دراسات وبحوث

السِّيَاقُ التَّارِيْخِيُّ لِكِتَابَةِ السِّيْرَةِ النَّبَوِيَّةِ.. ثَوَابِتُ التَّجْدِيدِ

بليغ حمدي اسماعيلمقدمة: وجب علي قبل الخوض في تحليل أبرز الوقائع في السيرة النبوية لصاحبها رسول الله(ص) أن أشير اختصاراً إلى هبة الله (سبحانه وتعالى) للأمة العربية وللمسلمين الأوائل ألا وهي الذاكرة الحافظة، والتي لولاها لما وصل إلينا خبر واحد من سيرة المصطفى (ص)، فهذه الذاكرة التي تمتع بها الصالحون من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن لحقهم هي التي مكنتنا من معرفة الأحداث والوقائع التي جرت لرسول الله (ص)، لذا كان من الأحرى أن نقدم للقارئ المسلم نبذة علمية مختصرة عن الذاكرة والعمليات الذهنية التي تنظمها، إعلاء لجهود الأوائل وحمداً لنعم الله على أمة الإسلام .

طاقة اسمها الذاكرة:

الذاكرة، هي مركز العمليات المعرفية ومحورها التي تؤثر على كل ما هو معرفي، وعلى كافة الأنشطة العقلية، وعلى كافة مكونات نظام تجهيز ومعالجة المعلومات. ولقد بحث كثير من علماء النفس في عملية الاسترجاع، التي ترادف أحياناً التذكر، وانتهى الكثير منهم إلى القول بإن هذه العملية لا يمكن أن تتم إلا إذا افترضنا أن التجارب والخبرات التي مر بها الفرد تترك أثراً ما في جهازه العصبي، أو بعبارة أخرى تترك نوعاً من الصور الذهنية التي تطبع على المخ بطريقة معينة.

وهناك أربعة نماذج للذاكرة يحاول كل منها أن يفسر كيف تعمل الذاكرة من حيث المكونات والوظائف . النموذج الأول ينسب لكل من أتكنسون وشفرن (1968م)، ويركزان على التمييز بين الذاكرة قصيرة المدى، والذاكرة طويلة المدى، ودور كل منهما في تجهيز ومعالجة المعلومات، ويقوم على افتراض أن الذاكرة تتكون من ثلاثة أنماط هي:

ـ الذاكرة الحسية أو المخزون الحسي.

ـ الذاكرة قصيرة المدى.

ـ الذاكرة طويلة المدى.

كما يشتمل على عمليات الضبط والتحكم، مثل تكرار أو ترديد المعلومات للاحتفاظ بها في الذاكرة، والتي يستخدمها الناس كاستراتيجيات لتجهيز ومعالجة المعلومات.

أما النموذج الثاني، فهو نموذج تولفنج (1984م)، ويقوم على افتراض وجود مخازن لذاكرة الأحداث لتخزين المعلومات المتعلقة بالأحداث والوقائع، ومخازن لذاكرة المعاني لتخزين المعرفة المنظمة المتعلقة بالعالم من حولنا، والذاكرة الإجرائية التي تتعلق بكيفية إجراء أو عمل معالجة للأشياء.

بينما يسمى النمط الثالث من أنماط الذاكرة مدخل مستويات التجهيز والمعالجة، ويقترح هذا المدخل أن الطريقة أو الأسلوب الذي من خلاله تجهز أو تعالج المادة موضوع التعلم يؤثر على الاسترجاع اللاحق لها. والنموذج الرابع والأخير هو مدخل التجهيز الموزع الموازي، ويفترض أن ينظر إليها باعتبارها شبكة من الترابطات والوصلات عبر النيرونات العصبية التي تشكل وحدة عمل الذاكرة.

وتبدو قيمة هذه النماذج السابقة التي عرضناها في أنها تحاول تبسيط وتبسيط وتنظيم نمذجة ذلك المفهوم المحير البالغ الأهمية المسمى بالذاكرة، وأن هذه الأطر التي تقدمها تلك النماذج النظرية تكون موجهة للبحوث والدراسات التي يمكن إجراؤها في هذا المجال.

