دراسات وبحوث

سليم جواد الفهد: الأساس التأريخي للاستقطاب الطائفي بين الشيعة والسنة في العراق

تأريخيا يرتبط الاستقطاب الطائفي بين الشيعة والسنة بدخول البويهيين إلى بغداد وفرض هيمنتهم عليها في القرن الرابع الهجري عام(334هـ).

فقبلهم لم يكن إلا اختلاف مذهبي يجري مجرى الخلاف الفقهي والتمايز العقائدي.

لكن البويهيين بعد أن سيطروا على الخلافة العباسية في بغداد وتكريسا لرغبتهم في البقاء في بغداد أطول فترة ممكنة سعوا لإيجاد قاعدة شعبية لحكمهم فتبنوا مذهب الاثني عشرية.

كان البويهيون يدركون تمام الإدراك أن الاندماج السياسي وبالتالي الوحدة السياسية للطوائف الإسلامية المتأخرة أمر يشبه المستحيل وذلك مؤسس بالإشكالية المتعلقة بماهية المبدأ الناظم الذي يقبع في أساس نسق السلطة الإسلامية ألا وهو الإمامة. حيث لا شرعية تعلو على شرعيتها.

ومن هذا المنطلق تأكد البويهيون أن الإمامة هي وسيلة تحكم مركزية في الطائفة الشيعية بل هي القلب النابض للجسم الشيعي.

ومادام الإمام الثاني عشر غائب أي غير موجود واقعا ولا يستطيع أن يباشر مهام الإمامة فليكن للفقيه الشيعي النيابة عنه في هذه المهام ولأن الفقيه الشيعي غير مبسوط اليد - أي لا يملك السلطة السياسية- فليستعين بمن يملك السلطة السياسية في عملية تخادم مجزية لكلا الطرفين.

وهي الأطروحة التي استطاع من خلالها البويهيون الوقوف بوجه الفاطميين والعباسيين والزيدية.

فالبويهيون لم ينقلبوا على الخلافة العباسية ولم يعزلوا الخليفة العباسي بل أخذوا وظيفته السياسية وجعلوه شكلا بلا مضمون و وضعوه تحت رقابة إضافية من خلال إجراءات قسرية سياسية شمولية. وهنا انزوى الخليفة ومذهبة لمصلحة البويهيون ومذهبم الجديد.

لكن هذه التسوية السياسية لم تكن معلنة أو صريحة بل ظلت أمرا واقعا تكرسه وتديمه القوة.

وهنا ندرك لماذا تخلى البويهيون عن الزيدية وتبنوا الاثني عشرية في مقابل العباسيين والفاطميين!

فعندما دخل البويهيون بغداد وجدوا أنفسهم بين ثلاثة اطراف متصارعة هم: 1-العباسيون. 2-الفاطميون. 3-الزيدية.

وبما أنهم كانوا قد تخلوا عن المشروع السياسي الزيدي عند استيلائهم على بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام (334هـ) وذلك بعدم اختيار إمام علوي زيدي ولم يتحولوا الى "سنة يؤمنون بالخلافة العباسية" وكانوا في نفس الوقت في تنافس وصراع مع الفاطميين في مصر فإنهم بحثوا عن مذهب فكري يختلف عن المذاهب الثلاثة السابقة: العباسيون السنة والزيدية-نسبة إلى زيد بن علي السجاد- والإسماعيلية (الفاطمية)- نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق- ووجدوا ذلك في بقايا الفرع الإمامي الموسوي الذي كان قد وصل الى طريق مسدود بوفاة الإمام الحادي عشر: (الحسن العسكري ت260هـ) دون خلف وفقد بالتالي المشروع السياسي والزعيم القائد إلا إنه يمكن أن يدعم السلطة البويهية ويقف أمام المذاهب الأخرى ومشاريعها السياسية. فأصبحوا "أئمة" للشيعة "الاثني عشرية" الذين لا إمام حيا وظاهرا لهم.

ويمكننا أن نعثر على بعض المؤشرات التي تؤيد هذا الاستنتاج كما يلي: احتضان مؤسس الدولة البويهية الملك الحسن بن بويه بن فنا خسرو الديلمي الملقب بركن الدولة (ت366هـ)  للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق الذي كان ينشط في تأليف الكتب (الاثني عشرية).

