قضايا

(لا يجب استبعاد قدرة الفن على التعبير عن فكر سياسي وثقافي نضالي، ذلك أنه يوفر جهدا حاسما في تقديم أدوات استقلاليته دون الزيغ عن نطاق الثقافة الاجتماعية السائدة، ويستتبع ذلك بالخوض في تجربة الترافع ضد الخمول والاستهتار والسلبية، ومع ما يقوى الوعي الجمالي، أو ما يستثير الحزن والمواساة عوضاً عن آمال القيامة والانبعاث).

لم يتغاض الفلاسفة عن فعل الفن في الحياة، وأبعاده الجمالية والإنسانية والأخلاقية، إذ يعتبرونه الدافع الجوهر للحياة، ويمثل جزء كبير منه الإدراك المبدع للجدوى من قيم العيش وإرادة المشاركة، وحس التدافع والانتصار للكونية .

وهذا المدار القيمي، يلتقي في صلب (التراجيديا) أو المأساة، كونه يستخلص النشوة والإسراف ورمز الغريزة، وهي تعبيرات عن كون الإنسانية اليوم تعيش تمزقا أخلاقيا خطيرا، وتناغما لتنميط الحياة وبعدا عن إرادة تحرر الذوات.

لكن روح هذا الافتئات، يحاول جهد الأيمان، استعادة الجذوة، وإيقاظ الحواس من عمائها المصطنع، مع ما يغدي ذلك من حضور لافت للأخلاق الجمالية واقتداريتها في التأثير والإبهار والانتشار السريع.

ولا أدل على ذلك من أن نخبا من الفنانين والشعراء والمثقفين المرموقين من جميع أنحاء المعمورة، هبوا لنجدة الضمير وإيعازه من غفلة التوجيه ونار الفتنة في قضية غزة وما تتعرض إليه من إبادة ومجازر وهتك حرمات وتهجير وتجويع.

لقد تحررت الأصوات الفنية من ارتدادات التشطير الدافعي للشهرة والنجومية، وعلاقاتها بالأسواق والعلامات التجارية، وأضحت تكرس الجبهة المضادة للتعتيم والتغول والابتزاز وكل أنواع الحصار، كما هو معروف لدى أجهزة التنظيم الإعلامي والسيطرة المدفوعة.

وخلال 100 يوم من الحرب الإبادية القاتلة على قطاع غزة، انتفضت قوى الفن تلك، وهي تغلي كمرجل صدى الضمير العالمي، الذي يقبع في صمت الدهاليز، متفرجا متآمرا غير قادر على تغيير التراجيديا أو توقيف عجلاتها الساحقة؟.

ونقلت وسائل الإعلام الدولية، نداءات لكبار الشخصيات في عالم الفن والثقافة، كالمغني الارلندي سيث واتكنز، والملحن والأوبرالي الإيطالي جو فالسي، ومغني الراب الأمريكي ماكليمور، والممثلة البريطانية جولييت ستيفينسون، والممثل الأسترالي رشاد ستريك، ومغني الراب الأمريكي ريدفيل، والفنانة النرويجية هيلاري أليسون، والمغنية البريطانية ميلاني مارتينيز، بالإضافة إلى نجوم هوليود كأنجيلينا جولي ووسوزان ساراندون وجينا أورتيجا، وعارضتا الأزياء الأمريكيتين "بيلا وجيجي حديد" ...

ومما يثير الفضول، في مقابل تعزيز الدافع الحقيقي لهذا التحول، أن يكون مضمون المحتوى المروج ضمن نداءات هؤلاء المؤثرين، أو للكثير منهم، متناغما مع حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسان الفلسطيني المقهور. حتى إن قراءة العديد من تعليقاتهم أو تصريحاتهم أو معاني كلمات أغانيهم وأناشيدهم، يحيل إلى وعي ثقافي وسياسي منظم وذي مردودية فكرية وإبداعية. وهو ما لا يتناقض البتة مع بعض سلوكيات نخب المجتمع الغربي، من حيث إيثاره الصمت السلبي، وعدم اتساقه مع نسبة كبيرة ممن يجهلون حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته على السلم الدولي وقضايا العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

ومن أجمل ما سمعت وقرأت مؤخرا، أغنية للمغني الارلندي الشهير سيث واتكنز، وهي تحمل عنوان "تحيا فلسطين" Leve Palestina، انتشرت بسرعة فائقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتؤرخ الأغنية لتاريخ القضية الفلسطينية ، منذ أحداث النكبة عام 1948، وحتى أحداث غزة التي بدأت مع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

والأغنية من كلمات وألحان نفس المؤدي، والذي يشتهر بكونه يغني للقصص الإنسانية العادلة، غير بعيد عن إبداء وترجمة أحاسيسه الخاصة بالقضايا التي يؤمن بها.

سيث واتكنز عندما سئل عن الأغنية كيف جاءت وما أسباب نزولها، أجاب ""يا فلسطين، يا فلسطين، كتبت هذه الأغنية وأنا أبكي على أكثر من 20 ألف شهيد في غزة خلال 77 يوماً فقط، 40% منهم أطفال، وهي نسبة أعلى من أي صراع آخر في الذاكرة الحديثة، مشددا على أن "."الحل: أرض واحدة، حقوق متساوية، وإنهاء دولة الفصل العنصري، آمل أن تجلب هذه الأغنية الأمل لليائسين، والتعاطف مع أولئك الذين ليس لديهم شيء حالياً، لأولئك الذين ما زالوا يعانون من واحدة من أكثر الحملات الإرهابية اللاإنسانية والمروعة في التاريخ الحديث".

تقول كلمات الأغنية في بدايتها:

في عام 1948 طردوا من أرض أجدادهم، قصفت بيوتهم ومدنهم

يا فلسطين يا فلسطين، نسمع نداءك المستغيث

أن تعود الأرض مرة أخرى، وأن يتحرر شعبك

يا فلسطين يا فلسطين، شعبك يعيش في خوف

نطالب بتحريرك من النهر إلى البحر

في عام 1967 نفّذت إسرائيل الغزو

لتستعمر وتستوطن القليل الذي تبقى

من شعب فلسطين القديمة، مرة أخرى مصيرهم متشابك

مع الاحتلال الصهيوني لبيوتهم وعقولهم المتعبة..

لقد كان الفن وسيبقى معبرا لتجسيد فعل المحاكاة، أو هو سبيل إبداعي من سبل تهذيب الحياة وتخليقها. فلا تقوم الإنسانية ما قامت إلا بنشاطه العبقري وبصيرته وحكمته ونورانيته. ولا يستوي الناهض فيه من الساكن الخراص، فالمقامان يختلفان، ويتشابكان في القلق والرؤية وتدبير القيم. الأول ينصف ويعدل ويترجم ويؤثر، أما دونه، فيظلم وينتهك ويحزن وينافق.

فأيهما أسعد بالإنسانية؟ وأيهما الأجدر بالملكة والتفاعل الفاهم والمستبصر؟ وهل يستويان مثلا؟

***

د. مصطفى غَلْمَان

قال الله سبحانه "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وردت ناضرة وناظرة في سورتين متتاليتين لوجود ارتباط بين النظر والنضر اي عندما يكون البصر والبصيرة في بهجة. النضر: الحسن ووقع منه في القرآن ثلاثة مواضع في قوله جل جلاله "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة " (القيامة 22) ناضرة اسم أي مضيئة مشرقة، و"وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الإنسان 11) النضرة أي البهجة في الوجه والسرور في القلب، و"تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) نضرة النعيم أي بهجة النعيم. جاء في معاني القرآن الكريم: نَضْر: اسم علم مذكر عربي قديم، وهو مصدر بمعنى: النعومة، النضارة، الحسن، الجمال، الذهب والفضة. ونضر بن الحارث ( ت 2هـ) حامل لواء المشركين يوم بدر وابن خالة النبي صلى الله عليه وسلم. اصل اسم نَضْر: عربي. أسماء ذات صلة: النضر، نَضْر، نَضير، نُضار، نضرة. قال الله تبارك وتعالى " فَوَقَـهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" (الانسان 11) نضرة بمعنى ظهور البهجة والسرور على الانسان، وهو تعويض عن الخوف من الله ومن يوم القيامة. لقاهم يعني استقبالهم.

عن برنامج لمسات بيانيه ما الفرق بين (ناضرة) و(ناظرة)؟ وما معناهما؟ للدكتور فاضل السامرائي: قال تعالى: في سورة القيامة "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23)) لماذا اختلفت الضاد؟ (ناضرة) معناها جميلة "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24)) من النضارة والجمال. (نضرة بالضاد) وجوه يومئذ (ناضرة) جميلة (ناظرة) تنظر إلى ربها، (ناضرة) جميلة من الجمال . (ناظرة) أي تنظر الى ربها هذا يسمى جناس يعني اتفاق الكلمات واختلافها في حرف.

جاء في موقع موضوع: قوله تعالى:  الجناس المُحرّف "وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23) والجناس في كلمتي ناضرة وناظرة في تبديل الحروف. الجناس مصدر من الفعل (جانَسَ)، (يُجانس)، (مجانَسة)، و(جِناساً)؛ بمعنى شابهه، واتَّحد معه في النَّسق، أمّا في الاصطلاح اللغويّ، فالجناس هو: فنٌّ من فنون البديع، تكون فيه الألفاظ متشابهة في النُّطق، واللفظ، ومختلفة في المعنى، ممّا يُظهر الجمال والتناغم في التوازُن الصوتيّ في آيات القرآن، كما يُظهر التناسُبَ بين السِّياق القرآنيّ والمقام، وهذا التوازُن الصوتيّ ينتج عن تكرار مُنتظَم للصوت؛ بسبب تشابه لفظَيه في الشكل، واختلافهما في المعنى -كما ذُكِر في تعريفه-، وتُظهر أثراً واضحاً في أُذن المُستمِع، فتجعله أكثر مقدرة على إطلاق الفِكر في التأمُّل والتدبُّر، وتُحقِّق له اللذّة السماعيّة. أنواع الجناس وهو على نوعَين؛ جناس تامّ، وهو الذي يتّفق فيه لفظان في أربعة شروط، هي: ترتيب الحروف، وعددها، ونوعها، وهيئتها من حيث الحركات والسَّكنات، ومثال ذلك قول الشاعر: فَدارِهِم ما دُمتَ في دارِهِم وأَرضِهِم ما دُمتَ في أَرضِهِم والجناس غير التامّ، أو ما يُسمّى بالجناس الناقص، وهو: اختلاف لفظَين في أحد الشروط التي لا بُدّ من توفُّرها في الجناس التامّ، مثل: السّاق والمَساق (اختلاف شرط العدد)، والشَّعْر والشِّعْر (اختلاف شرط الشكل)، وبين وبني (اختلاف شرط ترتيب الحروف)، وتَقْهر وتَنْهر (اختلاف شرط نوع الحروف)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاختلاف إذا وقع في نوع الحروف، فيُشترَط ألّا يقع في أكثر من حرف واحد. والجناس يُعَدُّ جناساً حَسَناً إذا ورد في النصّ بلا تكلُّف، ولا تكرار كبير يُؤثّر في حَقّ المعنى، وسبب استحسان الأذن للجناس حدوثُ تجاوُب في النغمة الموسيقيّة بوجود التماثُل الكامل، أو الناقص بين الكلمات، ولأنّ النفس مُتشوِّقة إلى سماع ما يأتي متوافقاً مع النغمة نفسها، مع اختلاف المعنى.

يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة وباسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها. والمعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: "وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة " (القيامة 24) الخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) وقال: "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الانسان 11) وقوله: " إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 23) خبر بعد خبر لوجوه، و"إِلَىٰ رَبِّهَا" متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية. والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الايمان على ما يسوق إليه البرهان ويدل عليه الاخبار المأثورة عن أهل البيت وقد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ" (الاعراف 143)، وقوله تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11). فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإلهية شاملة لهم"وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" (النمل 89) ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشئ من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شئ ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له. ومن هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" على"نَاظِرَة " يفيد الحصر والاختصاص، أن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة. والجواب أنهم لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه انما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم. وأما ما أجيب به عنه أن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها. فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الابصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره. أن العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23)، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهو سألك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6).

***

د. فاضل حسن شريف

 

هناك من زعم أن ما أوردته فى أضابير الانترنت وزودي عن من لا مثيل لهم ولا قرين، حافل بالشطط، ويشوبه التناقض، ويعوزه البحث والدليل، رغم أن جل ما أوردته كان مترعاً بالشواهد والبينات، ولم يكن يمت للتناقض بصلة، أو يصل إليها بسبب، فقد زعمت في مقال لي أن لهجة المرء تاريخه وذاته، والغض منها غض منه، والاستخفاف بها استخفاف به، ولا يرضى الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز كما قال أحد الأدباء، وأنا أيها السادة لم أكن أنثر عليكم دموع الخنساء، أو أشنف مسامعكم بتشاؤم أبى العلاء، ولكن أحكي عن أمة يعتقد البعض أن ليس لها جاه عريض، أو نسب عريق، أو علم وثيق، حتى لا تُضام ناصيتُها، فللغير أن يعفّر خدها بالتراب، ويستبيح ذمارها عبر الفضائيات وأضابير الانترنت، هذه اللهجة التى جعلت من أمة متعددة الأعراق، متباينة السحنات والعادات، أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، تُختزل فى عبارات مبتذلة، لتدفع عن الحياة الرتابة، وعن النفوس الملالة، ووتتقاذفها أفواه رجرجة الخليج ودهمائهم، أصحاب الأخلاق المنحلة، والأحلام المختلة، الذين يصلون نسبهم بالفن ويستظلون تحت أفيائه، طغمة السوء التي سخرت اللهجة السودانية للتسلية ولتزجية الوقت، والتي جعلت من السوداني الذي أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، خاملاً لا يضاهيه أحد فى الميل الي الدعة والراحة، ومتبطلاً يزجى فراغة بالنوم و مسامرة الأصفياء، وعليه فأن دوحة الكسل فى أرض النيلين فينانة الأفرع، ريا الأماليد، السودانى الذي إذا أراد البعض وصفه بكليمات يلقيها فى عجل لم يحيد عن سخاء تفيض به الموائد، وعلم تزخر به المنابر، وبشاشة تفتر بها الشفاه، نعم أيها السادة السوداني أحمى للجار، وأذبّ عن الذمار، فمتى ترتفع أغطية القلوب، وتنكشف حجب الأسماع.

انني حينما كتبت ما خطه يراعي لم أكن أهرف بما لا أعي، وإنما صدحت بها واضحة جلية، لا التواء فيها، بأن هناك بدع تمضغها بعض الأفواه فى سماجة، وتجترها بعض العقول فى غباء، بأن أمة النيلين لا تشارك فى رأي، ولا تحفل بحادث، بل هى مصفدة بأغلال الونى، ومقيدة بسلاسل الخمول، وأن اللهجة السودانية الغنية بالألفاظ، والحافلة بالتعابير والمرادفات، ولا غرو فى ذلك فهي نبعت من يم عظيم، وبحر زاخر، قد تضائلت وتقهقرت وأمست تعانى من الفقر والجدب، ولم يبقى من فضائها الرحب، وجيشها اللجب، سوى (يا زول وآآآى، وشيء من كدة كدة يا الترلة)، تستخدم للتخفيف من وطأة الخسارة الفادحة التي مُنِيت بها مملكة علوة وسلطنة سنار، ومأوى المهدي ودينار، وملاذ أوشيك وزنقار، كيف لأمة لا تنفض عنها غبار الخمول، ولا تمسح عن أجفانها فتور الوسن، تحقق فى نوادر المخطوطات، وتنقب عن نفائس المطبوعات، وتحذق أصول التحقيق، وتمتلك فيالق من جهابذة العلماء، يُرجع إليهم في الملمات،ويؤخذ برأيهم في المعضلات، ويُلهِم عندلبيهم الغواني فى الحفلات، ويدبج كاتبهم الصحف بالقصص والمقالات.

لا، لم يكن في مقالي تناقض، ولا في ألفاظي شطط أو جنوح، كما انني يا أخ اليمن لا أرفع شعار تمزق وفرقة، ولا صاحب دعوة تعصب واستعلاء، فالحديث حق مباح للبشر، وكذلك اختيار اللهجة واللغة، فمن تحدث باللهجة السودانية لا يعني هذا أن مصرعه قد آن، وأن حتفه قد حان، وأن جثته سوف تتكفل الخيل بجرها لترمى بالجنادل والصخور، لا أيها العزيز، وحتى ننصرف عن حومة الجدال أن لفظة زول لا تطلق هكذا على عواهنها، بل تعد أهانة لا تغتفر إذا كنت تعلم شخصية من تخاطبه، فأنت إن دعوته بها فكأنك تعمدت تجريده من أسمه وألحقته بالغرباء ممن لا تأمن بوائقهم، أنا على الصعيد الشخصي أمقت أي أحد يتعمد أن يتغاضى عن أسمي وينعتنى بهذه الصفة، لا أريد أن أنجرف عن جادة السبيل، ولكن أعتقد أن الجوهر في تقييم أو قبول غيري للتحدث بلهجتي هو الكيفية التى يتناول بها المفردات والألفاظ، فحتماً لا تنطلى عليك لهجة المستهزء العابث بموروثاتك، وبين الخِل المُحب الذي يتودد اليك بلهجتك، أما ما يشعرني بالضجر والغيظ أن يمازحك أحدهم وأنت تراه لأول وهلة بهذه الجوقة من المفردات الخلابة التى تعكر صفو الحصيف على شاكلة : ( يا زول، دقيقة يا زول، والله بالغت عديل كده، عايزين ملاح أم رقيقة يا زول، أنا يا الحبيب وين قالولي سافر) ثم بعد هذه الديباجة الرائعة من التعابير الممجوجة، يسألك عن ضالته التى ينشدها، مثل هذا الصنف من الناس تراه فى كل صقع وواد، ولقد حدث معي هذا الشى قرابة ترليون مرة وأنا أسعى فى دهاليز الغربة وأضطرب بين أرجائها.

الأخ أحمد البحرينى، وصفت مقالي “السوداني مادة خصبة للتهكم” بأنه يوثق عُرى الضغائن بين الأشقاء، وبأني مهوناً بقاطني الخليج أشد التهوين، ومستخفاً بهم أشد الاستخفاف، صدقنى أنا أبعد الناس عن الاساءة إلي العرب أو الازورار عنهم، ولست بصاحب دعوة تحمل فى أطوائها معانى الاستخفاف، أو الرغبة في الانسلاخ عن اللسان والثقافة، فاللغة العربية هى جزء من حياتنا، ومقوم لوحدتنا فى السودان، ما قصدتهم فى مقالي السابق هؤلاء القوم الذين فتنتهم الدنيا وركنوا إليها، وغدوا يزمون بأنوفهم، ويستكبرون بألسنتهم، ويحصدون من الملايين التى رفعتهم من حضيض، وداوتهم من جهل، ذهباً يكتنز، وقصوراً تُشاد، هم طائفة المهرجين الذين يلتئم بهم شمل الناس عبر الفضائيات ويعدونهم من أيقونات الجذل، وقلائد الابتهاج، هذه الأيقونات لها عقيدة ثابتة كأنها سُنة كونية ماضية، أن الضحك والفرفشة لا تكتمل إلا بالسخرية من وطن متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أخي البحريني فيما الخلاف؟ وعلاما الجدل؟، فتعدي أصحاب الهوى الطاغي، والعشق المضني، على اللهجة السودانية التي تسرب إليها كل لحن، وشابتها كل عجمة، لا تتعارض فيه الأراء، أو تصطرع حوله الحجج، كما أنني أبتدرت مقالي بقولي: (فسجية بعض العرب) ولم أقل كل العرب من قاطني الخليج، فبعض هذه تبرئنى من الغلو والشطط،كما أنني أيها الكاتب المتبسط فى فنون اليراع، قد بسطت لك الأمثلة والشواهد على أشياء حدثت معى ولم أجلبها من نتاف الكتب، أو خطفات الأحاديث، فمقالي السابق دونته بعد سلسلة طويلة من حالات الغبن التي لا يتسع المجال لذكرها.

وختاماً السبب الذي حدا بك للرد علينا دافعه الغضب للعشيرة، واظهار المحبة للأهل، وهو نفس السبب الذي دفعك للكتابة إلينا.

***

د. الطيب النقر

 

أسباب الهجرة:

لقد أوضح الدكتور مكي عزيز بالاشتراك مع رياض إبراهيم السعدي في كتابهما (جغرافية السكان). الصادر عن جامعة بغداد عام 1984م؛ عن أسباب ونتائج الهجرة بما يلي: "الفقر وانعدام الأمن الغذائي والبطالة ونقص فـرص العمل، والتغيـر المناخي، وسوء أوضاع البيئة، من بين الأسباب الرئيسية للهجرة من الريف، كما أن لها نتائج ديموغرافية أو سكانية واقتصادية واجتماعية على كل من الريف والمدينة. وأسباب الهجرة القروية على الأرجح تكون الهجرة قـراراً متعمداً وأحد الطرق التي يسعى لها الكثيرون لتحسين سبل العيش والحياة الكريمة، وسيتم تعداد أهم الأسباب الرئيسة التي تجعل السكان يتخذون القرار بالهجرة القروية:

- الفقـر المدقع في القرية وانعدام الأمن الغذائي: حيث إن ما يزيد على 75% من الفقراء ومن يفتقرون للأمن الغذائي هم من أهل المناطق القروية، حيث غالباً ما يعتمدون على الإنتاج الزراعي بطرق قديمة لتأمين معيشتهم، كما يواجهون مصاعب كبيرة في الحصول على المنح أو القروض لتحسين زراعتهم، كما يصعب عليهم الوصول إلى الأسواق.

- ضعف توافر فـرص العمل: حيث إن معظم الفرص الوظيفية الموجودة في القرية هي في مجال الزراعة وبأجور زهيدة، وبظروف غير صحية وضعف في العدالة والمساواة، إضافة إلى قلّة توفر فرص التدريب والخدمات الإرشادية.

- عـدم المساواة في الخدمات: حيث يرغب أهل القرية بالهجرة؛ بسبب الحصول على الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية الأفضل والمزيد من الحماية الاجتماعية.

- التغير المناخي: حيث إن معظم صغار الملاك والمزارعين والصيادين والقرى المعتمدة على الغابات والرعي الطبيعي هي من أكثر الفئات تأثراً بالتغير المناخي وما ينتج عنه من كوارث طبيعية.

- استنزاف الموارد الطبيعية والتدهور البيئي: حيث إن التغير المناخي والتصحر قد حول الكثير من الأراضي الزراعية إلى صحاري؛ مما أضعف كثيراً من قدرة وإنتاجية المزارعين.

- انعدام الأمن والاستقرار الذي أدى بنزوح المجتمع الريفي بصورة خاصة والمجتمع في محافظة الأنبار بصورة عامة بسبب العمليات العسكرية الأخيرة.

نتائج وأثار الهجرة

تتعدد أسباب ونتائج الهجرة القروية، فهناك نتائج ديموغرافية أو سكانية، وأخرى اقتصادية واجتماعية مثل اختلاف التركيب النوعي وغيرها الكثير، ومن أهم هذه نتائج الهجرة القروية ما يأتي:

نتائج ديموغرافية: يتغير عدد السكان بسبب الهجرة القروية في اتجاهين متضادين، من زيادة في أعدادهم في المدن، ونقص في القرى والأرياف، حيث ينتج نمو حضاري عشوائي في المدن، مما يؤدي لنقص في الخدمات العامة بسبب زيادة الضغط عليها، وزيادة البطالة وانخفاض اجور العمال والانحراف، والتحضر الشكلي أو الزائف.

نتائج اقتصادية: يمكن للصناعات والخدمات في المدينة امتصاص البطالة، كما تنشأ مهن جديدة ويرتفع أجر العامل المهاجر في المدينة، مع ذلك في الصورة العامة ينخفض مستوى الأجور عن السابق، وترتفع نسبة البطالة، وفي القرية تنقص الأيدي العاملة من الشباب إلا القلة، ومع هذا تكون تلك الأيادي العاملة مكلفة الثمن بسبب قلتها في الريف، على العكس من المدن المهاجرة اليها إذ ترتفع كثافة الأيادي العاملة، هناك وتقل كلفها لقلة الطلب عليها. إذ أن هناك الكثير من الأعمال في المدن يستخدم فيها الآلة لوفرة رؤوس الأموال ومقابل هذا فأن الريف يفتقر للكفاءات مقارنة باليد العاملة في المدن.

نتائج اجتماعية: في المدينة تزداد نسبة الجرائم، كما يمارس القرويين عاداتهم التي لا تتفق مع الحياة الحضرية، وتنتشر مدن الصفيح التي هي بؤرة المشاكل الاجتماعية، وفي القرى يختلف التركيب النوعي وترتفع نسبة الاناث، وتقل التوجهات لتطوير الريف مما يزيد من تخلفه. كذلك التغيير من شكل مخطط المدن من خلال التوسع العمراني والعشوائيات .

