قراءات نقدية

قراءات نقدية

لعلَّ بيت الداء لدَى أولئك الشُّرَّاح الذين شرحوا شِعر (المتنبِّي) و(أبي تمَّام) أنهم إمَّا نحويُّون، وإمَّا لُغويُّون، أو خليط من أرباب هاتين الصناعتين، وليسوا من النقد في عِيرٍ ولا نَفير. هكذا زعم (ذو القُروح). فأمسكتُ بخِناقه:

ـ وما العيب في ذلك؟

ـ هم لذلك قد اعتادوا على النحو والصَّرف، أي على الانشغال بتحليل الكلمات بناءً، أو بالجمل إعرابًا، ولا كبير شأن لمعظمهم بالأساليب والوحدات البنائيَّة للنصوص. ومن ثَمَّ لا غرابة أن تراهم لا يلتفتون إلى مواقع الأبيات من القصائد إلَّا لمامًا، ولو فعلوا لشَرحتْ لهم القصيدة معظم ما يُرهقون أنفسهم فيه ويُرهقون به القارئ من الشطحات البعيدة. بَيْد أنَّ تلك الشطحات، من جانبٍ آخَر، قد تأتي مقصودةً لذاتها، كما تقدَّم في المساق السابق؛ للمناكفة، والمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في المسألة صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. ولذا سيتجلَّى لك، إنْ وازنتَ، أنَّ شرح (أبي العلاء المَعَرِّي) لشِعر (أبي الطَّيِّب) هو أقرب إلى المعنى الشِّعري من شروح (ابن جِنِّي)، و(الواحدي)، و(العكبري)، وأضرابهم،  ممَّن مَلأوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس في غير طائل.

ـ في المساق السابق حلَّلتَ شرحهم لبعض أبيات (أبي الطَّيِّب). هل من نماذج أخرى؟

ـ خذ مثالًا آخَر على هذا ممَّا جاء في شرحهم بيت (أبي تمَّام)، عن مَلِك الرُّوم (توفلس)، في فتح (عمُّوريَّة):

وَلَّى وقَد أَلجَمَ الخَطِّيُّ مَنطِقَهُ  :::  بِسَكْتَةٍ تَحتَها الأَحشاءُ في صَخَبِ

ذلك أنَّه لمَّا شرحَ (الصُّولي، -335هـ)(1) البيت بقوله: «مِن خوف الرِّماح لا يُطيق الكلام، ولكن أحشاءه تصطخب. يريد: أنَّ الفَزَع ربما أحدثَ صاحبه، وتحرَّكت أرياح بطنه»، تعقَّبه (ابن المستوفي، ـ637هـ)(2) قائلًا: «لو قطع فسره [كذا!] عند قوله «تصطخب» أتى بالمعنى، أمَّا الباقي، فزيادة قبيحة، لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره.» ثمَّ أردف: «ولمَّا فرغتُ من نقل ذلك، وقعَ إليَّ كتاب المرزوقي، الذي سمَّاه «كتاب الانتصار من ظَلَمة أبي تمَّام»، فوجدته قال، عُقيب بيت أبي تمَّام هذا: «ذكرَ بعضهم أنه وَلَّى هذا المنهزم وهو من خوف الرِّماح لا يطيق الكلام»... قال المرزوقي: «هذا لفظه في تفسير هذا البيت... ولو تأمَّل هذا المُفَسِّر أدنَى تأمُّل لكفَى مؤونة هذا الغوص البعيد. والوجه أن يكون المعنى: ألجَمَه الخوفُ بلجامٍ من السكون [كذا! ولعلَّ الصواب: السكوت] لكن قَلْبه يَجِب وأحشاؤه تَخفِق، حتى صار لهما كالجَلَبَة، وهذا معلوم من الخائفين، حتى ربما يسمع صوت جوانحهم من لاقاهم على خُطَى».»  وكان (الخطيب التبريزي، ـ502هـ)(3) قد تبِع (المرزوقي) أيضًا في انتقاد شرح الصُّولي، قائلًا: «لا يُلتفت إلى ما ذُكِر من معناه سِوَى هذا.»  يقصد أنه لا يُلتفت إلى شرح الصُّولي.  والحقُّ أنَّ شرح الصُّولي وارد، ولا يستدعي كلَّ ذلك الاستنكار الغريب. علاوة على أنَّه من العجيب قول ابن المستوفي: إنَّ ما ذكره الصُّولي «زيادة قبيحة لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره!» فمَن قال لك، يا ابن المستوفي، إنَّ أبا تمَّام كان في سياق مدح (توفلس) مَلِك (الرُّوم)؟! لقد قامت الأبيات على هجاء مَلِك الرُّوم وتقبيح صورته. فما الغريب أن يقول فيه كلامًا هجائيًّا قبيحًا، مقابل ما كان يقوله في (المعتصم) من كلام مدحيٍّ جميل؟!

ـ لكن (ابن المستوفي) لم يكن نحويًّا، بل كان أديبًا ومؤرِّخًا!

ـ ليس الإشكال في النحو عينه، بل في طغيان الحِرفة العِلْميَّة الصارمة على ذوق صاحبها في فهم النصوص. وقد كان صاحبك وريث ذلك من الاشتغال بالحديث النبوي، وعلومه، مع اشتغاله بالنحو واللُّغة والعَروض والقوافي، وعِلم الأنساب. والأغرب في اعتراضه السابق كأنَّه- ومَن قال بقوله- لم يسمعوا، مثلًا، بالحديث النبوي عن إدبار الشيطان- وحاله كحال (توفلس)- إذا نُودي إلى الصَّلاة، حتَّى لا يَسمع التَّأذين!(4)  فمن غير المستغرب أن يكون الشاعر قد نظر إلى معنى ذلك الحديث، تشبيهًا لتوفلس في خوفه وإدباره بالشيطان، في صورته الواردة في الحديث، أو نظرَ إلى غير الحديث ممَّا هو من مألوف كلام الناس عن حالات الخوف والفِرار وما ينتاب صاحبهما. أمَّا ما قاله (المرزوقي، -421هـ) حول مؤونة الغوص البعيد على المعاني، فلا معنى له؛ فأبو تمَّام نفسه من أرباب الغوص البعيد على المعاني. على الرغم من أنَّ معنى بيته واضح، لا غوص فيه، لا في معناه ولا في شرحه، ومغزاه مفهوم لكلِّ ذي قراءة، لولا تلك المماحكات التي أشرنا إليها بين الشُّرَّاح، التي كانت تَأُزُّ كلَّ واحدٍ إلى التماس المآخذ في شرح الآخَر ومواطن النقد فيه.

كما يبدو من المناكفة أيضًا اعتراضُ (ابن المستوفي) على شرح (التبريزي) بيت (أبي الطَّيِّب):

أَنساعُها مَمغوطَةٌ وخِفافُها   :::   مَنكُوحَةٌ وطَريقُها عَذراءُ

فلمَّا قال التبريزي(5) في شرح البيت: «جعل خِفافها منكوحةً لأنها دامية، فكأنها العذراء التي قد نُكِحت، وجعل الطريق عذراء لأنها لم تُسلَك قَبل. وحَسُن المعنى لأنه جعل الطريق عذراء؛ لأنها لم تُسْلَك. العذراء: هي التي جرت العادة بأن تُنكَح. وهي هنا ناكحة لأنها التي أدمت الخفاف.» هَبَّ (ابن المستوفي)(6)، قائلًا: «قال المبارك بن أحمد: إنَّما تنكِح خفافَها غِلَظُ الأرض والحصَى. فالناكح غير الطريق. والطريق عذراء لأنها لم تُسْلَك.» فأفسدَ بهذا معنى الشاعر، وأفسد التفاتَ التبريزي في شرحه، بكلامه هذا الذي لا معنى له. فنحن نعلم أنَّ الذي نكحَ خفافَ الناقة غِلَظُ الأرض والحصَى، ولكن أين كان هذا الغِلَظُ والحصى؟ أليسا في الطريق التي يصوِّرها الشاعر، ويصوِّر المفارقة بين عُذريَّتها وما تفعله بأخفاف الناقة؟! وهو ما التفتَ إليه التبريزي. فكيف أصبح «الناكح غير الطريق»؟!

إنَّما هي المناكفة بين الشُّرَّاح، إذن؛ لأنَّ (ابن المستوفي) لم يوضح لنا سبب اعتراضه، إلَّا بما هو سبب لعدم الاعتراض أصلًا؛ بل بما هو- فضلًا عن خوائه من المعنى- مسطِّح للشِّعر!

وكذا تجد في كلامه على أبيات (المتنبِّي):

بَينــي وبَيــنَ أَبــي عَلِــيٍّ مِثلُــهُ   :::   شُمُّ الجِبـــالِ ومِثلَهُـــنَّ رَجـــاءُ

وعِقابُ لُبنـــانٍ وكَيــفَ بِقَطعِهـا   :::   وهُوَ الشِّـــتاءُ وصَـــيفُهُنَّ شِـتاءُ

لَبَـسَ الثُّلوجُ بِهــا عَلَـيَّ مَسـالِكي   :::   فكَأَنَّهـــــا بِبَياضِــــها سَـــوداءُ

وكَــذا الكَريــمُ إِذا أَقــامَ بِبَـلـدَةٍ   :::   ســالَ النُّضــارُ بِهــا وقامَ الـمـاءُ

جَمَـدَ القِطـارُ ولَو رَأَتـهُ كَمـا تَـرَى   :::   بُهِتَــت فَلَــمْ تَتَبَجَّـــسِ الأَنــواءُ

فبعد أن ساق اختلافات الشُّراح- ولاسيما حول البيت الأخير، لما فيه من تقديم وتأخير- ولمَّا لم يجد ما يعترض به، قال: «ولو أعاد ذِكرَ الممدوح أو ضميره بعد قوله «وكذا»، كان أجود، ولم يحتجْ إلى هذا التأويل.»(7) ونقول: إنَّ (ابن المستوفي) لو سكتَ هنا، لكان أجود، فلم يكن في حاجةٍ إلى مثل هذا التعليق البارد كعِقاب (لُبنان)! فمَن قال إنَّ إعادة ذكر الممدوح أو ضميره بعد قول الشاعر «وكذا» كان أجود؟! لقد أراد الشاعر أن يضرب هذا مثلًا لكلِّ كريم، ولم يُرِد أن يقيِّده بالممدوح. وهذا هو الأجود. أي «وكذا حال كلِّ كريم، إذا أقام ببلدٍ سال النضار فيه، أي الذَّهب، وجَمَدَ الماء.» ثمَّ لولا احتمال الشِّعر لتعدُّد القراءات والتأويلات، لَما كان شِعرًا، بل إخبارًا وتقريرًا، ولَما نام أبو الطيِّب ملء جفونه عن شوارده، ليسهر الخلق جرَّاه ويختصموا! ومن هنا فإنَّ كلام ابن المستوفي غير صحيح، لا من الوجهة الشِّعريَّة، ولا من الوجهة النقديَّة.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1)  (د.ت)، شرح الصُّولي لديوان أبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الإعلام)،  1: 201. 

(2)  (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 56- 57.

(3)  (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 67.

(4)  يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا، (دمشق/ بيروت: دار القلم)، (الحديث 583)، 1: 220.

(5)  (2000)، الموضح في شرح شِعر أبي الطَّيِّب المتنبِّي، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة)، 1: 146.

(6)  ابن المستوفي، 1: 398.

(7)  م.ن، 1: 406.

العنوان مدونات محظورة: مفكرة او ساحة طرح آراء شخصية لنقل الاخبار او التعبير عن الافكار، هذه المقدمة تدفعنا الى مدخل تفكيك سرد الرواية التي كتبها (طارق الكناني) من ثلاثة فصول كلها مدونات محظورة كتبها بأسلوب شيق وكلمات شفافة ذاكراً في البدء جريمة قتل لشخص يعمل في شركة نشاط تجاري قتل من قبل امرأة ترجلت من سيارة مرسيدس حمراء اللون موديل حديث، قتلته في مكتبه عند سماع صوت اطلاق نار من قبل شخص شاهد الحادث قتل هو الآخر وسجلت الجريمتان ضد مجهول.

(كانت هذه السطور جزءاً من افادة الموظف التي نقلها لي صديقي ضابط التحقيق، فالمسكين لم يصل الى بيته بعد تدوين افادته في ليلتها حيث مات في حادث دهس وهو في طريقه الى موقف السيارات ولم يعرف الجاني، فالعجلة التي دهسته كانت بلا ارقام وتحمل عدة هوائيات للاتصالات (اريل) وسوداء اللون، اما صديقي الضابط فيقول في اليوم التالي تم غلق المحضر وقيدت الحادثتان ضد مجهول) ص9

احدى المدونات وصول العمالة المصرية الى العراق والتي بلغت في احدى السنوات ما يزيد على ثمانية ملايين مصري حسب ما دون في الرواية هذا الكم من الاشخاص يحولون عملة الدولار الى بلدهم، البعض منهم (بلطكية) بلهجتهم قاموا بإعمال دونية متاجرة بالمخدرات، قسم لاقى جزاءه والبعض استفاد من هذه الاموال وابتعد عن اصحاب السوء.. كان العراق ساحة كبيرة لكل الاعمال التي تقام بها المجموعات على جميع اشكالها كون العراق والعراقيون منشغلون في حرب الثمان سنوات.. ذكرها الروائي (طارق الكناني) بالتفاصيل لأنها واقع حال.

(ففي كل مفصل من مفاصل الحياة تجد المصريين، سمعت من اصدقائي ان الكثير من اصدقائنا قد تزوجوا من العراقيات وخصوصاً زوجات الشهداء، لقد صار الزواج منهن مكسباً كبيرا، حيث تستلم التعويضات الكبيرة من سيارة وراتب مضاعف ودار سكن والكثير من الامتيازات والبنك يمنح العراقي الذي ينوي الزواج من امرأة شهيد قرض ستة آلاف دينار اي ما يعادل نحو عشرين الف دولار). ص40

الرواية فيها دوافع جنسية.. محشوة بالجنس او الايحاءات الجنسية في صفات كثيرة اذكر منها ص72 ص74 ص92 ص119....

(أ حسست بحرارة كفه وهو يضعها على عجيزتي التي بدت أكبر حجما من ذي قبل، فقد كنت واقفة امام المرآة حين وقف هو خافي وبدأ يداعب صدري ويضغط على حلمتي مما أثارني ولم أعد اسيطر على نفسي، فبين نشوة الشهوة والجنس تعالى لهاثي وبدأنا نتسابق أينا أكثر لهاثا حين مددت يدي على موضعه الحساس) ي72 

الرواية مشحونة بعدد كبير من الاشخاص او الاصوات الكثيرة تكشف لنا الاحداث من خلال حركتها بالاعتماد على الحوار الذي يقال عنه بانه نكهة السرد من اجل التوتر كعمل او صيغة لشد المتلقي مثل: منى / سهى / زهدي المصري / مدير البنك / حامد القصاب / شامل / مهند / منال / ناهض / رعد /ساهرة الى اخره... هذا الكم من الاصوات اشتركوا في بناء السرد.. في حوار او علاقات او حوادث، تجد في الرواية الغدر بين الاشخاص ومضاجعات وتصفية للعلاقات الجنسية مثال ذلك من قبل (منال) وصديقها الذي غدر به (حامد) الذي قام بقتل احد الثلاثة الذين ضاجعوه والذين جلبهم زوج (منال) الغير شرعي كونه من رجال الامن تزوجها بدون علم دائرته .. زواج غير معلن لأنه تزوجها بدون موافقة امنية..

(تورطت في أحد الايام مع شابة كنت الاحقها، وكانت ترفضني بشدة، ولكني فوجئت بها في أحد الايام تدعوني الى بيتها، صدقتها وذهبت للموعد وعندما تعريت تماما استعدادا لممارسة الجنس معها فوجئت بصديقها مفوض الامن وثلاثة من رفاقه يقفون فوق راسي، لقد اشبعوني ضربا ولم يتركوني حتى مارسوا الجنس معي جميعهم وصوروني بكاميرا السوني خاصتهم وانت بهذا الوضع وتركوني يومها غير قادر على السير، بل كنت انزف دما من عورتي) ص91

الاحداث تتسارع في الرواية، الشخص الذي اغتصب من قبل الثلاثة قام بقتل احداهم انتقاما مما جعل زوج (منال) يدخل الرعب في قلبه لأنه عرف بانها تصفية حساب من قبل الشخص الذي اغتصبوه والذي قام بقتل (منال) التي غدرت به، والدها اصيب بالشلل عند سماع مقتل ابنته اما زوجها الغير شرعي لا يستطيع ان يبلغ بانها زوجته خوفا من طرده من وظيفته كونه رجل امن..

الفصل الثاني دخول الامريكان الى بعض مناطق العراق مثل سدة الهندية عن طريق المسيب، حصل ارتباك بين الناس وحديث عن البنك وحراسته من قبل اصحاب العمارة خوفا من الفرهود، كما حدث عام 1991 والحديث عن العائدين على ظهر الدبابات الامريكية والاحزاب الاسلامية.

(فهناك العائدون على ظهور الدبابات الامريكية، وهناك العائدون بمرافقة الحرس الايراني من الاحزاب الاسلامية التي اتخذت من ايران ملجأ لها، وهناك طبقة ثالثة ظهرت وهي طبقة العمائم التي تفشت بشكل غريب خلال ايام حتى سيطرت على مقاليد الامور، وهؤلاء من اهل البلد واكثرهم من الرعاع ومن السراق ولا علاقة لهم بالدين) ص172

الفصل الثالث انتقل بنا الراوي الى مدونات وحكايات عن الاشخاص مثل (منى) وما مرت به من صعوبات الحياة و(انيسة) والحديث عن حياتها اليومية وما تقوم به من تصرفات مستذكرا سهى وساهرة وبطة وام صلاح ومنال وبشرى وكذلك مدير البنك وساهرة ومهند والحديث عن الهجرة الى اسبانيا وامريكا..

(ـ هل صحيح انك ستهاجرين الى امريكا؟

ـ ما هذا السؤال المفاجئ ومن اخبرك بذلك؟

ـ لقد غبت عن الدوام ثلاثة ايام فسألتهم فقيل لي انها اكملت متطلبات الهجرة وستغادر الى امريكا هل هذا صحيح؟

ــ هو فيه الكثير من الصحة، فأنا أكملت مستلزمات الهجرة والموافقات الرسمية ولكني لم احدد اليوم الذي سأسافر فيه ولماذا اصلا هذه الهجرة؟) ص278

لتنتهي الرواية بهذه الكلمات الموجعة:

(فكل هؤلاء المجانين انما يجذبهم الى هذا السوق صدق المشاعر التي يحصل عليها هؤلاء من أم قد غاب عنها وليدها وهي ترجو عودته، فهي تتصدق عليهم رجاء رحمته تعالى او صدقة من مريض يرجو الشفاء من مرض عضال وهو يعرف انه راحل لا محالة ومع ذلك هو يبذل من الصدقات لهؤلاء المجانين والشحاذين متأملا ان يحصل على الطمأنينة الابدية) 

 اشتغل الروائي (طارق الكناني) بسرد جميل حكائي موجع ذاكرا وقائع التاريخ العراقي من حروب ومظاهر وطقوس انسانية من الماضي والترميز مستذكرا حرب الثمان سنوات والشعبانية والتحولات السياسية عن حكايات السلطة فكان توظيف الروائي لها من خلال ابطاله وثقافتهم من رؤية فكرية وهموم العصر ومعالجة الزمن الماضي في الرواية مع الحاضر يجعل السرد او التأليف ابداعي مؤثر في نفوس القراء ..

يذكر الرواية من اصدار مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار العارف للمطبوعات بيروت / لبنان عام 2024 بواقع 308 صفحة من الحجم المتوسط..

**** 

أياد خضير الشمري

 

 

تجليات الفردانية والهوية والإيمان في مرآة السرد

إن رواية "قيامة الخفافيش" هي عمل أدبي يغوص عميقًا في تعقيدات النفس البشرية والمجتمع. تنسج الرواية، عبر شخصية "سلمان" المحورية، صراعًا مريرًا بين الفردانية التواقة للتحرر من جانب، والانتماء الجمعي بضغوطه من جانب آخر. وهي تستكشف أزمة الهوية في عالم تتصارع فيه الموروثات مع العقلانية. وبجرأة لافتة، تطرح الرواية تساؤلات حول المسلمات الدينية، داعيةً إلى التسامح الفكري عبر تعدد الأصوات. ورغم نضج "سلمان" الثقافي، تكشف الرواية عن هشاشته النفسية والاجتماعية، تاركةً للقارئ مساحة للتأويل. كل ذلك ضمن بنية سردية محكمة، تستخدم الزمن الدائري لتعميق الرمزية، وتبلغ ذروتها في جدل مفتوح حول النسوية والذكورية، مُظهرةً قدرة الكاتب على إثارة الأسئلة الكبرى دون فرض إجابات نهائية، خاصةً حين يتعلق الأمر بتوازنات المجتمع وقضاياه الشائكة.

في هذا المقال، نتناول رواية "قيامة الخفافيش" من بعض الزوايا المهمة، وخصوصا تلك المرتبطة بالأفكار المطروحة في الرواية:

الغلاف:

يُعدّ غلاف الكتاب بمثابة العتبة البصرية الأولى التي يلج منها القارئ إلى عالم النص، بل إنه قد يختزل في رمزيته أعمق رؤى العمل. وفي رواية "قيامة الخفافيش"، يبدو الغلاف الحالي -في رأيي- بعيدًا كل البعد عن عمقها الفكري، كما أن العنوان ذاته قد لا يُسعف القارئ في استكشاف المكنونات العميقة والمقاصد التي تسعى الرواية لإيصالها.

جدلية الفردانية والانتماء: صراع الذات في مواجهة القطيع:

تغوص الرواية في فصولها لاستكشاف الصراع الأزلي بين تطلعات الفرد وآصرة الانتماء الاجتماعي، أو ما يُصطلح عليه حديثًا بجدلية "الفردانية" و"الجمعانية". يتجسد هذا الصراع في سعي الفرد لتأصيل حريته في الحياة والتعبير والاعتقاد، مقابل غريزة الانتماء وما تفرضه من تنازلات لضمان الأمن والتآزر.

يُعدّ اشمئزاز "سلمان" من قريته، وما يعتريها من زهوٍ مُصطنعٍ بالقيم -بينما يُدرك هو زيفها-، تجسيدًا لهذا الصراع الذي لا يهدأ، إلا حين تبقى الفردانية ضمن حدودها المقبولة، حفظًا لتماسك النسيج المجتمعي.

وعبر المقارنة بين القرية والمدينة، يكشف الكاتب عن التباينات الثقافية والاجتماعية التي تُسهم في تشكيل الفروقات الفردية والامتيازات الاقتصادية والعلمية، حيث تمثل القرية عالم القيم المنغلقة، بينما ترمز المدينة إلى المجتمع المفتوح بدلالاته الثقافية المتعددة.

الهوية وتجلياتها: بحث "سلمان" عن الذات في عالم متناقض:

يُطلّ موضوع الهوية برأسه بقوة في نسيج الرواية؛ فالهوية الإنسانية تتشكل من منظومة الأفكار والقيم والمبادئ الأخلاقية، وما ينبثق عنها من سلوكيات، ويُصبح تجسيدُ هذه الهوية ضرورةً حياتيةً للفرد.

نجد شخصية "سلمان"، ببنيتها الثقافية، تسعى للتحرر من قيود مجتمعها، وربما -حتى لا نُجحف بحق الكاتب- أُريدَ لـ"سلمان" أن يبقى خارج نطاق "الكياسة الاجتماعية" التقليدية، تلك التي تفرض على الفرد المختلف موازنة دقيقة بين إعلان هويته والتصالح مع الذات، وبين إخفائها لكسب ود الآخرين. تتجلى صراعات الهوية لدى "سلمان" في تلك التخيلات الذهنية التي تتنازعه بين شخصيات مُقدسة يرفضها عقله العلمي، وكأنه يعيش صراعًا داخليًا بين الموروث والواقع، صراعًا قديمًا يتجدد في خلايا دماغه.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجح الكاتب في تضمين الرواية هويات متعددة ومتنوعة عبر شخصيات متضادة ومتباينة مع الشخصية المحورية، مما يُثري النص معرفيًا ويجذب القارئ إلى حوارات دينية وفلسفية، حيث يقف كلٌّ عند حدود هويته. هذا التعدد يُتيح للكاتب أيضًا استعراض مخزونه المعرفي والثقافي والفلسفي، دون إلزام بالانتصار لرأي بعينه، وإن كان من المقبول أن يميل إلى وجهة نظر يراها جديرة بالاهتمام.

الخروج من صندوق الإيمان: جرأة الطرح وعمق المعالجة:

تتناول الرواية، بجرأة لافتة، قضيةً محوريةً قلّما تُطرق في فضائنا الأدبي، وهي اهتزاز اليقين الديني لدى "الشخصية الرئيسية". فالدين، الذي يُعدّ من المسلمات في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، يُصبح موضع تساؤل. إن تقديم شخصية محورية "لا دينية" هو خيار عميق وجريء، قد يُصنّف العمل ضمن "الأدب المثير للجدل"، ويُدخل الكاتب في مواجهة مع المجتمع، بعد أن كانت مسودة الرواية حبيسة قراره. وهذا يعني ترقّب عواقب قد تكون وخيمة. ومع ذلك، يبدو أن الكاتب قد نجح في طرح أفكار دينية متنوعة ومتضادة، بهدف تنبيه القارئ إلى طبيعة الاختلاف في وجهات النظر، ودعوة المجتمعات للابتعاد عن التعصب الأعمى. فلا غضاضة في أن تحمل الرواية رسائل أخلاقية ومعرفية، سواء بطريقة مباشرة أو رمزية، كما فعل الكاتب هنا.

البنية النفسية والاجتماعية للشخصية المحورية: تناقضات وانعكاسات:

تُترك البنية النفسية والاجتماعية للشخصية الرئيسية لتتشكل في وعي القارئ أكثر مما يُقررها الكاتب بشكل مُسبق؛ فالقارئ ذو الوعي والفهم العميق قد يرى في شخصية "سلمان" وعيًا متدنيًا وثقة مهزوزة، وافتقارًا لآليات التوازن النفسي. بينما قارئ آخر، ربما يجد في هذه البنية انعكاسًا لتجربته الخاصة، فيتعاطف معها ويُبرر انفعالاتها.

ومن جهة أخرى، يكشف النص عن تناقض لافت في شخصية "سلمان": فبينما تُظهر حواراته حول الثقافة والكتب نضجًا فكريًا يتطلب وعيًا واتزانًا، تكشف تفاعلاته الاجتماعية عن بنية غير ناضجة، متسرعة في ردود أفعالها، تفتقر إلى فهم دقيق لمن حولها، ولا تعكس ثقافتها المزعومة. هذا يشير إلى اضطراب بنيوي في الشخصية، إما أن الكاتب لم يلتفت إليه، أو أنه تعمّد عكس جانب من شخصيته الحقيقية. ويُستشف من ذلك أن نضجه الثقافي قد سبق نضجه النفسي والاجتماعي، مما انعكس على سلوكياته.

نسيج النص السردي: بين الزمن الدائري وذروة الجدل:

تتألق الرواية بهيكل سردي متوازن، حيث تأتي البدايات جاذبة، مُفعمة بأحداث مثيرة وغامضة تستدعي التفكيك. ويلعب مفهوم "الخفافيش" دورًا محوريًا في هذا، بما يحمله من تأويلات متعددة. ومع تصاعد الأحداث، يزداد المفهوم غموضًا، فيتصاعد معه التشويق، الذي يُقدمه الكاتب بجرعات محسوبة عبر توظيف تقنية "الاسترجاع" (فلاش باك) أو الزمن الدائري، حيث لا يسير الزمن خطيًا من ماضٍ إلى حاضر ومستقبل، بل في حركة دائرية تُعيد الشخصيات والأحداث، وكأن الواقع كتاب يُمكننا تصفح صفحاته السابقة.

هذه البنية الزمنية الدائرية تُضفي رمزية على الأحداث التي تتكرر دون تغييرات جذرية، فالواقع يُعيد إنتاج نفسه، والشخصيات حبيسة دائرة سببية مُحكمة، مما يمنح النص تماسكه وتناسقه، فالأحداث التي تبدو عرضية سرعان ما يتكشّف موقعها وأهميتها. وفي ذروة السرد، تنفجر الأحداث كبركان ثائر، مُفجرةً جدلًا عميقًا حول قضايا النسوية والذكورية، بين مجتمعات رسّخت الذكورية كأيديولوجية دينية واجتماعية، وتيار مُضاد يسعى لإعادة التوازن الطبيعي بين الجنسين، لكنه، في نظر الكاتب ربما، أخطأ في وسائله وأساليبه، فبدا كخفاش ليل مُخيف، يُهدد بتخريب الواقع الاجتماعي بدلاً من إرساء العدل. ويبدو أن الكاتب تعمّد عدم حسم هذه القضية الجدلية، تاركًا نهاياتها مفتوحة.

***

أكبر مدن

14 مايو 2025

 

شكل صدور رواية "مدام بوفاري" سنة 1856 للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير حدثا أدبيا بكل المقاييس. سواء من حيث المنعطف الذي دشنه بالقطيعة مع الحركة الرومانسية السائدة، أو من حيث ردود الأفعال التي تراوحت بين الترحيب والتنديد، لتنتهي بالمحاكمة.

كان القرن التاسع عشر قرن الرواية العظيمة، ففيه تفجرت المواهب في كافة الاتجاهات، بين الفانتازيا والرومانسية القائمة على تمجيد الذات واللذات، ثم الخيال العلمي وقصص الرعب. وحتى تكتمل الدائرة كان لابد أن يتطور شكل للكتابة يدور حول ما يحدث لنا في الحياة فعلا. فما يحدث في كل زمان يشكل في الحقيقة مادة خصبة لكتابة عشرات الروايات، والسؤال المتبقي هو: كيف نكتبه؟

إن الكتابة عن الحياة والواقع ليست مجرد سرد للأحداث أو ادعاء تصوير الأشخاص على حقيقتهم، لأن الأمر يتطلب قدرة على الخلق الفني وتنسيق مجمل تصورات الكاتب عن الحياة الإنسانية. لذا قبل أن يشرع فلوبير في كتابة رائعته "مدام بوفاري" كان قد بذل سعيا حثيثا لمحاولة إبداع قصة عاطفية من طراز جديد، وإيجاد موطئ قدم داخل المدرسة الرومانسية التي ضمت آنذاك عباقرة أبرزهم فكتور هوغو، غير أنه قرر العدول عن ذلك عملاً بنصيحة صديقه الناقد بوليه، الذي قذف بمخطوطة قصة "البائسون " من النافذة صائحا:"

- دعها لجامعي القمامة فإنها لا تصلح حتى لهذا. يجب أن تعدل تماما عن كتابة أي موضوع غامض ليس في ذهنك صورة واضحة عنه. ألم تدرك يا غوستاف أنك عاشق للحوار العاطفي ذي الطابع الغنائي؟ يجب أن تعدل عن هذا اللون على الفور. خذ موضوعا من الواقع، من الأحداث التي تقع لكافة الطبقات الاجتماعية، ثم اكتب دون تكلف!"

إن مشكلة أغلب أدبائنا الشباب أنهم ينظرون بعين الريبة لهذا النمط من النقد القاسي. البعض يعتبره تضييقا على حرية الخلق والإبداع، في حين يعدُه آخرون سلطوية تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، والإبقاء على أقلام معدودة في الواجهة. لكن من حسن حظ فلوبير أنه حظي بمثل هذا الناقد، فحديثه عن الكتابة دون تكلف هو برأيي شعلة فجرت مكنونات الإبداع لدى فلوبير، حين قرر أن يجعل من الأحداث التي جرت بقريته موضوعا لعمل أدبي واقعي.

في سنة 1936 صدر كتاب بعنوان (مدام بوفاري، كتابات أولية ومقاطع غير منشورة) لصاحب مكتبة اسمه غابرييل لولو؛ كانت بحوزته مسودات تكشف جوهر العمل الأدبي الذي اشتغل عليه فلوبير. ولعل أهم ما نستخلصه من مخطوطات أي عمل أدبي خالد هو أن الأفكار العظيمة لا تنشأ من فراغ، وإنما تمد جذورها العميقة في أرض الحقيقة. ففي بيته المتواضع بالريف الفرنسي كان فلوبير يتابع عن كثب وقائع حياة طائشة للسيدة ديلفين زوجة الدكتور جورج ديلمار. فتاة برجوازية مولعة بالقصص العاطفية، تدفعها حياة الريف المملة إلى الخيانة ثم الانهيار الداخلي فالخيانة. وفي مذكراته كشف فلوبير عن معرفته الدقيقة بالسيدة، وحرصه منذ الوهلة الأولى على أن تكون بطلة لرواية سيكتبها. وقد نجح صديقه الناقد في تحريره من التردد والخوف من الوقوع تحت طائلة القانون بتهمة التشهير.

لم يكن الأمر هَينا على أية حال كما يصف ذلك في رسالة لصديقته الكاتبة جورج صاند:

"- أنت لا تعرفين ما معنى أن يمسك المرء طوال يوم كامل رأسه بين يديه، ويعصر دماغه من أجل كلمة واحدة. بالنسبة لك تدفق الفكرة عريضة، مستمرة كالفيضان. أما لي أنا، فإنها قطرات شحيحة. علي أن أبني سدا كبيرا لأنتج منه شلالا. آه، لشد ما عرفتُ تباريح الأسلوب ".

ورغم مشقة الكتابة إلا أن فلوبير تمكن من إنهاء روايته، وكشف فيها عن ملاحظات تتسم بالدقة والعمق، وتحليل فريد لشخصية "إيما بوفاري"، تلك الخائنة التي حققت له الريادة والشهرة. لكن العقبات لم تنته بعد، حيث اشترط الناشرون تجريد القصة من واقعيتها، بإضفاء مزيد من اللمسات العاطفية على الأحداث، وتكليف لجنة مختصة بتنقيح الأسلوب والتخفيف من جرعة التحرر. لذا قرر فلوبير نشرها على حلقات في مجلة أسبوعية، غير أن الحلقة الأولى قوبلت برفض شديد من طرف الامبراطور نابليون الثالث، الذي مزق عدد المجلة وهدد بإغلاقها.

وحين يبدع الكاتب فإنه يهز بالضرورة أركان وضع سائد، ويأبى الاستسلام لقواعد متعارف عليها حتى وإن كانت خالية من الحس والمنطق. وفي حالة فلوبير فإن الأمر كان يقتضي محاكمة بتهمة إفساد الأخلاق والتهجم على تقاليد الأسر الشريفة!

عبّر الشاعر لامارتين، رغم عدائه لفلوبير، عن رفضه لهذه المحاكمة التي ليست سوى إهانة لشرف الأدب، وتحامل غير مبرر على رواية ستصبح يوما ما حجر الزاوية في الأدب العالمي الحديث. وصرَّح مارسيل بروست بأن فلوبير هو والد الرواية الحديثة، وأن الأدباء مدينون له. لقد شعر الجميع بأن فلوبير عَكَس بجرأة ذاك السأم من زيف العالم الرومانسي الذي يخفي آلام الحاضر ومشاكله، وعرض الحقيقة بأسلوب خال من التجميل اللفظي. وبفضل جرأته تحولت برجوازية عصره إلى "بوفارية"، تتصف بخداع الواقع والنفس، وتلهث خلف المشاعر الخيالية هروبا من قبح العالم وآلامه.

أمضى فلوبير خمس سنوات من الجهد الشاق ليؤلف قصته، وليبرهن على أن الواقعية ليست سردا ممسوخا أو تصويرا فوتوغرافيا بقدر ما هي خَلق فني لمجتمع يتحرك في لحظة ما من الحياة اليومية، وبأشخاصه العاديين جدا. أما وظيفة الكاتب فهي دقة الوصف، وانتقاء الجمل التي تحدث الأثر المطلوب لدى القارئ.

  ***

حميد بن خيبش

هذه خطوة فيها شيء من المجازفة بالنسبة لي، ذاك أني لأول مرّة أتعرّضُ فيها لإحدى روايات ماركيز الأكثر شُهرة / مائة عام من العُزلة"1"، بل وإنها المرة الأولى التي أعرض فيها قراءتي لرواية كاتب من أمريكا اللاتينية هو غابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي. نعم، إنها مُجازفة لأنَّ هذه الرواية بالغة التعقيد متشابكة في أحداثها كثيرة هي الأسماء التي وردت فيها وكثيرة كذلك أسماء المدن والأماكن والبيوت والطرقات. ثم  التنقلات السريعة من واقعة لأخرى ومن حدث لأخر غيره فضلاً عن تشابك ما هو واقعي بما هو فوق الخيال من خوارق وخرافات لا يمكن أنْ تحدث في عالمنا المرئي والمحسوس. فضلاً عن الشذوذ وتجاوز الأعراف والمألوف من عادات وطقوس. ف " خوسيه أركاديو بوينديا " يتزوج أخته ريبيكا بالتبنّي. حين قيل له إنها أختك أجاب: لا يهمني ذلك. وحين قيل له: هذا مخالف للطبيعة والقانون يحضره أجاب: أشخُّ مرتين على الطبيعة / الصفحات 117 و 118. و أوريليانو خوسيه يغازل ويتبادل القُبل مع عمّته أمارانتا / الصفحات 175 ـ 177. ثم نرى في نهاية الرواية أنَّ " أوريليانو " يغتصب خالته أمارانتا أورسولا وهي في عصمة زوج بلجيكي ثم يتزوجها بعد ذلك / الصفحات 476 ـ 478. لكنْ كانت مدينة أو قرية " ماكوندو " قلب ومركز أغلب أحداث الرواية. وغطّت الحرب الأهلية بين اللبراليين والمحافظين في بلد لا نعرف اسمه أجزاء كثيرة من صفحات هذه الرواية [أثار الكولونيل أوريليانو بوينديا اثنتين وثلاثين إنتفاضة مُسلّحة خسرها جميعاً. وكان لديه سبعة عشر ابناً ذَكَراً من سبع عشرة امرأة مختلفة / ص 129  بعد هذه التوطئة القصيرة والعجلى أعودُ لأشخّصَ أبرز خصائص وعلامات هذه الرواية:

1 ـ الخرافات والخوارق والمعجزات

2 ـ رمز الغجري الساحر ميلكياديس

3 ـ طغيان العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو

4 ـ ماركيز والعرب.

الخرافات والخوارق والمعجزات

تكادُ هذه الرواية أنْ تكون بغالبية أحداثها قصص خوارق وعالم من جن وجنيّات وسياحات في اللامعقول وقوى غيبية مجهولة تُحرّك البشر والصخر وتقرأ المجهول. السؤال: لماذا عمد هذا الروائي الكبير إلى مثل هذه الأساليب وهل كانت ضرورية سواء له ككاتب النص أو للنص المروي؟ ما كانت مقاصده قبل وبعد كل شئ؟ بقدر تعلق الأمر بي وعلى قدر فهمي للرواية فإني أستطيع القول بثقة إنَّ هذه الخوارق والمعجزات والخرافات كانت بمجموعها حاجات ووسائل وأساليب ضرورية للكاتب بالدرجة الأولى والأخيرة. وسائل تُلبّي حاجات نفسية وثقافية تضغط عليه بإلحاح فيتخذ من الخرافات واللامعقول والميتافيزيقا أقنعة تارةً وقنوات تصريف تاراتٍ أُخَر. وبصراحة مُبسّطة أقول: ما وجدتها ضرورية لبناء متطلبات النص ولا تأثيرَ لها على شروط ومتطلبات السرد والربط ما بين الحوادث ولم تُضفْ قوة إقناع إضافية يُحس القارئ بها فيزداد إلتصاقاً وشوقاً لمتابعة السرد. يستطيع القارئ الكريم حذف أيٍّ من هذه الخزعبلات ليتأكد أنها لم تكن ضرورية أبداً بل وفي أفضل حالاتها ما كانت إلاّ فضول كلام وهذيان وثرثرة. إذاً هي ضرورية للكاتب وليس للنص. الكاتب بحاجة ماسّة لها لا الكتاب. هل يتوجب علينا الجري وراءه مستجدين تفسيراته؟ كلاّ، لا نحن بالمجبرين على الإستجداء منه ولا هو بالمُجبر على الإستجابة والعطاء وتقديم الأجوبة التي نتوقع منه. لنسمع ما قال السيد ماركيز في مقدمة روايته الأخرى الأفضل في نظري والأروع أعني رواية " الحبٌّ في زمن الكوليرا ": [... أما ماركيز فإنه يقول في أكثر من مناسبة " الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبحَ فناً] و [الغرائبي يأخذني ولا يبقى من الواقع إلاّ أرض القصة]. وقال في مكان آخر عن مائة عام من العزلة [إنها تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع. كنتُ أودُّ التعبير عن الإرادة الواعية لا أنْ تعدم الواقع. ولكنْ علينا أنْ نُدركَ أنها لم تصالح الواقع / الصفحة 6].

في كلامه هذا تناقض كبير وإلاّ فكيف تكون الإرادة الواعية غير متصالحة مع الواقع؟ الإرادة الواعية هي التعبير الحي والأقوى عن الواقع وما الواقع إلاّ إرادة. ثم إنه يعترفُ أنَّ رواية مائة عام من العزلة تنتمي إلى أدب الهروب من الواقع ! لمن يتجه الكاتب إذا ما هرب من الواقع؟ أمامه عندئذٍ سبيل واحد منفتح على مصراعيه: الخرافات والخوارق والخزعبلات والإيمان بالسحر وقارئات الورق والكفوف والإيمان بسحر بعض الغجر من أمثال ميلكياديس الذي جعله الكاتب يرافقنا لعقود بعد موته فهو الغائب بالموت والحاضر برغبة الكاتب تطميناً لحاجات نفسية وعقلية يُحسُ هو بها لكنا لا نُحسُّ بها ولا نراها.

أسوق أمثلة ونماذج لهذه الخزعبلات التي لم أقتنعْ قطُّ بها ولا بجدواها ولا بأهميتها للأحداث التي فصّلها الراوي رغم قراءتي المتأنيّة لهذه الرواية الطويلة /  501 صفحة:

[.. ولم تعدْ أورسولا إلى تذكّر زخم تلك النظرة حتى يوم دخل فيه أوريليانو الصغير المطبخ، وهو في السن الثالثة من عمره، في اللحظة التي كانت ترفع قدراً تغلي عن الموقد وتضعها على المائدة فقال

الصغيرُ المُتردد وهو عند الباب: سوف تسقط. كانت القدر ثابتة تماماً في وسط المنضدة لكنها بدأت تتحرك فور إعلان الطفل ذلك، حركة لا رجوعَ عنها بإتجاه الحافة وكانها مدفوعة بآلية داخلية وتهشّمت على الأرض / الصفحتان 23 و 24]. كما سبق وأنْ قال الروائي ماركيز عن هذا الطفل ما يلي:

[... أما أوريليانو، أول كائن بشري وُلِدَ في ماكوندو فكان سيبلغ السادسة من عمره في آذار. وكان صامتاً ومنطوياً على نفسه. وقد بكى وهو في بطن أمّه وخرج إلى النور بعينين مفتوحتين. وبينما هم يقطعون له الحبل السُرّي كان يحرّك رأسه من جهة إلى أخرى ليتعرفَ على أشياء الغُرفة ويتفحّص وجوه الناس بفضول ودون دهشة / ص 23]

وكتب عن نفس الطفل هذا ما يلي:

[.. ولكنَّ عينيه، بالمقابل، صارتا مُجدّداً الجمرتين اللتين أخافتا مَن رأوهُ عند ولادته واللتين كانتا تحرّكان الكراسي بمجرد النظر إليها / الصفحة 294]. ثم كتب عنه وقد كَبُر وغدا الكولونيل أوريليانو بوينديا

[وفي صباح أحد الأيام وجد أورسولا ـ والدته ـ تبكي تحت شجرة الكستناء على ركبتي زوجها الميّت / الصفحة 295]. ثم كتب عن أب يحاول البرهنة على أنَّ قدرات الله غير محدودة [... حمل إليه الصبي الذي ساعده في القُدّاس فنجاناً من الشوكولاتة الكثيفة يتصاعد منه البخار فجرعه دون يأخذ نَفَساً. وبعد ذلك مسح شفتيه بمنديل أخرجه من كُمّه ومدَّ ذراعيه وأغمض عينيه وعندئذٍ طفا الأبُ نيكانور مرتفعاً اثني عَشَرَ سنتيمتراً فوق سطح الأرض. كانت وسيلة مُقنعة / الصفحات 104 و 105]. أيُعقل مثل الكلام؟ أصحيحٌ أنْ يرتفع شخص فوق الأرض بعد تناول فنجان من مشروب الشوكولاتة؟ أهذا دليل على وجود قوة خارقة لا نعرف ما هي تفعل المستحيل كأنْ تقهر قانون الجاذبية الأرضية فترفع بشراً فوق سطح الأرض ويبقى كذلك مُعلّقاً في الهواء؟ هل هذا دليل على وجود الرب؟ هنا بالطبع سخرية واضحة من دعاوى رجل الدين المسيحي الأب نيكانور وبرهانه على وجود الرب. قد نفهم مثل هذا الكلام على أنه نكتة ساخرة مُصممة ضد الدين وضد فكرة وجود إله خالق.

نقرأ في الصفحة 43 أنَّ الغجر جاءوا إلى قرية ماكوندو ببساط طائر كأداة تسلية [وقد نبش الناسُ الأرضَ، بالطبع، ليُخرجوا آخرَ نقودهم الذهبية ويستمتعوا بجولة طيران سريعة فوق بيوت القرية / ص 43].

ما تفسير هذه الخوارق والظاهرات غير المسبوقة وما أهميتها بالنسبة لسياقات نصوص الرواية؟ كيف يبكي طفلٌ وهو لم يزل في بطن أُمّه وهل في الإمكان سماع مثل هذا البكاء؟ نعم، نتابع حركات الجنين في شهريه الأخيرين في بطن أمه ولكن لا من أحد ادّعى سماع صوت جنين وهو في رحم والدته. المواليد الجُدد يبكون لحظة استنشاقهم الهواء الحر لأول مرة وهذا البكاء ضروري لإنفتاح الرئتين وتدشين عملية التنفس شهيقاً وزفيراً. تكلم الروائي الألماني كونتر هاس في رواية طبل الصفيح عن إنسان تأخر نموه بسبب حادثة سقوط تعرّض لها هذا الإنسان زمن طفولته. وربما لهذا السبب أو لغيره كان في مقدوره أنْ يُحطّم زجاج النوافذ والأبواب إذا ضرب على طبلة معلّقة في رقبته تتدلّى على صدره ورافق هذا الضرب إطلاق صرخات حادّة عالية. واضح مصدر هذه الحكاية.. ففي التوراة مثيل لها يقول إنَّ... إذا ضرب على طبله وتعالى صُراخه تنهارُ حصون مدينة أريحا.. ! خرافات وأمانٍ لا أكثر. في رواية مائة عام من العزلة غير القليل من أشباه هذه الخزعبلات.

أورسولا هي أم الطفل الخارق أوريليانو

مثال آخر له طبيعة أخرى مُغايرة وله ما يشابهه في مسرحيات شكسبير وخاصة هاملت ومكبث. أقصد ظهور أشباح القتلى غيلةً. ففي هذه الرواية يقتل رأسُ عائلة آل بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو المدعو خوسيه أركاديو بوينديا.. يقتل شخصاً وجّه له إهانة إتهمه فيها بالعجز الجنسي بطعنه في رقبته برمح. ما الذي حصل بعد مقتل برودينثيو أغيلار؟

[.. وفي ليلة لم تجدْ فيها أورسولا إلى النوم سبيلاً، خرجت إلى الفناء لتشربَ ماءً فرأتْ برودينثيو أغيلار إلى جانب الجرّة. كان شاحباً وبملامح شديدة الحُزن يحاول أنْ يسدَّ بسدادة من أوراق الحلفاء الثقب الذي في حنجرته..].... [وبعد ليلتين من ذلك رأت أورسولا، مرةً أخرى، برودينثيو أغيلار في الحمّام يغسل بأوراق الحلفاء الدم المتخثّر على عنقه. وفي ليلة أخرى رأته يتمشّى تحت المطر. تضايق خوسيه أركاديو بوينديا من رؤى زوجته وخرج إلى الفناء مُسلّحاً بالرمح. وهناك كان الميّت بملامحه الحزينة فصاح به خوسيه أركاديو بوينديا: إذهبْ إلى الجحيم. فكل مرة تعودُ فيها سأعودُ لقتلك من جديد. لم ينصرفْ برودينثيو أغيلار ولم يجرؤ خوسيه أركاديو على قذفه بالرمح. ومنذ ذلك الحين لم يعدْ يستطيع النوم / ص 33]. رأينا مثل هذه الرؤى في مسرحيات شكسبير فدم الأبرياء المسفوك ظُلماً لا ينفكُّ يؤرّق سافكيه القَتَلة ويؤنب الضمائر ويستصرخ شرف الإنسانية أنْ تهبَّ لأخذ الثأر. أردتُ القول إنَّ هذا الأسلوب قديم ومطروق ولا من جديد فيه.

لكنْ هل هو ضروري للرواية وتتابع أحداثها؟ ذلكمْ هو السؤال الذي قد نختلف كثيراً حوله.

الغجري الساحر ميلكياديس

قلتُ سابقاً إنَّ الروائي ماركيز كان شديد الحرص على إبقاء هذا الغجري في الرواية بالعرض وبالطول نجده إينما وليّنا متلبساً الأحداث مُخترقاً أنسجة القصص والسرد فما السرُّ في ذلك وما مغزى وأهمية هذا الشبح الذي فارق الحياة منذ أوائل صفحات الرواية؟ [.. وفي ما بعد ذلك، أكدَّ له غجرٌ آخرون أنَّ ميلكياديس قد مات فعلاً تحت وطأة الحُمّى في كثبان شواطئ سنغافورة، وأنَّ جثمانه قد أُلقي في أعمق مكان من بحر جاوا / الصفحة 26]. نمضي مع صفحات الرواية لنقرأ في الصفحات 90 ـ 91 ـ 92 أنَّ هذا الرجل ما زال حيّاً لكنه أخيراُ يموت في النهر غَرَقاً ! قُبيلَ موته غرقاً كان يردد عبارات من قبيل [لقد بلغتُ الخلود] و [إننا من ماء]، [لقد متُّ بالحُمّى على كثبان شواطئ سنغافورة].  صحيح أنَّ مؤسس قرية ماكوندو السيد خوزيه أركاديو بوينديا قد تأثّر بشخصية وخوارق الغجري الساحر ميلكياديس وصحيح أنه تعلّم منه سر تركيز أشعة الشمس بواسطة عدسة كما تعلّم منه صنعة الخيمياء / الكيمياء / لأجل مضاعفة الذهب أي زيادة تركيزه.. وقبل ذلك محاولة إستخلاصه من الأرض وما تحتها بالمغناطيس.. كل هذا صحيح لكن الساحر الميت منذ عقود ظلَّ سيّداً لبعض المواقف حتى بعد وفاة مؤسس القرية. جاء ذكره عدّة مرات في الصفحة 498 أي قُبيل ختام الرواية فماذا قيل عنه وما أهمية ذِكْره لعدد من المرات؟ أنقل ما كتب الروائي عنه، والكلام عن أوريليانو إبن أخت وزوج أمارنتا أورسولا:

[... لأنه صار يعرف عندئذٍ أنَّ قَدَره مكتوب في رِقاق ميلكيادس. وجدها سليمةً بين النباتات الخرافية والبرك المُدخّنة والحشرات المُضيئة التي أزالت من الغرفة كلَّ أثرٍ لمرور البشر على الأرض ولم يجدْ الهدوء ليُخرجها إلى النور، وإنما هناك بالذات، وهو واقف ودون أدنى صعوبةٍ، كما لو أنها مكتوبة بالقشتالية، تحت بريق الظهيرة الُمبهِر، بدأ يحلُّ رموزها بصوتٍ عالٍ. كانت تروي تاريخ الأسرة وقد كتبها ملكياديس بأدق التفاصيل وأتفهها، قبل مائة عام من وقوعها؟ لقد كتبها بالسنسكريتية وهي لغته الأم.... أما وسيلة الحماية الأخيرة وكان أوريليانو قد بدأ بتبنيها عندما أسلمَ نفسه لتشوش حب أمرانتا أورسولا فتكمن في أنَّ ميلكيادس لم يوردْ الوقائع مُرتّبة وفق زمن البشر المتعارف عليه وإنما ركّزَ قرناً كاملاً من الأحداث اليومية بحيث تتواجدُ جميعها متعايشة في لحظة واحدة.... / الصفحة 498]. هنا إذاً الجواب الشافي والدقيق عن تساؤلاتي حول الغجري الساحر ميلكيادس. إنه كتب تاريخ أسرة مؤسس قرية ماكوندو والجد الأعلى لعائلة بوينديا السيد " خوسيه أركاديو بوينديا " على مدى قرن كامل من الزمن ولكنْ جعل تفاصيل هذا التاريخ تتعايش في لحظة واحدة. وقد سبق وأنْ كشف أوريليانو بعض رموز الغجري ميلكيادس المكتوبة على بعض الرقاق والتي تقول ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل ) وهذا بالفعل ما قد حصل، فقد قضّى الجد المؤسس العديد من آواخر سني عمره مربوطاً إلى شجرة كستناء ضخمة  هناك كان يجلس ويأكل وينام تحت رعاية زوجه أورسولا. أما آخر السلالة، وهو نتاج زواج غريب، فقد جفَّ وافترسه من ثم النمل.

ثم نقرأ في آخر سطور هذه الرواية الطويلة ما يلي [... في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حلِّ رموز الرِقاق، وأنَّ كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أنْ يتكرر منذ الأزل إلى الأبد، لأنَّ السلالات المحكومة بمائة عام من العُزلة ليست لها فُرصة أخرى على  الأرض].

هل هي نبوءة ساحر غجري أو أنها واقعة ملموسة أم أنها حقيقة علمية؟

لقد جاء في الرواية ولعدة مرات ذِكر نبوءات أو تفسيرات نوستراداموس، فهل ما كتب الساحر الغجري في رقاقه عن تاريخ ومصير عائلة بوينديا كان أحد نبؤات نوستراداموس؟

العُهر والبغاء في مدينة ماكوندو

كثُر البغاء والبغايا واتسعت الدعارة وبيوتها مع تطور قرية ماكوندو التدريجي من مجرد قرية صغيرة بائسة إلى مدينة شهدت أولى معالم الحكومة والرأسمالية. ظهر فيها شاب إيطالي يعلم فتيات المدينة أصول الرقص ويبيع إسطوانات الموسيقى ثم يغدو خطيباً لإحدى بنات المؤسس. ثم يأتي القطار ومعه يأتي البريد الأسبوعي منتظماً.. ثم يأتي الكهرباء حتى يبلغ التطور الرأسمالي في هذه المدينة مستويات قريبة من الذروة بتأسيس شركة أصحابها أمريكان لزراعة وتسويق الموز. تأسست مع نشوء هذه الشركة طبقة عمالية بلغ تعدادها أكثر من ثلاثة آلاف عامل.

أصبح النقيصُ يواجه نقيضه: العمال الفقراء أمام الرأسمال. كانت الحكومة المركزية بالطبع مع الرأسمال تحميه وتدافع عنه بكافة الوسائل القانونية وغير القانونية على رأسها قوة الشرطة والسلاح والجيش. مع شركة الموز بدأت إضرابات العمال وبدأ القتل الجماعي للمضربين [أنَّ الجيش حاصر ثلاثة آلاف عامل وقتلهم بالرشاشات وحُملت الجثث في قطار من مائتي عَرَبة لتُرمى في البحر / الصفحة 491.. مثلاً]. ثم حلَّ الخراب وأُغلقت الشركة وهرب أصحابها كلٌّ إلى بلده.

هل لهذا التطور الرأسمالي التدريجي علاقة بسعة إنتشار البغاء في مدينة ماكوندو؟ الجواب كلاّ، كان البغاء موجوداً خاصة بوجود الغجر الموسمي، وكان هناك ما دامت كانت هناك بغايا.

ـ من أوائل مومسات قرية موكاندو شابّة اسمها بيلار تيرنيرا [كانت ضمن الهجرة التي تُوّجت بتأسيس ماكوندو، إقتادتها أسرتها لإبعادها عن الرجل الذي اغتصبها وهي في الرابعة عشرة وظلَّ يُحبّها حتى بلوغها الثانية والعشرين لكنه لم يُحسم أمره قط في إعلان علاقتهما أمام الملأ / ص 39]. سقطت تحت أعباء حرمانها ونكبتها بمن أحبّت تحت رحمة قوة إغراء الشاب خوسيه أركاديو إبن أورسولا البِكر فعاشرها وعاشرته حتى فاجأته ذات يو م بالقول [أنت الآن رجل بالفعل. ولأنه لم يفهم ما الذي تعنيه فقد أوضحت الأمرَ حَرفاً فحرفاً: سيكونُ لك ابن / ص 44]. بدل أنْ يتزوجَ منها [عقد خوسيه أركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47]. في غيبته ورحيله مع الغجر ولدت بيلار تيرنيرا وَلَداً وكان بالطبع ابنَ سِفاح ! أسموه كذلك خوسيه أركاديو.

سنقرأ في الصفحة 79 أنَّ هذه المرأة أنجبت إبنين آخرين من أبوين مجهولين ! وسنعرف أنَّ أورليانو قضّى ليلة وهو تحت حالة سكر شديدة مع هذه المرأة / ص 86، ثم تخبره فيما بعدُ أنها قد حملت منه وإنه سيعترف بما حملت ويمنحه اسمه / ص 97.

منذ هذه اللحظة بدأ نطاق الدعارة بالإتساع وكما يلي:

ـ حانوت كاتارينو

ما كان هذا الحانوت إلاّ نِزلاً أو منزولاً مخصصاً لممارسة الدعارة يُديره رجلٌ اسمه كاتارينو. نقرأ وصفاً أنموذجياً لما كان يدور هناك من سمسرة:

[.. ذهبَ أوريليانو ـ إبن أورسولا الثاني ـ إلى حانوت كاتارينو... وأمام باب في أقصى المكان يدخل ويخرجُ منه بعض الرجال كانت تجلس وتُهوّي بصمت إمرأة الكرسي الهزّاز البدينة. وكان كاتارينو الذي يضع وردةً من اللبّأد على أُذنه يبيعُ القادمين طاساتٍ من عصير قصب السُكّر المُخمّر ويتحينُ الفُرص ليدنو من الرجال ويضعُ يده حيثُ لا ينبغي له أنْ يضعها. في حوالي منتصف الليل صار الحرُّ لا يُطاق. وقد استمع أوريليانو إلى الأخبار حتى نهايتها دون أنْ يجد بينها خبراً يهمُّ أسرته. وكان يتأهبُ للعودة إلى البيت عندما أومأتْ له المرأةُ البدينة بيدها وقالت: أُدخلْ أنتَ أيضاً. لا يُكلّفكَ ذلك إلاّ عشرين سنتافو. ألقى أوريليانو قطعة النقود في الحصّالة التي تضعها البدينة بين ساقيها ودخل الحجرة دون أنْ يدري السبب. كانت المراهقة الخُلاسية بنهديها الشبيهين بضرع كلبة عاريةً على الفراش وكان قد مرَّ على الغرفة قبل أوريليانو في تلك الليلة ثلاثةٌ وستون رجلاً... / ص 68].

يتكرر ذِكرُ حانوت كاتارينو مِراراً في هذه الرواية لأنَّ مرتاديه كِثارٌ ومن مختلف فئات مجتمع مدينة ماكوندو كباراً ومراهقين عزّاباً ومتزوجين عسكريين ومدنيين. لقد ارتاده أوريليانو مرةً ثانية مع صديقيه / ص 85. كما ارتاده الكولونيل أركاديو / ص 139. العجيب أنَّ هذا حاول اغتصابَ أمّهِ بيلار تيرنيرا وما كان يعرف أنها أمُّه. حاول ذلك مراراً فوافقت لكنها خدعته إذْ اتفقت مع فتاة عذراء اسمها صوفيا قديسة الرحمة لقاء أجر سخيٍّ أنْ تلتقيه في الظلام في المكان والزمان المحددين ففوجئ بها وقد عرف أنها امرأة أخرى وطابت له وصارا يمارسان الحب يومياً وبشكل دائم.. و [في الفترة التي عُيّنَ فيها أركاديو قائداً مدنياً و عسكرياً للقرية أنجبا إبنة / ص 141].

هكذا كان مجتمع مدينة ماكوندو وكما وصفه الأب نيكانور رينا [.. ذُعرَ من الجدب الروحي لأهالي ماكوندو الذين يزدهرون في الرذيلة مُثبّتين إلى قانون السجيّة دون أنْ يُعمّدوا أبناءَهم أو يقدّسوا أيام الأعياد. فكّرَ أنه ليست هناك بقعة أرض بحاجة إلى بذرة الرب أكثر منها. وقرر البقاءَ أسبوعاً آخرَ ليُنصّرَ المختونين والوثنيين ويُشرّع حالات مساكنة المحظيات / ص 103].

بيترا كوتيس

تمثّلُ هذه المرأة نموذجاً آخرَ لحال مدينة ماكوندو ولوضع النساء بشكل عام فيها حيث المجون المنفلت والقصف واللهو والعبث والجنس المتعدد الأساليب والألوان وسيادة الخرافات واجتماع النقائض حيث الإلحاد والدين فضلاً عمّا دار من حروب أهلية استمرت لبضعة أعوام ثم تمرد عسكري كان قادة الإثنين رجالاً شباباً من عائلة بوينيدا. ما الغريب في قصة هذه السيّدة؟ كانت أرملة شابة وفي ظرف خاص كانت تضاجع أخوين في وقت واحد ظانّةً أنه واحدٌ نظراً للشبه الكبير بين هذين الأخوين. أُصيب كلاهما بمرض جنسي / زُهري لعله السفلس أو السيلان عالجاه وشفيا منه. هذا الأمر يدل بقوة أنَّ هذه ( السيّدة ) كانت تمارس الجنس مع غير الأخوين. أي أنها كانت هي الأخرى بغيّا. لكنَّ مصيرها في نهاية المطاف انتهى أنْ تكون عشيقة دائمة لأحد هذين الأخوين المدعو أوريليانو الثاني.. أحد أبناء وسليل عائلة بوينيدا. الغريب، ولا غرابة في القص الخيالي والعجائبي لما كان يدور في مدينة خُرافية قامت مِن وفوق لاشئ، أنَّ هذه السيّدة الأرملة ظلّت عشيقة للسيد أوريليانو الثاني حتى بعد زواجه بل وكان هذا يُقضّي أياماً وشهوراً معها في بيتها وبعلم زوجه السيّدة فرناندا [.. وكانت قناعته تزداد بأنَّ نجمه الطيّب لا علاقةَ له بسلوكه وإنما بتأثير خليلته بيترا كوتيس، وأنَّ لحُبّها فضيلة قلب نظام الطبيعة. وكان مُقتنعاً بأنَّ هذا هو سبب ثروته إلى حدّ أنه لم يُبعدْ بيترا كوتيس قطّ عن بهائمه وحتى عندما تزوّجَ وأنجب أبناءً واصلَ العيش معها بموافقة زوجته فرناندا / ص 233].