وقد"وُصِف للملك المذكور حال أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي وما يقعده في المجالس وما عليه من الآثار وما يجيب عنه من المسائل والاخبار ورجوع الإمامية إليه وإلى أقواله في البلدان والامصار  فأحب لقاءه ومسألته فقدم إلى حاجبه البرمكي إحضاره فركب الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان فلما دخل عليه قربه وأدناه وأكرمه ورفع مجلسه فلما استقر به المجلس قال له السلطان: أيها الشيخ الفقيه العالم ..." ثم جرى بينهما حوار حول الامامة والغيبة.

(يوسف البحراني، الكشكول ج1 ص226 ، والتنكابني، قصص العلماء ص391).

وقد نص على هذه المناظرة آقا بزرك الطهراني في (الذريعة ج22 ص293 تحت رقم: 7151).

وقد عبر الشيخ الصدوق بنفسه عن بعض ما جرى فقال: "لقد كلمني بعض الملحدين - ويعني المعارضين حيث كان الاختلاف بالرأي يوجب الخروج من الدين كما هو حاصل الآن عند المتطرفين- في مجلس الأمير السعيد ركن الدولة (رضي الله عنه) فقال: وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الروم يغلبون على المسلمين. فقلت له: ... انه (ع) بأمر الله تعالى، ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر...

فقال الملحد: لست أؤمن بإمام لا أراه ولا تلزمني حجته ما لم أره، فقلت له: يجب أن تقول: أنه لا تلزمك حجة الله تعالى ذكره، لأنك لا تراه ولا تلزمك حجة الرسول لأنك لم تره.

فقال للأمير السعيد ركن الدولة (رضي الله عنه): أيها الأمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنه يقول: إن الإمام إنما غاب ولا يرى لأن الله عز وجل لا يرى، فقال له الأمير (رحمه الله): لقد وضعت كلامه في غير موضعه، وتقولت عليه وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز".

(الصدوق، محمد بن علي بن با بويه، كمال الدين وتمام النعمة في اثبات الغيبة وكشف الحيرة، ص 117-118 مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين في قم، 1429هـ).

وأكد الشيخ على أكبر الغفاري، تلك العلاقة الوثيقة بين ركن الدولة والشيخ الصدوق، في مقدمته لكتاب (كمال الدين وتمام النعمة في اثبات الغيبة وكشف الحيرة) فقال: إن "الملك ركن الدولة البويهي الديلمي أرسل إليه واستدعى حضوره لديه، فحضر مجلسه، فرحب به وأدناه من نفسه وبالغ في تعظيمه وتكريمه وتبجيله، وألقى إليه مسائل غامضة في المذهب فأجاب عنها بأجوبة شافية، وأثبت أحقية المذهب ببراهين واضحة بحيث استحسنه الملك والحاضرون، ولم يجد بدا من الاعتراف بصحتها المخالفون.

وعمدة الكلام في تلك المجالس إثبات مذهب الإمامية ولا سيما مسألة الغيبة.

وذلك لأن الشيعة الفرقة الأثني عشرية بعدما فقدت راعيها تفرقت وأرتابت ووقعت في الحيرة لخفاء الأمر عليها، وكان أمر الصاحب (ع) منذ أيام السفراء الممدوحين الى أواسط القرن الرابع في ضمير الغيب، لا يكاد يسمع إلا همسا أو من وراء حجاب، لا يعلمه إلا الأوحدون، ولا يعرفه إلا خواص من  الشيعة وهم لا يستطيعون الاصحار باسمه ولا وصفه يعبرون عنه في نواديهم تارة بالصاحب، وأخرى بالغريم، وثالثة بالرجل أو القائم، ويرمزون إليه فيما بين أنفسهم ب (م ح م د) وأمر الإمام في تلك الأيام في غاية الاستتار.

