" ماذا أفعل؟ أنا مصمم على كتابة رواية، رواية مثيرة، ليس لي سوى أن اكتبها بالطريقة الوحيدة التي أعرفها"،

بعد عقود من الزمن يستعيد حميد المشهد، منذ ان راح مسرعاً لبيت عمته في مدينة الثورة، وقد جيء بابنها (علي) ملفوفاً بالعلم العراقي، شهيداً في معارك شرق البصرة  عام 1982. كان حميد مندهشاً لتماسك عمته ورباطة جأشها، حين وضعت رأسه في حجرها، حدّقت في عينيه المغمضتين، سحبت رأسه صوب صدرها بهدوء مميت، أخرجت بيدها الاخرى ثديها الضامر الأعجف، واسندت رأسه الى صدرها، مدّت اصبعها الوسطى والسبابة الى فمه لتفتح شفتيه قليلا، انحنت على وليدها القتيل، ودسّت حلمة ثديها بين شفتيه المنفرجتين لترضعه.

هذه الصورة وحدها قادرة ان تنقلك الى الايقاع المأساوي لواقع الحدث، بابداع نمط سردي، بسيط غير معقد، في تعدد المشاهد، والانتقال من مكان الى آخر، لا يفقد فيه السياق السردي  تواليه، ولا ينغلق، في محاولة لبناء فضاء قائم على تكرار المشهد، ينعطف، يستدير، كما الرؤية، أو كما الرصاصة، وقذيفة المدفع التي تستهدف الجميع تقتلهم.3694 حميد قاسم

لحظة الكتابة تبدأ منذ ان عثر الكاتب مصادفة، على دفتر يوميات صديقه (سليم غانم سلطان)، ورفيقه في الراقم 684، اليوميات كانت منقذه الوحيد، لتحقيق حلمه القديم في نبش صندوق صديقه المهمل، وهو يتساءل: أترون انها لعبة ماكرة، لكنها لعبة ذكية لجأ اليها الكاتب، من دون ادعاء ان اوراق سليم، هي مذكراته، يمكن ان يقدمها كنص قابل للقراءة حسبما يعتقد، يقولها بتواضع، لانه الناجي الوحيد بين افراد فصيله من الجنود، لم يبق منهم سوى هذه الاوراق، بينما نجد في هذا النص بوصفه رواية، اللغة الشعرية المجنحة تعبيرها الأرقى، وشكلها الاسمى، يزدهر هذا النص الشعري على حساب السردي في أكثر من موضع، الجنود على مذبح الموت، ما من ملجأ يلجأون اليه تحاصرهم سيول الانهار، وهطول الامطار المتواصل، والريح العاصفة، ليس امامهم سوى الصعود الى قمة جبل يشغلها الخصم في الجبهات الامامية، يبدو مظهره من بعيد على شكل ظهر سمكة. في هذه اللحظة نفسها كانت القذائف تمشط الفضاء وسط سيول الامطار المنهمرة، واصوات الرعد التي تعقب البروق المتواصلة، يخرج سليم من الملجأ قبيل الفجر، يمم وجهه صوب بغداد، وكل المدن التي تمتد على خارطة البلاد، من هذه النقطة معلقاً بين المطر السماوي والطوفان الارضي:

" اواه يا بغداد المدينة التي تشبه أجمل النساء، نعم المدن نساء، نساء طيبات، أمهات في العادة، مع قليل من الاستثناءات، استعيد بغداد كمدينة نافرة لم تفلح الحروب في اخفاء اشراقة وجهها الحزين، او شعرها المتهدل المسترسل، مثل اغصان الصفصاف عى ضفاف دجلة."