أشكال أخرى للدعارة في مدينة ماكوندو

ـ صبيّات الجوع والدعارة مقابل الطعام

" تُسمسرُ " قوّادة في بيتها على مجموعة من الصبايا صغيرات السن مُدقعات يمارسن البغاء مقابل القليل من الطعام تبيعه القوّادة لهن بما يتقاضين من نقود الزبائن لا أكثر. تبين هذه الصورة مدى الفقر والعَوَز والفاقة التي كانت سائدة في مدينة ماكوندو قبل خرابها وهجرة من هاجر منها وانمحاء أثر عائلة بوينيدا. نقرأ ما كتب ماركيز:

[في الأمسية التي ألقى فيها أوريليانو محاضرته عن الصراصير إنتهى النقاش في بيت البنات اللواتي يُضاجعنَ بدافع الجوع، وهو ماخور وهمي في ضواحي ماكوندو صاحبته قوّادة باسمة، مُعذّبة بهوس فتح أبواب وإغلاقها... وما أنْ يتلقين مبلغ البيزو وخمسين سنتافو حتى ينفقنه على رغيف خبز وقطعة جبن تبيعه لهنَّ صاحبة المحل / الصفحات 467 ـ 468].

ما سبب قول الروائي عن هؤلاء الصبايا إنهنَّ محض اختلاق وإنَّ محل الدعارة هذا لا وجودَ له إلاّ في المخيّلة وإنَّ  ذلك الطعام ليس حقيقياً / نفس الصفحتين مارتي الذِكْر؟ إنها خرافة مدينة اسمها ماكوندو قامت من العدم وستؤول بعد مائة عام إلى عدم ( أول السلالة مربوط إلى شجرة وآخرهم يأكله النمل / ص 498 ). كل شئ فيها غير طبيعي وناسها منحرفون يخالفون نواميس وقوانين الطبيعة السوية.

ـ السيّدات الفرنسيات

ورد ذِكْرُ السيدات الفرنسيات أكثرَ من مرّة في رواية ماركيز بنعوت شتى ليس بينها ما يُشيرُ إلى مزاولتهنَّ البِغاء [.. والشئ الوحيد الذي تبقّى من تلك المبادرة الفاشلة هو نفحة التجديد التي جلبتها السيّدات الفرنسيات، فقد بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليب الحب التقليدية وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو العتيق.. / ص 239]. حانوت كاتارينو هو منزول الدعارة الذي سبق ذكره مراراً.  هل نفهم من عبارة " وأودى حُسنُ معشرهنَّ بحانوت كاتارينو " أنهنَّ كذلك مومسات يمارسن البِغاء في دار خاص بهنَّ بطرق وأساليب فرنسية جديدة على عالم مدينة ماكوندو حتى أقفر حانوت كاتارينو وأقفل أبوابه بعد أنْ عرف زبائنه القدامى مزايا وحسنات منزول الفرنسيات؟ [بدّلنَ بفنونهنَّ الطبيعية أساليبَ الحب التقليدية / ص 239]. ورد ذِكرهنَّ في الصفحة 273 وفي الصفحة 274. خلا مرة واحدة فقط أسماهنَّ فيها مومسات [المومسات الفرنسيات / الصفحة 393]

ـ نساء وقوّادات بابليات !

ما كان في رأس السيد غابرييل غارسيا ماركيز إذْ ينعت مومسات وقوّادات بأنهنَّ بابليات؟ إنه لم يزر العراق والعراق في الزمن القديم هو بابل وبابل أكثر من بابل فالأولى كانت بابل المشرّع الأكبر حمورابي ثم بابل نبوخذّنصّر الكلداني ثم بابل اليوم وهي محافظة مركزها مدينة الحلة. هذا عرض شديد الإيجاز لتاريخ بابل يدفعني للتساؤل عن مغزى وهدف كاتب الرواية من نعته للبغايا والقوّادات بإنهنَّ بابليات؟! قد يقول قائلٌ إنه حرصي وغيرتي على بابل، بابل العراق وبابل حمورابي ونبوخذّنصّر ثم عراق اليوم البابلي وعاصمته مدينتي ومدينة أهلي وأجدادي: الحلّة. لا أنفي هذا أبداً وكيف أنفيه. لا أنصرف للجزئيات وبعض تفاصيل الحياة وما حصل في العراق لأكثر من نصف قرن من تطاحنات عقائدية ـ سياسية ثم مذهبية وحروب وغزو وحصار طويل ممُضٍّ قاتل ثم احتلال أدّت في بعض منعطفاتها إلى تشويشات وتشويهات وادعاءات يصعب دحضها حول سلوك بعض العراقيات [البابليات] خاصة في الكويت ومشايخ الخليج. نرى اليوم نظير ذلك مما تتعرضَّ له حرائر سوريا في بلدان اللجوء تركيا والأردن ولبنان. هل هذا ما قصده السيد ماركيز؟ لا، أبداً. إنه جدَّ بعيد عن العراق والخليج.. إنه رجل من كولومبيا في أمريكا اللاتينية ثم إنه ليس سلمان رشدي ! إذاً أية بابل كان قد عنى؟ عشتار آلهة الجنس والخصب والتناسل؟ بغايا معابد بابل يمارسن الجنس المقدّس؟ سمير أميس الملكة التي قيل عنها إنها كانت تعشق حصانها وكانت تمارس الجنس معه؟ الراجح أنَّ الرجلَ قد قصد بغايا المعابد اللواتي كنَّ يمارسن الجنس للتكاثر مجاناً لوجه الإله مردوخ.  أظنَّ أنَّ السيد ماركيز قد شطح وارتكب خطأً لا لزومَ له أبداً. البغاء أقدم مهنة في تاريخ البشرية ومع البغاء تأتي السمسرة والقوادات والقوادون وكان ولم يزل معروفاً ومنتشراً في كافة بقاع العالم فما الذي حدا به إلى حصر هذا الأمر ببابل ولم يذكر أثينا مثلاً أو روما؟ المهم... لقد ذكر الرجلُ بابلَ في عددٍ من المناسبات، قال في الصفحة 278  [.. وفي يوم أربعاء مجيد جاؤوا بقطار مُحمّل بمومسات غير معقولات، إناث بابليات بارعات بأساليب عريقة في القدم ومزوّدات بكل أنواع المراهم والأجهزة لإستثارة العاجزين وتنشيط الخجولين وإشباع نهم النهمين وتحفيز المتواضعين وتقويم غير السويين وإصلاح المتوحدين].

كما قال في الصفحة 462 ما يلي [... وإنَّ شركة الموز رحلت وإنَّ ماكوندو تنعم أخيراً بالسلام منذ سنوات طويلة. وقاده ذلك التجوال إلى حي التسامح المتردي حيث كانت تُحرقُ في أزمنة أخرى رزم من الأوراق النقدية لتنشيط رقصات الكومبيامبا، وتحوّلَ آنئذٍ إلى متاهة شوارع أشدّ كآبةً وبؤساً من الشوارع الأخرى، مع بعض القناديل الحمراء التي لا تزالُ مُضاءةً فيه، وقاعات رقص مُقفرة مُزيّنة ببقايا أكاليل زهرٍ حيث أراملُ لا أحدَ الحزيناتُ والبديناتُ والجدّات الفرنسيات والقوّادات البابليات، يواصلنَ الإنتظار إلى جوار الفونوغرافات]. كانت شركة الموز رمزاً لنشوء وتطور الرأسمالية في مدينة ماكوندو حيث حصل التضاد والتصادم الأعظم بينها وبين العمال ووقع إثرَ ذلك ما وقع من مقتل ثلاثة آلاف عامل من عمال هذه الشركة.

أما القناديل الحمراء فإنه رمزٌ معروف في مدن الغرب وأمريكا توضع أمام بيوت الدعارة لإرشاد وقيادة الزبائن إليها. كما توضع في البيوت الخاصة أمام حجرات السيّدات ليلاً في ساعات ممارسة الحب ـ الجنس مع عشّاقهن والرجال مع صديقاتهم.

إستفزني ذكرُ بابلَ وأنا بابلي ! يا ماركيز / حذارِ... إبتعد عن بابل. تجنّب نيران بابل وغضب عشتار ومردوخ.

ماركيز والعرب

أخيراً، هل كان السيد ماركيز ضد العرب في روايته هذه؟  يصعب البت في هذا الأمر. ذكرَ العرب في مواضع شتّى تبدو لأول وهلة محايدة لا لونَ ولا طعمَ لها لكني... نعم لكني... أظنُّ، وبعض الظن إثمٌ، أنَّ فيها رائحة مشبوهة لكنها خجولة حَذِرة لأسباب معروفة. ذكر العربَ بأوصاف لا تُشرّفُ أحداً من العرب وخلطهم بالترك إذْ أطلق على شارعهم اسم شارع التُرك ! لا أتدخلُّ فيما قال لكني أكتب حرفياً ما قال عنهم وأترك الحكم للقرّاء الكرام.

[.. كانت ماكوندو آخذة بالتبدّل فالناس الذين جاؤوا مع أورسولا اكتشفوا جودة أرضها وموقعها الممتاز بالنسبة لمنطقة المستنقعات، وسرعانَ ما تحوّلتْ الضيعة التي كانت صغيرة ومتواضعة في أزمنة أخرى إلى قرية تعجُّ بالنشاط. فيها متاجر وورش حِرفية وطريق تجاري دائم جاء عَبْرَه أولُّ العربِ الذين ينتعلون البابوجات ويُعلّقون الأقراطَ في آذانهم ليقايضوا عقوداً من الزجاج ببغاوات / الصفحتان 51 ـ 52].

هل كان العربُ الأوائل يضعون أقراطاً في آذانهم؟ ذلك ما لا أعرفه وما لم أسمعْ به. غير أنَّ أمراً أفرحني ذاك أنَّ هؤلاء العرب الأوائل ما كانوا يمشون حُفاة الأقدام بل كانوا [ينتعلون البابوجات]. هذا أول ذِكْرٍ للعرب في هذه الرواية.

في الصفحة التالية 53 جاء ذكرُ العرب كما يلي:

[.. فرضَ خوسيه أركاديو بوينديا خلال وقت قصير حالة من النظام والعمل لم يسمحْ فيها إلاّ بتصريحٍ وحيد: إطلاق سراح الطيور التي كانت مُنذُ تأسيس ماكوندو تبعثُ المرح في الجو بألحانها، واستبدالها بساعات موسيقية في كل البيوت وهي ساعات جميلة من الخشب المشغول بمهارة، كان العربُ يبادلونها بالببغاوات.. / ص 53]. العربُ إذاً تجّار يُقدّرون أهمية وقيمة الطيور ولا سيّما طيور الببغاء الزاهية في ألوانها والعجيبة في قدرتها على نطق بعض الكلمات البسيطة.

ما قال ماركيز أيضاً عن العرب؟  قال في الصفحة 73 عنهم ما يلي:

[كان دون أبولينار موسكوتي الحاكم قد وصلَ إلى ماكوندو دون ضجّة ونزلَ في فندق يعقوب الذي أقامه أحدُ أول العرب الذين جاؤوا يقايضون بضائعهم التافهة بالببغاوات]. كما ورد ذِكْرُ العرب في الصفحة 400   كما يلي [.. وكان شارع الأتراك قد عاد مُجدداً إلى ما كان عليه، شارع الأزمنة التي كان فيها العربُ ذوو الأخفاف والأقراط في آذانهم يجوبون العالم مُستبدلين بضائعهم الرخيصة بالببغاوات]. غير أنَّ الروائي ماركيز مدح العربَ مرتين، نقرأ ما قال عنهم في الأولى [.... لكنَّ عربَ الجيل الثالث كانوا جالسين في المكان نفسه والوضع نفسه الذي جلس فيه آباؤهم وأجدادُهم صامتين، رابطي الجأش، عصيين على الزمن والكارثة، مُفعمين بالحياة أو الموت مثلما كانوا بعد وباء الأرق وحروب الكولونيل أوريليانو بوينديا الإثنتين والثلاثين. وكانت تُثير الذهولَ متانة معنوياتهم أمام أنقاض مناضد اللعب وعربات المأكولات المقلية وأكشاك الرماية على الهدف / ص 401]. وقال في المرة الثانية عنهم [... ربما كانت بيترا كوتيس هي الوطنية الوحيدة التي لها قلب عربي. فقد رأتْ وقائعَ الدمار الأخيرة في حظائرها وإسطبلاّتها التي جرفتها العاصفة ولكنها تمكّنت من إبقاء البيت مُنتصباً / ص 401]. هل رأى ماركيز عرباً في جمهورية كولومبيا يضعون في آذانهم أقراطاً وينتعلون بابوجات ويقايضون بضاعة رخيصة بطيور الببغاء؟ جميل منه أنْ يعترف لهم بالصمود أمام الكوارث وبفضيلة متانة المعنويات. لا أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في كولومبيا لذا ليس في الوسع مناقشة ماركيز أو محاججته أو دحض ادعاءاته حول ما قال في العرب. لماذا يُسمّي الشارع الخاص بهم شارع التُرك؟ بالمناسبة... في مدينة ميونيخ الألمانية شارع حيوي معروف يحمل اسم شارع التُرك

Türkenstrasse

كما أنَّ في فنلندا مدينة كبيرة شهيرة اسمها توركو !

خلاصة إستعراضية سريعة:

يستطيعُ أيُّ قارئٍ لرواية مائة عام من العزلة أنْ يقولَ عنها إنها استعراض مُفصّل لتاريخ عائلة خوسيه أركاديو بوينديا، رأس عائلة بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو التي تطورت فغدت مدينة ثم درست بفعل عوامل كثيرة فصّلها الراوي بدقّة. نظرة عجلى على شخوص هذه العائلة تترك لدينا الإنطباع القوي أنَّ جميعَ أفراد هذه العائلة بكافة أجيالها المتعاقبة ( مع إستثناءات قليلة ) هم ليسوا أسوياء حسب القواعد المعروفة للجنس البشري. فهم بين مجنون أو شاذ جانح أو منحرف عقلاً وسلوكاً. أستعرضهم واحداً واحداً:

الرأس والمؤسس خوسيه أركاديو بوينديا /  كان بفطرته ضد أي شكل من أشكال الحكومة وكان شعوره وقراره أنه هو سيّد وحاكم ومؤسس مدينة ماكوندو. لم يُخفِ ذلك أبداً فقد قال للحاكم الذي أرسلته الحكومة المركزية بصريح العبارة [أنتَ وأنا سنبقى عدوين / ص 76].

ـ إنصرف إلى المقامرة بصراع الديّكة

ـ قتل شخصاً وجّه له إهانة بطعنة رمح قاتلة

ـ مضى عام على زواجه دون أنْ يستطيع ممارسة حقوقه الزوجية مع زوجه أورسولا إلاّ في اليوم الذي قتل فيه غريمه إذْ ( دخلَ خوسيه أركاديو بوينديا إلى غرفة النوم حين كانت امرأته تقوم بارتداء بنطال العفّة فأمرها وهو يهزُّ الرمحَ في مواجهتها " إخلعي هذا " ولم يخامر الشكُّ أورسولا في تصميم زوجها / ص 32 ). [.. وانطلقت الشائعة بأنَّ أورسولا ما زالت عذراء بعد سنة من زواجها لأنَّ زوجها عِنّين / ص 31].

ـ شغل نفسه في محاولات لصنع أو إستخلاص أو تركيز الذهب / إذا لم تخشَ اللهَ فاخشَ المعادن.. هذا ما قال لإبنه أوريليانو.

ـ إنتهى أمره إلى مصير غريب إذْ دأب على قضاء وقته جالساً أو نائماً تحت شجرة كستناء بل ومن ثمَّ ربطوه بحبل إلى جذع هذه الشجرة.

ولده البِكر خوسيه أركاديو /

ـ عاشر امرأة تُدعى بيلار تيرنيرا ثم تركها ليلتحق بالغجر [كان يوم خميس وفي ليلة السبت عقد خوسيه اركاديو خرقة حمراء حول رأسه ورحل مع الغجر / ص 47]. أنجبت منه في غيابه طفلاً كفله جده وجدته وأسموه خوسيه أركاديو لكنهم بسّطوا الإسم فصاروا ينادونه أركاديو. هذا إذاً إبنُ سفاح.

ـ تزوج من ريبيكا، أخته بالتبني. وهذه لم تترك عاداتها القديمة زمن طفولتها إذْ بقيت تمصُّ اصبعها وتأكل الطين والتراب وتحتفظ في كيس عظام أبيها الراحل.

الإبن الثاني الأصغر هو أوريليانو /  تزوّج الطفلة ريميديوس، إبنة الحاكم الصغرى. خطبها حين كانت ما زالت ( تبول في فراشها )... وتزوّجها لدى ظهور أولى علامات بلوغها. كان فارق العمر بينهما كبيراً. ماتت ريميديوس وهي حامل مسمومة عن طريق الخطأ فالسم كان أصلاً مُعدّاً لغيرها، لريبيكا فسلمت هذه وماتت تلك.

ـ إنضمّ إلى صفوف الثوّار اللبراليين ضد الحكومة وحزب المحافظين وصار يُسمّى الكولونيل اوريليانو بوينديا. [أثار اثنتين وثلاثين انتفاضة مُسلّحة خسرها جميعها. وكان لديه سبعة عشرَ ابناً ذكراً من سبع عشرة امرأة مُختلفة أُبيدوا واحداً بعد الآخر في ليلة واحدة قبل أنْ يُكمل أكبرهم خمساً وثلاثين سنة / ص 129].

ـ [رفضَ المعاش التقاعدي مدى الحياة بعد أنْ انتهت الحربُ وعاش حتى الشيخوخة من الأسماك الذهبية الصغيرة التي يصنعها في مشغله في ماكوندو / ص 129].

أمارانتا.. الإبنة الوحيدة لأورسولا وخوسيه أركاديو بوينديا /  أمارانتا أكثر أفراد هذه العائلة شذوذاً.

ـ أحبّت خطيب أختها الإيطالي وكان قرارها الأكيد أنْ تحول دون زواجهما [.. لكنها عاهدتْ نفسها بأنَّ ريبيكا لن تتزوج إلاّ بالمرور على جثّتها / ص 89]

ـ  حاولت قتل أختها المُتبناة، ريبيكا، بالسم لكنَّ السم أخطأ طريقه فصار من  نصيب ريميديوس الجميلة زوج شقيقها أوريليانو خوسيه.

ـ أحرقت كفها ثم لفّته بكمّادات سود لازمت كفّها طوال حياتها.

ـ  رفضت عروض الزواج وبقيت عزباء حتى آخر العمر.

ـ شرعت لفترة بمغازلة ابن أخيها وبادلته القُبل بل وكانا يتحممان عاريين معاً. يبدو أنَّ ابن أخيها كان عازماً إما على ممارسة الجنس معها أو الزواج منها. سأل مرةً [هل يُمكن للمرء أنْ يتزوجَ من عمّته؟ فأجابه أحد الجنود: ليس ممكناً فحسب، بل إننا نخوضُ هذه الحرب ضد الخوارنة كي يستطيع أحدنا الزواج من أُمّه نفسها / ص 184].

[كانت تقولُ له وهي مُحاصرة بكلاب صيده: أنت وحش. ليس صحيحاً أنه يُمكن عملَ هذا مع عمّة مسكينة إلاّ بالحصول على موافقة خاصة من البابا. فيعدها أوريليانو خوسيه بأنْ يذهبَ إلى روما ويعدها بأنْ يجتازَ أوربا زاحفاً على ركبتيه وأنْ يُقبّلَ خُفَّ الحِبر الأعظم لمجرّد أنْ تُنزل هي جسورها المُعلّقة / 184 ـ 185].

رأي أخير

لا يشكُّ أحدٌ في قدرات الروائي غابرييل غارسيا ماركيز الكتابية وعلى رأس هذه القُدرات، لا الخيال الجموح المُنفلت حتى إلى ما وراء المعقول والمعروف، إنما الغوض عميقاً في التفاصيل بصبر لا مثيلَ له. ثم، إلى جانب ذلك وربما قبله.. قدراته العجيبة في التمهيد للأحداث. إنه لا يضع الواقعة أو الحدث أمام القارئ مباشرة بل يُمهد لها تمهيداً منطقياً مُقنعاً قويّاً مُعززاً بالحجج المنطقية التي تجعل قارئه مُستسلماً لما يقول ومؤمناً بما يقول. قلّة من الروائيين والكتاب مّنْ له هذه القدرات التي لا تتوفر إلاّ في كبار الموهوبين. إنه يعرف كيف ومتى يتسلل إلى قلب وعقل القارئ ليسحبه معه إلى حيثُ يُريد. في هذه الرواية الكثير من الخرافات وقد سبق وأنْ عرضتُ نماذجَ منها. بل ويبدو لي أنَّ الرواية أصلاً هي نوعٌ من أنواع القص الخُرافي حيث يمتزج السحر بالخوارق. كما يبدو أنَّ ماركيز قرأ كتاب ألف ليلة وليلة إذْ ذكرَ البساط السحري الطائر ومصباح علاء الدين دون أنْ يذكر علاء الدين [.. وقصّة الصيّاد الذي طلب من جاره أنْ يُعيره قطعة رصاص لشبكته وكافأه بعد ذلك بسمكة وجد ماسة في بطنها، وقصّة المصباح الذي يُلبّي الرغبات والسجاجيد التي تطير / ص 226]. أسلوب هذه الرواية شيّقٌ متين البنيان لا ثغرات فيه ولغة الرواية لغة واضحة لا تعقيد أو عُسرة فيها ومستقيمة بدون تعرّجات وفذلكات. ومن مزايا السيد ماركيز تمكّنه من تصوير الحب والجنس والبورنو بشكل لا أحسبُ أنَّ أحداً من كتاب الرواية يستطيع أنْ يتفوق عليه. بالطبع إنه يكتب بما لديه من تجارب في هذه الميادين. كما أنه بارع في شؤون الحرب وقضايا الصراع الطبقي الذي حصره في النزاع الدموي بين حزب ليبرالي وآخر محافظ.

عندي قناعة أنَّ رواية ماركيز الأخرى " الحب في زمن الكوليرا " (2) أفضل من رواية مائة عام من العُزلة. لستُ بصدد عقد مقارنة تحليلية مُفصّلة بين الروايتين فذلك أمر آخر قد يقومُ به غيري.

***

د. عدنان الظاهر

نيسان 2013

..........................

غابرييل غارسيا ماركيز / مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الخامسة 2012.

(2) غابرييل غارسيا ماركيز / الحب في زمن الكوليرا، ترجمة صالح علماني. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت الطبعة الثالثة  2004.

 

تُعْتَبَر رواية مِئة عام مِن العُزلة (1967) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927_ 2014 / نوبل 1982) مِن أهَمِّ الأعمالِ الأدبية العالمية على الإطلاق، حَيْثُ يَرْوي سِيرةَ عائلة بوينديا على مَدى عِدَّة أجيال في مَدينة خيالية تُدْعَى ماكوندو. وَتَعتمد الرِّوايةُ على أُسلوب الواقعية السِّحْرية، حَيْثُ يَمتزج الواقعُ بالخَيالِ ضِمْنَ إطارٍ أدبيٍّ حَالِمٍ.

تُمثِّل الرِّوايةُ إعادةَ تَفْسيرٍ للتاريخِ الكُولومبي، حَيْثُ تَطْرَح أفكارًا جديدةً في كَيفيةِ تأويلِ الأحداثِ اليومية، وَالوَقائعِ الحياتية، وَرَبْطِ البُنى المَعِيشية الخُرافية بِالدَّهْشَةِ العَقليةِ والانبهارِ الوِجْدَانيِّ، وَالهُروبِ مِنْ ضَغْطِ الواقعِ الماديِّ إلى صِناعةِ عَالَمٍ غَرائبيٍّ قادر على إثارةِ الأسئلةِ المصيرية، وتَكوينِ التَّأمُّلاتِ العميقة. وهَكذا يَتِمُّ تَشييدُ فَلسفةِ الحِكاياتِ عَلى الذُّهُولِ وخَلْطِ السِّحْرِ بالواقعِ، والانتقالِ مِنْ حُلْمٍ إلى حُلْمٍ في فَضَاءَاتٍ لُغَوِيَّة، والقَلَقِ مِنْ خَسَارَةِ الحُلْمِ في ظِلِّ التَّغَيُّرَاتِ المُتَسَارِعَةِ في الزَّمَانِ الافتراضيِّ والمَكَانِ الخَيَالِيِّ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى نَقْلِ الأحكامِ العقليةِ والأفعالِ الاجتماعيةِ مِنْ رَتَابَةِ الحَياةِ اليومية إلى الحَقيقةِ الكَامنةِ في التَّأمُّلِ الرُّوحِيِّ والتَّفسيرِ المَادِيِّ والتَّجْرِبَةِ الإنسانية.

إنَّ القَضايا المُخْتَلِطَةَ في التاريخِ، وَالمَسَائِلَ المُتَشَابِكَةَ في الحَضَارَةِ، تُشكِّل سُلطةً ذات طبيعة تَرَاتُبِيَّة عَلى الصَّعِيدَيْن: العائليِّ والمُجْتَمَعِيِّ، وتُمثِّل هُوِيَّةً ذات طبيعة مَركزية عَلى المُسْتَوَيَيْن: المَعنويِّ والماديِّ. وهَذه الأمُورُ مُجْتَمِعَةً تَتَجَسَّدُ في عائلة بوينديا في كُلِّ أجيالِها، وتَفاصيلِ حَيَاتِهَا، وَتَحَوُّلاتِ أفكارِها، ومَسَارَاتِ أحلامِها. وهَذه العَائِلَةُ الخَيَالِيَّةُ المُتَصَوَّرَةُ ذِهْنِيًّا وأدَبِيًّا، صَنَعَتْ أُسْطُورَتَهَا الخَاصَّة في اللغةِ المُدْهِشَةِ السَّاحِرَةِ، والأُسْلُوبِ المُحْكَمِ الجَذَّابِ. واللغةُ كَمَادَّةٍ خَام، والأُسْلُوبُ كَتَيَّارٍ حَامِلٍ للحِكَايَاتِ المُتَشَعِّبَةِ، كِلاهُمَا يَقُومُ عَلى دِقَّةِ الوَصْفِ وَالبَرَاعَةِ في اقْتِنَاصِ اللحظةِ الإبداعية.

والمَلحمةُ السَّرديةُ التي قَدَّمَهَا ماركيز تَستند إلى إضفاءِ السِّحْرِ عَلى عناصر الواقع، بشكلٍ مُستمِر ودائم، وُصُولًا إلى مَنظومةٍ أدبية خُرافية تَبتكِر الخَيَالَ، وتَجْعَلُهُ حَيَاةً مُعَاشَةً، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صِناعةِ عَالَمٍ أُسْطُورِيٍّ، يُنتج الأوهامَ، ويُصَدِّقُهَا، وَيَدْفَع القارئَ إلى التعاملِ مَعَهَا بِوَصْفِهَا حَقَائق تَجَسَّدَتْ يَوْمًا مَا عَلى أرضِ الواقعِ. وهَكذا تُصبح الأخْيِلَةُ حَيَوَاتٍ مَحسوسةً، وتُصبح الأساطيرُ وَقَائع مَلْمُوسة. وكُلُّ هَذا مِنْ أجْلِ تَفكيكِ هَياكلِ الطبيعة البشرية، وإرجاعِها إلى الجُذورِ الفَلْسفيةِ الأوَّلِيَّة، والأنْوِيَةِ التاريخية البِدائية، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي، وَالأحلامِ المَقموعةِ، والذكرياتِ المَنْسِيَّة، وَالرَّغَبَاتِ المَكبوتة.

وَطَرَائقُ السَّرْدِ المُتَشَعِّبِ، وَالتَّسَلْسُلُ الزَّمَنِيُّ المُعَقَّدُ، وَشَبَكَةُ الشَّخصياتِ المُتَدَاخِلَةِ، هِيَ الأُسُسُ الفِكرية في الرِّواية، التي تُرَتِّب الفَوْضَى، فَوْضَى المَشاعرِ، وَفَوْضَى الصِّرَاعاتِ التاريخية، وَفَوْضَى الأحلامِ غَيْرِ الواقعية، وَفَوْضَى خَيْبَاتِ الأمَلِ، وَفَوْضَى الأحزانِ التي تَرْبِطُ المَاضِي بالحاضرِ. وكَمَا أنَّ طبيعةَ الأحكامِ تُحدِّد مَاهِيَّةَ الأفعال، كذلك تَرتيب الفَوْضَى في العَمَلِ الأدبيِّ يُحدِّد الأدوارَ الاجتماعية، ويُعِيد تَعْرِيفَها إبداعيًّا، مِنْ أجْلِ كَسْرِ العُزلةِ المَفروضة عَلى مَشاعرِ الألَمِ، والتَّمَرُّدِ عَلى الواقعِ. وكَمَا أنَّ الإنسانَ لا يَختار أبَوَيْه، كذلك لا يَختار الزَّمَانَ والمَكَانَ اللَّذَيْن يَعِيش فيهما، وهذا يَعْكِسُ أهميةَ الانقلابِ عَلى الواقعِ، وصِناعةِ واقعٍ جَديد، عَن طَريقِ تَفْعِيلِ الأحلامِ، وتَجذيرِ الخَيَالِ، وَبَعْثِ السِّحْرِ في الكَلِمَاتِ وَالأحداثِ والمَوَاقِفِ. وهذه هِيَ فَلسفةَ الواقعية السِّحْرية التي انْتَشَرَتْ في أدبِ أمريكا اللاتينية خِلال السِّتينيات والسَّبعينيات مِنَ القَرْن العِشْرين، وَشَكَّلَت الحركةُ حَدَثًا أدبيًّا هامًّا، وَنَقْلَةً نَوْعِيَّة جَديدة في عَالَمِ الإبداعِ الأدبيِّ، وَقَدْ قَادَهَا كُتَّابٌ حَطَّمُوا القواعدَ التقليدية للكِتابةِ، وامتازوا بالجُرأةِ والزَّخرفةِ والتَّنميقِ وإطلاقِ العِنَانِ لِحُرِّيةِ الخَيَالِ، والمَيْلِ إلى كُلِّ مَا هُوَ تَجْريبي وذُو طَابَع سِيَاسِي، مِثْل:غابرييل غارسيا ماركيز مِنْ كُولومبيا، وماريو فارغاس يوسا مِنَ بيرو، وخوليو كورتاثر مِنَ الأرجنتين، وكارلوس فوينتس مِنَ المَكسيك.

وَمِثْلَمَا اخْتَرَعَ الروائيُّ الأمريكيُّ ويليام فوكنر (1897 _ 1962 / نوبل 1949) مدينة جيفرسون الخَيَالِيَّة، للحَديثِ عَنْ مَسْقَطِ رَأسِه في الجُنوبِ الأمريكيِّ، وَوَصَفَ مِنْ خِلالِهَا تَوَالي الأجيالِ التي شَهِدَتْهَا، اخترعَ ماركيز مَدينةَ ماكوندو الخَيَالِيَّة، لِتَكُونَ شَبيهةً بِمَدينة أراكاتاكا، التي وُلِدَ فِيها في شَمالِ كولومبيا، لِيَجْعَلَ مِنها صُورةً لِكُولومبيا، بَلْ وَحَتَّى لِدُوَلِ قَارَّة أمريكا اللاتينية. وهذا يَقُودُ إلى مَوضوع مُهِم، وَهُوَ تأثير فوكنر في ماركيز، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ماركيز عَلَنًا في خِطاب قَبوله لجائزة نوبل للآداب (1982) بالإشارةِ إلَيْهِ قَائِلًا: (أُسْتَاذي ويليام فوكنر). وَمَثَّلَتْ بعضُ المُفْرَدَاتِ والمواضيع في أعمال فوكنر، مِثْلَ الغُمُوضِ والبَحْرِ وَثَقَافَةِ الكاريبي والعُزْلةِ، قِيَمًا أسَاسِيَّة في روايات ماركيز. وَقَدْ قال ماركيز في حديث صَحَفِيٍّ: (إنَّ مُشْكلتي لَمْ تَكُنْ في كَيفيةِ تَقْلِيدِ فوكنر، لكنْ في كَيفيةِ تَدْميره، كانَ تأثيرُه يَشُلُّ حَرَكَتي). وفي حَديثٍ آخَر: (إذا كانتْ رِوَاياتي جَيِّدة، فذلكَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أنَّني حاولتُ أنْ أتجاوزَ فوكنر في كِتابةِ مَا هُوَ مُستحيل، وَتَقْدِيم عوالم وانفعالات، يَستحيل أنْ تُقَدِّمَهَا الكِتابةُ والكَلِمَات مِثْل فوكنر، ولكنْ لَمْ أستطعْ أنْ أتجاوزَ فوكنر أبدًا، إلا أنَّني اقتربتُ مِنْه).

***

إبراهيم أبو عواد

 

قراءة في أفق الشعر الوجداني وتحوّلات المعنى في لغته الحُبّية

يمثّل الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي أحد الأصوات الشعرية التي تجسّد في كتابتها توتّر الوجد بين الداخل والكون، بين الذاتي والعالمي، حيث تتجلى القصيدة عنده كضرب من الانكشاف الأنطولوجي المضمّخ بماء الحب، لا كفعل لغوي فحسب، بل كإزاحة للرؤية وتحويل للغة إلى طاقة كشف. في قصيدته "لأنك أنت" يفتح السرساوي أفقًا من الوجد الخالص الذي يزاوج بين الإنساني والطبيعي، بين الحب والكينونة، بأسلوب شعري ينأى عن المباشرة ليتوسل الرمز والتكثيف والتجريد الحسي.

أولًا: جدلية الذات والآخر — من الهوية إلى الذوبان:

العنوان نفسه "لأنك أنت" يشكّل جملة شرطية ناقصة، ما يضمر أن القصيدة كلّها هي جواب ذلك الشرط. هذه البنية المعلقة تمنح النص كثافة وجدانية وتفتح إمكانات متعددة للتأويل. فـ"أنت" هنا ليست فقط ضمير المخاطب، بل هي مطلق الحضور، قد تكون الحبيب/الآخر، وقد تكون الكينونة/المطلق، وقد تكون صورة الذات وقد انعكست في الآخر.

إن الشاعر ينطلق من "أنت" لا كطرف خارجي، بل كشرط أولي للوجود وللإدراك:

 "لأنك أنت / الساعة خارج الوردة / خارج العطر المسفوح على الأعشاب"

يُخرج السرساوي الزمن من معناه الميكانيكي، ليجعله توقيتًا شعوريًا مرتبطًا بالحب. "الساعة" لم تعد وحدة لقياس الوقت، بل لحظة وجودية متجاوزة "للوردة" و"العطر"، كأنّ الحب هنا يفكّك العلامات الحسية ليستعيد المعنى الأصيل للوجود..

ثانيًا: اللغة الشعرية كفعل انبثاقي:

يعتمد سرساوي على الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلالي، حيث تتراصف الصور الشعرية في توليفات غير مألوفة، تصنع انزياحات لغوية تعبّر عن التوتر بين الداخل والخارج:

 "يخرج من كفيك المطر / سرب دروب ظامئة / وشجر يتوجع".

الصورة هنا تتجاوز الاستعارة التقليدية، لتقيم علاقة بين الجسد (الكف) والطبيعة (المطر، الدروب، الشجر). لا حضور لمخاطب خامل، بل لكائن فاعل، خالق، يسقي الكون بفيضه، ويستدرج الظمأ إلى الاكتمال. في هذا السياق، يصبح الآخر (أنت) كينونة فياضة بالمعنى، مركزًا كونيًا تتجاذب نحوه العناصر.

ثالثًا: السفر كاستعارة للبحث عن الذات

في قوله:

"كم اكتمل الآن بك / كم احتاج السفر إليك"

يتحوّل الحبيب إلى وجهة روحية، إلى اكتمال وجودي يتوق إليه المتكلم. "السفر" ليس حركة مادية، بل تعبير عن التوق الأنطولوجي نحو الاندماج، وكأن الهوية لا تكتمل إلا بالآخر، بما يحيل إلى تصوّر هيغلي للاعتراف: أن الذات لا تكتمل إلا عبر الآخر.

رابعًا: انكسار الزمن وتجاوز الواقعي

"صفير دمه المشع على المقاعد / والهمس الذي أسقط كرة العالم / بقبلة واحدة"

تشكّل هذه الصورة إحدى أكثر مواضع النص كثافة وغرابة. هنا يتحول "الهمس" إلى قوة كونية قادرة على "إسقاط" العالم، ليس عبر العنف بل عبر الحب. تتلاشى الحدود بين الخاص والعالمي، بين ما هو حسي وما هو ميتافيزيقي، فيصبح "القبلة" حدثًا كونيًا، أشبه بما يسميه باشلار بـ"الصورة الجوهرية" التي تحرّك فينا مخيلة العالم.

خامسًا: تفكيك مفهوم البداية — الحب بوصفه أصلًا

تبلغ القصيدة ذروتها في ختامها:

"لأنك أنت / في البدء كان الحب"

هنا يستعيد الشاعر جملة الكتاب المقدس "في البدء كان الكلمة"، لكنه يستبدل "الكلمة" بـ"الحب"، مما يشير إلى تأويل وجودي مغاير: الحب ليس عاطفة عابرة بل أصل الكينونة. بهذا التوليف، يقيم الشاعر فلسفة شعرية ترى في الحب قوة الخلق والبدء، لا فقط انفعالًا ذاتيًا.

سادسًا: تحليل الأسلوب والدلالة الجمالية:

1. الأسلوب:

تتسم القصيدة بلغة شعرية تعتمد على المجاز والانزياح.

لا وجود لقافية أو وزن تقليدي، مما يضعها في إطار الشعر الحر الحداثي.

التكرار (خاصة عبارة "لأنك أنت") يمنح النص إيقاعًا داخليًا ويُرسّخ البنية الدائرية للخطاب الوجداني.

2. الفضاء الدلالي:

الطبيعة (السماء، المطر، الشجر) تحضر بوصفها مرآة للمشاعر الداخلية.

هناك تشاكل بين الخارجي (الكون) والداخلي (الحب)، مما يضفي على القصيدة طابعًا كونيًا لا شخصيًا فقط.

3. الجمالية الكلية:

القصيدة لا تسعى إلى وصف شعور، بل إلى تجسيده.

الحب هنا ليس حالة بين اثنين، بل شرط أنطولوجي للوجود.

خاتمة:

قصيدة "لأنك أنت" لمحمود سرساوي ليست فقط نشيدًا للحب، بل تأمل شعري في معنى الوجود، حيث يلتقي الشعري بالفلسفي، والحسي بالميتافيزيقي. إنها قصيدة تجترح لغة جديدة لقول العاطفة، لا تسكن في الحنين أو الغياب، بل تقيم في الحضور، حضور الآخر الذي تتجلّى به الأشياء ويكتمل به المعنى.

يستحق النص أن يُقرأ كجزء من مشروع شعري فلسطيني وعربي يعيد للحب مكانته كقوة معرفية وجمالية لا كحالة رومانسية فقط، ويتجاوز حدود التعبير التقليدي ليخوض في جوهر الإنسان وعلاقته بالعالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

للكاتبة الأسيرة المحررة عائشة عودة

لكل مناضل وأسير الحق بأن يحلم بالحرية ويؤمن بأن السجن والأسر والتعذيب الذي سيلاقيه هو ما يتوجب عليه دفعه ثمنّا للشمس، شمس الحرية والإنعتاق من ظلم السجّان وجبروته. وقد وفقت الكاتبة عائشة عودة عندما وزعت تجربتها النضالية في الأسر على كتابين هما أحلام بالحرية وثمنا للشمس موثقة تجربتها الاعتقالية وما رافقها من صولات وجولات مع المحقق والسجَّان مع حرصها على إبراز الإرادة الفلسطينية الصلبة. وقد أتى هذا التوثيق بلغة رشيقة وجذابة حيث تأخذنا بكاميرة قلمها وصدق نبضها لنكون أمام ما يشبه المشاهد التصويرية للحدث وليس أمام نص سردي جاف. فتجعل القارىء يتألم لألمها ويزهو لإنتصارها وهو يرافقها في تنقلاتها من سجن لآخر تقف منتصبة القامة أمام المحقق.

لم تكتب عائشة عودة تلك التجربة لتستدر تعاطف القارىء مع عذاباتها ومعاناتها بل كانت تهدف لتحفيزه على الإنحياز للعدالة وعدم الإستكانة في وجه الظلم وعلى استمرار جذوة النضال والتحدي والإستفادة من تجربتها وتجارب زميلاتها لتشكل الرافعة الصلبة لإستمرار المقاومة. لذا نجد انها لم تركز في هذين الكتابين بشكل لافت على عذاباتها الشخصية والامها بل خصصت الحيز الأكبر من صفحاتهما للحديث عن النضال المشترك للأسيرات وذوبان الفوارق والخلافات السياسية بينهن، وأيضا على إستمرار هذا النضال داخل أقبية السجن وحرصهن على التعليم والتعلم ونقل الصورة الأنقى عن فلسطين واحقية شعبها بها.

بالعودة إلى الكتابين يمكن للقارىء أن يلمس العديد من النقاط التي أثارتها الكاتبة ومنها:

المرأة العربية ودورها ونظرة المجتمع لها:

تطرقت الكاتبة إلى وضع المرأة في المجتمع الفلسطينيّ، سيما مسألة التّفريق بين الولد والبنت وتفضيل الذّكر على الأنثى مشيرة إلى مواقف كثيرة جوبهت بها فقط لكونها "بنتاً"، ومن تلك المواقف ردة فعل عمّها عندما اطلعته على ورقة علاماتها المدرسية التي تشيرإلى تفوقها، فرغم فرحه بالنتيجة إلا أنّه قال: "بس يا خسارة إنك بنت"، لترد عليه بالقول:"ليش الولد أحسن منّي؟ لا يوجد أحد من أبنائك واولاد عائلتنا يستطيع القراءة أفضل منّي". أما حجّة عمها فهي أن البنت لا تستطيع التغيب عن البيت كما الولد. تقول عائشة منذ ذلك الحين سكنني رفض مطلق لمنطق التّمييز ذاك، وتحوّل الرّفض إلى معركة دائمة أديرها بصمت، وبشكل تلقائي بيني وبين المنطق الّذي يجعلني أقل قيمة وأكثر عبئاً من الولد أو الرّجل كوني فتاة".(أحلام بالحرية 44 و45).

وتستمر محاولات التضييق على البنت عائشة ومحاولة أمّها عدم إكمال تعليمها خارج القرية، وتطوع عدد من النسوة للضغط على أمها بالقول:"شو بدك في وجع الراس بكرة بتصير بنك تكتب رسايل للشباب شو بدها تفيدك حجتك بعدين، وين بتحطي راسك ساعتها (ثمنا للشّمس، ص61)،

وتسلط الكاتبة الضوء على وضع المرأة الفلسطينية وتغول السلطة الذكورية التي ترى في المرأة مجرد ربة منزل وحاضنة أطفال، وتورد عائشة كيف انها استطاعت تنسيب عدد من النسوة في الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية لتفاجىء في اليوم التالي بطلبهن الإنسحاب وشطب أسمائهن من الإتحاد ولأسباب متشابهة فهذه رغبة واوامر الأخ، الإبن، الزوج، وحتى إبن العم. وتقول المرأة المنسحبة لا اريد أن أكون سببا في إدخال أي منهم السجن او حرمانه من العمل. (أحلام بالحرية 117). إنها ثقافة متجذرة في مجتمعنا العربي والشرقي نكاد نجدها عندها الرجل الأمي وأيضا عند المتعلم في بعض الأحيان، ألم يجرؤ المحامي أنطون جاسر على لوم عائشة لإنخراطها بالسياسية وشذوذها عن هذه الثقافة حينما قال: "ما كان لك أن تزجّي بنفسك في السّياسة وتدخلي السّجن، وكان من الأفضل لك، البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات فذلك خير من أن تكوني سجينة، وفي ردها على دعوة المحامي لها للركون في المنزل تقول عائشة: "لسنا مجرد سجينات بل نحن طاقة محركة في جميع الإتجاهات لم يكن بالامكان خلقها لو بقينا في الماء الراكد مجرد ربّات بيوت،  فأنا أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم. (ثمنا للشمس 50 و52).

لكن إنخراط عائشة وزميلاتها في النضال السياسي والمواجهة أثبت عقم تلك النظرة الدونية للمرأة، وفي مناجاتها مع غسان كنفاني تقول عائشة: " هل تسمع يا غسان كنفاني لم نعد أقزامًا ها هي المرأة تنطلق من قمقمها مارداً فتكنس الأفكار الشوها التي تمنعها من الإرادة وتلصق بها العجز وسبب الهزائم، أفقن أيتها النساء ها هي عائدة سعد تنطلق مفجرة إرادتها قنابل على رؤوس جنود الاحتلال"(أحلام بالحريّة 116).

الذاكرة والمكان عند عائشة

تحضر الذاكرة والمكان بقوة وفي أكثر من موقف في هذين الكتابين. ومن دون أن يشعر القارىء بنوع من الخلل يعيب انسيابية النص السردي وتماسكه استطاعت الكاتبة وبحرفية عالية أن توائم بين الحدث الآني وتسترجع ما يناسبه من ذكريات ومواقف سابقة، فمثلا تبدأ الكاتبة بوصف لحظة اعتقالها في الأول من آذار1969 عندما انتبهت لوجود شخص غريبأ أدركت انه من رجال الإحتلال يقف على الرصيف يبادرها قائلا: مرحبا اليست هذه صورتك؟ لتجيبه بالإيجاب وتكمل سيرها نحو البيت، وبينما كان القارىء متحفزا لمعرفة ما جرى نجد أن الكاتبة وبعفوية تامة تأخذنا للحديث عن بيتها وبكل التفاصيل تصف لنا مدخله المرصوف ببلاط حجري وتسهب في وصف جدران البيت وشبابيكه ولا تنسى ان تذكر لنا أسماء قاطنيه من أفراد العائلة وانواع النباتات والزهور التي زرعت في احواضه. لقد أرادت الكاتبة من وراء ذكرها لأوصاف بيتها وجماليته وسكونه القول انها في اليوم الأول من آذار 1969 سيكون المعتقل بيتها الجديد الذي تنتقل إليه بملء إرادتها. وقد أسترسلت في وصف بيتها ربما لأن حدسها أنبأها بأن هذا البيت سينسف –وهذا ما حصل- فأرادت أن يبقى عالقاً بالذاكرة.

واثناء اقتيادها للتحقيق تعيدنا الكاتبة إلى بداية تفتح وعيها السياسي وانتسابها لحركة القوميين العرب وتشكيل اول خلية تنظيمية من بنات صفها الثاني ثانوي " روضة الفرخ، شريفةحمودة، محاسن الترتير، وسلافة البرغوتي بإشراف مسؤولة الخلية لطفية الحواري.

أيضا عندما اعتقلت ووضعت في الجيب تعيدنا الكاتبة إلى مجزرة دير ياسين وهجوم عصابات "شترين" وقتلهم مؤذن الجامع قبل الآذان ليدخل الجنود ويذبحوا الفران وإمرأة حامل كانت متواجدة بالفرن واستطاعت زينب ابنة خالتها الإختباء في الفرن خلف كومة الحطب يسكنها الخوف ثم تشعر بسائل دافىء يسري تحتها ويرنخ ثيابها فأغمي عليها ليجدها أخوها بعد أيام وينقلها إلى المستشفى (أحلام بالحرية42).

جمالية القبح في السرد:

لقد رافقنا الكاتبة وهي تجوب بنا اروقة وزنازين السجون تروي لنا تجربتها بمرارتها وقسوتها، وبالرغم من أساليب التعذيب الوحشية وما رافقها من امتهان للكرامة الإنسانية وتعامل المحقق مع الأسرى بما يندى له الجبين ومع كل هذا القبح في تصرف المحقق استطاعت عائشة وبما تملكه من أدوات وبلغة أنيقة وشفافة ان تنقل لنا الصورة دون خدش للحياء وإن لامسته في بعض الفقرات، بحيث جعلت القارىء ينجذب إلى النص ويتفاعل معه ويرى فيه أيضا نوعا مما يسمى بجمالية القبح بالرغم من قسوة المشهد وقبحه، تقول عائشة في الحديث عن محاولة امتهان جسدها وتعريته: "أمسك أحدهم بقدمي والآخر بذراعي مسحا الأرض بجسدي ثم خرجا بي إلى الممر وساروا بي حيث كان صف من الشباب ولم اجرؤ على فتح عيوني كي لا تصطدم بعيون احدهم، وقد انفجر أحد الشباب باكيا كان بكاؤه نشيجاً (احلام بالحرية 125)

لقد أظهرت الكاتبة تعامل المحقق مع الأسيرة حيث يبيح لنفسه امتهان الكرامة والتعذيب النفسي والجسدي إضافة إلى تجاوزه المحظور وتلفظه بكلمات نابية وتناوله للعب على وتر الأعراض والتهديد بانتهاكها. وفي معرض التحقيق مع عائشة يقول لها: "رح أشلك واخلع عيونك وأشوه وجهك وأخليك متل القردة(احلام بالحرية47). ناهيك عن نعتها اكثر من مرة بالعاهرة. كل هذه العذابات لم تفت من عضد الكاتبة الأسيرة فهي كما قالت لا تذكر انها كانت تتألم بل كانت تشحن إرادة الصمود والتحدي مع كل صفعة أو ركلة فهذا ثمن المواجهة (أحلام بالحرية 54). وفي موضع آخر أجادت الكاتبة في وصف احد المحققين مصرة على إظهار قبحه من الخارج كما الداخل فتقول عنه "انه ضخم الجثة ذا كرش يندفع أمامه كعربة، له شوارب كثيفة وصلعة واسعة إفترشت معظم مساحة رأسه، مقطب الجبين كأنما فصل خصيصاً لإنتاج الرعب ( أحلام بالحريّة 70).

نلمسُ في هذين الكتابين الصدق والشفافية في سرد عائشة للوقائع فلم تنسب لنفسها البطولات الوهمية ولم تدعي أنها المرأة الخارقة التي لا تضعف او تلين بل كانت الإنسانة الطبيعية التي تتقاذفها المشاعر والأحاسيس وتسيطر عليها أحيانا لحظات ضعف ويأس كما لحظات القوة والتصميم. فبعد ان مورس عليها أقسى انواع الترهيب عندما دخل عليها رجلان وقالا لها هل تعرفين أننا جئنا لشلك؟ لقد فعل هذا القول فعله في إرباكها وسيطر عليها الخوف من فكرة الشلل لذا آثرت الإعتراف بأنها من وضع القنبلة ظنا منها ان اعترافها هذا ليس سوى مناورة لكسب الوقت وتفادي الشلل المزعوم. كذلك نلمس روح التضامن والإيثار لدى الأسيرة عائشة عندما اعلمها المحقق "ابو هاني" بأنه سوف يؤذي زميلتها رسميّة ويضربها حتى الموت، وحين بدأ بتنفيذ وعيده بدأت رسمية تصرخ من الألم وعائشة تصرخ خوفا عليها إلى أن تشنجت يدا رسمية وصرخت "إنشلو إيديّ". أمام هذا الموقف لم يكن امام عائشة لإنقاذ زميلتها من شلل محتم إلا ان صرخت في وجه المحقق "أوقفوا الضرب عن رسمية وأنا أدلكم على مكان الأسلحة" (أحلام بالحريّة 94).

بكل صدق تصف عائشة الصراع الداخلي الذي عاشته وهي مضربة عن الطعام ينهشها الجوع تقول: "كانت عيوني تبحلق في قطع الخبز وانشدَّ كامل جذعي ومال باتجاهها، لكن لن أسمح بأن تضعف إرادتي أمام قطعة خبز "(ثمنا للشمس116).

مع أن هذين الكتابين يؤرخان لتجربة عائشة النضالية في الأسر إلا أنها لم تقلل من شأن زميلاتها ونضالهن المشترك ولم تنسب لنفسها صورة البطل الأوحد بل نجدها قد أفردت لأكثر من واحدة منهن مساحة لا بأس بها ليتعرف القارىء على دور المرأة الفلسطينية ومساهمتها في النضال وتضحياتها في سبيل القضية الأم. ومن هؤلاء المناضلات اللواتي ذُكرن : "حياة عبيدو، ليلى عودة، سامية الطويل، ليلى وعائدة قمري، عزية رزوز، حنان عسلي، إنتصار بسيسو، مريم الشخشير، رندة النابلسي، سهام الوزني، لطفية الحواري، عائدة سعد، وعفيفة بنورة وغيرهن وكما تقول عائشة". إن اتساع دائرة النساء اللواتي يغادرن حالة السلبية والإنزواء هو البرهان على نهوض الأمة(ثمنا للشمس88).

ولم تكن المرأة الفلسطينة وحدها في ساحات النضال والمواجهة بل أن تحركها النضالي هذا ألهم العديد من نساء العالم للتضامن ولنصرة القضية الفلسطينية أمثال باولا و ماركوت من هولندا، المناضلة الفرنسية نادية بريدلي وهي من أصل مغربي وبعد الإفراج عنها إلتحقت بالجبهة الديمقراطية في بيروت لحين وفاتها. وكذلك الطالبة الهولندية "لودوين" والكندية "لي"التي ذهلت من حجم الكذب الذي حشوه في الرؤوس، الشرطية "أوديت" التي جاءت من باريس وبعد نقاشات مع الأسيرات افلت عائدة لفرنسا فلا يمكنها ان تكون مواطنة في دولة قائمة على الكذب وظلم شعب آخر (ثمنا للشمس67). أما "تريز هلسة" الفتاة الأردنية كما هي فلسطينية نشأت في بيت عروبي وامتهنت مهنة التمريض قبل ان تلتحق بالعمل الفدائي وتشارك في عملية خطف طائرة والهبوط في مطار اللد لتنتهي جريحة وأسيرة.

المواجهات مع السجّان:

ابرزت الكاتبة محاولة مديرة السجن الإدعاء بأن الدافع الوحيد لما قامت به عائشة وزميلاتها إنما نابع فقط من كراهيتهن لليهود، في محاولة منها لنزع صفة النضال السياسي عنهنّ، عندما وصفتهن قائلة: انتن لستُنَّ سياسيات بل مجرد قاتلات للأطفال أعماكن الحقد وكره لليهود الذي تبثه إذاعة "أحمد سعيد"، وفي هذا ترى عائشة ان مديرة السجن بمحاولتها هذه تنسف كامل الحقوق والأهداف النضالية للأسيرات وتحولهنّ إلى مجرد مرضى بشيء إسمه كراهية اليهود"(ثمنا للشمس41). كما أنّ إصرار عائشة على اعتبار نفسها مناضلة سياسية وهذا حقٌ لها، جعلها لا تتهاون مع أي خطأ ولو كان غير مقصود ينزع عنها هذه الصفة، فعندما أهدتها الشاعرة فدوى طوقان قصيدة عنونتها " إلى السجينة عائشة عودة" فأن مصطلح السجينة لم يرق لها ووخزها فقالت معاتبة: " ألسنا مناضلات وأسيرات يا شاعرتنا؟ هل فاتك الفرق؟"( ثمنا للشمس205). ولم تمنع ظروف وقسوة الإعتقال عائشة من أن توضح رأيها أمام السجّان بأن دولته قامت على الإرهاب والتزوير والسرقة والمجازر كمجزرة ديرياسين ومجزرة كفرقاسم وغيرها من الإرتكابات. (ثمنا للشمس38)

ولأن الإعتقال أو الأسر ليس سوى مرحلة من مراحل النضال والمقاومة فقد دأبت الأسيرات على إكمال دورهن في إثبات أحقيتهن بهذه الارض وكثيرا ما كانت تدور بينهن وبين مديرة السجن او المحققين نقاشات سياسية تبين هزالة موقف المحتل، وأبرزت الكاتبة العديد من مراحل النضال والوقوف في وجه السجّان وكيف ان المعتقلات استطعن منع المحتل من رفع أعلامه في أروقة السجن المخصص لهُنَّ. وذكرت الكاتبة الكثير من حالات الإضراب عن الطعام لحين تحسين ظروف أعتقالهن والحصول على مطالبهن وأهمها الحصول على الكتب ولوازم الكتابة. ناهيك عن رفضهن وعدم اعترافهن بالمحكمة ومحاكماتها الصورية وأحكامها المعلبة.

كما أن الاعتقال لم يفت من عضد المناضلات فاستحدثن وخاصة في الفترة التي تلت صدور الأحكام بحقهن برامج تثقيفية وسياسية وترفيهية وحلقات تدريس ووزعت الأدوار والمهمات على كل أسيرة تبعا لثقافتها وخبرتها. فكتبن النصوص المسرحية وأصدرن مجلة ثقافية سميت "العروة الوثقى" واستحدث ايضا ما يشبه المكتبة والمدرسة إضافة الى بعض الأنشطة الرياضية.

وتنهي عائشة عودة سرد تجربتها بفرحة ناقصة فهي وإن أفرج عنها بعد عشر سنوات بصفقة تبادل إلا ان فرحتها بقيت ناقصة بسبب قرار الإبعاد المرفق بالإفراج لتبدأ كما تقول رحلة أخرى في مشوار الحياة.

ختاما احلام بالحرية وثمنا للشمس من الإجحاف ان نصفهما بأدب السجون أو أدب السيرة بل ينتميان إلى أدب الحرية، وقد كتبا بلغة إنسانية رفيعة لامست الوجدان العربي لا بل هزته عسى أن يفيق من سباته الذي طال.

جمالية القبح في السرد

وبالرغم من أساليب التعذيب الوحشية وما رافقها من امتهان للكرامة الإنسانية وتعامل المحقق مع الأسرى بكل تعجرف، إلا ان الكاتبة وفي وصفها لتلك الوقائع والممارسات بلغة أنيقة وشفافة تجعل القارىء منجذبأ إلى النص ومتفاعلا معه ويرى فيه أيضا نوعا مما يسمى بجمالية القبح بالرغم من قسوة المشهد، تقول عائشة في الحديث عن محاولة امتهان جسدها وتعريته: "أمسك أحدهم بقدمي والآخر بذراعي مسحا الأرض بجسدي ثم خرجا بي إلى الممر وساروا بي حيث كان صف من الشباب ولم اجرؤ على فتح عيوني كي لا تصطدم بعيون احدهم، وقد انفجر أحد الشباب باكيا كان بكاؤه نشيجاً (125)

لقد أظهرت الكاتبة تعامل المحقق مع الأسيرة حيث يبيح لنفسه امتهان الكرامة والتعذيب النفسي والجسدي إضافة إلى تجاوزه المحظور وتلفظه بكلمات نابية وتناوله للعب على وتر الأعراض والتهديد بانتهاكها. وفي معرض التحقيق مع عائشة يقول لها: "رح أشلك واخلع عيونك وأشوه وجهك وأخليك متل القردة(47). ناهيك عن نعتها اكثر من مرة بالعاهرة. كل هذه العذابات لم تفت من عضد الكاتبة الأسيرة فهي كما قالت لا تذكر انها كانت تتألم بل كانت تشحن إرادة الصمود والتحدي مع كل صفعة أو ركلة فهذا ثمن المواجهة (54). وفي موضع آخر أجادت الكاتبة في وصف احد المحققين مصرة على إظهار قبحه من الخارج كما الداخل فتقول عنه "انه ضخم الجثة ذا كرش يندفع أمامه كعربة، له شوارب كثيفة وصلعة واسعة إفترشت معظم مساحة رأسه، مقطب الجبين كأنما فصل خصيصاً لإنتاج الرعب (70).

***

عفيف قاووق – لبنان

 

"فان غوغ ببزة عسكرية".. جدلية الإنكشاف والإحتجاب أو في التداخل بين الفني والسياسي

مدخل: هذا النص الشعري هو الأثر الثالث في الأعمال الشعرية لضياء البوسالمي بعد مجموعته الأولى " أقف وحيدا أمام الجدار " الصادرة سنة 2018 ومجموعته الثانية " ألف طيف وطيف للموت " الصادرة سنة 2020، هو شاعر ينتمي لثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي 2011، بآمتياز بحكم أن أغلب ما أصدره كان في العشرية الأولى للثورة، فلا يمكن له أن ينفلت من تداعياتها إن قليلا أو كثيرا وقد نعثر عن أثر لذلك فيما يحبر، وذلك رغم ما أصاب الثورة من نكوص، حاد بها عما كانت منذورة له من آمال وأحلام.

1-عتبات النص:

هذه المجموعة الشعرية نشرت ضمن سلسلة شعرية تحمل عنوان نبض عن دار النشر pop Libris  في الثلث الأول من سنة 2025 في طبعتها الأولى، الكتاب من الحجم الصغير، يشتمل على خمس وعشرين نصا شعريا وردت في مائة وعشر صفحات

أ – غلاف الكتاب: يحمل الغلاف صورة لفان غوغ الرسام الشهير (1853- 1890) ببزة عسكرية بلون أزرق سماوي في الجانب الأيمن من الغلاف، يزداد دكانة في جانبه الأيسر، يحتل العنوان مساحة كبيرة من الغلاف باللون الأصفر، في جزئه الأول وبخط غليظ في حين يكون الجزء الثاني بخط صغير، في أسفل العنوان يمينا إسم الشاعر، في الجانب الأيسر من الغلاف إسم للسلسلة التي تحتضن الأثر الشعري – نبض -. الصورة في الغلاف تطابق عنوان الكتاب، فكأن العنوان تأكيد للصورة وليست الصورة تأكيدا للعنوان، لأننا إزاء أثر لغوي قد يظل جنسه مفتوحا على المجهول، إلا أنه قائم على اللغة أساسا وإن تخللته بعض الرسوم واللوحات للرسامة المصرية مي كريم، أعدت خصيصا للمجموعة في تداخل بين فني الرسم والكتابة فهل تكون الرسوم أصدق إنباء من الحروف؟ جنس الكتابة سيتكشف إذا تجاوزنا الغلاف إلى متن الكتاب. أسفل الغلاف نجد إسم دار النشر pop Libris.

ب – العنوان: هو في الأصل عنوان القصيدة الأولى التي وهبت إسمها للمجموعة ومكنت مصمم الكتاب من إستيحاء صورة الغلاف، إن العنوان بلاغيا يدخل في دلالة الجزء على الكل. العنوان من حيث التركيب النحوي تركيب إسنادي مسند إليه مع مسند: علم + مركب بالجر مبدوء بحرف الجر – ب – الذي يدل على الحالية أو الوصفية، فنحن إزاء علم- رسام ذي شهرة عالمية- وضعه الشاعر في حالة مفارقة une situation paradoxale حيث ألبسه بزة عسكرية، مما يفتح النص على أسئلة الدلالة الحارقة.قد يكون للمناخات التي كتبت فيها المجموعة أثرها في ذلك من حيث صياغة العنوان ومن حيث دلالاته ومن حيث إختياره كعنوان للأثر.

ج- بنية الكتاب: التصدير: يشتمل على سطرين شعريين من قصيد " أثر الفراشة " لمحمود درويش نشر في كتاب أثر الفراشة الصادر عن دار الريس، بيروت، سنة 2008. هذان السطران يضفيان شرعية أدبية لإسم السلسلة- سلسلة نبض- في تلاحم بين الجانب الفيزيولوجي والجانب الإبداعي. إن أثر الفراشة لا يرى ولا يزول وهو نظرية فلسفية وفيزيائية تعني أن أي حدث يحدث في الكون يكون ناتجا عن مجموعة أحداث صغيرة لم يلاحظها أحد.