الحلول والمقترحات:

لحل هذه المشكلة لا بد في البداية من بتر الأسباب التي تؤدي لأفضلية المدن أو التقليل منها، والعمل على أن لا تكون الأرياف مهجورة حتى وإن حصلت الضرورة للعمل في المدن، ففي بادئ الأمر لا بد أن يكون هناك ما يكفي من الخدمات في الأرياف كالخدمات الصحية والتعليم؛ ذلك كإنشاء مستشفى في منطقة وسطية بين القرى أو إنشاء جامعة ودوائر حكومية فرعية، أي أن يكون هناك ما يشبه المدينة المصغرة في وسط الريف، ومن ثم نقل جزء من الأعمال إلى مناطق الريف كأن تكون هناك شركات في المناطق الريفية، وشيئاً فشيئاً تكون المنطقة الوسطية تلك كمدينة ريفية، يرجع إليها أهل الريف في أعمالهم وحياتهم اليومية، وتساعد على بقاء أهل الريف في موطنهم الأصلي، وأما إن كان هناك مدينة قريبة أو تقع في الوسط من مناطق الريف فيتم استغلالها كنقطة مركز فقط، بحيث يكون لأهل الريف مواصلات خاصة بهم تصلهم بالمدينة على الدوام فلا يضطرون للاستقرار بشكل دائم في المدينة، في خطوة أخرى يمكن العمل على تشجيع الاستثمار في المجالات الزراعية والانتاج الحيواني، سواء من أهل الأرياف نفسهم بتخصيص نسبة دعم خاصة بالمزارعين ورعاة الماشية، أو من خلال توجيه الأموال إلى تلك المجالات من خلال وضع حوافز للاستثمار، والعمل على إزالة الهوة والفرق بين الريف والمدينة، والحد من هذا التباين، وبذلك تنتفي بعض أسباب هجرة الريف للحصول على المال في المدن، وتوفير الكثر من الخدمات والمنشآت التي تجعل ابن الريف يستغني عن الهجرة الى المدينة لوجود ما يعوضه عن الهجرة إلا لبعض الرحلات الموقتة للأعمال الإدارية وغيرها التي يكون مركزها المدينة.

كما أن النظم الغذائية والتنمية الريفية تؤثر على الهجرة وترك الزراعة وتتأثر بها في آن واحد، قد يجانب الصواب رسم صورة بسيطة للوضع. فمن ناحية، هنالك أمثلة عديدة حول اضطرار أصحاب الحيازات الصغيرة، وغيرهم من السكان الريفيين، إلى الهجرة إلى البلدات والمدن الأكبر نتيجة افتقار الوسط الريفي والزراعي إلى الفرص الاقتصادية. وكذلك نتيجة الوضع الأمني والسياسي، وفي هذا السياق من المتوقع أن يقود انخفاض الانتاجية الزراعية، وتكوين الروابط مع الأسواق، وتنمية الاقتصاد الريفي خارج المزرعة، إلى الحد من الضغوط المؤدية إلى الهجرة. وترك الأراضي واهمالها، وتشير الأدلة إلى حصول ذلك على سبيل المثال الاستثمارات في تحسين البنية الأساسية في الحالات التي توفرت فيها الاستثمارات في المناطق الريفية كما في محافظة بغداد، وعدم وتمكين أصحاب الحيازات الصغيرة من الوصول إلى التكنولوجيا، والتدريب والخدمات. ومن جانب آخر، غالباً ما يؤدي تحسن الانتاجية الزراعية وزيادة الدخول إلى دفع عجلة العمالة خارج المزرعة، الأمر الذي يزيد في حالات عديدة من الفرص المتوفرة للأشخاص للخروج من المناطق الريفية ومجال الزراعة. ومع ارتفاع أرباح المزارع، تزداد الاستثمارات في المدخلات، والخدمات والآلات. وبارتفاع دخول المزارعين، يزيد إنفاقهم على السلع غير الغذائية من قبيل المعدات المنزلية، والملابس، والأنشطة الترفيهية. وتؤدي جميع هذه العوامل إلى تهيئة الفرص في القطاع غير الزراعي. وبالتالي، تساهم التنمية الزراعية، في واقع الأمر، في تعزيز فرص بالريف والمزرعة. وفي حين تعد الزراعة والتنمية الريفية ضروريتين لحراك العاملين نحو القطاعات غير المرتبطة تقليديا للحد من اضطرار الأشخاص للهجرة من أجل إعالة أسرهم، إلا أن هذه التنمية بطبيعتها تهيئ الفرص لحراك العاملين. وقد تبين أن هذه الفرص تساعد أسر أصحاب الحيازات الصغيرة على زيادة دخولهم وتوفير رأس المال اللازم للاستثمار في مزارعهم. وعدم ترك اراضيهم الزراعية واهمالها.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.........................

المصادر:

- مكي محمد عزيز ورياض ابراهيم السعدي، جغرافية السكان، جامعة بغداد، مطبعة جامعة بغداد، ط1، 1984.

- كاظم عبادي جاسم، جغرافية الزراعة، دار صفاء للنشر والتوزيع، ط1ـ 2014.

- عباس فاضل السعدي، اصول جغرافية الزراعة، جامعة بغداد، دار الوضاح للنشر، ط1، 2019.

 

مع كل منعطف من منعطفات المعرفة البشرية التي لا تفتأ تنمو وتتطور بمتوالية هندسية، ومع كل منعرج من منعرجات الحضارة الإنسانية التي لا تبرح تتقدم وترتقي بمقاييس تصاعدية، تظهر الحاجة لاجتراح مفاهيم واستنباط مصطلحات تواكب هذه النقلة وتجاري هذه الطفرة النوعية، بما يمكنها من تحايث معطياتها في مجالات الوعي والسلوك الإنسانيين بحيث يتاح للفاعل الاجتماعي التعاطي مع هذا الحراك، بلّه السيولة والانثيال، على النحو الذي يحقق غاياته ويضمن مقاصده بشكل متوازن . ولعل الأستاذ الجامعي والمفكر اللبناني (علي حرب) كان السبّاق – من بين أقرانه العرب - في الاشتغال على هذه الأدوات المفهومية، لاغناء عدته المعرفية وتجديد طرائقه المنهجية خلال تعاطيه مع عناصر الثقافة العربية المتشابكة والمتراكبة، عبر سبر أعماق مكوناتها السوسيولوجية والابيستمولوجية والسيكولوجية . 

وفي ضوء ما شهده – ويشهده – العالم اليوم من ثورات علمية وانقلابات معرفية وانفجارات منهجية،  للحد الذي نسفت كل قناعاتنا المعروفة وأطاحت بمجمل مسلماتنا المألوفة، فقد غزت الأدبيات الثقافية والسرديات الفكرية العديد من المفاهيم والمصطلحات التي كان مجرد التفكير بها يعد من قبيل (التندر) أو (التهكم) . لا بل ان الأمر بلغ حدا"من الابتداع للمفاهيم والمصطلحات الغريبة والصادمة، ليس فقط من أجل حملها على مواكبة سيرورات الواقع المتقلبة ومحايثة دينامياته المتذبذة فحسب، وإنما جعلها تضمر معاني ودلالات ما قد ستئول إليه أوضاع المجتمعات وظروفها في قابل الأيام كذلك . أي بمعنى ان مجهودات نحت واجتراح تلك المفاهيم والمصطلحات، لم يكن ليجعل من تعبيراتها ومقاصدها تقتصر فقط على ما يعلن عنه الواقع القائم من معطيات معاشة فحسب، بل وكذلك تضمينها تصورات استشرافية لما قد يتمخض عن المستقبل من احتمالات وخيارات وعلاقات .

وعلى هذا الأساس، فقد تلقف بعض الكتاب والباحثين المأخوذين بكل جديد والمبهورين بكل مستحدث - حتى ولو كان غير معقول وغير ممكن - جملة من تلك المفاهيم والمصطلحات التي ضمنها أصحابها دلالات تشي بموت (المثقف) تارة وانقراض(الثقافة) تارة ثانية، والتي تأتي في سياق الترويج لنهايات (التاريخ) و(الجغرافيا) و(الايديولوجيا)، الخ . كما لو أنها بديهيات مطلقة لا يأيتها الباطل ولا ينالها النقد ولا يعتريها التآكل . دون أن يضعوا في اعتبارهم جملة من الحقائق لعل أبسطها ؛ ان المجتمع الذي يعيشون فيه وينتمون إليه – وان يكن مستحيلا"وجود مجتمع بلا ثقافة - سيكون جحيما"لا يطاق بلا ثقافة تشذب همجيته وتهذب بربريته، مثلما هي أيضا"استحالة وجود ثقافة بلا مثقفين يشكلون عناصرها الإنسانية يجسدون قيمها الأخلاقية ويرسون قواعدها الحضارية . 

وإذا ما تواضعنا على حقيقة ان (الثقافة) هي، أولا"وقبل كل شيء، منظومة من القيم الأخلاقية والقواعد الحضارية والضوابط السلوكية، قبل أن تكون شهادات عالية ومناصب رفيعة وملابس أنيقة وصلاحيات واسعة، فان ادعاء (انقراض) الثقافة و(موت) المثقف) في المجتمعات التي لا تزال مكوناتها تحتكم الى البدوية / القبلية، ومرجعياتها الأصولية / العصبية، وعلاقاتها الفئوية / الزبائنية، وتضامنياتها الريفية / القروية، واستقطاباتها الجهوية / المناطقية . يبدو ضربا"من العبث الفكري والسفسطة اللغوية، من حيث ان عناصر صيرورة (الثقافة) في هذا النمط من المجتمعات المتصدعة والمتشظية، لم تتبلور بعد وفقا"لمقاييس التطور والارتقاء والتقدم حتى يمكن إعلان انقراضها بهذه البساطة . مثلما ان عوامل تكوين الفاعل  الثقافي (المثقف) في مثل هذه الجماعات المتذررة والمتبررة، لم تكتمل بعد استنادا" الى معايير الوعي والأخلاق والتحضر حتى يمكن إعلان موته بهذه السهولة.

وعلى هذا الأساس، لا ينبغي لنا الانسياق – دون بصيرة – خلف بريق المفاهيم ولمعان المصطلحات التي لا يبرح الوعي الغربي ينتجها ويروج لها، تعبيرا"- حقيقيا"أو متخيلا"- عن خصوصيات تجاربه وممارساته في المضامير الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والقيمية والنفسية، ناهيك عن نزوع (مركزيته) للهيمنة الكونية . إذ ليس كل ما تجود به الحضارة الغربية المعاصرة من أنماط فكرية وسلوكية وأخلاقية ورمزية، يمكن حسبانه على لائحة (التثاقف) بين الشعوب و(التلاقح) بين الحضارات و(التمازج) بين الثقافات .  

***

ثامر عباس

وحينما تناقش العوامل (الطاردة) نجد الحروب والاضطرابات السياسية التي شهدها البلد قد لعبت دوراً بارزاً في ظهور أنماط استثنائية من الهجرة، مما كان له أكبر الأثر على الأنماط الحضرية المعاصرة. منها أن نسبة كبيرة من أبناء الريف المهاجرين وعلى الأخص الفقراء منهم قد انتقلوا إلى ضواحي المدن والعاصمة بغداد وأقاموا (مدن الأكواخ والصفيح- التنك)، ثم ما لبثوا أن انتقلوا إلى مناطق المدن ووسط بغداد، مما ساهم على تجريف البساتين والمزارع من قبل أصحابها بسبب المبالغ الطائلة التي تجنيها إذا ما قورنت بمبالغ المحصول والناتج الزراعي.

ولا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى ما حدث للمدن الكردية، فمنذُ ازدياد الوعي القومي لدى الأكراد بسبب ظهور قيادات مثقفة استطاعت إحياء نزعة الاستقلال الذاتي. ومن هذه الزاوية يمكننا فهم الصراعات الحادة التي نشأت بين الحكومة العراقية والأكراد، التي أدت بها إلى هدم الكثير من القرى الكردية وهجرة سكانها إلى الأحياء الكردية داخل المدن العراقية.

فضلاً عن العوامل السياسية هناك؛ والعامل الاقتصادي الطارد الذي لعب دوراً هاماً في تحديد الهجرة الريفية، ويرتبط بطبيعة الحال بمعدل النمو الاقتصادي في مناطق العراق المختلفة. كما لوحظ أن طبيعة المبادئ السياسية التي تبنتها حكومة الزعيم قاسم قد انعكست على الواقع الريفي، إذ احدث مشروع الاصلاح الزراعي نتائج اجتماعية/ اقتصادية هامة، وبمقتضى هذا المشروع تكونت طبقة وسطى ريفية نتيجة لإعادة توزيع الأراضي الزراعية التي استولت عليها الحكومة من كبار الملاك. وعلى الرغم من أن هذا الموقف قد يؤدي على الأقل نظرياً إلى تقليل معدلات الهجرة الريفية، إلا أن ذلك لم يتحقق في الواقع. فكانت نتيجة ذلك تدهور الانتاج الزراعي وهجرة بعض العوائل الفلاحية إلى المدينة بسبب انتشار البطالة بين الفلاحين لينظموا إلى جماهير الفقراء الحضريين. وبسبب الهجرة الفلاحية ظهرت طبقات ممتازة متتابعة، غالباً ما كانت دخيلة، فخلقت في نهاية الأمر ارستقراطية زراعية وبروليتاريا ريفية رثَّة واسعة النطاق.

فكان الفلاح العراقي تدفعه العوامل الاقتصادية إلى ترك القرية لاهثاً وراء سراب المدينة، بسبب الانتاجية الزراعية الضئيلة إلى حدٍ بعيد، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة العمالة الزراعية إلى درجة عالية، يضاف إلى ذلك استغلال الوسطاء والمرابين للفلاحين، مما يعني ابتلاع الفائض النقدي الذي قد يحققه.

ومن هنا نستطيع أن نفهم استمرار ارتفاع معدلات الهجرة الريفية في معظم مدن العراق برغم مشروع الاصلاح الزراعي. وهناك شواهد تشير إلى أن الاصلاح الزراعي قد لا يحدث نتائجه الايجابية إلا في المدى البعيد، خاصة إذا ما ترتب عليه ادخال اساليب انتاجية جديدة وإعادة توزيع حقيقي للملكية الزراعية.

كما لوحظ أن القرى العراقية قد بدأت تفقد خلال عقدين من الزمان نسبة كبيرة من شبابها النشطين بسبب الهجرة إلى المدن، مما أدى إلى انخفاض الانتاجية الزراعية بسبب استمرار اساليب الانتاج التقليدية، وامتناع ابن القرية الذي اكمل دراسته الجامعية في المدينة للعودة إلى مسقط رأسه ليساهم في تطوير قريته وخدماتها. لذلك تواجه الحكومات العراقية المتعاقبة في بعض الأحيان موقفاً حرجاً، لكن في معظم حكومات دول الخليج العربية قد حلَّت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بتخصيص جزء من عائدات النفط لاستيراد آليات متطورة لتستخدم في تطوير الانتاج الزراعي، ومثال ذلك تطوير انتاجيتها في مجال التمور وتحسينه.

هذا فضلاً عن المشاكل التي احدثها ابن القرية في المدينة بعد الاستقرار، إذ نقل معه عاداته وتقاليده القروية من (الفصلية، والنهوة، والكوامة، والثأر، والقتل بالمثل)، فتجده على ابسط حال يطالب بحقوقه من خلال القضاء العشائري لا القضاء المدني، وقد سمعنا الكثير من تلك القصص والروايات والخلافات على أتفه الأشياء منها: عبور جرذ من دار إلى دار وارعب طفلاً ما فتكون النتيجة فصل عشائري، أو عبور ديك داجن إلى دجاجة الجيران من دار إلى دار يسبب القتل أو الفصل العشائري.

وقد نقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قصص مؤلمة لما وصل إليه البلد، بسبب ترييف المدن، ومن سيادة عصابات الجهل لا يصدقها العاقل يتناقلها أهل بغداد ومدن العراق الوسطى والجنوبية. تقول إحدى القصص بأن رجلاً جاءه عزرائيل في الحلم ليأخذ روحه، فتوسل إليه هذا الرجل أن يتركه ويذهب إلى جاره الثالث، وفي الصباح حكى الرجل حلمه لعائلته وبعد يومين توفي الرجل الجار المعني بالحلم، وحصلت صدمة عند الرجل الحالم الذي ذهب إلى مجلس الفاتحة وحكى للجالسين من حوله الحكاية، فمسكه أهل المتوفي وفرضوا عليه (فصل الديَّة).

وهناك قصة أكثر سريالية لكنها حقيقية مفادها أن جرذاً يعيش في بيت بإحدى مناطق شرقي بغداد يرمز إليه بالرقم واحد، وهذا الجرذ يعبر كل يوم إلى البيت رقم 2، وحدث أن طالب صاحب البيت جاره (بفصل ديَّة) بسبب أن الجرذ تسبب بحدوث صدمة عصبية (جفلة باللهجة البغدادية) لزوجته، وكأن هذا الجرذ هو ابن لصاحب الدار رقم (1) وأُلزم بدفعها. وذات مرة وخلال دخول هذا الجرذ للبيت رقم (2) قتلوه ممّا دعا جاره إلى المطالبة بدفع الجزية جراء وفاة الجرذ، فأسترد ما دفعه سابقاً.

وهناك قصص كثيرة، منها: قصص عزوف الأطباء عن العمل في وجبات مستشفيات الطوارئ معروفة، حيث يطالب أهالي المتوفين الطبيب المعالج بدفع الفديَّة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

نشر أحد الاصدقاء فيديو يظهر فيه الدكتور خزعل الماجدي وهو يلقي محاضرة .

خلاصة ماقاله في محاضرته، ان الدين عكس الحب !!

لأن الحب يقوم على الرغبة الطوعية في حين ان الدين يقوم على الخوف.

وهو هنا يسجل إخفاقاً جديداٍ ناجماً عن التسرع وعدم التعمق في دراسة الأشياء.

وهذه ليست المرة الاولى التي يتبنى فيها موقفاً مستعجلاً كما فعل في موقفه السابق عندما ربط صحة الرسالات السماوية بوجود آثار لتلك الرسالات!!

ولديَّ عليه بعض الملاحظات مع بالغ احترامي لشخصه ولاجتهاده في الكتابة والنشر.

١- لماذا هذه المقارنة بين الدين والحب؟؟

الدين عقيدة والحب موقف عاطفي.. هل نستطيع المقارنة بين السيارة والطعام ؟او بين الحب والنوم؟؟

٢- لم يفرق الرجل بين صُلب الدين وجوهره الحقيقي وبين الثقافة الدينية الشعبوية المتداولة بين الجهلة والتي ساهم في نشرها الكثير من الناس لاسباب كثيرة والتي كرّست فكرة الخوف والعذاب والانتقام الألهي لأتفه الاسباب..

٣-في نظري، المتواضع، ان جوهر الدين يتلخص في آية واحدة:

تقول: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولاتحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون (سورة فصلت)...

لايتطلب الأمر سوى الايمان بالله والاستقامة !!  اين الخوف في ذلك؟

الاستقامة تبعث على الاطمئنان سواء أكان الشخص مؤمناً او ملحداً.

هل الدعوة الى الاستقامة مقتصرة على الدين ؟ هل هنالك حركة او منهج مادي او ملحد الخ.. لايدعو الى الاستقامة؟

٣- نسي الرجل ان هنالك قلقاً وخوفاً انسانياً شاملاً اسمه قلق الموت !! يعاني من هذا القلق كل البشر بغض النظر عن عقائدهم. والأيمان الديني الحقيقي يخفف او يزيل ذلك القلق.

٤- يقول ان اسماء الملائكة مثل عزرائيل وجبرائيل ، موجودة في الديانات القديمة الوثنية ونحن أخذناها منهم مع وجود فروق بسيطة في اللفظ ..يبدو انه يجهل ان الله يقول انه ارسال العديد من الرسل الى الامم القديمة وهي تأتي من نفس المصدر وتستخدم نفس اسماء الملائكة، لكنها حُرّفت على مدى آلاف السنوات وتحولت الى ديانات وثنية..

والدليل على ذلك انه حتى الاسلام يتعرض للتحريف والافتراء وتدخل عليه بعض الطقوس التي تشبه الوثنية مع انه أحدث الاديان ..

٥-لاينبغي للباحث الرصين اسقاط قناعاته الشخصية المسبقة على قضية عامة ويعمل على اشاعة قناعاته الشخصية والباسها لباساً علمياً بحثياً نزيهاً...

٦- كنت اتمنى ان يضيف الدكتور خزعل جملة بسيطة يقول: فيها انه يتحدث عن الثقافة الدينية الشعبية الجاهلة والتي قد تكون بعيدة عن جوهر الدين..واذا كان يعتقد انه ليس من واجبه البحث عن جوهر الدين، حينها نقول له عليك الابتعاد عن المواضيع التي لاتطيق الغوص فيها.

٧- بعض الناس يعتقدون خطئاً، ان استعجالهم في طرح افكارا تبدو لهم ثورية ، سوف يضعهم في موضع المفكرين الذين احدثوا هزة في التاريخ الفكري الانساني..

قد يستطيع هؤلاء ان يكونوا مفكرين اذا اعتمدوا التركيز والعمق في اعمالهم الفكرية.

***

د. صلاح حزام

خصص الصديق الدكتور إياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية، فوق أنه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعاً أنَّ دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكنّي أسأل نفسي دائماً: متى كان وضع العرب مثالياً أو خالياً من دواعي التشاؤم؟ فهل نحول صحافتنا إلى مجالس عزاء، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم أو بكينا موتاهم، ما القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي إلى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟

لكن ثمة جانباً لا يتعلق بالعاطفة أو الموقف الشخصي من الحوادث، أعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الأمر أكثر وضوحاً في حال المجتمع العراقي، الذي يخاطبه الدكتور إياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه أكثر، على جمهوره العام والكثير من أهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع، فقد وجدت التشاؤم قاسماً مشتركاً فيما بينهم، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

أعرف مبررات كثيرة، تاريخية وسياسية، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها هذا التوجه؟

في سبتمبر (أيلول) الماضي كتبت عن «رأس المال الاجتماعي»، وأعيد التذكير بأنه يشير إلى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائماً، هل يتعزز «رأس المال الاجتماعي» أم يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة، أم يحصل العكس، أي انصراف كل فرد إلى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته، بل حتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟

انظروا إلى واقع العراق، أليس هذا ما ترونه؟ كل الناس يشكون من كل شيء، كلهم يتَّهمون قادتهم ونخبهم وأهل الرأي فيهم، بالتسبب في كل ما حل بالعراق، والنخب تتَّهم السياسيين، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون أو الصبر أو المشاركة في الحلول إلخ.

أزعم أنَّ صناع الثقافة في العراق، في الماضي والحاضر، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت «رأس المال الاجتماعي»، أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئاً مفيداً لهم كأمة واحدة، لا كأفراد أو طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصباً، أو يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعاً أي تفكير جاد في التغيير أو محاولة للتغيير، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي أو يرهق نفسه وحياته، إذا كان جزاؤه - أياً كان الحال - هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بأنَّه فاشل وعاجز، أو مجرد حرامي أو متسلق أو متسلط أو ذيل للأجنبي؟ وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

إن جواً كئيباً كهذا، سيفضي - دون شك - إلى إفساد السياسة، ثم القضاء على حرية التعبير، وأخيراً تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين، الذين كفاءتهم الوحيدة هي إثارة العواطف والانفعالات، أو إثارة الخوف من الآخر المختلف، أي - باختصار - الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟

إن كانوا يرغبون في غير هذا، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماماً، المثل الصيني: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة.

***

د. توفيق السيف - كاتب وباحث سعودي

 

" التعدد الثقافي، ثراء للعالم: {إن التعدد الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والابتكار والإبداع، ضروري للجنس البشري كما هو ضروري التنوع البيولوجي في ترتيب الحياة.}"1

لا شك في أن التطرف بأشكاله كلها من صراعات وجدالات وعنف وتشاحن بشتى مصادرها لا تؤسس وحدة وطنية حقيقية، كلما كانت تنزع نحو فرض خصوصية معينة أو رأي أحادي وإلغاء باقي الخصوصيات والآراء الراسخة في الجغرافية التاريخية الثقافية في مجتمع ذلك الوطن، كون أي تنوع للخصوصيات ضمن أي مجتمع هو مفتاح إثراء لمفهوم الوحدة وآفاق التنمية بكل صورها وأنماطها إذا ما تم استثماره بشكل عقلاني وأمثل. ولكن استغراق كل خصوصية من الخصوصيات المتنوعة ضمن هذا المجتمع، في ذاتها الضيقة ومصالحها الجهوية على حساب الآخرين من شركاء الوطن يفضي إلى التنافر وسوء النوايا والتباغض ويعطل مسارات وسبل تطوير حالات التعارف والتآلف والتعاون على رسم حقائق العيش المشترك..

فالخصوصيات عندما تتفق فيما بينها على منظومة قانونية مدنية صلبة تكون بمثابة قاعدة أو مرتكز مشترك بينها، تنتج ثقافة نهضة ووحدة وأمن وسلام، لأن هذه الخصوصيات تصبح محترمة كلها وبنفس المستوى في التعبير عن ذواتها الفرعية داخل دفء الذات المشتركة وبالتالي تتبلور صورة واقعية لثقافة الوحدة على أساس التنوع البناء..