ظهر السمكة، المكان الآمن الذي لجأ اليه الجنود الايرانيون، والعراقيون، في لحظة جنون الطبيعة، وفّر لهم الأمان، بعد ان كانا يتبادلان رصاص القتل قبل ساعات، لا معنى للموت، والقتل على ظهر السمكة، لا معنى للحرب كذلك، عشرون (مقاتلاً) من الجانب العراقي، وثمانية من الجانب الايراني، غاب عنهم السؤال عن الموت الذي كان يتربص بهم قبل حين، في موضع السلام الجديد، يتبادل بعضهم نفس اللغة مع الجنود العراقيين، يتشابهون، في اللهجة والسحنة، يحبون الاغاني، والشعر، تتشابه وجوه الامهات، ومشاعر حب للنساء، وحنين للأولاد، وربما الطباع والهوايات.

وسط حالات الوجوم والترقب، يسود القلق والخوف، وهم يواجهون مصيراً واحداً، يتقاسمون بقايا الخبز اليابس كأصدقاء، عيونهم لا تقوى على المسرات، فتدمع نزفاً كالمطر،  يرددون : كلنا لانتهاء، حين يأتي مخاض الحروب، وأثناء لحظات ضجر، وتساؤل عن المأزق الذي وجدت المجموعةنفسها فيه :

" توهمنا اننا في مملكة مستقلة بين جمهوريتين تتقاتلان على امتداد 1458 كيلو متراً، باستثناء مئات الامتار تحيط بموقعنا هذا، يجهل الطرفان الموجودان هنا، سببه أو نهايته."

تنسحب مياه السيول عن المواضع الاولى، فيترك الجميع ما في ايديهم، وبلا شعور، تفرّق 28 جندياً عراقياً، ايرانياً، عشرون منهم يحدقون في الافق الغربي، فيما يتطلع الثمانية المتبقون صوب الجبال المهيبة المتلفعة بالضباب من جهة الشرق، الشفلات تتقدم نحوهم من جهتين متعاكستين، صوب الراقمين، تتوجه الهاونات بوقت واحد صوب المكان، الاوامر واحدة، الهدف واحد، لا اختلاف سوى لغة ايعاز القتل (شليك كن)، بالفارسية، و(ارم) بالعربية. الموت والجحيم، يفغران، يا هولهما! هنا نهاية الرواية، اختزال الصورة الوحشية للآتي المثير، المرعب.

(ظهر السمكة)، تحريض ضد حرب لا حق واضح فيها، ولا باطل واضح، هل كانت نهايتها انتصاراً للحرب؟ أم ان الموت انتصر على الحياة والزمن؟ ولئن كانت الكتابة الابداعية هي، أساساً تعبيراً عن مأساة، بمعنى انها تعبير عن انتصار وهمي على موت حتمي، فان هذه المأساة تزدوج في الحروب، لان القتل موت يتقدم الموت، وان تواجه الكتابة الحرب، هي ان تواجه موتاً في موت، وأن تكون لغة لمأساة مزدوجة.

***

جمال العتّابي

أن يبدأ الكاتب روايته هذه من بين أسوار المقبرة فيه من الدلالة والرمزية الشيء الكثير فقد توزع مسارها بين مقبرة الأموات المكللة بصورة الزعيم وهو يبتسم وبين المدينة مقبرة الأحياء المصادرة من ميكروفونات الزعيم الكاتمة للصوت.

لم يكتفِ الكاتب بالسرد أو استخدام اسلوب “الفلاش باك” بل ترك لنا نحن القراء مكانا في الرواية، وهذا هو الابداع الفني لأي روائي يحترم قارئه. لقد استطاع تطويع الأحداث وتوجيهها على نحو من شأنه ان تزيد قناعة القارئ بها وتجعله جزء منها؛ ولا أجافي الحقيقة إذا قلت إني عِشتُ الرواية أو جزء لا بأس به من أحداثها، مُستحضراً الأيام الأولى التي وقفناها معاً في ساحة العلم في صور أو قرب السراي في النبطية قبل غزوة الميكرفون ليكتم صوت المتظاهرين ويشتت شملهم وحلمهم ويشكك في مقاصدهم.