على سبيل المقدمة: بعد الإهداء والتنويه نعثر على نص مربك يصعب تصنيفه إختار له صاحبه عنوانا فرنسيا Antipréface ،و لئن كان موقعه في الكتاب يشي بأنه تقديم للعمل أو رسم لمعالم قراءة له،فإن صاحبه وهو الأستاذ ناظم بن إبراهيم حاول أن يكون نصه في تضاد مع ما هو متعارف عليه في المقدمات بل جعله يزخر بمفاهيم نقدية مستنبتة من مجالات جديدة على النقد الأدبي أو هي تعمل على وضع لبنات جديدة ل" مدرسة تخرج عن المألوف والسائد في قراءة النصوص الشعرية ".تمسح المقدمة/ المضادة تسع صفحات (من الصفحة 11 إلى الصفحة 20) مليئة بمعجم نقدي يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، من قبيل من أين تستمد النصوص شرعيتها، هل مأتاها النقد المسلط عليها، أم أنها هي التي تعطي للناقد ما به يؤسس شرعية لنقده؟ يعمد الأستاذ ناظم إلى إستبدال مفاهيم إغريقية/ غربية بمفاهيم من لغتنا العامية مثل " البطحاء " بدل الأغوراl'agora والبلطجي بدل الناقد، بحثا عن خصوصية ثقافية، فالنقد ليس مصطلحا مهاجرا بل له ما يؤصله في المدونة الأدبية القديمة [ آنظر إبن رشيق القيرواني (ت 456 هج / 1064 م)، العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه، ] ومصطلح النقد مصطلح مهاجر من مجال المال والتجارة إلى مجال الأدب والنصوص، هي هجرة داخل الثقافة العربية الإسلامية، من المعنى اللغوي إلى المعنى الإصطلاحي " فالنقد يعرف لغة بأنه تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ويأتي بمعنى فحص الشيء وكشف عيوبه، أما في الإصطلاح فالنقد هو تمحيص العمل الأدبي بشكل متكامل بعد الإنتهاء من كتابته، بكشف مواطن الجودة والرداءة فيه " (آنظر، شيرين أحمد، تعريف النقد، موقع " موضوع" بتاريخ 29 مارس 2022). هل تحتاج نصوص الشاعر إلى فوضى خلاقة يضطلع بها " بلطجية " يعملون معاول " النقد " فيها بغاية تفجيرها من الداخل، فتتشظى بنيتها ويعمل البلطجية على لملمة ما تناثر من مكوناتها وإعادة صياغتها ضمن رؤية جديدة محكومة بتراجيديا معاصرة، في ظل واقع مترع بالسوداوية.

أقسام الكتاب: ينقسم الأثر في متنه إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يشتمل على عدد من. القصائد، القسم الأول عنوانه " أيها الماضي من رآك " من الصفحة 21 إلى الصفحة 44، ويشتمل على أربع قصائد. القسم الثاني، عنوانه " حقول من الكلمات الصدئة "، من الصفحة 45 إلى الصفحة 98، ويشتمل على أربع عشرة قصيدة. القسم الثالث عنوانه " تحت جسر الوقت "، من الصفحة 99 إلى الصفحة 128، ويشتمل على سبع قصائد.

2 – تحليل أقسام الكتاب:

سنحاول إختيار قصيدة من كل قسم لتحليلها تكون معبرة عن القسم والعمل على ربطها بالعنوان الجامع للقسم.

أ – القسم الأول: إخترنا القصيد الذي وهب نفسه للأثر فحملته المجموعة الشعرية، إنه قصيد " فإن غوغ ببزة عسكرية " وهو مهدى من الشاعر إلى علاء الدين سليم..شاعرا سينمائيا. رأى الشاعر في أعماله السينمائية مثل الأغورا ومزجا بين فني الشعر والسينما، فكانت الصورة فيها قدر من الشاعرية، من أعماله أغورا (سنة 2024)، طلامس (سنة 2019)، آخر واحد فينا (سنة 2012)، بابلون Babylon إخراج مشترك (سنة 2012). مما يلفت الانتباه في القصيد قيامه على مفارقة صغرى داخل المفارقة الكبرى التي أشرنا إليها آنفا، والتي تجمع بين العسكريتارية وأحد رموز المدرسة الإنطباعية في الرسم، داخل هذا الإطار العام نفاجأ ب"تجريد" من وهبوا حياتهم للدفاع عن الوطن من حب الوطن أو تهميش مشاعرهم، مما عرف عن المؤسسة العسكرية صمتها، بعيدا عن ضجيج الإعلام، يتيح الشاعر للجنود فرصة الإدلاء بشهاداتهم، يقول الشاعر: " للمهمشين رأي في حب الوطن (شهادات لجنود من الألفية الثانية) ص 23.إن المفارقة التي تفوح رائحتها في الجمع بين الفن والحرب هي التي تتيح للشاعر أن يتحدث عن الوطنية من منظار الإنخراط في المؤسسة العسكرية ، تمكن تلك الثنائية الدخول إلى عوالم الإنتماء في صيغه المتعددة يقول الشاعر عن ذلك " الدفاع عن الوطن علكة بطعم الكرز، لكن لذتها زائلة " (ص 25) يعي الشاعر أن التضحيات الجسام التي يبذلها العسكر بمنسوب مرتفع من الوطنية سيركب عليها السياسي ليحولها إلى خطب مطولة بالفصحى وذكرى سنوية كعيد الأضحى والجامع بين الأضحى والتضحية دماء مسفوحة تسأل لأجل ماذا تلك التضحيات.(ص 25).إذا كان فإن غوغ القادم من عالم الفن – الرسم – وتحيل الببلوغرافيا الخاصة به إلى نوبات من الجنون كان يعيشها وصلت به إلى حد أنه إنتزع أذنه، فإن العسكري الذي يقضي عمره في خدمة وطنه، مرابطا على الثغور بحساسيته الوطنية المرتفع منسوبها، يصبح الضجر الذي رباه ولازمه حتى صار وحشا كاسرا يأتمر بأمره ورهن إشارته، لا جرم حينئذ أن يقدم العسكري على إنتزاع أذنيه الإثنتين من مكانيهما (ص27) ينتهي المقطع الأول من قصيد " فان غوغ ببزة عسكرية " برسم لأذن نازفة وقد لطخ الدم جزءا من الرسم وقد حبرت الرسامة كلمات مأخوذة من المقطع الأول تحكي عن حادثة الأذنين، الرسم يربط بين المقطعين الأول والثاني، رسم الأذنين الداميتين كان بالدماء، لاشيء يربط بين الجندي وفإن غوغ سوى إلتجائهما إلى الحلول الراديكالية (ص 28)، في واقع مترع بالفوضى ومطل على مدارات الجنون واللامعنى. يستعين الشاعر باللغة ليصرف معنى اللفظ في أوجه مختلفة، ينتقل من المعنى الحرفي la dénotation لكلمة " عين وأعين " إلى المعاني الحافة la connotation وما أكثرها في اللغة العربية. أعين تسيل وتتدفق لينسكب منها في جسد العسكري عزم، ثم يعود للعين، حاسة النظر مع فعل "رأى " البصرية حيث هي متمحضة للرؤية دون سواها وقد فقدت قدرتها على الإيحاء والتعبير " ولا تقدر على إظهار الفرح " (ص 29).الدماء عند العسكر مجيرة لإرادة العسكري يصرفها كيف يشاء. " عسكري قف " (ص 29) هذه الجملة ملغزة، الشخص يعرف بنفسه ثم يصدر الأمر بالتوقف، أم أن هناك شخص آخر أمر العسكري بالتوقف، أم هي هواجس العسكري تخاطبه، لأن متقبل الخطاب غير واضح المعالم، فيكون مقول القول عتبة لدخول عوالم الجنون، تتوقف حاسة السمع عن أداء دورها " لم يسمع شيئا هذه المرة " (ص 29) تبقى حاسة البصر لترى المعجزة " أعين ترى المعجزة تتحقق " (ص 29) هي معجزة الإرتواء الذاتي أو التغذية المرتدة التي تؤشر على الإكتفاء بالذات، في قطيعة تامة مع محيطه ومع العالم الخارجي، فالعجز عن التفاعل وعن إظهار الفرح، فما يحاول كتابته على الحائط، بدمائه النازفة يصدر عن ذهن مشوش، تعقبها نوبة من الضحك تثير دهشتهم بل إنه أكثر ما أدهشهم (ص 30) تلك النوبات هي " طقوس عبور" إلى حياة أخرى وهي مؤشر على " الخلاص " الذي بحث عنه ووجد فيه الحل لآلامه. إن الحياة الأخرى التي يبشر بها، سيتسلح من أجل خوض معاركها والبداية ستكون بالإنقطاع عما حوله وآسترجاع ألق البدايات، سيقطع أذنيه ويدخل عالم الصمم لن يهتم بحركة الشفاه ولن يقرأها حتى لا يعيد الصلة بسالف عهده وسيخلق نواميس جديدة يعيش بها، يؤسس بها هذه الحياة الجديدة ويؤثثها فيلتقي سيدة فاتنة تحمل مولوده دون أن يعاشرها ويدخل بنا عوالمه العجائبية والسحرية، تتكثف في آخر القصيد الرموز ذات البعد الأسطوري، لكأن هذه الحياة الأخرى في حاجة إلى ميتافيزيقا مختلفة مزيج من تراثات قديمة منها التوراتي/ الكتابي ومنها الوثني، يستعيد الشاعر علاقته بواقعه الجديد " سيعلمها وجنينها لغة الأعين " (ص 31)، يعمد الشاعر إلى ملاحقة معالم ميتافيزيقية ذات صلة بما عاشه وبما أفضى به إلى عالم الجنون لتفكيكها، فأثر أفعى الخطيئة الأصلية للبشرية، سبب الخروج من الجنة بغواية آدم وحواء، دفعه ليعلن توبة نصوحا، فما عاد اللون الأخضر بكثافته الدلالية يغريه بتجدد الحياة وبعطائها وإزدهارها، وأنه لن يكون فريسة في المستقبل لوسوسة الشيطان فقد سحب منه ذرائع الغواية وذلك بآقتلاع أذنيه، فنبتت مكانهما زهرتا قرنفل – زهرة الآلهة في الثقافات القديمة، رمزا للتفاني والإخلاص والحب والسحر والتميز.

في علاقة عنوان القسم الأول " أيها الماضي.. من رآك؟ " بقصيدة " فان غوغ ببزة عسكرية " شخصية الرسام تحيل إلى فترة من تاريخ الآخر، يستنطقها الشاعر في ظرفية تاريخية تتسم بالتوتر السياسي والثقافي، من باب " تكلم حتى أراك " فالماضي الذي غلب على السطور الشعرية للقصيد، يمثل أمامنا وبيننا في الهنا والآن هو للتجاوز، فالمراوحة بين ماض مختلف عنا ولكنه صبغنا بصبغته التي لم نجد بعد منها فكاكا، صبغة الإكراه دون الرضا وحاضرنا الذي لن تقوم له قائمة إلا بآعتماد سبيلي الهدم والبناء. لقد تعامل الشاعر مع هذه المعضلة بتوخي منهجية جدلية قائمة على ثنائية الخفاء والتجلي كما عرفت عند الناقد السوري كمال أبو ديب، فالخفاء يشير إلى الطبقات العميقة والمضمرة في النص الشعري وفي ما لا يقال صراحة ولكنه يفهم عبر التلميح والتأويل  أما التجلي فهو العناصر الظاهرة في النص كالصورة الشعرية والتشبيه والإستعارة والمجاز والإيقاع والتركيب اللفظي. فالتفاعل الجدلي بين هذين المفهومين يصنع المعنى في النصوص الشعرية.  متوسلا ما عرف في تراثنا من بحث عن الأشباه والنظائر حتى يجعل من مآلات الأمور تكاد تكون متطابقة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

 

للأديبة والناقدة السورية د. عبير خالد يحيى

الدكتورة عبير خالد يحيى، أديبة وشاعرة وناقدة، لها جهد كبير في ترويج النظرية الذرائعية في النقد، صدر لها عدة كتب نقدية تطبيقية على هذا المنهج، بالإضافة إلى مجموعاتٍ قصصية، وشعرية ورواية واحدة، هي موضوع هذه الدراسة.

تُمثّل رواية (بين حياتين) للكاتبة عبير خالد يحيى، عملاً سردياً معمّقاً يتناول التجربة الإنسانية المعقّدة، حيث تستعرض مسار حياة الشخصية المحورية، "غالية"، عبر مراحلَ متباينةٍ، وما اعترضها من تحدياتٍ وصراعاتٍ ذات أبعادٍ نفسيةٍ واجتماعية. تتميّز الرواية بأسلوبها الأدبي ّالمتفرّد وقدرتها على النفاذ إلى مكامن النفس البشرية العميقة، بالتوازي مع إضاءة قضايا اجتماعيةٍ ونفسيةٍ ذات أهميةٍ بالغة.

يتناول هذا التحليل استعراضًا لعناصر القوة الأدبية الكامنة في الرواية، من حيث البناء الأسلوبي، وعمق الأفكار المطروحة، وذلك بالاستناد إلى مفاهيمَ مستمدّةٍ من حقول النقد النفسي والاجتماعي. سيتم التركيز على كيفية تجلّي الأبعاد النفسيّة في بنية الشخصية وتطورها، وكيف تتفاعل هذه الأبعاد مع السياق الاجتماعي المحيط. كما ستتمّ الإشارة إلى الجانب الذرائعي (Pragmatic) في النص، والذي يرتبط بالقصدية والأثر المتوخى، لا سيما وأن الكاتبة تمتلك تخصصًا في النقد الذرائعي، وإن كان له مفهوم وإجراءات مختلفة عمّا نقصده في هذه الدراسة.

أولاً: عناصر القوة في الأسلوب

تتجسد قوة الأسلوب السردي في رواية (بين حياتين) عبر جوانب متعدّدة تسهم في تشكيل عالمها السردي وجذب اهتمام المتلقي:

1. تعدّد مستويات السرد: يتّسم السرد بالانتقال المتقن بين صوت السارد العليم، الذي يقدم الأحداث والشخصيات من منظورٍ خارجيٍّ شامل، وصوت الشخصية الرئيسية "غالية"، كما يتجلى في مذكراتها وتأملاتها الباطنية. يسهم هذا التعدد في إتاحة رؤيةٍ شاملةٍ للأحداث لدى القارئ، ويمكّنه من استكشاف أعماق نفسية غالية وفهم صراعاتها الداخلية بصورةٍ مباشرةٍ. يُضاف إلى ذلك وجود مقدمةٍ بقلم ناقدٍ آخر، مما يضفي بعدًا ميتا سرديًا على بنية النص.

2. البناء السردي المتماسك: يتميز هيكل الرواية بكونه غير خطيٍّ ومتشظٍّ، مما يعكس الفوضى الداخلية في نفسية غالية وشعورها المتفتت بالذات. يتنقل السرد بين أزمنة مختلفة - الطفولة، المراهقة، والبلوغ، وحتى عوالم متخيلة - مما يخلق سردًا متعدد الطبقات يعكس تدفق الذاكرة والطبيعة الدورية للصدمة.

على الرغم من التناوب الزمني والانتقال بين المراحل العمرية المختلفة، تحتفظ الرواية بتماسكها السردي من خلال خيطٍ ناظمٍ يربط بين الأحداث والشخصيات، ويكشف عن التأثير التراكمي للخبرات الماضية على الحالة النفسية والسلوكية للشخصية في الحاضر. يتم تقديم المعلومات بصورة تدرّجية تكشف عن أسرار الماضي وتأثيراتها على الحاضر، مما يسهم في الحفاظ على عنصر التشويق لدى القارئ ويسلط الضوء على ديناميكية التطور النفسي للشخصية.

من منظورٍ نفسيٍّ، يعكس هذا الهيكل نظرية فرويد حول العودالقهري compulsion) (Repetition عودة التجارب المؤلمة لتطارد الفرد حتى يتمَّ مواجهتها.

3. لغة ذات طابع تصويري وإيحائي: تتميز لغة الرواية بكونها شعرية وغنية بالصور الحسّيّة والتراكيب المجازية، ما يعزّز العمق النفسي للسرد. تستخدم عبير خالد يحيى أسلوبًا إيقاعيًا يمزج بين الواقعية والسريالية، مما يتيح للقراء الغوص في العالم الداخلي لغالية.

اللغة متأمّلةْ، ومثيرةْ للإحساس، وغالبًا ما تعتمد على الاستعارات والتشبيهات لنقل الحالات العاطفية. على سبيل المثال، في "الفصل الثاني: رسائل الماضي"، يتمّ وصف عصام بصور رومانسية وسحرية:

"عينان واسعتان سوداوان مكحلتان بأهداب تتماهى مع شعرٍ أسود فاحم، ينسدل بتموجات عريضة ليصل إلى منكبيه، عندما يتكلّم تنصت إليه غالية باستغراق شديد، يأسرها صوته، وتسحرها كلماته."

تعكس هذه اللغة الشعرية الطبيعة المثالية لعصام كرمزٍ للبراءة والهروب، وتكشف عن اعتماد غالية النفسي عليه كآليةٍ للتعامل مع الصدمة.

من منظورٍ نفسيٍّ، يمكن ربط هذا بمفهوم الأنا العليا (superego)حيث يجسّد عصام النسخة المثالية التي تطمح غالية للوصول إليها.

التباين بين الوصف الشعري للطفولة والصور القاسية للحياة البالغة، كما في "القفص الحديدي"، يبرز صراع الهوية (Identity conflict) حيث تحاول غالية التوفيق بين براءتها السابقة ومعاناتها الحالية.

4. الاستخدام الموظَّف للرموز:

تُعدّ الرمزية عنصرًا أساسيًا في الأسلوبية، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستكشاف النفسي للذاكرة والهوية والصدمة.

تزخر الرواية برموزٍ متعدّدةٍ تثري دلالاتها وتضيف أبعادًا فلسفيةً ونفسيةً إلى النسيج النصي.

- الصديق الخيالي (عصام/سوسو): باعتباره رمزاً للعالم الداخلي لطفولة الشخصية، وآلية نفسية للتكيف (Coping Mechanism) وملاذًا لها من قسوة الواقع الخارجي. يعكس الاقتباس التالي لجوء الشخصية إلى عالم داخلي خيالي كوسيلة للهروب من الواقع والتعامل مع المخاوف: "أما صديق غالية الخيالي، فطفل عمره تسع سنوات، مليح الوجه... يروي لها الكثير من الحكايات، يأخذها إلى عوالم مليئة بالغرابة والمغامرات المثيرة، لطالما أحبّت طريقة سرده لقصص كان فيها البطل الذي ينتصر على كل الأشرار، تستمتع بحكاياته تلك أكثر من استمتاعها بحكايات الجدّة التي كانت تشعرها بالخوف من الغول والذئب..."

- عصام كرمز للذاكرة والصدمة: من ناحيةٍ ثانية، يمثّل عصام ملاذًا ومصدرًا للصدمة، كصديقٍ خياليٍّ في طفولة غالية، يجسّد براءتها المفقودة وأمان سنواتها الأولى؛ لكنّ رحيله وإعادة ظهوره يرمزان إلى قبضة الذاكرة المستمرة. في "الفصل الثاني: رسائل الماضي"، يقول عصام:

‘سوف أراقبك من بعيد، وسأقترب أحيانا ًمتسللاً، لكن بسحنة وبهيئة لن تعرفيني بها، قد تحزرين، وتشكّين بأنها أنا. يشير هذا إلى الذاكرة كقوة غامضة ومؤرقة، تساهم في أزمة الهوية عند غالية. من منظورٍ نفسي، يمكن اعتبار عصام تجسيداً للاشعور (unconscious) حيث يحمل ذكريات مكبوتة تؤثر على قراراتها.

- البحر والشمس كرموز للهوية والأمل: يرمز البحر والشمس إلى الخسارة والأمل. يعكس البحر عمق صراعات غالية العاطفية، بينما تشير الشمس إلى التجدد. في "تداعيات الوداع. تعكس الصورة التاليةصراع غالية مع الصدمة ورحلتها نحو هويةٍ مستقرة، حيث تبحث عن الراحة في الدورات الطبيعية.   "كانت غالية تبكي عصام!... ودّعها ووعدها ذات مغيبٍ وقال: ‘سأحضر إليك كلّ غروب، عندما ترتمي الشمس في حضن البحر، تغيبُ عنكِ لتشرقَ في مكان آخر ...". من منظور يونغ، يمكن اعتبار البحر رمزًا للاوعي الجماعي (Collective unconscious)، بينما تمثل الشمس  "الأنا"  (ego)التي تسعى للتوازن؛ وتُشكل عناصر البحر والشمس والقمر ثلاثية رمزية تتغير إيحاءاتها تبعًا لتطور الأحداث وتحول رؤية غالية للحياة، مما قد يعكس مراحل مختلفة من تطورها النفسي

- الحبس والتحرر: ترمز مفردات مثل "القفص الحديدي"، و"الزريبة"، و"القبر" إلى حالة القمع النفسي والاجتماعي والشعور بالسجن الذي عاشتها غالية في إطار تجربتها الزوجية..

في "زينة الحياة الدنيا"، يُصور إرهاق غالية "تسقط يدا غالية على ذراعَي الأريكة متهالكة، تحول دون سقوط كتلتها التعبة المتضخمة أرضا." يعكس هذا الانحدار حالتها النفسية، حيث تحاصرها التوقعات الاجتماعية، لكن رفضها للأدوية يشير إلى التحرر. من منظور نفسي، يمثل هذا انتقالًا من الإذعان إلى الإرادة الذاتية.

ثانياً: عناصر القوة في الأفكار والموضوعات

تطرح الرواية جملةً من الأفكار والموضوعات العميقة التي تعكس فهماً دقيقًا للحياة الإنسانية وصراعاتها المتجذرة، مع تركيز خاص على الأبعاد النفسية والاجتماعية:

1. أهمية مرحلة الطفولة وتأثيراتها النفسية: تُبرز الرواية الدور المحوري لمرحلة الطفولة وتأثيرها المستمر على مسار حياة الفرد وبنيته النفسية. لا تُعدّ شخصية الصديق الخيالي مجرّد تفصيلٍ هامشي، بل هي مكوِّنٌ أساسيٌّ في البنية النفسية لغالية، تعكس حاجتها الفطرية إلى الرفقة والدعم في مواجهة عالمٍ يبدو غامضًا وغير مفهوم بالنسبة لها. يستمر هذا التأثير حتى بعد تجاوزها مرحلة الطفولة، مما يؤكّد على أنّ بعض الاحتياجات الأساسية وأنماط التكيّف النفسي تتشكّل في مراحلَ مبكرةٍ من العمر وتستمرّ في التأثير على السلوكيات والعلاقات المستقبلية.

2. الصدمة والمرونة النفسية (Resilience): تتعرض غالية لسلسلةٍ من الصدمات المتوالية خلال حياتها، بدءًا من حادث والدها الذي قد يمثّل صدمةَ طفوليةً مبكرة (Childhood Trauma)، مرورًا بمرارة تجربتها الزوجية التي تتضمن عنفًا نفسيًا وجسديًا، وصولًا إلى فقدان والدتها وجنينها. لا تكتفي الرواية بسرد هذه الصدمات، بل تركّز بشكلٍ أساسيٍّ على آليات تعامل غالية معها، وقدرتها على الصمود والمقاومة في وجهها. إنّ التحوّل الذي تشهده شخصيتها من موقع الضحية إلى موقع الساعي نحو النجاة واستعادة الذات يُمثِّل جوهرَ مفهوم المرونة النفسية، وقدرة الفرد على التعافي والنمو بعد التعرض للشدائد.

3. تعقيدات العلاقات الأسرية وتأثيرها على الصحة النفسية: تصور الرواية العلاقات الأسرية بتعقيداتها المتشعبة، حيث تتجلى مظاهر الحب والدعم في علاقة غالية بوالدتها وجدتها وأختها سما، مما يوفر لها شبكة دعم نفسي أساسية. بينما تبرز في المقابل صور القسوة والظلم ضمن محيط عائلة زوجها، مما يشكل بيئة سامة تؤثر سلبًا على صحتها النفسية وشعورها بالذات. كما تتطرق الرواية إلى تأثير التقاليد والأعراف الاجتماعية على القرارات المصيرية، ومن ذلك الإصرار على بقاء غالية في زواجها رغم معاناتها الشديدة، مما يعكس الضغط الاجتماعي الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلات النفسية. "بات زواجي قبراً تحكمه كلمات، عقد قرانه الشرع على وحشٍ بشريٍّ لا يعرف كيف يمارس الحياة، تسرسبت حياتي من أوراق تقويم أيامي، مبللةً بدموع قهر ساد كلَّ لياليّا وجزءاً من نهاراتي، أخلصت حدّ التفاني لكلّ من حولي، حتى لجلادي الذي بنى أساطير انتصاراته الشبقية على تخوم الخيانة...". في هذا المقطع، تشبّه الكاتبة الزواج بالقبر، ما يعكس الشعور بالاختناق النفسيّ وفقدان الحياة، كما يشير إلى "دموع القهر" التي تعبّر عن المعاناة النفسية الشديدة.

4. قضايا المرأة في السياق الاجتماعي وتأثيرها النفسي: تتناول الرواية، بصورةٍ ضمنية وصريحة، قضايا تتعلّق بوضع المرأة في المجتمعات الشرقية، ومنها الضغوط الاجتماعية المرتبطة بالزواج والإنجاب (خاصةً إنجاب الذكور)، والتعرّض للعنف الأسري، وتقييد حريتها والتصرّف في ممتلكاتها. هذه الضغوط والانتهاكات لا تؤثّر فقط على الجانب الاجتماعي للمرأة، بل تترك آثارًا نفسيةً عميقةً تتمثّل في الشعور بالعجز، فقدان الثقة بالنفس، الاكتئاب، والقلق.

تُعدّ قصّة عمة مصطفى المسجونة في الزريبة رمزًا صارخًا لقمع المرأة وإسكات صوتها، وتجسيدًا للآثار النفسية المدمّرة. يسلّط الحوار التالي الضوء على الآثار النفسية المدمرة، من الإهمال والحرمان، وفقدان الكرامة، مما يؤدي إلى "بكاء حتى ابيضّت العينان" كدليل على المعاناة النفسية الشديدة.…"من أنت يا خالة؟ أجاب بصوت مخنوق: «عمّة مصطفى - «ولماذا أنت هنا؟! ما قصتك؟"، تجيب العجوز بحسرة: «أظن أنّ عمري قد تجاوز الستين، أقيم هنا منذ أكثر من عشر سنوات، كنت قبلها أعيش مع أختي وأولادها، توفيت وضاق أولادها ذرعاً بي، لم أتزوّاج بعد موت زوجي، قدمت إلى أخي والد مصطفى، أعطيته قطعة الأرض خاصّتي... مقابل أن أقيم عنده ويكون لي سترًاا.» تتنهّد وتزفر زفرةً حارّة، ثم تستأنف: - «لكنّ زوجته لم يرق لها ذلك، أجبرته على إلقائي هنا، وأشاعت بين الناس أنني توفّيت بعد أن توفّيَت أختي، لم يعلم أحدٌ بوجودي هنا، أذاقتني كل ألوان المهانة، بكيت حتى ابيضّت عيناي، تتعاقب عليّ الفصول، فأغرق شتاءً بالمطر المتسلّل من هذا السقف الهش، وأكتوي صيفاً بلهيب الشمس الحارقة....»"

5. مسار البحث عن الذات والتحرر النفسي: تُمثّل رحلة غالية مساراً للبحث عن ذاتها التي تعرّضت للفقدان تحت وطأة الظروف القاسية والضغوط النفسية والاجتماعية. تجد غالية في فعل الكتابة ملاذاً ووسيلةً للتعبير عن كيانها واستعادة صوتها المقموع، ما يمثّل عملية تطهيرٍ نفسي (Catharsis) وإعادة بناء للذات. إن تطوّرها ككاتبة وناقدة يُمثّل تجسيداً لعملية التحرر، ليس فقط من القيود الخارجية، بل أيضاً من القيود النفسية الداخلية التي فرضتها عليها مسارات حياتها؛ ويعكس مقالها عن "الرجولة" في الخاتمة درجة الوعي والنضج التي بلغتها في تحليل العلاقات الإنسانية وديناميكيات القوة، مما يشير إلى اكتمالٍ نسبيٍّ لمسار تطوّرها النفسي.

يُظهر المقطع التالي كيف أصبحت الكتابة وسيلةً لغالية ليس فقط للتعبير، بل لإعادة تنظيم أفكارها ومشاعرها، والنظر إلى الحياة من منظورٍ جديد، مما يشير إلى عملية نموٍّ نفسي وفكري: "وتناسخت الأيام والسنين في جنات أروادية، وغالية قد تخرّجت من كلية الطب، واختصّت في طبّ الأطفال؛ لكنّي لمحتُها كاتبةً، وتعرّفت عليها من بين سطورها في مدوّنتها، وهي تكتب روائع من قصص وشعرٍ عن ذلك العالم البحريّ العجيب. ".

والاقتباس التالي يُصوّر لحظة التحوّل النفسي والنهوض من حالة "الموت" النفسي، باستخدام استعارة "الحمامة التي نبت الريش في أجنحتها" للتعبير عن استعادة القوة والقدرة على التحليق بعد فترةٍ من القمع والألم: "نبت الريش في أجنحة الحمامة التي تعرّضت للقصّ والبتر، وبدأتْ ترفرف برفرفاتٍ بسيطة، كلَّ يوم أطير قليلاً ثمّ أعود إلى قبري، إلى أن كان ذلك اليوم الذي حلّقت فيه في السّماء ولم أرجع إلّا في الليل..."

6. الجانب الذرائعي والأثر النفسي: يمكن قراءة الرواية من منظورٍ ذرائعيٍّ، عبر النظر إلى القصدية والأثر المتوخّى منها. قد يتمثّل قصد المؤلفة من خلال تقديم هذه القصة في تسليط الضوء على حجم المعاناة النفسية والاجتماعية التي قد يتعرّض لها الأفراد نتيجةً للظلم، والتأكيد على الدور الحيوي للدعم النفسيّ والاجتماعيّ في تجاوز هذه المحن. أمّا الأثر المتوقَّع على المتلقّي، فيتمثّل في إثارة مشاعر التعاطف، وربما تحفيزه على إعادة النظر في هذه القضايا ضمن سياقه الواقعي، وقد تسهم الرواية في زيادة الوعي بضرورة الصحة النفسية وأهمية مواجهة الظلم. يُلاحظ أيضًا أن استخدام الكاتبة لخبرتها في مجال النقد ينعكس في بناء السرد وعمق تحليل الشخصيات، حيث يتجلى التحليل النفسي والاجتماعي بصورةٍ متكاملةٍ ضمن النسيج السردي للرواية، مما يعزّز من مصداقيتها وتأثيرها.

خاتمة

رواية "بين حياتين" إسهامٌ أدبيٌّ بارزٌ، يجمع بين البراعة السردية وعمق الطرح الفكري، مع تحليلٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ للشخصيات والأحداث. من خلال أسلوبها التصويري ولغتها الإيحائية، تنقلنا الرواية في رحلة سرديّةٍ مؤثرة عبر حياة شخصيةٍ تواجه ظروفًا بالغة القسوة، لتؤكد في المحصلة على قدرة الروح البشرية على الصمود والتكيف، والسعي نحو إيجاد بصيص الأمل حتى في أحلك الظروف. إن عناصر القوة المتجلية في الرواية، سواء على مستوى البناء الأسلوبي المتقن أو ثراء الأفكار المطروحة التي تتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية بعمق، تجعل منها نصًا يستحق القراءة والتدبر، وتُعدّ شهادةً على أنّ الأدب بمقدوره أن يكون مرآةً عاكسة للواقع الإنساني وأداةً فاعلةً للفهم والتغيير على المستويين الفردي والمجتمعي..

***

بقلم: منذر فالح الغزالي

كاتب وناقد من سوريا، يعيش في ألمانيا الاتحادية

بون في 10/5/2025

وطفة الفرات.. هكذا أرات لاسمها أن يكون فراتيّاً بعظمة الفرات الخالد، الذي لم ينس عبر تاريخه الطويل من ارتبط به أو عاش على ضفتيه، حيث لازالت آثارهم متجذرة في تربته وشامخة كأشجار حوره وصفصافه، ترمي بظلالها على صفحات مياهه بفرح الخلود. فالخلود سر الحياة، وكل منا يبحث عنه في مهد ولادته وبالطريقة التي يمتلك فيها أدواته المعرفيّة أو الابداعيّة.

وطفة.. أديبة قاصة، فراتية التربة والهوى من محافظة الرقة. امتلكت ناصية اللغة، ومهنة الحرف وصياغته قلائد من شيح الفرات وكيصومه وغربه وطرفاه وورده الجوري، تتجلى في تربته ومائه وطينه وزله ونخيله وأهله وشعبيّة لهجتهم، الكثير مما كتبت من قصص أو خواطر عن حب أهل الفرات وأحلامهم وآمالهم وآلامهم وفقرهم وجوعهم وغربتهم وأفرحهم وأحزنهم. وما يميز "وطفة الفرات" تلك القدرة الهائلة على تصوير أحداث قصصها بدقة فائقة، كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة في الحياة والأدب معاً، مكنتها من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها وأحلامها.

بنية الحدث القصصي:

إن بنية الحدث القصصي لـ (روح.. وخمسة ظلال) التي بين أيدينا تحكي عن حالات فقدٍ لخمسة شخصيات شكلوا ظلال روح وجسد عند القاصة، مات منهم أربعة، وظل واحد شكل في القصة كلها ذاكرة إنسان تُرك حياً لا ليعيش.. بل ليتذكر. وأن تصير عيناه حافظةً لوجوه غابت، وصوتاً هو الوحيد الذي مازال ينادي أسماء لا يرد عليها أحد منها.

مع الفقد يملأ الحنين روح من فقد أحبته، ليفجر في داخل هذه الروح الألم وغربة الروح ذاتها، فمع حضور الحنين تقول "وطفة":  (الحنين …ليس ما نشعر به حين نفتقد.. بل ما نشعر به حين نتألم لأننا ما زلنا نتذكر).

هم خمسة أخوة كما تقول القاصة (هي أصغرهم كانت مثل حافة قصيدةٍ لا تُقرأ، أو كلمة تُركت على الهامش، لكنها تشهد على كل المعنى.. خمسة إخوة كأصابع يدٍ كانت تمسك الحياة دون خوف ثم تناثرت.. كل إصبعٍ منها في جهة كأن الحياة تقول: لا تجتمعوا مجددا).

تقول القاصة "وطفة" عن سماتِ وخصائصَ كل فقيد منهم:

الأول: كان يغني.. وجمال صوته يفتح أبواب الفجر حتى أيقن أهله بأن الشمس لن تخرج إلا إذا غنّى. إلا أنه اختفى ذات صباح قالوا إنّه التحق بالغيم… وأمه كانت تقول وهي تكفكف الغبار عن وسادته: “من يرحل بصوته، لا يعود بجسده.”

أما الثاني: فكان يحلم كثيرا في مستقبل مزهر يعيش فيه.. كان يخطط كما تقول "وطف" لبناء مدنٍ فوق السحاب. ولكن خاب كل حلمه في عالم لا يعرف إلا الحرب والموت.. لقد أخذته الحرب وضاع حلمه الذي كان يرسم ملامحه في دفتره … ولم يعد منه لأهله إلا هذا الدفتر بعد أن حرقت نيران المعركة أجزاءً، وبقاء نظرة عالقة في صورة.. وفردة حذاء..

والفقيد الثالث" كان قلب العائلة كما تقول "وطفة" (إن ضحك ضحكت العائلة كلها، وإن مرض …مرضت السماء.). لقد أصابه المرض في صمت، ومات في صمت، وكانت فاجعة رحيله في صمت أيضاً، وعند فراقه حزنت حتى السماء التي أبت أن تمطر لشدّة حزنها.

بقي الرابع من الأخوة الذي ناله الفقد. فهو توأم الروح والجسد للقاصة كما تقول "وطفة" كانا طفين لا يتفارقان.. كانا ينامان في فراش واحد، يتشاركان الغطاء والحلم والسكينة معا.. عندما كبر بدأت شقيقته تشعر بالغربة نحوه.. لم تعد ألفة الطفولة تهزه اتجاه شقيقته، حتى سألته أخته:

- أين هو صوتك الذي كنت تنادين به في طفولتنا..

- رد عليها: “دفنتُه كي أعيش.” فأي حياة هذه يا أختاه التي تطلب منا فناء حتى الذاكرة. ومن يفقد ذاكرته سيفقد وجوده في هذه الحياة ذاتها.

بقيت أخيرا القاصة.. بقيت كما تقول "وطفة" لتحرس أسماء إخوتها الذين غادروا عالمها الشقي.. بقيت تحمل صورهم في صدرها، الذي تحول فيه هذا الصدر إلى معرض لتلك الوجوه التي فارقتها.. تناديهم.. تكلمهم تناجيهم، ولكن لا مجيب. فأصبحت ذكراهم تثقل كاهلها، وشغلت حياتها، فجعلها هم الفقد وعذاب الروح (تجلس كل ليلة في فناء البيت القديم…تحمل قميصا لهذا… دفتراً لذاك…… صورةً للآخر… ودمعةً لما تبقّى.). لقد أصبحت الوحشة عالمها، واتخذت من الريح صديقا لها تناشدها أن تشفي حنيها، راجية منها أن  تمر "بأسمائهم… لعلّهم يسمعون وهي تذكر الريح بأنهم أربعة..

أول.. ثانٍ… ثالث…. رابع…ومعهم حنينها وصمتها وفقدها…

تسطر "وطفة" في نهاية قصتها رؤيةً فلسفيّةً في عالم الفقد والعذاب والقهر: لم يعُد الغياب موتاً.. وفي عالم الغياب يظل الإنسان حياً فقط  ليهتف بأسماء من ماتوا…من رحلوا، ولكن يظل لهذا الهتاف صدى شأنه شأن من رحل لن يعود. وعند الفقد يتفجر الحنين ليشكل عالم وجع الإنسان وغربته الروحيّة.

التكنيك الفني في القصة:

عنوان القصة: (روح.. وخمسة ظلال)، لم يأت عنوان القصة عبثياً، بقدر ما جاء عتبة سيميائيّة أوليّة لقصتها، مدروسة بدقة عالية، فهو تعبير عن موقف إنساني تراجيدي في جوهره، والمعادلة الفكرية فيه تأتي بين طرف الروح التي تشكل عصب حياة الإنسان وعنصر وجوده الفعلي، فعند ضعف الروح أو تلاشيها تضعف مسيرة حياة الإنسان وقد تنتهي، وبين الظلال التي تعني التلاشي أو الفقد.. فالظل الذي يغيب صاحبه، يبقى ولكن يتحول إلى ذكرى.

السرد أو الرؤية من الخلف:

في حالة السرد من الخلف يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، فهو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. فالسارد كلي العلم. والسارد في هذه القصة هو الضمير المتكلم، وهذا ما أعطى القاصة القدرة على استبطان شخصيات قصتها واطلاعنا على عوالم تلك الشخصيات والجوانب الخاصة بها، رغم أن شخصيات القصة فاقدة لأسمائها، الأمر الذي تحولت فيه هذه الشخصيات في القصة إلى رموز لها دلالات أرحب وأعمق، قدمتها القاصة بأبعاد إنسانيّة تتكرر في المجتمع، وهنا يترك للمتلقي تأويل الأبعاد الفكريّة والإنسانيّة لهذه الشخصيات.

التمهيد للحدث القصي وخاتمته:

إن القاصة استطاعت من خلال خبرتها وعمق تجربتها وشفافية إحساسها، أن تمهد للحدث القصصي هنا وتهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق عالٍ، يستجيب مع المواقف الواردة في بنية القصة بشكل يثير الرغبة عند المتلقي لمعرفة النهاية. فالقاصة مثقفة مهدت لقصتها بروى فكريّة عميقة تناولت فيها ربط الذكرة بالإنسان، وجعلت من هذه الذاكرة وسيلة لإثبات حياة الإنسان، بل جعلت الإنسان نفسه هو الذاكرة حيث تقول: (أن تُترَك حياً لا لتعيش..بل لتتذكّر). ثم ذهبت في مقدمة سردها إلى الاشارة (للحنين) الذي يتولد مع الفقد، وبالتالي نحن نشعر بالحنين لأننا نتذكر. بهذا العمق الفلسفي الذي ربطت فيه "وطفة" ما بين التذكر والحنين والألم في حياة الإنسان، مهدت لقصتها.

أما نهاية القصة فجاءت مرتبطة في مقدمتها أو التمهيد لها، حيث ظلت الفكرة الفلسفيّة للفقد والذاكرة والألم هي العوالم التي تهيمن على الإنسان. تقول القاصة في نهاية قصتها: (هكذا أفهم الحنين الآن، أنه وجعي حين أنادي، ولا يردّ إلا الليل.).

لغة القصة وتشكيلها البلاغي والسردي:

لقد اعتمد القاصة في سرد قصتها على شكل حكاية.. حكاية تحمل أبعاداً اجتماعيّة وفلسفيّة أو فكريّة،  عرضت أحداثها  بلغة سهلة عذبة رقيقة غنيّة وشفافة، تكاد ترتفع بأسلوب صياغتها إلى مستوى الشعر، وما منحها أو أجاز لها هذه السمة هو ترابط عبارات القصة وتماسكها وجماليّة صورها وانزياحاتها ومفردات البلاغة فيها التي منحت بنية السرد القصصي رتماً موسيقيّاً هادئاً  مشبعاً بالحزن، يجعل المتلقي يشعر عند قرأتها كأنه يقرأ قصيدة نثر، وهذا الشكل من السرد السهل والممتنع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة والحائز على قدرات فنيّة عالية. إن هذا السرد مستمد في الحقيقة من وضوح الرؤية وعمقها عن القاصة "وطفة" بحيث تتلاشى هنا الحواجز إلى حد كبير بين القاصة والمتلقي.

الأبعاد الإنسانيّة للقصة:

إن الكاتب أو الأديب أو الفنان الحقيقي، هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها، والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن. وإن الأديب الملتزم هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته.

إن العناية بالإنسان.. بهمومه ورقيه، تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه، ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته أو تعذيبه وسجنه وحتى قتله.

لا شك إن قصة (روح.. وخمسة ظلال)، هي عمل لا يخرج عن سياق الأعمال الملتزمة بقضايا الإنسان، ربما تعبر القصة عن حياة حياة حالة فردية معينة أرادت القصة تسليط الضوء عليها، بيد أن  القاصة هي ابنة سورية أيضاً التي عاشت خمسة عشر عاماً من القهر والعذاب والجوع والظلم والتشرد وسفك الدماء، وبالتالي جاءت قصتها هذه تعبيراً حياً عن معاناة الشعب السوري الذي فقدت فيه أكثر الأسر فقيداً أو اكثر، بل هناك أسر قتل كل أفرادها في هذه الحرب القذرة.

(روح.. وخمسة ظلال)، هي تعبير مصغر برأيي عن ملحمة الموت في سورية، هذه الملحمة التي جاءت في جوهرها لتجسد - بعلم "وطفة" أو بدون علمها -، بشكل مكثف، وبرؤى فلسفيّة وفكريّة وبفنية عاليّة، جعلت المتلقي يعيش كل كلمة أو عبارة فيها لأنها تعبر عنه أو عن أخيه أو قريبه أو جاره.. لقد تحول الموت في سورية إلى عادة لم يعد له ذاك التأثير العميق على السطح، بسبب كثرة من مات أو قتل، ولكن (التذكر) ظل جذوة تسعر في أعماق كل نفس كل فرد من سوريا يتصاعد لهيبا يحرق الروح عندما تفتح دفاتره.

كل الشكر للقاصة المبدعة "وطفة الفرات" التي دخلت إلى أعماق كل منا، وجعلتنا نفكر من جديد بمن فقناهم، والأهم لماذا فقدناهم.

***              

د. عدنان عويد:

كاتب وباحث من سوريّة

في رواية "الطريق إلى سحماتا" لإبراهيم السعافين

حظيت العتبات النصية باهتمام بالغ في الدراسات النقدية الحديثة بوصفها من المفاهيم النقدية الحديثة في الدرس النقدي المعاصر الغربي والعربي، وأصبحت تشكل ظاهرة لا يغفل عنها لدورها المهم والتي أصبحت متصدرة للمشهد لا هامشية كما في السابق.

ويعود الفضل لهذا الاهتمام للناقد الفرنسي جيرار جينيت الذي قدم دراسة مفصلة عن العتبات وضبط المصطلح، وأولى اهتمام، وعناية للنص، ومكوناته. فهي تساهم في جذب القارئ وتشويقه وتستدعيه للغوص في عالم النص، وتنسج خطابًا روائيًا عن النص الإبداعي وترسل حديثًا عن المجتمع والعالم فهي شديدة الارتباط بالنص.

ويعد المنهج السيميائي بما يسخره من إمكانات للكشف عن دلالات العتبات، بوصفها نصوصا موازية وإشارات تكشف عن الدلالات المضمرة، وتجيب عن أسئلة العتبات وكيفية تشكلها بوابات للدخول الى متن الرواية وحدود العلاقة بين تلك العتبات وأفق التوقع عند المتلقي، ومن خلال هذا المنهج تم دراسة الشكل الخارجي للغلاف والعنوان في رواية "الطريق إلى سحماتا"، وتعد الأولى للدكتور إبراهيم السعافين، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، لعام 2017م، وتقع في 300 صفحة من القطع المتوسط، تناولت قضية مقاومة الشعب الفلسطيني، وتصدّيه المستمرّ للمشروع الاستيطاني الصهيوني في وطنه، كما تحكي لنا قصص أبناء الأراضي المغتصبة عام 1948، وانتقال بعضهم إلى فلسطين المحتلة 1967، ومن ثم توزعوا بين بقاع العالم المختلفة، وتدور أحداث الرواية في عدد كبير من المحطّات: أمريكا، ومصر، ولبنان، والأردن، وكندا، والكويت، وفلسطين.

سيميائية الغلاف

يعد الغلاف الخارجي لأي عمل إبداعي مكتوب أول واجهة مفتوحة أمام القارئ، والعتبة الأولى التي تصافح بصر المتلقي وتهيئه لتلقي العمل، لذلك أصبح محل عناية واهتمام الشعراء والكتًاب، فالغلاف الخارجي يتضمن كل ما يحيط بالرواية فهو يعد واجهة إشهارية وتقنية يقدم بها الكاتب روايته للقراء.

يخضع الغلاف إلى منطق مزدوج بين صاحب الراوية والقارئ الأول لها، وبمجرد إطلاع ذلك الفنان المطالب بإنشاء غلاف لكتاب الراوية يتخيل مجموعة من العلامات التي تكون متسقة ومتناسقة مع النص الروائي. وأهم ما نجده في غلاف الرواية اسم الكاتب الذي يعتبر أهم العناصر، التي لا يمكننا تجاهلها أو تجاوزها، لأنه العلامة الفارقة بين كاتب وآخر، فهي تثبت هوية الكتاب لصاحبه، ويحقق ملكيته الأدبية والفكرية على عمله. ويحمل الغلاف صورة تقع على البصر مباشرة، وهي علامة غير لغوية قد ينتبه إليها القارئ قبل العنوان أحيانًا. ولا ننسى تفاعل وتمازج الأشكال والأشعة الضوئية عبر اللون فيؤلف المظهر الخارجي في اللوحة بانسجامها لتحقق الوحدة الجمالية.1471 saafeen

وهذا ما جاء في غلاف رواية "الطريق إلى سحماتا" فهو العتبة الأساسية التي تساعد القارئ في الدخول إلى النص لما يحمله من مؤشرات ودلالات. وقد خضع لمنطق مزدوج بين صاحب الرواية والقارئ الأول، فبمجرد إطلاع الفنان المطالب بإنشاء غلاف لكتاب الرواية يتخيل له مجموعة من العلامات التي تكون متسقة ومتناسقة مع النص الروائي. ويعد تحليل صورة الغلاف أول ما يتم البدء به كونها قراءة تتجاوز الوصف، لاعتبارها تحمل العديد من التأويل والقراءات، فهي قراءة تحاول الربط بين مستويي التعيين والتضمين اللذان يشكلان الوظيفة السيميائية. ومن هنا فغلاف الرواية لم يكن من صنع المؤلف وحده وإنما هو من صنع الفنان التشكيلي أيضا وكأنه عقد مشترك بينهما.

تظهر رواية "الطريق إلى سحماتا" بشكل طولي، طولها (21) وعرضها (14)، وهذا يدل على أن غلاف الرواية يتبع على مقاس متوسط (21*14). وتحمل صورة الغلاف لوحة فنية من تصميم الشاعر والفنان زهير أبو شايب، والغلاف كما قلنا يعد العتبة التي تصافح بصر المتلقي فأصبح ذا أهمية، فهو مدخل بصري إلى بنى النص بوصفه مجموعة من العلامات البصرية والتشكيلية التي تكون موجهة للقارئ، ويعمل على رسم أفق انتظاره وتحفيزه قبل القراءة. ويمنح الغلاف هوية بصرية يجب أن نقبلها كإحدى هويات النص، فالغلاف أول من يحقق التواصل مع القارئ قبل النص نفسه (حسين نجمي، شعرية الفضاء السردي، ص:22).

وجاء غلاف الرواية مستندًا على جملة من العناصر المتجانسة، حيث تبدأ الصورة بالخلفية الزرقاء النابعة ربما من سماء سحماتا الصافية، كما ظهر فيها حمامتان الأولى تحمل في فمها ورقة بيضاء على شكل طائرة، بينما الأخرى وكأنها تجلس تنتظر وصولها على أيقونة أسطوانية حمراء اللون وكأنها تمثل نقطة إطفاء، الألوان والحمام تدل على السلام والنقاء، ربما أراد من ذلك الروائي أن يبعث الأمل بتحقق حلم السلام والعودة. ولم تكن اللوحة هذه عبثًا بل وضعت بقصدية وتعكس مضمون العمل الأدبي.

أما بالنسبة لاسم الكاتب فقد جاء متصدرًا للغلاف وتحته العنوان. إذًا تموضع اسم المؤلف في الرواية في واجهة الغلاف، فكأن الروائي إبراهيم السعافين أراد إبراز حضوره المتميز منذ البداية، وكان اسمه فوق العنوان مباشرة، ليثبت الروائي أنه جزء لا يتجزأ من النص وأحداثه. وجاء الاسم باللون الأبيض، ومن المتعارف عليه فهو يعد مؤشرًا لنهاية دورة في حياة الإنسان وبداية دورة جديدة، وهو من الألوان المشرقة، كما يرمز للنقاء والسلام والهدوء والراحة، وبرأي فالروائي إبراهيم السعافين يتصف بتلك الصفات، وربما أراد من ذلك أيضًا أن يصف لنا شخصيات الرواية بأنهم يتصفون بالنقاء والهدوء وحلمهم السلام والعيش في وطنهم فلسطين.

أما الغلاف الخلفي للرواية والذي يعد العتبة الأخيرة للكاتب وتقوم بوظيفة عملية، وتعد عتبة أساسية لا تقل أهمية عن الواجهة الأمامية، وهي دلالة على إنهاء العمل وتزيد الرواية جمالية وجاذبية للمتلقي، وقد اشتملت الواجهة الخلفية للرواية على صورة كلاسيكية للروائي وربما كان لذلك انعكاس على سردية الرواية، وبجانبها نجد كلمات موجزة كتبها الناقد والشاعر زهير أبو شايب، تشيد بهذا العمل والذي وصفه برواية دافئة وعذبة وملأى بالشخصيات الإيجابية...

سيمياء العنوان

أصبح العنوان في النص الحديث ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها في بناء النصوص، والعنوان له الصدارة حيث يبرز متميزًا بشكله وحجمه فهو أول لقاء بالقارئ والنص.

لقد كُتِبَ عنوان الرواية بالبند العريض حتى يتسنى للقارئ تمييزه عن جميع العناصر الأخرى، وتموضع العنوان بعد اسم الكاتب مباشرة، ليدل على أهمية العنوان وارتباطه بصاحبه، كما أنه وضعت لفظة رواية في أعلى الغلاف الى الجهة اليسرى وبلون البنفسجي، وذلك لتمييز العمل عن باقي الأجناس الأخرى كالقصة.

جاء العنوان بالصيغة الاسمية مزدوجة بين صيغتين يفصل بينهما حرف الجر (الطريق إلى سحماتا)، ومن دلالات الجملة الاسمية الثبوت والاستقرار، وكأن الروائي أراد من ذلك ثبات واستقرار شخوص الرواية في طريقهم إلى الوطن والعمل بجهد للعودة وتحريره، فالطريق دلالة على الرحلة التي ستمضي بها شخوص الرواية وأحداثها، وحرف الجر إلى من معانيه انتهاء الغاية المكانية وكأن الكاتب يشير إلى أن الأحداث ستؤول وتنتهي في قرية سحماتا، القرية الصامدة في شمال عكا في فلسطين الأم، والتي في الأصل تبدأ منها أحداث الرواية. وقد جاء كذلك باللون الأبيض الدال على النقاء والسلام، وربما هذا ما جعله يكتسب بعدا جماليا فالخط واللون يحملان خصوصية كعلامة رمزية للنص.

فالعنوان يعد عتبة رئيسة تقع عليها أنظار المتلقي وهو يدخل ضمن الوظيفة الإغرائية التي تستدعي القارئ وتستدرجه لقراءة النص وفك معانيه، فيؤثر فيه ويثير في نفسه نوع من الفضول لمعرفة حكاية هذه القرية وما آلت إليه، ولا يستطيع ذلك إلا من خلال الولوج إلى النص.

وبعد هذه الرحلة في فضاء الغلاف الخارجي للرواية نستطيع القول لا يمكن لأي قارئ للنص أن يتجاهل عتباته النصية فهي رسالة بين المتلقي والكاتب تمكنه من الولوج إلى النص وتمنحه مفاتيح الاستكشاف. وهي فضاء من العلامات والدلالات ولها وظيفتها الإغرائية والملفتة، وتضيفت جمالية على النص.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

يتفق قراء الأديب التركي عزيز نيسن، وأغلب نقاده كذلك، على أن سره الإبداعي يكمن في بساطته، وقدرته على التعامل مع الأحداث بفنية عالية. إنه الكاتب الذي لا يكتفي بمتابعة الوقائع من شرفته، بل يتسلل بخفة ساحر من ثقب المفتاح، ليرصد أدق تفاصيل شخصياته، وينقل بسخرية بالغة الألم مجريات الحياة اليومية، والقضايا التي تشغل البسطاء.

عاش محمد نصرت نيسن حياة متقلبة، ونزل في ضيافة السجون التركية مرارا بسبب مواقفه الحادة، وتمرده الذي يصل حد الجنون. وجعل من الكلمة السهلة واللاذعة وسيلته لكشف مفارقات حادة، نتجت عن تأرجح المجتمع بين أصوله الشرقية وتطلعه للغرب. فأغنى المكتبة الأدبية بعشرات القصص الساخرة والمستلهمة من واقع مرير.

في روايته المميزة (أطفال آخر زمن) يُقارب عزيز نيسن الحياة الأسرية من منظور طفلين يتبادلان الرسائل. وإذا كنا قد تعودنا أن يكتب الأديب للأطفال ويتحدث إليهم، فإن نيسن يقلب المعادلة ليُفسح المجال للأطفال كي يتحدثوا لنا وعنا، ويهدموا تمثلات سائدة لدى أغلب الآباء بأنهم عند حسن الظن، وأن أبناءهم راضون عنهم مادام السكوت علامة رضا!

يقول نيسن مُنبها قراءه " إن هذه الرواية، وإن كانت كُتبت بشكل روائي، إلا أنها دروس مرتبطة بهذه الخصال الطيبة والقبيحة. وهي للأطفال والكبار، ولكل من يحترمون الحياة الأسرية ويحبونها. خواطر عذبة تبعث التسلية وتحمل الموعظة."

صيغت الرواية ضمن قالب يعتمد رسائل متبادلة بين أحمد تارباري وزينب يالكر؛ صديقان يكشفان من خلال يوميات الأسرة والصف الدراسي جملة من الظواهر والمشاكل التي تؤثر سلبا على الصغار، وتحد من استمتاعهم بتلك المرحلة العمرية.

يحكي أحمد في رسالته الأولى عن المعلم الجديد الذي يأمرهم بنسيان كل ما تعلموه ليبدؤوا التعلم من جديد. الأمر الذي استنكره التلاميذ لما فيه من إساءة غير مباشرة لمعلمهم القديم الذي انتقل إلى منطقة أخرى. وأمام إصراره يقرر الأذكياء منهم النسيان عمدا ليضعوه في موقف حرج أمام المدير.

وفي رسالة زينب نقف على تصرف لا يُقَدر الآباء خطورته، حين يسعون لإعطاء القدوة من أنفسهم معتمدين على الأكاذيب. وهكذا تكتشف الطفلة أثناء جدالها مع بعض رفاق المدرسة أن أباها لم يكن الأول على فصله كما يزعم، فتضع بذلك حدا لتوبيخه المستمر.

   وينقلنا أحمد في رسالة أخرى إلى تمثلات التلاميذ حول المفتش، والذعر الذي يتملكهم بفعل ضغط المعلم وحرصه الزائد على تأكيد تفوق صغاره. وخلال رده على أسئلة المفتش يتحول الارتباك إلى لوحة ساخرة تحرر الفصل بكامله من التوتر.

وتكشف مريم في إحدى يومياتها عن خطورة الأحاديث الصريحة أمام الأبناء، وإبدائهم لمواقفهم من الآخرين دون انتباه لما يسببه ذلك للطفل من حيرة وتشتت، خاصة حين تصبح العلاقة مع الآخر رهينة الزيف والمجاملة المفرطة. لقد كان حديث الأب عن "زينالي بيك " الكسول الذي أصبح ثريا يملك الشركات، سببا في تذمر الابن أمام صيغ المجاملة التي رافقت حفل خطبة البنت الكبرى من ابن "زينالي بيك"، بل ورفضه متابعة دراسته ليصبح غبيا يملك مالا كثيرا، تماما مثل "زينالي بيك".

وفي رسالة أخرى نطالع موقف الصغار من الواجبات المنزلية التي يُثقل بها المعلم كاهلهم، وتساؤلهم حول الغاية من هذا العمل الشاق وجدوى القيام به، خاصة إن كان المعلم لا يتابعه. فعثمان، التلميذ الشاطر في صف زينب، يؤكد لرفاقه أن المعلم لا يلقي نظرة على واجباتهم المنزلية، بل يمزقها ويلقي بها في وعاء النفايات. ويقرر أن يكتب كلاما فارغا بدل الواجب المنزلي ليؤكد صحة كلامه. ولسوء الحظ تزور إحدى الجارات بيت المعلم، وتستغرب من قدرته على تصحيح كم هائل من الواجبات المنزلية، لكن الأخير يؤكد لها أن الجميع أذكياء ومتفوقون، وخير دليل على ذلك ورقة عثمان!

يضع عزيز نيسن أصبعا حارقة على المواقف التي تسيء للطفولة، ويتبين من خلالها عجزُ الراشدين على أن ينفذوا الوصايا التي يتلونها كل ليلة على صغارهم. فبعض الآباء الذين يجعلون من حصَّالة النقود سبيلا لتعويد الطفل على الحرص وترشيد الإنفاق، قد يضطرون لاقتراض المال منها بعد أن خسروا راتب الشهر في حفلة رأس السنة! وهكذا تتحول النصائح في ضمير الطفل إلى خزعبلات يمل سماعها، ويمنعه من الاحتجاج عليها صوت أحدهما وهو يردد متوعدا:" إذا فتحت فمك بمثل هذا الكلام أصُب الفلفل في فمك!"

ولعل أشد ما يؤلم الصغار هو لجوء الوالدين أو المدرسين إلى الصراخ والتهديد واللهجة المتعالية، خاصة حين يعجزون عن تبرير سلوك معين، أو الإجابة عن سؤال محرج. فأسئلة من قبيل: كيف تلد النساء؟ ولماذا لا يرقص الرجال؟ وهل الأطفال حقا لا يفهمون كل شيء؟ هي تعبير عن الفضول المعرفي الذي تتسم به تلك المرحلة العمرية. وما أحوج الصغار إلى من ييسر لهم الفهم دون تظاهر بالحرج أو الخجل. لكنها مفارقات المجتمع الشرقي التي يدفع الأبناء ثمنها غاليا في بعض الأحيان.

يُصرح عزيز نيسن في ختام عمله المشوق ذاك بأن الرسائل من وحي خياله، وأن هدفه هو إسداء النصائح للكبار بلسان الصغار:" لقد كان ما أردته، وما آمل به هو ألا تتحول قلوبكم الصغيرة النقية الصافية كالمرآة، بعد إدراك هذه المفاسد، إلى اقتدائها والتمثل بها. وأن تفطنوا إلى أن العمل القبيح هو عمل قبيح، سواء صدر عن المعلم أو عن والد الطفل أو والدته اللذين هما أعز الناس على قلبه. وأن تأخذوا العبرة ولا تنساقوا في دروب الأعمال القبيحة أبدا".

 ***

حميد بن خيبش

هاتف جنابي، عبد الستار نور علي وبدل رفو مزوري

الشعراء هاتف جنابي، عبد الستار نور علي وبدل رفو مزوري. ثلاثتهم غادروا العراق مبكرا وعاشوا في بلدان المهجر المختلفة، هاتف جنابي استقر في بولندا، عبد الستار نور علي في السويد، وبدل رفو في النمسا.

1- هاتف جنابي:1468 hatif

اندمج هاتف جنابي في الثقافة البولندية وبرع في اتقان لغة القوم حتى أصبح أحد أعلامها في الشعر والترجمة وحصد العديد من الجوائز البولندية الرفيعة وشارك في معظم المهرجانات الشعرية التي نظمت في بولندا من قبل اتحاد الكتاب البولنديين او المؤسسات البولندية الثقافية الاخرى، وانجز موسوعته انطلوجيا الشعر البولندي التي شملت معظم شعراء بولندا. درس في جامعة وارشو المسرح وحصل على الدكتوراة في الادب.

أصدر الجنابي مجموعة من الدواوين الشعرية الرصينة، تناولها النقاد بالدراسة والاشادة بتجربة الشاعر وخصه الباحث د. عدنان عباس بدراسة وافية صدرت في كتاب عن جامعة مكسيموفيتش في بوزنان / بولندا، وسبق لي ان تناولت بعض شعره والاشارة الى خصائص تجربته الواسعة وعرّفت بصدور بعض دواوينه.

يمتاز شعر الجنابي بعمق الفكرة التي تنطوي على فلسفة ضمنية تجعل قصيدته بحاجة الى قاعدة معرفية غنية لفك معانيها المختفية تحت ظلال الكلمات العارية من رداء البهرجة اللفظية التي يلجأ اليها الشعر النمطي (الكلائشي).