وللذاكرة ثلاثة أنواع، النوع الأول منها يسمى الذاكرة الحاسبة، ومهمتها استقبال المعلومات وتحملها في صيغة خام، أو غير معالجة نسبياً أي دون إخضاعها للتجهيز أو المعالجة، وتشمل الذاكرة الحسية البصرية، كما تسمى الذاكرة التصويرية، وتحمل المادة أو المثير أو المعلومة بعد اختفاء المثير لجزء من الثانية أو للزمن الذي يسمح بتجهيز ومعالجة تلك المعلومة بعد اختفاء المثير الخاص بها.

أما الذاكرة الحسية السمعية، وتسمى الذاكرة السمعية، وتحمل المادة أو المثير أو المعلومة لمدة 2 على 3 من الثانية بعد اختفائها، ولذا فهي تمثل أهمية خاصة عندما تقوم بتجهيز المعلومة المنطوقة والمسموعة. وتعرف الذاكرة الحسية أيضاً بالمسجل الحسي.

و من أنواع الذاكرة القصيرة، والتي سبق أن أشرنا إليها، وهي ذاكرة تفقد المعلومات وتخفو ويحدث لها نسيان سريع ربما بعد ثوان قليلة من استقبالها، ما لم يتم تسميعها أو تسجيلها أو معالجتها، وحجمها وفقاً لرؤية علماء النفس المعرفي تتحدد سعتها بـ 7 + 2 من وحدات المعلومات. ويرى بعض علماء النفس أن هذا الحجم يرتبط تماماً بزمن النطق وطول الكلمات، وطبيعة المادة التعليمية، ومدى قابليتها للتذكر، بالإضافة إلى أنها تتأثر بعدة عوامل منها مستوى قلق الفرد ومستوى ذكائه. وبالنسبة للذاكرة طويلة المدى، فإنها تعد أهم مصادر المعرفة المشتقة، وأنماط التعلم والتفكير المعاد صياغته وتجهيزه ومعالجته، وهي تقف خلف كافة عمليات الحفظ والتذكر والتفكير، والاستراتيجيات المعرفية وحل المشكلات.

وأهم ما يعنينا ونحن بصدد الحديث عن كتابة السيرة النبوية ومحاولات المتقدمين في تسجيلها وتدوينها سواء من السماع أو الرواية أو النقل ـ أن الذاكرة طويلة المدى تمثل ذات الإنسان وماضيه وسيرته الذاتية، وتؤثر في حاضره ومستقبله، وإدراكه واستقباله للعالم من حوله. ولو فطن كتاب السيرة وحفظتها أن دور الذاكرة طويلة المدى مهم جداً في استيعاب المعلومات وتخزينها بالسرعة والدقة لتغير الكثير مما جاءنا في ثنايا كتبهم وأوراقهم.

وقد يجد القارئ نوعاً من الملل وهو يطالع السطور السابقة التي تتحدث عن الذاكرة وأنماطها وأنواعها، ولعله فطن قليلاً أننا نتحدث في صلب دراستنا عن السيرة النبوية وقصة تدوينها، وهي الإشادة والإشارة إلى ملكة الحفظ وقوة الذاكرة التي تمتعت بعا العقلية العربية الصافية الخالية من كل شوائب المادية،، لا سيما أن الخطوب والأحداث التي عصفت بدولة الإسلام منذ أيام الخليفة عثمان بن عفان لم تكن تسمح بالتدوين والجلوس في استقرار وسكينة لكتابة جميع التفاصيل المتعلقة بالسيرة النبوية العطرة لصاحبها (ص)، ورغم تلك الخطوب استطاع الثقات أن يقوموا بعمل عظيم وهو حفظ وتسجيل أحداث السيرة النبوة المطهرة لتصير بين أيدينا سائغة سهلة يسيرة.

ولكن لم تلتفت هذه النظريات الغربية التي عصفت بالعقول إلى الهبة والمنحة الإلهية التي وهبها الله (سبحانه وتعالى) والتي استطاعت أن تحتفظ بكل صغيرة وكبيرة مما سمعت أو رأت من أحداث ووقائع وربما كانت الذاكرة الشفاهية أكثر ثقة وثبتاً وثباتاً عند آبائنا العرب الذين بفضل ذاكرتهم الحافظة البعيدة عن شوائب المادية استطعنا أن نتعرف على الكثير والكثير من أيام العرب ووقائعهم السابقة .