رواية بمثابة الصرخة المدوية أطلقها "سلطان" الحائرفي وجه السلطان الجائر، هو ذاك الفتى الذي عاش سنين عمره وفترة شبابه بين القبور ودرس المحاسبة معتقدا أنها مهنة يسهل اكتساب العيش بها، لكنه بعد التخرج لم يحظَ بوظيفة ، علما أنّ بعض زملائه الأقل ّ اجتهادًا منه "توظفّوا وتزّوجوا وصار عندن ولاد، مستنتجًا أن الحياة كلا وسايط"(ص73).

امتازت الرواية بأسلوبها الشيّق وبلغتها الصادقة البعيدة عن أي تصنع او تكلف وجاءت مطعمة باللهجة العاميّة، وقد أبدع الكاتب في وصف الأماكن بحيث تخال نفسك وكأنك تعاينها برفقة سلطان وهو يتجول ببطء بين القبور ليستقر تحت أغصان شجرة الفيكوس؛ كما يأخذك إلى حفار القبور أبو الغضب وهو يدك الأرض ليخرج من جوفها رملاً رطبًا. كما أسهب الكاتب في وصف خان الأشقر وتاريخه ومن تعاقب على إشغاله إبتداءً بالأمير فخر الدين الذي بناه، ومن بعده جاء العثمانيون وانتهاءً بالفرنسين لتستقر ملكيته أخيرا باسم المطرانية واستأجره شخص من آل الأشقر فأصبح يعرف باسم خان الأشقر.

وفيما يشبه الكوميديا السوداء يصف الكاتب حفرة القبر بأنها "صارت ممهدة وأصبح بوسع الوافد الجديد وضع رأسه مطمئنًا علّه ينعم بنومه الأبدي" (ص8).وفي موضع آخر وعندما أغلق سلطان أنفه ليتحاشى روائح النفايات المنتشرة في كل مكان بادره صديقه حسن بالقول تهكماً:" شمْ ريحة المدينة حتى تعرف نعمة المقبرة". وعندما مرَّت سيارة حزبية فوق حفرة مياه ناثرة الوحول عليهما تندر سلطان قائلاً " كل شي عنّا بالعكس حتى الشتي بيطلع طلوع" (ص76).

هي رواية ربما يصُح فيها القول "مَا لهَذَه الرواية لا تُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصتها". نظرا لتنوع وتعدد المحاور والقضايا التي أثارتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- معاناة المهاجرين وغدر المهربين بهم: تمثلت في الحال التي وصل إليها قاسم، صديق سلطان، والذي اختارالرحيل عن هذه البلد التي ما ضلّ فيها شي، علماً أنّ لا أحد يضع أبناءه في قارب موت إلاّ إذا كان البحر أكثر أمانًا من الوطن".

2- إستحضارُ الأمير فخر الدين ورغبةُ الساردِ في كتابةِ روايةٍ عنه، في محاولةٍ لإسقاط ِسيرتِه وما رافقها من تقييماتٍ مختلفة على الواقعِ اللبناني، لم يكن أبداً من قبيل الصدفة، بل ارادهَا روايةً رمزّيّةً تستلهمُ ماضيَ لبنان وحاضرَه، كونُها تظهِر إنقسامَ اللبنانيين حول مفهوم الوطن، وتآمرَ بعضِهم ضدّ بعض كما هو الحال راهنا . وليس أدلّ على هذا ما نشهدُه من تناتشِ وتكالبِ الجميعِ على هذا الوطن سواءٌ من الشرقِ القريبِ او الغربِ البعيدِ لتنفيذِ أجنداتِهم ممّا أدّى إلى اهترائِه وأصبح أشبهُ ما يكون بذاك العلمِ المهترىء الذي يترنّحُ على ساريةِ دوارِ العلم، بعد أن مزّقته رياحُ الشرقِ والغرب .