من ديوانه فراديس، ايائل وعساكر الصادر عن دار المدى عام 1998 نختار من قصيدة الانسان والغابة هذا المقطع:

الغابة المبتهلة

بقطرة ندى وكبرياء الماء أو

حفاوة الاوراق

بالضوء والمغيب

مباركة

الغابة المنهمرة  

من وحشة الاعشاب والندى

ونخلة تشق قلب الليل والمدى

مباركة

الغابة الطفلية المحتشدة

تحت الرماد والحصى

مباركة

يا غابة مباركة

قومي برغبة الوداع

قومي بنشوة التداعي أو بزفرة الفناء

ياغابة مقلوعة الاظافر

منزوعة النخاع

تبددي في الضوء والاشياء نطفة فريدة.

الوحش

في الكلام ينهش الحروف والبهاء والخيال

الوحش في الطريق

نلاحظ ان اختيار الغابة أضفى على القصيدة ظلالا شاملة تفسح الطريق أمام الشاعر ليقدم رؤية فلسفية من خلال نص شعري مقتضب، فاستعار للغابة الاظافر والنخاع في قوله (يا غابة مقطوعة الاظافر / منزوعة النخاع..) وفي الصفتين ما يحفز المتلقي على إعادة النظر بالنص كي يستخرج العلاقة بينهما وبين رؤية الشاعر التي زادها غموضا تبديده في الضوء والاشياء نطفة فريدة، لما في تلك التعابير من احالات لنصوص قد يظن القارئ انها نصوص مقدسة وقد يتركها المتلقي لتستقر على هامش النص الشعري دون حاجة الى استيفاء المعني المراد من قبل الشاعر.

يقول الناقد د. عدنان عباس في معرض تحليله لاحدى قصائد هاتف (يشكل هاتف في ايقاعاته البسيطة، واستطراده النثري في اوصافه، ملامح قصيدته هذه ذات الخلفية الوجودية حيث يقوم بتوزيع وتنظيم صورها بين التوليف السينمائي الى التوليف المشهدي على شكل لوحة متعددة العناصر.) دلالات المكان في قصيدة غيمة، فصل في كتاب د. عدنان عباس *

في مقالي عن وليمة الاسماك رسمت بعض ملامح قصيدة هاتف جنابي، نقتبس من المقال الفقرة التالية:

إن إعادة قراءة قصيدة هاتف الجنابي امر مألوف لانها لا تقدم نفسها بسهولة لمن يريد الاحاطة بكنهها، عليك تناولها باناة ورفق فوراء الكلمات التي أمامك وهي مرصوفة على الورق بكثافة ظاهرة، أبعاد بحاجة الى استشراف آفاقها التي تتطلب البحث عن منابع الفكرة، المغامرة، التي يـبغـي الشاعر اللعب على اسرارها بهدوء غريب يغمر مناخ القصيدة ليقدمها الى القارئ كي يفتح امامه مرافئ غير مأهولة تسمح باكتشاف اللامكان الذي ينطلق منه الشاعر وغالبا ما يكون الوطن المقصي في اعماق الذاكرة والحاضر في كل مكان.1 مؤيد، الحوار المتمدن

ملاحظة: انتقل مؤخرا الى بريطانيا.

2 - عبد الستار نور علي:abdulsatar noorali

شاعر غزير الانتاج يخوض في بحار الشعر الكلاسيكي والحديث، ويبحر مع الكلمة الناقدة، فهو ناقد متابع للجديد، ومترجم للادب السويدي.

نشأ بـبغداد، محلة باب الشيخ المعروفة بغالبية سكانها الكورد، فهو من كورد بغداد، يجيد العربية ودرَسها في كلية الاداب بجامعة بغداد.

 تفتحت موهبته في سن مبكرة فجرب الشعر والنثر، اغتنت تجربته من خلال عمله مدرسا للادب في بغداد والحلة حتى احالته على التقاعد عام 1989.فهاجر من العراق واستقر في السويد منذ عام 1992.

 تعلم السويدية وعمل مترجما وشارك في تأسيس صحيفة مونديال التي كانت تصدر بعدة لغات: السويدية والعربية والكردية والاسبانية في مدينة اسكلستونا / السويد.

حقق طموحه في النشر باللغة السويدية، فنشر في صحيفة الشعبFolket وشارك في عدد من الندوات والامسيات الشعرية وخصه التلفزيون السويدي بفلم وثائقي قصير.

للشاعر نور علي العديد من الاصدارات منها شعرية باللغتين العربية والسويدية كما ترجم جلجامش وهي مسرحية شعرية للشاعر السويدي أيه لينده.

وله ديوان في جوف الليل

وكتاب بعنوان باب الشيخ / مجموعة مقالات

وكتاب شعراء سويديون، دراسات ونصوص

في قصيدته سجل أنا كردي

يتداخل صوته كمبدع للنص مع المتلقي، مؤكدا على سريان الانهار والنخيل والجبال في أعماقه فهو ابن الجبل وابن دجلة والفرات، ولا ينسى العلاقة بينه وبين المحيط الذي يناضل فيه من اجل حقوقه، فها هو جبل سفين (جبل في كوردستان العراق) يروي - ينشد بلغة الشاعر - قصة جبال الاوراس - جبال الجزائر التي احتضنت ثورة الجزائر ذات المليون شهيد.

يحاول الشاعر رصف الوقائع الفلسطينية الشهيرة الى جانب الكوارث التي حلت بالشعب الكوردي، فيستحضر القدس وحلبجة في هذا المقطع الشعري:

وسيناء تناغي

ضلعي المكسور في القدس

وفي صبرا شاتيلا

وحلبجة...

ولمن يجهل تلك الوقائع الدائمية فان صبرا وشاتيلا حدثت في لبنان، وحلبجة مدينة كوردية في كوردستان العراق ضربت بالقنابل الكيماوية.

في قصيدته سجل أنا كردي يستلهم نور علي قصيدة محمود درويش الشهيرة سجل أنا عربي، ويحاول خلق محاور تتعامد مع قصيدة درويش دون تقليد.

سجل أنا كردي محاولة لتأصيل البعد السياسي لصالح النضال الانساني الذي كان في الاساس مدعاة لهجرة الشاعر من بلاده ليعيش في شرنقة المنفى:

سجِّلْ أنا كردي!

ما ارتديتُ يوماً صورةً بالزيتِ والألوانِ

أو ساريةً ترفعُ أعلامَ الحواريينَ في شوارعٍ

تصطفُّ في أبوابِ أهواءِ الشيوخِ والملوكِ

والأئمةِ الساهينَ عن صلاتهمْ !

للشاعر قصائد كثيرة منشورة في المواقع الادبية تستحق جمعها في ديوان، تناولها النقاد بالدرس والتحليل.

3- بدل رفو مزوري:1467 badal raffow

الشاعر بدل رفو مزوري من منطقة الشيخان، كوردستان، اضطر الى مغادرة العراق واستقر في النمسا، اتقن اللغة الالمانية وترجم لشعراء النمسا.

صدرت له أنطلوجيا شعراء النمسا عام 2008 ترجم فيها لمجموعة كبيرة من الشعراء وأعقبها بترجمة قصائد حب نمساوية، صدرت عام 2010

برع بدل رفو في العمل الصحفي منذ وقت مبكر ونشر في جريدة الحدباء الموصلية نهاية سبعينيات القرن الماضي، صدرت له عدة كتب منها:

- ومضات جبلية، من الشعر الكوردي المعاصر، بغداد 1989

- أغنية الباز، قصائد كوردية مترجمة، دهوك 2001

- وطن اسمه أفيفان، قصائد كوردية مترجمة، القاهرة 2009

نشر شعره في العديد من المجلات والصحف والمواقع الثقافية، وقد تابعت الكثير من قصائده ونشرت له مجلة تموز التي تصدر في السويد / مالمو مجموعة من القصائد نقرأ هذا المقطع من قصيدة لالش:

للحزن أغنية

وللمأساة ملحمة

ولوجع الايزدي قلب

يدمى

طوال سفري وترحالي

لم أر بلادا او طبيعة

أجمل وأبهى من وادي لالش

لم أستنشق هواء نقيا يغزو

الاعماق

مثل هواء وادي لالش

لم تهدأ روحي في بقاع الارض

مثلما تهدأ في وادي لالش

لالش بلاد الصفاء

واصالة الكُرد

جمال الروح

يكشف هذا المقطع المنتقى من قصيدة لالش عمق الارتباط العاطفي بموطن الشاعر، والمعروف ان لالش معبد مقدس للديانة الايزدية في محافظة دهوك اقليم كوردستان، والملاحظ ان الشاعر بدل رفو يعيش المهجر او بالاحرى (المنفى) بكل تفاصيله، ويرافقه الحنين اينما حل حتى وهو يزور مرابع صباه في كوردستان يعيش عازفا مزمار الغربة بهدوء وبدون ضوضاء، حتى اختياراته في الاهداء سواء لقصيدة او كتاب يجد من يحمل لقب المهاجر فيمنحه كلمة من شعره المعجون بمياه الغربة، قصيدته " زمن اليباب" على سبيل المثال يهديها الى روائية فلسطينية تعيش في استراليا، دينا سليم. صديقة الكرد والحرية:

فلتكفكف الغربة دموعها

على مضاجع بلاد تودع

عشاقها

لمصائر مجهولة

لارصفة تقاوم الزمهرير

الوطن... يادينا

زوجة أب قاسية

وبلاد الغربة

غدت أما رحيمة

فليرقص الزمن على جراح الشعر

والكلمات **

ما ان يحط رحاله من سفر حتى تجده في بلاد نائية، من طرقات الهند المزدحمة بالاطفال والعربات التي تجرها الثيران الى شفشاون في بلاد المغرب والتي يقول عنها:

شفشاون...

قمم جبال...

حكايات ينابيع رأس الماء،

تحلو فيها الحياة

شفشاون..

مدينة غزت روح شاعر كردي

رحال

يبحث عن عوالم الشعر والشعراء

يبحث..

عن ربيع الاندلس

في مهد حضارات الكرد

ولا عجب ان يحصل الشاعر بدل رفو على ارفع وسام من مدينة شفشاون التي أقام فيها وكتب لها وتعايش مع اهلها بعض عام او اكثر.

***

د. مؤيد عبد الستار - السويد

.......................

* فضاءات وأشكال وأفكار محتدمة في (وليمة الاسماك) لهاتف جنابي، جامعة ادم مسكوفيج، بولندا - بوزنان ص 105، 2018

 1- رابط مقالي في الحوار المتمدن عن ديوان وليمة الاسماك

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=599625

** ينظر قصائد في المهجر، مجلة تموز، العدد 63 سنة 2016، مالمو / السويد

 

يتّجه المرء إلى الماضي ليكتبَ يحاكيه في الحاضر، وهذا يُلقي بظِلال سؤالٍ مفاده: ما الغاية من تلك العودة إلى الماضي والكتابة عنه ومنه؟ يزيد في استشكال الموضوع حين يتَقصّد الكاتب نوعاً معيناً من التأليف الضارب بجذوره في التراث لكنه حديثُ المضمون والمحتوى. ثم، إنّ الحديث عن الكتابة يتطلب منا الوقوف على أنواعها وأساليبها، مما يجرّنا إلى إماطة اللثام عن الأصل الذي يجمع ويلمُّ كل أصناف الكتابة، ونعني بذلك الإنتاج الأدبي.

لم يكن مفهوم الأدب يخرج عن التربية والرعاية وقد يعني حُسن الضيافة والوفادة عند العرب الأوائل حيث يقول الشاعر طرفة بن العبد:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

فلا ترى الآدِب فينا ينتقــــــــر.

استقرّ مفهوم الأدب، مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، على كل شكل من أشكال التعبير الإنساني؛ وذلك بما استطاع الإنسان أن يُنتِجه بأسلوب بليغ يصل تأثيره إلى المتلقي ويتفاعل معه. وإذا كان مفهوم الأدب قد شمل كل الفنون الشعرية والنثرية التي أنتجها العرب من قصائد وسِير، أو قصص وحكايات، أو خطب ومقامات... فإن مفهومه اليوم، في الوطن العربي، لا يخرج عن المعنى الذي تسلّل إلى أوطاننا من الغرب: مع المدّ الاستعماري، أو انفتاح الشعوب على بعضها فيما يعرف بالمثاقفة ومع انمحاء الحدود بفضل الشبكة العنكبوتية. كان من نتيجة ذلك أن توارى الأدب في معناه القديم أو اختفت بعض أصنافه، لتفسح الطريق أمام المعنى الحديث وأصنافه الجديدة من قبيل القصة والرواية والمسرحية...ألخ.

ليس من المبالغة في شيء القول إن الحديث عن الماضي هو، في الآن ذاته، حديث عن الحاضر. وليس جميلاً أن يعود الكاتب الى التراث فحسب، بل إن عودتَه تُعدُّ أشهى موردٍ يمكن أن يُحفّزه على الإبداع. يحضر التراث فينا شئنا هذا أم أبَيْنا؛ والحداثة لا يوقِفها حاجز. فإن كانت نوافذنا مفتوحة وتسمح بهبوب الرياح علينا من كل حدب وصوب، فلا ينبغي أن نسمح لها باقتلاعنا من جذورنا كما جاء في الحكمة الهندية*. يقول عيسى علي العاكوب عن دافع الرجوع إلى التراث[1]: «إن التراث الثقافي لأية أمّة يظل معيناً ثرّاً يرفد دائماً عقول الأجيال الجديدة المبدعة من أبناء هذه الأمة بزادٍ أصيل يُسهم في تقوية الطاقات الجديدة، ويضاعف مصالحةَ منتَجها الثقافي مع جمهورها المتلقي، ويحصِّن فرادَتها وتميزها وخصوصيتها». ومن جهة ثانية، يؤكد جلبير دوران في دراسة أفردَها للبنى الأنثروبولوجية للخيال، أنّ للأسطورة حوضاً دلالياً يتشكل من ست مراحل منها الانسيالات (حوض التجميع). تشير مرحلة الانسيالات «إلى جملة التيارات داخل وسط ثقافي: فهي قد تكون إما انبعاثات من الحوض الدلالي ذاته الذي كان فاعلاً في الماضي، وإما اختمارات جديدة ناجمة عن أحداث تاريخية، كالحروب أو ظواهر ذات أهمية كبرى على المستوى التاريخي ـ السياسي»[2]. فالتراث يظل ماثلاً بآليات وطرائق متباينة وليس من السهل التخلّص من نُسغه، فهو يشكّل النموذج الأصلي الذي يؤطر فكر المبدع وذهنية المجتمع الذي نشأ فيه هذا المبدع أو ذاك.

***

يتجاوب مع هذه التوطئة نص أنيق في شكله، باذخ في لغته، طريف في موضوعه، خاطه صاحبه كمن يخيط كعب كتاب وهو يسفّره. النص للمفكر والمبدع المغربي عبد الاله بلقزيز تحت عنوان "الماضون الى الماضي"؛ وقد عُرض خلال الدورة السادسة والعشرين للمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، عن منتدى المعارف اللبناني. النصّ وصفه صاحبه بالسردية، على عادته في الكتابات السابقة، يذيل عناوينها بالصفة التي يرتضيها له من قبيل: نص، رواية، سردية...

يخرج هذا النص، "الماضون الى الماضي"، شكلاً ومضموناً عن النصوص الإبداعية التي صدرت للمؤلف: ثلاثة منها** غازلت اللغة العربية في جوهرها وجاءت «نصوصاً مفتوحةً تتحرّك بين تخوم الشعر والنثر الفنّي، وتنْتَحل بعضَ التأمل الفلسفي والشطح الصوفي»[3]. والحقيقة، أنّك تجدها أشهى وأمتع النصوص عبارةً وتركيباً، تسافر بك رفقة جهابذة اللغة إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. إلى جانب هذه النصوص الثلاثة، تأتي مجموعة الروايات*،  وهي أعمال تخييلية نثرية تصور شخصيات وأحداث تشغل بال الرأي العام وتعالج قضايا المجتمع المغربي خاصة والمجتمع العربي والإنساني عامة.  تتناول هذه الروايات قضايا الفقر والهشاشة، الهجرة الداخلية والخارجية، التطرف والإرهاب، التكسب بالدين وبالسياسة، تدنّي القيم الأخلاقية والمهنية، وأشياء أخرى ساهمت في احتقان الوضع، ودفعت المجتمع الى حراك تَّم قمعُه في أغلب الأحيان. ينضم الى هذيْن الصنفين، نوع ثالث** يتناول فيه حالةً عاشها الكاتب ورسخت ذكراها في مخيلته، وقد استلّها من مذكراته اليومية زمن حصاره وحصار بيروت من طرف المحتل الصهيوني الإسرائيلي. وأمّا النص الذي نحن بصدد معالجته، فهو سردية من صنف المقامة. يحتفي الكاتب فيه باللسان العربي المبين وآدابه - وفي ذلك تلميح منه إلى ما آلَ إليه وضع اللغة العربية من تهميش وتفقير لفظي وشظف دلالي وإملاق جمالي، ومن هذه الآداب العربية البديعة، المقامةُ بوصفها شكلاً من أشكال الإبداع الأدبي الأصيل- بغية ابتعاثه من المتاحف ونفض ما عليه من الغبار. وكم هو جميل هذا الاحتفاء حين يُعنوِنُ مقاماته التسع بأسماء حِرف وصنائع اندرست معالمها واضمحلّت، لكنها تشهد على حياة الهامش في مرحلة تاريخية عقبت الاستعمار الفرنسي. يقول في الاستهلال: «في الاحتفاء هذا فعلُ اعترافٍ بجميل ما صنعت هذه الحِرَف لمجتمعاتها وأهل تلك المجتمعات، وما يسّرتْه للنّاس من سُبُل العيش ومن وسائل لمجالدة ما تصعَّبَ من ظروف».[4]

***

كان من أظهر أنواع الأقاصيص في القرن الرابع الهجري «فن المقامات، وهي القصص القصيرة التي يودعها الكاتب ما يشاء من فكرة أدبية، أو فلسفية، أو خطرة وجدانية، أو لمحة من لمحات الدعابة والمجون».[5] فهي نوع أدبي جديد في ذلك الزمان تأسس على الحكايات والنوادر والمُطايبات التي كانت رائجة ساعتئذٍ؛ وإن عدّها البعض مجرد أكاذيب كما جاء عند ابن خلكان فيما يحكى عن الحريري «إنّ هذا قد وضع شيئاً من الأكاذيب وهو يمليه على الناس»[6].  ذكر أبو القاسم الحريري (446هـ/516هـ)، في مطلع مقاماته، أن بديع الزمان الهمذاني (358هـ/398هـ) هو صاحب فن المقامات وأنّه «سبّاق غايات، وصاحب آيات، وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة، ولو أُوتي بلاغة قُدامة، لا يغترف إلاّ من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلاّ بدلالته»[7].  يذهب فريق من النقاد الأوائل أنّ الهمذاني استلهم فنّ المقامة من «أحاديث ابن دريد» كابن عبد ربه وابن قتيبة، وبمثل هذا قال بعض المتأخّرين كجرجي زيدان وزكي مبارك. لكن هناك مائز بين النوعين؛ إذ تعتمد «أحاديث ابن دريد» على تعدد الرواة والأبطال في حين أن المقامة لها راوية واحد وبطل واحد. هذا ما يؤكده عبد الله إبراهيم في موسوعته التي خصّصها للسردية العربية «أن مقامات الهمذاني وقَفَ على مُناقلتِها راوٍ وبطلٌ، ولا تتضمن أحاديث ابن دريد شيئاً من ذلك، فما هي سوى أخبار مسندة»[8]. على العموم، فهي حكاية فنية راقية عربية المنشأ والأصل. يشعر القارئ العربي المعاصر، حين يدرس المقامة، «بمشاعر متباينة، فهو، من جهة، يتعامل مع شكل "عربي" خالص، ورغم أنه لا يتبين منشأه بدقة، فهو متأكّد أنه متولّد عن أصالة أرض الآباء، وأن سماته لا تحمل أي علامة تدل على تأثير أجنبي»[9]

***

يتبادر إلى الذهن سؤال ما جدوى العودة إلى المقامة؟ أو ماذا نصنع بالأدب القديم جملة وتفصيلاً؟ يأتي الجواب من وجهين: الوجه الأول، تدفع به الأسئلة الجديدة التي تطرحها العلوم الإنسانية إلى ضرورة إعادة كتابة ودراسة النصوص القديمة، فهي تمكّننا من فهم ذاتنا وكيف تشكّلت الذهنية التي تتحكم فينا. وأما الوجه الثاني، فاقتداءً بما فعلته الشعوب الأخرى التي أعادت كتابة الأوديسا والإلياذة وجلجامش أو غيرها من الأساطير والخرافات مما أثرى مكتباتهم وأنعش خيالهم. ذكرتُ أن المقامة تتأسّس على الحكايات والنوادر كالتي تحكيها الجدّات للصغار؛ سوى أن حكايات الجدّات تنحو نحو الخرافة التي لا يُعرف لها مؤلِّف، هذه واحدة. وأما الثانية؛ فجمهور المقامة لا علاقة له بجمهور الحكاية الشفهية؛ ذلك أن جمهور المقامة هو من الخاصّة ويتطلّب حدّاً معيَّناً وقدراً من المعرفة باللسان العربي. وقد ميّزها عبد الفتاح كيليطو عن الخرافة قائلاً: «ليست المقامة حكاية خرافية. فليس للحكاية الخرافية مؤلِّف، ومن العبث الوصول إلى نسختها الأصليّة، وما يمكن هو مساءلة الراوي الذي استقاها من رواة تضيع لائحة أسمائهم من ماض يتزايد بعداً»[10]. أكثر من ذلك، أن المؤلف يُخفي «صوته بنقله إلى شخصياته التي تكتسب، بهذه الخديعة، استقلالاً وحضوراً لا يختلفان عن استقلال وحضور الأشخاص الحقيقيين»[11].

***

يعرّف بطرس البستاني المقامات بأنّها[12] «أقاصيص خيالية مختلفة الأغراض والموضوعات، فمنها الأدبية، ومنها العلمية، ومنها الدينية، ومنها الاجتماعية أو الخلقية، ومنها المجونية.  وفيها سُخر شديد، ونقد لاذع. وفيها ضُروب من التخابُث والاحتيال، للتكسُّب والتعيُّش. وفيها صور متلوِّنة لطبائع المجتمع وعاداته». كما تستند المقامة، فيما حدّده نقاد الأدب العربي، على ركنيْن مهمّيْن: «أولهما: راوٍ ينهض بمهمة إخبارية محدّدة، وثانيهما: بطل ينجز مهمة واضحة، ومن خلاصة تفاعل الراوي والبطل، يتكوّن متن حكائي قوامه الرواية والحكاية، والعلاقة التي تربطهما»[13]. وإذا كانت المقامةُ سرديةً تجمع بين الشعر والنثر القائميْن على الصنعة، فإنّها تندرج في دائرة التعدد والمزج بين أساليب وموضوعات النظم والنثر. تدور «المقامات على بطل متبدل الألوان، كثير الاحتيال، فيه شرّ كبير، وفيه خير كبير؛ فهو ديِّن منافق، صادق كاذب، متزهد ماجن، واعظ مخادع، كل شيء وضده. وهو إلى ذلك واسع العلم والأدب، شاعر خطيب، متكلم راوية، تجده في كل مقامة، وقلما خلت مقامة منه، ويتولى الحديث عنه راوية خيالي مثله، يفاجئه في كل مقامة، ويفضح أسراره، وينقل أخباره»[14].

والفن القصصي ضعيف في المقامات لقصرها؛ ثم لأن القصة ليست غاية فيها بل واسطة لإظهار شخصية بطلها في مختلف أحواله. ولقد تمر مقامات غثة باردة لا قيمة فيها للقصة البتة. لكنّها تتميّز بلغة رفيعة باذخة؛ «وتمتاز المقامات في جمال لغتها، وكثرة غريبها، واعتمادها على المجاز أكثر من الحقيقة، واصطباغها بالصنعة أكثر من الطبع، فهي ملتزمة السجعات، أنيقة العبارات، حافلة بالمحسِّنات المعنوية واللفظية. فيها الأمثال والأشعار، والآيات والأحاديث، فكل مقامة قطعة أدبية، لغتها لغة الشعر على الأكثر لا لغة النثر»[15].

***

استهلّ عبد الإله بلقزيز نصّه، الماضون إلى الماضي، بالحديث عن جنس هذا المؤلَّف الجديد، وقد صنّفه ضمن «سرديات من زمن تصرّم». يروم من وراء هذا الاستهلال وضع اليد على دواعي العودة إلى هذا الفن الأدبي بالضبط. سبق أن ذكرت أن صاحبه يعدّه احتفاءً باللغة وبالتراث، كما هو احتفاء بفترة تكاد تُطوى آثارها من تاريخ المجتمع المغربي القريب، تاريخ الهامش؛ وهكذا يتحول النص إلى وثيقة تاريخية توثِّق لصنائع هذه المرحلة وتشير للتغيرات التي طرأت. وعليه، أحصر تناولي لهذا المؤلَّف من أربع زوايا:

الحرف والصنائع.

الفن المعماري.

العادات والتقاليد.

اللغة التي عالج بها الكاتب هذه السردية.

الحرف والصنائع: اجترح الكاتب لمقاماته التسع عناوين تحمل أسماء حرف وصنائع بعضها اندرس والآخر يحتضر. جاءت العناوين على الشكل التالي متتابعة: نواقيس وقِراب للزينة، "البرّاح"، "الدلّال"، "النفّار"، "طالب معاشو"، "الحلايقي"، "الكسال"، فقيه "الحضار"، ثم "الخطابة". حِرف وصنائع يتميّز بها البشر عن سائر المخلوقات إلى جانب العلوم، حسب عبد الرحمن ابن خلدون؛ وهي مما تُنتجه ملكة العقل المميزة للإنسان، والتي تدفعه إلى «السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه، واكتسابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه»[16].

إن الحرف والصنائع لا تخرج من الأرض كالفطر؛ لكنّها ضرورة مُلحة تفرضها حاجة البشر، ثم لا يلبث بعضها أن يختفي مع انتفاء الغرض منها أو تعوض بغيرها. وأكثر ما ساهم في اندثار الحرف والصنائع التقليدية زحف التحديث على المغرب ودخوله إلى زمن الآلات العصرية وظهور نمط حديث جاء مقترناً بانتشار التقدم التقني والعلمي. والسردية تؤرِّخ لما يَعتوِر بعض الحرف أو العادات من تراجع وضمور. يصف حال "الدلّال"، وهو شخص يرتزق مما يفيء عليه من دراهم بعد عرض أمتعة الناس للبيع بالمزاد العلني في ساحة السوق؛ «وقلّما كنت واجداً من يتخلّص من قنيةٍ قديمة ابتغاء ابتياع جديدة؛ فالأكثرون حِراص على قديمهم، ولهم من تبرير ذلك مذاهب: من القول إنه ميراث الآباء والأجداد، إلى القول إن محتِد القديم شريف أين منه رذالة الجديد وخسّته، إلى القول إن البيع يزري بقيمة المباع ولا يرعى لصاحبه حقّاً، إلى التأميل من مزيد محافظةٍ عليه في ارتفاع سعره أكثر»[17]. حرفة "الدلّال" كان لها شأن كبير وقد كانت مورد رزق في السابق؛ بله، تُمكن من درجة غِنى استطاع جدُّ والده أن يعيشَ وأسرتَه في رفاه وسعة بفضلها: «ألم يبنِ بها والد جدي على نساء أربع، واقتنى رياضاً رحباً استوطنته العوائل جميعاً، وأنجب ما يزيد على دزينة من الولد، وأجرى النفقة على الجميع»[18]. رفاهٌ يُترجم في الذهنية المغربية آنذاك بتعدد الزوجات والولد الكثير والسكن الفسيح.

إذا كان عبد الإله بلقزيز يأتي على ذكر أسباب انتعاش حرفة "الدلّال"، فهو يؤرخ بذلك لمرحلة تاريخية مهمة، كما سبق القول، عرفها المغرب بعد الاستقلال. تميّزت هذه المرحلة بهجرتين قويتين: الأولى، تتمثل في رجوع الفرنسيين إلى بلادهم بعد الاستقلال، وبالتالي عليهم التخلص مما يؤثث مساكنهم؛ «كان أكثر زبنائه، حينها، من الفرنسيين الأجانب الذين بدأوا يشدون رحالهم إلى بلادهم بعد الاستقلال»[19]. وأما الثانية، فترتبط بنكبة فلسطين، إذ بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، شجعت اليهود على الهجرة إلى أرض الميعاد. فكان أن تحرك اليهود المغاربة وهجروا ملّاحاتهم (الملاح حي يسكنه اليهود بالمغرب)، وليس لهم من خيار سوى التخلص من متاعهم؛ «كان اليهود، حينها، قد احتلوا القدس وما بقي من فلسطين، والجو مكفهِرٌّ في البلاد، والناس غاضبون»[20]. وما إن نضبت ينابيع مغادرة الأجانب حتى تراجعت مداخيل حرفة "الدلال" واتجهت نحو البوار.

تقاس على هذا باقي الحرف، منها التي توارت مع اجتياح وسائل تواصل جديدة. عوّض المذياعُ والتلفازُ والهاتفُ والأنترنيتُ "البراح" و"النفار"، كما عوّضت المدرسةُ الحديثة والمدرّس الفقيه "الحضار"، وحلّت مواقع التواصل الاجتماعي بفضل الهواتف الخلوية دور "الدلّال" أو دور "الخطابة". نفس الكلام، يقال في حقّ "الكسال" الذي فسح المجال للحمّامات المنزلية أو الحمامات التركية أو قاعات التدليك الطبّي. وتراجع دور "الحلايقي" وأضحى قطعة سينوغرافية فولكلورية تؤثث بعض الفضاءات تطييباً وجلباً للسياح.

***

الفن المعماري: لئن كان مسقط رأس صاحب السردية هو مدينة النخيل، وجوار زاوية أبي العباس السبتي؛ فليس غريباً أن تجري أحداث هذه المقامات في مراكش؛ المدينة التي تنازعت الزعامة على سيادة المغرب، مع سابقتها فاس، والتي كانت لها على عهد المرابطين المؤسسين ثم الموحدين والسعديين. ليس غريباً ألاّ يستدمج النص بعض معالمها الحضارية: الأسوار والأبواب، الأزقة والحومات، الأسواق والحمامات، الزوايا والمدارس، البيوتات والرياض، البساتين والساحات...

ما إن جفّت ينابيع مداخيل حرفة "الدلال" وبدأ يكتنفها البوار؛ حتى تعس حظه وزاد كدّه في البحث عن قوته وقوت أولاده. يذرع خلف سيدة، في طريق طويل ومُلتوٍ، حتى وصلت رياضاً من رياضات المدينة؛ يقول: «ألفيت نفسي في رياض بديع يتوسّطه حوض مشجَّر مزهر تتوسّطه فسقية من رخام تقع نافورة في قلبها يدّفق منها الماء، وجدرانه مرصعة بأصناف مختلفة من الزليج الفاسي والأندلسي، وأرضيته مبلطة بالرخام. وقفت مدهوشاً من وقع جمال المكان»[21]. في هذه الفقرة، بالقدر الذي يسجل فيه الكاتب معاناة "الدلال" وهو يكدّ في الحصول على ميرة يعول بها النفس والأهل كما حدّث على لسانه؛ «أرسل قدمي في الآفاق بحثاً عمّا لا أعرف، وأطحن الهواء في الأرجاء، عساني أُلْفي في المدن جواب نفسٍ عليلةٍ وفؤاد من الغمّ تفطّر: كيف أمتار الميرة لأفواه ثلاثة وأكسو عُريَ من ينظِر كسوتي، وأنا عن بلوغ المرام بمنأى؟»[22]. بالقدر الذي يقف فيه مشدوهاً أمام بهاء وجمال الرياض الذي انتهى إليه. وقفة لها أكثر من دلالة ومعنى، خصوصاً وصفه لهذه المَعلَمة الشاهدة على ثراء أهلها وتألق الصانع المغربي. فأنت في هذا الفضاء، تستفز كل حواسك؛ تشنّف سمعك برقرقة ماء النافورة أو شقشقة العصافير، وتلتقط خياشيمك روائح الحوض المزهر بالريحان والخزامى أو أشجار الليمون وشجيرات الورد الدمشقي، أما العين فتسرح بين جدران المكان المرصعة بالزليج الفاسي والأندلسي والمبلط برخام يبعث في النفس رطوبة تجدها وانت تمرر حاسة لمسك على صفحتها...لهذا وقف مدهوشاً من جمال المكان. جمال ذوق ينقلك إلى زمن صرنا نفتقده اليوم في هندسة أحيائنا ومدننا ودورنا.

***

العادات والتقاليد: يعمّ الرخاء بلدة ما، فيميل أهلها إلى الدّعة والسكينة، وإلى الكماليات من الحياة؛ الأمر الذي يكون له تأثير على الذهنية كما على الأبدان. يُصاب القوم في صحتهم من أثر ذلك الرخاء، مما يضطرهم إلى اتباع حميات ووصفات تتطاير من الأفواه إلى الآذان. ويكون، لهذا، وقع على أسعار بعض المواد، كما حال بعض الأعشاب والأغراس عندنا اليوم. إن شدة الطلب عليها يزيد في سعرها؛ وهذا ما يسجله كاتبنا في حديثه عن سعر بعض المواد: «وأكثر عجبي غلاء سعر المنخول وتقتر المشترين في الطلب. سألته السبب فأجابني أن النخالة، اليوم، أغلى من الدقيق، وهي إلى صحة البدن اليوم مصروفة، مذ صارت منافعها عند الأطباء معروفة، فهي – قال لي – في جملة المنصوح به في الحمية والتنحيف، وللمرضى بالسكري والإمساك غذاء خفيف»[23]. ولست أرى اليوم مواقعَ التواصل الاجتماعي إلاّ ساحة "جامع الفنا" بمراكش أو ساحة "الهديم" بمكناس أو ساحة "باب بوجلود" بفاس، أو محلات العطارين في كل المدن والقرى المغربية وهي تعرض هذه السلع للتنحيف أو تغليظ الأرداف أو زيادة منسوب الفحولة وهلُمَّ جرّاً من العقاقير التي جادت بصناعتها قريحة العشابين.

لا يمكن بأية حال أن تأتي على ذكر بعض الحرف: "البراح" و"النفار" و"الكسال" ثم "الخطابة"، ولا تأتي على ذكر الأعراس والطقوس المحيطة بها. إذ يعتبر عرس الزواج محطة تتجلى فيها مجموعة من العادات والتقاليد؛ وكان "للخطابة" دورٌ كبيرٌ في الجمع بين الأزواج. يتودّد إليها الشباب من الذكور ويطرقون لها السمع وهي تسرد تفاصيل جسد فتاة؛ كما تتسارع الفتيات لكسب ودّها ويتملّقنها في أن تدلّ شاباً صالحاً ليطلب أيديهن. إذا ما تمّ المراد، أُقيم العرس تحت صخب ولعب وغناء ورقص. يصف الكاتب مجريات الأحداث في مقصورة العروس حيث تتولاها "النكافة" بالعناية اللازمة؛ يحكي على لسانها: «وبعد أن نفرغ من اللغط والمداعبة، نعمد إلى تمشيط شعرها وترويق الوجه بكُحل طبيعي من المرود، ثم نُقفّي ذلك بوضع الأصباغ المناسبة: على الجفنيْن والشفتيْن والوجنتيْن والجيد لإسفار الجسم عن المفاتن الجاذبة»[24]. طقس لا يخلو منه عرس زفاف. حتى هذه الساعة، كل شيء يؤشّر على الاحتفال والابتهاج بالمناسبة؛ لكن ساعة زفّ العروس لعريسها تتوقف الأنفاس وتنبري أسئلة الشرف والحظ، أو السعد والنحس. وقد صورت مقامة "الخطابة" المشهد أفضل تصوير: «وحين تُزَفّ إلى العريس – على عادتنا في ذلك الزمن – فيعثر سؤالُه عنها على الجواب. وبعد التهاني والأماني بدوام العشرة والبنين، يحين الحين للإعراس الكبير في الخَلوة، فترى النساء متأهّبات للجيم والسين، وأهل العروسيْن على رؤوسهم الطير إلى أن تُفلح الفحولة، فتوقِّع على سروال العروس بصم الرجولة. وقد يُعرس العريس ويطيل الاختلاء فلا يُدمي ويُحبِط النُّظّار، فتكون علامة شؤمٍ عليه أو دليلَ حظه في مَن ليست من الأبكار»[25].

اللغة والأسلوب: لم يألُ عبد الإله بلقزيز، وهو يحتفي باللغة العربية، جهداً في التلذذ بعباراتها وتراكيبها؛ ينتقي الجميل منها للمواقف الجميلة، ويستدعي القبيح في معناه لمواقف القُبح. من بداية النص حتى متمِّه، عليك أن تستأنس بالقاموس. قال عنه الناقد المغربي نجيب العوفي في ندوة فكرية*: «لا يرسل الكلام على عواهنه ولا يقبل بسهله ومبتذله، بل ينتقي لغته وكلماته بأناقة ورهافة، وينضدها في جمل وعبارات كما تنضد العقود والأحجار الكريمة». تحضر العبارة أمامك فتطرح السؤال: أصحيح أنها فصيحة وأنت تردّدها عامّية دارجة على لسان العامة؟ فعلاً، هو نفض للغبار على ما اندرس من اللسان العربي وتوارى أمام اللسان الأجنبي المتحكم. إذا كانت المقامة تُزاوج بين الشعري والنثري، وتستدعي الصنعة في ذلك؛ وكاتب المقامة ليس له من سبيل إلّا السير على هذا النهج والطريق؛ فذلك ما حدا بعبد الإله بلقزيز أن يؤثث نصه بقدر كبير من المحسنات البديعية، فلا تحسّ أنه يتصنع ذلك، أو أن النص يعجُّ بما لا يطيق منها. رتق النصّ رتقاً محكماً ووشّاهُ بالمحسنات البديعية دون إطناب أو إسفاف. تجده يسجع في القول في جمل قصيرة تتقارب فيها العبارات المسموعة استواءً واستقامةً. يذكر ابن جنّي أنّ السجع سُمّيَ سجعاً لاشتباه أواخره وتناسب فواصله.  وهو كلام مقفّى يزيد النص رشاقة وخفة يستلذّ بها القارئ النهم؛ يقول[26]: «قضيت طفولتي مسطولاً بالكلام، ووجدت فيه الضالة والجمام». أو مثلاً، «لكنّي سبأت بالكسل وبهأت، لأنّي بقراءة الكتب والأسعار جهلت»[27]. وكذلك قوله[28]: «أصبحت، مع كرور الأيام، بالحلقة أكلف، وبتّ أطايب مائدتها أعلف. فكنت أبز أقراني بفصح لساني لأني بخوافيها ومحاشيها أعرف». ثم يُطابِق، في مواضع أخرى، في الجملة بين الكلمتين البسيطتين فيحدث بذلك جرساً يجده صاحب الذائقة: «فكان كلما أمر أو نهى خَذِيت له في غير وجلٍ أو ذلة»[29]. أو قوله[30]: «يأخذ مني جهدي القُلّ والكُثر حين الصعود إلى مصاد العقبة أو المرتفع». ناهيك عن المفاعيل المطلقة التي تُحدث إيقاعاً موسيقياً يصاحبك وأنت تتنقل بين أحداث المقامة؛ «قبل أن يفلّ عودهما حين أصبحت الأرض فِلّاً، ومن الخير فَلاًّ ومبعث سأم»[31]. وقوله[32]«مَن دلَهَه حب الحرفة تدليهاً». أو قوله: «يتحدث إلينا بعربية تشقق تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً». وليس من توظيفٍ لهذه المحسنات وأثرٍ، سوى رغبة الكاتب في إظهار أفكاره وأهدافه؛ ثم التأثير على العاطفة من جهة، وعلى الموسيقا الداخلية من جهة ثانية.

كم هو دقيق وصفه لأساتذته بالمدرسة الثانوية، وأخصّ بالذكر أستاذ اللغة العربية الذي «يتحدّث "إليهم" بعربية تُشقّقُ تشقيقاً، لا شقشقة فيها ولا فيها نقيقاً... ينتقي من الألفاظ مأنوقها، ويفهمك في غير مشقة أو عناء، ويتميز النصوص مأصولها ومسروقها، ويريك سُبل بيان الصدق من الرياء»[33]. وبالمقابل، يتحدث عن والده، "الدلّال"، الذي لم يكن يحسن الكلام على النحو التالي: «كان والدي فأفاءً؛ حصراً عند الكلام مع شَيْن في النطق من فرط إسهال الفاء على اللسان، وتلك عند جدّي مثلبة في الحرفة ومنقصة، ومبعثة على معايرات ذوي المهنة من شرّ الخلق وأسقاطهم»[34].

انتقى لمشاهد أخرى تعابيرها حسب طبيعة الحالة؛ فالمُكْدِي ليس أمامه إلّا المدافعة والضرب في الأرض لتوفير لقمة عيشه وعيش من يكفل. يجب أن يُثبت جدارته في القدرة على الصمود بين أقرانه في الحرفة. أدرك البطل "الدلّال" وهو مقبل على امتهان حرفة الأجداد فيما يرويه عنه «من حينها، أدركت أن ليس لي من خِيَرةٍ غير العوم وحدي واجتراح مكاني بين الأقران، بعد ردح من العزازة بظلّ جدي؛ وأنا لا سبيل لديّ إلى أن أكون ما كان وإن شغلتُ عوضَه المكان؛ فليس من ضهيٍّ لجدي ولا ضريب بين الرجال الصِّيد، ولا من أفوهٍ مثله بين أقرانه الصناديد»[35].

تناولت المقامة مشهداً آخر يندرج في موضوعات المقامات، ضمن ما تعالجه من قضايا المجتمع المسكوت عنها، وهو ارتياد دور الدعارة وأصناف المومسات وكيف يُنظر إليهن؛ «عاشرت أصناف المومسات جميعا، وكنت أتقلّب بينهنّ كل ليلة وما أتخيّر؛ فالمرأة عندي، مثل الطعام، لا تُعاف ولا أُميز فيهن بين من تهدّل صدرها ومن نهدها يناف؛ لقد تكون الواحدة حسناء كاعباً، لكنك تلفي خاطرك منها هارباً، وقد يكون من حظك الضهياء، لكنّها تنفث فيك المتعة الهوجاء»[36].

في باب السباب وكيْل الشتائم والتنقيص من البشر، إمّا لسلوكهم أو مظاهرهم أو مواقفهم، فقد كان اختيار العبارة في منتهى الدقة، كأن كاتبنا نذر نفسه لرصد مثالب ومناقب الخلق في هذه الأمور. تتطيّر أم "طالب معاشو" منه ساعة ولادته، وتحطّ من قدره وهو يترعرع بين يديها، ويلتقط من فيها توصيف الظروف التي رافقت ولادته؛ يقول[37]: «قُذفتُ في رحمها في ليلة نحساء طالبَت فيها والدي بالطلاق فعاقبها بأن ركبها عَنوةً. وحين بعرتْني -كما كانت تسمي ولادتي – أطلقتُ بكائي عويلاً ممتداً بلغ حدّ الصراخ حتى تطيرت منّي ودعت إلى حسن العاقبة من هذا الجرو المنحوس الذي لفظته أحشاؤها». ويقابل ذلك، بالوصف الحسن حين يتعرّض، مثلاً، للحاج عمر بوسلهام الذي تدخّل له عند الوالد ليرافق الحاج إبراهيم "النفار" بالقول[38]: «من أدمث خلق الله وأشدهم رِعةً ونُسكاً، وأنه يتنفّل في الصدقات نظير نوافله في الصلوات، ويحسب الإعطاء الحسن مدفَعَةً للنوائب. لذلك كان سيد الرأي والنصيحة في الحي ومقصِد السائلين رأيَه».

***

على سبيل الختم:

تأتي سردية "الماضون إلى الماضي"، ضمن الإنتاج الأدبي لعبد الإله بلقزيز في الوسط؛ يجسُر بها المسافة الإستتيقية بين نصوصه الأدبية التي رابضت على التخوم بين النثري والشعري؛ والأعمال الروائية التي تتناول الواقع المغربي والعربي. ثم إنّ السردية تُفصح عن إلمام كبير بالفنون الإبداعية قديمها وحديثها لدى كاتبها، وكأنّه «يجادل ويتنوّق الحكي فيُنزله من المسامع المنازلَ»[39]، لعل المهتمين بالشأن الثقافي في المغرب والوطن العربي يلتفتون إلى لغتهم وتراثهم. وما إخاله إلا أنّه يتظاهَرُ وينتفضُ من خلال هذا النص، ليزعج السلطة الثقافية بكلّ أشكالها. وفي ذات الوقت، يحتفي باللسان والتراث العربيَيْن ويساهم بوضع وثيقة تاريخية، أمام الباحثين، تؤرِّخ للمرحلة التي طالتها أحداث هذه المقامات.

***

محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 12/05/2025

..............................

*  وجدت نسبتها إلى الزعيم الهندي المهاتما غاندي (1869م/1948م)، وإلى الشاعر روبندرونات طاغور (1861م/1941م).

[1] حسن علي المخلف، التراث والسرد. (الدوحة: وزارة الثقافة والتراث، قطر. إدارة البحوث والدراسات الثقافية، 2010)، ص9.

[2] فالنتينا غراسي، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية. ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى. (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص41.

**  رائحة المكان، ليليات ثم على صهوة الكلام.

[3]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. (بيروت: منتدى المعارف، 2020)، ص15

* صيف جليدي، سراديب النهايات، يوميات موت حي، الحركة..

**  حالة حصار.

[4] ن م. ص11.

[5]  زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الهجري. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص199-200.

[6]  نقلاً عن عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية.  ص209. ابن خلكان الجزء 4، ص 396.

[7]  أبو القاسم الحريري، مقامات الحريري. (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1978)، ص13.

[8]  عبد الله إبراهيم، السردية العربية. (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1992)، ص184.

[9]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية. ص175.

[10] عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص5.

[11]  عبد الفتاح كيليطو، المقامات: السرد والأنساق الثقافية، ص 204.

[12]  بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية: حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم. (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، ص 303.

[13]  عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي. (دبي: المجلس الوطني للإعلام، 2016)، ج 2، ص 242.

[14] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[15] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأعصر العباسية، ص 303.

[16]  عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الله محمد الدرويش. (دمشق: دار يعرب، 2004)، الجزء 1، ص 132.

[17]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي. ص 62.

[18]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص63.

[19] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[20] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 63.

[21] عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 66.

[22]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص74.

[23]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص50.

[24]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 189.

[25]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 190.

*  في ما بين الفلسفة والأدب من الاتصال. ندوة فكرية عقدتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك احتفاءً بالأعمال الأدبية لعبد الإله بلقزيز.

[26]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 187.

[27]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 134.

[28]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 116.

[29]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 57.

[30]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 96.

[31]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 140.

[32]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[33]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 170.

[34]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 55.

[35]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 61.

[36]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 108.

[37]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 97.

[38]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص 81.

[39]  عبد الإله بلقزيز، الماضون إلى الماضي، ص116.

 

يبدأ تلقي عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) حالما يقع البصر على البوستر الإعلاني الذي استخدم مفردات كثيرة تبوح بوضوح بشيء من فكرة ومفردات لغة العرض، السيادة للكوفية (الشماغ) والمشحوف والكتابة المسمارية على اليمين وتراثيات (كف تتوسطه عين وهلال وأم سبع عيون) على اليسار والحجم الأكبر لتكوين حيوان الجاموس والخلفية شبكة صيد الأسماك المقارب لتكوين الكوفية، جميع المفردات مأخوذة من جنوب العراق، ويعزز هذا المصدر عنوان العرض (رأسي من الجنوب) الذي يتصدر البوستر، ليقول أن: فكرة العرض أخذت من ما باح به الجنوب الساكن في رأس المؤلف والمخرج.

يدخل المتلقي في أجواء قبل دخوله وجلوسه على المصاطب والكراسي التي تحتل ضلعين كمساحة للمشاهدة، أما الضلعين الآخرين فهما مساحة للأداء، أجواء ما قبل بدء العرض يصنعها صوت خوار الجاموس المصحوب مع انين غامض.

حالما تضاء مساحة الأداء، ينكشف فضاء العرض للمصمم ضياء حمزه، الذي عمل إنشاء تكوينات من القصب غلفت الجدران وجزء السقف واحد الاعمدة، والأرضية الترابية وقارب الأهوار المسمى محليا (بالمشحوف) مع انتشار شبكات صيد الأسماك، وهي المفردات نفسها -تقريبا- التي وضعت في تصميم البوستر الإعلاني.1460 janob

يظهر من بين الجمهور (شاب) و (شابة) يقدمون باللغة العربية والانجليزية نبذة عن الأهوار واستعراض اهميتها (أن الأهوار العراقية بيئة فريدة من نوعها) والأضرار التي لحقت بها بسبب عمليات التجفيف وإقامة السدود وقطع مصادر المياه من بعض الدول المحيطة بالعراق.

نقطة انطلاق الحدث تبدأ عندما يتحرك رأس من طين وجسم إنسان مغطى بشبكة صيد، يتحرك ببطء ويتلمس طريقه وينزع عنه طبقة الطين ليظهر ملامح الإنسان، وفي الطرف البعيد يتحرك كائن ويزيح عن نفسه كتل طينية ليظهر رأس جاموس بجسد إنسان، يلتقيان بعد فراق وإنهاك، يستند أحدهما على الآخر، ثمة علاقة قديمة وعميقة تمخضت عن ولادة القارب المحلي الصنع (المشحوف) اداة التنقل والصيد.

لم تنطق الشخصيات بلغة الكلام للتعبير عن مشاعرها وانفعالاتها وما يجول بخاطرها، بل استخدمت لغة الإيماءة والإشارة والحركة المعبرة التي نفذت إلى وجدان المتلقي، وفي الوقت الذي تلاشت فيه لغة الحوار السمعية التقليدية، تبدت اللغة البصرية بأبهى صورها.

ثيمة العرض هي الوشائج بين مكونات البيئة (التراب والماء والقصب والجاموس والقصب …) وبين الإنسان/ المواطن. ذلك ان إنعاش الأهوار يعني إنعاش الإنسان والجاموس ونمو القصب والأسماك والطيور، وتصنع القوارب (المشاحيف)1461 janob

من يملك الحس والروح والعقل المتواشج بكل مكونات وتفاصيل وجزيئات بقعة أرض وينتمي إليها ويحبها لدرجة انه يقدسها ويدافع عنها هو الإنسان الوطني الذي يحب التراب والتراث والإنسان والحيوان والنبات والأشياء.. لماذا؟ لأنه مرتبط بهذا المكان (بقعة الأرض) المسمى وطن، ولد وعاش فيها وتجذرت روحه وذكرياته وأزهرت أواصر لا نهاية لها. العمل في هذا العرض عرف الوطنية بأنها ليست هتافات حماسية ولا شعارات سياسية وحسب، تتجلى الوطنية في التماهي مع ذرات التراب واحتضان من يعيش عليه.

احدى أهم جماليات هذا العرض، انه لم ينطق العرض بأي كلمة مباشرة عن الوطن، استثمر مفردات قليلة العدد عميقة الدلالة (القصب، الجاموس، المشحوف، التراب) وعمل على استنطاق انتماءها وحبها والتصاقها ببيئة الاهوار، وفي الوقت نفسه عزز روح الوطنية لدى المتلقي الذي أصغى طوال زمن العرض بحواس رصدت تفاصيل عرض قال كلمة جاءت من صوت خارجي وليس من الشخصيات المتواجدة أمام المتلقي، صوت شجي، يعاتب بمحبة، ويحرض بتثوير: (من منكم يزيل التجاعيد وجه الجنوب)

الجانب الجمالي الآخر في عرض (رأسي من الجنوب) هو صعوبة تحديد انتماء العرض فنيا لنوع درامي محدد، اذ انه يبدأ بمعلومات سردية باللغتين العربية والانجليزية من فتى وفتاة، تبدأ دراما العرض بشغل مسرحي حركة تعبيرية يؤديها ممثل شخصية الرجل الجنوبي وشخصية الجاموس، تتحول الأحداث إلى صراع حالما يدخل إلى المشهد شخصيتان أجنبيان (رجل وامرأة) من غير بيئة الاهوار - سياح/ مستكشفين/ مستعمرين - يأخذون تراب وقصب، يرفض مربي الجاموس والجاموس وجودهما ويريدان استعادة ما أخذوه، يستحيل الأمر إلى صراع بالأيدي وبكل شيء بصياغة كيروكرافية إيمائية راقصة، عدا بعض الحالات التي يكون فيها ضرب على جدران القصب الهشة فتصدر أصوات لا تتناسب ومسار الإيقاع الحركي، إلى جانب عملية سحب جثث الأجانب لم تكن بالخفة والمرونة المتوافقة، في نهاية العرض يموت مربي الجاموس، يحزن الجاموس على فقدان مربيه ويهيل التراب على رأسه، بالصورة نفسها التي تحزن بها نساء الجنوب على فقدان أحبتهم. يأتي صوت الشعر من خارج مساحة ليقول (حزنت الأرض فخلق الله جنًوبا يبكي) تدخل امرأتين متلحفات بالعباءة وسط صوت النعي والبكاء واللطم على الصدور. موت الرجل الجنوبي جعل المشهد الأخير يغور في عمق الواقعية بفعل اللطم ونثر التراب على الرأس وصوت الأنين والنعي المؤلم.1462 janob

واستنادا وقائع العرض يمكن القول بصعوبة تجنيسه، وتحديد انتمائه إلى التمثيل الصامت أو إلى عروض الكيروغراف … أنه عرض ينطوي على الجدة على وفق مزيج متجانس من ابتكار المؤلف والمخرج والممثل (محمد كويش) وفريق العرض المتضامن معه. 

لقد أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية لا تعني الحوار باللهجة العامية الدارجة وفيض من قفشات ومواقف كوميدية تقدمها شخصيات محلية ساخرة، مع ضرورة حضور الرقصات والأغاني … إلى آخره. أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية هي التي تتناول ما يعنى به الشعب ويثير اهتمامه ويتعاطف معه، بمعنى آخر يطرح القضايا ذات الأهتمام الشعبي ويبحث في معالجتها جماليا، وعليه يمكن القول: أن العرض المسرحي -وكل الفنون والآداب بأنواعها- يكون شعبيا ويحصل على استجابة فكرية وجمالية واسعة عندما يجد الجمهور/ الشعب شيئاً من روحه فيه.

يتحقق التكامل في عرض مسرحي عندما تكون تقنيات جزءا عضويا وليس تجميليا زائدا ويمكن رفعه او تغييره دون تأثير في بعض مكوناته، (رأسي من الجنوب) أظهر تلاحما عضويا بين البقع الضوئية المسلطة على مساحة الأداء وألوانها، وحتى الاضاءة الحمراء خلف جدران القصب والسلم الذي ظهرت منه بعض الشخصيات وغادرت وصناعة لون الشمس الاصفر … و بالتوقيتات الدقيقة -للسينوغراف علي السوداني- المرافقة لموسيقى الوجع والمؤثرات الصوتية بمحمولاتها الوجدانية الحزينة، ومنها حضور أغنية أو ترنيمة الــ (دللول يا الولد) التراثية التي تستخدم لهدهدة الأطفال  صدىً عَذِب في نفوس العراقيين، يرجع بعض الباحثين اصولها إلى الحضارة السومرية (4000 - 2004 ق.م) وتعد من أقدم الآداب الموجهة للأطفال، منحت العرض امتداد تاريخي متزامن مع تاريخ الاهوار القصب والجاموس كلها حاضرة منذ آلاف السنين والمواطن الجنوبي هو سومري الاصل.   وقد اتسق تأثير الاضاءة والمؤثرات الصوتية مع طغيان اللون الأسود على أزياء الشخصيات، تولد عن كل هذا وحدة إيقاعية نوع من التكامل الفني جعل الجمهور الحاضر مستغرقا في العرض طوال الأربعين دقيقة.

احد تعريفات البلاغة يقول: (انها إيصال المعاني بلغة بسيطة) وقد أوصل عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) رسالته بمفردات جميلة وواضحة استلها المؤلف/المخرج (محمد كويش) وفريقه من بيئة الاهوار الجنوبية واعادوا صياغتها فنيا لأنهم لا يعيشون ولا يعملون بعزلة وقطيعة عن جميع مكونات بيئة الأرض وما فوقها وما في جوفها وبيئة المجتمع والاقتصاد والسياسة، ذلك أن الفنان ابن بيئته يتفاعل معها ويحرص عليها ومنها ينطلق إلى فضاء الإبداع.   

ملاحظة: انتظار الجمهور لفترة غير قصيرة في ممر ضيق، والدخول إلى قاعة العرض في الظلام، سياقٌ يفضل أن يعاد النظر به، لأنه يعكر صفو الاستعداد النفسي لتلقي العرض والدخول في أجوائه. مع التنويه الى أن الكثير من مواقع الجلوس في باحة منتدى المسرح لا توفر مشاهدة مريحة.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن بيت (المتنبِّي):

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ

 وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

وكيف أنَّ (ابن جِنِّي) جاء شارحًا، فقال: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!» فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يُحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(1) وقال ذو القُروح: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا! وذلك بعد أن ذكرَ أنَّ (أبا الطَّيِّب) كان يَصِل من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. قال: ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض النَّفسي. قلتُ:

ـ وما المستغرب في تأليه (المتنبِّي) بعض ممدوحيه، وهو القائل عن بعضهم:

وإِذا مُدِحتَ فَلا لِتَكْسَبَ رِفعَـةً ::: لِلشَّاكِرينَ عَلـى الإِلَـــهِ ثَـنــاءُ

ـ قطعتْ جهيزة قول كلِّ خطيب، ببيته هذا! والبيت من قصيدة مديح في (هارون بن عبد العزيز الأوراجي)، الكاتب، وكان صوفيَّ المذهب.

ـ إذا كان هذا في مديح كاتبٍ صوفيٍّ، فماذا تُراه قائلًا عمَّن فوقه منزلة؟!

ـ وأعود إلى القول: إنَّ ابن معقل كثيرًا ما يخطِّئ ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ. ومن ذلك ما ذكره في بيتنا الشاهد؛ فما علاقة آباء الممدوح بسياق البيت؟ وإنَّما كان (المتنبِّي) يشير إلى وِداده هو للممدوح: «ألومُ به مَنْ لَامَني في وِدادِهِ.» فلمَّا لامَه اللائمون على وِداده إيَّاه، أجابهم بأنَّ الطيور على أشكالها تقع: «وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ من خَيْرِهِ الوُدُّ.» أمَّا ما أشار إليه (ابن معقل)، فتكلُّفٌ محض. وأمَّا حكاية الرَّقاعة والشَّناعة، إنْ صحَّت، فله أن يقذف بها أبا الطَّيِّب كما شاء، ولا حاجة به إلى تحريف معانيه لتبرئته من الرَّقاعة والشَّناعة! وليس المعنى بغريبٍ على أبي الطَّيِّب في فخره بذاته، ووقوفه أحيانًا نِدًّا لممدوحيه، في انفصام شخصيَّته التي لازمت خِطابة الشِّعري: بين الخنوع والكبرياء. لكأنَّ ابن معقل ما كان يعرف طبيعة المتنبِّي تلك! والحقُّ أنَّه إنَّما كان يوقِع ابنَ معقل في مثل هذا حُبُّ المِراء، ونزوعُه إلى التنقُّص من شُرَّاح شِعر المتنبِّي، وإظهار أنَّه يفهم شِعره خيرًا منهم. وقد كان هذا يحمله أحيانًا على الذهاب إلى معانٍ بعيدة، كما رأينا في البيت السابق، وأحيانًا إلى معانٍ أقلَّ شِعريَّة وبلاغيَّة. مثال هذه الحالة الأخيرة أنَّه توقَّف أيضًا عند قول أبي الطَّيِّب، من داليَّةٍ أخرى:

ومِنِّي استَفادَ النَّاسُ كُلَّ فَضِيلةٍ ::: فَجازوا بِتَركِ الذَّمِّ إِنْ لَم يَكُنْ حَمْدُ

فعاب على (ابن جنِّي) شرحه البيت؛ لأنَّه قال: «قوله: «فجازوا»، كما تقول: هذا الدِّرهمُ يجوزُ على خُبْث نَقده؛ أي: يُتَسَمَّح به، أي: فغايتُهم أن لا يُذَمُّوا، وأمَّا أن يُحمَدوا، فلا.» فانتكس (ابنُ معقل) بمعنى البيت، قائلًا: «وأقول: إنَّه قد عابوا عليه هذا التفسير، وقيل: كيف يزعم أنَّه قد أحكمَ سماع شِعر أبي الطَّيِّب منه، وقراءته عليه، ويقول هذا القول؟ وإنَّما قوله: «فجازوا» أمرٌ من المجازاة، لا من الجواز، أي: «فجازوا» على ما استفدتم منِّي من الغرائب بترك الذَّمِّ لي إنْ لم يكن منكم حَمْد.»(2)

ـ فأيُّ المعنيين الآن أبلغ؟

ـ هنا السؤال! أيُّهما أبلغ: أن يطلب الشاعر من النَّاس أن يتركوا ذَمَّه، إنْ لم يحمدوه؟ وأنَّى للمحسود أن يطلب من حاسده ترك ذَمِّه أصلًا، فضلًا عن احتمال الحمد؟! أهذا أبلغ، أم أن يصوِّر ما اكتسبوه من غرائب- [وظاهرٌ هنا أنَّ الرواية التي يعتمد عليها (ابن معقل) في شرحه بلفظ «كل غريبة» لا «كل فضيلة»]- إنَّما اكتسبوها منه هو، لتَستُرهم من الذَّمِّ، وأمَّا الحَمْد فهيهات؛ فهو بعيدٌ عن «شواربهم»؟

ـ لا شكَّ عندك أنَّ فهم (ابن جنِّي) لمراد الشاعر هنا أَوْجَه، وأبلغ، وأشبه بمذهب (أبي الطَّيِّب) في الشِّعر والفخر، مما فهمه (ابن معقل)، أو قُل: مما حاول فهمه، لتخطيء ابن جنِّي؟

ـ لا شك! حتى لقد جعل (ابن معقل) الشاعرَ ملتفتًا إلى التسوُّل لدَى حاسدِيه ليكفُّوا عنه ذَمَّهم! وما كان هذا ممَّا يليق بالمتنبِّي الالتفات إليه، ولا حتى بمَن دون المتنبِّي، في تكبُّره وتعاليه. وإنَّما «جازوا» فعلٌ ماضٍ، معطوفٌ على الفعل الماضي في صدر البيت، بلا التفات: «استفادَ الناس... فجازوا...». تساوقًا مع قوله قبل هذا البيت مباشرةً:

يَرومونَ شأوي في الكَلامِ وإنَّما ::: يُحاكي الفَتَى فيما خَلا المَنطِقَ القِردُ

فَهُمْ في جُموعٍ لا يَراها ابنُ دَأْيَةٍ ::: وهُمْ في ضَجيجٍ لا يُحِسُّ بِها الخُـلْدُ

فهم من الحقارة كالقرود، والقِرد قد يحاكي الفتَى لكنَّه لا يبلغ شأوه، وهم من الخفاء بحيث لا يراهم حتى الغُراب (ابن دَأْيَة)، على حِدَّة بَصَره، ولا يسمعهم حتى (الخُلْد)، نوع من الفئران، على رهافة سمعه. وهكذا كان المتنبِّي يُوقِع شُرَّاحه في حبائل القراءات المحتملة، ليسهروا جرَّاها ويختصموا؛ بمثل استعماله كلمة «جازوا» هاهنا، التي يُمكِن أن تُقرَأ على وجهَيها، مع ما بين القراءتين من بَون في الدلالة والتصوير والشِّعريَّة.