الثقافة والوطن:

أي ثقافة في أي مجتمع لا يمكنها التطور والتأثير الحضاري ما لم تتسم بالاعتدال بين الوحدة والخصوصيات في ذلك المجتمع، لان التزاحم الثقافي بين الخصوصيات في ظل ثقافة التطرف يولد حساسيات ثقافية تنتهي بصراعات على أساس هوياتي يدمر الثقافة الوطنية، بينما التفاعل بين الخصوصيات في الفضاء الاجتماعي،عبر ترسيخ وتنمية الجوامع والمشتركات، وردم الفوارق وترميم الشروخ عبر التواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، من شأنه بلورة حقيقة الثقافة الوطنية. كونها إبداع المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته الثقافية التاريخية. بمعنى آخر تهميش خصوصيات لحساب خصوصية أو خصوصيات أخرى وفق منطق التطرف والإلغاء لا يحقق المعنى الحضاري للثقافة الوطنية، بل يجعل الثقافة في تمثلاتها الذاتية أو الهوياتية تبتعد عن دائرة الفعل التاريخي لمقولة الوطن في الواقع المجتمعي. وبالتالي كل فعل يهدف لإبراز خصوصية واحدة، أو تذويب وصهر الخصوصيات الفرعية في خصوصية محددة بوسائل القسر والتعسف ونشر أدوات وخطابات التطرف في المجتمع، هو الاتجاه نحو المزيد من الضمور والتخلف الاجتماعي والثقافي، لان الثقافة عندما تتمركز وتنغلق، تستبد ولا تكون ضمن إطار الفعل الحضاري القيمي الإنساني بل تصبح طرفا إشكاليا داخل المجتمع المتنوع، بحيث بدلا من بروزها كمعنى خلاق للتنمية والأمن والسلام والنهضة تصبح طرفا في صراع المصالح الخصوصية..

الثقافة ومأزق الهويات:

كلما اتجه المجتمع بمجموع تشكيلاته الثقافية المتعددة في جذورها وتاريخها الديني وحمولاتها الثقافية، نحو تجاهل او إنكار واحدا من هذه الجذور، سوف ينتهي به الأمر إلى انفجار هويات خطير وعميق، وغالبا هذا الاتجاه أو الخيار مصدره التطرف ضمن ثقافة العصبيات القبلية والرهانات المصلحية الضيقة، التي تنطلق من مشاريع القهر والتهميش لخصوصيات وهضم حقوقها لحساب أخرى، مما يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة, تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية، الأمن العام والسلام الوطني والتنمية بكل أشكالها، وذلك لأن منطق التطرف والعصبيات والتهميش والعزل، هي الضد النوعي لخيارات اللقاء والتعاون والشراكة في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات من لدن كل الخصوصيات.

و هذه الخيارات لن تتحقق إلا في ظل حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء, وتتبلور عبر عملية حوار وتعايش ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

الخصوصيات وتكافؤ الفرص:

المجتمع الذي يطمح أهله إلى الرقي والتنمية والأمن والسلام الأهليين، لابد له من ترسيخ معالم السلطة القانونية الحازمة والسليمة، أي سيادة القانون العادل بين التنوعات، لأنه على ضوء الثقافة الوطنية التي هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، فآفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، تصبح مفتوحة لجميع التنوعات والخصوصيات، والقانون الصارم أساسه التعامل الحضاري مع كل الاختلافات في المجتمع على حد السواء، لأن السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز عن كل أشكال التعددية في المجتمع، لأنها المعيار والمؤشر لنهضة وارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين.

عبر التاريخ الإنساني ككل، التطرف بكل الكراهيات والعصبيات لم ولن يصنع استقرارا والإكراهات لا تقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع. ثم إن التنوع والتعدد في المجتمع لا يكون لحاله مصدر التشتت والتشظي والتشردم، بل بإرادة أصحاب هذا التعدد يمكن أن يكون ذلك كله، بل هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي الإنسان داخل هذا التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته وحصانته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.و كإضاءة معرفية أخرى، يعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة، كما تؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة. قال تعالى [ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ](سورة فصلت، الآية 34) .

لا مجال لأن يتحقق الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. فحسبان حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع بمنطق حضاري إنساني، هو نقطة الإنطلاق الحقيقية في مشروع التنمية وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي.

لهذا كان التعامل الإيجابي والحضاري مع الآخرين، هو القادر على امتصاص التعصب والتطرف والكراهية، حيث المسافات تتقلص والمتباعدين يتقاربوا من خلال التعامل الأخلاقي الرفيع الذي يفضي إلى الاعتراف والتعارف المتبادلة على أساس الصدق والاحترام العميق، وتحييد كل ما من شأنه بث سموم التطرف والتشنج والصراع.

فالعلاقات في أي مجتمع إنساني في الإطار الوطني عندما تتسم بالتحضر والإنسانية، لا تعترف بالتمييز والمفاضلة، وإنما بحقوق المساواة والكفاءة بصرف النظر عن أصلها، كل ذلك تحت سقف تحمل المسئولية العامة والخاصة.

الإدارة الإيجابية للتعدد الثقافي:

هناك الإرادة الإنسانية في النظر للتعدد الثقافي كمعامل استراتيجي ضمن معادلة بناء الوحدة الثقافية الوطنية المتينة، وأيضا تأتي الإدارة العقلانية كمعامل مهم في التعامل مع التعدد الثقافي على أساس قيم الحوار والاحترام والتسامح، فالثقافات الفرعية لا تموت حينما تهمش أو يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، بل تحتاج إلى نيل الحرية والحماية القانونية والإعلامية للتعبير عن ذاتها، من أجل الإسهام في تفعيل عناصرها الإيجابية مما يزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الثقافية الوطنية من كل المهددات والتحديات.

الحرية بوصفها مسؤولية وطنية:

أحد مؤشرات الحرية في العالم المعاصر هو حق الوصول إلى المعلومات، رغم بعض المؤاخذات التفصيلية بخصوص هذا المؤشر إلا أن حق الوصول إلى المعلومة الخاصة بالذات الوطنية أو أحد تشكيلات المكون الوطني يمثل قيمة مضافة نحو التأسيس إلى رؤية متقدمة للوحدة الوطنية وللشراكة الثقافية عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من المقاربة والإطلاع على المصادر الفكرية لبعضها البعض، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع مصادر وأمهات الكتب الدينية والتاريخية والعقدية.

وهذا من الحقوق الثقافية الأساسية لكل التنوعات، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وتعطيل هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية, تجاوزا نوعيا وخطيرا ومهددا لترسيخ قيم التعددية والتسامح والحريات الخاصة والعامة. حيث أن الحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات, وعلى السلطتين التشريعية والقضائية في أية الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع. لأن دول التنوعات القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين التنوعات المكونة لها. وإنما بسبب وعي التعدد واحترامه. والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق نظام اجتماعي وسياسي قائم على التعايش الثقافي المتوازن والمرن في آن واحد.

الحماية القانونية للتعدد الثقافي:

إن التنوعات الاجتماعية، دائمة الحاجة إلى الدفء القانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى تتمكن من خلال ذلك في التعبير عن ذاتها الثقافية والإسهام في التنمية الثقافية للوطن وتعزيز قيم الحوار والتسامح والتعارف والتعايش والأمن والإستقرار، بينما منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع كل ما يرتبط بالثقافات الفرعية والذاتية والوطنية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، فهذا ضد إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل على العكس تماما مع مقتضيات العدالة والحرية وأساسيات المواطنة، إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية.

فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يفتح المجال أمام اقتصاد السوق ويفتح مجال الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن سن قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية بل أكثر من ذلك سيرسم معالم اقتصاد الثقافة وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل حقول الحياة المجتمعية. ففسح المجال للثقافة والمثقفين من أجل القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع وتنقيته من الزيف والتمويه والغش والفساد عموما. أضف إلى ذلك الحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

من هنا كانت صيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق شرطا أساسيا في ترسيخ أدب المواطنة ومصداقية التعايش ونزاهة الثقافة الوطنية من شبهات التمييز العنصري.

لأن الاختلاف داخل الوطن لا يبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين. فكل القناعات محل احترام وتقدير ما دامت لا تمس بخصوصيات الآخرين. فالاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وآرائهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا باحترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم، قال تعالى [ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

إذن المطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته. فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أساس الاحترام هو التفهم (أي وعي الأبعاد والآفاق) كما أن الاحترام مصدره العميق هو التسامح الذي يولد موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية عادلة خلاقة . فالاحترام يشق طريقه في المجتمع عبر الدعم القانوني للحرية الثقافية باعتبارها من مرتكزات دولة القانون والإنسان. كما أن الحرية الثقافية، تحمي الحرية الفردية، لأنها تسبح في بحر المسؤوليات العامة والجماعية.

الإنفتاح الثقافي وحق الاختلاف:

المؤكد أن حقيقة التنوع المحاطة بالحرية والاحترام المتبادل والتسامح مركز ثقل الاستقرار والتنمية في المجتمعات المعاصرة، فقد مضت عصور إلغاء الخصوصيات أو التمييز أو القسر القهري من فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف، لأن مآلها الفشل والاستدمار الذاتي والوطني، كون جميع القوى الإنسانية أدركت أن التعسف لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، الذي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية. كون الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للتعارف والإبداع, ومعطلة للتنمية والتقدم في المجتمعات.

المجتمع المدني وتنمية الثقافة:

من معالم المجتمعات القوية في الزمن المعاصر، فعالية مؤسسات المجتمع المدني، التي تتوزع غالبا بين النوادي والجمعيات والمؤسسات الحقوقية والدينية والأدبية والعلمية والإبداعية والفنية الأهلية، والتي تعنى بتنمية العمل الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والإسهام في حماية المجتمع من المعضلات الاجتماعية والثقافية، والتنوعات الاجتماعية تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية. ولعل فكرة تنمية الثقافة المجتمعية تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني، حتى تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة التعاون الثقافي الإبداعي للمؤسسات الوطنية القادرة على حماية الهويات والمقدسات والإنسان قبل كل شيء من أي تحديات أو رهانات ضد الأمن الثقافي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي، إذ أن المجتمع المدني يقدم لكل تنوع اجتماعي، حق التعبير والإسهام في الحياة الثقافية الوطنية ورفد التنمية الثقافية للمجتمع، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية توضع لصالح جميع الشركاء من كل التنوعات لممارسة دورها ومسئولياتها على الصعيد الثقافي.

جماع القول: إن التنوع الاجتماعي والتعدد الثقافي من الحقائق الإنسانية والتاريخية، كل ما هنالك أنها تتطلب رؤية حضارية راقية حتى تكون معاملات بناء لا هدم، ومقتضيات أساسية في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتنمية الثقافة المجتمعية على أساس خيارات احترام الإنسان كإنسان والتعايش الثقافي البناء والسلم الأهلي الخلاق للحوار والتعارف والتسامح والتعاون والتآلف..

***

ا. مراد غريبي

...........................

 1- المادة (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بشأن التنوع الثقافي لليونسكو (باريس، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2001)

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الحنين هو الحنين إلى الماضي، لكن علماء النفس بدأوا يدركون أنه يمكن التركيز على المستقبل أيضًا.

معظمنا على دراية بالحنين: ذكرى بعيدة لحفل زفاف أو تخرج أو احتفال عائلي. إنه شعور إيجابي في الغالب، على الرغم من أنه ممزوج بمسحة من الشوق لما مضى بالفعل. وكما كتب المؤلف مايكل شابون في مجلة The New Yorker في كتابه "المعنى الحقيقي للحنين" (2017)، إنها اللحظة التي "تجري فيها مكالمة هاتفية مباشرة مع الماضي وتسمع صوتًا يجيبك".

هذا هو النهج المعتاد في التعامل مع المشاعر، لكن علماء النفس أدركوا مؤخرًا أن هناك أكثر من نوع واحد من الحنين إلى الماضي، بما في ذلك بعض الأنواع التي تركز بشكل أقل على الماضي وأكثر على المستقبل. يسمى "الحنين المتوقع" و"الحنين الاستباقي" (هناك بعض الدلائل على أنه يمكن تجربة المشاعر الأخرى بطريقة استباقية أيضًا، مثل الاستمتاع والقلق والفخر والغضب الذاتي والراحة، لكن فقط في السنوات الأخيرة نظر علماء النفس إلى الحنين في هذا الضوء).

الحنين الاستباقي يعني توقع أنك في يوم من الأيام سوف تشعر بالحنين إلى تجربة معينة. يقول وينج يي فيربون تشيونج من جامعة وينشستر: من المتوقع أن يتم تجربة المشاعر المتوقعة في المستقبل". وكما غنى مغني الريف تريس آدكنز: "سوف يفوتك هذا،/ سترغب في استعادته،/ ستتمنى لو أن هذه الأيام لم تمر بهذه السرعة".

في هذه الأثناء، يفتقد الحنين الاستباقي ما لم نفقده بعد، والذي لا يزال يحدث، وفقًا لكريستين باتشو من كلية لو موين في سيراكيوز، نيويورك. على الرغم من وجود أسماء متشابهة، فإن التمييز بين الحنين المتوقع والحنين الاستباقي هو عندما يتم تجربة العاطفة: شوق الحنين الاستباقي يحدث في اللحظة الحالية، في حين أن الألم العاطفي للحنين المتوقع لم يأت بعد.

بهذه الطريقة تكون مشاعر الشوق والحنين الاستباقي سابقة لأوانها. يقول باتشو: "إن [الحنين] الاستباقي يفتقد شيئًا لا يزال لديك". إنها كعكة حنين معقدة ذات طبقات زمنية عديدة: تحتوي على تجربة الشوق التي يعيشها الشخص في الحاضر، ومستقبل متخيل حيث أصبح الحاضر منذ ذلك الحين ماضيًا، ويتضمن تأملات في مشاعر المرء في الحاضر وفي ذلك المستقبل المتخيل.

إذا كنت قد قضيت وقتًا مع شخص عزيز عليك يعيش بعيدًا عنك وشعرت بالحزن الاستباقي لأنه سيغادر قريبًا، فقد شعرت بالحنين الاستباقي. إذا كنت في هذا الموقف، ووجدت نفسك تتخيل كيف، في يوم من الأيام، سوف تشعر بالحنين إلى زيارته، فسيكون ذلك حنينًا متوقعًا. يوافق باتشو على أن الحنين الشخصي يرتبط بفوائد الصحة العقلية: الشعور بمزيد من الارتباط مع الآخرين، والتفاؤل، والحصول على إحساس أعمق بالمعنى والغرض. وفقًا للدراسات، فإن الأشخاص المعرضين بشكل خاص للحنين الشخصي يميلون أيضًا إلى الانخراط في الأحداث الجارية أكثر من المتوسط. (ومع ذلك، هناك شكل آخر من أشكال الحنين الذي يركز على الماضي يسمى الحنين التاريخي أو فقر الدم - فقدان فترة زمنية في الماضي لم تكن تعيشها بالفعل - ويرتبط بعدم الرضا عن الحاضر، أو السخرية، أو التشاؤم.)

ماذا عن أشكال الحنين المعترف بها حديثًا والتي تركز على المستقبل؟ يبدو أيضًا أن الحنين المتوقع له آثار جانبية إيجابية في الغالب، مثل زيادة الاستمتاع باللحظة، ولكن لا يبدو أن الأمر نفسه ينطبق على الحنين الاستباقي.

ساعدت باتشو في تطوير "مسح الحنين الاستباقي" لتقييم ميل الناس إلى الحنين الاستباقي. وجدت هي وزملاؤها أن الأشخاص الذين لديهم ميل أكبر للتفكير في المستقبل يميلون أيضًا إلى تجربة المزيد من هذا النوع الاستباقي من الحنين في كثير من الأحيان. كما أن الأشخاص الذين لديهم ميل للحنين الاستباقي يجدون صعوبة في الاستمتاع باللحظة الحالية، وينأون بأنفسهم عن تجربتها، حتى يشعروا بألم أقل عندما تنتهي. كما يمكن أن يكون لديهم ميل نحو الحزن والقلق.

تقول باتشو: "الحنين المبكر يمكن أن يجعل الوالدين يشعران بالحزن وهما يشاهدان طفلهما الصغير يلعب، لأننا نعلم أن تلك الأيام الأولى من البراءة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد عندما ينضج الطفل".

ومع ذلك، فإن الحنين الاستباقي ليس سيئًا تمامًا: ففي بعض الأحيان قد يشعر به الناس في الأيام الصعبة بحيث يسهل عليهم العيش في تلك اللحظات. وفي دراسة حديثة أخرى عن الحنين الاستباقي،ذكرت باتشو وزملاؤها منشور مدونة عثروا عليه في عام 2020، بعنوان: "الحنين إلى الإغلاق بسبب كوفيد-19: لقد كان وقتًا مخيفًا، لكنني سأفتقد اجتماعنا العائلي القسري".

في تلك الدراسة، ركز فريق باتشو على الحنين الاستباقي في التسويق والإعلان، على سبيل المثال الطريقة التي تذكرنا بها إعلانات شركة الصور كوداك بأن لحظات الحياة الصغيرة لا تبقى إلى الأبد، وتعد منتجاتها بإنقاذنا من البكاء على اللحظات الخاصة الضائعة. . ومن خلال تجاربهم، وجد الباحثون بالمثل أن الحنين الاستباقي يمكن أن يقلل من الاستمتاع والحالات المزاجية الإيجابية في المواقف الممتعة، ولكنه يمكن أن يزيد من الاستمتاع في المواقف غير السارة من خلال جعل اللحظة الحالية تبدو أكثر قيمة.

يقول باتشو: "في أوقات الشدة، يمكن للحنين الاستباقي أن يخفف من المشاعر السلبية ويثير المزيد من المشاعر الإيجابية" ويضيف: "على الرغم من ضغط الصعوبات، فإن الحنين الاستباقي يذكر الشخص كيف سيفتقد قيمة الجوانب الجيدة."

يعد نحت الحنين إلى الماضي أمرًا مهمًا لأن خيوط الحنين المختلفة تؤثر علينا بطرق متنوعة. يقول باتشو: "إن فهم الاختلافات بين أنواع الحنين يمكن أن يساعد الناس على تحقيق أقصى قدر من فوائد الحنين إلى الماضي وتجنب المخاطر المحتملة أو الجوانب السلبية".  عندما كانت تقضي بعض الوقت مع أحد أفراد الأسرة المرضى، وجدت نفسها تفتقد بالفعل اللحظات التي قضتها بينهما، ولكن بطريقة ما كانت تقدرها.

وتقول: "أرحب الآن بترقب الحنين لأنه يذكرني بتقدير اللحظات، الجيدة والسيئة على حد سواء، التي تشكل أهم شيء في الحياة".

بعد أن علمت تشيونغ بالحنين المتوقع، قالت إنها كانت متحمسة لبناء "بنك ذاكرة" أكثر ثراء مع عائلتها. وتقول: "أتطلع إلى الحصول على تجارب أكثر إيجابية وذات مغزى معهم لأتطلع إليها في المستقبل".

لقد كان الحنين، بأشكاله العديدة، رفيقنا منذ فترة طويلة. كما أشارت ورقة بحثية صدرت عام 1977 عن الحنين إلى الماضي:

لقد كانت تجربة الحنين إلى الماضي... موضوعًا رئيسيًا في الأسطورة والشعر؛ فالكتاب المقدس، وأوديسة هوميروس - الأدب في جميع العصور - يعطي صوتًا بليغًا لهذه الظاهرة الإنسانية؛ في الواقع، نادرًا ما يوجد شخص لم يختبر ذلك من قبل.

ولكن إذا لاحظت أن نوعًا من الحنين إلى أوقات أكثر سعادة تحرمك من الاستمتاع باللحظة الحالية، أو أن اللحظة الحالية مشوبة دائمًا بالحزن، لأنها ستختفي يومًا ما - تشير النتائج الجديدة إلى أنه قد يكون من المفيد التخلي عنها لما سيأتي.

يقول تشيونغ: "أريد أيضًا أن أحظى بتجارب عاطفية بطريقة طبيعية، وألا أطاردها في حد ذاتها". "أتصور أن [الحنين] يشبه مفارقة السعادة - فكلما سعيت لتحقيقها بشكل مباشر، قل شعورك بالسعادة."

***

........................

الكاتبة: شايلا لاف/ Shayla Love كاتبة في مجلة / سايكى (Psyche). وبالإضافة إلى ذلك ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك

 

أُثِيرَ مُنذ سنوات قضية شائكة الي مشيخة الأزهر الشريف .وهي "الموت السريري" لحالات  مرضية  في غيبوبة او نزيف في المخ أو موت جذع المخ.

وما زال قلبه ينبض....!! هل نرفع عنه الأجهزة ..؟ ما المستحب وما المكروه...؟ هل نحن نعذبه بإبقائه على الأجهزة  لفترات طويلة تحت الأجهزة ...؟ او بعض الأمراض المستعصية من الشفاء ومأساة المريض من الألم الشديد والصراخ ،وقد أثارت حالة من الجدل ،،هل يسمح الشرع  ويتخلص الطبيب برفع الأجهزة عن المريض ويفقد اخر انفاسة..؟ وفريق يعارض ذلك علي انه قتل للمريض ..!!

وقد أقر،،، [مجمع الفقه الإسلامي] رفع أجهزة الإنعاش وإيقافها متى تبين بالفحوصات الطبية المؤكدة من قبل المختصين .بأن هذا الشخص قد مات دِماغِيًّا ، فجاء في قراره المتعلق بذلك: المريض الذي رُكِّبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائيّاً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطيل لا رجعة فيه، وإن كان "القلب والتنفس" لا يزالان يعملان آلياً بفعل الأجهزة المركبة...فإن ثبت موت جذع دماغ هذا المريض، فلا حرج في رفع أجهزة الإنعاش عنه، فإن موت جذع الدماغ هو الذي يترتب عليه الموت الدماغي،  وفي نفس السياق من أجمل الكُتب التي قرأتها مؤخرًا، كتاب: «مسألة موت وحياة»

تأملات عالم النفس الشهير "إرفين يالوم" في مرض زوجته "مارلين"{بالسرطان النقوي} وقرارها الأخير [بالموت الرحيم] على يد طبيب.

يتخلى {إرفين} عن هالته العلمية الرصينة ويكتب مثل عجوز بداخله قلب طفل مُحب، رجل في العقد الثامن ، قضى حياتة  مع زوجته أكثر من "خمسين عامًا" ويرتجف من مواجهة العالم بعدها بصفتة كاتب واديب وروائي مشهور ، تتوسله ليوافق على مُغادرتها الحياه،، ويتوسلها أن تبقى.،،

يُصارح إرفين ملايين القُراء حول العالم أنه يتوق (للإنتحار) معها، أن يموتا معًا على يد الطبيب ذاته، لكن أمانته العلمية تحرمه من ذلك، لقد ساعد كطبيب نفسي مئات الأزواج والزوجات على تخطي مأساة فقد الشريك، يقول في ذلك:

«سيكون إنهاء حياتي بمثابة خيانة لعملي معهم، ولعملنا مَعًا.

فقد ساعدتهم على أن يتخلصوا من آلامهم ومعاناتهم، وعندما أواجه ما عانوه، أختار أن أهرب من التزامي تجاههم. لا، لا يمكنني أن أفعل ذلك. إن مساعدة المرضى يقبع في جوهر حياتي : شيء لا يمكنني أن أنتهكه. لا أستطيع أن افعل ذلك، ولن أفعله.»يوافق  الزوج "إرفين" أخيرًا على وداع زوجته عندما تٌخبره أنه منحها كل شيء، منحها حياة تستحق العلامة الكاملة، أو على حد قول "زوربا" في رواية كازانتزاكيس: «لا تترك للموت إلا قلعة مُحترقة».

فهي تستقبل الموت مثل شُعلة أتممت إحتراقها وأضاءت حياته وحياتها، تشعر بالإمتلاء الكامل و الإمتنان الكامل لشريك منحها كل شيء، ورغم أنها لا تؤمن بالروحانيات إلا أنها ستُغادر العالم بقول القديس بولس:

(وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لدي محبة فأنا لست شيئًا)

بينما هي ملكت المحبة طوال حياتها، لذا هي ملكت كل شيء.

يُخبر إرفين زوجته بسماحه لها بالذهاب لكنه يستاء من أن قبره سيُجاورها فقط، يتمنى قبر يسعهما كما الفراش، تهمس له بلطف أخير أنها زارت كل مقابر الولايات المُتحدة الأمريكية، ولم تجد أبدًا تابوت يسع لشخصين.

يصف إرفين (قُبلته الأخيرة) لزوجته وراحته لإنعتاقها من الألم ولو كان سيحمله في وحدته فيما تبقى له حتى موته، لكنه سيفعل ما أجاده طوال أكثر من خمسين عامًا، سيحول الأمر كله لخبرة نفسية يُمررها بإيثار نبيل لقراؤه، سيحول مأساته وألمه الأخير لكتاب يصفه أنه ربما في لحظات كتابته هو كل ما يبقيه على قيد الحياة ويمنعه من تحطيم جهاز تنظيم ضربات القلب والذهاب لمارلين، لذلك ربما إمتنانًا لكل أثر صنعته روايات وكتب إرفين يالوم في نفسي أُتمم دائرة الأثر الجميل بقراءة كلماته. وتخيل الرحمة تسعه هو وزوجته ولكل مريض يتألم علي الكرة الارضية ،إن الرواية الحاضرا التي تبحث عن المجهول هي رواية اخلاقية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

يعتقد المسيحيون ان السيد المسيح هو الأمين عليهم، هو حاميهم من الذنوب، هو حي باقٍ لا ينام ولا يموت، يقول السيد المسيح (ع)" تعالوا الي َ يا جميع المتعبين،من الحياة، أريحكم لتجدوا الراحة والنجاح في نفوسكم، أنجيل متى 28 "، لكن أتباعه يعتقدون انهم ليسوا بحاجة دائما الى الله (المسيح الباقي)، فالنجاح ليس بحاجة اليه ولا بدونه ولا حتى الراحة والفشل، فالفشل سبيله التراخي واختراق القانون.والراحة سبيلها العمل.فطريق النجاح هو الصدق والعدل والوفاء للرب والانسان وليست منية من أحدٍ،وهذه خصال انسانية يجب ان تتوفر فيك تلقائيا ايها المؤمن بالامين مَهما كانت ديانتك، ولا داعي لتُدخل الرب فيها، هنا ينتفي عندك التوسل والدعاء من اجل نيل الأصول، ويبقى الرب هو القدوة، ولا حاجة لرجال الدين، وتقول المسيحية ان الاعتماد على الدعاء يؤدي الى الفشل والكسل والاعتماد على الوهم حيث السقوط والموت الاكيد، لكنهم يؤمنون ان الرب لا ينام ولا يصيبه النعاس ابداً فهو الذي يرعاهم دون ان يرفعوا ايديهم اليه بالدعاء والتوسل بالقبول، نظرية في غاية الواقعية الصحيحة.