3 - ظاهرة الميكروفونات: إضافة إلى شخوصِ الروايةِ الطبيعيّين، كان الميكرفون الشخصَ المعنوي في هذا العمل الروائي، هذا الميكرفون الذي يُستخدمُ أساسًا لإيصالِ المعلومةِ إلى أكبرِ عددٍ ممكن، نجد أن أولي الأمرِ عمَدوا إلى تغيير رسالتِه، وأصبح بضجيجه وتُرَّهاتِه كاتمًا للعديد من الأصواتِ المعترضة ومبجّلاً للمعبودين من زعماءِ الأمرِ الواقع. وأصبحت المدينة ُ كغيرِها من المدن، محاصرةً بالميكرفونات فوق الأعمدةِ والمباني، ناهيك عن الميكرفونات الجوالة على السيارات ملوثةً السمعِ بأناشيدَ وخطاباتٍ لم تكن يوماً السبيلَ لخروجِ هذا الوطن من محنتِه الاقتصادية والمعيشية. . وفي هذا يصح قول غادة السّمان الذي أوردته الرواية: وطننا مقبرة بمكروفونات، ليس صالحا لغير الموت والتأبين وتطويب الخالدين وتمجيد المعبودين وكره الباقين".(ص65).

4 - أما صورة الزعيم على مدخلِ المقبرةِ، كأنها تُشيرُ إلى أن المواطنين لن يفلتوا من قبضةِ إبتسامةِ الزعيم المصطنعةِ حتى وإن ماتوا، وسيبقى الكابوسُ الذي يقُضُّ مضاجَعهم في مماتِهم كما في حياتِهم، هو دائمَ الإبتسامةِ عليهم وليس لهُم، ما دامت أصواتُ الأحياءِ والأمواتِ تصبُّ في أغلبها لصالحه في الإنتخابات. وكأني به يقول أين المفرُّ؟ فمهما حاولتم الفرارَ من سطوة إبتسامتي هذه، فإني ملاقيكم، وفي موضع آخر يعلق حسن على صورة عملاقة للزعيم تكدست تحتها كلُّ أنواع النفايات قائلاً:" إنّ الزعيم يبتسم للموت في المقبرة وللإنحطاط هنا". (ص77).

5- حركة 17 تشرين أو ثورة 17 تشرين كما يريدها سلطان: تطرّقت الرواية إلى ثورة 17 تشرين لتوثيق تلك الفترة فبعد أن تخلى المتظاهرون –ولو لفترة - عن عباءتهم الحزبية والمذهبية وتحرروا من سطوة الزعماء، حيث كانت الحناجر كلها تصدح محمّلة مسؤولية تردي الأوضاع الى كلّ الطبقة السياسية، كان للميكروفونات كاتمة الصوت الدور المؤثر في الإجهاز على ذاك الحراك؛ واستعاد ذئبُ الطائفيةِ عافيتَه ضارباً بمخالبِه في كلّ اتّجاهٍ ناهشًا ما تبقّى من لحمِ الوطن". . كانت هذه بداية النهاية لحركة 17 تشرين بالرغم من اتفاق الجميع واعترافهم بوجود الفاسد والأزعر ولكن اختلفوا فيما بينهم على المواصفات والتسميّة فكل فصيل يريد شطب إسم زعيمه من لائحة الإتهام لنصطدم بما يشبه تجهيل الفاعل.