ـ غير أنَّه يبدو أنَّه كان بين شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب) من المماحكات، كما كان بين شُرَّاح شِعر (أبي تمَّام)؛ فظلَّ ذلك يحمل أحدهم على تنقُّص الآخَر، وإظهار أنَّه أكثر منه فهمًا للشِّعر ودِقَّة.

ـ ومِن ثَمَّ كانوا يصنعون من حَبَّة بيتٍ شِعريٍّ سطحيٍّ قُبَّةً هائلةً، يستعرضون تحتها عضلاتهم في الحفر اللُّغوي، والتشقيق الفارغ، والمصارعة الحُرَّة شرحًا وتشريحًا.(3) وستلحظ أنَّ هؤلاء الشُّراح يقعون في معرَّة (وحدة البيت)، فلا ينظرون إلى البيت في سياقه من الأبيات غالبًا، بل يدندنون على البيت الواحد، وكأن لا علاقة له بما قبله وما بعده؛ فترى منهم في ذلك العجب العجاب من المعاني التي يتوهَّمون منها ما قد لا يتوهَّمه إلَّا من ليس في وعيه!

ـ مثال ذلك؟

ـ خُذ مثلًا توقُّفهم الطويل العريض والمعقَّد أمام بيت المتنبِّي الواضح:

إِنَّ المُعينَ عَلى الصَّبابَةِ بِالأَسَى ::: أَولَــى بِرَحمَــةِ رَبِّهـا وإِخـائِهِ

وقد جاء قبله:

مـا الخِـلُّ إِلَّا مَـن أَوَدُّ بِقَلْبِـهِ ::: وأَرَى بِطَرْفٍ لا يَرَى بِسِوائِهِ(4)

فالبيت، حين يُربَط بسياقه، أوضح من أن يحتاج إلى شرحٍ أصلًا. يقول الشاعر: إنَّما خِلُّه من النَّاس ذلك الذي يتفاعل معه، ويشاركه همومه وأحزانه، وكأنَّه يحمل قَلْبه وطَرْفه، فيودُّ ما يَودُّه، ويرى ما يرى. ومن ثَمَّ بنى على هذا بيته التالي، الذي عَدَّه الشُّرَّاح مُشْكِلًا، وما هو بمُشْكِل؛ ليقول: إنَّ أَولى الناس برحمة العاشق، أو رَبِّ الصَّبابة، وبإخائه، ذلك الخِلُّ الذي يُعين على هموم الصَّبابة، ويُشرِك رَبَّها حُزنَه بحُزنه، متعاطفًا معه، مستشعِرًا حاله، لا ذلك الذي يلومه، ويبكِّته، وكأنَّه قد ارتكب جُرمًا، فضلًا عن الآخَر الذي يعمل بالوشاية ضِدَّه. والأسَى إزاء مأساة الإنسان فيه عَونٌ له من الناحية النفسيَّة، والبكاء لبكائه محمود، بعكس جُمود العَين. ألا ترى إلى كلام (عبدالقاهر الجرجاني)(5) في بيت (العبَّاس بن الأحنف):

سأَطلبُ بُعْدَ الدَّارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ::: وتَسْكُبُ عينايَ الدُّموعَ لتَجمُدا

لمَّا قال: «لا ترَى أحدًا يذكرُ عينَه بالجمودِ إلاَّ وهُوَ يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعها من البكاءِ تَرْكًا لمعونةِ صاحِبها على ما بهِ من الهمِّ، ألا ترى إلى قوله:

ألا إِنَّ عَينًا لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ::: عليكَ بجاري دمعِها لَـجَمُوْدُ

فأتَى بالجمودِ تأكيدًا لنفي الجُودِ، ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ بكاءٍ... وعلى ذلك قولُ أهل اللُّغةِ: «عَينٌ جَمُودٌ، لا ماءَ فيها، وسَنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ، لا لَبَن فيها«، وكما لا تُجْعَلُ السَّنةُ والناقةُ جمادًا إلَّا على مَعْنى أنَّ السَّنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةَ لا تَسْخُو بالدَّرِّ، كذلك حُكْمُ العَينِ لا تُجْعَل »جَمُودًا« إِلَّا وهناكَ ما يَقْتضي إرادةَ البُكاءِ منها، وما يَجْعَلُها إِذا بكَتْ مُحْسِنةً موصوفَةً بأنْ قَدْ جادَتْ وسَخَتْ، وإِذا لم تَبْكِ، مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضَنَّتْ وبَخِلَتْ... وجملةُ الأمرِ أَنَّا لا نعلمُ أحدًا جعلَ جُمود العَين دليلَ سرورٍ وأمارةَ غِبْطةٍ، وكنايةً عن أنَّ الحالَ حالُ فرحٍ.»

ـ وإذا كان هذا شأن العَين حين تخذل صاحبها عن البكاء في ظَرفٍ يستدعيه، فكذلك شأن خليله حين لا يتفاعل معه بالأسَى والبكاء.

ـ نعم، وإنْ كان المتنبِّي لا يقصد- كما توقَّفتْ عنده عقول الشُّرَّاح؛ فقالوا: إنَّ الأسَى إنَّما يزيد الأسَى ولا يُعين عليه- أنْ يقف خِلُّه ليبكي لبكائه فحسب، بل يقصد أيضًا أن يتمثَّل أساهُ موقفًا نبيلًا، يَظهر، في الأقل، في الكفِّ عن اللَّوم، مع الإشفاق عليه ممَّا هو فيه.

وهكذا ستجد هؤلاء الشُّرَّاح يُشرِّقون ويُغرِّبون، متوقِّفين مع كُلِّ كلمة، مبتوتة عن سياقها من النص، مأخوذة بدلالتها المعجميَّة العقيم، لا بدلالتها الشِّعريَّة.(6)

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77.

(2) م.ن، 1: 79.

(3) يُنظَر في هذا: ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام).

(4) بسِوائه بمعنى: بسِواه، أي بغَيره. لكن من التحكُّم غير المفهوم فَتْحُ اللُّغويِّين السِّين في (سِوَى) عند مدِّ مقصورها، فتجد الكلمة قد كُتِبت: (بسَوائه)، مع أنَّ المعنى يصبح هنا بلا معنى! إلَّا في ديوان (المتنبِّي) بتصحيح (عبدالوهاب عزام)، حيث تجد: «بسِوائه»، بكسر السِّين، وهكذا ينبغي أن تكون! فإنْ قيل: «هكذا نطقت العَرَب»، قلنا: هاتوا التسجيل الصوتيَّ لعَرَبيٍّ سَوِيِّ العقل واللِّسان، يقول: «بِسِوَى»، فإذا مَدَّ الكلمة قال: «بِسَوَاء»! لا يُقبل هنا التسجيل عن اللُّثْغ أو المعاتيه!

(5) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 269- 271.

(6) يُنظَر: ابن المستوفي، 1: 346- 352.

 

للشاعر الأمريكي ازرا باوند

قصيدة الرواي بين استجابة الإحالة ودينامية الزمن الضائع

***

توطئة: تشتغل آليات الدال الشعري في الأوضاع القصدية بوصفه هدفا تتوجه به الذات الراوية تجليا يتكشف بوعي شعري مقارب إلى محكي السارد العليم في المتون السردية، لذا وجدنا الصلات والأواصر في محكيات النص الشعري وكأنها إشارات إلى زمن تصويري مستعاد في الإحالة والتصدير والإيحاء. تأخذنا قصيدة الشاعر الأمريكي الكبير (ازرا باوند) الموسومة ب (رسالة من زوجة تاجر النهر) نحو جملة من الدوال المقرونة والمرتهنة بشبكة أفعال وصياغات إشارية الطابع وإحالية في رصد الصلات الدﻻلية الدينامية التي تجعل من زمن المكان الشعري في النص التحاما وحدود جملة أفكار واسترجاعات وأحاسيس جعلت تتجسد على نحو ميلودرامي، يلخص لنا حكاية المرسل إليه متماثلا في أفق شخصانية لقطاتية مستعادة شعريا وتركيز تشكيل محكيات دائرة الراوي ذاتا وموضوعا وداﻻ.

- فعلية استرجاع الزمن عبر مستلزمات المتن النصي

إن فعلية العلاقة الاحوالية في حدود خصائص الزمن الشعري، تفصل ما بين (سياق داخلي = سياق خارجي) أي أن المنظومة المعرفية للبنية الزمنية تقع ضمن حدود خاصة من الخصوص وعامة من العموم. إذ عندما يأتي الزمن في حالة (سياق داخلي = ذات = كينونة) فلربما تقع شرطية مقصوديته في مسار حركة فعلية - ذاتية، كحال النموذج الاستهلالي من قول النص:

قد كان شعري ما يزال

يقص خطاً يستقيم على الجبين.

على هذا النحو الذي جاءت به الجمل الأولى من النص، تتبين ثمة حركة زمنية بين الجملة الأولية والثانية، فالأولى تحدد فضاء الزمن الممدود وصوﻻ إلى الملحقة الفعلية في (يقص خطاً) ثم إلى مسار حركة الكشف الوضعي المرسوم بصياغة الحدوث الحال (يستقيم على الجبين) وبوسعنا القول أن الاستعانة الذاتية للزمن حلت في إطار (فضاء الحكي؟) من خلال إبقاء عنصر الزمن وأدواته (قد كان؟) ومعنى ذلك أن دائرة الأفعال تتم بملازمة زمنيين (زمن سابق - زمن حاضر) وتتنوع الأداة الزمانية بشروطها الأحوالية لتظل عملية القول متأرجحة ومعلقة أحياناً:

- أيام ذاك - وكنت عند الباب ألعب بالزهور

وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ

الوهم صيرها حصان.

قد كنت تنظر حيث أجلس، أو تدور

حول المكان وكان بين يديك من ريش الطيور

زرق لعبت بها كثار.

وواضح من هذه المقاطع، أنه ليس هناك من دﻻﻻت واصلة بين الموضوع والمضمون، ولكننا في صدد  إحتمال أن رؤية (الذات الراوية) تتحرك ضمن استعادات حاصلة في زمن المقابلة بين قطبي (قد كان - أيام ذاك) والنتيجة المشار إليها هي عين الذات الفاعلة والموصولة في إمكانية عكس ذلك الآخر في مرآة مرويها الذاكراتي (أيام ذاك، وكنت عند الباب ألعب بالزهور، وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ). إذا استبعدنا دﻻلة جملة (عذابات زانٍ) من كونها تقع في محمل التشبيه، فما دورها الدﻻلي الاصل لو افترضنا كونها جاءت ضمن مستدرك أحوالي خاص؟ ولربما الجملة ﻻ تتعدى فاعلية اللحظة الكسيرة أو اللحظة المشوشة من إستعادة الذاكرة بحدود التشبيه والمشبه به، ليندرج القول في أقصى أحواله في سياق حالة قصدية ما. عموما المقاطع الشعرية في شتى محاورها ﻻ تخرج عن منظومة الأفعال الزمانية المشرئبة في صورة المكان وذاتية العودة بسياق الأحوال إلى تموجات وتحوﻻت عاطفية وذاتية معمقة بحضور المتخيل في سعيه التشكيلي والإيحائي الصرف.

١- تصاعدية الزمن وتصويرية كشوفية الحاكي:

لعل قصيدة (رسالة من زوجة تاجر النهر) هي من الدﻻﻻت الشعرية التي تستأثر لذاتها تلك الصفة الانطباعية الروحية بالعشق لذلك الوعي المكنون في زمن مصائر الغياب والانتظار لذلك الآتي من المحال، فهي بدورها تجسد الزمن العمري لذاتها الحاكية والمتشاكلة مع مراحل نموها ذات العلاقة التضادية بين (الأنا - الأنت) توكيدا لرؤية كون ما تشعر به محض كلمات في رسالة متداعية تتقاذفها أمواج الغياب والفقد، مع كل هذا تبقى مقاطعها الإحالية بالقول تسمو وتصف صيرورة وجودها المموه بمزمام نفوذ خسارات الأشياء الحاصلة في تفاصيل مصيرها الدﻻلي:

حتى إذا بلغت أربعة وعشرة

زوجت من موﻻي، منك، فما عرفت الضحك مرة

إذ كان يمنعني الحياء.

أني - وقد أطرقت رأسي - كنت أنظر للجدار !

نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء.

٢- بناء القصيدة ومحكية المظاهر الصوتية:

أن القارىء لبعض مقاطع الصورة والحاﻻت الشعرية عبر بيئتها وسياقها العام والخاص، لربما يعاين الحجم المبذول من الاصوات المائعة والسائلة والغليضة ومدى ملاءمتها لشكل الدﻻﻻت المترشحة في مواضع صوتية تحاكي دﻻﻻت السيولة والانبساط والجريان كمياه النهر: (زوجت من مولاي، منك) بيد أن ألتقاط أنفاس الأصوات الحروفية تبقى ضمن حدود تركيبية من الناحية العضوية، وصوﻻ إلى المصادقة الإيقاعية في وظيفة الصوت الدوالي المتمثل في عدة منطوقات محكية في بناء الطاقة الصوتية دليلا ومؤشرا على طبيعة البناء السيولية للأصوات: (نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء) فالمقطعية الدوالية ها هنا تتفاوت في ضرورة اللازمة المفردية - الإيقاعية، ولكنها ﻻ تخلو من الموسيقى الصوتية في هسهسة مظاهر التصويت الذي يوحي للسامع بمدى حدية الصورة في موضع الجمل اللغوية. وبطبيعة الحال قد تصبح محموﻻت الأفعال والصفات في محاور الظواهر الصوتية إلى نقائض وخروجات بتحويل الظاهرة الصوتية إلى حركة بلوغية بالمعنى والدﻻلة كما الحال سابقا في الجمل الأستهلالية الأولى (قد كان شعري ما يزال، يقص خطاً يستقيم عل الجبين) أو جملة (وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ) ان أياً من الاستعدادات الفاعليةفي الجمل مصدرها موضعا في مقاصد (الصوت - الصفة - الأستعارة - المؤول) لتكون حقيقة المعنى تحوﻻ في إشادات الأصوات في الزمان والمكان والظرف والحال. لذا فأن القابلية الأصواتية في متعاقبات الصور والحاﻻت في البناء النصي، تجري بالمتحقق الصوتي - اتجاها داﻻ في حصولية ربط فروقات الصورة والتصور في خيارات الانماذج المبدية للوجود الإمكاني:

حتى إذا مر عام بي، كففت عن العبوس

وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان

مدى الزمان، مدى الزمان!

ربما أن هيمنة أفعال الراوي الذاتية تدفع المشهد الزمني نحو جملة إنبثاق في (الذاكرة - الراهن - الحلم - الرؤيا - الأصوات) بما يساعد صورة تقادم الزمن بمعناه الوجودي، على إستعادة - الحاكية - لاحوالها المتتابعة وتناميها في وجه فتوة الملفوظ (حتى إذا ما مر عام بي، كففت عن العبوس) وﻻ شك أن حركة الزمن بهذه الصيغة الاعتبارية تحيل من قابلية التمثيل الاستقبالي للحال الزمني إلى موجه يتطلع نحو الثبات في فضاء الحال (كففت عن العبوس) لذا يمكننا القول بأن الموجه إليه قصدا يبقى كصيغة تمثيلية لواقع حسي يقارب مناداة ضمير الغياب (وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان.. مدى الزمان، مدى الزمان) فخاصية الاستقدام والاختتام بالمد الزمني تتجاوز طرف المخاطبة للذات الراوية، لتحمل فعالية الأمنية إلى حالة ﻻ تتعدى مستوى معادلة اللزومية المرفقة بحواس قرائية راثية بقابلية الانشطار والزوال بكيفيات وحدات الغياب (مدى الزمان، مدى الزمان!).

- مطات الانتظار.. المساحة اللامنظورة من زمن اللاعودة

تتنازع مفردات (السفر - الانتظار - الخيبة) في أشد مفاصل السياق الشعري للنص، لذا فهي قصيدة المعادل العياني للمحسوس الغيابي، خصوصاً وإن موجهات العنونة المركزية (رسالة من زوجة تاجر النهر؟) تعكس ذلك المستوى الارتباطي من دال (الانتظار - السفر) حافلان بالاحتمالات المخيبة والمستجيبة لمنطقة الحلم وآلياته المكثفة والمضاعفة:

حتى إذا مر عام بي، عزمت على سفار

و قصدت - كوتون - البعيدة في سفار:

أصعدت في النهر الذي للموج فيه

صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

و مضت شهور خمسة منذ ارتحلت. مضت شهور !

و على ذرى الأشجار حولي ها هنا، تثب القرود

و تضج في لغط حزين لا يطاق ! متى تعود !.

مما يحفزنا نحو رغبة التأويل، هو ذلك الضمير المستتر في قرار صيغة التعدد الصوتي (متى تعود !) فالمستوى المركب بين سياق الذات الراوية عبر صوتها الإجمالي والمخصوص ثمة مسافة إجرائية خاصة وكيفية في التعدد والتوحد، فعبر المستوى الأول ثمة آلية التمركز الحكواتي العام حاﻻ، أما في المستوى الآخر فهو المقصود بالوظيفة المضافة في التعلق الذاتي وسريته الماثلة في خطرات التماهي المتجاوز لمنطقة النطق والمنطوق التعجبي في مؤسطر الجملة. بمعنى ما ان الذات غدا يسيرها الانفصال الصوتي، وفي الجانب التشكيلي من زمن النص ثمة مفترضات بوظائف التصور الذاتي (أصعدت في النهر الذي للموج فيه صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.

- تعليق القراءة:

لعل القابلية التصويرية ها هنا اكتسابا ﻻحتماﻻت ظنية في سياق فاعلية حاسة الراوية، ليتأتى مفعول توظيف أنسنة الأشياء (القرود؟) باستعارة مستجيبة لمنطوق مخيلة الراوية التي ﻻ تنفك عن معاودة تحريكها للمخيلة التي باتت تحفظ تمثيلات الاستلهام في مفترضات حكواتية دائمة الاستعادة لذلك الغائب والحاضر في قاع النهر والذاكرة والزمن والمكان وطرائق توليد الحكي في حكايا الفقد والفقدان:

إني رأيتك تسحب القدمين في يوم الوداع

و الان، عند الباب، تنتشر الطحالب زاحفات

من كل أنواع الطحالب، يمتنعن على اقتلاع

و الريح كالآهات، والورقات تسقط مبكرات.

هكذا وجدنا (قصيدة الراوية) تحفظ لذاتها ودوالها صور مرثية مفترضة محفوفة برحيل ذلك الزوج عبر رحلاته النهرية، مستشرفا لذاته بانوراما عالم القاع والضياع بين طبقات الطحالب والحشائش العميقة من وجوه وخرائط القاع، تاركا لتلك الزوجة عملية تدوين آخر رسائلها المفترضة إلى ذلك النهر المثقل بمرايا الجثث الغاطسة والخضرة والتواريخ الدائرة في صفير الريح واستجابة لاصداء حكايا قصيدة زوجة تاجر النهر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

تشغل رواية «المقامر» مكانة خاصة في مجمل أعمال فيدور دستويفسكي (1821 1881)، ليس فقط للظروف الشائكة التي أحاطت بالكاتب خلال مدة كتابتها، وإنما لكونها أيضا الحاضن لجملة كبيرة من الأفكار التي ستنساب في الأعمال التي جاءت بعدها لتتجسد فيها بروح نابضة وقوة، تأخذ العقول وتكون موضع دراسات عميقة في جامعات الشرق والغرب لأسبار غورها ولحد يومنا هذا..

من الناحية الشكلية فإن المقامر هي الرواية الوحيدة التي كتبها دوستويفسكي وصدرت (1866) بكتاب على حدة من دون أن تنشر في مجلة أدبية كما هي الحال بالنسبة لرواياته الأخرى. وكانت الرواية مخاض «مقامرة» محضة كادت تؤدي بالأديب الكبير للإفلاس نهائيا وتحول من دون ظهور رواياته الكبرى الأخرى: الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف والأبله والمراهق…. فالمقامر كانت نتاج اتفاق غير عادل فرضه الناشر ستيلوفسكي على دستويفسكي، يقضي بقرضه مبلغا ماليا كان بأمس الحاجة لقاء إصدار كافة أعماله،وأن ينتهي من كتابة رواية بأقل من تسعة أشهر، وبخلافه فإنه سيصادر حقوق طبع أعماله لتسع سنوات واسترجاع السلفة.

وشرع دستويفسكي بكتابة الرواية قبل شهر من انتهاء المهلة وربح «الجولة» فقط بفضل ظهور «الملكة» أنا جريجورفنا التي ستكون زوجته وساعدته على نسخ روايته وتنقيحها في المدة المطلوبة. فكتب الرواية في غضون 26 يوما تلك الأيام التي كانت أيضا منعطفا في حياة دستويفسكي الإبداعية. وتزوج من جريجورفنا التي ستظل رفيقة دربه وسكرتيرته الخاصة حتى اللحظات الأخيرة من حياته. الرواية بشخوصها وبنيتها وأفكارها الرئيسة كانت قد اختمرت في ذهن الكاتب، ويبدو أنها كانت بانتظار المخاض، الذي عجالته المقامرة المريرة

وتدور الرواية حول عائلة جنرال روسي شاءت الظروف أن تحل في مدينة روليتنبورغ الألمانية وتتحكم الانفعالات والمال وعواطف الحب الجياشة وما يتصل بها من مكايد وصفقات وراء الكواليس، بأمور هذه العائلة. وليخفي الجنرال رأس العائلة عشقه لمودموزيل بلانشيه التي لتفترق عن الفرنسي دي جريو وهذا بدوره ارتبط بعلاقات غامضة بربيبة الجنرال بولينا التي أضيف لها قصة مال.... ولم يتخذ موقف اللامبالاة من بولينا ايضا المستر استلي الانكليزي الذي اتشح بالوقار وبرودة الدم.بيد ان معلم اطفال الاسرة الكسي ايفانوفيتش وهو بطل الرواية وسارد احداثها كـ «مذكرات شاب»، سليل عائلة نبيلة وحاصل على تعليم ممتاز تتجلى في نقاشاته الفكرية الحارة وتأملاته عن الناس والحياة، وحده يعيش مغامرة حب قلقة لبولينا، حب حتى الحقد، يحرمه الهدوء ويسرق النوم من عينيه، ويجعله يقبل تأدية دور التابع بالاسرة ليكون بالقرب منها

وتراهن العائلة ومن حولها على موت الجدة صاحبة الأطيان الذي تنتظر وصول خبرها من موسكو ببرقية عاجلة لتقاسم الورث وحل المشاكل العالقة، ولكن العجوز لا البرقية تفاجئ الجميع بالوصول بنفسها لروليتنبورغ وتشرع بالمقامرة بثروتها لتخسرها وتتمحور الرواية حول مصير ألكسي إيفانوفيتش الذي يمارس القمار نزولا لرغبة بولينا ويحالفه الحظ في البداية بالربح، ولكنه يتحول -في نهاية المطاف-   إلى مقامر مدمن لا علاج له، أي كما وصفه الأستاذ استولي «إنسان ضائع» ويتضح في نهاية الرواية بأنه يتنقل بين مدن القمار بأوروبا وينحدر ليكون خادما، ويصدر به حكم بالحبس بسبب عدم إيفائه بالتزامات مالية. فالإدمان كان ملاذا من مأساة الحب غير الناجز، لخنق أصدائه بانفعالات الربح والخسارة، ويرصد الكثير من الباحثين في سيرة دستويفسكي الكثير من ملامح شخصيته والأحداث التي مرت به والناس الذين تعامل معهم في الرواية. فازدواجية الحب والحقد التي ميزت علاقة ألكسي إيفانوفيتش ببولينا تذكرا بعلاقة الحب المعقدة التي ربطت دستويفسكي بابوليناريا سوسلفا. وكان دستويفسكي أيضا قد ولع لمدة 10 سنوات حتى الإدمان بالقمار مثل بطل روايته المقامر.

شخوص رواية المقامر، مثلهم مثل أغلبية شخوص روايات دستويفسكي الأخرى يقفون على حافة الهاوية. هاوية ما. الإفلاس، أو فقدان الصواب أو التعرض لمرض نفسي الموت الفراق مع القريب أو خسارة كل الممتلكات أو الربح أو اجترح مأثرة أو اقتراف جريمة. دائما يقفون أمام خيار تراجيدي. ومعظم تلك الشخصيات أيضا كما يقول ميخائيل باختين متعددة الأصوات. ففي اللحظة الواحدة تتقلب المشاعر والانفعالات ويدلي الإنسان أو يفعل ما ليخطط له ولم يفكر به. هذه الأجواء تهاب عالم دستويفسكي وديناميكية تربك حتى القارئ وتحدث صدمه لديه. دستويفسكي يشرح الروح الإنسانية ليقدم لنا الأجزاء المتكونة منها التي تعوقها عن تحقيق حلم المسيح بإقامة الجنة على الأرض

وينقسم شخوص رواية المقامر إلى معسكرين. الأول يضم الشخصيات الروسية الرئيسية منها الكسي ايفانوفيتش وبولينا الكسندورفنا والجنرال والجدة انتونيدا فاسيليفنا وأربع شخصيات ثانوية يكتفي بإيراد أسمائها فقط. والمعسكر الآخر يضم شخصيات أوروبية فرنسية مودموزيل بلانشيه ورفيقها دي جريو والإنجليزي المستر استلي والألماني البارون بورميلجيليم. ويعكس المعسكران توجهين حضاريين وثقافتين مختلفة بل ومتناقضة لا يمكن أن تلتقي، ونظرت  إلى الأمور بصورة مختلفة حتى حينما يمارسان الفعل نفسه. لكل منطلقه فيه. فالمال مثلا بالنسبة للروسي ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لنيل الحرية والتحكم بالمصير الشخصي، ومحاولة إنقاذ الآخر، الغريب عنه وفي نهاية المطاف تحقيق الحلم الأثير لدى الروسي: تخليص العالم. الروسي يعيش بعواطفه منفعلا متأججا جامحا مخترقا للأبواب من دون الاكتراث للمراسيم والبروتوكولات، وهو مضياف كريم، حال ما تظهر لديه نقود سوف يدعو  احدا ما لوليمة غداء، أنه قليلا ما يفكر بالغد، وهو مستعد لإلقاء نفسه من قمة جبل نزولا عند أمر حبيته أو ارتكاب الحماقات ليبعث السرور في قلبها، ويقع في حبائل الأوروبي الذي يتقن حبك المكائد، انه يعرف الأوروبي طيب ولكنه أحمق

ويدرج دستويفسكي في المعسكر الأوروبي من شخوص روايته خمس شخصيات تمثل طيفاً أكثر الأمم نفوذا في عصره: الفرنسية والإنجليزية والألمانية وهناك أشباح بولونية، أو على الأقل الأمم التي لها صلات على مستويات مختلفة بالأمة الروسية والسلافية عموما. ونتلمس من خلال تفاعل الشخوص وصدامها أن لكل فرع أيضا خصوصيته في ذهنية الإنسان الروسي. والأحكام التي تطلق على «الأوروبي» هي في واقع أصداء لميول اجتماعية وسياسية كانت سائدة في روسيا. فالفرنسي مغامر يبحث عن المال بأية وسيلة كانت، وهو رغم الرأي الشائع عنه يتميز فقط بأناقة الشكل من دون أن يكون له محتوى ولا مضمون. المال بالنسبة له هدف نهائي ومن أجل يغامر ويخدع ويخون ويلبس الأقنعة ويحتال، لكنه متكبر ينظر إلى الآخرين وخاصة للروس من الأعلى.ويلوح الألماني دقيقا في حياته، إنه يضحي بحاضره في سبيل تأمين مستقبل أحفاده ويعيش لذلك في ظل قواعد لا يحيد عنها تؤدي إلى جفاف روحه. ويبدو الإنجليزي غامضا وباردا في مشاعره يحقق أهدافه بخفاء دون أن يبوح بها، ولكنه يظهر الكرم والشهامة عندما يجد ذلك مناسبا.

وعموما فان الآراء والمواقف من الأوروبي والروسي تأتي على لسان شخوص الرواية ليس بالضرورة هي مواقف الكاتب، لكن المعروف عن دستويفسكي إنه أصولي روسي أصبح محافظا متدينا، بعد الإفراج عنه من سجن الأعمال الشاقة بسبب انتمائه إلى حلقة بيترشيفسكي الاشتراكية التي نشطت إحدى جماعاتها لتحويلها إلى منظمة فعل جماهيري لقلب نظام القيصر. وكان يؤمن بخصوصية الروح الروسية وبرسالته الروسية لإنقاذ العالم لأنه مزاج حضارتين. كان يؤمن أن الشعب الروسي تجسيد للرب، فكان يدافع عنه ويدعو لتنقية صفوفه لإيصاله بطريق السلام والعمل إلى الجنة الموعودة. وكان دائما يبحث عن البديل للحضارة الغربية التي بالغت بميولها المادية.

***

د. فالح الحمراني  

قنّاصة النّور

تلألئي في أفق الكدّ تراقصي على قمم المجد يا نجمة الشّقاء السّاطعة تهادي بين الكواكب بزهو ومرح حوّطتك بسواعد الكدح المستديم من كلّ عين تحسد من كلّ قلب حاقد حصّنتك بيقين صدقي من مكر الموج يشرئبّ صوبك يطفئ وهج قبساتك اللّامعة تمايلي على متن فلاحك المسبوك بالنّصب لتشتعل ثقافة المقل تناثري في رحاب الفؤاد تناسيم عطر وفخار. يا نتاج عمر على جسر التّعب أثمر عند آخر سلّم الوصول سلطان ضيائك توهّج اشمخي فوق كبرياء المنى فلا يحبط انبهارك صواعق ولا يخفي سطوعك سحب أو قنّاصة خلف منافذ الضّغائن يضرب خلسة في عقر الفوز

يسترق الإبداع ينزع عنك ثوب النّور وقبّعة الرّجاء ليصيب سهامه في أوج القمم.

***

جميلة مزرعاني - لبنان الجنوب / ريحانة العرب

....................

القراءة: في الزمان الذي يتناثر فيه الضوء على أطراف الأفق، حيث تلتقي ظلال الحروب الصامتة مع شعاع الأمل الضعيف، تطل قصيدة الشاعرة جميلة مزرعاني كأنها نداء متجدد لروح المقاومة التي لا تكلّ، لا تملّ. "قنّاصة النّور" ليست مجرد كلمات تُنسَج على الورق؛ هي خطاب مستمرّ بين النور والظلام، بين الشجاعة والمخاوف المتربصة.

الشاعرة تتسلل إلى عالمنا كمن يسكب بريقًا في عتمة الليل. تفتح نافذة لرؤية جديدة: النور، الذي غالبًا ما يتصور أنه بعيد عن متناول اليد، يصبح الآن سلاحًا في وجه العتمة. النور ليس فقط إشارة إلى البراءة أو الطيبة، بل هو الفكرة المتمردة، القوة التي تصمد، النية الصافية التي تتحدى الانتقام والخيانة. والشاعرة، بقدرتها على الحرف، تكشف عن "قنّاصة النّور" تلك القوى التي تحاول أن تقتل الجمال، أن تشوه الأنوار قبل أن تضيء.

لكن في خلفية هذه القصيدة، هناك أمر آخر يبعث على التأمل: النور لا يموت. حتى حين يكون الهدف مرمى لسهام الحقد، حتى حين يرسل العدو غدره عبر "منافذ الضغائن"، يبقى النور مرصعًا داخل الشاعرة نفسها، محاطًا بسور من "يقين صدقي" وكأنها تكتب مصيرًا لا يمكن للموج أن يغيره. فالنور في هذه القصيدة ليس ناعسًا أو هائمًا في السماء، بل هو صراع يومي، رقص على أطراف الألم، تمايل على ظهر تعب الإنسان.

الشاعرة كـ"قنّاصة" في حد ذاتها:

الشاعرة هنا ليست مجرد مراقب خارجي للحياة، بل هي القنّاصة نفسها، التي تعيش في صراع دائم مع الظلام داخلها وخارجها. تكتب وتترقب، تبثّ إشعاعاتها رغم الرياح التي تعصف بظلالها. وقنّاصة النّور هي تلك الذاكرة المقاومة التي ترفرف في سماء الحرب الداخلية للإنسان، حيث يظل الجمال والإنسانية هدفًا يتم اصطفاؤه وسط رصاصات الأيام، ليظل يضيء الطريق للآخرين.

التصورات الرمزية التي اختارتها الشاعرة هي صورة كونية لحرب بين "النور" و"الظلام"، ولكن الحرب هنا ليست معركة خارجة عن الذات، بل هي مقاومة خفية تشتعل في أعماقنا في لحظات الضعف والانكسار. الشاعرة لا تنادي في قصيدتها، بل تصرخ فينا جميعًا بأن النور في داخلنا، ورغم كل شيء، يظل وميضه هو الأمل في طريقنا الطويل.

النور، في النهاية، هو النصر:

لكن، ما يجعل القصيدة تخرج عن التقليدية هو الطابع الصوفي الذي يلتف حولها. فالنور ليس فقط جوابًا للظلام، بل هو الجواب الذي يعبر عن هويتنا كإنسان، كما لو أن كل قمة، مهما عتت، هي مجرد نقطة في الطريق نحو هذا النور الأبدي الذي يحترق فينا. النور ليس هدفًا نهائيًا؛ بل هو رحلة، هو الحلم الذي يتحقق على بُعد كل شعاع.

هكذا، بين سطور الشاعرة، نجد أن الظلام ليس العدو المباشر. العدو الأكبر هو الصمت الذي يسمح للظلام بالانتشار. "قنّاصة النّور" هي من يرفض هذا الصمت، يرفض أن يُطعن النور في قلبه، ويرفض أن يُغتال الإبداع في مراحله الأولية. إنها دعوة إلى النضال، إلى الانتصار في تلك المعركة المتواصلة، إلى تحويل كل ضربة للحياة إلى مصدر قوة.

الطاقة السحرية للقصيدة:

إذا كانت القصيدة تحتفل بالنور وتستفزنا لملاقاة الظلام وجهًا لوجه، فإننا لا نغادر ساحة المعركة إلا ونحن أكثر تمسكًا بأحلامنا. لأنها، وببساطة، تحوّل الكلمات إلى أسلحة، والأحلام إلى وقود، والجراح إلى طرقات تعبير. فيها من الإبداع ما يشعل فينا الفتيل، ويجعلنا نواجه الضغوط التي تحيط بنا بأرواحٍ ملؤها العزيمة.

الخاتمة:

شاعرة لبنان الجنوب، جميلة مزرعاني، لا تقدم لنا مجرد كلمات موزونة؛ هي تمنحنا إيقاعًا نرقص عليه رغم كل القنّاصة التي قد تصوّب نحو قلوبنا. قصيدتها تأخذنا إلى مكان بعيد عن الخوف، مكان نعرف فيه أن النور لا يتوقف أبدًا، حتى لو تقطعت أوصالنا تحت ضربات الظلام.

النور لا يُخطف إلا ليُعاد خلقه من جديد.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لون جديد من ألوان الإبداع الأدبي، زادت أهميته على الساحة الأدبية العربية، وزاد اهتمام الأدباء والنقاد به خلال السنوات الأخيرة، تمثل في فن (القصة القصيرة جدًا)، الذي تعود نشأته إلى تسعينيات القرن العشرين، وتعد القصة الأردنية القصيرة جدًا من النتاجات السردية المتفاعلة مع شقيقاتها في المنطقة العربية، وامتاز اللون بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، إضافة إلى سمات الحذف، والاختزال، والإضمار، مع التصوير البلاغي.

تتميز القصة القصيرة جدًا بعامة بعدد محدود من تقنيات القص، فهي كما وصفها يحيى عبابنة في مقاله (تقنيات القصة القصية جدًا في مجموعة قبل الآوان بكثير) «لا تحتمل كثرة اللقطات، ولا تحتمل أيضًا الوصف، فهي عمل لا يحتمل الوصف والاسترخاء على الإطلاق، ولذا فلا بد من وجود افتتاحية تتواشج مع سائر العبارات وختام القصة، فبداياتها بجملة جذابة ومثيرة، وعبارات متحركة ثائرة، ونهايتها جملة تصعيدية» (مجلة أفكار، ع153، ص43).

إن تقنيات القصة القصيرة جدًا تختلف من رؤية نقدية إلى أخرى، فمنهم من رأى أن التقنيات تنحصر في «خصوصية اللغة، والاقتصاد، والانزياح، والمفارقة، والتناص، والترميز، والأنسنة، والحيوان، والسخرية، والبداية، والقفلة» كما وردت في كتاب شعرية القصة القصيرة جدًا لجاسم خلف إلياس (ص150). بينما اعتقد يوسف الحطيني أن تقنيات القصة القصيرة جدًا هي: «التناص، التشخيص، الإيقاع، العنوان، الحوار»(القصة القصيرة جدًا بين النظرية والتطبيق، ص 33-44 ). ويشير علي المومني في كتابه (الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية) إلى أن تقنيات القصة القصيرة هي: «الرمز، البداية، القفلة، المفارقة، ترابط الأحداث، التكثيف، الشعرية، اللحظة المتفجرة، الفجائية، كسر أفق التوقع، التناص»(ص295).

وتجدر الإشارة إلى أن التقنيات على اختلافها متوفرة في القصة الأردنية القصيرة جدًا، فقد يلجأ إليها كاتب القصة القصيرة جدًا مجتمعة، وربما لا يقوم بتوظيفها جميعها في قصصه، فالقاص محكوم بطبيعة الفكرة وصياغة المحتوى في القصة، فالتقنيات وليدة التجريب والابتكار، والذي سمح بالانتقال للكتابة السردية الممزوجة بالشعر، وممتزجة بالخيال والتراكيب اللغوية المدهشة، والاستعارات والصور الفنية المرافقة للاختزال والتكثيف (يوسف الحنيطي، ص203).

المفارقة في القصة الأردنية

هي من «التقانات التي تفعل القصة القصيرة جدًا، وتشكل أحد أسسها الجمالية، إذ تحول الحياتي إلى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة، وتقترح اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني في واقع متخم بالمفارقات اليومية الساخرة ومجالات الحياة المختلفة، فهي توفر لنا فرصة التقاط المفارقات ورسم صورة كاريكاتيرية سريعة نافذة لحالة ما»(جاسم خلف إلياس، ص153).

إن المفارقة ضرورة لا بد منها في الأدب، ووجودها يتحدد بمقدار الفائدة والجمالية التي تضيفها إلى النص، فأهميتها تتجلى في قدرتها على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، لها مقدرة على تحفيز دلالات النص عن طريق خلق تناقض ظاهري يوهم المتلقي أنه يواجه موقفًا غير متسق مما يدعوه إلى إمعان النظر فيه في محاولة سبر غوره لينكشف عالم المفارقة والدهشة.

تشكل المفارقة في القصة الأردنية القصيرة جدًا تقنية مهمة؛ لما لها من أبعاد تأثيرية في النص، فلا تكاد تخلو قصة قصيرة جدًا من هذه التقنية، سواء أكانت مفارقة درامية أو لفظية أو مكشوفة، ومن أمثلتها، ما جاء في قصة «جثة» من مجموعة «بعد خراب الحافلة» لسعود قبيلات تقوم المفارقة على الحدث الدرامي، يقول: «مشى الرجل طويلاً ؛ وبينما هو ينقل خطواته مات، غير أنه لم يفطن لموته، كما أنه لم يعرف كيف يأوي إلى قبره، وأخذت جثته تتحلل، فلم يعرف ماذا يفعل بها، فحملها وواصل المشي، عندئذٍ مات مرةً أخرى، وأمعن في الموت، بينما هو لا يزال يواصل المشي»(ص71).

إن قصة قبيلات هذه قائمة على مفارقات مضادة في الحدث، فهي أشبه بعلاقة النوم بالأحلام؛ بمعنى أن كل نص سواء كان قائما على الشعور أو اللاشعور (حلم، كابوس، هذيان) فهو ينبئ عن مفارقة ما، فقصة «جثة» تظهر المفارقة في الحياة والموت اللتان همان مرادفتان للاختناق والأزمة، والعلم بالموت ومعرفته نقيض الجهل بآلية اللجوء إلى القبر. فإن القصة القصيرة جدًا عند قبيلات تتكئ على أبعاد المفارقات المتنوعة القائمة على توظيف عناصر اللاشعور الإنساني، فالمفارقة عنده عبارة عن منظومة من المفارقات السردية المتشكلة من السخرية، والترميز والأسطورة والهذيان.

ومن القاصين الذين وظفوا المفارقة القائمة على الحدث «جلنار زين» إذا لجأت إلى عالم اللاشعور، ومنحت قصصها دفعة شعرية مغرقة بالمتناقضات المتضادة، ففي قصة «كابوس» تصل القاصة إلى جعل عالمها السردي يمتلئ بمفارقات حسية تعتمد فيه على نظام الاسترجاع، تقول: «نهض من نومه مفزوعا.. كان كابوسا جميلا! رأى نفسه في بيته ينهل من طعامه الطيب ويمتطي فوق فراشه الوثير، ممتعا ناظريه بمرأى زوجته الوادعة.. تعوذ بالله من الشيطان، وعاد إلى توسد صاروخ لم ينفجر، متدثرا بفستان ينزّ دما»(ص34).

تقوم هذه القصة من بدايتها على تقنية المفارقة فجعل منها عالمًا فوضويًا في نهايتها، فالتناقض الذي أحدثته القاصة في قولها «كان كابوسًا جميلًا» دفع بالنص نحو تفسير الكابوس تفسيرًا لا منطقيًا يتناقض مع الوصف الشعري، فكيف يكون الكابوس جميلًا بينما الرجل يتعوذ منه؟! وكيف يكون «الطعام الطيب، والفراش الوثير، والزوجة الوادعة مقابل «الصاروخ الذي لم ينفجر، والفستان المليء بالدم» هذا التشويش الذي أحدثته المتناقضات منحت النص مفارقات مختلفة، فالمفارقة كما يشير إليها أحمد الحسين «هي نتيجة لتوفر بعض الأمور من مثل التضاد والثنائيات اللغوية المفارقة، ومقارنة بين حالتين يقدمهما الكاتب من تضاد واختلاف وجهات النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلنا، بل يمكن أن يستشف من النص، وهذه الثنائيات هي بصورة ما معطى لغوي حمل دلالات في الموقف والمضمون؛ لذا فإن هذه الثنائيات قد تضحكنا من جهة لكنها تفرز في جدران أرواحنا تحريضا من جهة أخرى» (ص42).

ومن أنواع المفارقات التي حفلت بها القصة القصيرة جدًا في الأردن المفارقة الساخرة، وهي جزء من المفارقة اللفظية التي تعد كما قال عنها جاسم خلف إلياس: «نمطًا علاميًا أو طريقة من طرائق التعبير، يكون المعنى المقصود فيها مخالفًا للمعنى الظاهر، وينشأ هذا النمط من كون الدال يؤدي مدلولين متناقضين، الأول مدلول حرفي ظاهر، والثاني مدلول سياقي خفي، وهنا تقترب المفارقة من الاستعارة أو المجاز وكلاهما في الواقع بنية ذات دلالات ثنائية. ومن أنماطها الفرعية مفارقة السخرية»(ص157). ومن أمثلة هذا النمط في القصة الأردنية القصيرة جدًا قصة «جوع» لسمير الشريف في مجموعته «مرايا الليل»: «للشهر الرابع لم يتذوق أطفالي طعم اللحم، أقف أمام الجزار أضم قبضتي على قروشي القليلة، للمرة الأخيرة أمسكتْ بي نظراته متلبسا بحيرتي، قبل أن أمتطي سرج شجاعتي، وأطعنه بسؤال: أحتاج عظمات للكلاب في بيتي»(ص55).

أحدثت المفارقة في هذه القصة سخرية مضادة، فعلى الرغم من سير الأحداث بتسلسل وتناسق متناغم مع طبيعة الفكرة التي يميل النص إليها، إلا أن القاص فاجئ المتلقي بمفارقة ساخرة، أراد من خلالها التعبير عن حجم المعاناة الاجتماعية التي تعيشها الطبقات الفقيرة، فالمفارقة الساخر تقنية تستطيع أن تمنح النص لغة خاصة قائمة على جزئيات لفظية، أو صورة تكثيفية، هدفها حمل كثير من الانتقادات، لا سيما وأن المفارقة الساخرة في رأي أحمد الحسين: «قد تقول الشيء وتريد ضده، وهذا يرتبط إلى حد كبير بالسياق، والسخرية جرأة على الواقع وأحيانًا تعبّر عن عدم التطابق بين المأمول والواقع، وقد تنتج عن تباين الأساليب والرؤى، وأحيانًا يكون الشغل على الشخصية فقد تأخذ بعض الحالات الغريبة التي تجعلها أكثر اقترابًا من الواقع»(ص47-48).

وقد تأتي المفارقة من خلال كسر أفق توقع المتلقي بين عنوان القصة ومضمونها، وكذلك من خلال النهايات غير المتوقعة. وهذا ما نلاحظه مثلًا في قصة (بنت الحرام) للقاص جمعة شنب فهي قصة ذات نزوع رمزي تتمركز دلالاتها العميقة في رفض الواقع الاجتماعي القائم على الغدر والخيانة، والفساد والنهب والسلب، وحب الذات والتسلط، فقد وصف القاص (النملة شديدة الحمرة) ببنت الحرام لأنها خانت وخدعت مجموعتها، وتعالت وفضّلت حب الذات على حب الآخرين، فالمفارقة التي أحدثها القاص هي مخالفة طبيعة العلاقات داخل بيت النمل التي تقوم في أساسها على الإيثار وحب الآخرين، فالفرد يعمل لصالح المجموعة، وما هي إلا نموذج للصورة الطبيعية للبشرية القائمة على الاستغلالية وحب التسلط والعمل من أجل المصلحة الشخصية بعيدًا عن النظر إلى أهمية مصالح الآخرين. لقد أراد القاص من القارئ أن يبحث في غموض القصة ولطف الإشارة عن هذه الفكرة من خلال إيجاد عنصر المفارقة والإدهاش.

والمفارقة تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفًا للنهاية المقصودة، فقد يلجأ إليها القاصيين لنسج نهايات يمكن تسميتها بخيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع؛ وهو الذي يكسر به توقع القارئ الذي كان ينتظر أن يجد ما يتوقعه من الكلام بناء على المقدمات السياقية، ولكنه يتفاجأ بنتيجة أخرى تناقض توقعاته، فيزيد من تفاعله ومن كثافة المغزى.

ومن أمثلتها «قصة احتفالية» من مجموعة «أربعون رصاصة تكفي» لرامي الجنيدي، يقول: «في يوم الشجرة العالمي، أقامت الجهات المنظمة احتفالا كبيرًا باقتلاع آخر شجرة زيتون معمرة»(ص70)، فعلى الرغم من قصر الجملة القصصية في هذه القصة إلا أن النهاية ألفت صدمة ومفاجأة للمتلقي، إذ خالف الحدث بشكل مغاير توقعات القارئ، فالاحتفال في يوم الشجرة يكون بزراعة الأشجار لا اقتلاعها، كذلك أضافت عبارة شجرة الزيتون المعمرة متخيلًا شعريًا جعل القارئ يتساءل لماذا اختار القاص شجرة الزيتون؟ وربما تكون الإجابة أن شجرة الزيتون رمز للطهارة والمباركة والسلام والهدوء والطمأنينة، وأن اقتلاعها يرمز إلى مضادات هذه التأويلات.

كما لجأ قبيلات في معظم قصصه في مجموعة «بعد خراب الحافلة» إلى مفارقة خيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع، التي تنتهي بحدث واحد مغاير للأحداث رغم تعدد الأحداث في القصة، ومن ذلك قصة (رفقة): «صعدا إلى الحافلة معا، وجلسا في مقعد واحد ، غير أن المقعد سرعان ما انقسم إلى نصفين، والحافلة إلى اثنتين.. سارت كل منهما في اتجاه؛ حاملة أحد الراكبين»(ص65) فأحداثها متعددة، مبنية على الجمل القصيرة، ذات الإيقاع السريع، فضلا عن ترتيب في الأحداث مثل الصعود، والجلوس، والانقسام، إلا أن المفارقة حدثت في انقسام الحافلة إلى اثنتين، ثم جاءت المفاجأة أو النهاية في المصير المحتوم الذي حدث نتيجة ما يبدو أنه حادث قوي فصل الأصدقاء عن بعضهم البعض.

وفي نهايات قصص مجموعة محمد عبد الكريم الزيود (وحيدًا كوتر ربابة) لجأ لهذه المفارقة فمثلًا في نهاية قصة المنتصف وأشياء أخرى خالفت ترقب القارئ وكسرت أفق توقعاته كلها، لم يخطر بذهن القارئ أن الفتاة سترسل رسالة وتقول له أنها بانتظاره في قاعة القادمين، فهي خلال القصة لم ترد عليه ولو بكلمة واحدة. وفي قصة فنجان قهوة، نرى أن النهاية كمثيلاتها لجأ فيها إلى كسر أفق التوقع، وذهب الزوج لإعداد فنجان القهوة، الذي طالما حلم أن يكون من إعداد زوجته التي فعل الكثير لها.

إذًا المفارقة تقنية مهمة في تفعيل حركة السرد في القصة القصيرة جدًا، ومن مقوماتها التركيز على جملة من المتناقضات والأضداد؛ لتخلق في النص تنافرًا وتعاكسًا بين الواقع والمتخيل، وتعتمد على خرق المتوقع وكسر أفقه.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

ومضة

بقلم: يحيى السماوي

قالَ ليْ الأعمى: أنا أرضٌ يبابْ

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ غابْ

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ إنْ جَفَّ السرابْ؟

***

الشعر كينونة وتاريخ...

الشعريّة الوامضة… كلام فني مضلل وتعبير جمالي موح يسجل موقفٌا أو إحساسا شعريّا يمّر في مخيلة المنتج فيصوغُهُ بألفاظٍ lموحية محدودة بكم وكيف.. وهي تشكل وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شکل من أشکال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر بالتزامها مبدأ الاقتصاد في الالفاظ والاختزال الجملي والابتعاد عن الوصفية والحذف والاضمار..

وباستحضار النص الشعري الوامض الذي نسجته انامل منتجه يحيى السماوي الذي يبحث عن قوانين الابداع.. معتمدا على خيال مركب يهدف إلى تحقيق وجوده في تكوين موضوعي قائم بذاته.. باعتماه لغة الشعر التي هي (لغة داخل اللغة) على حد تعبير بول فاليري.. وبهذا تكون الومضة تغييراً في نظام التعبير عن الأشياء كما في قول أدونيس:

(بَكَتِ المئذنة

حين جاء الغريب

– اشتراها وبنى فوقها مدخنة)

فإيحاء المئذنة في تجربة المنتج قد يكون السكينة، الأمن، السلام.. ثم يأتي الغريب ليشتري ما لا يباع ويبني فوقه ما يناقض رموزها جميعاً..

قالَ ليْ الأعمى: أنا أرضٌ يبابْ

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ غابْ

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ

إنْ جَفَّ السرابْ؟

ان الحديث عن الومضة.. هو حديث عن النزعة البلاغية الشعرية وتجاوز الخطابية إلى الإيحائية وتقنية الانزياح والتكثيف واستنطاق رموز الطبيعة وصورها....

وبذلك قدم المنتج نصا تشكل من لقطات سريعة مفاجئة يلتقطها خيال المبدع من مشاهدات الواقع بعد أن يشكلها فنياً وفق رؤيته ورؤياه، فتأتي حافلة بالغرابة، والدهشة، والإمتاع، والطرافة، والمفارقة. والثنائيات الضدية وكثافة العبارة وعمق المعنى..

***

علوان السلمان

..................

فائدة: ان الومضة الشعرية لاتقوم على شعرية الجملة الواحدة بل على شعرية الرؤيا في إطارها البنيوي. فيرتقي الشاعر باللغة مشكلاً كلمات يرتفع مستواها الدلالي المؤثر في ذات وفكر المستهلك (المتلقي)...

* لوحة الأعمى للرسام والنحات والتشكيلي بابلو بيكاسو 1881 1972

 

بقلم: مايكل ميوشو

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

 سافرت إلى نيو أورليانز قادما من لندن، حيث أقيم كل عام لبعض الوقت. وقد سافر معظمكم مسافة ما من منزله وجامعته ليستمع إلى محاضرة سألقيها عن أدب الرحلات.  قد يبدو هذا للوهلة الأولى موضوعاً مشكوكاً فيه، أو على الأقل موضوعاً سخيفا لاجتماع رابطة اللغات الحديثة. ولكنني آمل في غضون الساعة القادمة أن أقنعكم بأن السفر، ليس تسلية تافهة ويجب أن نتركها لفقراء شارع بوربون بقبعاتهم الكروية وعلب البيرة التي يشربونها وقمصانهم الغريبة، ولكنه في المصطلحات الأدبية عمل بالغ الأهمية.

أولاً، بطبيعة الحال، يتعين علينا أن نحدد مصطلحاتنا! فوفقاً لبعض المنتقدين والمعترضين، لم يعد الارتحال موجوداً. فقد حلت محله آفة السياحة. ولابد أن نعترف بأن السياحة تأتي في المرتبة الثانية بعد العنصرية أو الاعتداء الجنسي على الأطفال كمؤشر على السلوك غير المقبول سياسياً. قد نعترف بذلك ولكن حتى الآن لم نفعل.  فنحن جميعاً نفضل أن نكون رحالة حقيقيين، وليس مجرد سياح، لو كان بوسعنا أن نحقق رغباتنا.

ولكنني أزعم ـ وهذا موضوعي الليلة ـ أن السفر بالمعنى التقليدي لا يزال ممكناً، وعلاوة على ذلك هو مهم للكاتب وبالتالي للقراء. فكما استمر الإيمان الديني لفترة طويلة بعد وفاة الله المزعومة، وكما استمر الكاتب في إنتاج الروايات لفترة طويلة بعد زوال هذا النوع من الأدب الذي أثار الكثير من الجدل، فإن الناس ما زالوا يسافرون حول العالم، ويكررون تمثيل الطقوس التي كان من المفترض أن تندثر منذ عصور. وعلى المستوى الأكثر أهمية، يبدو لي أن الناس يفعلون ذلك من أجل التمتع بما أسماه الشاعر والاس ستيفنز ملذات "التنقل فقط". وربما لأن الثبات يذكرنا بتلك الحقيقة النهائية للحياة ـ أي الموت ـ فإننا نظل حريصين على إثبات أننا ما زلنا على قيد الحياة من خلال التحرك والاحتكاك بزملائنا المسافرين. إذا نظرنا إلى الأمر بموضوعية، يبدو أن العديد منا قد تم تصميمه بشكل طبيعي لاتباع أنماط الهجرة التي تؤدي ليس فقط إلى وجهة معينة، ولكن إلى حالة حيث يظل "الاكتشاف" حقيقة محتملة حتى في الأماكن التي سبقتنا فيها أعداد كبيرة من البشر.

لقد تكهن الدكتور فرويد بأن "جزءاً كبيراً من متعة السفر يكمن في تحقيق هذه الرغبات المبكرة في الهروب من الأسرة وخاصة الأب". وبهذا المعنى، قد ننظر إلى السفر باعتباره عملاً تمردياً، بل وحتى تخريبياً، وجزءاً من عملية تحقيق الذات. فأنا أسافر لتحديد هويتي الوجودية وتأكيدها. أنا أسافر. إذن أنا موجود.

في كتابه الممتع والعميق "الخارج" ، يناقش بول فوسيل السفر وأدب الرحلة بين الحربين العالمية الأولى والثانية. ويركز بشكل أساسي على التجربة البريطانية، ويلاحظ أن الحرب الشاملة أجبرت معظم الناس على البقاء في ديارهم، أو البقاء في المكان الذي أرسلهم إليه الجيش، وتسبب ذلك في عواقب وخيمة على الفنون والآداب الإنكليزية، ناهيك عن المواطنين بشكل عام. ويزعم فوسيل أنه بدون السفر، سنعاني حتمًا من "فقدان السعة، وتدهور الخيال والإمكانات الفكرية وهو يوازي خسارة حرية الجسد". ويبدو أن الكتاب يحتاجون إلى السفر، وحريته، وتحفيزه ليتصلوا بوجهات نظر جديدة ومبتكرة بنفس الطريقة التي يحتاجون بها إلى الهواء، وللمحررين، ولجمهور القراءة.

إن بقية الناس، سواء أدركنا ذلك بوعي أو بدون وعي، يتوقون أيضاً إلى السفر وما يمثله. ومن يشكك يذكرنا بعدد الأنظمة الشمولية التي تحظر السفر أو تقصره على النخبة المتميزة ــ كل ذلك في محاولة للسيطرة على المواطنين، ولتعميم الجهل والتستر على ما يجري في العالم. تاريخياً، من خلال تقييد حرية الحركة، سعى الطغاة إلى تعزيز الاعتقاد بأن الوطن أرض مقدسة، وأن الأراضي والشعوب الأجنبية محرمة، إن لم تكن شيطانية تماماً.

قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً، افترض روبرت بايرون، مؤلف كتاب "الطريق إلى أوكسيانا"، والذي يعتبره أغلب النقاد أعظم كتاب سفر باللغة الإنجليزية، أن تجاوزات الاستعمار البريطاني وإخفاقاته ترجع إلى "الحد من السفر أو السفر الذي لا يبدع". وعلى الهامش، ومع بعض التردد في الابتعاد عن الأدب إلى السياسة، أتساءل عما إذا كان من الممكن قول الشيء نفسه عن مشاكل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. هل يمكن أن تكون هذه المشاكل راجعة، جزئياً على الأقل، إلى الجهل العام بتلك الأماكن والشعوب، وعاداتهم وثقافتهم ودينهم؟ أرجوكم لا تعتبروا هذا تصريحاً حزبياً. فاللوم يقع على الجميع. إن سماع رئيسنا يشير إلى مساحات كبيرة من العالم باعتبارها محوراً للشر قد يجعل بعضنا يحتج. ولكن على الطرف الآخر من الطيف السياسي، هناك رجال ينبغي لأحكامهم أن تجعلنا أيضاً نرتجف. إنني أتذكر دان راذير وهو يشير في بداية الحرب في أفغانستان إلى تحالف الشمال باعتبار "أنه شعب مستقل محبا للحرية". ولكن بعد أن سافرت بنفسي إلى ذلك الجزء من العالم، فإنني هنا لأخبركم أن حلفاءنا في الشمال، مثلهم في ذلك كمثل العديد من حلفائنا الآخرين في أفغانستان، هم في الأساس أمراء حرب وتجار مخدرات وبلطجية. وقبل سنوات من تحول انتباهنا إلى أفغانستان، استولى التحالف الشمالي على السلطة في كابول، الأمر الذي كان له عواقب كارثية على سكانها. وعلى النقيض من ذلك، كان ينظر إلى طالبان في البداية باعتبارهم إصلاحيين حقيقيين، بل وحتى منقذين، ولذلك قادوا التحالف الشمالي إلى وادٍ بعيد في أقصى شمال شرق البلاد. وفي ظل التشبث بالوهم القائل بأن عدو عدوي هو صديقي بالضرورة، أعادت الولايات المتحدة الحياة إلى التحالف الشمالي، إلى جانب العديد من أمراء الحرب الآخرين، ورحبت بهم في حملتها ضد طالبان والقاعدة. والآن لم يعد لدينا أي وسيلة لكبح جماح تجاوزات إخواننا في السلاح والذين نشك فيهم.

يكفينا ما سلف من حديث عن الجغرافيا السياسية، وآرائي حولها، وعن تجاربي في آسيا الوسطى. وسأعود إلى موضوعنا. أولاً أود أن أنوه ببول فوسيل الذي كتب في كتابه " السفر في الخارج" يقول: "الرحلة هو عمل. ومن الناحية اللغوية، فإن المرتحل هو من يعاني من المشقة، وهي كلمة مشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية "تريباليوم"، وهي أداة تعذيب تتألف من ثلاثة أوتاد مصنوعة لضرب الجسم. وقبل ظهور السياحة، كان السفر يُنظَر إليه باعتباره أشبه بالدراسة، وكان يُنظَر إلى ثماره على أنها زينة للعقل واستنباط الأحكام". ومن المؤكد أن شيئاً من هذا لا يزال ينطبق على هذا الموضوع. فكر في كل هؤلاء الطلاب الجامعيين الذين يقضون سنواتهم الجامعية في الخارج. فكر في الرحالة الذين يأخذون سنة للتجول في جنوب شرق آسيا. فكر في السيدات والسادة الشجعان الذين ينضمون إلى رحلات ليندبلاد في القارة القطبية الجنوبية أو جزر غالاباغوس. إنهم يسافرون إلى حد كبير من أجل التعلم والتطور واكتساب المعرفة الحديثة. وينطبق نفس الشيء على كتاب القصص الخيالية والقصص غير الخيالية. فبالنسبة لهم، يمثل الطريق المفتوح فصلاً دراسياً ومهرباً في الوقت نفسه، ومحاولة للالتفاف حول الصفحة الفارغة ومحاولة لاستكشاف ما لا يمكن فهمه.

صحيح أن هناك أمثلة أقل إيجابية عن السفر. فقد كان هناك دوماً نوع من أنواع معاداة السفر. وفيها لا يذهب الناس إلى أي مكان ويكتفون بأخذ معتقداتهم وافتراضاتهم بعد جولة بالسيارة. وهناك نوع من الكتابة عن السفر يشبه في الحقيقة الكتابة الإرشادية التي تركز على ما يطلق عليه أهل المهنة "الخدمة" والتي تتألف في الغالب من تسجيل ما إذا كانت الملاءات في الفندق رقيقة أو ما إذا كان الخس في المطعم طازجا. ولكن هذا ليس نوع السفر أو الكتابة عن السفر الذي أتحدث عنه اليوم. لا، أنا أحاول إثبات أن السفر الكلاسيكي لا يزال موجوداً وأن أفضل أشكال الكتابة عنه يندرج تحت شكل مهم من أشكال الأدب. وعلاوة على ذلك، أود أن أعتقد أن السفر هو الأساس أو الميتا نص في العديد من النصوص التي لا نربطها عادة بالسفر.

في الشهر الماضي، أثناء قيادتي السيارة من باريس إلى البندقية، صادفت العدد الصادر في أيلول من مجلة هاربر والذي يتناول هذه القضية بشكل مباشر. كان عنوان المقال الذي كتبه نيكولاس ديلبانكو هو "في أي مكان خارج هذا العالم: لماذا كل الكتابة هي كتابة عن السفر". يقدم ديلبانكو حجة مقنعة، أو على الأقل استفزازية، عندما يزعم أن "القاسم المشترك بين الأوديسة ورحلة الحاج ، وحكايات كانتربري والكوميديا الإلهية ـ ناهيك عن دون كيخوتة وموبي ديك أو فاوست ـ في التقاليد الأدبية الغربية هو الحركة شبه الدائمة". ويزعم أن الكتب الأكثر رسوخاً هي الكتب الاستكشافية. إنها رحلات استكشافية تقدم للقراء أحداثاً ورؤى غير مسبوقة، وعالماً من العجائب، وما أسماه عزرا باوند "الأخبار التي تبقى أخباراً". إن أعظم المؤلفين هم في واقع الأمر كتاب رحلات؛ فهم يؤكدون أنني كنت هناك، وشهدت ذلك، ثم عدت لأروي القصة، وأنني لم أقرأ أي شيء من هذا العالم.