استراتيجيات تحسين الذاكرة:

1 ـ استراتيجية التصور العقلي: وتشير إلى التمثيلات العقلية للأشياء، والأحداث والمواقف التي ليس لها وجود فيزيقي، وهي استراتيجية قوية لرفع كفاءة الذاكرة، وزيادة فعاليتها.

2 ـ استراتيجية مفاتيح الكلمات: وتشير إلى الربط بين الكلمات غير المألوفة المراد تعلمها، وتفيد الدراسات إلى أن الطلاب الذين استخدموا هذه الاستراتيجية في تعلم اللغات استرجعوا مفردات اللغة بمعدلات تفوق أقرانهم الذين استخدموا استراتيجية التسميع أو التكرار عدة مرات.

3 ـ استراتيجية إحلال الأماكن: وتقوم على محاولة ربط الفقرات المراد تعلمها بسلسلة من الأماكن و المواقع الطبيعية، وهي تجمع بين التصور العقلي والمعينات والمنشطات الأخرى، وهي من أقدم الاستراتيجيات لتنشيط الذاكرة.وتقوم هذه الاستراتيجية على القواعد الأساسية التالية:

* تصور سلسلة من الأماكن الطبيعية التي تتعاقب مكانياً.

* اشتقاق صورة بصرية أو تخيلية تمثل كل فقرة من الفقرات المراد حفظها وتذكرها.

* ربط الفقرات بالأماكن المختلفة بها في الذاكرة.

4 ـ استراتيجية التنظيم: وهي محاولة إيجاد أو اشتقاق تنظيم أو ترتيب للمادة المتعلمة، وهي تقوم على تنظيم وحدات المادة أو الوحدات المعرفية الأقل عمومية (النوعية) داخل مفاهيم أو أطر مفاهيمية أكثر عمومية أو ذات رتب أعلى.

5 ـ استراتيجية التوليف القصصي: وتقوم على محاولة توليف قصة تربط بين مجموعة من الكلمات أو المفاهيم المراد حفظها، وتذكرها بحيث تؤلف هذه الكلمات معه بعضها البعض قصة ذات معنى.

وقد أنعم الله على الإنسان بذاكرة قوية وقدرة خارقة على الحفظ، ووهبه عقلاً لم يتمكن العلماء حتى الآن من معرفة أسراره . للعقل سعه محدد لا تتسع ومع تزاحم المعلومات وتكدس الاحداث بداخله وعند اضافة معلومة جديدة للعقل يبدء تلقائياً بمحو اول معلومةولكن أولئك الحفظة الكرام منَّ الله عليهم بذاكرة قوية استطاعت أن تلتقط كل التفاصيل التي سمعوها أو قرأوها بفضل ترك المعاصي أولاً، كما أن حفظ القرآن الكريم مكنهم من قوة الحفظ والإدراك وسعة البصيرة.

وقدكشفت دراسة علمية حديثة عن أن حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة يقوي الذاكرة وينمي مدارك الأطفال واستيعابهم لحفظ وإمكانية استرجاع المعلومات بصورة أكثر من غيرهم ممن لا يحفظون القرآن، بالإضافة إلى تمتعهم بقدر كبير من الاتزان النفسي والاجتماعي وقدرة كبيرة على تنظيم الوقت والاستفادة منه.

وأشارت الدراسة التي أجرتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الى أهمية دفع الأطفال والشباب في سن مبكرة الى حلقات ومدارس تحفيظ القرآن الكريم نظراً لسهولة الحفظ في هذه السن والقدرة على الاستيعاب السريع والاسترجاع.

وأكدت الدراسة على أهمية دور الأسرة في تحفيز أبنائها وبناتها على حفظ القرآن الكريم وتشجيع التنافس بين الأبناء والبنات داخل الأسرة الواحدة في حفظ أكبر قدر من آيات وسور وأجزاء القرآن الكريم، حيث أثبتت الدراسة أن أكثر من ثمانين في المائة من حفظة القرآن الكريم من البنين والبنات عرفوا طريقهم إلى حلقات التحفيظ والمدارس القرآنية بتشجيع من الآباء والأمهات وأن أكثر من خمسين في المائة منهم لهم أشقاء وشقيقات يحفظون القرآن الكريم أو أجزاء منه.