6 - كما ان هذه الميكرفوناتِ كاتمة الصوت قد آتت أُكُلَها في تعزيزِ التحوّلاتِ الفكرية والإيدلوجيّات المستجدّةِ، ناهيك عن رغبة البعضِ وهم كُثُر في حفظِ مصالحِهم، فكان لا بدّ لهم من ركوبِ هذه الموجةِ العاتيةِ التي لا تُبقي ولا تذر، وفي هذا يقدّم لنا الكاتب نموذجاً عن تلك التحوّلات، تمثلت بعائلةِ ابي عباس اليساريّ، والذي سمع بشاعرِ إسبانيا لوركا فأعجبه الإسم واختارَه إسماً لوليده . لكن ومع تبدّلِ المناخِ السياسيِّ العام، إنقلب أبو لوركا على نفسِه وانحازَ للمقلبِ الآخرِ حفاظاً على نشاطِه التجاري. وانتقلت عدواهُ هذه إلى كل أفرادِ عائلتِه.وهكذا فعل ابنه لوركا – عازف الأكورديون - اختار لنفسه إسما بديلا هو "ساجد" وتحول إلى مُنشد دينيّ لا بل "مجاهد" ينتهي قتيلاً ِ في إحدى معارك تنظيمه وما أكثرها. أما شقيقته غيداء فقد أصبحت محجبة ترتدي عباءة سوداء لا تُظهر سوى اليدين والوجه مما دفع بسلطان للقول: سبحان مغيّر الأحوال". وأخيرًا يأتي دور الأم التي كانت دائمة المواظبة على صالونات التجميل وتصفيف الشعر، فها هي قد التحقت بالركب أيضا زاهدة في <حطام الدنيا>..

عائلة أبو عباس هذه هي عينة عن كثير من العائلات التي سارت في هذا الركب طلبا "للرزق الحلال وموفور المال"، ولكي يثبت أبو عباس ولاءه للزعيم وخلال نقاشه مع سلطان حول الوضع الاقتصادي المنهار ألقى باللائمة على ثورة 17 تشرين المدعومة أمريكيًا، واصفا مناصريها بالعملاء للخارج. وفي هذا السياق استعان الكاتب برواية "في إنتظار البرابرة" التي تحكي قصة دولة متخيّلة توهم فيها الحكومة المواطنين بغية السيطرة عليهم، بأن هناك برابرة يحاصرونهم. هذا يذكرني بمقولة لهتلر تقول : “إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم انهم معرضون للخطر وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك". كما لم يسلم الناشطون من تتبع لصفحاتهم الفايسبوكية وهذا ما حصل مع سلطان حيث تعرض له احد الملثمين واضعاً إبهامه تحت ذقنه متوجها إليه بصوت رادع " اسمع يا خرا إذا بتنشر بعد أي بوست تحريضي ضد الزعيم رقبتك بقطعها". حدث هذا عندما شارك سلطان على صفحتة ما نشرته عريب المأمونية ومما جاء فيه: " مدينتي سجينة صرّافين وتجّار خرافة وسماسرة للموت، مدينتي إمرأة قيل لها كوني جميلة واصمتي، من ذا يقنعها أنّ أجمل ما في المرأة هوالصوت".

7- استحضرَت الروايةُ اكبرَ وأحدث جريمتين ارتكِبتا بحقِّ هذا الوطن، الأولى هي الإنهيارُ الماليّ، حيث لم تعُد الليرةُ بخير كما أوهمونا بعد إقفال المصارف وتحليقِ الأسعارِ عالياً وتفشّي البطالةِ واختفاءِ الموادِ الغذائيةِ وأيضاً الأدوية، وعادت طوابيرُ الذلّ – أو العزّ كما يحلو للبعض- امام الأفرانِ ومحطات ِالوقودِ والصيدليات . أضف إلى ذلك التوقف عن إصدار جوازاتِ السفرِ بسبب فقدان المواد اللازمة لطباعتِها.

.. الجريمة الثانية هي تفجيرُ المرفأ وفداحةُ الأضرارِ التي نجمَت وكان من ضحاياها وداد صديقةُ سلطان، حصل كل هذا تحت أعينِ الطبقةِ الحاكمةِ التي وجدَتها فرصةً سانحةً للانقضاضِ على ثوار 17 تشرين وتحميلِهِم مسؤولية هذا الانهيار. ونظرا لكثرة ما يمتلكون من ميكروفونات كاتمة لصوت الحق، استطاعوا استعادة المبادرة وإعادة كل قطيع إلى حظيرته –إذا جاز التعبير-