نعم، المسيحيون يؤمنون ان الكون وخالقه يسيران وفق قوانين السُنن الثابتة التي لا تتغير كما يقول القرآن الكريم:"لن تجد لسنة الله تبديلا،الاحزاب 62"، اذن، ما الجدوى من الدعاء وزيارة المراقد والوهمية منها؟ واللطم والبكاء على ميت مات قبل اكثر من 1400 سنة ولن يعود.وهو المقدر له دون تبديل وتغيير،؟ فلا زالت المسيحية تدعو للنظام والمحبة والحقوق، لا للوهم من مؤسسة الدين، فهل وجدت في بلدٍ مسيحي تفرقة بين الكاثوليكي والبروتستانتي في الحقوق، مستحيل، لماذا.؟لانهم يحتكمون بالقانون ويبقى الدين هو الرقيب، فالمذهب عندهم عقيدة رأي لا تفريق.

أما نحن المسلمون تصب علينا المصائب من السلطة والانسان الظالم ليل نهارونحن ندعو ونقول ربنا ارحمنا وخلصنا من الظالمين، وها نحن بعد أكثر من 1400 سنة ولن يستجب لنا القدر برفع ظلم الظالمين. فالى متى نبقى رافعين الأكف ننتظر رحمة رب العالمين، والصالحين؟ ولم يستجب لنا دعاء، فالدعاء فرية عند من لا يؤمنون بالقانون، انما العمل وعقيدة القانون هي المطلب الصحيح.

بينما نحن ندعو فلا يستجاب لنا وهم لا يدعون والحياة وفرة لهم كل ما يطلبون فأين الخلل؟، حتى اصبح المسلم يهرول من وراء الحاكم يستمد الامل، ولامجيب؟

الخلل، هم يطبقون السُنن بصحيح ونحن ندعومنها متكاسلين لا نفهم الحق والعدل الصحيح الا من تهريج رجل الدين، فهل ان دينهم يدعوللصلاح وديننا يدعو للهلاك والعدم، لا؟. الفرق بيننا وبينهم، هم رحماء بينهم بالقانون الذي يتساوى فيه الجميع وبلا رب يدعون، بينما نحن ندعو الرب ان يرحمنا ولا نؤمن بعدالة الله في القانون، الم يقل القرآن: "اعدلوا ولو كان ذا قربى، اذن علام َ تفرقون، بين العبيدي والموسوي في الحقوق، ان كنتم من الصادقين؟.

يقول يوسف وهو في سجنه مناديا صاحب السجن ": يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار،يوسف 39"، فكيف فسرت الاية عند المفسرين، وكيف فهمها المسلم في التطبيق؟

على المسلمين ان يفهموا ان الجهد لا يأتي من موضع الدعاء،كما ان الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد، ولكن لابد منه في ظلمات فيها نوراًونصيباً من أمل، ابقوا ياقادة شيعة الفُرقة بين المسلمين على اللطم والدعاء والبكاء والنحيب والرادود يُجهلكم وانتم تلطمون، أملا في عودة المستحيل، مستحيل، فاذا كان الدعاء يقوم على السُنن،فالعقل له مكانة التكريم والاستجابة ليكون العلم والهدف والتسخير فمصدره السنن، لا الدعاء والعويل فثقافة الانسان يشكلها العقل والتفكيراليوم لا الوهم في عالم الظالمين الفاسدين.

اذن الدعاء ما هو الا بدعة من الفقهاء ورجال الدين، لتجهيل المسلم ووضعه في دائرة الأرتخاء النفسي والكسل الجسمي وانغلاقية الفكر في التفكير، فكلما زاد المقدس في فكرك زاد ت الانغلاقية في التفكير، وكسب المكاسب الباطلة من اموال الجهلة والمغفلين، كما في العتبات المقدسة، ولا علاقة له بالمراد منه ابداً، فمتى نصحو على الصحيح،؟ أمر تشجعه حكومات الفاسدين زيادة في التجهيل، وتعتقد المسيحية ان المسيح الانسان سيظهر ممجدا مطاعا في اخر الزمان. (يوم القيامة) بنص قرآني بلا احداث رهيبة، بل سينتهي بعودته ابليس ليظهر العرش العظيم حين تظهر معه الحالة الابدية، ليتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين به دون عقاب، وهذه هي ابدية الخلاص من الذنوب، دون وعود وترهيب، وهذا هو اعلان الخلاص لكل انسان منهم دون تفريق.فهم يقدمون للانسان الواجب المراد الذي نادى به السيد المسيح ولا يظلون منتظرين العودة بلا امل في القريب.

ونحن ونظرية المهدي المنتظر الوهمية، الى اين،؟ النظرية لم تأت بنص مكين كما ذكر المسيح، بل مجرد وهم من مؤسسة الدين ولا نص فيها ابدا حتى من اهل البيت(ع)، أصحاب الشأن الكبير.

اذن نظريته مخترعة من رجال الدين لالهاء الناس بالاخرة وصدهم عن الدنيا ولكسبهم السلطة والمال دون تحقيق،كما هم في نهب المال العام اليوم دون حدود، بعد ان اعتقدوا انه ملك سائب لهم بلا قانون. نظرية مبنية على الوهم، ولا نص فيها ولا اثبات صحيح، فماذا سنحصد ممن ابتكر الوهم الذي.لا صحيح.

كتبنا فيها الكثير وبالتفصيل فمن يقرأ ومن يكتب والحاكم همه ايهام الواهمين.

ورغم ان المسيحية تدعي ان المسيح بن مريم قد صلب ومات ودفن وصعدت به الارادة الآلهية الى السماء، لكن القرآن ينفي ذلك،: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم،النساء 157". الفرق ان ما تدعية المسيحية جاء بنص يهودي قديم،وهم يدعون انه حي عند الله حسب نظرية التثليث، ففي كلتا الحالتين هو عرج الى السماء لتدعي فيه الابدية، فحققت لاتباعها الكثير في الحرية والحقوق وبنت لهم وطنا فاق اوطان الاخرين، وكلنا اليوم نعيش في ظل ما ابتكروا واخترعوا واوجدوا من دساتير وقوانين، رغم انهم انحرفوا عن جادة الصحيح حين ساهموا بدمار بلدان الاخرين في حروب سلطوا علينا فيها امعات الشعوب، فدمروا الانسان والقانون، لكن تطبيقا انهم ساهموا في الكثير.بينما نحن بقينا نفتش في أوهام مؤسسات الدين والادعية والاقاويل، ولا غير دون تحقيق.

ونحن نفتش ما جاء في الديانات التي نقلوها لنا من اساطير الآولين لنحوله الى تحقيق، حتى شكلت الجزء الكبير من اساسيات الفكر العربي المسلم بالتعاليم الدينية الوهمية التي اتخذت المنحى التعليمي والوعظي لا التطبيق، حتى استطاعت السيطرة على عقولنا، مستمدة قوتها من القوى الخفية في غياهب الجب الوهمية،متمثلة في الجنة والنار، والفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق، واطاعة ولي الامر حتى لو كان ظالما وفاسداً،والخوف من عذابات القبر الوهمية،والغيبيات التي لا اول لها ولا اخر، والقرآن يقول: لا يعلم الغيب الا الله العظيم "لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الأعراف 188"،

من هنا تلقفها المنهج المدرسي السلطوي، ليعلمها للصغاء والكبار حتى حَفَر في اذهانهم كل التخاريف. فتحولت الحقائق الى اوهام يصعب نزعها اليوم في ظل دولة الوهم واللاقانون، حتى أصبحت الاساطير اديان آلهية صبت في التشريع الديني المقدس عند الغالبية فكانت المذهبية الباطلة المخترعة من فقهاء السلطة ومارافقتها من تقاليد، تنخر في الصدور.

من هنا باتت تزرع فينا معتقد الموت والأخرة، هي المقصد كماجاء في النص المقدس: "الحياة الاخرة خير وابقى "ونسينا ان المقصود من النص هو الاستقامة في الحياة والاخرة هي الجزاء العادل للمؤمنين، فضعنا وضاع المجتمع في ظل حكومات تعتقد في الوهم دون القانون في حكم الأغلبية من اصحاب المعرفة والعرفان والمفضلين في السلطة والمال السائب لهم دون الاخرين، وما دروا ان المال لا يشتري المواطنين، فعملية العودة للصحيح باتت مستحيلة في ظل السيف وقوة السلطة الظالمة والتنفيذ دون وازعٍ من احساس انساني وضمير، لكن النهاية للحق ابداً، لذا سيفشلون، بعد ان اقرت الرسالة الانسانية بأنتهاء عصر الاحادية، ومجيء عصر الاجتهادية في التطبيق؟.

***

د. عبد الجبار العبيدي

وفي الصباح الساحر، قدمت لي صديقتي العزيزة "نور الهدي"؛ لتشاركني وجبة الإفطار عقب إيصالها لأبنائها للمدرسة، وكانت عيناها تقول لي: أريد أن استمع لرحلة فلسفية "، وأشاركك السفر عبر الأزمنة مع أعظم رواد الفكر والتنوير من الفلاسفة والمفكرين.

 - نور الهدى: اشتياق يا صديقتي لبدء رحلة لأهم القضايا الفكرية؛ فالحوار بلغة الأدب يحول الأفكار إلى سلسلة من التصورات الأدبية التي تنير الذهن وتشعل الشغف وتثير التساؤلات الجوهرية حول القضية المطروحة لي ولغيري من غير المتخصصين في الفلسفة.

-  ضحكت كثيرًا ثم قلت لها: أوضح لكِ عزيزتي أنني أفضل هذا الأسلوب الذي حث عليه دكتور "زكي نجيب محمود" فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة"؛ فقد كان أديبًا موسوعيًا يحاول مزج الفلسفة بالأدب، وأن يقدم خلاصة ذلك للناس ليكون قريبًا من أفهامهم. فقد نجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبية مشرقة، وفكّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليومية، واستطاع بكتاباته أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في الحياة. (1) فهيا لنذهب معًا اليوم إلى أداء واجب العزاء في زوجة حجا.

- نور الهدى: أتقصدين جحا الذي في مخيلتي؟ تلك الشخصية المذكورة في التراث الشعبي والأدب العربي بالعديد من الثقافات القديمة فهو شخصية خيالية، قد كتب العديد من اللمؤلفين والكتاب عنه، فمثلا كتب "أبو الغصن دُجين الفزاري" في الأدب الأموي عنه، وفي الأدب التركي ألف الشيخ "نصر الدين خوجة الرومي" عنه قصصًا كثيرة، ولكن لماذا العزاء في زوجة جحا؟ وتُرَى ماذا ينتظرنا في هذا العزاء؟(2)

-  مهلًا يا "نور" الإجابة على أسئلتك بداخل الرحلة.

قد وصلنا إلى عزاء زوجة "جحا" وكان هناك لفيف من الفلاسفة؛ لأداء واجب العزاء معنا من حقب متعددة ك"سقراط" و"أوغسطين" و"روسو" و"نيتشة" اختلفوا عبر الأزمنة والحقب إلا أنهم اتفقوا في رؤيتهم للمرأة. وقد استقبلنا "حجا" وهو يشعر بالحزن والأسى على فقدان زوجته أم حماره - لا أعلم-  ولكنه كان حزينًا ووجه حديثه للحضور.

- جحا: أستعجب من أمر الجيران يقولون لي: قد ماتت زوجتك قبل حمارك الذي لحقها بيوم ولم تحزن عليها مثل هذا الحزن الذي حزنته على موت الحمـار أهذا يعقل يا رجل؟!، ولكنني أتساءل لمَ هذا التعجب والاندهاش؟ فعندما ماتت زوجتي "ريما" جميع الحضور واسوني على فقدانها وأوصوني بعدم الحزن على فراقها، وعاهدوني أنهم سيرشحون لي كثيرًا من النساء أفضل منها لاختار واحدة منهن كزوجة، ولكن عندما مات حماري لم يواسيني أحد منهم، ولذلك حزنت عليه حزنًا شديدًا؛ فلا يوجد لحماري بديل؛ لذلك اشتد حزني عليه.(3)

 - وهنا تحدث "سقراط" "لجحا" ولماذا الحزن والأسى يا صاحبي إَنني دومًا أنصح تلامذتي قائلًا: "تزوجوا؛ فإما إن تكونوا سعداء، أو تصبحوا فلاسفة كأستاذكم؛ "فالزوجة النكدية تجعل مننا مبدعين ومؤثرين.(4) وإنني أراك من أكثر الشخصيات تأثيرًا في عديد من العصور؛ لقصصك المتداولة عن زوجتك النكدية "ريما". تزوج بأخرى فإما أن تعيش سعيدًا أو تصبح حكيمًا. وإذا بسيدة كانت تجلس بجواري تستمع لهذه الكلمات من "سقراط"، يبدو على ملامح وجهها الغضب الذي يشبه السماء الملبدة بالغيوم السوداء. تمتمت بكلمات بصوت خافت حزين (لا فائدة)، وأخذ قلبي يحدثني أنها زوجة "سقراط".

- وهنا دخل علينا رجل ذو جبين عريض ولحية وشعر رمادي اللون" أنه القديس "أوغسطين" جاء ليقدم النصح قائلا: عذرًا أصدقائي إنه من الأفضل لك يا "جحا" ألا تتزوج، فالابتعاد عن صنف النساء أفضل لنا، فإذا أراد الرجل منا أن يرضي ربه عليه أن يتجنب المرأة؛ لأنه لا يستطيع أن يجمع بين رضا ربه ورضا زوجته (5). وإذا بقلبي يغني باكيا متسائلا أيعقل أن تكون هذه وضع المرأة في العصور الوسطى لدي آباء الكنيسة، فلماذا لم يسِر على نهج المسيح عليه السلام؟! وفضل أن يحصد صنيعة التراث اليوناني والروماني.

- وهنا أخذ الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" يوجه حديثه لحجا، ولكنني يا "جحا" أخالف "أوغسطين" . وجدت شعاع أمل يهمس بداخل قلبي أننا سنجد نصرة للمرأة مع فيلسوف الحرية والمساواة والديمقراطية

-  روسو: تزوج يا أخي فقد خلقت المرأة فقط لإمتاعنا بمفاتنها حتى تكسب رضانا نحن الرجال. تزوج حتى تجد مَنْ ينظف ويطبخ ويكنس فجميعنا يا معشر الرجال نحتاج إليهن في تدبير شئون المنزل فقط. وعلى الجميع أن يدرك أن فكرة عدم المساواة بين الرجال والنساء تعد أمرًا طبيعيًا ؛ لأن الرجال إيجابيون أقوياء، أما النساء فهن الجنس السلبي والضعيف. فوفقًا لقانون الطبيعة يا "جحا" النساء تحت رحمتنا وولايتنا، فلم لا تتزوج؟ (6) ترامت كلماته المرتدية الثوب اليوناني والروماني البعيد بألم شديد في قلبي.

- نور الهدى: أشعر بحالة من الاندهاش لما أرى وأسمع من آرائهم عن المرأة، أهكذا يكون الحزن على فقدان رفيقة الدرب؟!

-  نعم صديقتي، ففي واقع الأمر إِنْ كان من السهل وجود البديل للزوجة ليحل محلها بأخرى فلم الحزن والأسى عليها؟. للأسف يا "نور" فهذه كانت الصورة النمطية للمرأة، إنها مصدر للنكد والغم والتعاسة والشرور والآثام والخطيئة في عديد من المجتمعات الغربية والعربية منذ القدم إلى وقتنا الحالي. ويرجع ذلك إلى مساهمة العديد من الفلاسفة والمفكرين في ترسيخ تلك الصورة في الأذهان، إما بسبب تجاربهم الشخصية السيئة مع محبوباتهم أو زوجاتهم، وللأسف انعكست تلك التجارب السيئة على تكوين آرائهم العامة عن المرأة، أو بسبب تأثر آرائهم بطبيعة الثقافة والعادات السائدة في مجتمعاتهم. فقد كانت المرأة في المجتمع اليوناني تعيش حالة من الاستعباد، فدورها قاصر على رعاية زوجها وأبنائها فقط. فالرجال هم السادة، أما النساء تابعات خاضعات لهم بحكم الطبيعة. وكذلك كانت نظرة العصور الوسطى للمرأة أنها ابنة "حواء" التي أغوت "آدم"، وكانت السبب في خروجه من الجنة، فهي رمز للخطيئة ومن الأفضل الابتعاد عنها. وقد استمر الوضع السلبي للمرأة والحط من مكانتها الاجتماعية لدي بعض من فلاسفة العصر الحديث.

ومما هو معروف للجميع أن الإسلام عندما جاء منح المرأة حقوقها فقد حارب في البداية عادة وأد البنات التي انتشرت في عهد الجاهلية، وأكد على حق المرأة في الميراث، والموافقة على عقد الزواج، ومنحها حرية التفكير والعمل، وبذلك حصلت المرأة على مكانة متميزة في المجالين الخاص والعام، ولكن للأسف يا صديقتي إِنْ بُعْدَ عالمنا الإسلامي اليوم عن كتاب الله وسنة حبيبه المصطفى صلَّ الله عليه وسلم أدى إلى ترسيخ تلك الصورة السلبية عن المرأة بسبب التأثر بالعادات والأعراف والثقافة ...إلخ، فنحن نحتاج....... وهنا قاطعتني في الحديث "نور الهدى"

 - نور الهدى: عذرًا على مقاطعتي لحديثك؛ ولكن من هذا الرجل حامل السوط؟ -  أنه "نيتشه" قادم لتقديم المواساة والنصح لأصدقائه من الرجال.

 - نيتشة: صديقي "جحا" قبل أن تقدم على الزواج أهدى إليك هذا السوط؛ فإذا ذهب أحدنا إلى النساء، فلا ينسي أخذ السوط معه"؛ حتى نستطيع التعايش معهن، وأخذ يؤكد للجميع أنه ينبغي أن ينشأ الرجال للحرب، والنساء لاستراحة المحاربين.(7)

نور الهدى: أعتقد بعد السوط علينا إنهاء هذه الرحلة.

- ولكن يا صديقتي هناك وفد آخر قادم من رواد الفلسفة الغربية والعربية ك"أفلاطون" و"أرسطو" و"كانط" و"الغزالي" و"ابن سينا، ألا تريدين أن تستمعي لهم في مواساتهم لجحا في موت زوجته؟

- نور الهدى: يكفى هذا فلن تقدم أفكارهم إلا صورة سلبية عن المرأة، فلنستأذن ونرحل من هنا ..  ستنتهي رحلتنا بعد تقديم واجب العزاء في نسوة أصبحن أمواتاً في نظر أزواجهن، ولكن صديقتي الصدوقة ألا ترافقيني في رحلتي الجديدة؟

- نور الهدى: بالطبع ولكن إلى أين؟

 - فلننتظر يا "نور" لنعرف عندما يحين موعد الرحلة القادمة.

***

د. آمال طرزان

.......................

 قائمة المراجع  1- https://ar.wikipedia.org/wiki /

2-  https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%AD%D8%A7 In:24/6/2023 , 9:50PM. 3

3-  عائشة الحوامدة: قصة جحا وموت حماره وزوجته موقع إي عربي ،٢٠ فبراير ٢٠٢٣ See: https://e3arabi.com/literature/ , In:25/6/2023 ,11:23-

4-  مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

5-  أغسطينيوس: اعترافات القديس أغسطينيوس، ط4، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، 1991م، ص 30. 6

6-  جان جاك روسو: إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ط1، نقله إلى العربية نظمي لوقا، تقديم أحمد زكى محمد، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1958م، ص235-  -  236- 238.

7-  فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ط1، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، ألمانيا، 2007م، ص131-  133.

يُقال للمرأةِ في لسانِ العربِ: إِنَّها لَامْرُؤُ صِدْقٍ كَالرَّجلِ، وتأنيث امرِئٍ مَرأَة، والكلمةُ مُتوالدة ممّا فيها خِصال الإنسانية التّي هي المُرُوءَة، وفي مَركِب الحياة والبيئة والثقافة سُلِبت هذا المعنى النَّـيِّر. أجل، نُزِع عنها أَنّها كِيان مُكتمِل فيما ينطوي عليه من ذات وفِكر، وأنّها في الحضارةِ نوعٌ متفرّد في خصائص وجوده، ولا أريد هنا خصيصة الأنثى فقط.

وهي أنماطٌ لدى الأمم والثقافات، وإذا انخَرَمت حياتُها، وشُوِّه جوهرُها، وصِيغَت صورتُها بما تشتركُ فيه اللّواتي ينطبقُ عليهن نعتُ النّسوةِ، ممن أظلّتهن البيئات الجامدة، إذا وقعَ ذلك كلّه فبمداعٍ أوجدها مباينُها الرجل، وألزمَها بها أبوها وأخوها وقرينها. ثم أرادَ لها أن تستقيم في شخصيتها، وأن تبثق جيلًا، أو تنشِّئ إنسانًا فردًا ما يملك إلا أن يُذاب في الجماعة. هي منذ ولادتها إلى أن يحين أجلها مجازٌ من الأمر والنهي والطاعة حتّى تلك التي يُخيّل إليكَ وإلى نفسها أنّها مثقّفة أو أكاديمية أو أديبة، في مدارج حياتِها بلغت من الوعي ما أيقنَها أنّ شيئًا من الحريةِ مشوبًا بالاستقامةِ وبمحضِ الفكر والتسليم للعقلِ يؤول بها إلى وجودها الخاص، لكنّ ما بَلَغَتْهُ ليس راسخًا في نفسِها ولا جذرًا ثابتًا إزاء ما غُرِس فيها من خوفٍ ورَيبٍ، هما ثعبانٌ مبين برأتْهُ يدُ المجتمع المغموسةُ في تاريخ وثقافة باليينِ، ولا مندوحة لها من أن يلتفّ هذا الثعبان على كيانها كلّه، مهما سعتْ في مراتب الوعي العاليات، تراها وقد حازت في الجامعة أرفع درجة علميّة، وتخصّصت بالعلوم الصَّرفة، واشتغلت بمخابرها، ويومَ أرادت أن تسكن في شِقّة ببغداد بمفردها صغت إلى صوتِ أبيها، وارتَدّت إلى جَلَفِ بيئتها مذعنةً تردد أن استقلالها بسكنٍ بعيدٍ عن أهلها مجلبة للعار على أهلها بعد أن حفظت شرفهم!

ومثيلتها التي تناظرها في البيئة المشدودة إلى ما لم يُوجد في الدين أصلًا، بعد أن تعمل وتأبى قِوامة أبيها عليها تجدُها بباب هَرِمَة تقرأ لها طالَعها إذا ما فيه زوجٌ صالِحٌ يملكُ التصرّف بها، ويسدّ فراغ قلبها، ويُشعرها جسدها، ويُتِمَّ سَورةَ دِينها!

وامرأةٌ أخرى طوّفَتْ في غير تَيْنِكَ البيئتينِ، وحلّت بلدًا نزعَ ما بينه وبين الموروث كلّ سبب، فهي طليقة تفعل ما أرادت المدنيّةُ لها، وتُلبّي مُتع الحياة، وحين ردّتها الصُّروف إلى كِنِّها الأوّل، انكفأت على مكتبتها وصارت إذ تخرجُ من بيتها تتلفّعُ بحجابينِ، أحدهما أرضى ذوق الشارع، وثانيهما أقصى الأول كيلا تنصَّل من تقاليد الجامعة التي تدعو طالباتِها إليها!

وصديقة هذه تلك التي تمرّدت بعد أن ساقها زوجُها بشمالهِ إلى غرفة النوم، وضربَها بيمينه بحزامهِ جزاء قميص ما تمَّ كَيُّهُ، وجزاء نظرة عابرة من رجل ما في السوق، وقد خانته مع غيره متذرعة بطلاق روحها عنه، ثم رجعت إليه تفكّر بأَلْسِنةِ الناس التي تبترُ شرفَها وسمعةَ أولادِها!

أُولاءِ النساء كيانٌ يتوق إلى أن يكون ذاته، وهنَّ طاقة يأسٍ وعجزٍ عن أن يتحققَ شيءٌ من هذه الذات، وتفكيرهن ما ينفكّ يقودُهن ضدّ أنفسهن كآليةٍ تقيهن الانزلاقَ في حتميةِ المَشاق.

ـ وَهل مِن مزيد عن تلك في الجامعة، وما هي برجلٍ، ولا امرأة، إنّما تشبَّهَت بِهما، وصارت نمطًا وَضَعَتْهُ فَوضى هذه البلادِ وما تعلّقَ بها؟!