والآن أيها المسلم، أنا معك قلباً وقالباً في شعورك النفسي بكثرة وطول ما أورته من معلومات قد تراها لأول وهلة بعيدة الصلة عن موضوعات السيرة السهلة اليسيرة والممتعة أيضاً، فمالك أنت وهذه الاستراتيجيات المعرفية الضيقة التي تضفي نوعاً من التوتر والضيق والسأم، وربما الضجر على النفس الساكنة، وما استطعت أن أتوصل إليه هو هدف محاولة إعادة تجهيز الذهنية التاريخية للعقل العربي تلك التي اعتادت ألا ترهق نفسها بالتأويلات والتنظيرات، وكيف كتب هذا، ولماذا دون ذلك، إلى آخره.

ولكن رأينا أنه من الواجب العلمي أن نضع هذه الصورة العلمية لعمل وأداء الذاكرة، وأنواعها، وأنماطها المسلكية، لتتعرف كيف كتبت السيرة النبوية، ومنهجيتها، فهل يمكنك الآن وقد قرأت الكثير عن سيرة الرسول (ص) أن تدرك عظمة العقل والذاكرة التي وهبها الله تعالى لعقول صافية ولقلوب مطمئنة استطاعت أن تعي ثم تحفظ ما وصل إلى آذانها شفاهة من قصص نبوية وأحداث تاريخية عن حوادث شتى، ورغم ذلك استطاعت تلك العقول الصالحة أن تنقل لنا ما روي وشوهد مع ضبطه ضبطاً دقيقاً دونما لغط أو تشويه .

ولكن كان علينا أن نخاطب الغرب وأنصاره من العلمانيين وأتباعهم بلغتهم التي يعرفونها وهي لغة النظريات المجردة ولنشير إليهم بأن الله (تبارك وتعالى) منح كل قوم نعمة اختص بها، ومن نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى على العرب الذاكرة الحافظة واللغة الفصيحة المبينة .

دوافع الاهتمام بسيرة الرسول (ص):

بين الخصومة والكراهية والحقد الدفين ومشاعر أخرى سوداء، وبين محبة وشوق وحنين وإخلاص وشعور بالعظمة وإحساس بعبقرية الشخصية استقرت دوافع الاهتمام عن سيرة الرسول الأكرم(ص) حسبما أننا من المشتاقين إليه محبة وشوقاً وغراماً وشفاعة.

ولا أدري ما فائدة عمل خصوم الإسلام عموماً، والرسول الأكرم (ص) واتهاماتهم الزائفة القذرة إلى رسول رب العالمين. ولقد طالعت ما كتبه محررو دائرة المعارف الفرنسية لاروس La(ص)ousse عن أشرف الخلق أجمعين بقولهم المغلوط: "بقي محمد مع ذلك ساحراً ممعناً في فساد الخلق لص نياق، كردينالاً، لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابوية فاخترع دينا جديداً لينتقم من زملائه".

وسأترك للقارئ سهولة تأويل ما قرأه، وكأن محمداً (ص) طالب في مدرسة يغار من زملائه فأراد الانتقام منهم، منتهى السفه، ويكفينا شرف ومنعة أننا وإخواننا من الباحثين الجادين لا ولن نهتم بالرد على مثل هذه الأمور التي يريد الغرب وأعداء الإسلام والحاقدون عليه أن يجرونا إلى هاوية الجدل والعبث الفكري واللغط التاريخي بالرد والمناظرة واستخدام آليات حوار فاشلة سلفاً، لقد اخترتنا لأنفسنا دوراً نراه عظيماً وحسبنا، وهو أننا لا نكتب إلا للقارئ العربي، وعن سيرة المعصوم محمد (ص) ومن أراد أن يعرف سيرته فعليه بمعرفة لغتنا وقبول منطقنا، ومن هنا نبدأ.

فلقد قدمنا الكثير من التنازلات الفكرية والتاريخية للغرب بدعوى حوار الحضارات، وحوار الثقافات، ودعوى الحريات ومزاعم تعرف الغرب،ومالنا وهذا، من يرد أن يعرفنا فليقبل هويتنا الفكرية وآلياتها، والمناحي المميزة لمنطلقاتنا الفكرية.ولقد أشرت إلى هذا في مقالي بجريدة اليوم السابع القاهرية في أغسطس 2009 م "ما لا يعرفه أوباما عن الإسلام". ومن الدوافع التي تدفع كثير من الباحثين إلى كتابة السيرة النبوية أن هذه السيرة وهذه الحياة مثالية في كل جوانبها على الإطلاق، ففيها القدوة الحسنة، والمثل الأعلى، يقول الله تعالى:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) ((سورة الأحزاب / 21) .