تبقى اشارة ولو بسيطة تطرقت لها الرواية وهي ظاهرة انتشار أندية القراءة التي انتشرت مؤخرًا في البلاد، واللافت أن الخلاف في وجهات النظر يفسد للوِّد قضية على عكس القول الشائع، بحيث أن بعض المناكفات بين أعضاء النادي الواحد أدت وتؤدي إلى تفرع هذا النادي إلى أندية، وهذه حقيقة لمستها من خلال تجربتي الشخصية حيث بدأنا اول الأمر كمجموعة متراصة ضمن ما يسمى بصالون الكتاب ونتيجة لبعض المشاحنات تفرع عن هذا الصالون ثلاث مجموعات. وهذا يشبه ما ورد في الصفحة43

بقعةُ ضوءٍ ولوخافتة، تضمّنتها الرواية وهي عدم امتثال القاضي للتشدّدِ في محاكمة حسن بناءً لرغبة من قام بتعيينه بل حكَم له بالبراءة، وفي هذا إشارةٌ الى مطلبِنا الدائم والحلم باستقلالية القضاء، وأيضا فإن انتفاضةَ سلطان الذي أفرغ جامَ غضبِه من خلال طريقة نعيِّه الأسطوريّ لصديقته وداد ، والذي أدان فيه الزعيمَ ومختارَ الزعيمِ، ومزّق صورتَه التي كانت تحجبُ العلم اللبناني المرسوم على الجدار.

وعليه، يبقى الأمل في أن يأتيَ اليومُ الذي يستفيقُ فيه هذا الشعبُ كم استفاق القاضي، ومن بعده سلطان، إنّه يوماً يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونراه قريبًا.

***

عفيف قاووق – لبنان

(دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

لعلَّك لا تَجِد أحذق من (أبي نُواس) في تصوير (الكِلاب)؛ وكان، كما يذكر (الجاحظ)(1)،  «قد لَعِب بالكِلاب زمانًا، وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب.»  وله في ذلك أراجيز استشهد منها (الجاحظ)(2) بعشر، كلُّها تدلُّ على تمام معرفته بهذا الحيوان.  يقول في إحدى طرديَّاته(3):

أَعددتُ كَلْبًا لِلطِّرادِ سَلْطا

مُقَلَّدًا قلائدًا ومَقْطا

*

فهْو النَّجيبُ والحَسيبُ رَهْطا

تَرَى لَهُ خَطَّينِ: خُطَّا خَطَّا

ويُصَوِّر طول جسمه، ورشاقته، ولينه، وسباطة لَـحْيِه، مشبِّهًا متنَيه، إذا تمطَّى، بشِراكَين من أَدَم، فيقول:

ومَلَطًا سَهْلًا ولَـحْيًا سَبْطا

ذاكَ ومَتْنَيْنِ إذا تَـمَطَّى

*

قُلْتَ: شِراكانِ أُجِيْدا قَطَّا

مِنْ أَدَمٍ الطَّائفِ عُطَّا عَطَّا

كما يرسم حركة رجلَيه السَّريعَتين، كأنَّما يُعجِلن شيئًا لَقْطًا.  ويُصوِّر ما يلقاه منه الصَّيد.  واختيار الشاعر وزن (الرجَز) في طرديَّاته قد زادها طاقةً تصويريَّة؛ بما لهذا البحر من خِفَّة، حتى ليكاد القارئ يشهد حركة (الكلب) من خلالها.  مع (الطاء) في الرَّوِي، وما تُضفيه من إيحاءٍ حركيٍّ، تزيده ألف الإطلاق في آخِر القافية اندفاعًا، يمثِّل في الصُّورة تدفُّق حركة الكلب.  ويُعنَى في صورٍ أخرى بوصف أدب (الكلب) وحُسن تربيته، كما في تصويره كلبًا اسمه (زنبور)(4). وفي نصٍّ آخَر يَفْتَنُّ في تصوير شِيات (الكِلاب).(5)  وقد كانت عناية العَرَب بـ(كلاب الصَّيد) معروفة، حتى إنَّ لها أنسابًا وأسماء وعلامات، كما (للخَيل) عندهم.(6)  وفي صورةٍ أخرى يُشبِّه (أبو نُواس)(7) التماعَ عينَي (الكلب) الحمراوين بفَصَّي عَقيق، فيقول:

كأنَّ عَينَـيهِ لدَى ارتيابِـهِ

فَصَّا عَقيقٍ قد تَـقابَلا بِـهِ

وهي صورةٌ تتكرَّر عند الشُّعراء، في تصويرهم تحفُّز (الكِلاب) للصَّيد.  كقول الآخر:

مُجَزَّعَـةٌ غُضْفٌ كأنَّ عُيونَها

إذا آذنَ القُنَّاصُ بالصَّيْدِ عِضْرَسُ(8)

وكلُّ هذه الصُّوَر، التي يحاول (أبو نُواس) استقصاء جَماليَّات (الكلب) بها، جِماعها: معنى الخِفَّة والجرأة.  هذا المعنى الذي كان وراء تصوير الشُّعراء (الذِّئبَ) أيضًا وإعجابهم به.  مهتمًّا في ذلك بتوافق أجزاء الصورة، وتناسبها، وتوازنها، بحيث تعبِّر في النهاية عن معناه. ولهذه القيمة الجَماليَّة أحبُّوا تشبيه خيلهم بالكلب السلوقيِّ الضاري الأجرد، تمامًا كما فعلوا في تصوير الذِّئب.  فقال (ابن مُقْبِل)(9)، مثلًا- مهدِّدًا خصومه، ضاربًا الكِلاب مثلًا للمضاء في حربهم-:

فإنَّا سنَبْكِيْهِ بِجُردٍ كأنَّها

ضِراءٌ دَعاها مِنْ سَلُوقَ مُكَلِّبُ

فجَماليَّات (الكلب) في شِعرهم، إذن، ليست بشكليَّةٍ حسِّيَّةٍ بمقدار ما هي معنويَّة، وإنَّما يوظَّف الشكل في خدمة تلك الجماليَّات.  وكذلك فإنَّ مَقابحه عندهم ليست بشكليَّةٍ حسِّيَّةٍ بمقدار ما هي معنويَّة، وقد يوظَّف الشَّكل في تصويرها.  لأجل ذلك فإنَّ (ابن الرومي)، في مقارنته بين مهجوِّه و(الكلب)، لم يذكر من مقابح الكلب الشَّكليَّة سِوَى طُول الوجه، الذي قد يتضمَّن دلالات معنويَّة، غير قُبح الهيئة.  بل لعلَّ الشاعر لم يهتمَّ بطول الوجه هناك إلَّا من حيث إيحائه بالدناءة واللؤم والخِسَّة.  أمَّا صفات القُبح المعنويَّة، فهي: عدم الحياء، والعِيُّ، والتعدِّي، والغُلول:

وَجْهُكَ ، يا عَمْرو،  فيهِ طُولُ

وفي وُجوهِ الكِلابِ طُولُ

*

فأَينَ مِنكَ الحَياءُ؟! قُلْ لِـي،

يا كَلْبُ! والكَلْبُ لا يَقُولُ

*

والكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ التَّعَدِّي

والكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ الغُلُولُ(10)

على أنَّ (الكلب) قد تزول عنه معايبه، ولا تزول عن هذا المهجو:

مَقابِحُ الكَلْبُ فيكَ طُـرًّا

يَزُولُ عنها ولا تَزُولُ(11)

وليس كلُّ ما في الكلب قبيحًا، بل فيه: الوفاء، وأمانة الحراسة، والمحاماة:

وفِيهِ أشياءُ صالحاتٌ

حَماكَها اللهُ والرَّسُولُ

*

والكَلْبُ وافٍ وفِيكَ غَدْرٌ

ففِيكَ عَنْ قَدْرِهِ سُفُولُ

*

وقد يُحامِـي عَنِ المَـواشِي

وما تُحامِي ولا تَصُولُ(12)