***

د. سحر شبر

 

عندما يتم الحديث عن الخصوصية الثقافية المغربية يراعى في ذلك ما يعيشه اليوم هذا القطر الشمال الإفريقي من تفاعل قوي يتخذ من حين لآخر أشكال الصراعات الاجتماعية الجدلية لتخفيف ضغط الثقافة التقليدية على مسار بناء الدولة العصرية، وفك ما ترتب ويترتب عنها من أغلال مقوضة للإرادات الحرة، وبالتالي تحرير الأفراد والجماعات من المكبلات الثقافية والنفسية التي لا زالت متسلطة على الجرأة في التفكير لبناء حداثة مغربية بامتياز.

المغرب يتوفر اليوم على إرادة سياسية معلنة رسميا لربح الوقت ومواجهة أسباب هدره خدمة للمستقبل. في نفس الآن، هذا الامتياز لا يكفي ما دام الواقع لم يتخلص من التأثيرات السلبية (ينعتها رواد الفكر والسياسة بالخطيرة) الناتجة عن استمرار حضور الشيخ والليبرالي والتقني في منطق الفعل العمومي برهاناته الصعبة. التعليم في البلاد في سنة 2023 عاش مخاضا يتطلب الدراسة والتأمل، وبقي أفق بناء نسق حداثي في التربية والتعليم والإعلام والثقافة بعيد التحقق إلى حد ما. إن استمرار اختلال العلاقة في العقدين الأخيرين ما بين برامج الحكومات المغربية المتتالية والمشاريع الفكرية بشقيها التاريخي والفلسفي ينذر بخطورة التناقضات المعاكسة لطبيعة متطلبات السياسة المعبر عنها رسميا من طرف المؤسسات العليا للوطن.

وأد البداوة والقضاء عليها ترابيا يجب أن يشكل حلما مشتركا بين الأسرة رجال التربية والتعليم والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة بهذا البلد الصاعد. في هذه النقطة بالذات، دعا الدكتور عبد العروي في مشروعه الفكري إلى تبني الماركسية الموضوعية. المغرب بكيانه التاريخي لم ولن يستجيب لضغوطات معتنقي النماذج الفكرية الغربية كأساس للتحديث (التقليد والتبعية). التفاعل التاريخي مع الموروث التراثي يتطلب اعتماد المنهج العلمي الماركسي. لقد شهد التاريخ فشل مفهوم القومية العربية المنبثق عما ترتب عن التعاطي مع التطورات التاريخية التي عرفها الشرق السوفيتي والصيني في القرن العشرين.

تحقق استقلال الدول العربية وغابت استراتيجيات النماء وفرض الذات بمقومات وتحديات الحاضر والمستقبل. استمرت عربيا البداوة ما بعد مجيء الإسلام. عجزت الاجتهادات الدينية في مساعيها للنيل منها بالرغم من ضغوطات التحديات المستقبلية. لقد أسهب ابن خلدون في الحديث عن البداوة وعواقبها القاتلة، واسترسل المفكرون، خصوصا المغاربة، بنفس المنطق في تشريحها والوقوف على مآسيها التي لا تحتمل. لقد أبرزوا بالحجج والبراهين الدامغة خطورة استمرار تقابل البداوة العربية وإنجازات التحضر والحضارة والعمران غربيا. إنهم يمتعضون بتحسر مما ترتب عن هذا التقابل في مجال الثقافة والإنتاج وتشكل الرأي العام. انبثق عن المجتمع المغربي تياران سياسيان كبيران، الأول منغلق خدمة لمصلحة رواده ومريديه، والثاني تابع منبهر بثقافة الآخر نافيا لذاته التاريخية. بالموازاة، العالم العربي بقي مستسلما لضغوط الماضي وغارقا في تقاليده البدوية إلى درجة عم اليوم الحديث عن إسلام تركي عثماني، وإسلام عربي سني، وإسلام فارسي إيراني ومتاهات صراعات الأسياد (رجال الدين) والعبيد (الجماهير) بدون زعامات قادرة على تجديد السياسة والفكر ومقومات حياة الشعوب.

التبعية للآخر بشقيها الظاهر والخفي في مشروع العروي آفة لا يطيقها الوطن العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. إنها لا تعني فقط عدم الاستقلال والاستغلال بل تعني كذلك تعميق التأخر التاريخي. إذا كان مشروع كتابة تاريخ قطر واحد يتطلب مساهمة عشرات المتخصصين في مختلف مشارب المعرفة، فإن العروي أبهر العالم لوحده عندما أقدم على إصدار كتابه مجمل تاريخ المغرب (1 و2) بمنهج علمي صرف تناول فيه بالدقة المتناهية تفاصيل تاريخ الوقائع المغاربية والبنية التركيبية الاجتماعية للمغرب الكبير.

لإبراز التخبط والخلط الذي لازال العرب غارقين فيه، لم يجد العروي من سبيل لتنوير العقول سوى الاعتكاف على تحديد عدة مفاهيم أساسية خصص لكل منها كتابا في إطار سلسلسة متكاملة، أغناها بمنتوجات أدبية، آملا أن يتحول المغرب إلى قاطرة لقيادة النهضة العربية والإفريقية (مفهوم الدولة، مفهوم الحرية، الأدلوجة العربية، العقل، بين الفلسفة والتاريخ، ...).

وعليه، يمكن القول أن الملكية بالمغرب الأقصى قد راكمت ما يكفي من مقومات الحداثة في السياسة والدين لقيادة التغيير الاجتماعي. لقد تملكت القدرة على العمل لتقليص الهوة بين ما عرف قديما "الأسياد والعبيد". المغرب الأقصى هو البلد العربي المغاربي الأقرب إلى تحقيق الاعتراف بوطنية الفرد المغربي المرتبطة بخيرات بلاده. الصراع الهيجيلي في هذا الشأن ليس عيبا ولا يجب السماح بتتويجه في زمن التقاطبات السياسية الكونية الحالية بالكلمة العليا للسلفي الغارق في ماضيه. مفهوم الحرية الذي يرتضيه العروي للمغاربة يتجاوز تمثلات السلفي والليبرالي والتقني.

لقد قضى العروي حياته معتكفا في فضاءاته الخاصة لصبر أغوار إشكالية الحداثة مغربيا وعربيا. أبرز نزعات الليبرالية الغربية وكيف أنجبت من رحمها الحركات الامبريالية، وكيف تعمدت تهميش الشرق بحضاراته الأوراسية والصينية والهندية والفارسية. المشروع الغربي بمعالمه في القرن الثامن عشر عند الفيلسوف كانط تناول العقلانية والنقد والتنوير كمشروع غربي. لم يهتم قط بالعقل العربي. إنه المعطى الذي جعل العروي يمتعض من استمرار سيطرة البداوة عربيا بالرغم من غزارة المشاريع النهضوية الفكرية في المنطقة، منها الداعية للقطيعة المنهجية الكبرى (العروي)، ومنها الداعية للقطيعة الوسطى (الجابري وأركون رحمهما الله). تأسف لاستمرار حماية البداوة سياسيا بقيادات سلفية متخاصمة مع العلم والتكنولوجيا وتربية الأجيال منذ نعومة أظافرهم على الدرابة اليدوية والعقلية المنتجة للمادة. انتقد الماركسية التقليدية مبكرا مبرزا نواقصها وتناقضاتها. توقع فشل القومية العربية وانتقد منطق اعتناقها للشيوعية بعيدا عن الدلالات العميقة للفكر الماركسي. الدينامية في تأويل فكر كارل ماركس تعتبر اليوم بالنسبة للعروي أساس التحولات في العالم.

المغرب والمشرق العربي بالنسبة له قريبان أكثر من نمط الإنتاج الأسيوي المناهض للنمط الرأسمالي. بدون الماركسية، يقول العروي، سنظل تلاميذ بلا نباهة في عالم شيد بجوارنا نستلذ به ولا نتوصل إلى نواميسه. العار كل العار أن تستمر البداوة في تسلطها على مصائرنا. جاء الاسلام لمواجهة البداوة، فتقوت هذه الأخيرة وجعلت العالم الإسلامي يختلف حول الإسلام. المغرب بلد مؤهل للتملص من براثن الفكرين السلفي بهيمنته الواهية والرأسمالي بمصالحة المتوحشة. الماركسية التي يدعو إليها العروي، بمعانيها الاجتماعية وأسسها لإعادة تنظيم المجتمعات، تحمل كل فرص المرور إلى الحداثة بذات تاريخية واعية بمخاطر السلفية وأنانية  النزعة الوجودية التي كانت وراء اعتناق فكرة القومية العربية. يعتبر المنهج الماركسي الموضوعي بالنسبة لدول العالمين العربي والمغاربي الفضاء العلمي الأقدر لخلق نمط علاقات دولية مع الأسياد الجدد وإعلان مرور الوطنيات القطرية إلى درجة السيد.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

يستصعب بعض الطلبة درس الاستدلال متعذرين بدقته وتعقيده ظانينَ أنَّه ترفٌ فكريٌّ لا فائدة منهن يستلذ به راغبوه ويأنس به محبوهن ناسينَ غفلةً أنَّ ساسة البلاد والعباد لا ينفكون  في  خطاباتهم عن الاستدلال أسلوباً للاقناع وطريقة لكسب تأدية العامة من الناس بغض النظر عن صدق استدلالاتهم أو منطقيتها ومقبوليتها العقلية. فالعهدُ قريب والأثر لمّا يُمحَ، والناخبون لم ينفضوا بعدُ غبارَ انتخابات مجالس المحافظاتنإذ رأينا كيف علت أصوات المرشحين مستدلّينَ على أهليتهم أو ناقضينَ كلام غيرهم سواء من كان يحتج على صحة المشاركة فيها أو من يطعن في أصلها وضرورتها. فكلُّ طرف منهم يمارس الاستدلالنويرى أنَّه عبد الدليل أين ما مال يميل.

ومادام الساسة لا يبرحون عن ممارسة الاستدلال ويتفنون في توظيف مسالكه  واتباع أساليبه لصناعة القرارات التي تحكم الدولة وتلزم المجتمع السير في طريق معينن فهذا يدل على أنَّ العقل العاميّ  يحكمه الاستدلالُ ويسوسه الجدلُ وتؤثر فيه المناظرات والمطارحات الخطابية إلا أنَّه عقلٌ غير محصن فهو أرض رخوة وتربة هشة، إذ تفوت عليه المغالطات التي يستعلمها بعض الساسة ويغفل عن الاوهام التي يصنعونها والادعاءات التي يقولونها، فنرى من الناس من يعتقد بصحة استدلال سائس معين وكذب الآخر، ويُخيّل له أحقية سياسي ثالث وبطلان من ينازعهن وهذا الاعتقاد أو التصور لايستند الى أُسس علميةنو مقبولات عقلية.

ومن ثم يتوجب على طلبتنا العناية بالاستدلال وقواعد الجدل والمناظرة ليكسبهم تفكيراً ناقداً وعقلاً فاحصاً ليتحصنوا به من زخرف القول وبهرج الخطاب وزينة الكلام ويكونوا من ذوي الوعي والإدراك، لا يقبلون كل ما يقال ولا يصدقون كل ما يسمعون. ويتحملون أمانة تحرير العقول بتحطيم أغلالها وفكها من قيودها وتمزيق الحجب الساترة للحقيقة عن طالبيها وإنارة الطريق أمام السالكين.

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

مقدمة: يحاول المقال أن يعرف القارئ العربي على هذه الحركة، متى ظهرت ومن هو مؤسسها، وهل أنها حركة سياسية؛ ام طائفة دينية جديدة؟.

ظهرت حركة التحول العالمي1 World Transformation Movement  في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، وهي الواجهة الإعلامية لطرح وشرح نظرية العالم الأحيائي  جيرمي غريفث  في  الحالة البشرية The Human Condition.

هذه التساؤلات تقودنا الى إلقاء الضوء على الحالة البشرية؛ جوهر نظريته التي كرس حياته لدراستها؛ حتى توصل لفهم التناقضات الخطيرة التي ترقى لحالة المرض النفسي، فهو يتسائل لماذا نحن الكائنات البشرية العاقلة والذكية للغاية، والتي يفترض فيها ان تتصرف وفق تلك المزايا، التي تنفرد بها، لماذا نتصرف بلا رحمة وبتنافس وأنانية، لدرجة أن حياتنا أصبحت لا تطاق، ونكاد ان ندمر كوكبنا الأرضي.

يواصل العالم البايولوجي جيرمي غريفث تساؤلاته؛ هل نحن نوع  أو جنس فيه عيب ونقص، كائنات لا قيمة لها، أم نحن الأبطال المطلقون الحقيقيون لملحمة الحياة على الأرض.

وحيث أن جميع المشاكل على الارض، بإستثناء الكوارث الطبيبعية سببها البشر، وهي ناجمة عن الحالة الإنسانية.

لقد كرس جيرمي غريفيث حياته لدراستها، وتوصل لفهم المشكلة الأساسية، يقول: (لقد تمكن العلم أخيرا من شرح وفهم اسبابها وكيفية علاجها).

بعد هذه المقدمة التي لابد منها للدخول لموضوع المقال، الخص بإيجاز الشرح الذي وضحه غريفث عن الحالة البشرية كما ورد بالتفصيل في كتابه: الحرية (FREEDOM (نهاية الحالة البشرية)، وهو المرجع الأول لنظريته، والذي نال الثناء نخبة من العلماء أخص منهم بالذكر البروفيسور هاري بروسن رئيس الجمعية الكندية سابقا للطب النفسي، وستيفن هوكينج وهو من ابرز علماء الفيزياء النظرية وعلم الكون على مستوى العالم. حتى ان كتابه سُمي كتاب الكتب، او الكتاب الذي ينقذ البشرية، كما مكتوب في اعلى الغلاف الخلفي للكتاب.

ينتقد عالم الأحياء جيرمي غريفيث العلم الميكانيكي2 فيقول: (لقد بذل هذا العلم جهودا خطيرة للغاية لتجنب اي تحليل نزيه وصادق للحالة البشرية، بمعنى آخر أنه لم يعترف بأن هناك مشكلة حقيقية؛ او نزاع بين الغرائز الفطرية والعقل).

من الواضح كما يعتقد جيرمي غريفيث؛ ان ظهورعقلنا الواعي قد إنضبط بوجود غرائزنا الإيثارية، وبذلك تسبب أيضا بحالتنا المضطربة؛ التي يسميها جيرمي غريفث الحالة البشرية، اي (الغريزة الفطرية مقابل العقل)، وهنا يجب الإشارة الى انه يعتقد ان غرائز الإنسان كلها خيرة، وإيثارية.

ينتقد غريفيث عالم الأحياء الأمريكي الشهير أدوارد  أو ولسون3، ويفند نظريته بـ (الاختيار متعدد المستويات) أي تفسيره غير النفسي للحالة البشرية المضطربة، باعتقاده أنها ناتجه عن (غريزة مقابل غريزة) أي (غرائز خيرة تعارضها آخرى غير خيرة) وبذلك تأكيد على ثنائية الخير والشر.

العلم الميكانيكي لا يهتم او يحاول حتى  مواجهة الحالة البشرية الفاسدة وحلها على الإطلاق، ومع ذلك يوصف ولسون بشكل مبالغ فيه؛ بأنه أعظم عالم احياء في العالم، والوريث الحي3 لدارون.

حاول ولسون يائسا تجنب حالة انسانية غير آمنة للغاية ومضطربة نفسيا.

مقابل  ذلك اقترح حالة فكرية (الاختيار متعدد المستويات) بالإضافة للغرائز التنافسية المفترضة؛ والبقاء للأصلح، يقول يجب إعادة إنتاج جيناتك الخاصة، والغرائز الأنانية والشريرة، وعلى مستوى آخر؛ فأننا نحن البشر لدينا أيضا بعض الغرائز التعاونية  الأخلاقية والجيدة.

فقدت فكرته مصداقيتها تماما كنظرية قابلة للتطبيق كـ (اختيار المجموعة) وهكذا يقول ويلسون، تم أنشاء معضلة الخير والشر عن طريق الأختيار متعدد المستويات، أن رفض ويلسون الإعتقاد أن الأضطراب النفسي الأشبة بالذهان الذي نتج عن الصدام الذي دبَّ بين الغزائز الفطرية للأنسان ونمو الوعي (الأدراك) كنتيجة لتطور الإنسان؛ هو سبب المشكلة للحالة البشرية، ويعتقد أنها ليست أكثر من غريزتين مختلفتين متعارضتين، وهو تفسير غير أمين بيولوجيا تماما للطبيعة البشرية، بل وأنه شرير حقا، ليتجنب الحالة البشرية بكل ظلامها وذهانها المتفاقم الذي يسيطر على العالم، ومنع التفسيرالحقيقي ومعالجة الذهان الكامن داخل الأنسان (الناتج عن  قلق عميق للغاية؛ وعدم يقين وعدم معرفة) وحله؛ اي (الغريزة مقابل العقل).

إن عدم القدرة على تفسير ما يسمى بـ (السقوط من النعمة) لجنسنا  البشري، من حالة البراءة الأصلية الى حالتنا البشرية الفاسدة والغاضبة والأنانية والمغتربة؛ يعني ذلك الإعتراف بأن جنسنا البشري عاش ذات مرة في حالة تعاونية ومحببة.

يرى جيرمي غريفيث أنه بفهمه للحالة البشرية؛ قد توصل لحل ما ينتج عنها من معاناة أنسانية منذ مليوني سنة والى الآن، وبرأيه أنها السبب للحروب والكراهية والحسد والجشع، ومركزية ألأنا المفرطة..

***

صالح البياتي

.......................

هامش

* الرجاء من القارئ الكريم متابعة الموضوع في مقالات لاحقة.

1- منذ تخرجي من كلية الآداب جامعة بغداد، ونيلي درجة البكالوريوس  بعلم الإجتماع في العام الدراسي 1963، لم اكتب مقالا علميا، كنت ولا أزال اهتم بالأدب، نثرا وشعرا، قصة قصيرة ورواية، وهذا المقال فكرت بكتابته وقتا طويلا، جمعت مادته من مقالات تصلني على بريدي الألكتروني، من حركة التحول العالمي، ومؤسسها عالم الأحياء الأسترالي Jeremy Grifith، مؤلف كتاب الحرية Freedom، وهو مؤلفه الاساسي الذي عرض فيه نظريته عن الحالة البشرية التي هي  محور مقالتي The Human Condition

2- اسس غريفيث وزميله تيم ماك ارتني وهو متسلق جبال مشهور وآخرون غيرهما، منظمة سن الرشد الأنساني Adulthood Humanities ، وأصبحت منظمة خيرية مسجلة في ولاية نيو ساوث ويلز في عام 1990، وتغير اسمها في عام 2009 الى حركة التحول العالمي، ولها مراكز عديدة في عدد من الدول بإستثناء اي دولة عربية،  وقد كرس غريفيث حايته العلمية منذ مطلع الثمانيات  لتطوير الحالة البشرية، وتعزيز فهمها

(مقتبس من وكيبيديا عربي)

3- هو عالم الأحياء الشهير الأمريكي (أدوارد أو ويلسن  1929 – 2021)، أبرز العلماء الميكانيكيين على وجه الخصوص، في نظريته: (ألإختيار المتعدد المستويات) التي تقدم ما يسمى بالتفسير الفعلي للحالة البشرية، لا تعترف بأن الحالة البشرية هي نتاج الغرائز الفطرية الواضحة مقابل عناصر العقل، بل تسعى الى حصر الحالة البشرية بغرائز شريرة مقابل غرائز خيرة.

 

بقلم: أندي أوين

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

في عالم مليء بالغضب الذي يغذيه الحزن، يمكن أن تساعدك تنمية العقلية المأساوية على العيش بكرامة وسماحة. ثلاثة من كبار كاتبي التراجيديا الأربعة هم يونانيون: إسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيديس (شكسبير هو الرابع). في القرن الخامس قبل الميلاد، تركزت مآسيهم على البيوت العظيمة ومشاجراتهم وطموحاتهم. تواجه الشخصيات ضغوطًا خارجية من عائلتها أو مجتمعها ويكافحون من أجل حلها، أو يتسببون في سقوطهم بسبب عيوب شخصية. وبعد مرور ألفي عام ونصف، تحتوي هذه المآسي على دروس لا تزال تنطبق على حياتنا الشخصية. إن السؤال الرئيسي الذي تطرحه المأساة هو "ماذا ينبغي لي أن أفعل؟" فحتى هؤلاء منا الذين ليسوا من ذوي أصل نبيل مثل الشخصيات المأساوية سوف يواجهون في كثير من الأحيان ضغوطاً مماثلة، أو يمكننا التعرف على عيوبهم في أنفسنا ونرى كيف تقودنا إلى الخطأ أيضًا.

الناس معيبون بطبيعتهم، ولا أحد منا مثالي

تحتوي المأساة على المفهوم الذي أطلق عليه أرسطو اسم هامارتيا. في مسرحية سوفوكليس أوديب الملك، والتي ربما تكون أعظم المآسي على الإطلاق، يسقط أوديب من الملك إلى المنفى، ليس بسبب خطيئته، ولكن بسبب خطأ في الشخصية ليس خطأه. يتخذ سلسلة من القرارات متأثراً بأخطائه. يواجه أوديب رجلاً أكبر سناً على مفترق طرق يرفض الاستسلام. يفقد أوديب أعصابه ويقرر مهاجمة الرجل وقتله، دون أن يعرف من هو حقًا. يمكن النظر إلى هامارتيا على أنها نقطة ضعف إنسانية أساسية تشركنا في أفعال تؤدي إلى المعاناة. وأنا أتفق مع الفيلسوف سايمون كريتشلي عندما قال أنه يمكننا التوسع في فكرة الضعف هذه، وبما أنها موجودة فينا جميعًا، فإننا ننظر إلى الهمارتيا باعتبارها ضعفًا وتقييدًا أساسيًا يحدد هويتنا كبشر.

عندما تتعرض للظلم، يمكن أن يساعدك ذلك على التفكير بشكل مأساوي: فبدلاً من التركيز على الفعل الضار وتحميل الشخص المسؤولية عن التأثير الذي أحدثه عليك، حاول أن ترى ما فعله باعتباره مظهرًا من مظاهر الضعف الأساسي الذي ربما كان يعاني منه.أو عاجز عن منعه - - ضعف بشري طبيعى قد تمتلكه أنت أيضًا. افعل ذلك وفي قلب الصراع يمكنك تحديد ما يربط بينك وبين الشخص الآخر، وليس ما يفرقكما.

التجربة الإنسانية هي تفاعل معقد بين القدر والحرية

تعلمنا المأساة أن هناك أشياء كثيرة خارجة عن سيطرتنا. الأفعال المميتة تخضع لقوى تتجاوزنا. الشخصيات في المآسي هي بيادق في نزاعات الآلهة الصغيرة. إنهم يحاولون تحدي النبوءات، لكن الأحداث الخارجة عن سيطرتهم، أو العواقب غير المقصودة لأفعالهم، ترى التحقيق الحتمي لما تم التنبؤ به. وعلى نحو مماثل، نحن نعيش اليوم في ظل نظام جدارة ديمقراطي مفترض، ومع ذلك فإن أفعالنا تخضع لآلهة قوى السوق والخوارزميات غير المرئية. يمكننا أن نجد أنفسنا بيادق في المشاحنات التافهة بين القادة المستبدين.

ولكن في الوقت نفسه، ضمن حدود القدر، نحن أحرار في اتخاذ الخيارات - هذه هي الطريقة التي يتشكل بها مصيرنا. إن مصير أوديب لا يتقرر بالكامل من خلال الاختيارات التي يتخذها، بل من خلال تفاعل القوى الخارجة عن سيطرته والتي تتفاعل مع اختياراته. يمكنك أن ترى ذلك من خلال النظر إلى الوراء منذ اللحظة التي قتل فيها ذلك الغريب عند مفترق الطرق.

قبل أن يولد أوديب، وقعت لعنة على والده لايوس، لانتهاكه قوانين الضيافة المقدسة. عندما ولد أوديب، استشار لايوس وحيًا يكشف له أن لايوس "محكوم عليه بالهلاك على يد ابنه". يأمر لايوس بقتل أوديب، ولكن يتم التخلي عن أوديب على قمة الجبل، حيث يتم إنقاذه من قبل الراعي. بعد سنوات، عندما أخبر أوراكل أوديب أنه سيقتل والده وسيقيم علاقات جنسية مع والدته، يهاجم عند مفترق الطرق  شخصًا غريبًا ويقتله دون أن يدرك أنه والده. إن العواقب غير المقصودة للاختيارات الفردية تحقق الأحداث المتوقعة.

على الرغم من اللعنة والنبوءات، فإن غضب أوديب يتغلب عليه. يتطلب القدر تواطؤ أوديب الواعي جزئيًا لتحقيق حقيقته. وبالمثل، فإن حريتنا تتعرض للخطر بسبب ثقل الماضي، والذي يتطلع الكثير منا إلى إنكاره في عطشنا المستمر للشيء التالي. وكما كتبت المؤلفة والناقدة ريتا فيلسكي: "إن ثقل ما حدث يؤثر حتماً على ما سيأتي". نحن جميعًا نتشكل من خلال ماضينا، وطفولتنا وتجارب آبائنا وتجاربنا الجماعية. تعلمنا المأساة أننا إذا لم ندرك ذلك وحاولنا التنصل من الماضي، ففي أحسن الأحوال، سيكون مقدرًا لنا أن نكرر ما جاء من قبل، وفي أسوأ الأحوال، سيدمرنا ذلك.