كما أنه الأعظم والأبلغ تأثيراً في حياة التاريخ البشري،فلقد تحقق له النجاح الكامل على المستويين الديني والدنيوي، وليس موضوعنا الآن أن نذكر كتابات المستشرقين وعلماء ما بعد البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادي أمثال وليام ماكنيل وجون ماسرمان، ومايكل هارت، وغيرهم ممن اسردوا ضرورة الحديث عن سيرة الرسول(ص) الذي أثر في الدنيا والتاريخ والأخلاق والبشرية جميعها.

كتاب السيرة النبوية:

يجمع المؤرخون على أهمية الذاكرة الحافظة التي امتاز بها العرب، دون السند والدليل والمنهج العلمي الدقيق الذي يعتمد على الأدوات والمعايير، إلا أننا لا نستطيع أن نختلف في فترة صدر الإسلام وعهود الخلفاء الراشدين، فلا شك أن رجال هذه الفترة هم شهود وحفاظ السيرة، وأعتقد أنه لم تكن هناك حاجة ضرورية تدعوهم لتدوين أحداث ووقائع سيرة الرسول (ص) لاستغنائهم بالمشاهدة والحفظ، وانشغالهم بالغزوات و الفتوحات الإسلامية.

وقد بدأت حركة التدوين والتسجيل للسيرة النبوية بدأت مبكراً على يد "أبان بن عثمان" وهو نفسه ابن الخليفة الراشد "عثمان بن عفان" وهو من أعلام السيرة النبوية ورواية الحديث الشريف، وقد تتلمذ على يديه كثيرون من كبار المحدثين والفقهاء من أمثال محمد بن مسلم بن شهاب الزهري،وكذلك محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، ولكن للأسف قد ضاعت مؤلفاته كما ضاع تراث الإسلام من قبل.

ومن رجال التأليف أيضاً " عروة بن الزبير " وهو من رجال الطبقة الأولى من كتاب المغازي والسير، وأبوه هو "الزبير بن العوام بن خويلد"، ولقد شهد عروة الفتنة الكبرى التي عصفت بالمسلمين، وهي فتنة خلافة عثمان بن عفان وما بعدها. واشتهر أيضاً بأنه أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار، وكان قد شغلته السياسة كثيراً عن طلب العلم أيضاً، وهو كسابقه لم تصلنا مؤلفاته أيضاً.

ومنهم أيضاً " شرحبيل بن سعد" وهو من كتاب المغازي. ووهب بن منبه وهو من مواليد اليمن وليس المدينة، لذلك فهو مختلف عن الثلاثة السابقين، وكان ثقة واسع العلم، ويعتبر من العلماء الموسوعيين الذين تناولوا موضوعات شتى. ويوجد مجلد في مجموعة البرديات الموجودة بمدينة " هيدلبرج " الألمانية، ويقول عنه المستشرق الألماني " بيكر ": إنه يرجع أنه يحتوي على قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه.

ومن رجال التأليف في المغازي والسير الأوائل " محمد بن مسلم بن شهاب الزهري"، وهو من كبار التابعين وأعلامهم، ويعتبره المؤرخون من أعظم مؤرخي المغازي والسير وإليه يرجع الفضل في تأسيس مدرسة المدينة التاريخية، وقد امتاز محمد بن شهاب الزهري عن معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين واقتناء الكتب، ولقد ضاع ما كتبه ودونه الزهري بنفسه، وإلى ابن إسحاق يرجع الفضل الأكبر في حفظ علم أستاذه الزهري.

وينبغي علينا أن نشير إلى أن الزهري قام ببحث واسع لجمع تراث الرسول (ص) من أفواه شهوده، ومن هنا تأتي أهمية الزهري من أنه أول من دون الحديث، فهو إذن يمثل مرحلة فارقة حاسمة، وهي مرحلة الانتقال من التراث الشفوي إلى التراث المكتوب بالنسبة للتاريخ الإسلامي. ولكن الذي ينبغي ملاحظته أن هذا الانتقال قد تم داخل ارتباط السياسة والسلطان، فالزهري كان ذا علاقة وثيقة بخليفتين أمويين هما عبد الملك وابنه هشام قد قاموا برعاية عمل الزهري .