ومن جانب آخر كثرة الشبهات والتشكيكات التي ظهرت من المخالفين كالزيدية - وهم العمدة - والكيسانية والإسماعيلية والواقفة في موسى بن جعفر، فتشابكت هذه العوامل وتحير الناس في أمر الإمام الغائب، وأفضى إلى ارتداد الفئة الناشئة وصرفهم عما كانوا عليه هم وآباءهم. ولولا مجاهداته ومباحثاته في الري في مجالس عدة عند ركن الدولة البويهي مع المخالفين وفي نيشابور مع أكثر المختلفين إليه وفي بغداد مع غير واحد من المنكرين، لكاد أن ينفصم حبل الإمامية والاعتقاد بالحجة، ويمحى أثرهم ويؤول أمرهم إلى التلاشي والخفوت والاضمحلال والسقوط ويفضي إلى الدمار والبوار".

(الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة في اثبات الغيبة وكشف الحيرة، ص9-10 مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين في قم).

وكانت الشيعة الأثني عشرية قد اكتملت كطائفة دينية وتوقفت عن الخوض في السياسة لتظهر في وقت مبكر من التوزيع الطائفي في المجتمع الإسلامي كواحدة من الكيانات الطائفية المبكرة مع ملاحظة أن أصل الطوائف الإسلامية في العموم هو كيان الفرقة التي ترادف على مستوى السياسية مصطلح الحزب وعلى المستوى الفلسفي والكلامي مصطلح "المدرسة".

ولم تستعمل كلمة الطائفة في الزمن السابق الذي كانت الفرقة ناشطة فيه على المستويين. وأوصلنا التحقيق إلى أن أولى الطوائف ظهورا هي الشيعة الأثني عشرية ربما بدءا من جعفر الصادق أو والده محمد الباقر على أنها لم تكتمل كطائفة إلا في القرن الرابع الهجري. وفي هذه الأثناء ظهر التسنن - في منتصف القرن الثالث الهجري - كحركة تملك جميع خصائص الطائفة الدينية. فتكون قد تزامنت في الظهور طائفتان: الأثني عشرية والسنية. على أن الصراع لم يكن آنذاك بين السنة والشيعة فقد دخلت الطائفة السنية في خصومات حادة مع جميع الفرق والمدارس الإسلامية القائمة في زمنها. وكان هناك استقطاب سني معتزلي وسني باطني وسني صوفي وسني فلسفي وبقي هذا الاستقطاب قائما حتى نهاية العصر الإسلامي حيث كفت الفرق عن الوجود وتحول ما بقي منها الى طوائف صغيرة. ولذلك خلت العصور الإسلامية من صراع طائفي وإنما كان ذلك ما بين الفرق السياسية والكلامية. وبعد اختفاء الفرق في عصر ما بعد الإسلام استأثر التسنن بالعالم العربي والإسلامي كله عدا العراق مما قلص رقعة الصراع وأبعاده في زوايا منعزلة.

(هادي العلوي - حوار الحاضر والمستقبل).

بالرجوع الى الجذر التأريخي للمشكلة الطائفية تجده عند البويهيين وهم المسؤولون عن تأجيج الاحتراب (السني - الشيعي) في العراق إذ كانوا أول من نظم المواكب الحسينية في عاشوراء وأغلقوا الأسواق في العاشر من محرم وسيروا الناس في الشوارع تطلم وتبكي وتنوح  وأدخلوا العراق في دوامة المذابح المتقابلة حتى اليوم.

وقد زور التأريخ لتكريس هذا الوضع وقام رجال الدين من الطرفين بدورهم في ترسيخ الرموز الطائفية والمؤسسات الطائفية فتحول فقهاء ما قبل السنة الى أئمة للسنة وتحول المتصوفة الذين وضعوا أنفسهم في مقام الأنبياء إلى قديسين للسنة: يعبدهم السني ويلعنهم الشيعي.

واختلط الحابل بالنابل لكي يستريح رجال الدين على أرائكهم ويتمتعوا في الدارين.

ولم يخل ذلك كله من علاقة الطائفة بالسلطة ففي كل وقت تأتي دولة شيعية فتؤيد الشيعة وتضطهد السنة وتأتي دولة سنية تؤيد السنة وتضطهد الشيعة.

وهذه المآزق التأريخية تحدث عنها كبير فلاسفتنا "أبو بكر الرازي" في هجومه على رجال الدين وحملهم مسؤولية اثارة الحروب.

وتلقفها منه شيخ المعرة في لزومياته فقال مفسرا سبب الصراع:

إن الشرائع ألقت بيننا فتنا وعلمتنا أفانين العداوات.

***

سليم جواد الفهد

في المثقف اليوم