لا توجد إجابات واضحة للعديد من المعضلات الأخلاقية

المأساة ليست انتصار الشر على الخير، بل هي المعاناة الناجمة عن انتصار خير على آخر. تدور المأساة حول أهداف يمكن الدفاع عنها أخلاقياً ولكنها غير متوافقة. في مسرحية إسخيلوس سبعة ضد طيبة، قتل الأخوان إيتوكليس وبولينيكس بعضهما البعض في المعركة. بعد ذلك، أعلن عمهم كريون، ملك طيبة الجديد، أنه سيتم تكريم إتيوكليس، لكن بولينيسيس سيُترك في ساحة المعركة ويُحرم من طقوس الدفن كعقاب لكونه خائنًا (لمهاجمته شقيقه). ويرى كريون أن هذه العقوبة ضرورية لاستقرار الدولة وتجنب إراقة الدماء في المستقبل. في عمل من أعمال العصيان، أعلنت أنتيجون أنها سوف تدفن شقيقها من منطلق الولاء لدمه المدان. وبعد دفنه تسأل: ماذا سيحدث لي؟ ماذا علي أن أفعل؟ تنقسم الجوقة إلى مجموعتين. ليس هناك وفاق.

في حياتنا، غالبًا ما تكون المعضلات التي نواجهها، كبيرة كانت أم صغيرة، غامضة بنفس القدر. من خلال تصفح أعمدة الصحف الوطنية، تجد الناس يشعرون بالقلق بشأن ما إذا كان ينبغي عليهم مواعدة ابن عمهم المفقود منذ فترة طويلة، أو مواجهة الآباء المسنين بشأن سوء المعاملة في الماضي، أو التدخل في السلوك المدمر للآخرين. هناك العديد من الأشخاص الذين يطلبون المشورة حول كيفية تصحيح التفضيلات الجنسية المختلفة مع الشركاء وغيرهم الكثير يتساءلون عن كيفية الموازنة بين المسؤوليات تجاه الآخرين ورغباتهم وطموحاتهم. في الأوقات المضطربة، تزدهر المؤامرات والآراء السياسية والدينية المتطرفة بين السكان القلقين. كل هؤلاء الأشخاص يبحثون عن إجابات، ولكن على العديد من الأسئلة، لا توجد إجابات واضحة.

أثناء بحثك عن إجابات نهائية غير موجودة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، قد تفوتك عجائب الحاضر غير المؤكد. إنه الإحساس بالحياة الذي نفقده عندما تركز على بعض الأغراض العامة أو تلتزم بالعثور على إجابات في الأيديولوجيات والأديان. على الرغم من إيمانهم بالآلهة والحياة الآخرة، ركز اليونانيون القدماء على ما يفعله المرء في هذا العالم، هنا والآن. يمكن أن يساعدك التفكير المأساوي على التوقف عن السعي لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه. يمكن أن يساعدك أيضًا في العثور على حل مع الآخرين. إذا نظرت إلى الصراعات على أنها أبيض وأسود، حيث يكون أحد الطرفين على حق بشكل لا لبس فيه والآخر على خطأ، فهذا لا يترك مساحة كبيرة للتعايش والتوافق. يمكن أن يعميك عن معاناة الآخرين ويقودك إلى تبرير ما لا يمكن تبريره. يمكن للقصص المأساوية عن صراعات الماضي أن توفر طريقًا للتعايش في الوقت الحاضر.

الحزن والغضب جزء لا مفر منه من الحياة

كان العديد من الجمهور والممثلين في العروض الأصلية للمآسي الأثينية من الجنود المواطنين الذين قاتلوا في الحرب البيلوبونيسية، ومن المؤكد أن هذا سيساعدهم على تقدير دروس المأساة. ويزعم المراسل الحربي السابق روبرت كابلان، الذي يلقي باللوم في كوارث العراق وأفغانستان على فشل صناع السياسة الغربيين في التفكير بشكل مأساوي، أن المحاربين القدامى الشباب الذين التقى بهم يفهمون التفكير المأساوي بشكل أفضل من صناع السياسات "ذوي الخبرة" في واشنطن، الذين لم يختبروا قط فوضى الحرب.

كان إسخيلوس قد حارب الفرس في ماراثون وربما حارب في سلاميس قبل ثماني سنوات فقط من عرض مسرحيته الفرس. تتناول العديد من المآسي آثار حرب طروادة الأسطورية والأحداث التي غطتها الإلياذة، والتي جاء في أول سطرين منها ما يلي: أيتها الإلهة الغاضبة، غني غضب أخيل ابن بيليوس، القاتل، المنكوب، الذي كلف الآخيين خسائر لا حصر لها". تصف بداية الإلياذة غضب أخيل من فقدان ماء الوجه ومن ثم فقدان أقرب رفاقه.

يعطي الأعمى تيريسياس  أوديب الإجابات التي يبحث عنها، لكن أوديب لا يستمع إليه بل يستاء منه. يقول تيريسياس: "أنت تلوم أعصابي، لكنك لا ترى ما يسكن فى داخلك".

الطغاة في العنوان الأصلي لسوفوكليس، أوديب تيرانوس، يمكن تفسيره على أنه "طاغية" الطغاة لا يسمعون ما يقال لهم، ولا يرون ما أمامهم. أوديب أعمى من الغضب قبل أن يعمي نفسه حرفيًا لاحقًا عندما يرى ما فعله. في مسرحية سوفوكليس «أوديب في كولونوس»، يلوم أوديب الآلهة على مصائبه، «ربما كان غاضبًا من جنسنا الذي عاش في العصور الماضية». الكثير منا مذنب بنفس القدر. نحن ننظر، ولكن نرى ما نريد، ونستمع، ونسمع فقط ما نريد. أي شخص يخبرنا بما لا نريد سماعه يمكن أن يشعرنا بالغضب.

تسأل الشاعرة آن كارسون وتجيب: لماذا توجد المأساة؟ لأنك مليئة بالغضب. لماذا أنت مليء بالغضب؟ لأنك مليء بالحزن.

إننا نحزن على أولئك الذين فقدناهم والذين كنا نهتم بهم. على مر السنين سنخسر المزيد. وكما يتأسف أوديب: "فقط الآلهة لا تشيخ أبدًا... كل شيء آخر في العالم يمحوه الزمن الجبار". نحن لا نحزن على فقدان من نحبهم فحسب، بل نحزن على خسائر أكثر تجريدًا؛ الزمن الذي فات، وشبابنا الذي ذهب معه، وقدراتنا الفاشلة، ومكانتنا في عالمنا، وصحبة الآخرين واحترامهم وحبهم. بالحنين نحزن على ما لم نكن نملكه من قبل. في حين أن ألم فقدان الأحباء قد يتحول إلى غضب، فإن الحزن هو دليل على أن حياتهم مهمة، وأن الحياة كلها مهمة.

في نهاية المطاف، العقلية المأساوية تدور حول إيجاد طريقة للتخلص من هذا الغضب دون خلق المزيد من الألم، والتعامل مع كل خسائرنا دون إيذاء الآخرين. عندما نكون غاضبين، فإننا نتصرف بحرية، ولكن شيئًا ما يتصرف من خلالنا أيضًا، نوع من اللعنة، التأثير اللاواعي إلى حد كبير للماضي على الحاضر. في أوديب في كولونوس، يلعن أوديب ابنه بولينيكس ليموت على يد أخيه في المعركة، ويلومه على عدم منع نفيه. تسأل أنتيجون بولينيكس عن سبب سعيه للإطاحة بأخيه. فيجيب: «المنفى مذل وأنا الأكبر ويسخرون مني بهذه الوحشية». تجيب أنتيجون: "ألا ترى؟ لقد حققت نبوءات والدك حتى النهاية! تحاول أنتيجون كسر دائرة العنف. لكنها فشلت في النهاية. في مسرحية سوفوكليس أنتيجون، يحكم عليها كريون بالموت لأنها دفنت شقيقها الذي رفض الاستماع. ومع ذلك، عندما تنتحر، تظل غير قابلة للمساومة، كشعاع وحيد من الضوء البطولي في عالم أوديب المظلم.ووفقا لروبرت كابلان، يقول الوعى التراجيدى: "لا يوجد شيء أجمل في هذا العالم من كفاح الفرد ضد الشدائد، حتى عندما يكون الموت في انتظاره".

تُظهر لك المأساة أنه يمكنك خلق معنى من خلال التعامل مع الحياة البشرية بكرامة حتى عندما تكون معيبة وحتى عند وقوع الكارثة. تتعظم الكرامة عندما لا تسعى إلى لوم الآخرين على ما تخسره، وتقف شامخًا في مواجهة العاصفة القادمة، مدركًا أن عدم استقرار الحياة وهشاشتها يمنحها إلحاحًا مهيبًا وثمينًا.

استمر على أي نحو

تصف المآسي عالمًا في صراع مستمر، يتسم بالتقلب والغموض وعدم اليقين وعدم القدرة على المعرفة، حيث غالبًا ما تجتاح الناس قوى يتفاعلون معها ولكنهم لا يفهمونها تمامًا. هذا هو عالمنا أيضا. في كتابها "الطريقة اليونانية" (1930)، ادعت الكلاسيكية إديث هاملتون أن الشعر الغنائي للمآسي تحتوي على جمال حقائق لا تطاق، حقائق لا يمكن تحملها. ومع ذلك فإن التفكير بشكل مأساوي يعني إدراك الحاجة إلى محاولة كسر دورات الحزن والغضب ــ تلك التي نختبرها في حياتنا الشخصية والتي تتجلى اليوم على نطاق أوسع في غزة، وإسرائيل، وأوكرانيا، وإثيوبيا، واليمن. إنها محاولة جعل ما لا يطاق مقبولاً. في بعض الأحيان سوف ننجح، ولو بشكل مؤقت. إن النعمة في الإنسان تعني احتضان الحقائق الشعرية التي تظهر في المآسي، والمضي قدمًا على أي حال، مثل أنتيجون، بقطع   النظر عن مدى نجاحك.

***

...............................

المؤلف: آندي أوين هو مؤلف كتاب "جميع الجنود يهربون: حرب ألانو: قصة هارب بريطاني" (2017). وهو جندي سابق يكتب عن أخلاقيات وفلسفة الحرب. يعيش في لندن.

 

في كتاب "حياة غاليلي" بقلم برتولت بريخت، صرخ أندريا، تلميذ غاليلي، غاضبًا من حقيقة تراجع معلمه بعد إدانة الكنيسة: "من المؤسف أن البلد الذي ليس لديه أبطال!". فيجيبه جاليليو: "من المؤسف أن البلد يحتاج إلى أبطال". أن يحتاج الناس إلى أبطال، هذا لا يبدو مشكوكًا فيه، فلننظر إلى النجاحات الكبيرة التي حققتها السينما لنقتنع: اليوم لم نعد نكتفي بالأبطال، نحن بحاجة إلى "الأبطال الخارقين"."! كل شيء يحدث كما لو كانت المجتمعات البشرية بحاجة إلى تجسيد قيمها في فرد يكون دليلاً ملموسًا عليها: المحارب، الشهيد، الحكيم... لذا فإن السؤال يبدو أقل هو ما إذا كنا بحاجة إلى أبطال بقدر ما نحتاج الى معرفة لماذا نحن بحاجة إلى أبطال؟ وهل هذه الحاجة إلى النموذج هي حافز يرفع الناس أم أنها تنفر لأنها تخلق عدم المساواة من خلال دعوتهم إلى اتباع نموذج لا مثيل له؟

لكي نبدأ بالتفكير في هذه الأسئلة، علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البطولة؟ وكيف نعرف فضيلة العمل البطولي؟ هل يوجد فرق جوهري بين البطولة في الميدان الحربي والبطولة في الميدان الأخلاقي؟

البطل (باليونانية "Hèrôs": نصف الإله) هو الذي يبدو أنه قد تجاوز حدود الحالة الإنسانية بشجاعته وأفعاله. إنه المفهوم القديم للبطولة الذي يوجد مع ذلك في الصور الشعبية للسينما والأبطال الخارقين: الشجاعة الاستثنائية التي تؤكد نفسها من خلال ضربات رائعة. ثم يظهر الفعل البطولي كفعل خالص، بلا نية أو دافع مسبق، فعل كائن متحرر من الخوف. في هذه الظروف، لا يمكن لقوة البطل أن تأتي إلا من قوة أعلى منه. وبالفعل، فإن تصرفات البطل مبنية على قواعد وقيم محددة سلفا تعتبر مطلقة أي إرادة الآلهة للبطل الهوميري، والمصلحة العليا للأمة للجندي، وما إلى ذلك، فإنه سيصبح هو نفسه تجسيدا لهذه القيم.  إن هذا المفهوم المتعالي والفوق إنساني للبطل والبطولة يتناقض تمامًا مع أي فكرة عن المساواة، بل على العكس من ذلك، فهو يوفر مبررًا لعدم المساواة التي هي أساس كل علاقات الهيمنة. تفرض السلطة التي تدعي أن الأبطال المؤسسين نموذجًا على الإعجاب العام وتجمده في تبجيل حيث لا يتعين على الشعب، بسرعة كبيرة، سوى إظهار خضوعه.  فبدلاً من رؤية البطولة باعتبارها نموذجًا فوق طاقة البشر وسرعان ما تصبح غير إنسانية، وبدلاً من رؤية البطل باعتباره رجلًا خارقًا لا يعرف الخوف، ألا يمكننا أن نتصور الأخير كشخص يعرف كيفية "إدارة" خوفه لأنه يعرف ما يجب أن يفعله؟ يكون خائفا وما هو لا؟ هذا هو تعريف الشجاعة الذي توصل إليه سقراط في لاخيس. في الواقع، بعد أن أظهر أن "ثبات الروح" لم يكن كافيًا لتعريف الشجاعة، لأن الأخيرة يمكن أن تكون مصحوبة بـ "عدم تفكير أو لاعقل"، ستكون حينها تهورًا وليس شجاعة، فإنه يعرفها على أنها "الشجاعة" أي علم ما يجب أن نخافه وما يجب أن نجرؤ عليه". ولذلك يحتاج البطل إلى أكثر من الاندفاع والثقة العمياء أو الطاعة. إنه يحتاج إلى الحكمة، وأن يعرف متى يقف على موقفه، في الوقت المناسب. إنه يحتاج إلى فكرة عما يستحق الوجود أن يعيشه في مواجهة الشدائد والمجهول، وليس مجرد صورة أو مثال غامض. في مواجهة بطولة خيالية مكونة من انقلابات رائعة، ألا يمكننا أن نفكر في بطولة يومية تتكون من تصور عام لوجود الفرد؟

قبل أن ننظر إلى البطولة باعتبارها القدرة على الموت من أجل الحقيقة، ألا يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها القدرة على العيش في الحقيقة أي بكل بساطة، مع عيوننا مفتوحة على ما نحن عليه، وفهم نقاط ضعفنا؟ بمعنى آخر، هل يمكننا أن نفكر في البطولة دون غرور، دون كبرياء، دون نرجسية؟ ربما هذا ما يسمى بالحكمة، فالحكيم الفخور لم يعد حكيماً، بينما البطل الفخور يبقى كذلك. ولكن هل الحكماء نادرون ومتحفظون جدًا بحيث لا يمكن أن يصبحوا نماذج؟ كيف نحدد البطولة اليوم؟

البطل هو القادر على التضحية بنفسه. بالأمس، في الغرب، كان بإمكان الرجال التضحية بأنفسهم من أجل الله، ووطنهم، ومثلهم الأعلى، وأطفالهم... ومن الآن فصاعدا، لن يفعلوا ذلك إلا من أجل أطفالهم. إنها نتيجة لعملية تاريخية طويلة، تم تحليلها بشكل جيد من قبل ألكسيس دي توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أمريكا". لكن ما نراه في غزة وفلسطين والعالم الشرقي والامريكي اللاتيني ان مفهوم البطولة التضحوية مازال يحوز على قيمة ويمثل مبدأ توجيهي للفعل المقاوم والصامد. فهل يؤدي الفعل البطولي الى النصر والتحرر؟ وكيف يمكن أن يتحول الى أرضية صلبة لمناهضة النزعات اللاانسانية التدميرية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

أدت عقود من الصراع إلى إصابة التعليم العالي العراقي بالشلل الشديد. فقد أدت الحروب، الداخلية والخارجية، إلى تدمير البنية التحتية، وتشريد الأكاديميين، وأعاقت جهود الإصلاح. ويستمر هذا الإرث من عدم الاستقرار في التأثير على النظام التعليمي.  يقدم تقرير الدكتورة الهام مكّي "التعليم العالي في العراق بعد عام 2003: التحديات المستمرة" مساهمة واضافة قيمة لما دأبنا عليه في كتاباتنا حول اهمية اصلاح التعليم العالي ولفهم التحديات التي تواجه النظام في العراق، من خلال تقديم نظرة شاملة لهذه التحديات، وتحليل العوامل التي أدت إليها، وتقديم رؤى حول الآثار التي تتركها على النظام التعليمي العراقي. كما أنه يوفر إطارا عمليا للإصلاح يمكن استخدامه من قبل الحكومة العراقية والمجتمع الدولي لمعالجة هذه التحديات.

يركز التقرير على خمسة تحديات رئيسية:

* البنية التحتية المتهالكة:

تضررت الجامعات العراقية بشدة بسبب الحروب والنزاعات الداخلية، مما أدى إلى تدمير المباني والمختبرات والمكتبات. كما أن التمويل المحدود يحد من الوصول إلى المعدات والتكنولوجيا الحديثة، مما يعيق التدريس والبحث وتعلم الطلاب.

* عدم تطابق المهارات بين الخريجين وسوق العمل:

تكافح الجامعات العراقية من أجل مواكبة احتياجات سوق العمل المتغيرة، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة والعمالة الناقصة بين الخريجين.

* قيود على الحرية الأكاديمية:

تفرض الحكومة العراقية والقوى السياسية النفوذ السياسي على الجامعات، مما يؤدي إلى تقييد مواضيع البحث ومحتوى المناهج الدراسية وتعيينات أعضاء هيئة التدريس، مما يعيق التفكير النقدي والخطاب المفتوح كما ان المحاصصة الطائفية والعنف السياسي يجبران الأكاديميين على ممارسة الرقابة الذاتية

* أنظمة ضمان الجودة ضعيفة وغير كافية:

تفتقر الجامعات العراقية إلى أنظمة او تدابير ضمان جودة شاملة، مما يضعف مصداقية النظام التعليمي العراقي ومؤسساته، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وغالبا ما تكون إجراءات مراقبة الجودة الحالية غير كافية أو سيئة التنفيذ، وتفشل في ضمان معايير متسقة عبر الجامعات والبرامج، كما يؤدي الفساد والمحسوبية في إدارة الجامعات إلى تقويض مصداقية عمليات تقييم الجودة، وإلى إعاقة قدرة الجامعات العراقية على جذب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الدوليين، مما يزيد من عزل النظام عن الاتجاهات العالمية وأفضل الممارسات.

* محدودية الموارد والتكنولوجيا وضعف مستويات التدريسيين:

يؤدي عدم كفاية التمويل وانعدام الخبرة الاكاديمية والبحثية إلى تقييد الوصول إلى المعدات والتكنولوجيا الحديثة، مما يعيق التدريس والبحث وتعلم الطلاب.

وتشير مكي الى عدم ملائمة المهارات بسبب المناهج القديمة فغالبا ما تتخلف البرامج الجامعية عن تلبية الاحتياجات المتطورة لسوق العمل، مما يؤدي إلى خريجين يتمتعون بمهارات لم تعد ذات صلة بأرباب العمل. كما يفشل التركيز على المعرفة النظرية في العديد من البرامج في تزويد الخريجين بالمهارات العملية والخبرة في مكان العمل اللازمة للتوظيف. هذا بالاضافة الى الانفصال بين الصناعة والأوساط الأكاديمية حيث تشير الكاتبة الى ان ضعف التعاون بين الجامعات وأصحاب العمل يعيق فهم احتياجات العالم الحقيقي ويحد من فرص التدريب الداخلي والتدريب العملي.

في ختام التقرير، تقدم الهام مكّي مجموعة من التوصيات لمعالجة هذه التحديات. وتقترح في هذه التوصيات:

* تنفيذ استراتيجيات إصلاح طويلة الأجل تركز على إعادة تأهيل البنية التحتية وتطوير المناهج الدراسية وتدريب أعضاء هيئة التدريس.

* تشجيع الشراكات مع المؤسسات الدولية والقطاع الخاص لسد الفجوة بين المهارات وتعزيز قابلية التوظيف.

* حماية الحرية الأكاديمية وتعزيز التفكير النقدي من خلال إزالة السياسة من الجامعات وإنشاء مساحات آمنة للخطاب المفتوح.

* إنشاء أنظمة ضمان جودة قوية لتحسين المكانة الدولية للتعليم العالي العراقي وجذب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس المؤهلين.

هذه ليست سوى بعض النتائج الرئيسية التي تم استكشافها في تقرير الدكتورة الهام مكي والتي طالما نوقشت على مر السنوات العشرين الماضية مما يؤكد وجود مشكلة معقدة لها العديد من العوامل المترابطة وتحتاج الى مراجعة شاملة وحلول انية وطويلة المدى.

***

ا. د. محمد الربيعي

.............................

المصادر

* الهام مكي (2023). "التعليم العالي في العراق بعد 2003: التحديات المستمرة"، الهام مكي ، عدد الصفحات: 20، الاصدار: (PeaceRep report). Middle East Centre, London School of Economics

* محمد الربيعي (2022). التعليم العالي والبحث العلمي، قضايا وتحديات وحلول، الاصدار: لندن للطباعة والنشر.

***

بقلم: بول كاتسافاناس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يعتمد التفكير المتعصب على سرد الاستياء تجاه المجموعات الخارجية. يقدم نيتشه طريقتين لتغيير السيناريو.

كان لفيلسوف القرن التاسع عشر فريدريك نيتشه تجربة مباشرة مع التعصب. في عام 1885، تزوجت أخته إليزابيث من بيرنهارد فورستر، وهو ناشط يميني متطرف ومعاد للسامية. اكتسب فورستر سمعة سيئة لمشاركته في تأليف وتعزيز "عريضة معاداة السامية" (1880)، التي طالبت بحرمان اليهود من حقوقهم المدنية، ومنعهم من وظائف الخدمة المدنية، ومنعهم من الهجرة. لكن هذا الالتماس لم يكن كافيا بالنسبة له: فقد أدى إلى نفور بعض رفاقه الأكثر انتقادا عندما أعد خطته لإنشاء مستعمرة آرية في باراجواي. هذه المستعمرة، جرمانيا الجديدة (نويفا)، لن تقبل إلا أولئك الذين أظهروا "النقاء العرقي". كانت تهدف إلى السيطرة على الباراجوايانيين وربما استعبادهم، الذين سيخدمون المستعمرين. وكان هدفها النهائي، على حد تعبير فورستر، هو تحقيق "تطهير الإنسانية وبعثها من جديد". كان هذا فشلًا ذريعًا: على الرغم من أن فورستر انطلق مع حوالي 40 مستوطنًا، إلا أن نصفهم ماتوا في غضون عامين بسبب الملاريا أو المجاعة، وعاد العديد من الباقين إلى ألمانيا. وفي مواجهة انهيار خططه، انتحر فورستر في عام 1889.

مزرعة في ألمانيا الجديدة، باراجواي، من مستعمرة الدكتور برنهارد فورستر ألمانيا الجديدة في باراجواي. بإذن من المكتبة البريطانية / فليكر

كان فورستر متعصبًا ، بل متعصبًا للغاية  حتى بالنسبة لبعض أشد معادي السامية حماسًا. احتقره نيتشه، وقال لأخته إن زواجها كان «واحدًا من أعظم الحماقات التي ارتكبتها على الإطلاق... إن ارتباطك بزعيم معاد للسامية يعبر عن الغربة عن أسلوب حياتي برمته، الأمر الذي يملأني مرة أخرى بالغضب والحزن». كان فورستر «محرضًا»، متعصبًا، رأى نيتشه أنه يجسد الكثير من السمات التي استنكرها. أراد نيتشه تجنب هذا النوع من التعصب بأي ثمن. فقال نيتشه: " لن تجد أثرًا للتعصب في دمي".

ربما ليس من المستغرب أن يقدم لنا نيتشه بعضًا من الأفكار الفلسفية القوية جدا حول أصول التعصب وعواقبه - وهي رؤى لا تزال ذات صلة بعالمنا الاجتماعي الحديث كما كانت في عصره. ومن خلال التعامل مع هذه الأفكار، يمكننا أن نفهم التعصب المعاصر بشكل أفضل ونضع استراتيجيات لتقويضه.

ما هو التعصب بالضبط؟ هناك ثلاث ميزات رئيسية. فأولاً، يتضمن التعصب التزاماً عاطفياً بهوية أو قضية: فالمتعصب يحترق بالرغبة في تحقيق هدفه، ويحتقر أولئك الذين يعارضونه، وتجتاحه فرحة غامرة في وجود أشخاص آخرين ذوي تفكير مماثل. ثانياً، المتعصبون يقاومون بشكل عقائدي وعنيد تغيير رأيهم؛ لن تتمكن من إقناع متعصب بالتخلي عن قضيته من خلال تقديم بعض الاعتراضات المعقولة أو الإشارة إلى التناقضات في آرائه. وفي نهاية المطاف، فإن المتعصبين على استعداد للجوء إلى تدابير متطرفة - العنف، والتخريب، واضطراب النظام الاجتماعي - لتأمين أهدافهم. حالة القيام بذلك، فإنهم غالبًا ما يعرضون حياتهم أو حياة الآخرين للخطر.