قبل سنوات، وكما لو كان يتوقع ديلبانكو، أشار بول فوسيل إلى أن الأدب والسفر كانا متداخلين على الدوام. ولاحظ أن لغة السفر ولغة النقد الأدبي تتقاطعان. ففي كلتا الحالتين نتحدث عن الانطلاق، والبدء، والانتقال، والالتفاف أو الانحراف، والعودة إلى الوراء والتعامل مع الأحداث أو مسار وجهات النظر المختلفة. ثم نقيس المسافات بالكيلومترات، تماماً كما نتحدث عن الشعر، وكثيراً ما نسمع العلماء يناقشون النصوص بمصطلحات تذكرنا بوصف المناظر الطبيعية. إنهم يتحدثون عن الأحداث الصاعدة، والجسور السردية، والأقواس الدرامية، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك.

وأخيرًا، حيث يلاحظ ديلبانكو أن كل الكتابة هي كتابة سفر، يبذل فوسيل قصارى جهده لإثبات كيف أن فقرات معينة من  كتابات السفر المفضلة تحمل السمات المميزة لأنواع أدبية معينة. على سبيل المثال، تشترك هذه الفقرات بكثير من الأمور مع الحكايات الطائشة والمذكرات الشخصية. وفي تفسير رائع بشكل خاص لكتاب بايرون " الطريق إلى أوكسيانا "، يصف الكتاب بأنه "الأرض القاحلة" لكتابة الرحلات، فهو مثل إليوت، بنى كتابه على شذرات من المحادثات والإشارات الأدبية والاقتباسات ولغة هوميروس، وما إلى ذلك.

والآن أتمنى ألا أبدو جاحداً، بعد أن استعنت بفوسيل وديلبانكو لتأكيد كلامي حين يتطلب ذلك، إذا عارضتهما. فالرجلان يقفان إلى جانب الهراطقة الذين يزعمون أن السفر الحقيقي لم يعد موجوداً. ويقول ديلبانكو إن وفاة ويلفريد ثيسيغر كانت بمثابة "ناقوس الخطر بالنسبة للمتجولين على انفراد" ـ بالنسبة للسفر باعتباره مشقة واستكشافاً. ولكن قبل خمسة عشر عاماً أزعجت ثيسيغر وكثيرين من معجبيه عندما انتقدت سيرته الذاتية "حياة اخترتها" في صحيفة نيويورك تايمز لأنها شوهت تجاربه وبالغت في المبالغة في دراماتيكيتها. ومثله كمثل العديد من أشهر الرحالة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان ثيسيغر نادراً ما يسافر بمفرده. ويكتب بأسلوب أناني، وهو ما أدى إلى ترويج الانطباع الخاطئ بأنه كان فرداً معزولا يتجول في البرية القاحلة، ويكافح بموارد محدودة، ولا يستمد قوته إلا من شجاعته الشخصية وعزيمته القوية. ولكن في واقع الأمر، كان ثيسيغر يحظى بدعم مالي من حشد من الموالين الأثرياء ومن الجمعية الجغرافية الملكية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه كان يرافقه ويحميه في كثير من الأحيان مئات الجنود من الجيش البريطاني. ولم تأخذه أي من رحلاته الاستكشافية إلى أراضٍ مجهولة أو غير مأهولة. ولم يكتشف مكاناً قط. بل كان يزور فقط الناس الذين عاشوا طويلاً في المكان الذي اختار السفر إليه، وما كانت بعض أشهر رحلاته في الصومال والحبشة لتنجح أبداً لو لم يصادر الإمدادات من القرى المحلية ـ أو يسرقها ـ ويطالب بتوفير المأوى تحت تهديد السلاح، ويرغم المئات من السكان المحليين على العمل بصفة حمالين وكشافة  وحرس شخصي. إن حقيقة أن هذا النوع من السفر لم يعد ممكناً، في رأيي، ليس أمراً مؤسفاً، بل ينبغي الاحتفال به إلى جانب نهاية كل أشكال العنصرية والاستعمار الفاضح.

وبينما يندب فوسيل رحيل المستكشفين الأبطال، فإنه يندد أيضاً بما يتصوره من تجانس في العالم، والطريقة التي أصبحت بها مدن بأكملها ومناطق نائية سابقا قابلة للتبادل وآمنة للأم والأب والصديق والأخت. ويزعم أن تصميم المطارات أصبح "لغة دولية منتشرة في كل مكان". ويسخر قائلاً: "أقرب ما يمكن للمرء أن يستعيد به تجربة السفر اليوم بالمعنى القديم هو قيادة سيارة قديمة بإطارات مهترئة فيها عبر رومانيا أو أفغانستان دون حجز فندقي والاكتفاء باللهجة الفرنسية المخزية".

لا يسعني للرد على هذا إلا أن أقول السيد فوسيل إنه عليه أن يقوم بالمزيد من الجولات. فكما علمت أنه في الشتاء الماضي كانت بانكوك مزدحمة وملوثة وغير جذابة مثل مدينة ليفريك، ولكن هناك مناطق من تايلاند لا تقل عن الربع الخالي بالفراغ والفوضى. وفي كمبوديا شعرت بالحزن الشديد حين رأيت أن سيام ريب، المدينة التابعة لأنجكور وات، تفتخر الآن بفنادق تبدو أنعا نسخة مصغرة من لاس فيجاس، ولكن المشي لمسافة قصيرة في أي اتجاه يجعل المرء متصلا بحياة لم تتغير كثيراً منذ قرون. أو أن المشي لمسافة قصيرة على الطريق الخطأ في أنجكور وات يؤدي إلى الموت ـ حيث لا تزال العديد من المناطق مزروعة بالألغام التي خلفها الخمير الحمر. عندما كنت في لاوس، في العاصمة السابقة لوانج برابانج، كنت أستمتع بإقامة في فندق خمس نجوم، وكنت أستمتع بالمفارقات الجميلة من حولي ـ الرهبان ذوي الثياب الزعفرانية في مقاهي الإنترنت، والسائحين الأستراليين الذين يُعرفون محلياً باسم "مينكي تو"، أو براز السلاحف، بسبب عاداتهم غير الصحية. وهناك مرآب في القصر الملكي السابق يعرض بفخر سيارتين من طراز فورد إدسل وزورق سريع بطول خمسة عشر قدماً له محرك خارجي من طراز إيفينرود، وكلها هدايا من الولايات المتحدة. ولكن عندما حاولت اللحاق بالحافلة إلى العاصمة الجديدة فيينتيان، اكتشفت أن الخدمة قد توقفت لأن قطاع الطرق أغلقوا الطريق. وقبل أسابيع قليلة قاموا بسرقة وقتل حافلة محملة بالمسافرين. وفجأة أدركت أن ميستاه كورتز ربما لم يمت بعد، وأن هناك على بعد أميال قليلة من أفخم الفنادق ما يكفي من الرعب ليفكر به أي كاتب ويقلق أي قارئ ويتحداه.

هناك مناطق محظورة ومناطق غير مستكشفة حتى في المدن الأوروبية التي تم رسم خرائطها بشكل جيد. في فالنسيا بإسبانيا، علمت مؤخرًا أن هناك حيًا يسكنه بالكامل تقريبًا مهاجرون أفارقة تم منع الشرطة ومكاتب البريد وغيرها من الخدمات البلدية من دخوله. أعلنت الحكومة الإسبانية ببساطة أن هذا الحي شديد الخطورة. باختصار، إنه مكان يحتاج إلى بيرتون وسبيك لاستكشافه وتحليله.

ودول بأكملها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والجنوبية تندرج ضمن الفئة نفسها. فهي غير معروفة إلى حد كبير، ونادراً ما يزورها أحد، وغير مريحة إلى درجة غير عادية، ومهددة تماماً كما كانت صحراء دانييل عندما عبرها ويلفريد ثيسيغر في ثلاثينات القرن العشرين. وربما تعطينا الطائرات وشبكة سي إن إن والإنترنت الوهم بأن أي مكان في العالم لا يمكن الوصول إليه أو استكشافه أو فحصه. ولكن الجزائر ربما كانت على مدى عشر سنوات بمثابة الجانب المظلم من القمر، ولقد حولت قسوة الحكومة غير المنتخبة والإرهابيين الإسلاميين ذلك البلد إلى قلب الظلام حيث قُتِل عشرات الآلاف من الناس مع أنهم على بعد ساعة طيران فقط من روما أو نيس.

لو كان غراهام غرين لا يزال على قيد الحياة، لكان قد وجد ليبيريا غريبة وغير معروفة على الخريطة ـ وأكثر عدائية مما كانت عليه عندما ذهب إلى هناك وكتب "رحلة بلا خرائط". وإذا عاد إلى مقاطعة تشياباس في المكسيك، قد لا يخطئ الناس في افتراض أن القليل قد تغير منذ كتب "الطرق الخارجة على القانون" . أطفال عراة ببطون منتفخة، وبالغون يعانون من سوء التغذية والملاريا، ومواجهة عنيفة وتوتر بين الهنود والجيش، والغموض الأخلاقي الذي أصبح السمة المميزة لجرينلاند. ورغم أسباب مختلفة، ورغم التكنولوجيا الجديدة ـ أو ربما بسببها ـ فإن هذه الأماكن أصبحت أكثر اضطراباً من أي وقت مضى. ولابد أن أؤكد أكثر من أي وقت مضى على أنني أطالب بزيارة وكتابة روايات عن شجاعة غرين وقدرته على الغضب وصدقه الجريء.

وأما فيما يتعلق بكون المطارات كلها متشابهة، فإنني أتساءل عما إذا كان فوسيل قد سافر على متن طائرة، كما فعلت في السنوات الأخيرة، إلى دار السلام أو زنجبار أو طشقند.

إنني أشعر، وربما تشعر أنت أيضاً، بنبرة من التوسل الخاص والمصلحة الشخصية التي تسيطر على هذا الخطاب الأكاديمي الذي يتسم بالموضوعية المطلقة. وكان ينبغي لي أن أعترف في وقت مبكر بأن من الصعب عليّ أن أتبنى موقفاً خاصا بشأن السفر وكتابة الرحلات وعلاقتها بالأدب. ففي نهاية المطاف، بدأت مسيرتي المهنية برواية بعنوان " رجل يتحرك "، والتي استوحيت فيها سطوراً من قصيدة "  غيدنغ الصغير" للشاعر تي إس إليوت.

"لن نتوقف عن الاستكشاف،

 ونهاية كل استكشافاتنا

ستكون الوصول إلى نقطة البداية،

والتعرف على المكان لأول مرة."

كانت رواية "الرجل المتحرك" حكاية طريفة عن رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة إلى أدغال المكسيك. وفي عصر رواية " الراكب السهل"، أعتقد أنه كان من الممكن أن نقول إنها رواية معادية للطريق. ولكنها بالتأكيد لم تقنعني بالبقاء في المنزل. وبدلاً من ذلك، سافرت بنفسي على الطريق، وعلى مدى السنوات الأربع والثلاثين الماضية عشت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والمغرب وإنكلترا، وسافرت من طرف إفريقيا إلى الطرف الآخر، وقضيت بعض الوقت في عشرات الدول الإسلامية، وتجولت في الكتلة السوفييتية السابقة وآسيا الوسطى، بل وأمضيت بضع سنوات في تكساس، أحد أكثر الأماكن نأيا وغرابة وإثارة للاهتمام ثقافيًا وإرباكًا من كل البلدان التي زرتها. كما أعتبر أن أعظم شرف لي أن أصبح عضوًا في تلك المنظمة الأدبية المتناقضة - معهد تكساس للآداب.

إلى جانب الصور الفوتوغرافية، وأميال الطيران المتكررة، والأمراض المختلفة، وتجارب المستشفى غير السارة، واللقاءات التي لا تنسى مع مسؤولي إنفاذ القانون المحليين، كانت إحدى النتائج الهامة لكل هذه الرحلات هي 16 كتابًا، يرتبط العديد منها بشكل مباشر بمسار رحلتي.

والآن، في سن الحادية والستين، ما زلت أتنقل من مكان إلى آخر، وما زلت لا أمتلك منزلاً أو أثاثاً، ولا أقضي أكثر من بضعة أشهر في مكان واحد. وتظل الحركة والسفر والأماكن البعيدة والاقتلاع من الجذور والاغتراب، من الموضوعات الرئيسية في أعمالي الروائية. وفي السنوات العشرين الماضية أيضاً كتبت بضع مئات من المقالات التي تتناول أماكن أجنبية. ولا أستطيع أن أسمي هذه المقالات أعمالاً روائية بالمعنى التقليدي. فهي بالتأكيد لا تقدم الكثير من الخدمات. بل إنها تحاول استحضار مكان ما وإظهار الراوي ـ أي أنا ـ وهو يمر عبر أماكن وتجارب جديدة. وهي تُروى دائماً تقريباً بضمير المتكلم، وتستخدم مجموعة من الأدوات الروائية ـ الحوار والمشاهد الدرامية والحوادث الكوميدية والمفارقة. وهو أمر منطقي لأنني اعتبرتها بدائل للقصة القصيرة. وعندما تقلص سوق القصص القصيرة إلى حد فقدان الأهمية، قررت التوقف عن كتابة القصص للمجلات الأدبية التي تدفع القليل أو لا تدفع شيئاً، ويقرأها قِلة من الناس أو لا يقرأها أحد. بدلاً من ذلك، كتبت للمجلات والصحف التي أرسلتني إلى أماكن مثيرة للاهتمام، ودفعت الفواتير، وتركتني حرا لإعادة تدوير التجارب في خيالي.

لذا، نعم، هذا الموضوع قريب وعزيز عليّ ويشكل جزءًا لا يتجزأ من عملي. وعلى الرغم من تحذيراتي البسيطة بشأن ديلبانكو وفوسيل، فإنني أتفق معهما جدا. فكل كتابة هي كتابة سفر ــ حتى لو كانت الرحلة بالكامل إلى داخل تلافيف ومتاهات العقل الغامضة، أو حتى لو كانت استكشافًا حميما للجسد. وكما قال دي إتش لورانس ذات يوم لبرتراند راسل: "إن أعظم تجربة في حياة كل رجل هي مغامرته مع المرأة".

إنني أتفق أيضاً مع مارك شورر الذي قال عن دي إتش لورانس إن شخصياته "تكتشف هويتها من خلال استجابتها للمكان". أو بكلمات لورانس آخر ـ لورانس داريل ـ أعتقد أننا "جميعاً أبناء مناظرنا الطبيعية". لقد حاولت في كتاباتي أن أظهر ليس فقط من نحن وماذا نحن. فنحن نتشكل من خلال المكان الذي نتواجد فيه. والمكان يؤثر علينا تماماً كما تفعل الأحداث والأشخاص، فنصبح ـ أو نمتلك القدرة على أن نصبح ـ شخصاً مختلفاً في بيئة مختلفة.

إنني أزعم أن السفر بالنسبة لي هو نوع من الكتابة، أو نص بديل، أو مسودة أولية. وهو ليس مجرد وسيلة للهروب، كما قال غراهام غرين، أو وسيلة لجمع المواد أو محاربة الملل. بل إنه فعل إبداعي حيث يصبح العالم صفحة فارغة وأنا القلم الذي يخط خطوطاً متكررة عبر المناظر الطبيعية. والهدف في كل حالة هو نفسه ـ البصيرة، والفرح، والبهجة، والخبرة الحية، والإثارة البصرية، والمتعة الحسية والاكتشاف. إنه أكثر أماناً من الكحول، وأرخص من الهيروين، إنه طريقتي، بأسلوب آرثر رامبو، لتشويش حواسي بشكل منهجي، وفتح نفسي أمام الجديد وغير المتوقع.

ولكنني لا أريد أن أترك انطباعاً بأنني مجرد متعلم شغوف، أو شخص يتعلم بنفسه في طائرة أو سيارة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن السفر من أجل التعليم له تقليد طويل ومحمود. ولكن بصراحة، على الأقل في البداية، فإن الجهل له مزايا بالنسبة للروائي. فأنا شخصياً أحب الذهاب إلى أماكن لا أتحدث لغتها، ولا أعرف فيها أحداً، ولا أعرف طريقي، ولا أعاني من أوهام بأنني أتحكم في كل شيء. وفي حالة من الارتباك، وحتى الخوف، أشعر بالحيوية واليقظة على نحو لم أشعر به قط في بيتي. وفجأة تعود كل حواسي إلى الوعي، وأستطيع أن أرى وأسمع وأشم ـ وبعد ذلك إذا حالفني الحظ، أستطيع أن أكتب.

إن الصفحات السوداء والمساحات الفارغة على الخريطة، بالنسبة لي، هي نفس الشيء إلى حد كبير. فأنا أتوق دوماً إلى الوصول إلى حقيقة اللغز الذي أعمل باستمرار على صياغته. ورغم أن أياً من الرغبتين لا يمكن تفسيره بالكامل، فإنني أعلم أن السبب الذي يدفعني إلى الكتابة يشترك إلى حد كبير في أسباب سفري، تماماً كما أن الطريقة التي أتبعها في القيام بكلا الأمرين يمكن التعبير عنها بشكل أفضل في سطر كتبه ثيودور روثكي ويقول فيه: "أتعلم بالذهاب إلى مكان يتعين علي الذهاب إليه".

***

ترجمة صالح الرزوق / مع الاستعانة ببرامج الذكاء الصناعي.

.......................

*كلمة ألقيت في مؤتمر الجمعية التشريعية لمنطقة جنوب وسط نيو أورليانز عام 2004.

* مايكل ميوشو Michael Mewshaw روائي أمريكي وكاتب أدب رحلات.

دراسة نقدية في تكوين الحب وأبعاد الحنين

شهدت الكتابة الأدبية النسائية عبر العصور تحولًا بارزًا، حيث تجاوزت مرحلة الإقصاء والصمت لتصبح أداة فعّالة تعبّر من خلالها النساء عن رؤاهن وتجاربهن المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك لا تزال العديد من الكاتبات، وخاصة في الدول النامية، يواجهن تحديات تعوق مساعيهن لتحقيق التغيير الذي ينشدنه.

تعد الشاعرة التونسية كريمة الحسيني واحدة من أبرز الأمثلة على الكاتبات اللواتي نجحن في إثبات وجودهن ضمن الساحة الإبداعية العربية المعاصرة. إذ تميّزت بحس فني مرهف يجمع بين العاطفة العميقة والوعي الجمالي الراقي، إلى جانب رسالتها الإنسانية الواضحة. ولقبت بـ"شاعرة السلام"، حيث نسجت في كتاباتها عالمًا زاخرًا بحب الوطن، وجمال الطبيعة، ورومانسية الوجود، فكانت رسائلها الأدبية انعكاسًا لقيم إنسانية سامية مستوحاة من جذور أصيلة تعبّر عن روح الإيثار والتفاني.

في ظل واقع معقد مليء بالتحديات والتحولات، اعتمدت الحسيني تنوعًا فنيًا في أسلوبها الشعري، مما أكسب إبداعاتها عمقًا وشمولية تتماشى مع تطلعات العصر. تميّزت أعمالها بالتكثيف الجمالي الذي يجمع بين الحلم والتأمل، متنقلة بسلاسة بين الغزل الرقيق والمعالجة العميقة للهموم الوطنية. كتاباتها تنبض بمشاعر صادقة تجاه وطن يعاني من أزمات متشابكة، لكنها تجد في الحب طاقة دافعة توجّه حروفها نحو التجدد والانفتاح. كل هذا يعتمد على أسلوب لغوي رقيق وإيقاعات متناغمة، تحمل في طياتها عفوية وصدقًا يصلان مباشرة إلى وجدان القارئ. وإيقاعات متناغمة، تحمل في طياتها عفوية وصدقًا يصلان مباشرة إلى وجدان القارئ..

تُعدّ قصيدتها "مواويل عشق" تجسيدًا فنيًا نموذجيًا لهذا المزج بين الذات والكون، وبين العاطفة والفكرة، حيث تقف أمام نصّ شعري يفيض برهافة شعورية تنصهر فيها الحواس مع الذاكرة، ويتحوّل فيه الحب من مجرد تجربة فردية إلى حالة تأملية شمولية. تميز هذا النص بعمق روحي ورمزي يشعر القارئ بتجربة حب فريدة، يتمازج فيها الحنين بالتفاؤل، ويحمل بعدًا صوفيًا يعكس صورة عشق مليئة بالحياة والدفء على الرغم من متانة الزمن وسيطرة الظروف. الحب هنا عفوي وغير مصطنع، لا يمكن تجاهله أو إيقافه حتى في ظل صعوبة الحياة، ولا يحده الزمن.

ينطلق النص من عنوان يوحي بجماليات الغناء الشعبي وخصوصيته الثقافية – "مواويل" – التي تتميز بإيقاعاتها الداخلية المفعمة بالشجن العاطفي العميق. يشكل هذا العنوان العتبة النصية الأولى التي تفتح أفقًا واسعًا لتفسيرات متنوعة. فالمواويل ليست مجرد ألوان غنائية عاطفية، بل فضاء للتعبير عن الحنين والألم بصيغة تلقائية تخاطب الوجدان الجماعي وتعكس التراث الشفهي الحي. أما كلمة "عشق"، فهي مفردة تتجاوز مفهوم الحب السطحي لتلامس مناطق أعمق من الانغماس الكلي والارتباط الروحي، وبذلك فإن اقتران الكلمتين في العنوان يمنح النص بعدًا وجدانيًا وإنسانيًا شاملًا، ينسجم مع الجو العام للقصيدة ويهيّئ القارئ لرحلة في عمق الذات المحبة والطبيعة الملهمة.

***

سهيل الزهاوي

.........................

مواويل عشق للشاعرة: كريمة الحسيني - تونس

أنا لا أرتب الشوق

تقودني مشاعري إليك

كلما اشتد البرد

تأخذني الذكرى

لأنمو بين أناملك

أزهارا برية

ومواويل عشق

وعناقيد عنب لم يدركها الخريف

لنذوب سويا

حبة حبة

قطرة قطرة

دون أن نعير اهتماما للزمن

إن كان سيمنحنا بعض الوقت

لنرسم للحب خاتمة جديدة

وفصولا سعيدة

بلا برد ولا حرب

ولا أعاصير.  

*** 

..............................

ترجمة القصيدة الى النرويجية سهيل الزهاوي

Oversatt av Suhail Al-Zahawi

Kjærlighetsviser

av Khairema Al-Husseini – Tunisia                                                                 

Jeg styrer ikke lengselen

Følelsene mine fører meg til deg

Når kulden tar til

bærer minnene meg

og jeg spirer mellom fingrene dine

som ville blomster

og kjærlighetsviser

og drueklaser urørt av høsten

La oss smelte sammen

korn for korn

dråpe for dråpe

uten å bry oss om tiden

om den bare gir oss et øyeblikk

til å skrive en ny slutt for kjærligheten

og lykkelige årstider

uten kulde

uten krig

uten stormer

(الأسيرة المحررة)

"احترقت لتضيء" عنوان الرسالة التي كتبها فايز أحمد الخياط وهو في بيروت، ارسلها لأخته ناديا في رام الله؛ وشاء القدر أن يستشهد فايز في قلعة الشقيف بلبنان عام1980 ولا تستلم أخته الرسالة لكونها كانت معتقلة بسبب نشاطها النضالي ومحكومة بمؤبد مع عشرين عاما. ولم تطلع على الرسالة إلا بعد الإفراج عنها بموجب صفقة تبادل العام 1983 وعودتها من البلد التي أبعدت إليه لمدة 12 سنة. لذا وإحياء لذكرى أخيها الشهيد استأذنته لإستعارة عنوان رسالته ليكون عنوانا لما ستبوح به من ذكريات حول تجربتها النضالية والإعتقالية. فكان كتابها إحترقت لتضيء الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية العام2021.

بلغة سردية شائقة تأخذنا ناديا الخياط بما يشبه السيرة الذاتية لتوثق لنا مراحل من تجربتها النضالية عموما والإعتقالية بشكل خاص، ولا يفوتها ان تعود بنا إلى أولى مراحل تفتح وعيها النضالي عندما إلتحقت بحركة فتح وكان ذاك الإلتحاق بمحض الصدفة عندما رافقت صديقتها للقاء مسؤول التنظيم بغية اعتذارها عن عدم مواصلة عملها التنظيمي بسبب اقتراب موعد خطبتها فما كان من ناديا إلا ان قالت له أنا بدلاً منها ليبدأ مشوارها النضالي إلى جانب رفيقها علاء وبقية الأخوات.

تطرقت الكاتبة للعديد من القضايا وهي توثق تجربتها النضالية وما تعرضت له من قهر وتعذيب في سجون الإحتلال. فتحدثت عن أساليب التعذيب المعتمدة من المحقق والسجان وتنوعها ما بين التعذيب النفسي والتعذيب الجسدي إلى جانب كمية من السباب والشتائم والكلمات البذيئة. فقد اشارت الكاتبة الى الحرب النفسية التي اعتمدها المحقق لكسر إرادتها عندما أوعز لإحدى السجينات اليهوديات ان تخبرها أن شقيقتها مهى هربت من البيت وأهلها يبحثون عنها لقتلها.(10). وفي موضع آخر تورد لنا كيف أن المحقق لجأ لممارسة الضغط عليها مهددا بحرمان أخويها من التقدم للإمتحانات المدرسية إذا لم تتعاون معه.(41). وتبرز كيف ان المحقق يحاول ابتزاز الأسيرة من خلال إثارته لمسألة الشرف والعرض التي تعتبر من المسائل الحرجة في مجتمعنا وخاصة بالنسبة للفتاة ففي مرحلة لاحقة هددها بالإغتصاب: "يلا هلأ بدك تشلحي، اخلعي ملابسك كلها، الآن سأذلك في شرفك وأغتصبك دون أن يهتز لي رمش."(43). لكن نادية لم تنهار بل اضطرته لمغادرة القاعة منهزما بعد ان وجهت له صفعة جوابية افقدته صوابه عندما قالت: "إن من قام باغتصاب الأرض لا يضيره اغتصاب العرض"(44).

ولم يكن التعذيب الجسدي بأقل وطأة على الأسيرة من التعذيب النفسي، وتفنن المحتل وسجانوه باعتماد اقذر الأساليب ومنها ما يعرف بالشبح تقول ناديا: "دخلنا الى ساحة غرف التحقيق، زجوا بي الى ركن بعيد، قيدوا يدي الى الخلف وربطوهما بماسورة تمتد على الحائط وربطوا إحدى قدمي في هذه الماسورة أيضا، أحضروا كيسا أسود له رائحة كريهة، ألبسوني إياه في رأسي عرفت أن هذا ما يسمى بالشبح"(39). كل هذا ولم يستطع المحقق كسر إرادة الأسيرة بل بقيت صامدة تواجه كل محاولاته، فعندما قدم لها الشرطي صحن طعام طالبا منها ان تقرب فمها وتلعق كالكلاب اجابته: "خسئت وخسىء كل من أراد إذلالي وإهانتي، أعد هذا الطعام كي يلعقه أسيادك"(39). وللدلالة على سوء المعاملة التي تتلقاها الأسيرات وعدم اكتراث السجان لأبسط حقوقهن، تشير الكاتبة إلى انها إضطرت لتقطيع مرتبة الإسفنج واستعمالها كبديل عن الفوط الصحية النسائية.

وتسهب الكاتبة في وصف آلية التحقيقات التي ينتهجها المحتل وتنوع الطرق التي يعتمدها أثناء التحقيق، مرة يقوم بإسماع الاسيرة اعتراف إحداهن عليها ويعتبر ذلك ادانة محققة بقوله: "أنا أعفيك من الإعتراف، فاعترافات الغير تخولني بتثبيت التهمة عليك حسب القانون" وتوضح الكاتبة ان القانون الذي يشير إليه المحقق هو ما يعرف ب قانون تامير الذي يدين الاسير بوجود شاهد واحد وهذا كاف للحكم عليه بمؤبدات. وفي موضع آخر تورد الكاتبة كيف ان المحقق لجأ إلى مساومتها على حريتها قائلا لها: "تتعاونين معنا وتصبحين شريكا مهماً لنا مقابل الإفراج عنك، وسنوفر لك كافة مستلزمات العيش الرغيد من تعليم وسكن."(57). ويكون رد الأسيرة ناديا مدويا عندما رفضت هذا العرض بالقول: "إن وافقت على طلبك العجيب هذا سأكون قد خسرت كرامتي ووطني وشعبي ولا يمكنني التفريط بهم لقاء هذا العرض التافه الوضيع". كما تحدثت عن التضييق الذي مارسه المحتل على الأسيرات ومنعه إياهن من الإلتحاق بالجامعة لمتابعة الدراسة.

بإشارة صغيرة تشير ناديا إلى روح التعاضد والإلفة بين الشعب الفلسطيني وكيف ان الأهل والجيران هبوا لمساعدة اهلها في نقل الأثاث بعد تشميع بيتهم بالشمع الأحمر من قبل الإحتلال. وفي موضع آخر نجد والد ناديا يحثها على الصمود والتنبه من أن تنطلي عليها لعبة المخابرات القذرة الهادفة لكسر شوكة الأسيرة ومحاولة تدميرها. وعن صلابة المرأة الفلسطينية تصف ناديا والدتها أم الشهيد فتقول: "أمي لا تلبس السواد على أخي الشهيد، ترتدي الثوب الأنيق، فاتح اللون ما بين البيج والأبيض، لأن هذا الثوب كما تقول والدتها هو آخر ثوب رآني فيه أخوك الشهيد.

وتبرز الكاتبة –الأسيرة- استخفاف الأسرى بما صدر عن المحكمة من أحكام بالمؤبدات وكيف ان الشرطي المكلف بإبلاغهم بما صدر بحقهم توقع أن يقوم باستدعاء سيارة الإسعاف عند إبلاغهم بالأحكام لكنه تفاجأ من ردة فعلهم وسألهم: "الم تفهموا جيدا ما قلته لكم؟ اجابوه "فهمنا فقد تم الحكم علينا بمؤبد وعشرين عاما المهم ان تفهموا أنتم".(68). كما اشارت إلى إلإرادة الصلبة للأسيرات ورفضهن العمل لحساب المحتل، فبعد إكتشافهن أن الملاءات التي يقمن بخياطتها تعود للمستشفيات الإسرائلية قمن بتخريب ما أنجز من أعمال خياطة. وعن تعاضد الأسرى وتضامنهم تذكر ناديا أنه عندما حدث الإضراب في سجن نفحة الصحراوي في شهر رمضان من العام 1980 نتيجة لإستشهاد أسيرين فيه هما علي الجعفري وراسم حلاوة قررت مع زميلاتها من الاسيرات "الإضراب عن الطعام لمدة أربعة ايام تضامنا مع باقي السجون وإحتجاجًا على الممارسات الهمجية بحق الأسرى البواسل"(91). وفي تصرف أخلاقي يدل على روح الأخوة بين الاسيرات ترفض ناديا تناول الحلوى من يد السجانة لأنها لا تستطيع أن تأكلها وأخواتها الأخريات لا يستطعن الحصول عليها أوتذوقها، وسيكون طعمها كالعلقم إذا لم يتذوقهن معا.(128). وأشارت إلى روح التعاون بين الأسيرات والإتفاق فيما بينهن على تشكيل لجنة تنظم الشراء من بقالة السجن "الكانتين" بحيث يتم تجميع المشتريات في غرفة واحدة وتقوم اللجنة بتوزيع الحصص على جميع الغرف بالتساوي، كما يتم إدخار بعض المواد الأساسية للأزمات خاصة استقبال أسيرات جدد.(76).

كما أوردت الكاتبة واقعة ولادة الطفلة ثائرة في السجن التي أغاظت تسميتها هذه السجّانات، وتشير إلى الأثر النفسي السيء الذي يلحق بالطفل المولود في السجن فعند خروج ثائرة بعد سنتين من ولادتها لم تستطع التأقلم مع الحياة الجديدة وكأنها ترفض كل فضاء الحرية وتريد العودة إلى العتمة التي اعتادتها.(113).

لقد حرصت الكاتبة وبكل موضوعية للإضاءة على بقعة ضوء وإن صغيرة بدأت تنمو مع نقاشاتها مع السجانات فتذكر كيف ان نقاشها مع إحداهن أدى الى تغيير الكثير من مفاهيمها وقناعاتها المهزوزة فقدمت إستقالتها من خدمة السجون كونها كما قالت لا تستطيع ان تمارس مهنة بلهاء صماء لا مكان للعقل والمنطق فيها.(129). وفي موضع آخر عندما ادعت السجانة زوبروفيسكي بأن ناديا هددتها بالقتل كيف أن بعض السجينات اليهوديات تحلقن حول الضابطة وسجاناتها وصرحنّ بأن كل ما قيل كذب وافتراء ولم تقم ناديا بأي تهديد.(75).

كما أشارت إلى عدد من النساء الأجنبيات اللواتي إنخرطن في النضال نصرة لفلسطين ومن هؤلاء النسوة الفتاة الألمانية "بريجيت" التي اعتقلت بتهمة اختطاف طائرة إلى عينتيبي عام 1976 والمعاملة الوحشية التي عوملت بها من قبل مخابرات الإحتلال حيث قاموا بإحضار آلة حلاقة يدوية وبدأوا بجز شعرها.

كانت فلسطين حاضرة دوما في وجدان الأسيرات فعند حضور جلسات المحاكمة يبدأن بالهتاف "عاشت فلسطين حرة عربية وهاذي المحكمة مش شرعية" وفي أحدى الجلسات إتفقن على إرتداء قبعات صوفية بألوان العلم الفلسطيني مع إستمرار حضورالكوفية الفلسطينية.(65).

في أكثر من موضع كانت الكاتبة تتوقف عن إكمال سردها لتستذكر بعض الأشخاص او الأماكن المجببة على قلبها، فتحدثنا عن أخيها الشهيد فايز وكيف انه:"شابا وسيما،فاره الطول، متناسق الجسم، شعره أسود وشواربه الكثيفة تزين وجهه البشوش، حبه للوطن والأهل"(12). أما الأمكنة فقد كانت حاضرة لديها عندما داعب هواء الوطن ذاكرتها المثقلة وأخذ يسحبها بهدوء إلى بيت الأهل لتسترسل في وصفه بكل تفاصيله فتقول:" ذلك البيت الجميل في الطابق الارضي، تستقبلك شجرة الياسمين برائحتها الفواحة، تصعد ثلاث درجات لتكون على يمينك حديقة صغيرة وعلى يسارك ثلاث شجرات ليمون شهرية دائمة الخضرة...،إلى آخر الوصف(18). ثم تنقلنا إلى مدينة القدس وحيويتها حيث الشوارع تمتلىء بطلاب المدارس وبالموظفين الذاهبين إلى دوائرهم الرسمية، العمال يهرولون إلى الحافلات، ربات البيوت يقفن أمام بسطات النساء اللواتي أحضرن الخضروات والفواكه وأيضا بائعو الكعك بالسمسم الذي تشتهر به مدينة القدس. ثم تنتقل لوصف هذه المدينة وسورها العريق، قبة الصخرة بكامل بهائها، المسجد الاقصى وكنيسة القيامة، وخارج الأسوار تظهر مآذن المساجد وكأنها تعانق أجراس الكنائس إلى جانب البيوت القديمة التي تدل على قدم تاريخ المدينة وعراقته(28).

ولم يفت الكاتبة من أن تصف لنا الغرفة التي اقتيدت إليها وهي غرفة كئيبة فيها ست أسرة حديدية بطابقين، جدرانها رمادية وسقفها منخفض، وبابها من الحديد المصبوب يعتليه طاقة لا تتعدى العشرين سنتيمتر، أما ممر السجن فينتهي ببوابة ضخمة من القضبان الحديدية.

تختم الكاتبة سردها هذا بالتطرق لعملية التبادل التي تم من خلالها الإفراج عنها ولكن بشرط إبعادها خارج الوطن فتقول ان التحرر من الاسر هو حلم كل أسير لكنهم سرقوا مني فرحة الحرية المنتظرة بقرارهم ابعادي اثنتا عشرة من السنوات لقد أصروا على تحويل لحظات السعادة الى ساعات من المرارة، وانا في الطائرة لمحت وجه أمي فرحا باكيا، حزينا ضاحكا. ختاما نقول ان كتاب "احترقت لتضيء" يوثق لمرحلة من النضال الذي كان للمرأة الدور الريادي والفاعل والذي لا يقل أهمية عن دور الرجل بل يتكامل معه في ذاك الزمن الذي سأسميه بالزمن الجميل للثورة إذا جاز التعبير. ونقول لناديا الخياط بنضالك هذا أبدا لم تحترقي بل أضأتِ أنت ورفيقاتك الدرب لمن حمل وسيحمل شعلة التحرير.

***

عفيف قاووق – لبنان

توفيق أحمد أديب وشاعر من سوريا – منطقة الغاب في حماة، من مواليد (1961)، يحمل إجازة في الحقوق، وقد عمل مسؤولاً للشؤون الثقافيّة في اتحاد الصحفيين، ومعاونا للمدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومديرا للتلفزيون العربي السوري ومديرا للإذاعات السوريّة. له تسعة دواوين منها (لو تعرفين) (وأكسر الوقت وأمشي) (نشيد لم يكتمل) (لاهدنة للماء) (جبال الريح). شارك في الكثير من المهرجانات في معظم الدول العربية لدورات متتالية عمل مؤخراً نائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا ورئيس تحرير جريدة الأسبوع الأدبي.

أحمد توفيق شاعر كبير متمرس في مهنته، لا مس شعر الحداثة في سياق شعر التفعيلة وشعر النثر، إلا أن دخوله في عالمهما لم يؤثر عليه كثيراً ويجعله يلقي عباءة الشعر التقليدي بعيداً، وبناءً على هذا الموقف الحداثي من الشعر، لم يعد الشعر عنده تعبيراً عن أشواق ورغبات وأحلام ذاتيّة تصب في خانة الأنا لتشبع غرورها أملاً في الشهرة أو الحضور في الساحة الأدبيّة، بل أصبح الشعر عنده إضافة لكونه تعبيراً عن الذات، فهو قضيّة تحمل هم الوطن والأمة والإنسانيّة. ويأتي الحب عنده في كل دلالاته موقفاً فكريّاً وفلسفيّا وصوفيّاً، رغم أنه لم يتخل نهائيّاً عن السباحة نحو جسد المرأة في شعره الذي غالباً ما يغلف رغباته هنا بأقنعة اللغة وبيانها فتمر على المتلقي عابرة (كمزنة) صيف.

في قصيدته "عيناك" يأتي بوح الشاعر "توفيق أحمد" ليعبر عن حالة من الوجد والتوحد الصوفي في عشقه وارتباطه بحبيبته حيث راح يتساءل مستغرباً هل تستطيع عينا حبيبته فعلاً أن ترفضا تحرره من النظر إليها، وهو الذي هام في عشقها لدرجة الوله قائلاً:

(كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق)

هذا العشق الذي زاد من توهجه وهيام روح الشاعر فيه زرقة عيني حبيبته التي تبدت أمامه كزرقة السماء في صفائها وهي تشعره بأن هناك نوراً يتدفق من عين حبيبته ليتخيل في طريقه إلى التيه أمام روحه وعقله عوالم أخرى مجهولة يتخيلها من خارج عالمه المحسوس حيث يقول:

(زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ)

في هذا العالم المجهول اللامتناهي في أعماقه الذي نقلته عينا حبيبته الزرقاوان الجميلتان، ضاعت ذاته المتعبة من الشوق واللهفة، متمنياً أن يحط رحال الحب في ميناء عينيها ويستريح استراحة محارب بعد عناء العشق ولهفة اقتراب يوم التلاقي الذي لا يعرف ماذا سيحدث مع الحبيبة، بل هو يعرف ماذا سيحدث عند اللقاء. يقول:

(فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي)

لقد طاب له اللقاء بحبيبته، حتى راح يشبه فرحه بهذا اللقاء بربيع الطبيعة طالباً منها أن تحدث الناس عن سعادته ولهيب اشتياقه لجسد حبيبته ... مشبهاً تضاريس جسدها بالكروم والدراق والطيور حيث يقول:

(أنا باقٍ ويا الربيعُ تحدَّثْ

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ)

نعم هو باقي في أحضان حبيبته غير مصدق ما سيناله من سعادة ونشوة وذهول وإشفاق وسكرة الوصل قائلاً:

(أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

أنا باقٍ أَخافُ يُسْكرني الوصلُ

وتَفنى في البالِ كأسُ الساقي)

ليعود أخيراً معبراً عن مدارات عشق صوفي لحبيبته قد وصل فيها إلى حالة الهيام والوجد ... إلى درجة الاحتراق في مجمر اللقاء التي لا يمكن إدراك جوهره إلا من سكر في عشق حبيبته قائلاً:

(المداراتُ تنتهي في هوانا

مَجْمَراً صار مُوحشَ الاحتراق

وحدَها الخمرُ أدركتْ ما نُعاني

وتعاني في الساحِ كلُّ العِتاقِ)

رغم أن للقاء الحبيب ذروته ونشوته وبراكينه التي تفجر الروح والجسد، إلا أن هذه البراكين ونيرانها تخمد عند نهاية اللقاء، بيد أنها عند الشاعر "أحمد توفيق" تظل جذوتها تسعر في داخل روحه كحلم يصوغه قلائد من الشعر تبقى ملتصقة كخمر على فم الذواق حيث يقول:

(يَخْمُدُ الشَّوْقُ بالعناقِ فَظَلِّي

حُلُماً غيرَ قابلٍ للعناقِ

حَسْبِيَ الآنَ أَنْ أصوغَكِ شِعراً

ظلَّ خمراً على فمِ الذَوَّاقِ).

البنية الفكريّة لقصيدة عيناك:

لقد شغلت المرأة وعشقها بنية القصيدة، حيث بينت للمتلقي مكانة هذه المرأة ودورها في إشغال عقل وتفكير الشاعر، وكذلك حبه وشوقه للقاء بها، وبالتالي ما فجره هذا الشوق في عالمه الجوَّاني، من حنين ولهفة ورغبة تركه يقول:

(كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق)

الرؤيا في القصيدة:

إن الأساليب التّعبيريّة في الشعر المعاصر أفضت بعد طول التّفاعل مع الحياة والفكر واللّغة، إلى "الرّؤيا" التي أصبحت مُنطلقاً لجيل جديد من الأساليب الشّعريّة المعاصرة، حيث أخذ يتباعد بإيقاع مُتزايد الأسلوب التّعبيري الشعري المباشر، لتحل "الرؤيا" أسلوباً جديداً تكاد تندغم فيها معالم الأشياء الحسّيّة ويخفّ وزن التّجارب العينيّة، وتصبح الكلمات رموزاً لعوالمَ ضاربةٍ في الخفاء، ومشبعة بالمضمر والمسكوت عنه لدى الشاعر والمتلقي معا. فالرؤيا أصبحت على حد تعبير أدونيس قفزة خارج المفاهيم السائدة والمباشرة. يقول الشاعر:

(زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ

فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي)

ففي هذه الأبيات يتلاشى التعبير المباشر للشاعر عن رغباته في لقاء الحبيبة بعد أن سحرته زرقة عينيها وجماليتهما، ليبحر في عالم من الرؤى يتصور فيها حميمية القاء وما سيحققه له من أحلام يتوق لتحقيقها مع حبيبته .. عالم سحري يتوق فيه الشاعر الوصول إلى التيه مجهول الأعماق، هذا وكأن مسيرته للقاء الحبيبة في هذا التيه تشكل هنا معركةً يتمنى انتهائها كمحارب ليلقي بسيفه بعيدا ويستريح من عناء الفتح بلقاء الحبية وعناقها.

التعبير والعبور عند الشاعر:

"التّعبير" و"العبور":

إذا كان (التّعبير) في الشعر يتمّ في يقظة الحواسّ، نتيجة لاستحضار الموجودات بهذه الحواس ذاتها، فإن (العبور) يتمّ بالرّيا المجرّدة والتخيل، من هنا فـ (التّعبير) يقتضي يقظة الحسّ، وعند غياب هذه اليقظة، يتمّ (العبور) عبر التّخيُّل والرّؤيا المجرّدة حيث يقول:

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ

أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

هنا كما يتبين معنا يغيب الاحساس المباشر بالأشياء عند العاشق المتصوف الذي ألهبه الشوق للقاء حبيبته، وهو يتخيل تضاريس جسدها مشبها إياها بـ (بالكروم والطيور والدراق)، في الوقت الذي تلفه اللهفة والذهول والاشفاق معا على حاله التي أنهكها سفر الروح والشوق للقاء تلك التضاريس.

التجريد في القصيدة:

تتجسد عبقرية الشاعر "توفيق أحمد " من خلال قدرته على التجريد، فالفنيّة الحقيقيّة في التعبير الشعري تأتي مع الاشارة، فالعالم فنيّاً ليس أكثر من إشارة، أي ليس في تناول الظاهرة المباشرة، بل في الاشارة إليها، أي التعبير عما هو موجود وراءها، وهذا بالضّرورة نوعٌ من التّجريد، وكأنّ الشاعر المصوِّر المبدِع، يصوِّر عبر رموزه وإشاراته ما يتمناه لكي يمحو "الصّورة" الحقيقية التي يريد البوح بها وإيصالها إلى المتلقي عبر نسيج شفّاف من المعاني لا يحيل على الواقع المباشر، بل على معناه يقول:

(عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ).

إنه عالم مفردات جسد المرأة الذي حاول الشاعر إحضارها مجردة ولكن من خلال أقنعة من مفردات الطبيعة الحيّة.

إن كلّ شاعر أو أديب مبدع هو من يستطيع أن يتجاوز المباشرة في التعبير ليجعل ما يراه حسيّاً، ليس إلا عتبة لما لا يراه، ولا يُعنَى في بوحه هنا بالصّورة زخرفاً وشكلاً، كما يقول "أدونيس" وإنّما يُعنَى من حيث كونها تخبّئ دلالة، وتُشير إلى معنى. ولا تكمن أهميّة الصّورة في سطحها المرئيّ، بل في كونها عتبةً لمعنى ما وباباً يقود الناظر إلى ما وراءه. أي يقوده إلى غيب أو مجرّد ما، سواء في الذّات أو في الطّبيعة.

النص المفتوح في القصيدة:

ما يقصد بالنص المفتوح في القصيدة الحداثية، أنّ الشاعر أو الأديب يعتقد بأنه يخلق نصاً ذا شكل مُكتمِل بهدف تذوُّقه وفهمه من قبل المتلقي، بيد أن النص عند المتلقي برأيي يظل مفتوحاً في دلالاته، بناءً على ثقافة المتلقي ودرجة اهتمامه بالنص، وعلى هذا الأساس يتفاعل المتلقي مع النّصّ ويمارس إحساساً شخصيّاً وثقافة خاصّة تُوجِّه متعته وفهمه في إطار منظور خاصّ به. وإن عمليّة الاستحسان لهذا النص تنبع إذن من التّمتُّع بالعمل الفنّيّ الذي يرجع إلى أن المتلقي يعطيه تأويلاً أو تأويلات بعيدة إلى حد ما عن ما أرده الشاعر أو الأديب من النّصّ. وهكذا نجد أنّ كلّ أثر فنّيّ، حتّى وإن كان مُكتمِلاً ومُغلقَاً من خلال بنيته المضبوطة بدقّة بنظر المؤلف، هو أثر مفتوح بوصفه يُؤوَّل بطرقٍ مختلفة من دون أن تتأثّر خصوصيّته التي لا يمكن أنْ تُختزَل. ويرجع التّمتُّع بالأثر الفنّيّ إلى أنّنا نعطيه تأويلاً ونعيد إحياءَه في إطار جديد.

وهذا الانفتاح في نص (عيناك) عند الشاعر " توفيق أحمد جاء نصاً مفتوحا بسبب عمق معانيه وتجريدها وجماليّة صوره وانفتاح دلالاتها عند المتلقي.

الانزياحات في النص وتجليات مفردات البلاغة:

لا شك إنّ تراكم الانزياحات، والابهام، والتّضادّ، والاستعارة، والكناية، والشبيه، في لغة الشاعر وارتفاع نسبة الكثافة في التّخييل، والتّشتّت في النّسيج، يخلق درجة عالية من التّوتُّر البارز بين البنية الإيقاعيّة والبنية الدّلاليّة في النص.

إن الاكثار من الانزياحات والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من مفردات علم البلاغة، يحول كل ذلك إلى حرفة عند الشاعر في صياغة نصه، في الوقت الذي هي فيه حالة جماليّة تضفي على النص رونقاً وموسيقى هادئة تحرك إحساس المتلقي وخلجات نفسه.

إن من يقرأ نص (عيناك) يجد الابهام بسبب اتكاء الشاعر على الرؤيا كثيراً كما بينا عند حديثنا عن الرؤيا في القصيدة، مثلما يجد متن النص كله مشبعاً بالتشابيه والاستعارة والكناية، وكأن القصيدة قد صيغت بلاغيّا.

اللازمكانية في النص:

إن ما يميز شعر الحداثة هو النزعة الشمولیّة، التي تتجاوز الزمان والمكان، وهذا ما اتسمت بهه قصيدة" عيناك"، حيث غاب الزمان والمكان المشخصين فيها لتبقى أحاسيس الشاعر وعوالمه تسبح في ذات الشاعر وأحلامه ورغباته وعشقة وصراعه من أجل اللقاء بحبيبته في عالم من الوهم والتخيل، مستمدة القصيدة من تصور الذات الشاعرة حریتها ومغامرات بطلها التي تجمع بین التجربة الفنيّة والرؤية الاستشرافية.

اللغة في القصيدة:

تظل لغة الشعر تحكمها التجربة الفنيّة والانفعال، ذلك أنها لغة تفجيريّة، تكسر منطق العلاقات وتنحرف عن المألوف في بحثها الدائم عن الخلود والتجدد، وهذا ما وجدنا في قصيدة الشاعر " أحمد توفيق" (عيناك). ولأن اللغة هي ماء القصيدة وتربتها الخصبة، عمل الشاعر على صياغة لغة جديدة حيويّة بسيطة في نسيجها ونظام مفرداتها وصورها وحيويتها وعلاقتها بأحاسيس الشاعر ومخيلته وصوره ورؤاه.

الصورة في قصدية "عيناك":

لقد اندمجت في القصيدة الصورة الحسيّة البلاغيّة بالصورة التخيليّة ومنه استطاع الشاعر " احمد توفيق" أن یخلق في صور نصه علاقات روحية متكاملة في أسلوب إبداعي.

أما الخيال ليس مجرد تصور أشياء غائبة عن الحس عنده، إنما الخيال وما يجسده من صور ابداعية جاءت معبرة عن عوالم حسيّة تحيط بالشاعر وتشغل عالمه الداخلي ورغباته وأمانيه، حيث عمل على تجريدها ليجعل منها أقنعة تفرضها معطيات الواقع وعاداته وتقاليده ومخاوفه قائلاً:

(إنَّ سِرَّاً مُخَبَّأً في ضُلوعي

كانَ سربَ الحمام في آفاقي

لكِ مجدٌ ولو تحدثتُ عنهُ

همَّ نَجْمٌ من غبطةٍ لانعتاقِ).

القصيدة من حيث الشكل والمضمون، تظل في سياقها العام أقرب إلى الشعر الحداثي منها إلى التقليدي، فهي قامت على البحر الخفيف من حيث الوزن، ولكن في صورها ورؤاها وأقنعتها وتجسيد بلاغتها هي قصيدة حداثية كما تبين لنا من خلال دراستنا لها.

د. عدنان عويّد:

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

.............................

عيناك

بقلم: توفيق احمد

كيف عيناكِ تَرْفُضانِ انعتاقي

إنه العشقُ فتنةُ الخَلاَّق

زُرْقَةٌ تَسْبَحُ السَّماوات فيها

وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاق

عَالَمٌ بعضُهُ الوصولُ إلى التِّيهِ

ودنيا مجهولةُ الأَعْمَاْقِ

فيهما أستريحُ سيفاً من الفَتْحِ

ونهراً أضاعَ حُلْمَ السواقي

بِهِمَاْ أَنتهي وُعوداً رماها

بانتظار المجهول يومُ التلاقي

أنا باقٍ ويا الربيعُ تحدَّثْ

عن أغانيَّ…. عن لهيب اشتياقي

عن كُرومٍ تواعدتْ وطيورٍ

شرَدَتْ في مجاهل الدُّرّاقِ

أنا باقٍ يلفُّني الآهُ والشوقُ

وبعضُ الذهولِ والإشفاقِ

أنا باقٍ أَخافُ يُسْكرني الوصلُ

وتَفنى في البالِ كأسُ الساق

يا رفيفَ المساء حَسْبُ انتظاري

أَنْ تكونيهِ لحظةَ الإشراقِ

إنَّ سِرَّاً مُخَبَّأً في ضُلوعي

كانَ سربَ الحمام في آفاقي

لكِ مجدٌ ولو تحدثتُ عنهُ

همَّ نَجْمٌ من غبطةٍ لانعتاقِ

المداراتُ تنتهي في هوانا

مَجْمَراً صار مُوحشَ الإحتراقِ

وحدَها الخمرُ أدركتْ ما نُعاني

وتعاني في الساحِ كلُّ العِتاقِ

يَخْمُدُ الشَّوْقُ بالعناقِ فَظَلِّي

حُلُماً غيرَ قابلٍ للعناقِ

حَسْبِيَ الآنَ أَنْ أصوغَكِ شِعراً

ظلَّ خمراً على فمِ الذَوَّاقِ

للشاعر العراقي فارس مطر

أولاً: مقدمة نقدية أدبية: في زمن يحتدم فيه الجسد على أسرّة العجز والموت، تنهض القصيدة ككائن موازٍ يحاول إعادة تشكيل العالم المنهار. تقدم قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر نصاً متوتراً ينهل من أقصى لحظات الهشاشة الإنسانية، حيث يتقاطع الوعي الجسدي مع الرؤية الشعرية في مشهد حافل بالمعاني والانهيارات.

الشاعر مطر هنا لا يرثي حاله ولا يتوسل الشفقة، بل يختبر عبر الكتابة أقصى حدود الألم والمقاومة، مستعيضاً عن الجسد المتهالك بنص متوهج بالأصوات والرموز والصور. من خلال تداخل الأزمنة، وكثافة الإيقاع الداخلي، واستدعاء الطبيعة بوصفها شريكاً ومرايا للذات، تتشكل القصيدة كمأوى هش للوعي، في مواجهة التلاشي.

هذه الدراسة تحاول أن تقرأ قصيدة "هدأة" باعتبارها نصاً للحياة داخل العدم، وتجربة شعرية تكتب الجسد، الألم، والانبعاث بكلمات تخشى أن تخبو لكنها تصر على التنفس حتى النهاية

تأتي هذه  القصيدة "هدأة" الموشاة بكل تلاوين الحياة والموت وما بينهما للشاعر فارس مطر في سياق وجودي حاد، حيث يقف الجسد بين الحياة والموت، ويصبح النص الشعري محاولة مستميتة لإعادة بناء الذات في مواجهة العدم. كُتبت هذه القصيدة في "مستشفى الحوادث برلين" بتاريخ 20 ديسمبر 2020، مما يضفي عليها خلفية زمنية ومكانية مؤلمة، تظهر بوضوح في نبرتها المتوترة ولغتها المجازية الكثيفة.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل البنية اللغوية والرمزية للقصيدة، ومقارنتها بتجارب شعرية مشابهة، مع إظهار كيفية تداخل اللغة والوعي الجسدي والكتابة الشعرية في مشهد مهدد بالفناء.

أولاً: البنية الموضوعية للقصيدة:

تدور القصيدة حول تجربة المرض والانهيار الجسدي، لكنها تتجاوز حدود الألم إلى تأمل عميق في ماهية الوجود والشعر. يمكن تلخيص المحاور الكبرى للقصيدة في:

الغياب والاحتضار: حيث يغدو الغياب رحلة محتومة تمهدها "أغنيات"، وتصبح القوارب رمزاً للعبور نحو الغياب يقول:

"أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ / لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ".

تجربة الجسد المعطل: الجسد المريض في القصيدة يصبح نصاُ آخر يتجمد ويتكسر:

"باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني / نصوصي تجمدُ".

مقاومة الفناء بالشعر: حيث يحاول الشاعر أن يُؤثث بـ"الأوكسيجين" عش القصيدة، يقول:

"أوكسجين يحاول تأثيث عش القصيدة".

الانبعاث عبر الوعي والشعر: رغم شعور الضياع، تعود الحياة عبر القصيدة والأغنيات:

"أعيد التورط بالأغنيات والكلمات.. بوهم الحياة".

ثانياً: اللغة والأسلوب

لغة القصيدة مشحونة بكثافة شعرية عالية، تعتمد على: الصور المجازية المركبة: الشاعر فارس مطر يزاوج هنا بين الحسي والمجرَّد، كما في قوله: "ضغطكَ سربُ إوزٍ يحط ويجفل من قلق الريح".

الإيقاع الداخلي: القصيدة تتنفس بنبضات متقطعة، كأنها تحاكي التنفس المهدد بالانقطاع، مما يخلق إيقاعاً حاداً ومتشظياً.

التكرار البنائي: يتكرر فعل "أُصغي إليها بدون حراكٍ" مما يعكس حالة السكون الجبري والانقطاع بين الذات والعالم.

التحولات الزمنية: القصيدة تتأرجح بين لحظات الوعي وفقدانه، وكأن النص محكوم بلحظات تخاطرية بين الحياة والموت.

ثالثاً: المقارنات النقدية:

يمكن مقارنة هذه القصيدة بتجارب شعرية أخرى استبطنت تجربة المرض والموت، مثل:

ما كتبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ديوانه "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، حيث تتداخل فكرة المرض مع القلق الشعري.

أما الشاعر العراقي سعدي يوسف فإنه يؤكد في بعض قصائده المتأخرة هذه الحالة، حيث تتحول الغرفة البيضاء إلى فضاء استعاري للفناء القريب. غير أنَّ قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تتميز بخصوصية أنها لا تتوسل الرثاء ولا تطلب الشفقة، بل تخلق من الألم مادتها الجمالية، وتحوّل اللحظة السريرية إلى نشيد شعري.

رابعاً: الطابع اللغوي والبلاغي:

المستوى اللغوي: القصيدة تنتمي إلى اللغة الحديثة ذات النبرة التفعيلية الحرّة، لكنها تنأى عن التكلف، وتميل إلى العذوبة العنيفة، مستخدمةً تراكيب صافية على الرغم من غموض المعنى أحياناً.

الصورة البلاغية: تتوزع بين الاستعارة، مثلاً: (الأوكسيجين يؤثِّث عش القصيدة) والتشخيص (الضغط كسرب إوز)، ما يمنح النص حيوية رمزية كبيرة.

الشفافية والغموض: هناك توازن فني دقيق بين الوضوح الشعوري والغموض الرمزي، مما يجعل القصيدة مفتوحة على أكثر من قراءة.

القصيدة بوصفها سرداً جسدياً للألم: يتحوَّل الجسد في  قصيدة "هدأة" إلى كتاب مفتوح، حيث تتكسر اللغة على وقع الألم الفيزيائي. فكل صورة جسدية (اللسان المتجمد، الصدر المصعوق، الدماء المحرَّكة بالإبرة) ليست مجرد وصف، بل ترميز لمراحل تفكك الهوية وصراعها مع العدم.

من الواضح أنَّ النص هنا لا يكتفي برصد تحولات الجسد، بل يجعل من تدهور الجسد نقطة انطلاق لإعادة بناء عالم شعري بديل.

ليس هذا فحسب بل تملك القصيدة بعداً صوتياً وسمعياً حيث تلعب الأصوات دوراً مهماً في النص، سواء عبر الأغنيات الممهدة للغياب، أو هديل الطيور، أو مجاز الرفيف. كل صوت في القصيدة يأتي مشوباً بالخفوت، في تناص مع الحالة الجسدية المنهكة، إذ أنَّ غياب الحركة يقابله غزارة في الأصوات الداخلية، مما يخلق توازناً بين خمود الجسد وفورة الروح. وهذا ما استدعى لتداخل

الوعي واللاوعي في القصيدة، زما يهدف قوله الشاعر مطر في هذا السياق عمق معرفته بالجواني وابتعاده عن اللحائي، فقد تعكس القصيدة تجربة قرب الموت كحالة بينية، حيث تتداخل الهلوسة مع الإدراك الواقعي. فالطبيب والممرضة والطيور والأغنيات كلها تدخل في مسرح اللاوعي.

يتبنى الشاعر فارس مطر هنا تقنية التداعي الحر، مما يضع القارئ أمام مشاهد تنفلت من المنطق الظاهري لكنها مشحونة بالصدق العاطفي . لذا فقد لعب على الآخر سعياً لتقديم دوره في النص فعلى الرغم من أنَّ القصيدة تبدو متوغلة في الذات، إلا أن وجود "الطبيبة" و"الممرض" وحتى الأصوات الطبيعية (الأيائل، الكراكي) يجعل "الآخر" شريكاً في صناعة المعنى. لذا نجد هنا أنَّ العلاقة مع الآخر مزدوجة: هو من يحمل بشرى الحياة (أو موتها) وهو أيضاً صدى لحيرة الذات في مواجهة مصيرها . لذلك عكست قصيدة " هدأة" طقس احتضار وإحياء منذ البداية حتى النهاية، كون القصيدة بُنيت طقسياً: حيث كانت البداية: غياب واستعداد للموت فقد كانت الذروة تعبير عن انهيار جسدي وتأمل شعري. أما النهاية فقد أكّدت على عودة مشروطة إلى الحياة عبر التنفس والشعر.

فالقصيدة بهذا المعنى ليست فقط مرآة لألم الشاعر فارس مطر، بل هي "طقس عبور" رمزي بين الوجود والفناء. وهنا تتجلى رموز الوجود والفناء بعمق شديد من خلال تجليات الثلج واللون الأبيض، فالثلج يحضر كرمز للطهر والموت معاً. اللون الأبيض يطغى في صور الغرفة، والحديقة المغطاة بالثلج، والغموض الأبيض الذي يقشر الذات. اللون الأبيض في قصيدة "هدأة" هو محو تدريجي للوجود المادي، وهو أيضاً فسحة لاحتمال بعث جديد عبر الكتابة.

في هذا السياق لا يمكننا إغفال. البعد الصوفي للنص فالقصيدة لا تخلو من نزعة صوفية مبطنة، خاصة في مشهد المشي على الماء، وكلام البحيرة، وتحليق الطيف فوق الجسد. هذه الصور تحمل شحنة صوفية تعيد الموت إلى تجربة اتحاد مع الكوني والخارق. وكأن الشاعر فارس مطر يكتب تجربة "فناء" روحي داخل سياق موت جسدي محسوس.

في قصيدة "هدأة"، لا يكتفي الشاعر مطر بتوثيق لحظة الاحتضار الجسدي، بل يتجاوزها إلى إعادة تخليق الذات عبر الكلمة. النص ليس بكاءً على جسد ينهار، بل هو احتفاء خافت بما تبقى من نبض الوجود في أطراف اللغة.