محمد بن إسحاق المطلبي:

ومن الضروري أن نعرف سيرة ابن إسحاق لأنها المصدر الرئيس للسيرة النبوية بصورتها التأريخية، وكل من كتب في السيرة في السيرة النبوية نقل عنه، لكننا سنعرضه من زاويتين اثنتين؛ الزاوية الأولى هي سيرة الرجل وما كتبه عنه أفاضل شيوخنا السابقين من مآثره ومناقبه. والزاوية الثانية هي تناوله من ناحية المنهج العلمي وفنياته وأدواته التنظيرية والتطبيقية.

فمن الزاوية الأولى نجد من يطالعنا بأن محمد بن إسحاق هو إمام الأئمة والعمدة في ميدانه، وأكبر علماء السير والمغازي على إطلاقهم . وأقوال العلماء فيه ـ حقاً ـ مستفيضة، فهو ـ كما يذكرون ـ أحد أوعية العلم، وحبر في معرفة المغازي والسير.

ومحمد بن إسحاق ـ كما يسرد الدكتور عبد الشافي محمد ـ هو محمد بن إسحاق ابن يسار بن خيار، وقيل يسار بن كوتان المطلبي بالولاء، المديني، نسبة إلى مدينة رسول الله(ص)، وكان جده يسار من أهل قرية عين التمر بالعراق، وقد وقع في أسر المسلمين عندما قام خالد بن الوليد بفتح عين التمر، وأرسل يسار بن خيار مع غيره من الأسرى إلى المدينة المنورة.

الأمر المهم الذي نريد أن ندركه هو معرفة أن ابن إسحاق أدرك بعض الصحابة ممن طالت أعمارهم، فالكتب تقول أنه " رأى " أنس بن مالك خادم رسول الله (ص)، وكذلك تتلمذ على يد كبار التابعين وعلماء المدينة المنورة، ومنهم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأبان بن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أكرم الله وجهه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري، وغيرهم.

ورحلة ابن إسحاق العلمية معروفة ومنظورة للرائي، فقد رحل إلى مصر والعراق، وما إن سقطت دولة بني أمية سنة 132هجرية، وقامت دولة بني العباس، حتى رأينا ابن إسحاق يرحل مغادراً مدينة رسول الله (ص) إلى العراق حتى استقر في مدينة بغداد، أو كما قيل عنها المدينة المدورة أو مدينة السلام، أو مدينة المنصور. تلك المدينة التي خلبت الألباب وخطفت من العلماء الأبصار، فهي حاضرة الإسلام ومقر العلماء والشعراء وأهل الأدب.

والمشهود لنا أن ابن إسحاق اتصل برأس السلطة ببغداد، ومؤسسها أبي جعفر المنصور، حتى عرف أن كتاب المغازي أو ما شاع ذكره بـ "سيرة ابن إسحاق " قد وضعه استجابة لرغبة المنصور وطلبه لابنه محمد الذي عرف بعد ذلك بالخليفة المهدي.

هذا من حيث الجانب الأول من حياة ابن إسحاق، أما الجانب الثاني فمجمله اتهامات وربما افتراءات كاذبة، وشكول صراعات مضطرمة،ولأننا نستهدف الحق معرفة ويقيناً كان علينا أن نسرد بشكل مقتصد عن هذي الشكول المتسارعة حوله. فهو يؤكد عند كل نازلة وفاصلة فساد العهد الأموي برمته، ونحن ندحض قوله باستحالة وجوب العيوب والنقائص وحدها في حياة الأمم والعهود دونما إيجابيات وإصلاحات لعل أبرزها سعة الفتوحات الإسلامية، حيث إن الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي أبقى الفتوحات، وإذا قبلنا الرأي بفساد كل خلفاء بني أمية كما زعم ابن إسحاق ومن ورائه ابن هشام، فهذا استخفاف بعقولنا واحتقار وإهانة لأنفسنا.

كما أن محنة التاريخ الشفاهي فكرة سيطرت على ابن إسحاق، فقصد في مجمل سيرته إلى البنى الحكائية للقص النبوي دون بعض التكليف بمعرفة تفاصيلها وأخبار أصحابها ومناسبة القول بخلاف الواقدي الذي سيأتي ذكره بعد قليل. بالإضافة إلى ما عاب السيرة من عدم توثيق الأشعار بها.