بالطبع، يمكن للناس أن يكونوا متدينين، وعقائديين، ومتطرفين لمختلف الأسباب؛ بل وربما نتعرف على بعض هذه الميول في أنفسنا. فكيف تختلف هذه الالتزامات في حالة المتعصب؟ ففي نهاية المطاف، يمكن لأي شخص أن يكون فاعلاً سياسياً شغوفاً دون أن يكون متعصباً. فالشخص الذي يكرّس حياته لمحاربة الفساد أو محاربة العنصرية أو الحفاظ على البيئة ليس من الضروري أن يكون متعصباً. لذلك لا يمكن أن تكون قوة التزام الشخص بقضية ما هي وحدها التي تحدد ما إذا كان متعصبًا أم لا. يجب أن يكون هناك شيء آخر في القضية.

المتعصبون متأكدون، تمامًا كما أنت أو أنا متأكدان من قيمنا العليا. لكن نيتشه قال إن هذا اليقين ضروري للمتعصب؛ إنها آلية للحماية الذاتية. وهذا أيضًا ميل ندركه أحيانًا في أنفسنا: قد يحتاج الزوج إلى الاعتقاد بأن شريكته مخلصة على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، في حين قد تحتاج الممثلة الفاشلة إلى الاعتقاد بأنها ستنجح يومًا ما. وبالمثل، يجب على المتعصب أن يحافظ على التزامه الأساسي. يعتمد تصورها لنفسها على اعتبار قضيتها ثابتة: نظرًا لأن هويتها تتشكل جزئيًا من إخلاصها الذي لا يتزعزع لقضيتها، فإن التشكيك في قضيتها أو التخلي عنها سيكون بمثابة التشكيك في هويتها ذاتها أو التخلي عنها. يمكن للشخص الذي يتمتع بإحساس قوي وآمن بذاته أن يتسامح مع الغموض والمعارضة والنقد (حتى لو لم يغير التزاماته نتيجة لذلك)؛ وعلى العكس فإن المتعصب لا يستطيع. وكما كتب نيتشه: "إن التعصب هو "قوة الإرادة" الوحيدة التي يمكن حتى للضعفاء وغير الآمنين الوصول إليها".

إن هذه المقاومة العقائدية لتأثير العقل، بالإضافة إلى الضعف العميق، هي التي تجعل التعصب مرضيًا. يمنحنا التعصب قوة هشة تخفي ضعفًا عميقا للغاية: ولا يمكن الحفاظ على هذه "القوة" إلا من خلال تجاهل التهديدات المحتملة أو قمعها أو تدميرها. إن إدراك أي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى "الانهيار والتفكك"، يحتاج المتعصب إلى أن يعمي نفسه عن الغموض: "ألا يرى أشياء كثيرة، وألا يكون محايدًا في أي شيء، وأن يكون طرفًا في كل شيء، وأن ينظر إلى جميع القيم من منظور صارم ودقيق". المنظور الضروري – هذا وحده هو الشرط الذي يوجد في ظله مثل هذا الرجل على الإطلاق.

بمجرد أن نفهم ما هو التعصب، يمكننا أن نفسر بشكل أفضل كيفية انتشاره - وكيف يمكننا مكافحته. يرى نيتشه أن أنواعًا معينة من الروايات تتمتع بقوة عظيمة: يمكنها تغييرنا وتغيير هويتنا. وإذا كان هناك نوع محدد من السرد يعد مثاليا  لتوليد المتعصبين، فهو سرد الاستياء - قصة قوية تشجع وتغذي العلامة التجارية الفريدة للمتعصب ذات القوة الهشة.

ترسم روايات الاستياء صورة للحياة حيث يمكن إرجاع كل المشاكل والصعوبات التي يواجهها المرء ليس إلى الغموض المتنامى الذي يحيط بالعالم، أو إلى الأخطاء الشخصية، بل إلى الانقسامات التبسيطية، "نحن في مواجهة هم". أبسط أشكالها هو: أنت تعاني لأن مجموعة ما تؤذيك ظلما. يرى الصبي الفخور النسوية والليبرالية كقوى مدمرة تدمر حياة الرجال؛ ويعتقد عضو داعش أن الحرب المروعة مع من ينكرون تعاليمه هي وحدها القادرة على تصحيح أخطاء العالم. تعزز هذه الروايات التوجه السلبي الشامل تجاه مجموعة خارجية. إنهم يأمروننا بكراهية أولئك الذين تم تعيينهم كمسؤولين عن مشاكلنا. إنهم يسامحوننا إذا قبلنا هذا السرد، ويعفوننا من المسؤولية الشخصية عن الصعوبات والإخفاقات التي نواجهها من خلال إلقاء اللوم بشكل مباشر على أكتاف مجموعة خارجية.وأخيرا، فإنها توفر لنا هدفا يمكن تحقيقه بسهولة: الرد بالعداء والعدوان تجاه المجموعة الخارجية المضطهدة. إن الفلسفات الدافعة لتنظيم داعش، والقاعدة، وStormfront*، وجميع تيارات القومية البيضاء، فضلا عن الجماعات المتعصبة الأخرى، تأخذ شكل سردية الاستياء.

تعد روايات الاستياء قوية لأنها مُرضية عاطفيًا وتؤكد الهوية. إنها توفر الرضا العاطفي من خلال تمكين المتعصبين من تحويل مشاعر العجز والسخط والضيق إلى استياء مليئ بالكراهية يمكن توجيهه إلى الخارج فى صورة ردود أفعال عدوانية تجاه الآخرين. وهي تؤكد الهوية لأنها تعطي المتعصب وسيلة لتعريف نفسه، ولو بطريقة سلبية: فالأمر الأكثر أهمية بالنسبة للمتعصب هو ما يرفضه، أو ما يحتقره، أوما يخشاه. تقول رواية الاستياء: تلك المجموعة الخارجية شريرة، ويمكنك تعريف نفسك على أنها ليست كذلك.

وهذا يخلق حالة دائمة من الصراع لا تحتمل أي حل. إذا كانت هويتك وإحساسك بالذات مرتبطين بمظالمك - في معارضتك لمجموعة خارجية - فما الذي يحفزك على معالجة أية مشاكل مع تلك المجموعة الخارجية بطريقة حقيقية؟ إن القضاء على الصراع من شأنه أن يطفئ إحساسك بمن أنت. سيكون عليك أن تجد صراعات جديدة، ومظالم جديدة، ومعارك جديدة. وبذلك تصبح معارضتك نقطة ثابتة، وهو شيء لا يمكنك تركه. وفي الواقع، مع مد وجزر التيارات السياسية والاجتماعية، تحدد الجماعات المتعصبة - مثل تلك التي ذكرناها - تهديدات جديدة، وتكيف قوائم مظالمها، وتميز بين الأعداء الجدد والإهانات المتصورة لضمان استمرار الصراع بلا هوادة.

تتمتع روايات الاستياء القوية والمدمرة هذه بإمكانية غير محدودة تقريبًا للانتشار والعدوى ــ وخاصة اليوم، عندما تجعل وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات عبر الإنترنت من السهل للغاية على الأفراد الساخطين العثور عليها والتمسك بها.  ولكن إذا كانت روايات الاستياء تؤدي إلى خلق متعصبين، فإنها توفر أيضًا موضعًا واضحًا للسيطرة: فمن خلال منع انتشار مثل هذه القصص، قد نبطئ أو نمنع انتشار التعصب. إن القول أسهل من الفعل بالطبع؛ هذه القصص التي تخلق الهوية والمرضية عاطفيًا شيئًا لنكون عليه وشيئًا نقاتل من أجله. الأشخاص الذين يشعرون بأنهم بلا جذور، وبلا معنى، وبلا اتجاه؛ الأشخاص غير السعداء، الساخطين، المكتئبين؛ الأشخاص الذين يرون حياتهم مليئة بالأخطاء؛ هؤلاء الناس يريدون المزيد. إنهم يتوقون بالضبط إلى ما توفره رواية الاستياء: الهدف، والتوجيه، والاستقرار، والتصور الذاتي التبريري.

لكن نيتشه قدم لنا طريقة لمحاربة التعصب، وأظهر لنا كيف يمكننا مكافحة انتشاره ومنع ظهور متعصبين جدد. أولاً، يمكننا زعزعة استقرار أي خطاب استياء يظهر في ثقافتنا. وبدلاً من ذلك، يمكننا أن نحاول محاربة الظروف التي تجعل روايات الاستياء جذابة في المقام الأول.

من خلال اتباع الاستراتيجية الأولى، جادل نيتشه بأنه بسبب افتقار روايات الاستياء إلى أساس عقلاني، وأنها تستمد قوتها بشكل رئيسي من حماسة أتباعها،فإنها يمكن أن تضعف بسبب التحول في التيار الثقافي. كان يعتقد أنه "على المدى الطويل، هُزم كل من هؤلاء المعلمين العظماء بالضحك، والعقل، والطبيعة". وبعبارة أخرى، في حين لا يمكن تقويض الروايات المتعصبة من خلال الاعتراضات العقلانية وحدها، فإنه يمكن تقويضها عندما  نجمع بين الاعتراضات العقلانية ومحاولة جعل الروايات تبدو سخيفة، ومضحكة، وكوميدية، ومتعارضة مع أجزاء مهمة من الطبيعة البشرية (على سبيل المثال، من خلال إظهار أنها تتعارض مع بعض دوافعنا أو تطلعاتنا المركزية). اعتقد نيتشه أنه يستطيع تقويض الجوانب المتعصبة للمسيحية بهذه الطريقة: فقد ادعى أنه في العصر الحديث «ما هو حاسم الآن ضد المسيحية هو ذوقنا، ولم يعد عقلنا». وأعرب عن أمله في أن تنتشر مثل هذه التغييرات في الذوق، مما يؤدي إلى تعطيل التعصب بجميع أشكاله.

أما الاستراتيجية الثانية فهي أكثر صعوبة، لكنها هي ما كان نيتشه يتوق بشدة إلى تحقيقه. بدلًا من محاولة إشباع رغبتنا في روايات مبسطة وشاملة وهويات مستقرة وموحدة، شجعنا نيتشه على تحرير أنفسنا من هذه الرغبات. لقد حثنا على أن نصبح أرواحًا حرة، وأشخاصًا مرنين وجوديًا حيث يمكنهم تكريس أنفسهم للقضايا دون جمود، والتسامح مع الشكوك والإحباطات في الحياة، ورؤية أنفسنا كتعدديين وإيجاد أسباب لتأكيد الذات. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين علينا أن نتوقف عن تجربة الغموض وعدم اليقين باعتبارهما تهديدا؛ سنحتاج إلى التوقف عن إبراز إخفاقاتنا الشخصية وعدم رضانا الشخصي إلى الخارج. يمكن للروح الحرة أن "تتخلى عن كل إيمان وكل رغبة في اليقين، وتتدرب على الحفاظ على نفسها على حبال وإمكانيات واهية والرقص حتى بالقرب من الهاوية." متسامحة مع الخطر، وغير مهددة بالغموض، وقادرة على الحفاظ على تصور إيجابي للذات دون الوقوع في الانقسامات التبسيطية، فإن الروح الحرة لن تحتاج إلى إنكار الآخرين من أجل تأكيد نفسها. لقد ظن نيتشه أنه قد حقق ذلك، وكان يأمل أن نتبعه.

(تمت)

***

................................

* منتدى إنترنت للنازيين الجدد، وأول موقع رئيسي للكراهية العنصرية على الويب.

المؤلف: بول كاتسافاناس / Paul Katsafanas أستاذ الفلسفة في جامعة بوسطن. تشمل أحدث كتبه الذات النيتشوية (2016)، وفلسفة الإخلاص (2022)، وكمحرر، التعصب وتاريخ الفلسفة (2023).

منذ أن بدأ الإنسان يعي ذاته كإنسان، بعد أن أغوى  الشيطان أو الثعبان (لا فرق) آدام وحواء، وأكلا من شجرة المعرفة كما تقول (القصة الدينيّة التوراتيّة)، وعرفا بأن لهما (عورة) لا يسترها شيء...هذه المعرفة التي كلفتهما غضب (الله) الذي وجد في معرفتهما تحد لأوامره وخروجاً عن طاعته، فأمر بطردهما من الجنة وإرسالهما إلى الأرض عقاباً لهما بعد أن حازا على معرفة ما هما عليه من عري، ومن يومها بدأ مخاض الشقاء والتعب والألم على بني آدم وحواء على هذه الأرض، وأصبح طبعا في النفس البشريّة حتى اليوم.

فالمعرفة في هذه القصة إذاً، هي سبب غضب الله على الإنسان وشقائه كما تقول الرواية الدينيّة، وهي ذاتها التي ستفرض عليه بعد نزوله إلى الأرض أن يسعى في مناكبها لمعرفة أسرارها، وما يحيط بها من ظواهر طبيعيّة واجتماعيّة، وكيفيّة التعامل مع قوانينها العمياء والتغلب عليها وتسخيرها لمصلحته، بعد أن كان في الجنة يعيش عيشة رغد جراء جهله وطاعته العمياء. هذا في الوقت الذي ظل فيه هذا الإنسان حتى بعد طرده من الجنة إلى الأرض، حائزاً على الحظوة الخاصة عند "الله" الذي جعله (خليفة له على الأرض) بالرغم من ممارسته للفساد وسفكه للدماء حتى قبل أن ينزل إلى الأرض كما تذكر الحواريّة التي جرت بين الله والملائكة!!. لقد فضله الله على الملائكة الذين خلقهم من نور ونار، وخلقه هو من طين... وهم العابدون له والمسبحون بحمده ليل نهار، والمقدسون له، والخاضعون لإرادته وتعاليمه، وهو الجاحد بنعمة الله والعاصي لأوامره والعارف بعد إغوائه حقيقة نفسه.

منذ ذاك التاريخ و(الإنسان وأخلاقه)، كانا ولم يزالا محط اهتمام الديانات السماويّة والوضعيّة فيما بعد، وكل ما يتعلق بهذه الديانات من تفريعات فكريّة وفقهيّة، جاد بها الفقهاء والحكماء والفلاسفة. والهدف من ذلك، هو، تنبيه الإنسان إلى ما يمارسه من فساد بحق نفسه وأخيه الإنسان والطبيعة، ثم العمل على إصلاحه وتطهيره من سوء خلقه، وإعادة أنسنته بما يرضي الله وتعاليمه من جهة، وما يرضي الحالة الإنسانيّة التي يطمح إلى تحقيقها على أرض الواقع هؤلاء الفقهاء والفلاسفة والمفكرون والحكماء من جهة ثانية.

على العموم، تعتبر هذه الدراسة كما أشرت في البداية، محاولة أوليّة للنظر في ممارسات فساد هذا الإنسان كما تراها الديانات السماوي، وبشكل خاص، الدين الإسلامي وفقاً للنص القرآني من جهة، وكذلك وفقاً للرؤية الفلسفيّة العقلانيّة الوضعيّة لتطور الإنسان وارتقائه من جهة ثانية، مع اعتقادي سلفاً، بأن ما سأقوله هنا أو أطرحه من حقائق تتعلق بالنص الديني المقدس تجاه قضية الفساد، لن يعجب المتزمتين، أو الجموديين  من الإسلامويين الذين يرفضون العقل أو النظر العقلي في الحكم على النص المقدس، ويقرون بضرورة الاستسلام لهذا النص والامتثال لما فسره الأولون من السلف الصالح، دون البحث عن ما هو مسكوت عنه في  مضمون هذا النص المقدس من دلالات، ثم رفضهم للرأي والرأي الأخر، متكئين في فهمهم للنص الديني على ما قاله فقهاء الفكر السلفي السابقين الذين اعتبروا أن كل رأي جديد لا يتفق مع ما قاله أو فسره الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين حتى القرن الثالث للهجرة، بدعة، وكل بدعة عندهم ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الفساد كما يراه النص الديني المقدس (القرآن):

نقول: منذ البدء كان موضوع الإنسان وفساده محط اهتمام الخالق عز وجل وملائكته، وما تلك الحواريّة الرائعة بين الخالق وملائكته عن أخلاق الإنسان وفساده وخلافته على الأرض، إلا دليلاً على أن هناك مشكلة كبرى ستواجه الإنسان ذاته، تتعلق بمدى التزامه بأوامر الله وتعاليمه التي جاء التأكيد في القرآن على ضرورة التزام بها وتنفيذها حتى يحقق الفوز العظيم، وهو رضا الله ودخول من يطيع تعاليمه الجنة. وما الحواريّة التي دارت بين الله وملائكته حول خلافة آدم على الأرض برأي إلا تأكيداً على أن الله عز وجل يقر بضرورة الحوار وأهميته من أجل الوصول إلى الحقيقة، ثم الوصول إلى قرار نهائي في خلافة هذا الإنسان على الأرض، وبحث مشكلة الفساد التي يتمتع بها هذا الإنسان منذ البدء كحالة فطريّة كما سيرد معا بعد قليل، أي قبل تكليفه بالخلافة، أو بعدها لا فرق هنا، طالما أنه أعلن معصيته لأوامر الخالق بحصوله على معرفة ذاته العارية.، وما المعصية إلا شكلاً من أشكال الفساد أيضاً، ولن تنفع تغطيتها لا بورق التين أو التوت أو غيرهما.

تقول الحوارية:

(وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة.

قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

قال: إني أعلم ما لا تعلمون. " وعلم آدام الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة".

فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. "فلما أنبأهم بأسمائهم"

قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

وهنا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم،(.... فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.) . (البقرة = 30-31-32- 33- 34 ).

(قال مخاطباً ابليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك.

قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.

قال: فهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.

قال إبليس: أنظرني إلى يوم يبعثون.

قال: إنك من المنظرين.

قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.

قال: أخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. ( الأعراف – 12-13- 14- 15- 16- 17- 18.).

بغض النظر هنا عما جاء في هذه الحوارية الرائعة بين الله جل جلاله وملائكته ومنهم (إبليس)، من تأكيد واعتراف بفساد الإنسان وفسقه فطرياً، إلا أن ما تطرحه هذه الحواريات، يفرض علينا جملة من التساؤلات المشروعة مثل: لماذا اختار الله الإنسان (آدم) ليكون خليفة له على الأرض وهو الفاسد والسفاك للدماء، بينما يبعد الملائكة الذين يسبحون بحمده ويقدسون له؟. ثم ما هي الدلالات المسوغة لتكليفه في الخلافة من خلال الاختلاء به وتعليمه الأسماء كلها دون علم الملائكة، ثم اعتبار عجز الملائكة عن معرفتها هي دليل على صلاحية أدام لهذه المهمة؟. ثم ما هي هذه الأسماء؟. وأخيراً كيف مارس أدام الفساد وسفك الدماء في الجنة ومع من كما اشار الملائكة؟. أما مسألة الحوار مع ابليس فلها أسئلتها المشروعة أيضاً مثل: كيف يسمح الله عز وجل لإبليس أن يتحداه بهذه الطريقة وهو من خلقه، وهو القادر على الغاء وجوده أصلاً؟. ثم ما ذنب الإنسان أن يحاسب عن فساده ويوضع في جهنم وقد غض الله النظر عن تحدي إبليس له بأنه سيفسد ويغوي ويبعد الإنسان عن الصراط المستقيم؟.

على العموم إن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المشروعة تظل بحاجة لأجوبة عقلانيّة بعيدة عن الذاتيّة والرؤية الميتافيزيقيّة والأسطوريّة المتبناة من قبل التيار الجبري السلفي الاستسلامي. بيد أن المهم في هذه الحوريات هو معرفتنا بأن الإنسان فاسد في طبعه كما يقول النص الديني المقدس، وأن إبليس قد غُض عنه النظر مع الشياطين لزيادة فساد هذا الإنسان، ومع ذلك كُلف خليفة الله في إدارة أمور الحياة على هذه الأرض؟!.

من هذا المنطلق أصبح الإنسان خليفة على الأرض بأمر الله عز وجل بعد أن تاب عنه أو سامحه على معصيته، بيد أن الفساد بعد خلافته ظل قائما في طبعه، حيث عاث في الأرض بعد نزوله إليها أكثر فساداً وظلما، وفسقاً، وقتلاً وتدميراً، إلى أن (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ...) (الروم = 41). وللقضاء على هذا الفساد كلف الله  العديد من الأنبياء والرسل من البشر الصالحين لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وأنزل عليهم الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، كي يهديهم إلى الخير والمحبة والرحمة فيما بينهم، ويوقفهم عن بغيهم بعد أن نسوا تعاليم الله وخرجوا عن إرادته، ولكنهم لم يستجيبوا، ولم يسمعوا كلام الله ولا تعاليم أنبيائه ورسله وكذبوها،. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.). (الأعراف- 36).  ونتيجة لما سار عليه الإنسان من بغي وعدم طاعة تعاليم الله، كان غضب الله علي الإنسان شديداً في الكثير من محطات تاريخه، والتي كان أهمها ما حل بقوم نوح بسبب الطوفان، حيث أصابهم التدمير والهلاك للظالمين. ففي حادثة الطوفان كما تدل الآيات، بأن الله لم ينج من قوم نوح إلا الصالحين: (فكذبوه وأنجينا الذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عميين..). (الأعراف – 64).  ومع ذلك فقد خرج من هؤلاء الصالحين فيما بعد من هو أشد كفراً وفسقاً، وما قصة لوط مع قومه بشأن الملائكة إلا دليلاً على فساد وفسق هذا الإنسان الذي يغلب طبعه التطبع دائماً، حيث تقول الآيات في هذا الشأن: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿81﴾). الأعراف. ومع ذلك ظل  الإنسان أشد ظلما وكذباً على نفسه وعلى الله ، حيث راح يبرر فساده وفسقه بانه ليس من عنده، وإنما من عند أبائه، بل إن الله نفسه أمرهم به: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف- 27- (28).

نعم ظل الفساد قائما ومستشريا منذ بدء الخليقة حتى اليوم، ولم تجدِ كل الرسل والأنبياء وما أنزل الله عليهم من كتب، وما مورس بحقهم من دمار وتنكيل بسبب فسادهم، فتيلاً في تخليهم عن هذا الفساد، وإطاعة الخالق، إلا ما شاء ربك.

ففي حواريّة أخرى بين الله ونبيه إبراهيم، حول غضب الله على فساد أهل (صادوم وعاموره) من قوم لوط كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم. بأن غضب الله تعالى بلغ حده الأقصى على "صادوم وعاموره" والقرى المجاورة، الأمر الذي جعل الرب ينزل على الأرض ليمطر المدن الزانية ناراً وكبريتاً تحرقها، ولكن عبده وخليله إبراهيم يلقاه فيخر ساجداً معفراً وجهه بأديم الأرض كي يعفوا عن قومه.

فيقول له الرب: إذهب وآتيني بخمسين من الصالحين كي أعفي عن المدن الفاسد أهلها.

فيقول للرب: مولاي وإذا لم أجد في هذه المدن خمسين باراً.

فيعود إبراهيم يرتمي على قدمي الخالق قائلاً: يا مولاي ألا يكفي أربعون؟.

فيرد عليه الخالق: بلى يا إبراهيم.

ويغيب إبراهيم ويعود، مرة بعد أخرى وهو ينقص العدد، والمولى يكتفي أخيراً بخمسة فقط، ولكنهم غير موجودين. وها هو المولى يخرج لوط وزوجه وبناته ويحقق قضاءه في المدن الزانية.

هذا هو موقع الفساد في النص الديني كما جاء في القرآن أو التوراة، فلنحاول أن نتعرف عليه في الفكر الوضعي أيضاً.

الفساد في الفكر الوضعي:

بعيداً عن كل النظريات العلميّة التي درست تطور الإنسان وارتقائه بيولوجيّاً وفيزيولوجيّاً واجتماعيّاً، يظل هذا الإنسان في المحصلة أرقى الكائنات الحيّة على هذه البسيطة لما امتاز به من قدرات عقليّة وتوظيف لأعضائه أثناء نشاطه من أجل حصوله على خيراته الماديّة والروحيّة التي ساهمت كثيراً في بقائه وتطوره وتمايزه.

إن الإنسان في تكوينه الجسمي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي يظل مركب حاجات ماديّة وروحيّة لا تنضب، وليس لها حدود، وهو يسعى دائما عبر علاقاته مع الطبيعة والمجتمع إلى تحقيقها وإرضاء ذاته، فقسم من هذه الحاجات متوافر أو موجود بشكل طبيعي ومباشر في الطبيعة، وقسم آخر بحاجة لجهود أو نشاطات فرديّة وجماعيّة لتأمينه، وقسم آخر قد امتلكه بعض الناس وحرموه على الآخرين، بل حازوا عليه وحولوه إلى ملكيّة لهم وراحوا يستغلون الآخرين لزيادته وكسب الشهرة والقوة والسيطرة على المجتمع من خلاله... وهنا نقف عند مقولة تاريخيّة لـ "سان سيمون" تشير إلى هذا الجانب من الحاجات التي تحقق عملية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بعد أن استأثر بها بعض الناس وحرموها عن الآخرين، وهي: (عندما قام أول إنسان وسيج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي وصدقه الناس، بدأ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في التاريخ.).