استطاعت القصيدة أن تُجسد العلاقة المرهفة بين الألم والكتابة، وأن تجعل من لحظة الضعف القصوى فرصة لشعرية جديدة تقتنص الحياة من بين طبقات الصقيع والموت.

عبر الصور المشحونة، والإيقاع الداخلي المرتجف، والأبعاد الرمزية الممتدة من الجسد إلى الطبيعة، يخط الشاعر درباً مضاداً للنسيان، راسماً ملامح قصيدة تكتب نفسها فيما الزمن يهم بالتلاشي.

"هدأة" ليست نصاً عن الفناء، بل نص عن التمسك الغريزي بالشعر كضرورة، وعن التنفس بالحروف حين تضيق الرئة بالحياة. ولعل هذا ما يجعل القصيدة تجربة شعرية مكتنزة بالألم والجمال معاً، وعملًا مفتوحاً على تأويلات لا تنتهي، تماماً كما هو حال الوجود نفسه.

أخيراً:

قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تجربة فريدة في كتابة الألم جسدياً وشعرياً. النص لا يصف المرض فقط، بل يحوّله إلى عملية خلق جديدة تلامس الجوهر العميق للوجود والقصيدة معاً. إنها قصيدة مكتوبة تحت وطأة الوعي المنكسر والجسد المهدّد، لكنها قادرة على تحويل "هدأة" المستشفى إلى فضاء آخر للغناء الخافت الذي يقاوم الصمت الأبدي.

هذه القراءة المتعددة الأوجه، تبدو قصيدة "هدأة" نصاً مركباً، لا يُفكك بمعزل عن فهم علاقة الشاعر مطر بجسده ووجوده، ورؤيته العميقة للقصيدة كخلاص محتمل في لحظة الانطفاء.

‏ولا أنسى أن أذكر بأن هذه القصيدة كتبت مسودتها كفكرة أولية ملاحظات (ثم أكملت بعد أيام ) في مستشفى الحوادث في برلين في 20 من ديسمبر 2020 ‏عندما كان الشاعر فارس مطر مصاباً بوباء الكورونا وتحت التنفس لمدة خمسة أيام.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

هدأةٌ

بقلم: فارس مطر

أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ  

لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ

تَحمِلُهذا الضِياءَ لبابِ المحيط

وتُلقي مجاذيفَها

فضَّةٌ وَفَضَاءٌ

رصاصيَّةٌ غُرفتي

باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني

نصوصِيَ تَجمُدُ

وَجهي تَكسَّرَ

أسلاكُ صدريَ صَدمَةُ بَرقٍ تُريني غُيومي

وينبُضُ هذا المساءُ أخيراً

يُحيطُ الفراغُ بخاصِرَتي

أُوكسجينُ يُحاولُ تَأثِيثَ عُشِّ القَصيدةِ

وَعيٌ يُجالِسُني

ودمائي تُحَرِّكُها إِبرَةُ الفَخذِ 

تَفتَحُ مَرجاً هضاباً وغابة

لِتَسري الأيائِلُ في جسدي

تَستَقِرُّ القِراءَةُ والزِئبَقُ المُتَكاسِلُ

قالَ المُمَرِّضُ:

ضَغطُكَ سِربُ إِوَزٍ يَحُطُّ

ويَجفُلُ من قَلَقِ الريحِ

أُصغي إليه بدونِ حِرَاكٍ

لِيَملأَ روحي مَجَازُ الرَّفيفِ

تَقولُ الطبيبَةُ:

ثَلجٌ يغطي الحديقةَ

هل دثَّرتكَ القصيدةُ يوماً

فبَانَ الهَديلُ بأوَّلِ لَيلِكَ؟

أُصغي إليها بدونِ حِرَاكٍ

وأترُكُ ذاتي يُقشِّرُها غامضٌ أبيضُ

نَغَماتٌ تُحذِّرُ أنَّ القصيدةَ غَابَت

وأنَّ التَّنَفُّسَ صارَ أقَلَّ

فتصعَقُني لتَعودَ الأغاني  

وتوحي إليَّ، تَنَفَّس بملءِ الحقول

تَنَفَّس لتكتبَ درباً وغيمة

أعود لوعيي فتسألني:

هل مشيت على الماء حين اتبعت الكراكي

وتلكَ البُحَيرةُ هل كلمتكَ؟

فأُصغي إليها بدون حِراكٍ

لينهض منيَ طيفٌ شبيهٌ بشكلي مصابٌ بِمَسٍ

يحلقُ فوقي يدور ويهذي ويصرخُ فيَّ تنفس تنفس

أعود لوعيي

سنونوتان تَرِفُّ بصدري تُعيدانِ حُلمي     

أعيد التورط بالأغنيات وبالكلمات.. بوهم الحياة    

بوجه بعيد يُسمّى قصيدة

بين الذرائعية والفلسفة، قراءة في سر بقاء النصوص الأدبية حيّة عبر الثقافات.

لماذا تظل بعض العبارات حيّة عبر الأجيال، بينما يخفت صدى غيرها مهما كان بليغًا؟ في هذا المقال، تقدم الكاتبة قراءة نقدية ذرائعية تكشف سر قوة النص الأدبي، بوصفه رسالة لا تكتمل إلا بتفاعل الكاتب، واستراتيجيته، وزمانه، وجمهور المتلقين. ومن خلال أمثلة من التراثين الغربي والإسلامي، تدعو القارئ للتأمل: كيف تتغير أصداء الرسائل حين تعبر الزمان والثقافة؟ وأي النصوص تبقى قادرة على ملامسة الوجدان الإنساني مهما تغيرت الأزمنة؟

النص الأدبي، أيًّا كان جنسه، لا يخرج عن كونه رسالة موسومة باستراتيجية كاتبها، يرسلها إلى متلقٍ، ليس بعينه، بل بالعموم، عبر زمكانية تبدأ من لحظة ومكان الإنجاز، وتستمر في الامتداد إلى زمكانية لا متناهية.

لكن، ليست كل رسالة تنجح في بلوغ القلب أو تحريك الفكر؛ فالفارق بين نص وآخر يكمن في نضج التجربة عند المرسل، وفي قدرته على اختيار الاستراتيجية الفكرية التي يكتب بها، بحيث يضمن قبولًا واسعًا عند الجمهور. إنها قوة الذكاء والفطنة التي يمتلكها الكاتب حين يدرس عقلية المتلقي، ويقرأ ثقافته الجمعية، ويخاطب استعداده النفسي والفكري لتلقي الرسالة.

فلو نظرنا إلى نفس الرسالة، بنفس المضمون، تُرسل من كاتبين مختلفين، كل منهما ينتهج استراتيجية مغايرة، وفي زمكانين متباينين، إلى جمهورين بثقافتين جمعيتين متباعدتين، فهل من العدل أن نفاضل بينهما بمعيار واحد؟

طبعًا لا...

ولهذا السبب، حين تناولت الذرائعية النصوص الأدبية بالنقد، راعت دراسة عناصر الإرسال الثلاثة: المرسل، والرسالة، والمرسل إليه. فاختارت النص الرصين أولًا؛ النص الذي يحمل رسالة نافعة للمجتمع، ودرسته في سياق زمكانية كتابته، وفي ضوء فهم واستراتيجية كاتبه، وكذلك وفق ثقافة جمهور التلقي وتوقعاته.

ولعل خير مثال على هذا التباين، قولان يحملان نفس العبرة والوعظ، لكن لكل منهما صدى مختلف:

(حتى أنت يا بروتس؟)

(اتق شر من أحسنت إليه)

القول الأول نقرأه عند شكسبير، الذي صاغه ضمن استراتيجية فلسفية، أسند عليها ثيمة الغدر والخيانة، فنجح في زرعه في وجدان جمهور كان مستعدًا، بثقافته الجمعية، لتقبّل الفكر الفلسفي ومساءلة القيم؛ فبقي قوله حيًا في الذاكرة الإنسانية، ما بقيت الفلسفة ركيزة منهجية في وعي الشعوب.

أما القول الثاني، المنسوب إلى علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، فجاء نتاج تجربة قيادة أمة جعلت من الأخلاق والدين ركيزتين. فجاء خطابه موجّهًا إلى جمهور ينتظر، بل يطلب، كلّ ما يعزّز منظومته الأخلاقية، فجعل من مقولته رسالة تتجاوز حدود الغدر والخيانة إلى صراع شامل بين الخير والشر.

وهنا، يبقى السؤال مفتوحًا:

من أي جمهور أنت أيها المتلقي؟

وأي مقولة تجد صداها الأقوى في نفسك؟

وهكذا، يتأكّد لنا أن الرسالة الأدبية لا تحيا ولا تقاس إلا ضمن منظومتها الثلاثية: الكاتب، والاستراتيجية، والجمهور، ولا يُفاضل بين النصوص إلا حين نفهمها بكامل سياقها، لا بسطح مضمونها. فكل نص، هو ابن لحظته، وحفيد ثقافة جمهوره، ورسول كاتبه الذكي.

***

بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي - الاسكندرية – مصر

7 مايو 2025

 

دراسة تحليلية سردية

تعدّ الرواية المعاصرة إحدى أبرز الأدوات التعبيرية عن التجربة الإنسانية بمختلف تجلياتها النفسية والاجتماعية، ولا سيما حين تتناول موضوعات الفقد والبحث عن معنى الحياة وسط المآسي.

في هذا السياق، جاءت رواية فرصة ثانية للأديبة صباح بشير، لتقدم معالجة أدبية حساسة لتجربة فقدان الأمومة، وتحولات العلاقات الإنسانية في مواجهة الموت المفاجئ.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل رواية فرصة ثانية من خلال رصد بنيتها السردية، ودراسة الشخصيات، ودلالات الفضاء المكاني، فضلاً عن استكشاف البعد النفسي والرمزي في العمل.

تعتمد الدراسة منهج التحليل النصي المباشر، مع الاستدلال بمقتطفات من الرواية وأرقام صفحاتها، سعيًا لتقديم قراءة نقدية شاملة تُبرز أهم ملامح التجربة السردية للكاتبة، وتُسهم في إغناء المكتبة النقدية بالدراسات المهتمة بالأدب النسوي الفلسطيني المعاصر.

التقديم:

تُعدّ رواية فرصة ثانية للكاتبة الفلسطينية صباح بشير نموذجًا أدبيًا مميزًا في تصوير معاناة الإنسان مع الفقد، والبحث عن معنى جديد للحياة رغم الألم. عبر سرد حميميّ يأتي على لسان الشخصية الراوية “هدى”، تُقدم الكاتبة قصة موت الأم (فاتن) أثناء الولادة، وما يترتب على ذلك من تحولات نفسية واجتماعية في محيطها العائلي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل بنية الرواية سرديًا وموضوعيًا، مع التركيز على تجربة الحزن، رمزية الأمل، ودلالات الفضاء المكاني واللغوي داخل العمل.

كما تسعى الدراسة إلى إظهار كيف تنتمي هذه الرواية إلى تيار السرد النسوي الفلسطيني الحديث، الذي يبرز التجربة الإنسانية للمرأة في مواجهة الحياة والموت.

أولًا: البنية السردية والزمن:

*تعتمد الرواية بنية سردية خطية متماسكة، تبدأ من لحظة دخول البطلة فاتن إلى المستشفى (ص5)، وتنتهي بتبني الطفلة من قِبل الأسرة ومواصلة الحياة (ص34).

*تتبنى الرواية ضمير المتكلم من خلال شخصية “هدى”، مما يمنح النص طابعًا شخصيًا حميميًا، وينقل مشاعر الشخصيات بصدق كبير.

يتوزع الزمن في الرواية على محورين:

* زمن واقعي يتمثل في أحداث الولادة والوفاة وما بعدها.

*زمن نفسي ينعكس في تأملات هدى حول ماهية الأمومة والموت، كما في قولها: “هل حب الأمهات لأطفالهن يستحق هذه التضحية؟ أم أنها غريزة فطرية بحتة؟” (ص10).

* تتميز بنية الرواية بالتصاعد الدرامي المنظم، حيث تبدأ بأمل الولادة، تمر بذروة الأزمة (تعثر الولادة وموت فاتن)، ثم تهدأ في النهاية مع ولادة طفل يمثل حياة جديدة.

ثانيًا: تحليل الشخوص في الرواية:

1. شخصية فاتن: تمثل فاتن صورة الأمومة المكافحة، التي تحتمل آلامًا جسدية ونفسية شديدة من أجل إنجاب طفلها. تصفها الراوية هدى قائلة:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

فاتن ليست فقط أمًا بيولوجية، بل رمز للتضحية بكل أشكالها.

2. شخصية مصطفى: هو الزوج المفجوع الذي يتنقل بين مشاعر الأمل والصدمة واليأس. يتجلى ألمه الداخلي حينما يقول:

“كيف سأكمل حياتي بدونها؟ كيف سأربي طفلهما بمفردي؟” (ص20).

يمثل مصطفى معاناة الرجل الشرقي الذي يضطر لتحمل مسؤوليات مضاعفة في غياب الشريكة.

3. شخصية هدى: وهي شقيقة فاتن، تتحول إلى “الأم البديلة” بعد وفاة أختها. تقول متعهدة برعاية ابن أختها:

“عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه.” (ص21).

هدى تعبر عن جانب مهم من التضامن الأسري في مجتمعاتنا الشرقية.

ثالثًا: دلالة المكان والفضاء الروائي:

للمكان في الرواية حضور وظيفي شديد الأهمية:

المستشفى: يتحول إلى مسرح للألم والموت بدلًا من أن يكون فضاءً للشفاء. ويتجلى ذلك من وصف الراوية للبيئة الطبية:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

المنزل العائلي: يصبح بؤرة للحزن وملاذًا للذكريات بعد فقدان فاتن، كما نقرأ:

“تحول منزل العائلة إلى مأوى للدموع والآهات.” (ص24).

تُظهر الرواية كيف تتغير دلالات المكان تبعًا للحالة النفسية للشخصيات.

رابعًا: اللغة والأسلوب الفني:

تميزت اللغة السردية في فرصة ثانية بالوضوح والعذوبة، مع مسحة شاعرية خفيفة تناسب جو الرواية المفعم بالمشاعر.

اعتمدت الكاتبة تراكيب لغوية مباشرة غير متكلفة، لكنها مزجتها بصور بلاغية معبرة، مثل قولها عن مشاعر القلق:

“غزاني الخوف بسـهامه الحادة وأخذت أرتجف، شعرت أن العالم من حولي يزداد ظلمة.” (ص13).

كذلك كثفت الروائية استخدام الألوان كرموز نفسية، فكان اللون الأبيض –رغم شيوعه للنقاء– رمزًا للموت والجمود في سياق الرواية، كما قالت هدى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

أما الأسلوب الفني فقد مال إلى تفصيل المشاعر الداخلية بتقنيات السرد الداخلي (المونولوج)، مما جعل القارئ يتماهى مع الشخصيات عاطفيًا.

خامسًا: الثيمات والأفكار الرئيسة:

تدور الرواية حول عدة ثيمات محورية، أبرزها:

1. الأمومة والتضحية: تمثل ولادة فاتن القاسية ذروة رمزية للتضحية من أجل استمرارية الحياة. وقد أظهرت الرواية هذه الفكرة عندما قيل:

“دفعتها إرادة الأمومة إلى الأمام، رغم أن الألم كان ينهش عظامها.” (ص7).

2. الموت والفقد: تصور الرواية كيف أن الموت قد يقتحم اللحظات التي يُنتظر فيها ميلاد حياة جديدة. وكان المشهد المأساوي عند إعلان وفاة فاتن شديد التأثير:

“ببالغ الأسف نعلمكم أن فاتن لم تقاوم مضاعفات خطيرة…” (ص17).

3. الأمل واستمرار الحياة: رغم مأساة الفقد، قدمت الرواية صورة إيجابية عبر الطفل “يحيى” الذي سُمّي رمزًا لاستمرارية الأمل:

“اختار مصطفى اسم ‘يحيى’ لمولوده؛ ليحمل معنى الحياة والأمل الذي لا يريد له أن ينطفئ.” (ص26).

سادسًا: الرموز والإيحاءات الفنية: اعتمدت الرواية عدداً من الرموز البسيطة ولكن العميقة الدلالة، منها:

الطفل يحيى: يمثل ولادة الأمل من رحم الحزن، وقد جسدت تسميته رسالة واضحة مرتبطة بفكرة النهوض بعد السقوط (ص26).

اللون الأبيض: رمز موتيّ، بعكس دلالته التقليدية للنقاء، وهو ما عبرت عنه هدى حين وصفت المستشفى:

“كل شيء أبيض وباهت لا حياة فيه.” (ص15).

الأمومة البديلة: رمزية لديمومة العطاء الإنساني رغم قسوة الفقد.

سابعًا: الجانب النفسي في الرواية:

تحاكي الرواية بدقة علمية مراحل الحداد التي صنفها علماء النفس، وهي: الإنكار، الغضب، الاكتئاب، وأخيرًا القبول:

الإنكار: يظهر في مشاعر الصدمة التي أصابت العائلة فور إعلان وفاة فاتن، كما قالت الراوية: “لم أستطع تصديق ما سمعت.” (ص19).

الاكتئاب: مثّل مصطفى نموذجًا حزينًا عميقًا للغرق في الحزن، إذ قالت عنه الراوية: “تحول منزله إلى سجن من الذكريات، كل زاوية فيه تهمس باسمها.” (ص27).

القبول: يتحقق تدريجيًا عبر قبول مصطفى لتربية الطفل والاستعانة بالدعم العائلي.

هذا التحليل النفسي العميق أضفى على الرواية بعدًا إنسانيًا مقنعًا.

ثامنًا: حضور الأمومة كغريزة واختيار اجتماعي:

تطرح الرواية سؤالاً هامًا حول طبيعة الأمومة: هل هي فطرة أم التزام اجتماعي؟

تتجسد الإجابة في موقف هدى التي تحولت إلى أم بديلة مدفوعة بالحب والوفاء، لا بمجرد القرابة البيولوجية.

يتجلى ذلك حين قالت: “عاهدتها أن أكون سندًا له، وأن لا أتخلى عنه، وأن أحبّه كما أحببت أمه.” (ص21).

هنا، يظهر أن الأمومة في الرواية تمتد إلى دوائر الرعاية والمودة، بما يتجاوز الروابط الدموية.

خلاصة البحث:

رواية فرصة ثانية لصباح بشير تقدم تصويرًا واقعيًا وعاطفيًا لتجربة الفقد الإنساني، وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحياة بعد غياب الأحبة.

عبر بنية سردية متماسكة، ولغة بسيطة غنية بالصور الشعورية، نجحت الكاتبة في ملامسة مشاعر القارئ، وفي التأكيد على أن الحب والأمل قادران على شفاء الجراح العميقة.

تُظهر الرواية أن الإنسان، رغم الألم، يمتلك القدرة على تجاوز المحن، وبناء معانٍ جديدة للحياة، من خلال الإيمان، والتضامن العائلي، والوفاء للماضي.

تحية تقدير لكاتبة استطاعت ان تمخر عباب الزمن بلا توقف او تردد لتصل الى ما وصلت إليه بكل ما في المراة الفلسطينية تحديدا من إصرار وتحد .

وتمنياتي لها ببلوغ ما تصبو إليه من مراتب السمو الأدبي.

***

علاء الأديب/ بغداد

 

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو مضطربة الوزن.  عنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ).  يمضي فيها الشاعر هكذا:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ

إلى أن يقول:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ

وهي في ديوان الشاعر(1)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة!  نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّةُ الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد.  ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ، هكذا:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ [إلى الناسِ]

...الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...ومن أظلمَ كالفحمِ ومن أشرقَ كالماسِ

لاستقامت تفعيلاته. غير أنهم سيواجهون (الإقواء). في قوله:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

في الخمرةِ تختالُ على أنخابهم إذ تُقرع الكاسُ

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

مذ عُلِّمتُ أنَّ الناسَ أشباهٌ وأنَّ النبلَ مِقياسُ

ويمكن أن يكون صوابهما:

...على الأنخاب إذ تقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومما يؤيِّد القول إنَّ الرويَّ مكسورٌ قول الشاعر:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

حُبَّ الأرضِ للفاسِ،

أو القفرة للآسِ،

أو الليل لنبراسِ

قلتُ لـ(ذي القُروح):

ـ معروف أنَّ (الجواهري) كان ارتجاليًّا في شِعره، شفاهيًّا، يعتمد على الإلقاء. ولذا كان من حقِّه على المحقِّقين التوثُّق من نصِّه، وتدقيقه. 

ـ وإنْ كان يُقْوِي، فقد أقوَى قبله (امرؤ القيس) وغيره، على زَعْم من زَعَمَ من القدماء.(2) بيد أنَّ ما نرجِّحه أنَّ القوافي مكسورة أصلًا، إلَّا أنَّ أخطاء اعتورت أربعًا منها، ربما لأخطاء مطبعيَّة، وصوابها مجتمعة:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ إلى الناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...على الأنخاب إذ تُقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومهما يكن، فإنَّ النصَّ يظلُّ تجربةً ضعيفةً من شِعر التفعيلة، لا نعلم أنَّ (الجواهري) كرَّرها!  وإنَّما الشاهد من هذا- مع نشر الشِّعر على عواهنه- إهمال بعض المحقِّقين، كما ينعتون أنفسهم، في الوفاء بما التزموا به من ضبطٍ وتحقيق. وإنْ اغتُفِر في النثر بعض ذلك أحيانًا، فإن الشِّعر لا يغتفره مطلقًا؛ لأنَّ تغيير حرفٍ أو حركةٍ في الشِّعر قمينٌ بارتكاب إساءةٍ إلى النصِّ والنَّاصِّ.

ـ دعك من هذا، وقل لي: لماذا انشغل شعراء المعارضة للشِّعر القديم- وعلى رأسهم (أحمد شوقي)- بمعارضة عُيون الشِّعر العَرَبي، ولم يجرؤ شاعرٌ كبيرٌ على إنشاء قصيدة معارضةٍ لقصيدة لـ(المتنبِّي)؟!

ـ أمَّا أنا فأرى أنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظْميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً. 

ـ أجل، لقد ظلَّ تقليد المقدِّمات الغَزَليَّة ساريًا في شِعرنا العَرَبيِّ القديم، حاملًا صِدق الشاعر العاطفي، حتى تكاد تكون تلك المقدِّمات هي الشِّعر في كثيرٍ من شِعرنا التراثي، بعيدًا عن المجاملات، والممالقات، التي تتبع تلك المقدِّمات.

ـ حتى لقد كان بعض الشعراء يُسرِف في إطالة تلك المقدِّمات إسرافًا فَجًّا بمعايير اللَّباقة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة. من ذلك مثلًا أنَّ (جريرًا) قال قصيدةً من عشرة أبياتٍ في البيعة لـ(عبد العزيز بن الوليد بن مروان) بولاية العهد، جعل ثمانية أبياتٍ منها مقدِّمة في الحنين إلى الديار والأحبَّة وبيتين فقط في غرضه من القصيدة. وهي القصيدة ذات المطلع:

عَفَا نِهْيَا حَمَامَةَ فالجَوَاءُ   :::   لِطُولِ تَبَايُنٍ جَرَتِ الظِّبَاءُ

كذا هي القصيدة في ديوانه.(3) ولئن أضافت بعض الروايات أبياتًا أخرى، فما يغيِّر ذلك من النتيجة، وهي أن المقدِّمة أطول وأشعَر. أمَّا (أبو الطَّيِّب المتنبِّي)، فقد كان يَصِل، بعد مقدِّماته الشِّعريَّة، من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض نفسيًّا.

ـ مِثل ماذا؟

ـ كثير جِدًّا. لقد كان يتخانع مع ممدوحيه إلى درجة التقديس والتسبيح بحمدهم.  وماذا بعد تأليهه لأحد ممدوحيه قائلًا:

وأَما وحَقِّـكَ وهْوَ غايَةُ مُقْسِمٍ  :::   لَلحَـقُّ أَنتَ وما سِـواكَ الباطِلُ

الطِّيْبُ أَنتَ إِذا أَصابَكَ طِـيْبُـهُ  :::   والماءُ أَنتَ إِذا اغتَسَلتَ الغاسِلُ

ما دارَ في الحَنَكِ اللِّسانُ وقَلَّبَتْ  :::   قَلَمـًا بِأَحسَنَ مِن نَـثاكَ أَنامِـلُ

فاغتسلَ، كما ترى، بهذا الخِزي؛ ليجعل ممدوحه الحقَّ المطلَق، لا شريك له ولا نظير في جماله وكماله!

ـ أيقول عاقلٌ لإنسان، كائنًا من كان: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»؟!

ـ نعم، إذا كان كـ(أبي الطيِّب)، سيقول! ونماذج أبي الطيِّب من هذا القبيل بلا حدود، ليس أوَّلها تسوُّله فضْلة كأس (أبي المِسْك)- الذي نعتَه من بَعد بالعَبْد المثقوب مشفره، حينما لم ينل فضله- ولا آخِرها قوله: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»، أو وصفه ممدوحًا بأنه «خَيرُ الخَلْق مِن خَيرِ الخَلْق»!  ومن الطرائف أنَّ (ابن جِنِّي)- الذي كان يصفه المتنبَّي بأنه أعلم بشِعره منه- شرحَ بيتًا شرحًا أثار سُخرية (ابن معقل)، من الشارح ومن الشاعر معًا، واصفًا إيَّاه بالرقاعة!  ذلك أنَّ أبا الطيِّب قال:

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ   :::   وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

فجاء (ابن جِنِّي) شارحًا: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!»  فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(4) وأقول: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا!  هذا، وكثيرًا ما يخطِّئ ابنُ معقل ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.

(2) نحن نرى أن ما سُمِّي (إقواءً) في الشِّعر القديم وَهْمٌ؛ إذ لم يكن عن عيبٍ في التقفية، بل عن لغةٍ كانت تستجيز إعرابًا يخالف ما قعَّدة النحويُّون، وفرضوه نحوًا زعموا أنه كان للُغة العَرَب كلِّها.  وقد تطرَّقنا إلى ذلك في مقارباتٍ سابقة.

(3) يُنظَر: (1986)، ديوان جرير، شرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهرة: دار المعارف)، 667- 668.

(4) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77. 

للأديبة السورية سمر الديك

مقدمة: تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك نصاً سردياً غنياً بالدلالات والعلاقات البنيوية التي يمكن استكشافها من خلال المنهج البنيوي. يركز هذا المنهج على دراسة النص الأدبي باعتباره بنية متكاملة، مؤلفة من عناصر متداخلة تربطها علاقات داخلية، بهدف الكشف عن القوانين والأنظمة التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه.

1. بنية الشخصيات والعلاقات:

تتميز الرواية ببنية شخصيات معقدة، حيث تتنوع الأدوار والعلاقات بينها. يمكن تحليل هذه البنية من خلال الثنائيات الضدية والمتشابهة.

* هيفاء وعصام: يمثلان ثنائية زوجية، ولكن علاقتهما تشهد صراعات وتوترات، خاصةً بسبب تدخلات الأم والأخت. يمكن اعتبار عصام ممثلاً للسلطة الذكورية التقليدية، بينما تمثل هيفاء صوتاً نسوياً يسعى للتحرر. "اسمعي جيداً، وتذكري ذلك دائماُ: إنْ لمْ تعجبك طريقة عيشنا، وطريقة تصرفاتي معك، يمكنك أن تغادري البيت بلا رجعة، لقد سئمت هذه الحياة، وسئمت من نظراتك الغريبة هذه."[i] هنا يبرز صراع السلطة الذكورية.

لكن، من جهةٍ أخرى هيفاء وعصام يمثلان ثنائية متوافقة، على اعتبار أنهما زوجان يجمعهما الحب والهدف المشترك للأسرة والأولاد.. لنستمع إلى هذا المونولوج الذي يبرز مشاعر الرضا في قلب هيفاء… "أحمد الله على نعمة الحبّ الذي يسود في بيتنا، رغم بعض المنغصات، ولكن في كل بيت توجد من المشكلات التي قد تسبب المتاعب للجميع، لكن الأهمّ أنني وعصام نتبادل الاحترام والتفاهم في كل صغيرة وكبيرة، يجمعنا حبّ عميق، وهدف واحد مشترك، أن نتفانى من أجل مستقبل ولدينا[ii]."

* هيفاء وسوسن: تمثلان ثنائية ضدية، حيث تتسم علاقتهما بالغيرة والحقد. سوسن تمثل الشخصية السلبية التي تعيق سعادة هيفاء واستقرارها… "كم كانت سوسن تحمل ضدّها من الحقد والغيرة بسبب نجاحها في عملها! بينما هي فشلت حتى في الدراسة، وبقيت جليسة الدار لا تتوانى عن إثارة المشاكل داخل الأسرة، لسبب أو بدون سبب."[iii]

* هيفاء ورجل الياسمين: يمثل هذا الرجل عنصراً غامضاً ومتكرراً في حياة هيفاء، ويمكن اعتباره رمزاً للحب الضائع أو الحلم المنشود. علاقته بهيفاء تتجاوز الواقع لتلامس البعد الرمزي والصوفي…"لكن لمْ تعرف لماذا يتكرر حضوره معها؟! هذه هي المرة الثانية، هل سيعود مرة أخرى؟"[iv]

2. بنية الأحداث والحبكة:

تتكون حبكة الرواية من سلسلة من الأحداث المتداخلة التي تتصاعد وتيرتها تدريجياً. يمكن تحليل بنية الأحداث من خلال:

1. الصراع الرئيسي: يتمثل في صراع هيفاء من أجل الحفاظ على هويتها وتحقيق ذاتها في ظل القيود الاجتماعية والأسرية. "لا لن أضعف ولن أستسلم للمشاكل التي تحيكها سوسن وأمها بين الحين والآخر. سأقاوم كل تلك العقبات وأضع ملحاً على جرحي الذي ينزف بين الحين والآخر."[v]

2. الأحداث المحورية: تشمل زواج هيفاء، والصراعات الأسرية، وظهور رجل الياسمين، وأحداث الثورة السورية، وهجرة هيفاء وأولادها. يصف الاقتباس التالي بداية الثورة كحدثٍ محوريٍّ في الرواية:"… وكان العام 2011 عام الانتفاضة ضد الطغيان، والسياسات الرعناء التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، نفق لا أحد يعلم له نهاية، سمعت هيفاء رنين الهاتف...واعتبرها ألم فظيع لم تعرف له سبباً…[vi]"

3. التوازي والتكرار: يتكرر ظهور رجل الياسمين كعنصرٍ دلاليٍّ هام، وكذلك تتكرر صور العنف والفقد. هذه التوازيات والتكرارات تساهم في تعميق المعنى الرمزي للرواية. "قبل أن تغلق النافذة، شاهدت رجلاً ينزف بغزارة، يقوم ويسقط، والرصاص ينهال عليه بلا رحمة، ما إن سقط على الأرض، حتى نظر الى الشرفة التي كانت خلفها هيفاء، رمقها بنظرة عتاب أوجعت قلبها، واستخرج من جيب قميصه الممزق والملطخ بالدماء، زهرة ياسمين لوّث بياضها دمه الحار، ولوّح لها بها، وسقط بلا حراك."[vii]

3. بنية المكان والزمان:

يلعب المكان والزمان دوراً هاماً في بنية الرواية، حيث يساهمان في تشكيل الأحداث والشخصيات.

بنية المكان:

تتنوع الأمكنة في الرواية، حيث تنتقل الأحداث بين البيت والمدينة والمزرعة وبلاد الاغتراب. هذه الأمكنة تمثل عوالم مختلفة لهيفاء، وتعكس تحولاتها النفسية والاجتماعية. لاحظ دفء اللغة في وصف البيت وتفاصيله الإنسانية: "كان بيتهم يغصّ بالنساء والرجال، كل شيء لم يكن طبيعياً فيه، لكنها بفطرة الطفولة لم تفهم ما يجري في بيتهم بعد ان كان آمناً[viii]."، وبرودها وحياديتها حين تصف مكانزالاغتراب، على الرغم من أن الراوي في كليهما هو الراوي العالم ذاته: "لقد حطّت رحالها أخيراً في مدينة مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا بعد باريس، فهي تُعد من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط[ix]".

بنية الزمان:

تتناول الرواية فترةً زمنيةً واسعةً، تمتد من طفولة هيفاء إلى نضوجها، وتشمل أحداثاً تاريخية هامة مثل الثورة السورية، وما تبعها من اغتراب. الزمن في الرواية ليس خطياً، بل يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ما يجعل السرد في حالة من الحيوية والتنقل القلق، الذي يشي بحال البطلة هيفاء القلقة غير المستقرة، المشتتة الذهن بين ذكريات عذبة، وحاصرٍ قاسٍ، ومستقبلٍ غامض. الاقتباس التالي يصف تأثير الماضي على الحاضر في وجدان هيفاء… "لمْ تغادر ذاكرة هيفاء تلك الليلة الشاتية الباردة، ولم يغادرها ذلك الصراخ والعويل اللذين حوّلا ذاك الصباح الى كابوس مرعب ظلّ يرافقها مدى الحياة!"[x].

4. بنية اللغة والأسلوب:

تتميز لغة الرواية بالشاعرية والرمزية، حيث تستخدم الكاتبة الصور الفنية والتشبيهات والاستعارات للتعبير عن المشاعر والأفكار.

* الرمزية: يعتبر الياسمين رمزاً محورياً في الرواية، حيث يمثل الحب والجمال والأمل المفقود. كما أن رجل الياسمين يحمل دلالات رمزية تتعلق بالخلاص والتحقق… "يا إلهي! ما الذي يحدث؟! لماذا أنا مرتبكة الى هذا الحدّ؟! مَنْ هذا الذي يحمل راية الوطن خفّاقة لوحده في هذا الطريق؟! أيعقل أن يكون هو نفسه رجل الياسمين؟!"

* التكرار: يتكرر استخدام بعض الكلمات والعبارات، مثل "الحزن" و"الفقد" و"الوطن"، للتأكيد على الثيمات الرئيسية للرواية. "لقد أصبح الإنسان قارةً للحزن[xi]..."، "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه[xii]"

* التناص: تحيل الرواية إلى بعض النصوص الأدبية والتاريخية، مما يثري دلالاتها ويمنحها عمقاً ثقافياً، يمثّل استحضار اسم جيكا، المناضل المصري في ثورة يناير ربطاً فكرياً بين الثورة في سوريا، وثورات الربيع العربي المتمثلة بثورة يناير في مصر، ومن ناحية أخرى، يمثل هذا التناص الحالة الإنسانية الشاملة لأبطال الثورة السورية، باعتبارهم ثاروا على الطغيان، وهي حركة ثورية عامة وقيمة إنسانية عليا، "هل أصبحت أمنية هذا الجيل الفتيّ، الجيل الذي بدأ يحلم بالحرية، والكرامة، والخبز، الجيل الذي بدأ يسعى الى تأسيس دولة للقانون، تحفظ البلاد والشعب، وتصون كرامته، وتحقق أمنياته في الحرية والتقدم والسلام، هل أصبح همّه اليوم أن يحظى بجنازةٍ كالتي حظي بها جيكا؟![xiii]"

5. الثنائيات الضدية على مستوى الموضوعات:

تعتمد الرواية على عدة ثنائيات ضدية تساهم في بناء الصراع الدرامي وتعميق الدلالات:

1. ثنائية الحب والكراهية: يتجلى صراع الحب والكراهية في علاقة هيفاء بكل من عصام وسوسن. "على الرغم من زواجهما التقليدي، إلاّ أنّ مشاعر الحبّ بينهما أصبحت رابطاً قوياً يربطهما، لكن الحياة لن تكون هانئة سعيدة كما يتمنى الانسان، فبعد ثلاث سنوات على زواجهما، بدأت المشاكل تطفو على السطح وتعجّ بأمان البيت، وكانت بوصلة الاتهام تتجه دائما صوب سوسن!"[xiv]

2. ثنائية الحياة والموت: يحضر الموت بقوة في الرواية، خاصةً مع أحداث الثورة والحرب، مما يخلق توتراً وجودياً. "لماذا يتكاثر الموت في بلادنا؟! ولماذا الرصاص يعشق أجساد أبنائنا الفتية؟!"[xv]

3. ثنائية الأمل واليأس: تتأرجح هيفاء بين الأمل في غدٍ أفضل واليأس من الواقع المرير. "يا كريم، يا صديقي العزيز...اكتشفت كأنَّني أعرفك منذ زمنٍ طويلٍ، لمحتُ في عينيك حزني... شعرت هيفاء بأنَّ سُحباً سوداء من الضياع تحتضنها...لكنَّها قاومت حتَّى لا تشعر باليأس[xvi]..."

4. ثنائية الشرق والغرب: تبرز ثنائية الشرق والغرب في انتقال هيفاء إلى فرنسا واكتشافها لثقافة مختلفة. "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه، وعليك الاندماج في هذا المجتمع الجديد[xvii]."

الخاتمة:

تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك، بنيةً سرديةً متكاملة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة واللغة لتشكل عالماً روائياً غنياً بالدلالات. من خلال المنهج البنيوي، يمكننا الكشف عن العلاقات الداخلية التي تربط عناصر الرواية، وفهم القوانين التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية مهمة، وتقدم رؤيةً عميقةً للواقع السوري المعاصر وتجربة الاغتراب والبحث عن الذات.

***

دراسة نقدية بقلم: منذر فالح الغزالي

بون/ ألمانيا الاتحادية في 4/5/2025

........................

[i] ياسمين سومري ص 18

[ii] ياسمين سومري ص15

[iii]  ياسمين سومري ص14

[iv] ياسمين سومري ص26

[v] ياسمين سومري ص16

[vi][vi] ياسمين سومري ص28

[vii] ياسمين سومري ص25

[viii] ياسمين سومري ص34

[ix] ياسمين سومري ص82

[x] ياسمين سومري ص34

[xi] ياسمين سومري ص11

[xii] ياسمين سومري ص63

[xiii] ياسمين سومري ص 31

[xiv] ياسمين سومري ص16

[xv] ياسمين سومري ص23

[xvi] ياسمين سومري ص154

[xvii] ياسمين سومري ص63

 

الرؤية الفكرية والجمالية في "المجنون وبنت الحبر الناكرة" لِـ مجيدة محمدي

القصيدة التي بين أيدينا ليست مجرّد نص شعري، بل مرآة ناطقة لعلاقة الإنسان – لا الشاعر فحسب – مع اللغة، مع المعنى، مع الخوف، ومع فكرة الخلق ذاتها. إنها ليست فقط قصيدة عن الشعر، بل عن ذلك الصدع الخفيّ الذي يتكوّن في الروح حين تحاول التعبير عما لا يُقال، عن تلك الولادة المؤلمة لكل نص، التي لا تتم إلا على هيئة خيانة، أو على شفير الجنون. من هنا، تتجاوز القصيدة إطارها الجمالي لتُلامس بعمق أسئلة الإنسان الكبرى حول هويته، حريته، وحدود قدرته على الفعل والتعبير. "المجنون وبنت الحبر الناكرة" ليست قصيدة وصفية، بل ذات طابع درامي داخلي، تتصارع فيه الشاعرة مع النص الذي تكتبه، ويبدو في كل سطر أنه يكتبها أكثر مما تكتبه.

تبدأ القصيدة من صورة مقلقة: "أبجديةٌ مكسورة، / تزحف على أطرافها كالعقارب". الأبجدية، أداة الشاعر الأولى، توصف بأنها مكسورة، زاحفة، سامة. التشبيه بالعقارب لا يوحي فقط بالخطر، بل بالانفلات، بالسمّ الذي يسري في اللغة حين لا تكون تحت السيطرة. وحين تقول: "كلّما رتّبتها، / عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق"، فهي لا تعبّر عن خلل فني، بل عن انهيار العلاقة بين الإرادة والإنتاج؛ إذ أن القصيدة، حتى حين تُرتّب، تعود إلى حالتها الفوضوية، كأنها تحكمها قوانين داخلية لا تستجيب لنية الكاتب.

ثم تنتقل الشاعرة إلى وصف الكلمات لا كرموز، بل ككائنات عارية، مجروحة، متمردة: "بعض الكلماتِ، / تأتي حافية القدمين، / تُدمي السطور، / وتغادر بلا وداع". هنا تتجلى الرؤية الجمالية للشاعرة التي ترى في اللغة كائنًا يتحرّك بحرية، خارج منطق الطاعة. الكلمات تُدمي النصّ ثم ترحل، بلا اعتذار، بلا اعتراف، وكأنها لا تنتمي. إن الشاعرة – عبر هذا التصوير – تعبّر عن مدى هشاشة الإبداع، عن قصور السيطرة، عن التوحّش الذي قد تتلبّسه الكلمات حين تخرج من رحم القلق.

وتتبلور الرؤية الفكرية للقصيدة حين تقول: "كأنها تعرف أن لا قلبَ لي / ولا قبرَ لها". هذه الثنائية الحادة تكشف تمزّقًا عميقًا: ذات كاتبة بلا عاطفة، وكلمات لا تجد مستقرًّا. فالشاعرة تُحيلنا هنا إلى تجربة شعورية قاسية؛ إنها لا تكتب من الحب، بل من الفراغ، ومن الشعور بالتيه واللا انتماء.

ثم تُجسَّد القصيدة في صورة أنثى، لا على سبيل التأنيس البلاغي فحسب، بل ككيان نفسي عنيد: "هناك، في ركنٍ خفي من الرأس، / تجلس القصيدةُ، / تقضم أظافرها بأسنانها". إنها صورة لامرأة قلقة، عصبية، تختبئ في العقل، لا تخرج إلا حين تشاء. وتتابع: "تضحك... تهمس للمداد، / 'لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء... / أنا الأنثى التي لا تلين'". بهذه العبارة، تعلن القصيدة عن تمرّدها، استقلالها، ورفضها للتشكيل حسب إرادة الكاتب. وهذا التصوير يعطي للنص بعدًا فلسفيًا عميقًا: القصيدة ليست طيّعة، وليست انعكاسًا لرغبة، بل كيان مضاد، ذو إرادة خاصّة.

في لحظة اعتراف نادرة، تقول الشاعرة: "هي تعرف... / أنني أكتبها، / لا حباً... / بل لأنني أخافها". هنا تنقلب العلاقة تمامًا، إذ يصبح الفعل الإبداعي وليد الخوف لا الإلهام. القصيدة تُخيف لأنها تجرّد الذات، وتكشف عمقها، وتفرض عليها إعادة النظر في وجودها، ولأنها – كما ستظهر لاحقًا – تشبه الشاعرة نفسها في تمردها وتشرّدها.

وتتتابع الصور التي تدعم هذا البعد، منها على سبيل المثال: "في كل بيتٍ منها / رائحةٌ تشبه الخيانة". فكل مقطع من القصيدة يحوي طيف خيانة، ليس بالضرورة خيانة حبيب، بل ربما خيانة الذات، خيانة الأمل، خيانة الفكرة الأصلية التي تشوّهها اللغة حين تترجمها. وهذه الخيانة تتجلّى في شكل بصري حاد: "أحرُفُها، / كأظافرٍ نَمَت في العتمة، / تخدشني... / ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه". الشعر هنا لا يداوي، بل يخدش. لا يعالج، بل يفتح جراحًا جديدة، ثم يبتسم بلا مبالاة، كما لو أن القصيدة هي الجلاد الجميل الذي يؤذي من دون تذكّر أو ندم.

ويُستمر في إبراز مراوغة القصيدة وتمنّعها، حيث تقول: "كلّما أوشكت أن تكتمل، / تمدّ ساقاً من الفراغ، / وتفرّ". إن لحظة الاكتمال تُقاطع دائمًا بفعل الغياب. القصيدة تقف عند حافة التحقّق، لكنها تهرب، تترك الشاعرة في منتصف المعنى، كمن "يعدّ المقاطع، / كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة". هذه صورة ذات بُعد شعري وفكري في آن؛ فعدّ المقاطع لا ينتج معنى، بل يستحضر عبثية التشريح دون روح، كأن القصيدة، حين تُفرض بالقوة، تصبح جثة بلا حياة.

ويبلغ التوتر ذروته حين تقول: "كلّما ناديتُها باسمٍ، / قالت: لستُ أنا. / كلّما خلعتُ لها المعاني، / ارتدت قناعاً آخر". هنا يتجلّى جوهر الرؤية الفكرية في النص: المعنى دائم المراوغة، لا يُمسَك، لا يُعرَّف، لا يُوضع في قالب. اللغة تخدع، وتتنكّر، وتُنتج من السؤال ألف سؤال، ومن الوجه ألف قناع. فالقصيدة لا تصل إلى يقين، بل إلى "سؤال جديد" يُغرس في الجبين، في استعارة توحي بالألم والدوام.

وفي مفارقة وجودية قاتلة، تعترف الشاعرة أن القصيدة لا تزورها في الحلم، بل "تنام في قلمي، / وتستيقظ حين أنام". هنا نكتشف الوجه الآخر للقصيدة: ليست حُلُميّة، بل واقعية، ليلية، تظهر حين يغيب الوعي، وتتحكّم بالأداة (القلم)، فتكتب من تلقاء نفسها. هي كينونة مستقلة تسكن الأداة وتفرض سلطتها.

أما النهاية، فهي اعتراف ملؤه الألم والفقد: "كتبتُ غيرها، / أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة، / لكنها... / هي وحدها / اللعنةُ التي تشبهني". الشاعرة تعلن أنها كتبت الكثير، لكنها لم تُشبه إلا هذه، لأنها قصيدة تشبهها في وجعها وتشرّدها وتمرّدها. إنها قصيدة ليست نتاج إلهام، بل لعنة، ليست بنتًا مطيعة، بل مرآة مكسورة للذات.

في الختام، يمكن القول إن الرؤية الفكرية في هذه القصيدة تقوم على تقويض مركزية الكاتب، لصالح قصيدة تتمتع بوعي ذاتي، وتمرّد وجودي، ولا تخضع للعرف أو المعنى المستقر. أما الرؤية الجمالية، فهي تقوم على صور مدهشة، مليئة بالعنف الرمزي، والمفارقة، والخوف، مما يجعل من النصّ تجربة وجودية وجمالية مكثّفة، تحمل في طياتها السؤال الأكبر: من يكتب من؟ الشاعر أم القصيدة؟

***

بقلم: سمير اليوسف

Alyusef Sameer

.......................

المجنون وبنت الحبر الناكرة

بقلم: مجيدة محمدي

***

أبجديةٌ مكسورة،

تزحف على أطرافها كالعقارب،

كلّما رتّبتها،

عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق.

بعض الكلماتِ،

تأتي حافية القدمين،

تُدمي السطور،

وتغادر بلا وداع...

كأنها تعرف أن لا قلبَ لي

ولا قبرَ لها.

هناك، في ركنٍ خفي من الرأس،

تجلس القصيدةُ،

تقضم أظافرها بأسنانها،

تضحك... تهمس للمداد،

"لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء...

أنا الأنثى التي لا تلين "

هي تعرف...

أنني أكتبها،

لا حباً...

بل لأنني أخافها.

في كل بيتٍ منها

رائحةٌ تشبه الخيانة،

أحرُفُها،

كأظافرٍ نَمَت في العتمة،

تخدشني...

ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه.

كلّما أوشكت أن تكتمل،

تمدّ ساقاً من الفراغ،

وتفرّ،

تتركني أعدّ المقاطع،

كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة .

كلّما ناديتُها باسمٍ،

قالت: لستُ أنا.

كلّما خلعتُ لها المعاني،

ارتدت قناعاً آخر،

وغرست في جبيني سؤالاً جديداً.

إنها هي...

الناكرة،

التي لا تزورني في المنام،

لكنها تنام في قلمي،

وتستيقظ حين أنام.

كتبتُ غيرها،

أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة،

لكنها...

هي وحدها

اللعنةُ التي تشبهني...

 

شكلت رواية يولسيس أوعوليس كما ترجمتها بعض دور النشر الى العربية، كواحدة من روائع الأدب العالمي التي تركت بصمتها على الأجيال اللاحقة، وشكلت إنعطافاً في الأعمال الأدبية فيما بعد، كما صنّفها النقاد في القرن العشرين، وتعد  أبرز أعمال الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، حيث تم نشرها في عام 1922، إذ تقع أحداث الرواية في يوم واحد في حياة بطل الشخصية الرئيسية، ليوبولد بلوم، فهي تعتمد على هيكل زمني دقيق وتقنيات أدبية متقدمة وعالية الدقة. فإذا أردنا أن نحدد الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية عوليس، لابد من الإشارة الى هيكل الوقت، تمتاز هذه الرواية بتقنيات هيكل الوقت المعقدة والمتداخلة الأحداث، وتكون هذه الأحداث في خلال يوم واحد فقط، مما تتضمن تداخلًا ضمنياً مع الذكريات والتفكيرات الداخلية للشخصيات، ليخلق تأثيراً زمنيًا فريدًا، كذلك يعزز عمق السرد وفي معنى أعمق دون ترهل في ثيمة النص والبناء الروائي.

لقد إستخدم جيمس جويس تقنية السرد الداخلي للكشف عن تفكير الشخصيات ومشاعرها الداخلية، مما يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الرواية، ذلك أن جيمس جويس يتقن الأسلوب اللغوي بشكل استثنائي، ويعد أسلوبه اللغوي غنيًا بالرموز والتشبيهات، إذ يُظهر اللغة بدقة مشاعر الشخصيات والتفاصيل الدقيقة للبيئة التي يعيشون فيها. فالرواية تحتوي على العديد من الرموزالتي تضيف طبقات إضافية من الدلالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن نهر الليفي يمثل الحياة والتغيير وعدم الاستقرار، حيث يمنح الكاتب صورة تستحق التوقف عندها لمعنى التغير في طبيعة النهر التي يمزج فيه الحياة والتغيير من جهة، وحالة عدم الإستقرار من جهة أخرى كمعادل موضوعي في شخصية البطل القلقة.

كما تتناول الرواية مواضيع مثل الحب والوحدة بشكل فنتازي، وتظهر علاقة بطل الرواية ليوبولد بلوم وزوجته (مولي) بأسلوب معقد، فالكاتب يسعى أن يضع الأثنين تختلط عندهما مشاعر الوحدة والإغتراب، دون المساس بهارمونية تصاعدية في حبكة خيوط الرواية. فرواية (عوليس) تجريبية بشكل كبير في هيكلها وأسلوبها، وتمزج بين الواقع والخيال بطريقة مبتكرة، وتعرض تجارب جديدة في الكتابة، يكاد تفرّد بها جويس لوحده، كما يمكن أن يكون فهم هذه الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية (عوليس) مفتاحًا لتقدير عمق وتعقيد هذه الرواية الأدبية الكلاسيكية. وقد شكك البعض في الحالة النفسية لشخصية الكاتب، إلا إنه ليس هناك دليل قاطع يشير إلى أن جيمس جويس، كان مريضًا نفسيًا، إذ كان معروفًا بتأثير أعماله الأدبية بتفكيره العميق ولغته الغنية، ولم يكن هناك تأكيد مستند أو أدلة تشير إلى أنه كان يعاني من مشاكل نفسية بشكل خاص.

تقنيات الرواية والدلالات الفنية

 إن الرواية تعدّ واحدة من أكثر الأعمال تعقيدًا وعمقًا في الأدب العالمي، تم تأليفها بأسلوب فريد ومتشابك، وتحتوي على تجارب أدبية متنوعة، كما تستند إلى ملحمة هوميروس وتروي حكاية بطل الرواية ليوبولد بلوم، فضلاً عن تميّزها بتعقيداتها اللغوية وهيكلها الفني. فالمتلقي للرواية يلاحظ تسارعاً في الأحداث أو إنخراطًا عميقًا في النص، وقد يكون ذلك نتيجة للأسلوب الأدبي الفريد الذي أختاره جويس للتعبير عن أفكاره ورؤيته الفنية، وليس بالضرورة بسبب مشاكل نفسية في شخصيته.

لقد رسم جميس جويس بطله ليوبولد بلوم بتعقيد كبير، حيث يُظهر جويس الطبائع المتعارضة لشخصية بطله، مما يجعلها بنفس الوقت شخصية غنية ومعقدة، كما تظهر شخصية بلوم في الرواية، كشخص يفكر بشكل عميق ويتأمل في مختلف جوانب الحياة، حيث تتوزع ويتنوع تفكيره بين القضايا العامة والخاصة.

كما يشير جويس الى تعدد الهوايات في شخصية البطل، وهو يعطي هذه الشخصية كرجل متنوع الاهتمامات والهوايات، وهو ينتمي الى عدة جوانب من المجتمع وأفراده الذي يحيطون به من كل المستويات والمراتب الفكرية والطبقات الاجتماعية العادية من شرائح الواقع الذي يعيشه من حوله. ففي فصول الرواية تجد بطله، كيف يتأثر بالبيئة المحيطة به في العاصمة دبلن، وكيف يتفاعل مع الناس والأماكن بطرق مختلفة، مما يلقي الضوء على دور البيئة وتأثيرها في النفس البشرية.

إن جويس، يقدم من خلال شخصية بطله رؤية معقدة للحياة، حيث يتعامل مع مفاهيمها، مثل الوجود والزمان بطرق فريدة ومعقدة. إذ تكمن القوة الرئيسية والبعد الدرامي في كتابات جيمس جويس، من خلال تصويره للأنفعالات الانسانية التي يرسمها في أبطاله،  وما يصطلح عليه (بتقنية تيار الوعي) التي تسمح بتدفق الأفكار ( Stream of Consciousness ) حيث أعتمد جويس في يوليسيس بشكل رئيسي على تقنية تيار الوعي والمشاعر الداخلية للشخصيات، كما تجري في ذهن الإنسان، دون ترتيب منطقي أو تسلسل تقليدي.

تُستخدم هذه التقنية بشكل خاص في تتبع أفكار ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس، بطلي الرواية، وتكشف عن أعماقهما النفسية بأدق التفاصيل. فضلاً عن (التعدد الأسلوبي) فكل فصل في الرواية يُكتب بأسلوب مختلف، من السرد الواقعي الى المحاكاة الساخرة للنثر الصحفي، أو التمثيل المسرحي أو اللغة العلمية، أو التهكم الأدبي، ما يجعل الرواية مختبراً أسلوبياً وتجريبياً بأمتياز. هذا التعدد ليس تزيين لغوي بل يعكس تغيّر الوعي والزاوية التي يُنظر بها الى الأحداث.

أما من الناحية الزمانية والمكانية، تجري أحداث الرواية خلال يوم واحد فقط يوم 16 يونيو 1904، في مدينة دبلن، ومع ذلك فأن هذا الإطار الزمني الضيق يُفتح على مصراعيه من خلال التداعيات والاسترجاعات والتخيلات الذهنية، مما يجعل الزمن الداخلي للرواية أكثر إتساعاً وعمقاً. أما مدينة دبلن، فقد حوّلها جويس الى مدينة أسطورية، ووثقها بجغرافيا دقيقة تعادل في رمزيتها طروادة أو أثينا القديمة.

إن رواية يوليسيس مبنية على هيكل ملحمي يُحاكي الأوديسة لهوميروس. فكل فصل يقابل مغامرة من مغامرات أوديسيوس، لكن جميس جويس، يحوّلها الى معادل يومي عادي، حيث يتحول البحر الى شوارع دبلن، والسفر الملحمي الى جولة في الحانات أو الأسواق. هذه المفارقة بين الحدث العادي والرمز الملحمي تُكسب الرواية طابعاً مزدوجاً من السخرية والتعظيم.

الإنسان ككائن يومي وأسطوري وهوية وأنتماء

إن الرواية في جوهرها، تُعيد لنا يوليسيس بتعريف البطل، إذ لم يعد البطل هو الفارس أو الملك أو الإله، بل هو الإنسان العادي (البطل ليوبولد بلوم) الموظف البسيط اليهودي، الغريب عن المجتمع، الذي يخوض رحلته الذاتية في عالم ملئ بالتناقضات. هذا التحول من البطولة الكلاسيكية الى (بطولة الحياة اليومية) هو جوهر الحداثة.  فالرواية تتناول أسئلة الهوّية الشخصية والوطنية والدينية، بلوم، كيهودي في مجتمع إيرلندي كاثوليكي، يمثل الآخر، والمهمش، والمنفي داخل وطنه. بينما يمثل ستيفن ديدالوس صراع المثقف مع السلطة السياسية والدينية، وبحثه عن (أب رمزي) أو مرشد روحي.

ففي الرواية، تصبح اللغة بطلة بحد ذاتها، تتشكل وتتغير وتتلاعب بالواقع. حيث يتعامل جويس مع اللغة كخامة قابلة للنحت والتشكيل، مما يجعله من أبرز مجددي التعبير الأدبي. هذا الاستخدام المفرط للغة يوصل الى مفارقة التي هي؛ كلما غاصت الرواية في التفاصيل، أقتربت من المطلق والكوني.

إن قراءة رواية يوليسيس ليست نصاً يُقرأ مرة واحدة، بل عمل مفتوح على قراءات متعددة ومتغيرة، قابلة الى التأويل اللامحدود، مما يتيح لكل قارئ أن يخلق تجربته الخاصة به. أما كثافة الإشارات التأريخية والأسطورية والدينية واللغوية تجعل الرواية بمثابة متاهة سردية تحتاج الى تأمل دائم.

يوليسيس ليست مجرد رواية، بل مشروع أدبي وفلسفي وفني في آنٍ معاً. إنها تحدٍ للقارئ، ومغامرة فكرية للكاتب، وتجسد لحلم الحداثة في أن يكون الأدب مرآة عميقة للواقع والخيال معاً. إنها ومن خلال التداخل المعقد بين التقنيات السردية والدلالات الرمزية، قدّم جويس عملاً، ما يزال الى اليوم موضوعاً للبحث والدراسة والجدل والإعجاب.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بين تفكيك البنية وتأسيس الرؤيا..  قراءة نقدية في نص مرشدة جاويش

The Spring of Estrangement”: Fragments of the Feminine Self between Structural Deconstruction and Establishing the Vision – A Critical Reading of Morshida Jawish’s Poem

التمهيد التأويلي: في قصيدتها "نبعة التغريب"، لا تكتب الشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعرياً تقليدياً، بل تنتج نصاً مفتوحاً يتماهى مع قصيدة النثر الحديثة، التي – وفق توصيف سوزان برنار –

"تتوافق مع العزلة، تكتب من الهامش وتمنح اللا معنى شكلاً بنيوياً ."

إنها قصيدة لا تكتفي بتصوير الغربة بوصفها تجربة خارجية، بل تنقلها إلى مستوى وجودي، حيث تصبح الذات الأنثوية مأخوذة بقلق التمزق والتشتت الإدراكي.

تتجه هذه القراءة إلى مساءلة مستويات النص الجمالية والدلالية، ضمن مقاربة مزدوجة: تفكيكية تقوض الثبات البنيوي، وأنطولوجية تتقصى صيرورة الذات من داخل العزلة والغياب.

بنية القصيدة وغياب المركز: تتأسس البنية الداخلية لقصيدة نبعة التغريب على تفكيك النظام الشعري التقليدي، عبر الانقلاب على مفهومي الخطية الزمنية والمركز الدلالي. لا يحضر الزمن بوصفه امتداداً سردياً، بل كحالة مائعة، غير محكومة بالتتابع أو العلة. منذ مفتتحها تقول الشاعرة:

"أصداء لأورادٍ سقاها العشق..."

وهي جملة تفتقر إلى اكتمال نحوي ودلالي، ما يعكس استراتيجية تأجيل المعنى (différance)، كما نظر لها جاك دريدا حين قال:

"المعنى ليس ثابتاً، بل يتولد عبر الفروق والانزياحات، وكل نص يحمل تناقضه في داخله."

هنا يتعذر الإمساك بمركز دلالي صلب، إذ تمضي القصيدة في تفكيك بنيتها عبر سلاسل من الصور المنفلتة، كقولها:

"الجرح أوسع من ظلال الشمس"

حيث لا تعمل الاستعارة على التوصيل، بل على زعزعة مرجعية المعنى، وخلق فجوة تأويلية. فـ"الجرح" يتجاوز إشراق "الشمس"، في دلالة على ألم تتسع رقعته خارج حدود الفهم أو الإضاءة. هكذا، يتبدّى غياب المركز لا كفقد، بل كبنية جمالية تعكس تهشيم المعنى وتمرد الذات على انتظامه.

الرؤية الوجودية – الذات في مرآة الغربة: تنفتح قصيدة نبعة التغريب على أفق وجودي يتجاوز تمثيلات الغربة بوصفها تباعداً مكانياً، لتغدو الغربة في النص تجربة روحية عميقة، تؤطر الذات داخل دائرة من العجز الإدراكي والانكسار الشعوري. فالشاعرة تكتب الغربة لا كمفارقة مكان، بل كشرط أنطولوجي يتجلى في قولها:

"فالشمس باردة... وغربة روحي الثكلى يلاحقها الوهن..."

هنا تتلاشى دلالات النور والدفء لتحل محلها صورة الانطفاء والانهيار الداخلي. يغدو الإشراق رمزاً ميتاً، وتتحول الرغبة إلى سكون وجودي، يتناغم مع ما يسميه مارتن هايدغر:

"الانكشاف على العدم بوصفه شرطاً لوعي الكائن لوجوده."

في هذا السياق، تظهر الذات الشعرية كمعلقة بين ثنائية الفقد والانبعاث، تصوغ وجعها لا بوصفه معاناة فحسب، بل كحالة إبداعية تنتج رؤية. تقول:

"أنا الوحيدة، أرتقي بالهم موج الغارقين..."

وهي عبارة تنقل الذات من موقع الانكسار إلى مقام التأمل، حيث الألم ليس نقيضاً للحياة، بل أحد شروط تشكلها. هكذا لا تتماهى الشاعرة مع الحزن، بل تعيد تشكيله كأداة لفهم الذات والعالم.

اللغة الرمزية وصراع الإدراك: اللغة في "نبعة التغريب" لغة متوترة، تتأرجح بين الحسي والرمزي، وتبني عوالمها من مفردات الطبيعة والأصوات (النخلة، الصقيع، الناقوس، اليمامة). تتجلى في قولها:

"كيف أراك؟ حين أراك يمامة مذبوحة، بالدم تمسح كل آثام البشر..."

الصورة هنا لا تكتفي بتمثيل الضحية، بل تمنحها وظيفة تطهيرية تعيد للوجود شيئاً من التوازن. وهذا يتقاطع مع ما تراه جوليا كريستيفا في كتاباتها عن الكتابة الأنثوية:

"الكتابة تعبير عن ذات مهددة، تفكك النظام الرمزي وتعيد بناءه من موقع الهامش."

الأنوثة كمنفى ورؤية صوفية: القصيدة تعبر عن ذات أنثوية تغترب عن عالمها، لكنها لا تستسلم. بل تصوغ جمالية الخسارة كطقس تطهيري. تقول:

"ينتظر شمّاعة للعاجزين على الوصول..."

وفي موضع آخر، تستحضر البعد الصوفي:

"رابعة اللقاء يدعو فراشات الترقب..."

هنا تحضر رابعة العدوية كأيقونة صوفية، تعكس بعداً رؤيوياً  يعيد تعريف الألم بوصفه طريقاً للوصال.