الواقدي:

كان علينا واجب الإشارة إلى أحد أعلام السيرة النبوية، والذي لم يلق نصيباً من الشهرة التي لقيها محمد بن إسحاق، وهو محمد بن عمر بن واقد، الملقب بالواقدي، وهو مولى من الموالي.         ويعتبر الواقدي من أبرز رجال السير والمغازي، ولقد ولد الواقدي بالمدينة المنورة سنة 130 هـ، وتوفى ببغداد سنة 207 هـ، ودفن ـ كما يروي تلميذه محمد بن سعد ـ في مقابر الخيزران، ومن أشهر من لقيه الواقدي في رحلته طلباً للعلم مالك بن أنس، وسفيان الثوري.

واتصل الواقدي بالخلفاء العباسيين، بداية من الخليفة هارون الرشيد وتذكر القصة سبب تعارف كل منهما على الآخر، والتي أوردها الدكتور عبد الشافي محمد في كتابه الماتع " أوائل المؤلفين في السيرة النبوية " أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما حج في أو عام من خلافته سنة 170 هـ، قال ليحيى بن خالد البرمكي: ارتد لي رجلاً عارفاً بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل (عليه السلام) على النبي (ص)، ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء، فطفق حيى يسأل عن الرجل الذي تتوفر فيه تلك الصفات التي طلبها وحددها هارون الرشيد، فدله الناس على الواقدي.

والواقدي ـ نفسه ـ يروي ذلك الحدث، فقال: " كلهم دله علي، فبعث إلي فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي: يا شيخ، إن أمير المؤمنين ـ أعزه الله ـ يريد أن تصلي العشاء في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد، فتوقفنا عليها ففعلت، ولم أدع موضعاً من المواضع، ولا مشهداً من المشاهد إلا مررت بهما عليه". ورغم صلة الواقدي القوية بالبرامكة إلا أن مكانته في بلاط خلفاء بني العباس ظلت كما هي، ولم ينله ضرر بسبب تلك الصلة بعد نكبتهم، بل ازدادت مكانته وثقة الخلفاء فيه إلى الحد الذي جعل المأمون يوليه القضاء في عسكر الهدى، وكان المأمون كثير الإكرام له، ويداوم على رعايته.

وكان الواقدي غزير الإنتاج، كثير التأليف، فله أكثر من أربعين كتاباً في المغازي والسير والتاريخ، وهو الأمر الذي يزيدنا غموضاً في عدم ذيوع شهرته كسابقه ابن إسحاق. وربما اتصاله بالبرامكة هو الذي جعل شهرته ومكانته في العصور التي تليه تقل وتخفت، لكننا نرى أن الواقدي أكثر دقة من الناحية المنهجية والعلمية في تناول الأحداث التاريخية عن ابن إسحاق، وابن هشام، فهو يحاول أن يتحرى الدقة في المعلومات التي يوردها في نصه، عن طريق أقارب وأصحاب وأتباع وتلاميذ الشخصيات الواردة بكل حادثة يذكرها.

وهو ـ نفسه ـ يحدث ذلك قائلاً: " ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة، وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته، هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده، وأين قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع فأعاينه". وكانت كتب الواقدي مصدراً أصيلاً لكل المؤرخين الذين جاءوا بعده، فما من مؤرخ إلا واقتبس من كتبه، ولكن لسوء الحظ ضاعت معظم هذه المؤلفات العلمية العظيمة التي خلفها، ولم يبق من كتبه سوى كتابي فتوح الشام، والمغازي. ومع الواقدي أصبح الاعتماد أساساً على المكتوب، وهذا ما يؤكده مترجموه من أنه كان يمتلك مكتبة بها ألاف الكتب وغلامين يكتبان الليل والنهار.

ولعلنا أكثر تحمساً للواقدي عن ابن إسحاق رغم شهرة الأخير بين العامة والعموم والسواد، لأنه أكثر إخباراً عن سيرة الرسول (ص) في المدينة، وهو أميل في إخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحاق، وهو ـ أحياناً ـ يرجع إلى مادة علمية مكتوبة في صحف رآها واعتمد عليها، كما أنه يمتاز عن سابقيه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث . ويكفي الواقدي فخراً وشرفاً أن الإمام مالك بن أنس كان يثق في رواياته، بينما كان لا يثق في روايات ابن إسحاق، وقد لقبه الفقيه محمد بن الحسين الشيباني (من فقهاء الحنفية) بأمير المؤمنين في الحديث.