وقد اتخذ (أبو نُواس) من سباطة لَحي (الكلب) عُنصرًا جَماليًّا شكليًّا، في حين اتخذها (ابن الرومي) على العكس؛ ممَّا يؤكِّد القول بأن طول الوجه في كلب ابن الرومي رمزٌ، أكثر ممَّا هو معبِّرٌ شكليٌّ في لوحته الشِّعريَّة.  ولذلك أيضًا جاء هذا الربط بين عدم الحياء وطول الوجه: «وَجْهُكَ... فيهِ طُولُ.. فأَينَ مِنكَ الحَياءُ؟!»، كأنَّما ذاك يدلُّ على هذا ويوحي به.

وجَماليَّات تصوير (الكلب) عند (ابن الرومي) تتمثَّل في الموازنة بين الكلب والإنسان المهجوِّ من جهة، ثمَّ بين صفات الحُسن والقُبح في الكلب من جهةٍ أخرى.  بحيث أضاء زوايا متضادَّة، أو متفقة متوادَّة، بين طَرَفَي الصورة: «وبضدِّها تتبيَّن الأشياء».  إضافةً إلى هذا الإيقاع المعنويِّ العميق، والسِّجال الجَدَليِّ المحتدم بين شِقَّين، مرتبطَين منفصلَين، ممَّا يولِّد إيقاعًا ذهنيًّا متجاوبَ الاهتزاز في تلقِّي الصورة.  وهذه الموسيقى الداخليَّة- القائمة على التكنيك الفنِّي، المرتكز على إمكانيَّـتَي الالتقاء والافتراق، والاتِّحاد والتضاد- قد أكسبت الأبيات حيويَّتها الخاصَّة، ومنحت الصورة تأثيرها الفعَّال، في كُـلٍّ توحَّدت فيه المتناقضات.

[للحديث بقيَّة].

***

د. عبد الله الفيفي

........................

(1) (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 27.

(2)  يُنظَر: م.ن، 2: 27- 69.

(3)  أبو نُواس، (1982)، ديوان أبي نُواس، تحقيق: أحمد عبدالمجيد الغزالي، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 627.

(4)  يُنظَر: م.ن، 633، والجاحظ، م.ن، 2: 30- 31.

(5)  يُنظَر: م.ن، 628- 629، والجاحظ، م.ن، 2: 37- 39.

(6)  ويُنظَر مثلًا: كشاجم، (د.ت)، المصايد والمطارد، تحقيق: محمَّد أسعد أطلس، (بغداد: دار المعرفة) ، 131- 142.

(7)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 41.  ولم يرد البيتان ضِمن أبيات قصيدته في الديوان: 631.

(8)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 201؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (عضرس).

(9)  (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم) ، 16/12.

(10)  ابن الرومي، (2002)، ديوان ابن الرومي، شرح: أحمد حسن بسج، (بيروت: دار الكُتب العلميَّة)، 3: 139.  ويُنظَر: جيدة، عبدالحميد محمَّد، (1974)، الهجاء عند ابن الرومي، (بيروت: مكتبة الحياة)، 376.

جديرٌ بالإشارة هنا أنها كانت للهجاء، كما للمديح- على بعض مقابحهما الأخلاقيَّة وابتذالهما الوظيفة الأدبيَّة- وظيفةٌ قِيميَّةٌ مهمَّةٌ في المجتمع العربيِّ، من لَـزِّ الناس، ولاسيما الكُبَراء، على التحلِّي بحُسنِ المعاملة، وبذل الأموال، وإنْ سياسةً، رغبةً في الصِّيت، من خلال الإعلام الشِّعريِّ الدعائي، ورهبةً من أن يسلقهم الشُّعراء بألسنةٍ حِداد.

(11)  ابن الرومي، م.ن.

(12)  م.ن.

في المثقف اليوم