أفق المقارنة – تشظيات الذات في التجربة الشعرية العالمية:

لا تنفصل تجربة "نبعة التغريب" عن الامتدادات الكونية لثيمات العزلة وتفتت الذات في الشعر النسوي العالمي، حيث تتقاطع مع ما نجده مثلاً في شعر سيلفيا بلاث، التي كتبت عن الانهيار الداخلي كمرآة لتمزقات الوعي الأنثوي الحديث، أو في قصائد إميلي ديكنسون التي تحول العزلة إلى فضاء تأملي حميم. ففي كلا التجربتين، كما في نص الشاعرة مرشدة جاويش، لا تطرح الذات بوصفها كياناً منجزاً، بل ككائن قيد التشكل، يستولد رؤيته من داخل الألم والانفصال. هذا التوازي يبرز كيف تتحول اللغة إلى آلية مقاومة، تكتب الهامش وتعيد بناء الهوية خارج المركزيات السردية والاجتماعية.

وبالتالي يمكن القول أن  "نبعة التغريب" ليست نصاً رثائياً للذات بقدر ما هي مشروع شعري يعيد بناءها من داخل الانكسار. فالشاعرة مرشدة جاويش تكتب الغربة كفعل وجودي، يعيد للذات وعيها عبر لغة متوترة، مشبعة بالصور والانزياحات. يتشابك في النص البعد التفكيكي، حيث يتوارى المعنى خلف التشظي والاختلاف، مع البعد الأنطولوجي الذي تسائل فيه الذات وجودها من قلب العزلة. وهكذا، تتجلى القصيدة في نهايتها كتمثيل شعري لـ"الغياب الحي"، حيث لا يكون الغياب نهاية، بل أفقاً مفتوحاً للانبعاث الشعري، ونداءً داخلياً للحياة من تخوم الوجع والوعي

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

تشكيل الحروف هو وضع العلامة التى تمثل حركة نطق الحرف، ووضعها على الحرف الأخير هو ما يمثل الموقع الإعرابى للكلمة. ولم يكن العرب يعرفون هذا التشكيل ولم يكونوا فى حاجة إليه، فالعربى بسليقته اللغوية الفذة ينطق ويقرأ المضموم مضمومًا والمفتوح مفتوحًا والمكسور مكسورًا دون خطأ واحد. ذلك بالملكة اللغوية دون درس أو تقعيد، تلك السليقة هى التى أخذنا منها التقعيد، فالقدماء كانوا يتحدثون بالسليقة دون خطأ، أما نحن فنتحدث بما يطابق القواعد ونخطىء. العربى القديم يتحدث دون استحضار وبذل مجهود، أما نحن فنستجمع ونستحضر كل قواعد اللغة فى رؤوسنا لكى نتحدث لغة سليمة محاولين ألا نخطئ.

ولمَّا تفشى اللحن والخطأ فى اللغة وضعفت الملكة العربية، احتاج القارئ لوضع علامات على الحروف تبين هيئة نطق الحرف. ومن ذلك يمكننا أيضـًا أن نضع تعريفـًا آخر لتشكيل الحروف، وهو: العلامات التى تبين هيئة نطق الحرف. وكان الباعث الأول فى ذلك هو الحفاظ على الموقع الإعرابى والنطق السليم لحروف القرآن الكريم، وكما نعلم أن حركة واحدة لو اختلفت لتغير المعنى. فلو قلت أو نطقت: ما أحسنَ المساء، لاختلف المعنى عن قولك أو نطقك: ما أحسنُ المساء. فالأولى بفتح النون صارت جملة تعجبية. أما الأخرى بضم النون صارت استفهامية، فصارت تحتاج إلى جواب، فإن قيل أو نـُطق: ما أحسنُ المساء ؟ لقيل: الهدوء، نجومه، سكونه، خواطره... أى شىء من ذلك.

واستدعى ذلك أيضـًا ما فى القرآن الكريم من تقديم وتأخير، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر / 28]. فلولا التشكيل الذى نقل إلينا الآية على معناها الصحيح، لتوهمنا أن الله هو الذى يخشى من العلماء، لكن "الله" منصوبة، فنعلم أنها مفعول به مقدم، و" العلماء " مرفوعة، فنعلم أنها فاعل مؤخر، إذن العلماء هم الفاعلون، فهم الذين يخشون الله تعالى، هم الذين قاموا بفعل الخشية. من هنا باتت الضرورة ملحة لوضع علامات تمكننا من النطق الصحيح والقراءة الصحيحة لما هو مكتوب.

وكان السبق فى ذلك الابتكار يرجع إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى المتوفى 170هـ. إذ ابتكر أشكالا توضع فوق أو تحت الحرف لتبين هيئة نطقه، فابتكر شرطة توضع أعلى الحرف لتدل على نطقه مفتوحًا، وشرطة توضع أسفل الحرف لتدل على نطقه مكسورًا. وفتحتان لتدلان على تنوين الفتح، وكسرتان لتنوين الكسر. والواو الصغيرة للضم لأن الواو هى أكثر الحروف مناسبة للضم فاختاره رمزًا وعلامة للضم، وتكرارها يدل على تنوين الضم. والهاء المعقودة للحرف الساكن.

فهذه العلامات أو الأشكال يرجع فضلها إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى، فبهذه العلامات قد حُفظت لنا قوامة اللسان وسلامة اللغة. ومن ناحية أخرى وزاوية أخرى جديدة تمامًا، فإن هذه العلامات قد أسهمت فى تنميق الحروف والخطوط وإكسابها شكلا جماليًا فريدًا، هو بحق لا نراه فى لغة إلا العربية، تلك رؤية فنية وجمالية فريدة تقف جنبًا إلى جنب جوار الغرض والهدف الرئيس وهو حماية ووقاية لسان القارىء من النطق الخاطىء.

وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة والمعرفة الأصولية فيما تعلق بتشكيل الحروف وفضل العالم اللغوى الكبير الخليل بن أحمد، مبتكر وصاحب فكرة تشكيل الحروف. وللقارىء الكريم خالص التحية والمودة.

***

د. أيمن عيسى - مصر

تُعدّ رواية القربان للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان واحدة من أبرز روايات الواقعية الاجتماعية في الأدب العربي، إذ ترصد بانتباه تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين في منتصف القرن العشرين، وتغوص في أحوال المهمّشين والمغلوبين على أمرهم في مواجهة تحولات قاسية، سياسية واجتماعية. ومن بين المقاطع اللافتة في الرواية، يأتي مشهد الزورخانة بوصفه تصويرًا كثيف الدلالة لمكان شعبي، يتجاوز كونه فضاءً رياضيًا، ليتحول إلى رمز للهروب المؤقت، والتشبث بما تبقى من توازن داخلي.

يبدأ المشهد بعبارة بسيطة: “راح أغيب كم دقيقة”، لكنّ هذه الجملة، رغم بساطتها، تعبّر عن نزعة داخلية لدى الشخصية للابتعاد عن ضجيج الحياة. فالخروج من المقهى إلى الزورخانة ليس تحركًا عشوائيًا، بل هو فعل انسحاب رمزي من واقع خانق إلى مكان أكثر سكينة، وأكثر التصاقًا بالجسد، وربما بالذكريات أيضًا. هنا، يصبح “الغياب” لحظيًا، لكنه غني بالمعنى.

الزورخانة، كما يصفها المؤلف، ليست صالة رياضية بالمعنى الحديث، بل بيت قديم مجهول الأصل، تنهشه الرطوبة والمطر، وتكسوه طبقة من الإهمال والعزلة. وصف المكان يأتي بتفاصيل دقيقة: الجفرة المثلمة، الدكة الطينية، الحصير المهلهل، والسقف الذي يتسرب منه المطر. كلّ عنصر من هذه العناصر يحمل دلالة خفية. الجفرة، التي كانت في الماضي مركز الحركة والنشاط، أصبحت مهجورة، كأنها استعارة لحالة المجتمع أو لروح الإنسان التي أصابها الوهن. المطر الذي “ينقع الجدران” و”يتسرب من خلال السقف” لا ينظف المكان، بل يضاعف عزلته وانهياره.

اللافت في هذا المشهد أنّ المؤلف لا يصف الزورخانة كفضاء خاص ببطل الرواية وحده، بل يجعلها تنتمي للمجتمع المحلي بأكمله. إنّها “زورخانة المحلة”، تمامًا كما أنّ مقهى “دبش” هو مقهى أهل الطرف. الزورخانة هنا تتحول إلى مؤسسة مجتمعية، لكنها ليست رسمية أو منظمة، بل عفوية بسيطة صادقة. إنها من الأماكن التي تحافظ على طابعها الشعبي، والتي يلجأ إليها الناس متى أحسّوا بثقل أجسادهم أو ضيق صدورهم. بهذا المعنى، يصبح المكان ذاته نوعًا من “القربان”، تضحية بالوقت والجهد والجسد في سبيل الحصول على قدر من السلام الداخلي.

أما مستوى السرد، يتعامل غائب طعمة فرمان مع المكان بوصفه شخصية موازية، لا تقلّ حيوية عن الشخصيات البشرية. فهو يمنح الزورخانة ملامح حسية واضحة، ويجعل القارئ يشعر بخشونة جدرانها، وبرودة أرضها، وبروائحها القديمة. بل إنه، من خلال هذه التفاصيل، يزرع إحساسًا بالزمن الذي مرّ عليها، وكأنها شاهد على تحول الأجيال والمجتمع.

ما يميز هذا المشهد أيضًا هو ارتباطه العميق بالثيمة العامة للرواية: ثيمة التآكل والبقاء. في عالم يبدو وكأنه يسير نحو التفسخ، تتشبث الشخصيات بالأماكن التي تمنحها شيئًا من الثبات. الزورخانة، رغم هشاشتها، تمنح بعض الشخصيات لحظة صدق مع الجسد، مع التعب، وربما مع الذاكرة. ممارسة التمارين فيها ليست فعلًا رياضيًا فحسب، بل طقسًا وجوديًا يعيد للإنسان صلته بالأرض وبنفسه.

 إنّ مشهد الزورخانة في القربان لا يمثل فقط محطة سردية عابرة، بل يكشف عن البنية العميقة للرواية التي تمزج بين وصف الواقع وتحليل النفس، بين اليومي العابر والدلالة الرمزية. وبهذا، يبرهن الكاتب على قدرته الفذّة في تحويل أبسط الأماكن إلى مرايا كاشفة لحياة بأكملها.

***

فؤاد الجشي

 

قراءة نقدية لقصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع"

 للشاعر جوادغلوم 

***

 المقدمة: بين الحب والخذلان... الوطن في مرآة القصيدة

تُعدّ قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" نموذجًا شعريًا مركبًا يدمج بين البعد الشخصي والسياسي، حيث تتزايد التساؤلات حول الانتماء، والخذلان، والهوية الوطنية التي تُهدد تحت وطأة خطاب سلطوي وطائفي يعيد نفسه من خلال الإقصاء بدلاً من المشاركة. لا يرسم الشاعر وطناً مثالياً، بل يضع القارئ أمام وطن مأزوم يكافح تحت سيطرة قوى الهيمنة، حيث تُفرغ المفاهيم الثورية من محتواها لصالح مشاريع طائفية تتجاهل قيم العدالة والحرية. بهذا الصدد، تتجاوز القصيدة كونها مجرد تعبير عاطفي لتصبح أداة مقاومة رمزية تعيد مساءلة العلاقة بين المواطن والوطن، وتكشف تواطؤ السلطة في تشويه الهويات الجمعية.

في هذا المشهد المعقد، يصوغ الشاعر جواد غلوم لوحة شعرية مليئة بالتوتر الذي يجمع بين العاطفي والسياسي، حيث تظهر علاقة غامضة بين الفرد والوطن متنازعة بين الولاء والخداع. يتأرجح النص بين آمال التغيير والحلم بالعدالة وبين انهيار هذه الآمال بفعل الفساد وعدم السعي للتجديد. تبدو الذات الشاعرة محاصرة بين ولائها العاطفي لوطن يُصارع الأزمات وصدمات الواقع السياسي الذي يعيق الطموحات.

يظهر الوطن في هذا النص ككيان متناقض يجمع بين الحب والاغتصاب، الوجود والغياب. يطلب الشعر لكنه يمنع الاقتراب، يغني للحب ويبقى صامتاً إزاء الجراح. يتغلغل هذا التوتر العاطفي في بنية القصيدة وإيقاعها، حيث يمنح اختيار البحر الخفيف مرونة موسيقية تتناغم مع تقلب المشاعر، لتصبح كل تفعيلة نبضًا متوتراً يحمل في داخله شوقاً مكسوراً وانتظاراً محفوفاً بالقلق.

تتميز القصيدة ببنية لغوية مُحكَمة وأسلوب شعري رقيق يعكس براعة الشاعر في كتابة الشعر العمودي والنثري، مؤدية صوتًا فريدًا يُعبر عن عمق الأزمة السياسية والاجتماعية عبر استعارات الحب والخذلان. هنا لا يُمثل الحب رومانسية عابرة، بل ارتباطاً عميقاً بالوطن، في حين يرمز الامتناع إلى الخذلان السياسي، مما يجعل القصيدة صرخة شعرية تعبر عن آلام أمة تبحث عن طريقها وسط وعودٍ فارغة.

....................

حبُّ امتناعٍ لامتناع

بقلم: جواد غلوم

ما الضـيـرُ لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

فــي لــيـلــةٍ سـاخـــنـةٍ حـالـــمــة

مـا الضيـرُ لـو أحـلامـنا أعشبـتْ

مــزرعــة مـن الرؤى الـهـائمــة

ما الضـيـرُ لــو قـاسيـتـي أيقـظت

فــتـوّتــي الــراقــدةَ الــنــائــمـــة

لــكــنها تــهــزأ مــن شــيــبـــتـي

يا ويــحها مــن وغــدةٍ ظــالــمــة

تريــدنــي أغــزلُ شِــعري لـهــا

ســجّــادة عــجــمــيّــة ناعـــمــة

ودون ان أقــرب مــن قـلــبــهــا

فـالقــرب مـنـهـا وصمـة آثــمــة

يا جذوتي تـمـرح فـي داخـلــي

بـيـن دمــائي فـــورة عــارمـــة

ولــم أذق مــن شـهــدها لـعـقــةً

كـأن روحي فـي الهوى صائمة

مـبـهـمـةٌ، غـامـضـةٌ روحُـهــا

أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة

فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا

عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة

ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً

بــاكــيـةً، آســفــةً ، نــادمـــة

وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها

تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة

وبيـن هـذي الحـال او غـيرها

أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة

يا طـبعـها الاغرب مـن ريحها

لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة

قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني

فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة

صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها

تـثقل صدري صخـرة جاثمة

***

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

عتبة العنوان:

"حبّ امتناعٍ لامتناع": مفارقة تبدأ من العنوان وتعمّق الأزمة

يجسّد عنوان القصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" توتراً تركيبياً ينكشف من اللحظة الأولى عبر ازدواجية المعنى وتفكك العلاقة بين الذات والمجتمع، وبين الفرد والوطن. تكرار كلمة "امتناع" في العنوان لا يُساهم فقط في إيقاع لغوي، بل يكشف عن دلالات ثقيلة لعلاقة معطّلة يغلب عليها التمنّع أكثر من التحقق. تبدأ كلمة "حبّ" بمدخل متفائل، لكنها تفقد بهجتها حين تقترن "بامتناع"، حيث يصبح الحب مجرد شغف مُحبط وتوقعات خائبة وانتظار بلا تحقق.

البنية الكاملة "حبّ امتناعٍ لامتناع" تعكس ليس مجرد تمنّع فردي نابع من معوقات شخصية، ولكن تشير أيضاً إلى عائق جماعي أكثر عمقاً يمثل نظاماً مانعاً. يشير هذا إلى سلطة تُكرّس الانفصال وتُجهِض الحُب في مهده. الامتناع الأول يمكن أن يكون تردداً أمام وطن لا يبادل العطاء، بينما الامتناع الثاني يكشف أزمة أكبر مفروضة من سلطة تُحجم الانتماء، وتستبعد من لا يدخل ضمن حدودها.

في هذا السياق، يُقرأ العنوان ليس كموضوع غرامي فقط، بل كعتبة شعرية ترمز إلى وطن يُغنّى له بينما لا يسمع إليه، يُحب ويُقمع في الوقت نفسه، يُرجى الاقتراب منه وفي المقابل يُطرد المحبّون. بهذا المعنى، يتحول "حبّ امتناعٍ لامتناع" إلى رمز لحالة الانفصام بين الدولة ومواطنيها وبين الحلم الوطني أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

هذا العنوان لا يفتح باب القصيدة فحسب، بل يُعرّي تناقضات مرحلة تاريخية تُراوح بين الرغبة في التغيير وصرامة الواقع الذي يعيد إنتاج الامتناع بطرق مختلفة.

ثنائية المرأة / الوطن التحليل:

يمزج الشاعر بين العلاقة العاطفية والحالة الوطنية، إذ تتداخل صورة الحبيبة مع الوطن بوصفه كيانًا ملتبسًا بين الحنان والخذلان. تتجلى علاقة الحب هنا في تذبذب دائم؛ فتارة يبدو الوطن كحضن آمن، وتارة أخرى كمصدر للألم والتغريب. هذا التداخل يشي بتجربة مركّبة يعيشها الفرد داخل نظام غير مستقر سياسيًا أو اجتماعيًا.

الرموز اللغوية: "إذا، لو، ليت"

ما الضير لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

البيت الأول من قصيدة "حب امتناع لامتناع" يعكس الرمزية العميقة لحالة الشاعر الداخلية والتصارع الوجداني الذي يعيشه. في هذا البيت، يتساءل الشاعر عن الأثر المحتمل لو أن أدوات الشرط في اللغة العربية كالـ «إذا"، "لو"، و"ليت" كانت ذات تأثير أكبر على الواقع.

في العبارة "ما الضير لو كانت 'إذا' جازمة"، يبحث الشاعر في إمكانيات تحقيق الشرط بثبات عبر أداة "إذا"، التي عادةً ما تشير إلى شرط غير محدد. هنا، يتمنى الشاعر لو كانت تحقق ما يُرجى، مُظهرًا رغبته في قدرة أكبر على التأثير في الواقع وتغييره.

أما عبارة "وأينعت 'لو' خضرة دائمة"، ففيها تنعكس أمنيات الشاعر بأن تتحول الفرضيات إلى واقع مستمر من النمو والخصوبة. هذا يشير إلى رغبة دائمة في التحسين والازدهار، في إطار الطموح لتحقيق رفاهية مستدامة.

ولدى قوله "وحققت 'ليت' لقانا معاً"، يُعبر عن الأمل في أن التمني يتحقق، لكي يجتمع مع الوطن أو في حالة من الوحدة القوية. وهذا اللقاء يعبر عن التئام الرغبة مع الحقيقة، وعود الشعب إلى النضال من أجل وطن حرّ ومزدهر.

الرمز المكاني: "ليلة ساخنة حالمة "التحليل:

تُقدّم عبارة "ليلة ساخنة حالمة" فضاءً زمنيًا مشبعًا بالإيحاءات: تُشير إلى لحظة انتظار أو توقٍ إلى التغيير المنشود، تتداخل فيها التطلعات مع الحنين إلى مستقبل يتجاوز الجمود. هذه الليلة، رغم أنها توحي بإمكانية تحوّل قادم، تبقى حلمًا عابرًا لا يتجسد في واقع ملموس، مما يُبرز تعثّر الإصلاح أمام عراقيل بنيوية.

"ما الضيرُ لو أحلامُنا أعشبتْ مزرعةً من الرؤى الهائمة؟"

في هذا البيت، يستحضر الشاعر صورة خصبة مفعمة بالإمكان، حيث تُشبّه الأحلام المزمنة بربيع مفاجئ يعشب في أرض رمزية هي "مزرعة من الرؤى الهائمة".

 تُوحي كلمة "أعشبت" بتجدّد الآمال وسط مناخ قاحل، لكن اقترانها بـ"الرؤى الهائمة" يخلخل هذا الرجاء؛ فالرؤى هنا بلا وجهة أو أفق ثابت.

 تتمازج في الصورة الحلمية لحظة من الحنين إلى إمكان التغيير مع إدراك خفي لصعوبة تجسيده.

 هكذا يُفلت الحلم من القبض عليه، ويتحوّل إلى صورة مترددة بين خصبٍ رمزي وسراب سياسي، مما يعكس طبيعة الانتظار الوطني المعلّق بين الرغبة والإحباط.

الفتوة النائمة / الصحوة المؤجلة التحليل:

 في البيت "ما الضير لو قاسيتِ أيقظتْ فتوتي الراقدة النائمة"، تتجلى صورة مركبة لفتوة جمعية، ترمز إلى وعي تغييري حيوي كان يومًا ما نابضًا في وجدان الجماهير، لكنه رقد بفعل خيبات متراكمة ونظام طائفي قاهر. المخاطَبة في "لو قاسيتِ" تُحيل إلى القوى التغييرية المحتملة، التي لو قاومت وقاست وتجاوزت التردد، لأيقظت تلك الفتوة الغافية. هكذا تتوزع الصورة على مستويات متعددة: الوطن الذي خذل، والنظام الذي قمع، والقوى التي ترددت، لتكون الفتوة رمزًا لطاقات شعبية مكبوتة تنتظر من يوقظها.

"لكنها تهزأ من شيبتي" التحليل:

يشعر الشاعر بأن رموز الوطن - أو الجهات الرسمية - لا تُقدّر مسيرته الطويلة وتجربته، بل تستخف بها. فـ"الشيب" لا يمثل مجرد كِبَرٍ في السن، بل تجربة ومعرفة نابعة من الانخراط في مسيرة المطالبة بالتغيير. تجاهل هذه التجربة يرمز إلى إقصاء رموز النضج من دوائر التأثير.

"يا ويحها من وغدةٍ ظالمة" التحليل:

تُجسّد "الوغدة الظالمة" القوى التي تحبط محاولات الإصلاح، سواء كانت    سلطات أو بنى تقليدية تُمانع التغيير. الأسى الذي يحمله التعبير ينبع من شعور بالعجز أمام استمرار التجاهل والتهميش.

"تريدني أغزل شعري لها سجادة عجميّة ناعمة" التحليل:

 يرفض الشاعر تزييف مشاعره وتحويل صوته الشعري إلى أداة تجميل للواقع القائم. فـ"السجادة العجميّة الناعمة" ترمز إلى الخطاب الأدبي المزخرف الذي يُطلب منه خدمة أجندة رسمية، دون التطرق إلى جوهر الإشكالات الوطنية.

ودون أن أقرُبَ من قلبها فالقربُ منها وصمةٌ آثمة التحليل:

في هذين البيتين، يتّخذ الشاعر موقفًا أخلاقيًا صارمًا، إذ ينأى بنفسه عن كيانٍ فقد براءته. فـ"القلب" لا يُفهم هنا كرمز للحب، بل كوطن دنّسته أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

الحبيبة، التي كانت رمزًا للحلم والانتماء، تتحوّل إلى استعارة لكيان مشوه اختطفته قوى التزييف التي تحترف إعادة تشكيل الوعي تحت عباءة الديمقراطية. لم يعد الاقتراب منها انسجامًا مع الحلم، بل انخراطًا في وهمٍ مُنمّق، ومسايرة لخطابٍ يُعيد إنتاج الغياب كأنه حضور

وهكذا، يعلن الشاعر تمرده الأخلاقي والجمالي؛ رافضًا أن يكون الشعر أداة تجميل لسلطة فاسدة، بل يصرّ على أن تظل الكلمة منحازة للناس، مقاومة للخداع، شاهدة على الحقيقة

"يا جذوتي تمرح في داخلي بين دمائي فورة عارمة" التحليل:

 "الجذوة" هنا رمز للحيوية الفكرية التي لا تنطفئ رغم الإحباط. فهي تعبير عن تمسك داخلي بأمل التغيير أو الإصلاح، وإن ظلّ مؤجلًا أو مكتومًا. "تمرَح في داخلي" تؤكد الحضور المستمر لهذه الفكرة، حتى في ظل واقع معتم.

"ولم أذق من شهدها لعقةً" التحليل:

يشير الشاعر إلى أن التطلعات الكبرى لم تُثمر، فـ"الشهد"، رمز الإنجاز الوطني أو العدالة، ظل بعيد المنال. هذا الإحساس بالحرمان يُعبّر عن فجوة بين الحلم والواقع.

"كأن روحي في الهوى صائمة" التحليل:

الصيام هنا رمزي، يُشير إلى حالة انقطاع وجداني عن الفرح الوطني أو الشعور بالانتماء الحقيقي. فالشاعر يمرّ بحالة امتناع لا عن الحب العاطفي فحسب، بل عن المشاركة الكاملة في وطن لا يحقق طموحات مواطنيه.

"مبهمةٌ، غامضةٌ روحُها" التحليل:

يؤكد الشاعر أن هوية الوطن أصبحت غير مفهومة، وكأنها فقدت بوصلتها. الغموض لا ينبع من غياب المعلومات، بل من التناقضات التي تُحيط بالخطاب الرسمي والممارسة اليومية، ما يُبقي المواطن في حيرة مستمرة.

"أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة"

 هنا يبدأ الشاعر بالتيه والتردد، فـ"الصورة الغائمة" تشير إلى وطن لم يعد واضح الملامح، وطن سُلبت منه رؤيته النقية بفعل الكيان المسيطر. الغموض يعكس واقعًا مشوّشًا يفرض الحيرة على من ينتمي إليه.

"فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا / عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة"

 الغضب هنا لا يبدو غضبًا موجهًا للعدو، بل غضب داخلي، قاسٍ، عشوائي. وكأن الوطن، تحت سيطرة الكيان، ينقلب على أبنائه، فيكون صارمًا في قمعهم مغبرًا في صورته، عاصفًا بلا عدالة.

"ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً / بــاكــيـةً ، آســفــةً ، نــادمـــة"

 هنا يظهر الوجه الآخر للوطن/السلطة، الاعتذار الماكر أو الزائف ربما، وكأنه تذبذب مبرمج بين القسوة والتودد. وقد يكون هذا التصرف تكتيكًا سياسيًا يُستعمل لإخماد الغضب الشعبي أو الالتفاف على المطالب الحقيقية.

"وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها / تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة"

 الوطن هنا لم يعد ثابتًا، بل أصبح قوة قاهرة تجرف وتطيح وتتيه، وكأن المواطن لا يستطيع أن يجد له أرضًا مستقرة داخل وطنه، فالسلطة العابثة حولته إلى مكان طارد، متقلب، لا يُعتمد عليه.

"وبيـن هـذي الحـال او غـيرها / أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة"

 أصبح الوطن فضاءً للتشويش السياسي والنفسي، لا نور فيه ولا أمل. الألوان القاتمة رمز للظلم، للقهر، لفقدان المعنى في حياة سياسية واجتماعية فقدت مشروعيتها.

"ياطـبعـها الأغرب مـن ريحها / لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة"

 تُسند الصفات هنا للحبيبة/الوطن: مزاجها متقلّب، غير مستقر، عبثي. وهذا تلميح إلى سلطة متلونة لا تلتزم بثوابت أو مبادئ، مما يجعل الانتماء الوطني نفسه موضع تساؤل وألم.

"قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني / فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة"

 الزمن الذي مرّ بالشاعر/الجماعة جعله متعبًا، محطّمًا، دون أن تلوح بارقة أمل. و"لا أرى واصلة راحمة" تعني أن لا يد تمتد إليه بالعون من هذا الوطن المختطف.

"صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها / تـثقل صدري صخـرة جاثمة"

 في هذا البيت الذروة، تتحول الحبيبة/الوطن إلى "صديقة مجنونة" – وصف يدل على الخذلان العاطفي والسياسي الكامل. هي وطن/صديقة تثقل الكاهل، تجرح بدل أن تداوي، تصير عبئًا بدل أن تكون مأوى.

الخلاصة:

في هذه القراءة، الحبيبة ترمز إلى الوطن الذي أصبح أسيرًا لكيان متسلّط، فاسد، متقلب، لا يُمكن الوثوق به. لا يرى الشاعر الوطن ذاته كعدو، بل يدينه بوصفه واقعًا مختطفًا، ويحمّل السلطة أو الكيان المسيطر المسؤولية عن هذا الانهيار العاطفي والوطني.

 القصيدة هنا تتحول من خطاب وجداني إلى وثيقة مقاومة رمزية، تعبر عن وجع جمعي أكثر مما تعبر عن أزمة ذاتية، وترفض أي تواطؤ مع الزيف.

البعد السياسي في "حبّ امتناعٍ لامتناع"

تكشف قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" عن بنية نقدية حادة للواقع السياسي، من خلال لغة مشبعة بالتوترات الرمزية والانزياحات الدلالية التي تعكس تعقيد اللحظة التاريخية التي يعيشها الشاعر. في هذا النص، لا يظهر الوطن كمعطى ثابت، بل كمجال محتكر من قبل قوى سلطوية طائفية تسعى لإعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس إقصائية ومعادية للطائفية، في مفارقة تفضح نفاق الخطاب السائد.

سلطة الهيمنة الطائفية:

تتمثل إحدى أبرز الإشارات السياسية في توظيف الشاعر للرموز الطائفية كأدوات للهيمنة. السلطة في القصيدة لا تتجلى فقط في افتقارها إلى العدالة الاجتماعية، بل كقوة تؤدلج الطائفية وتعيد إنتاجه بما يخدم خطابها السياسي، في تجاهل تام للبعد الثقافي والفني والوطني الجامع. بهذا، تصبح الطائفية أداة للشرذمة وتقويضًا لأي مشروع وطني جامع.

الركود التاريخي و"الفتوة الراقدة":

يرمز تعبير "فتوتي الراقدة النائمة" إلى لحظة من القوة الثورية المؤجلة أو المعطلة. إنها ليست فقط طاقة شبابية تم إخمادها، بل تعبير عن جمود سياسي واجتماعي طال أمده، نتيجة سياسات ممنهجة لتغييب الوعي النقدي وقمع الحركات التغييرية. يقترن هذا المعنى بصورة وطن مغيّب، مُكبّل بقيود الخطاب الطائفي الموجّه، الذي يُقنّع فشل المشروع السياسي بخطابات التوبة الزائفة.

اغتراب الوطن وخيانة الذاكرة:

يتجسد الوطن في النص بوصفه كيانًا مأزومًا، ليس فقط بسبب افتقاره إلى الديمقراطية الحقيقية، بل نتيجة تفكك المعنى الأخلاقي والوجداني الذي كان يربط الأفراد به. تتحول العلاقة بين الشاعر والوطن إلى علاقة مشروخة، محمّلة بالخذلان، حيث تتحول رموز الانتماء إلى أعباء نفسية ثقيلة. يشير ذلك إلى تآكل العقد الوطني وانفصاله عن جذوره الثورية الأصلية لصالح ولاءات طائفية موجهة.

دعوة لتغيير رمزي:

القصيدة لا تكتفي بتوصيف الانهيار، بل تزرع بين سطورها رغبة في التغيير الرمزي، حيث يتم استدعاء اللغة الشعرية كأداة لاستنهاض الوعي الجمعي واستعادة مشروع وطني جديد، يتجاوز منطق الهيمنة، ويعيد الاعتبار لفكرة الوطن كمجال للعدالة، والحرية، والتعددية.

إعادة إنتاج الخطاب الوطني في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"

في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"، يُعيد الشاعر تشكيل صورة وطنية مركّبة تتقاطع فيها الذكريات الثورية مع الانكسارات السياسية، ويتحوّل الوطن من فضاء للانتماء إلى كيان مُشوَّه بفعل التسلّط. هذا التحوّل يتم عبر لغة رمزية تمزج بين الحنين الفردي والخطاب الجماعي، ليغدو النص فضاءً تأويليًا يقاوم السائد بهدوء، دون صراخ مباشر.

أدوات التمني كوسائط مقاومة: تفكيك الثبات وبناء الحلم

تُستخدم أدوات التمني مثل "لو"، "إذا"، و"ليت" ليس بوصفها أدوات تركيبية، بل كعلامات على حالة وطنية معلّقة بين الأمل والانكسار. يُحوّلها الشاعر إلى إشارات على تأجيل الحلم الثوري، ويُقابلها بواقع سياسي جامد، مما يعكس الانقسام بين ما يُطمح إليه وما يُفرض قسرًا. التمني هنا لا يعبّر عن رغبة رومانسية، بل عن اشتقاق سياسي يحمل بذور تمرّد مؤجل.

اللغة كفعل مقاومة: خطاب لا يصرخ بل يهمس

يُعيد الشاعر بناء اللغة لتكون أداة تفكيك لا مواجهة مباشرة. إنه لا يهاجم السلطة صراحة، بل يُعرّي هشاشتها عبر كشف الفجوة بين الحلم والتحقّق. تتحوّل اللغة في القصيدة إلى شكل من أشكال "المقاومة الصامتة"، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي من خلال الهمس لا الضجيج، عبر تلميحات مشفّرة تتحدى الخطاب الرسمي.

التخييل السياسي والرفض الرمزي: الوطن كاحتمال مغيّب

يتحوّل الحلم بوطن بديل في القصيدة إلى شكل من أشكال التخييل السياسي؛ لا بوصفه مشروعًا جاهزًا، بل كأفق نقيّ يتجاوز التشويه السلطوي. بهذه الطريقة، لا يدّعي الشاعر تقديم خلاص مباشر، بل يكشف المسافة بين الوطن المأمول والوطن الموجود، ويُبقي الباب مفتوحًا أمام تأويلات تتجاوز الاستكانة.

الحيّز المكاني كفضاء مشحون: من الجغرافيا إلى الذاكرة

لا يظهر المكان في النص كحيّز جغرافي محايد، بل كفضاء دلالي يُحمّل بتوترات وجدانية وسياسية. عبارة مثل "ليلة ساخنة حالمة" لا تصف لحظة زمنية فحسب، بل تُلمّح إلى حالة وطنية مقيّدة تحت سطوة الجمود. المكان هنا يُشفّر التناقضات بين الحركة الثورية الكامنة والتوقف القمعي المفروض، ويُعيد إنتاج مشهد الخذلان في هيئة رمزية.

اللغة كأفق للتحوّل الوطني الهادئ

من خلال هذه القصيدة، لا يكتفي الشاعر بمواجهة النظام، بل يُنتج خطابًا بديلًا يُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والوطن، بين اللغة والمقاومة، بين الحلم والخذلان. فتصبح اللغة أداة تفكيك وتحريض داخلي، تُمهّد لوعي جديد يتكوّن بصمت، لكنه يحمل إمكانية التحوّل في لحظة نضوج تاريخية.

الخاتمة

من خلال هذه القراءة المتعمقة، تتناول قصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع" العلاقة بين الشاعر والوطن ضمن سياق من التناقضات المستمرة. حيث يظهر الوطن كالحبيبة النقية التي يحتفظ فيها الشاعر بأحلامه وآماله للانتفاضة، إلا أن النص يوضح كيف يتم استهلاك هذه الصورة بواسطة كيان فاسد يساهم في تزوير الهوية الوطنية. تعتمد القصيدة على أدوات تمنٍّ مثل "إذا" و"لو" و"ليت"، مما يسلط الضوء على حالة الانتظار الدائمة للتغير نحو نظام ديمقراطي حقيقي. إذ إن الوطن، الذي كان ينبغي أن يكون رمزًا للحياة والعدالة الاجتماعية، يتحول إلى واقع مظلم يقع تحت هيمنة قوى تحيد الهوية النضالية.

يتجسد الصراع بين الماضي النضالي والحاضر الجامد من خلال صورة "الشيب"، التي تُستخدم للسخرية، مما يعكس فقدان الوطن ذاكرته الثورية وتراجع قيمه التقدمية. كما أن الشاعر يراوغ بالاستعارات والانزياحات الدلالية ليصوّر وطنًا غامضًا ومتناقضًا، حيث تتجاوز معاني الكلمات حدّها المعتاد، ما يعمّق من فهم النص ويشحنه بتوتر داخلي يعبّر عن صراع مستمر بين الأمل والخذلان. استعارات مثل "الجذوة" و**"صخرة جاثمة"** تبني صورة للوطن كمكان مليء بالتحديات، يجمع بين الفرح والألم، بين الثورة والقمع.

ويظهر هذا التوتر جليًا في أحد مقاطع القصيدة، حيث يكشف الشاعر عن حالة من الضياع والتشظي الوجداني والسياسي، تتجلى في العلاقة المربكة مع "الحبيبة" التي ترمز بوضوح إلى وطنٍ مسلوب، تهيمن عليه قوى فاسدة ومتقلبة. فـ"الصورة الغائمة" تفتح على واقع غامض الهوية، غير مستقر، يعيش فيه الناس في حيرة دائمة وتقلّب دائم.

الوطن، في هذه الصورة، لم يعد كيانًا ثابتًا حاضنًا، بل يتحوّل إلى قوة متناقضة: تارةً قاسية، "عاصفةً مغبّرةً صارمة"، وتارةً مدّعية للندم والأسف، تحاكي خطاب السلطة حين تتنصّل من العدالة الاجتماعية ثم تتذرّع بالتوبة الزائفة.

يتنقّل الشاعر بين فقدان العدل من جهة، وجبروتٍ سياسي مموّه بلغة المصالحة من جهة أخرى، ليجد نفسه محاطًا "بألوان قاتمة" لا تفضي إلى رجاء. فالوطن، وقد اختطفته قوى متقلّبة الطبع، بات مكانًا للتيه، لا للاستقرار، كما يُظهر البيت: "ليس لها إقامة دائمة". وهكذا يتعمّق الإحساس بانهيار الرابط الأخلاقي والوجداني بين الشاعر و"الوطن"، إذ لم تعد العلاقة علاقة انتماء، بل عبء نفسي ثقيل: "تثقل صدري صخرة جاثمة".

في نهاية المطاف، يُعتبر النص شهادة نقدية غنية تستنهض الوعي الوطني، كاشفة عن الفجوة العميقة بين الأمنيات الجذرية والواقع الخاضع لهيمنة قوى زرعت الفساد والشك داخل البنية الوطنية. إن القصيدة، بلغة شعرية تنبض بالتوتر والمفارقة، تقدّم دعوة لإعادة الاعتبار للأدب كمجال مقاومة، وضرورة استعادة هوية وطنية أصيلة، تحيا فيها روح الثورة والعدالة.

***

سهيل الزهاوي - ناقد

 

قراءة نقدية في قصيدة "ولا هكذا وجع"! للشاعرة الجزائرية آمال زكريا

***

ولا هكذا وجع!

آمال زكريا / الجزائر

كهاوية تمتطي الخيال

مرتوية الغنج

كل بنات جيلي على قدم وساق تترقب

أبي يطرٍز سروج الخيل

وأي الرشمات والخامات سيتفنن بهم في سرج مدللته!

في سري ويقيني

لن يقتني إلا أسلاك الذهب والزمرد والمرجان

وبريش النعام يميٍزه

بطراز عثماني أصيل

فصنع لي تابوت وشيّع أحلامي

لحظتها فقط

وقفت صوب مرآة الذاكرة

ليتضح يتمي المبكر!

مذ آمنت بالحب

منحته قلبي وكياني

وضعني بزنزانة موحشة

حتى يريني النور

أخرجني لموكب يزف فيه ثلاث حوريات

هو يتباهى بحسنهن

وأنا أدوخ في دوار الحضرة

ودهشة تبتلع شظايا لغتي

كل اللآلئ التي أودعتها في حصّالته

وكل رغباتي المشتهاة التي أجلّها

نثرها على جلدهن

حتى السماء خائنة تدوي بالفرح

ليهطلني فيض من دمع لا يجف

كان الشعور غريب

أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية

ألم لم يشهده كياني

كلحد ضمني كسر أضلاع هيكلي

أمي الأرض بعنف تحاصرني شامتة

هذا أباك وحبيبك

ذاك رحل

والآخر وأد نبضك

لم أقل ليتني كنت ترابا لكن تمنيت لو أنني

لم أشهق الحياة أبدا...

***

القراءة النقدية:

حين قرأت قصيدة /و لا هكذا وجع!/ للشاعرة آمال زكريا، كنت كمن يطأ عتبة عالم مليء بالأشواك والآلام المستعصية. القصيدة ليست مجرد كلمات مرصوفة بعناية، بل هي حوار داخلي طويل مع الذات، ونداء صامت يمر عبر الزمن ليحكي لنا عن القهر الذي يعتصر القلب، والحزن الذي يطفو على سطح الذاكرة ليغرق كل شيء في ظلاله. في قلب هذه القصيدة تكمن معركة مريرة بين الحب الذي كان يُفترض أن يكون مخلصًا، وبين الواقع الذي لا يعترف بالأحلام، ليُجسد الوجع الذي يتشكل من مزيج معقد من العواطف والأحلام الضائعة.

1. الخيال كهاوية: البداية التي تُنبئ بالخسارة

/كهاوية تمتطي الخيال/، عبارة بسيطة، لكنها في غاية الشدة في رمزيّتها. فالخيال هنا ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو الحفرة التي تبتلع الأحلام ببطء. الخيال يُشبه البحر العميق، عميق بما يكفي ليغري العقل بمتعة السباحة فيه، لكنه يحمل في طياته غرقًا حتميًا. وهذه هي مفارقة القصيدة: أن الخيال كان أداة السقوط والضياع، كأن الشاعرة لم تكن تعلم أن عالمها المثالي سيتحطم في لحظة من الوعي الثقيل.

2. /صنع لي تابوتًا وشيّع أحلامي/: من حلم الرفاهية إلى واقع المأساة

الشاعرة تبدأ حلمها بحياة فاخرة، مثالية، يغلفها الذهب والزمرد، في أجواء تشبه الأساطير. /أبي يطرز سروج الخيل/، ليس مجرد مشهد من الطفولة، بل هو استعارة للطمأنينة التي كانت تملأ قلب الطفلة التي كانت تظن أن والدها سيحميها من قسوة العالم. ولكن تأتي اللحظة التي يتحول فيها هذا الأمان إلى نوع آخر من العزلة، لحظة من الخيبة الكبرى عندما تُدرك أن /التابوت/ الذي صنعه والدها ليس لدفن أجسادهم، بل لدفن أحلامهم. التابوت هنا رمز للفخ الذي يدور حول الحلم المثالي ويخنقه. إن الحلم الجميل يتحول إلى عبءٍ ثقيل؛ هو إعلان عن نهاية حقبةٍ كانت مليئة بالأمل.

3. /زنزانة موحشة/ و/الخيانة المحجوبة/

في اللحظة التي تخاطب فيها الشاعرة نفسها قائلة /وضعني في زنزانة موحشة حتى يريني النور/، نرى كيف يختلط الحلم بالواقع، وكيف يصبح الحب في جوهره سجنًا نفسيًا. الشاعرة لا ترى في الحب أملًا، بل قيدًا يتجسد في زنزانة تجعلها ترى النور ولكن من خلف القضبان، كما لو كانت تراقب الضوء من نافذة ضيقة جدًا. هناك شيء أكثر ألمًا في هذه الصورة: إنه شعور بالتضحية الخالدة، أن الحب الذي اعتقدت فيه كان مجرد سراب يورطها في غياهب الحزن.

4. ألم الحب: بين التضحيات والخيانة

نحن هنا أمام حالة من الخيانة العاطفية التي لا تنفصل عن الخيانة الذاتية. الشاعرة تضع نفسها في موقع الضحية، لكن تذكر أنها /منحت قلبها وكيانها/ للحب، وهو ما يعمق الألم بشكل أكبر. لأن الحب، الذي كان يجب أن يكون ملاذًا، أصبح هو نفسه الجلاد. صورة /الحوريات/ في الموكب تضع الشاعرة في موقف المراقب العاجز الذي يرى الآخرين يعيشون في الجمال والنقاء الذي كان من المفترض أن يكون له، بينما هي غارقة في حالة من الاضطراب والدوار. الحوريات، كرموز للجمال المثالي، لا تُمثل فقط الطموحات الضائعة، بل هي في الواقع التذكير بالحلم الذي كانت الشاعرة تأمل في أن تعيشه.

5. من الفقد إلى العزلة: مأساة الأنثى في قلب المجتمع

/أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، هي صورة تراجيدية تنم عن وحدة شديدة لا تقتصر فقط على الخيانة العاطفية، بل تتعداها إلى ألم الانتماء. هنا لا تتحدث الشاعرة عن ذاتها فقط كضحية لفقدان الحب، بل تقدم نفسها كرمز للمرأة التي تتعذب في صمت داخل بنية اجتماعية لا تتفهم معاناتها. العار الذي تحمله في قلبها ليس فقط ناتجًا عن خيانة الحب، بل هو مرآة لمجتمع يضع عليها عبئًا إضافيًا: عبء الهوية، والمكان الذي يُفترض أن تكون فيه، و/الجسد العاري/ الذي لا ينتمي إلى أي شيء حقيقي أو ثابت.

6. /السماء خائنة/ و/فيض الدموع/: الفقد الذي لا يُغسل

ثم تأتي /السماء الخائنة/ التي /تدوي بالفرح/، وكأن الكون كله يتحول إلى مصدر للخيانة. السماء التي كانت تُعتبر رمزًا للأمل والرحمة، تتبدل هنا إلى مصدر آخر للحزن. الصراع في هذه اللحظة ليس فقط مع الشريك الذي خذلها، بل مع الكون نفسه الذي كان من المفترض أن يحتضنها.

الفيض من الدموع الذي لا يجف هو أعمق من مجرد حزن عابر؛ هو مرآة لنزيف روحي دائم لا يجد شفاء. الشاعرة لا تكتفي بالتعبير عن الحزن، بل تُظهر لنا كيف أن هذا الحزن أصبح جزءًا من كيانها، كيف أصبح جزءًا من جلدها وعظمها، وهو ما يجعل الخروج منه مستحيلاً.

7. النهاية: أمنية الفقد التام

وفي النهاية، تُختتم القصيدة بجملةٍ تحمل في طياتها أمنية محبطة: /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبدًا/. هذه العبارة تحمل أعمق معاني العزلة والتفكك؛ حيث يصبح الموت أو الفقد هو الحل الوحيد للمعاناة المستمرة. الشاعرة، في لحظة من اليأس الكامل، ترى أن الحياة التي عاشتها لم تمنحها شيئًا سوى الألم. هذه الجملة لا تعكس فقط خيبة الأمل، بل هي إعلان عن فشل الذات في مواجهة الواقع.

خاتمة تأويلية:

هذه القصيدة هي شهادة على فداحة الفقد، ليس فقط في الحب، بل في الوجود ذاته. الشاعرة لا تُحارب الأذى العاطفي فقط، بل تُحارب كونًا برمته لم يمنحها فرصة لتحقيق الذات كما حلمت. في هذا العالم المملوء بالقيود والخيبات، تصبح الذكريات هي الملاذ الوحيد، ولكنها مع مرور الوقت تتحول إلى شيء أشبه بالقيد الذي يلف الروح.

هذه القصيدة تفتح أمامنا أبوابًا واسعة للتأمل في كيفية تأثير الحب على الذات الإنسانية، وكيف يمكن للألم الناتج عن الخيانة والفقد أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية. إنها ليست مجرد قصيدة عن الحب أو عن الخيانة، بل هي رحلة عميقة إلى عمق النفس الإنسانية التي تصارع نفسها، تبحث عن معنى في عالم غارق في الضياع.

في /و لا هكذا وجع!/ نجد أنفسنا أمام قصيدة تتسلل إلى أعماق النفس البشرية بكل تعقيداتها، لتكشف لنا عن جروحٍ لم تلتئم، وأشباحٍ لا تزال تحوم حول الذات في صمتٍ قاتل. الشاعرة آمال زكريا، من خلال كلماتها، تقدم لنا صورة عن النفس الإنسانية وهي تترنح بين الأمل والخذلان، بين الحب الذي يذبحها والذكريات التي تحاصرها.

النفس هنا ليست مجرد موضوع شعري، بل هي كائن معذب، محاصر في دوامة من التناقضات العاطفية. الحب الذي كان في بداية القصيدة يمثل الأمل والرفاهية، يتحول تدريجيًا إلى سجن، إلى نوع من /الزنزانة الموحشة/، وكأن الشاعرة تتحدث عن دائرة لا نهائية من الألم العاطفي الذي لا يجد مفرًا. ما يجعل هذا الصراع النفسي بالغ العمق هو أن الحب هنا ليس فقط خيانة من الآخر، بل هو خيانة من الذات أيضًا. الشاعرة تتنازل عن نفسها من أجل الحب، تُقدم قلبها دون تحفظ، وعندما تجد أنها قد تمزقت، يبدأ الوعي بالذنب الذاتي، /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبداً/. هذه الأمنية ليست مجرد رفض للحياة، بل هي تجسيد لصراع أعمق، صراع يخص الهوية والوجود.

الشاعرة تجد نفسها في مواجهة لا فقط مع الحبيب الذي خذلها، بل مع كونٍ أوسع، مع الحياة التي تضعها في معركة مستمرة لا تملك فيها سوى ذكرياتٍ مشوهة وألمٍ دائم. هذه المشاعر لا تقتصر على الخيانة العاطفية فحسب، بل هي خيانة وجودية، حيث تشعر الشاعرة أنها لم تلبِ توقعاتها، وأن حياتها تحولت إلى سلسلة من التضحيات التي لم تثمر عن شيء سوى الخيبة والمرارة. إن ما تعيشه هو حالة من التشظي الداخلي: إنها روح تتكسر على صخور التوقعات المثالية التي كانت تظنها حقيقية.

عندما تقول /أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، تتحول هذه الكلمات إلى مرآة للنفس البشرية التي تعاني من انفصال عميق بين ما كانت تظنه عن نفسها وما أصبحت عليه في الواقع. هي في حالة صراع مستمر مع الهوية، تتساءل عمن هي، وما الذي جعلها تكون بهذه الصورة المؤلمة. هي في حالة من اللامكان، لا تنتمي إلى الماضي الذي كانت تحلم به، ولا تجد مكانًا لها في المستقبل الذي كان يمكن أن يكون.

وفي النهاية، تظل القصيدة تسبح في بحر من الأسئلة غير المجاب عنها: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذه القيود النفسية التي يفرضها على نفسه؟ هل يمكن أن يعيد بناء ذاته بعد أن دمرتها الخيبات؟ إن القصيدة، بكل ألمها، تقدم لنا إجابة غائمة، لكنها دعوة لا واعية إلى الوعي الذاتي، إلى ضرورة أن نتوقف يومًا ما، لا لنتوب عن الحب، بل لنعيد تقييم علاقتنا مع أنفسنا ومع أقدارنا.

لذلك، /ولا هكذا وجع!/ ليست مجرد قصيدة عن الحب والخيانة، بل هي مرآة للنفس التي تحاول أن تجد مكانًا لها في عالم لا يعترف دائمًا بحقها في الفرح. إنها صورة عن الإنسان الذي يشعر بالحيرة والتمزق، بين حقيقة ما هو عليه وأمل ما كان يمكن أن يكون. وكأن الشاعرة قد حاولت أن تطهر نفسها من خلال الكتابة، لكن في كل كلمة، في كل صورة، تكمن تلك الذاكرة التي لا تموت، وتلك الجراح التي لا تشفى، والتي تظل تلاحق النفس حتى تصبح جزءًا من هويتها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

"ماذا لو" عنوان للمجموعة القصصية كتبها القاص سمير الشريف، صدرت عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2021م، تقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 120 نصًا قصصيًا، تراوحت بين عدة كلمات وعدة أسطر تناولت الواقع الاجتماعي وعيوبه، وكشفت عن الألم السياسي والهم الوطني والقومي والديني.

تميزت القصة القصيرة جدًا بمراعاتها لظروف العصر من حيث ضيق الوقت وعامل السرعة، وسعت إلى إيصال المضمون بشكل سريع وعميق وكثيف للمتلقي، يحمل رسالة وفكرًا فلسفيًّا بأقل عدد من الكلمات، وهذا ما كانت عليه المجموعة القصصية "ماذا لو" للقاص سمير.

خلال قراءتي للمجموعة لاحظتُ شيئًا من موضوع أطروحتي للدكتوراه (جماليات الفوضى ودلالاتها في الشعر العباسي: (أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي) أنموذجًا) -نُوقِشَت في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في الجامعة الهاشمية، عام 2020م-، وهو ما أسميته بلاغة التشويش -الذي ورد في الفصل الرابع (جماليات بلاغة التشويش ودلالاتها)-، خاصة تقنية المفارقة وتقنية المحو والكتابة.

وبلمحة سريعة لتعريف التشويش أو الشواش، فهو أحد خصائص الفوضى غير المرغوبة، أدمجت اللغة العامية عبر التاريخ فكرة الفوضى في فكرة الشواش، ولذلك تم تعريف (الشواش) بأنه: "الاضطراب أو الاهتياج أو اللجة البدائية"، وبعدها أصبحت مصطلحًا علميًا جدليًا ومثيرًا في الفيزياء المعاصرة، و"المشوش: تكون عناصره ممزوجة بلا نظام ويصعب تمييزها أو يستحيل".(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205)، وكمصطلح علمي، فهو يعد: "نظرية في سلوكٍ يبدو عشوائيًا ضمن نسق حتمي، مثل الجو، فعدم قابلية الأنساق المشوشة للتنبؤ لا ترجع إلى عوز في القوانين المتحكمة؛ بل إلى كون النتائج حساسة لتنويعات دقيقة لا يمكن قياسها في الظروف الابتدائية، مثال ذلك (أثر الفراشة: فكرة أن مجرد خفق فراشة لجناحها قد يحدث فرقا بين حدوث إعصار أو عدم حدوثه)"(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205).

وبالنسبة لمفهوم التشويش فهو مستعار من الإعلام، فالنص الإعلامي لابد أن تكون ألفاظه واضحة الدلالة وبعيدة عن الغموض، وخالية من التشويش الدلالي؛ وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة لعدم فهم الرسالة من جانب المتلقي حتى لو تم نقل الرسالة بدقة فائقة"(حسين علي إبراهيم الفلاحي، الديمقراطية والإعلام والاتصال. ص:177)، أما في معاجمنا اللغوية فقد تمت إضافة كلمة التشويش بحذر ودون أن يكون لها أصل عربي، فجاء في لسان العرب أن التشويش لا أصل له في اللغة العربية. ويأتي الشواش من خلال التعقيد اللفظي والمعنوي، بالإضافة لبعض الظواهر والتقنيات الفنية التي تمثل خروجًا وانتهاكًا للمألوف، وخرقًا لقوانين اللغة المعيارية، فتخرج عن المألوف والمتوقع إلى غير المألوف والمدهش وغير المتوقع.

إن لبعض التقنيات الفنية دورًا جماليًا، فيتم اختراق الأنساق ومخالفة المألوف رغبة في التشويش، والغموض والدلالة على معانٍ غير مرادة؛ لاستثارة المتلقي وإحداث مفاجأة بما لا يتوقعه، وهذا ما عمد إليه القاص في مجموعته (ماذا لو)، من خلال المفارقة، والمحو والكتابة.

المفارقة

تعد المفارقة ذات أهمية بالغة لما لها من قدرة على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، فالمفارقة هي حدوث ما لا يتوقع، وهي كما قالت عنها نبيلة إبراهيم: لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها.

في قصص "ماذا لو" حضرت المفارقة التي تقوم على الجمع بين المتناقضات، والممزوجة بالسخرية: " بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرجت زوجة الرئيس على باريس، لإلقاء نظرة على آخر صرعات الموضة"(موضة، ص9)، فالمفارقة الممزوجة بالسخرية واضحة ما بين المؤتمر الوطني، وصرعات الموضة، إنّ معاناة الشعوب مع حكّامها، خاصةَ من يرفعون ‏شعار الوطنيّة والموت في سبيل الوطن في تلك المؤتمرات، وما يحدث بعدها من تعارض وتناقض، والاهتمام بآخر ما توصلت له الموضة. فالحدث يبدو واقعي، إلا أنه يحيلنا إلى رمزية الفاسد، وهنا فالقاص لجأ إلى هذه التقنية ليدين فيها الاستغلالية والفساد السياسي والانحلال الاجتماعي.

في قصة (مضمضة): "عاد من مركز إيواء المسنين، مطمئناً على والده، خلع الكمامة والنظارة السوداء، اتصل بدار الإفتاء: -هل يُفطر من دخل جوفه الماء وهو يتمضمض للصلاة"(ص: 65)، تظهر المفارقة في ذلك النفاق الديني الظاهر، الذي لا علاقة له بسلوك الإنسان وما يمارسه في حياته اليومية، فالقاص يثير وعي القارئ للتأمل ويشوش تفكيره فكيف يسأل في أمر ديني وبسيط، وهو من وضع والده في دار المسنين، ربما أراد من هذه المفارقة أن يثير عاطفة المتلقي، والانقلاب على الجانب الأخلاقي والسلوكي للإنسان في التعامل بالدين.

كذلك حضرت المفارقة في قصة (دعاء): "اغتسل، تعطّر، ولبس أجمل ما لديه قبل أن يغرف من صندوق التبرعات مردداً: - اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك".(ص: 96)، المفارقة هنا ممزوجة بالسخرية وكذلك تدل على نفاق ديني، فالسخرية تعد أحد أنماط المفارقة التي يلجأ لها الكتّاب على اعتبار أنها قولًا ضد المراد لغرض الاستهزاء، فالقاص هنا يسخر من فعل هذا الرجل الذي يمثل الأغلبية في طريقة التعايش والتعامل بالدين، والدليل التناقض الظاهر بين (يغرف من صندوق التبرعات) و(اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك)، فالتضاد واضح بين الفعل والقول.

ثنائية المحو والكتابة

قد يمحو الكاتب كل ما يشد النص إلى أصل محدد فيجعله دونما انتماء، وبهذا يعمل على إجراء بعض التغييرات على النصوص فيبتعد عن السياق الأصلي ويعيد إنتاجها من جديد.

حضرت هذه الثنائية في قصص المجموعة، فمثلًا في قصة (سنتياغو): "تساءل همنجواي وهو يضع اللمسات الأخيرة على روايته: -هل كان سنتياغو منتصراً، وهو يرى مغامرته تنتهي بهيكل عظميّ؟"(ص113)، إن اسم سنتياغو يستحضر في فكر وذهن المتلقي رواية الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي، فالبطل هو سنتياغو الذي قضى عمرًا وهو يناضل ويحاول بناء الآمال التي هاجمتها قروش البحر، وانتهت مغامرته بهيكل عظمي. لجأ القاص لهذه التقنية لإثارة المتلقي وفتح الدلالات على نصوص أخرى وذلك لتوضيح فكرته، سنتياغو كان رمزًا للشعب الكوبي الذي يقاوم ويصارع ظروف معيشته الصعبة، فقد أراد القاص إيصال خيبات أمله وتبخر أحلامه في إصلاح حال الناس في وقتنا الحالي.

وفي قصة (فسادستان): "العبيد في مزارع فسادستان يلهجون بصوت واحد: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}"(ص123)، في هذه القصة يخاطب القاص المتلقي بحسه الفكري متأملًا في التخلص من الظلم والفساد المنتشر، وهنا استحضر القاص الآية الكريمة من سورة النساء(75): {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، فالأية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والسعي في إنقاذ المستضعفين في مكة المكرمة، وفي القصة دعاء أولئك العبيد لربهم للخلاص من الفاسدين واضطهادهم للمزارعين، دعاء ممزوج بنوع من التعب بعد رحلة طويلة من القهر والقمع، والقاص يريد نقل ما يعانيه الناس في مجتمعاتنا من ظلم واضطهاد.

حملت قصص مجموعة "ماذا لو" في طياتها رسائل مضمرة، وجاءت في سياقات مكثفة للغة والسرد، فالقاص عندما يريد تحريك ذهن المتلقي نحو النص يسعى لإثارته وكسر التوقع لديه عن طريق الغموض، والمفارقة تدعو للبحث عن المعنى الآخر الذي يتضمنه النص، وفي ثنائية المحو والكتابة يلجأ الكاتب إلى تحوير وتغيير السياقات لبث رسائل مضمرة في ثنايا النص، ليثير فكر المتلقي والبحث عن المعنى المخبوء.

وأخيرَا يعد القاص سمير الشريف مبدع ورائد من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا، وإنَّ مجموعة (ماذا لو) تحمل الكثير في ثناياها، وتستحق الدراسة بشكل أعمق لما تحمله من تقنيات فنية جاء بها القاص، فهي مادة وفيرة للقراءة والأبحاث.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

ذنبي كبير

يحيى السماوي

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس  ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة  مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

***

الخطاب الشعري الصوري نص يقوم على التداعي والتعبير عن ذات تنتج نصا يقوم على التأمل والبوح والاستبطان الذاتي، ويعمل على خلخلة الأجناس الأدبية وصهرها في بوتقة نصية موحدة تقوم على الانزياح، وخلق خطاب مابعد الحداثة..

وباستقصاء عوالم النص الشعري (ذنبي كبير) الذي نسجته انامل منتجه يحيى السماوي نجدها تنحصر في الحبيبة الوجود كونها مستقبل العالم على حد تعبير اراغون.. وعلى مبادئ المدرسة الرومانسية يوجد ال (وطن في أنثى).. وهذا من المرتكزات التي ينطلق منها المنتج (المراة الحبيبة والوطن اضافة الى الحرية التي تمثل التجيد والابداع)

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فالنص يقوم على مستويين: اولهما.. مستوى الرؤيا الذي يترك اثره ولا يعرف النسيان فيبقى محفورا في الذاكرة... وثانيهما.. مستوى التعبير حيث تناغم الالفاظ الموحية تناغمًا يضفي على النص نبرا مموسقا جاذبا.. يمتاز بخصوصيته الجمالية والدلالية..

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

فالنص يشكل لوحة فنية.. يربطها خيط شعوري رقيق.. جسده الإحساس.. ورابطه العشق والخروج عن الذات.. تؤطره رومانسية طافحة بالعذوبة والرقة.. اضافة الى تميزه بتنويع أساليبه البنائية والإعلاء من دور التجريب الشعري كي يمنحه قدرة على استيعاب التقنيات المعاصرة كالحوار وتعدد الأصوات وحضور النصوص الغائبة بوعي شعري كشف عن شاعر متزن العواطف دقيق الرؤية، واضح المعالم...

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

فالشاعر في نصه المتزن العواطف.. الواضح الرؤية.. يحدث مصالحة بين فكره ووجدانه.. وبين لغته وأفكاره.. اضافة الى اعتماده التكثيف والإيحاء والاختزال والسرد الشعري والتناص ..

وبهذه الروح الرومانسية الشفيفة والنبض الراقص قدم  المنتج نصا متكاملاً متوحد الدلالات والرموز والبناء الفني الذي عمق رؤيته.. واضفى عليها جمالا نابعا من صدق التجربة.. الكاشفة عن قيمة النص الموضوعية والتعبيرية والشعورية.. فقدم المنتج خلاصة اكتنزت بأبجديته الأسلوبية.. وأبرزت خطوطه الشعرية ورسّمت خطواته الإبداعية من تجلياتها الاستهلالية فاحدث تنوعا جاذبا كما وكيفا.. بتوظيف لغة مكتنزة بالفاظها الايحائية الجامعة بين الوصف والسرد والحوار...

***

علوان السلمان – كاتب وناقد عراقي

 

في المثقف اليوم