السيرة النبوية والخطاب التاريخي:

لابد من التمييز بين نوعين من الخطاب؛ خطاب يحمل أمراً شرعياً مقدساً أو خبراً من السماء، وكما يقول ابن خلدون هذا واجب تصديقه. وخطاب يحمل واقعات من عالم الطبيعة، ولكل من الخطابين مقياس للصدق. وابن خلدون في مقدمته يحيل الصدق إلى العالم الذي يتبع كل خطاب، فالعالم القدسي حق، وهو منهج مشروع واضح مثبت بصحته من داخله، فهو من عند رب العالمين، إذن فهو خطاب مقدس أمين لا يتغير يظل كما هو، فهو خطاب فوق الزمان، وهو في طبيعته حدث في الزمان.

والخطاب المقدس تحمله لغة، وهو ما ينطوي في حد ذاته على استلاب بالنسبة لحال الصفاء، وحين يقول مسلم إن القرآن لا يحاكى، فهو يعني أن علاماته تأتلف ائتلافاً خاصاً يرتفع فيها الدال ليتحد بالمدلول المقدس.

وبقي لنا أن نشير إلى دور القصص الشعبي في صياغة بعض كتب السيرة النبوية، ولاشك في أن الخيال الشعبي الذي صاحب الكثير من المذاهب والفرق الإسلامية صاغ العديد من القصص التي لم نرها في الكتب الصحيحة للسيرة النبوية والتي أراد بها أعداء الإسلام النيل منه ومن نبينا الكريم (ص) ولكن هيهات.

والدور الشعبي الذي لعبه هؤلاء المؤلفون هو تأييد لوجهة نظربعض الفرق الدينية والفكرية، وهو مشهد متصل للصراع الفكري والديني بين هذه الفرق، وأكاد أجزم بأن ما جاء إلينا من أخبار غريبة غير متواترة وأخبار صراعية هي لا شك من رحم الصراع المأساوي بين بعض الفرق والتيارات وكذلك المحاولات المشبوهة التي قام بها المستشرقون.

وكما يؤكد المؤرخ سيد خميس في أن الخليفة معاوية أدرك مبكراً السحر الإعلامي للقص الديني، وقوة تأثيره في نفوس العامة، فبعث في طلب القصاص وجمعهم إليه، وبالطبع أجرى عليهم الرواتب من بيت المال، ثم أوعز إليهم بالدعاء إليه على المنابر وأداء بعض القصص والروايات التي تعضد ملكه وسلطانه.

وفي العصر العباسي كانت الفتنة أشد وأعظم خطراً، لاسيما مع ظهور الصراع العربي الفارسي، فقد أضاف الرواة الفارسيون القصص العجيبة التي لا وجود لها في كتابنا هذا، وكان من البدهي أن يستجيب العامة لهذه القصص الخيالية وان يشغلوا بها انشغالاً عظيماً. ويضرب الدكتور محمد النجار مثلاً على ما جاء به القصاص في ذلك العصر في موضوعين كانا أثيرين عندهم، هما قصة الإسراء والمعراج، ومرويات الشيعة عن آل البيت، وخاصة فيما يتصل بمقتل الإمام الحسين، فقد لعب بالعاطفة دوراً عظيماً وخطيراً في التأليف القصصي على حساب الوقائع التاريخية.

وإذا دققنا النظر لاستقرأنا الخلط بين الحقائق التاريخية والقصص الخيالي والخرافات، وتسرب الخيال الشعبي الطائفي إلى كثير من أحداث ووقائع السيرة النبوية فمالت هذه الوقائع إلى الأساطير والمبالغات اللامعقولة. ومن هنا أصبح من الصعب إيجاد وسيلة منهجية دقيقة ترجح ما هو تاريخي على ما هو خرافي إلا ما رحم ربي . وعلى هذا نجد الكثير من القصص التي تحتاج إلى ضبط تاريخي بالمعنى العلمي في بعض الكتب التي تناولت سيرة رسول الله (ص)، ولقد اجتهدنا جهد مشقة وضعف في نقل الأحداث التاريخية من مصادرها الصحيحة مع تحقيق تواترها وإثبات صحة ناقلها أيضاً.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م ) .

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

 

في المثقف اليوم