مع ظهور الملكيّة الخاصة إذن، ظهر التفاوت والتناقض والصراع الطبقي في المجتمع، وبالتالي ما رافق هذا التفاوت والتناقض من قيم للاستغلال، ماديّة كانت، أو وروحيّة أو فكريّة عبر التاريخ، راحت تتبلور حالات التمايز بين أفراد المجتمع وكتله الاجتماعيّة، أي بين من أصبح مالكاً، ومن ظل منتجاً.

إن التفاوت والتمايز ما بين المالك والمنتج، راحا يتجليان على كافة المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. فساكن القصر ليس كساكن الكوخ كما يقول (فيورباخ)، بالرغم من إقرارنا بأن ساكن الكوخ في المراحل العليا من تاريخ التفاوت والتمايز الطبقي، من الممكن أن تصبح لديه القدرة على تغيير وضعه والانتقال من الكوخ إلى القصر بناءً على ما لديه من قدرات ومهارات عقليّة تؤهله على المستوى الفردي لهذا الانتقال أو المستوى الجمعي. أو بتعبير آخر عند قيام تحولات بنيويّة عميقه على مستوى الطبقات والكتل الاجتماعيّة، ستعي الطبقات المسحوقة والمستغلة ذاتها وتبدأ تناضل من أجل تغيير واقعها وفقاً لمعطيات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة تساهم في تحقيق هذا التغيير وتجسيد مجتمع الحريّة والعدالة والمساواة. ولكن ما يهما هنا، هو التأكيد  على أن الملكيّة الخاصة التي تجاوزت حدود التوزيع العادل لها بين أفراد أي مجتمع من المجتمعات، ساهمت بشكل فاعل - وليس كعامل وحيد - في زرع بذور القهر والاستبداد والظلم والاغتراب والتشييء والاستلاب، وتنميتها في المجتمعات، حيث تُحول الناس بعد استفحالها اجتماعيّاً إلى سادة وعبيد يباعون في أسواق النخاسة، وأصبح للسادة قوانينهم وعلاقاتهم الخاصة بهم، بل راحوا من خلال سيطرتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يسيطرون سياسيّاً وثقافيّا أيضاً، ويخلقون على مقاسهم، أو مصالحهم سلطات تشريعيّة وقضائيّة وتنفيذيّة وأخلاقيّة يتاجرون بها، تعمل على  إقناع المضطهدين، أو إجبارهم بأن حياتهم وما يحكمها من أنظمة وقوانين وسلطات تشريعيّة وتنفيذيّة مقدرة عليهم من قبل الله، وأن لحكامهم دماءً زرقاء تختلف عن دمائهم، تمنحهم الصلاحيات من الناحية الطبيعيّة والقانونيّة والدينيّة في استغلالهم وظلمهم وفسادهم للمجتمع وما عليهم إلا الخضوع لما هم فيه، وبالتالي عليهم أيضا الرضا بواقعهم والعودة إلى الصراط المستقيم الذي رسمه الله لهم كي يفوزوا بالآخرة كون الدنيا ليست إلا متاعاً، وهي فانية لا محال، كما يعلمهم رجال الدين الموالين للسلطان.

تحت مظلة هذه الأجواء التاريخيّة اللاإنسانيّة، القائمة على الذل والقهر والظلم والخوف والاستغلال والاستعباد والاستلاب والغربة والجهل... إلخ، التي رافقها بالضرورة نمط من القيم والسلوكيات اللاأخلاقيّة، مثل الكذب والنميمة والتجسس والمسكنة والمداهنة والخبث والسحر والشعوذة والدعارة والمخدرات والمتاجرة بغرائز الإنسان ومسح العقول للشعوب عبر التجهيل المقصود من قبل السلطات الاستبداديّة، (والمتاجرة بالدين وبالأخلاق المشبعة بالكذب والغش وغير ذلك من قيم وسلوكيات تعبر عن قيم الفساد المبطن التي عبر عنها النص الديني.." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ."). سورة الصف (3).)، راحت تتحرك العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في هذه المجتمعات. وأكثر ما يتجلى هذا الفساد فكراً وممارسة  في أوقات الأزمات أو التحولات التاريخيّة المصيريّة التي تمر بها الدول أو المجتمعات، وتجد هنا أن أكثر الفاسدين هم من يتاجر بالأخلاق ويحكمون بين الناس.

أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من الظلم والفساد والاستغلال والقهر والمتاجرة بالخلاق على حساب الحقية التي أصبحت اكثر مرارة، راحت الشعوب تعي شيئاً فشيئاً مصالحها، وتعرف أن أسباب شقائها ليس سوء أعمالها، أو هو أمر مقدر عليها ومكتوب في لوح محفوظ، بل هو ظلم الإنسان للإنسان، واستحواذ قسم من أبناء المجتمع على كل شيء وحرمان الآخرين من كل شيئي. فراحت الانتفاضات والثورات الجماهيريّة على الظلم والظالمين وعلى مظاهر الفساد التي تعم المجتمعات عبر التاريخ، ممثلة بثورات العبيد والأقنان والعمال، حيث كانت معارك مصير إنسانيّة، منها ما نجح ومنها ما فشل لعدم اكتمال الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لعوامل النجاح. هذا وقد رافقت هذه الثورات شعارات الحريّة والعدالة والمساواة، التي نظر لها الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة وبعض رجال الدين العقلانيين التنويرين ممن وقف إلى جانب صف الفقراء والمحرومين، حيث عروا الأسباب الحقيقة لما جرى ويجري من فساد، ويضعون الحلول الاقتصاديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والتربويّة والدينيّة والفنيّة والثقافيّة يعمومها، وغيرها من مفاهيم تتعلق بالدعوة لتطبيق الحقوق الطبيعيّة والقانونيّة للإنسان، وهي الحقوق التي  سيتجاوز من خلالها الإنسان عالم قهره وظلمه وبالتالي فساده اللامشروع.  ومن هذه الحقوق التي تتضمن مبادئ الحريّة والعدالة والمساوة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة للناس جميعاً، كانت مشاريع المدن الفاضلة، وحقوق الإنسان، والدساتير وما تتضمنه من حقوق وقيم إنسانيّة نبيلة، كتحرير المرأة، والقضاء على الأميّة ونشر التعليم، وحق العمل، وتامين الرفاهية للجميع، والمشاركة في السلطة، والتعدديّة السياسيّة، وغير ذلك الكثير من المسائل التي تؤسس لبناء مجتمعات الحريّة والعدالة والمساوة ونبذ الظلم والاستغلال والفساد، وهي المعركة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ، وربما لن يربحها الإنسان كاملة، إلا أنه سيظل يناضل من أجل الحصول عليها كلما ازداد وعيه بواقعه وظروف حياته وما يحيط بها أو يؤثر بها من عوامل تَحِدُ من وعيه وبالتالي حريته... والحريّة في التعبير الأخير هي وعي الضرورة وممارستها بعقلانيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من ديرالزور- سورية

 

تدحرج الفكر البشري وتدهور؛ عاجزا أمام الهجمة الفكرية للصعود الليبيرالي الجديد بقيادة الأحادية الأمريكية خلال التسعينات، والتي حطمت اركان الدول والأمم وافشلت سياسات الدول في التنمية والتطور؛ متحدية البنيات المالوفة والتة لفات الغارقة التي تكونت منذ العهد المعاصر؛ سواءا في مرحلة الإستعمار اوبعده، لأن المعاصرة اليوم ككل متكامل وفعل فاعل جاري مؤثر في بناء المجتمع المعاصر والحداثي الذي يتوجب عليه الإنخراط الأممي والإنساني بحتمية دالة رياضية مصاغة في بداية الطرح......ولكنه لم يتاهب لتراكمات قديمة جديدة سوف تخلق تشرذمات عالمية متصلة بالتاريخ ثم عودة قراءات جديدة للتاريخ من مخيال النفسيات الجماعية للحضارات، ومسارات الحركية الحضارية العالمية وحراكيات الذات الدخيلة في المجتمعات المتغيرة من طبيعة عميقة متجذرة في الكيان المخيالي للفرد والجماعة والتراتبات الإضافية والهامشية للبشرية ضمن ضرورات الحياة المتواصلة حتما مع التاريخ البيولوجي والنفسي للإننسانية كاملة....

و طبق الدراسات التي وضعت بنية وحركية المجتمعات في العالم المعاصر، فإن جلها ركز على التحليل العلائقي الذي إستطاع ربط التواصل بين المجتمعات والثقافات داخل نطاق الدولة وخارجها وضمن حركية العفويات الوتوماتيكية –لمسار الحياة، المتلاحقة أو ضعفها أو محاولة خلق نسق جديد طبق اهداف جديدة كما فعل الاستعمار . لذا كانت المدارس التاريخية والاجتماعية التي ظهرت في المنطقة وجوارها ساهمت في تلك المقاربات ولكنها سقطت كلها في احكام مسبقة وتنظيرات مفبركة أحيانا وخاصة عندما جعلت التابو المحرم، كمقيد لبعض العلاقات ومهندس لبعض المعاملات، وخلقت من المرجعية الدينية منيعا لكل مفارقات إجتماعية. كما حاول البعض اسقاط المحتوى الأنتروبولوجي الافريقي على المجتمعات ذات الثقافة المكتوبة المؤطرة بكل تكامل والمفهرسة لكل موضوع، ولكن تراكم الثقافي كان بالمرصاد رغم بعض المفارقات الذهبية بين الجماعات والجهات. فالتجمع المغاربي قائم منذ القديم، كما رأى ابن الخلدون على العصبية؛ تلك العصبية الإجتماعية السىلفية- المعروفة في المجتمع الإسلامي وبلاد المغارب، وهذا من طبيعة خلق الله، وضرورات الحياة.

لقد كان الطرح الفكري والفلسفي والتاريخي؛ المقدم من طرف فرانسيس فوكوياما ومعاصره صموئيل هنتنجتون، مطارحات، خلق الإهتزاز العالمي المعاصر؛ وهوالذي سوف يسر التاريخ من الألفية الثالثة وما بعدها إلى نهاية التاريخ الديمقراطي والليبيرالي الصلب الجامد المتكلس ضمن قوة استقطاب حضاري غربي سوف يسيره الفاعل الأمريكي ... لكن الرياح سوف تغرق السفينة الغربية والأمريكية بسبب الثورات العربية، التي اخرجت الروس من جحره، وحرب اوكرانيا التي أبرزت الجرح التاريخي للتوسعات الإمبراطورية للغرب والروس في عارضة رقمية واحدة وكذا ضعود الصين ومنافستها الإقتصادية والتكنولوجية للغرب.

هكذا سوف يكون الإستقطاب القادم بعد فشل العولمة، خاضعا لوضعيات مرنة وأخرى صلبة وأشكال من التغير المنعزل و الأخر المندمج وأشكال أخرى. حيث تكون المطارحات لصاحبها يورغمن هابيرماز وإدغار موران هي فلسفات جديدة تبناها الحضارات، وهم في تناظر مع مطارحات طلال أسد وطه عبد الرحمان وسامي النشار وبعض المفكرين الباكستانيين والإيرانيين العققلانيين، والتراكمات العفوية لمسار الحياة وديناميكيات التغير المركزي والطرفي حوالتي يخلقها التداول الحضاري والتناقل التكاملي لمطالب العيش المشترك الذي سوف يفشل كل النظريات ضد البشرية والإنسانية ونهاية الحروب والتصادم، وربما تكون حرب غزة آخر حرب وسبب حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط ..

إلا أن الاسف الذي يقمعنا في وطننا الإسلامي، هوغياب نهائي –لحكم الله- فلاسفة القرن 20 عندنا مثل زكي محمود وزكريا فراد وبدوي والجابري وحسن حنفي، لكن المطارحات اليوم تبقى مدعاة فخر وإعتزاز بمطروحاتهم ومناولاتهم المتجددة للفكر والمجتمع والإبستيمولوجيا الحديثة ومنهم طه عبد الرحمان وماجد الغرباوي وناصيف نصار وسامي النشار والمسكيني وعبد اللعه الغذامي مطروحا مع الاحياء والذين يتمركزون حول كل النتاجات الفكرية الغربية والروسية واليبانية والصينية الحديثة والجارية التي تعكس كل التناقضات الفلسفية في العقل التأملي او في مجريا الحدث الإجتماعي الحضاري المتغير؛ أحيانا حتما واحيانا طبق مبرمجات محلية أوإقليمية للتغير والإنخراط العالمي للبناء المتجدد، وحيث يسهل الرقميات السريعة التناظر العلمي والإنخراط العالمي التقني.... وهذا ما سوف يجعل منهم قرائ من البراعة ونقاد من الجرأة في مستويات النقد العلمي الإبستمولوجي المتثاقف لمطارحات غيدنز وماكلوهان وجيل كيبيل وباومان وتشومسكي وكاستلز وبودريار ودريدا وغيرهم.

***

أ. عتيق العربي

إذا ما تحدثنا عن مثالب وعيوب الشخصية العراقية التقليدية (الاعتيادية) فهي عديدة ومتنوعة، للحد الذي حدا ببعض المؤرخين العراقيين ممن يتحلون بواقعية الطرح وعمق التحليل، تخصيص دراسة لافتة استعرض من خلالها تلك الأنماط العجيبة والغريبة من المثالب والعيوب التي يصعب إيجاد ما يناظرها كما "ونوعا" لدى شعوب المعمورة الأخرى. ومع ذلك فان المفارقة بهذا الشأن لا تكمن في هذا الجانب الذي ربما يكون مفهوما "ومتوقعا" لدى البعض من الكتاب والباحثين، بقدر ما يكمن في تفوق شخصية (المثقف) العراقي المعقدة في مضمار إضافة رذيلة (النرجسية) الى بقية العيوب والمثالب التي يتشاطرها مع بقية أقرانه من عامة العراقيين.

ولعل ما يعطي للمثقف العراقي مسوغ (نرجسية) الأنا الأوحد والشعور بتضخيم الذات وتفوقها، كونه يعيش في بيئة اجتماعية متخلفة بنيويا"وفاسدة سوسيولوجيا"، قلما كانت (طبيعية) في مسارات تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري، للحد الذي وسمت الغالبية العظمى من مكونات الشعب العراقي بميسم الركود والعطالة واللاأبالية. وهو ما يغذي لدى (مثقفنا) المعاصر دوافع (الترفع) و(التعالي) الرابضة في الأعماق السيكولوجية لشخصية (الأفندي) التي ينحدر من سلالتها، حيث يتباهى بعدته المعرفية الصدئة وحصيلته اللغوية المهجنة أمام غالبية جماهيرية جاهلة، طالما كانت ضحية سهلة الانقياد لنوازع (نخبها) المتعالمة التي لا تجيد سوى ترويج الأيديولوجيات السياسية المتطرفة وتسويق الطوباويات الدينية المتعصبة.

وهكذا، فبمقدار ما يزداد التخلف الاجتماعي ويتعمق أفقيا "وعموديا"، بقدر ما يمعن (المثقف) العراقي في إظهار عقده النفسية المقموعة واستعراض (نرجسيته) المكبوتة على نحو سافر، الأمر الذي يفسّر لنا أسباب استشراء هذه الظاهرة الشاذة داخل أوساط (النخبة) الثقافية بشكل خاص، بعدما ساهمت ظروف الحرب القاسية والمدمرة على العراق عام 2003 وما تمخض عنها وترتب عليها من انهيارات وانحرافات، في مضاعفة معدلات التقهقر الحضاري والتصحر الثقافي والتبربر الإنساني من جهة، وساعدت، من جهة أخرى، على انفلات تلك النوازع المقموعة والدوافع المكبوتة من عقالها دون خشية من رادع اجتماعي أو تأنيب من وازع أخلاقي.

ولعل من جملة مظاهر (نرجسية) الأنا الأوحد لدى المثقف العراقي، ليس فقط كونه يحب ان يحاط بمظاهر الهيبة وبهارج الأبهة من لدن الشرائح الاجتماعية قليلة التعليم شحيحة الثقافة فحسب، بل ويتطلع أن ينظر إليه - من قبل أقرانه من (المثقفين) كذلك - نظرة ملئها الإعجاب بشخصيته، والإطناب بثقافته، والانجذاب لكارزميته. ولهذا فهو وان يبدي الامتعاض من عامة الناس الذين يجهلون اسمه (المشهور) ويعزفون عن أعماله (الفريدة)، إلاّ أنه لا يلبث أن يتحول (وحش) كاسر سريع الغضب وشديد الانفعال، إزاء الناشطين في مجالات الإنتاج الفكري والثقافي ممن يعتقد أنهم (يتخطونه) في مضمار ثراء معارفهم الإنسانية، وعمق تحليلاتهم الاجتماعية، ورصانة منهجياتهم النقدية.

وإذا ما وقع المحظور وبرز من ينافسه على (عرشه) الكارتوني ويتحداه في (عرينه) المتهالك، حينذاك لا تشفع عنده قيمة للثقافة التي يرطن بها، أو يثنيه اعتبار للفكر الذي يتبجح بامتلاكه، حيث يشرع هذا (النرجسي) المتغطرس بخلع أقنعته المزركشة، والتخلي عن وقاره المصطنع؛ موجها"سهام نقده ومصوب حراب هجومه نحو كل من يستشعر أنه تجاسر على تخطي (مناطق الحرام) التي تمترس خلف حواجزها وتخندق وراء سواترها. للحد الذي يبلغ به الأمر الى الانحدار لأسفل مدارك الإسفاف في النقد والإجحاف في التقييم، ومعريا"بذات الوقت خواء عدته المعرفية وتهافت فكرياته الدونكيشوتية !.

***

ثامر عباس

شغل (القرامطة) اهتمام الكثير من الكتّاب العرب والأجانب ونشر عن حركتهم العشرات من الكتب الرصينة. وما يعنينا هو ان العقل العربي وضع القرامطة في موقفين متضادين متناقضين:

الأول، يعتبر القرامطة زنادقة وكفرة،

والثاني، يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام،

وعن هذا التناقض الحاد في العقل الديني وتداعياته، ومقارنته بحاضر وماض بينهما مئات السنين.. يكون هدف هذه المقالة.

نشأتها الفكرية

تتعدد الروايات في اصل ونشأة وفكر القرامطة، واكثرها شيوعا أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط، من سكنة الكوفة وان اصله فارسي، وانه تأثر مبكرا بالمفكر حسين الأهوازي مؤسس مذهب الأسماعيلية الباطنية، التي تعني الأنتساب الى اسماعيل بن جعفر الذي صار اماما بعد وفاة أبيه جعفر الصادق، ليشكلوا فرقة جديدة في الشيعة انشقت عن من اعتبر موسى بن جعفر هو الأمام السابع بعد أبيه، الذين يمثلون اغلبية الشيعة ويسمون بالأثنا عشرية تمييزا لهم عن الأسماعيلية.

ويحسب لحمدان (قرمط) انه استطاع تحقيق نجاح كبير في العراق في بث الدعوة الأسماعيلية، ونشرها في البحرين باختياره داعيته (ابو سعيد الجنابي).. ومنها الى اليمن والمغرب ووسط وشمال فارس، ليصبح في منتصف القرن التاسع حتى عام 899 م صاحب اقوى حركة سياسية دينية تدعو الى التغيير، وتقيم لها قيادة مركزية سرية في سورية. وكان لمعظم المدن العربية: بغداد، البصرة، مكة، دمشق، حلب، القاهرة.. قصة مع القرامطة.

وتوصف فرقة القرامطة بأنها من غلاة الشيعة، وانها كغيرها من فرق الباطنية اعتمدت عقيدة إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم على أنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوا من تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافق ضلالاتهم وأهوائهم. وهناك من يلعنها لأنها تجاهر بترك الأسلام ويصفها بانها منحرفة وملحدة، وهناك من ينسبها الى الدهرية والزنادقة التي تنكر الرسل والشرائع وتدعو الى الأباحية، فيما يرى آخرون انها حركة انسانية انتقت من الدين تلك الأفكار والمفاهيم التي تساعدهم على تحقيق العدالة الأجتماعية.

ويوصف حمدان هذا بأنه صاحب شخصيّته قويّة، يتمتع بالقدرة على الأقناع، مع أنه كان فلاحا بسيطا. وألاهم هنا انه كان مفكرا وناقدا للفكر الديني، وباحثا عن التغيير. وكان ابرز ما فعله أنه ترك مذهب الأسماعيلية الباطنية وأنشأ مذهبا جديدا يمثل رؤية غير مسبوقة للواقع الذي يعيشه، وعمد في 277 هجرية الى تأسيس مركز ثقافي سياسي ديني وقلعة حصينة في الكوفة اسماه دار الهجرة، جعله منطلقا لأرسال دعاته الى الناس.. قيل انه كان يستهدف البسطاء من الناس ومن اصله فارسي، واليهود ايضا. ويعد اخوه المأمون وزكرويه بن مهرويه الذي يوصف بكرهه للأسلام.. من اشهر دعاته، فيما يعد ابن عمه وصهره (عبدان) من ابرز مفكري القرامطة.

الأستبداد.. يخلق نقيضه

حين تستبد الدولة وينفرد حكامها بالسلطة والثروة.. ينقسم التفكير في عقول الناس الى ثلاث فرق اساسي: فرقة عقل الدولة، وفرقة عقل المضطهدين، وفرقة عقل المتفرجين.. وتعمل هذه العقول على انتاج افكار تكون فيها الغلبة للفرقة التي لديها القدرة على الاقناع وتأمين متطلبات تحقيق الأهداف.

كان العقل القرمطي يمثل فرقة عقل المضطهدين، لاسيما في قطاع الفلاحين الذين تعرضوا للأضطهاد من زمن الدولة الأموية التي احتضنت الأقطاع وبالغت في فرض الضرائب والجزية على الفلاحين، وازدادوا فقرا زمن الدولة العباسية حيث كان حكامها ينعمون بالثراء وبينهم من كان فاسقا على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد بن معاويه، هو الخليفة المعتمد على الله بن المتوكل الذي كان منغمسا في اللهو والملذات.. وظهروا في زمنه.

والمدهش في العقل القرمطي انه سبق زمانه في التفكير بتغيير واقع يدعمه العقل الديني، الى اقامة نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يحترم انسانية الانسان وحقه في حياة كريمة، وتعد افكار حركته اول افكار اشتراكية في التاريخ تهدف لبناء مجتمع ذي علاقات انتاج مغايرة للمجتمع الذي يعرفه المسلمون.

ويذكر المفكر حسين مروة في كتابه (النزعات المادية والفلسفية في الحضارة الاسلامية) بان افكار قرمط قاربت اشتراكية كارل ماركس وسبقتها بقرون، وانها استطاعت التوصل لآّليات تمكّن المجتمع من الفكاك من الازمات الاقتصادية المتعاقبة في العصر العباسي، فيما يذكر الشاعر ادونيس في كتابه (الثابت والمتحول) بان السمة المميزة لحركة القرامطة هي انها حركة تمثل طبقة محددة وتدافع عن مصالحها وتضع من اجل ذلك برنامجا اقتصاديا سياسيا، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية التي ادّعى العباسيون حربهم لاجلها.

ونرى، ان العقل حين يتحرر من الدين في ميدان السياسة، فانه يبدع في انتاج افكار تعالج الواقع بما يحقق انسانية الأنسان، وشاهدنا على ذلك أن دولة القرامطة سبقت دول زمانها وحققت ما لم تحققه الحركات الثورية الحديثة والأنظمة العربية الحالية بألغائها الملكية الخاصة وجعل جميع الاراضي ملكا عاما، وتخصيص عائدية الأنتاج لجميع الأفراد، وبهذا تعدّ دولة القرامطة اول دولة في التاريخ الاسلامي، وربما العالمي، تقضي عمليا على التقسيم الطبقي في المجتمع. وزادت في ذلك انها اعتمدت مبدأ التعويض الاجتماعي، فحين يحترق بيت او محل، تقوم الدولة ببناء ما احترق وتعويض صاحبه ما خسر. ويروى عن القرامطة انه اذا دخل غريب صاحب حرفة ولا يملك عملا، فان الدولة تقوم بتسليفه ثمن ادوات العمل حتى يستطيع كسب عيشه وسدادد دينه دون فائدة، وانه اذا اصاب احدهم فقر او وقع تحت طائلة دين لا يستطيع سداده، فان الدولة تقرضه دون فائدة.

ويحسب للقرامطة انهم اول حركة في التاريخ الأسلامي، وربما العالمي ايضا، تعطي المرأة دورا فاعلا و تساويها مع الرجل في اتخاذ القرارات السياسية العليا الخاصة ببناء الدولة ودعمها اقتصادياً واجتماعياً وأمنيا، وتحريرها من قيود الرجل ومشاركتها لزوجها في العمل وتحمل اعباء المسؤولية، وفتح دورات تعليمية مختلطة لتعلم الكتابة والقراءة، وسنّ قانون منع الزواج بأكثر من زوجة، والغاء المهر العالي وجعله رمزيا. وتزاد دهشة أنها اقامت طواحين مجانية لطحن البذور لعموم الناس بهدف تخليص المرأة من طحن الرحى.

بين قرمط وماركس!

هناك من يصف افكار قرمط بانها مشابهة لأفكار ماركس، وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، فيما نرى ان افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين، وان النظام (الأشتراكي) الذي اقامه قرمط، وابو سعيد الجنابي الذي كان عاملا يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس دولة القرامطة في البحرين (855 – 924 م) كان اكثر ديمقراطية من الأنظمة الشيوعية التي اعتمدت فلسفة ماركس. وما ميز قرمط أن اقواله كانت مطابقة لأفعاله. مثال ذلك انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وان يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا له لأنهم كانوا واثقين من انه ينفقها على الفقراء والمحتاجين. والأهم فكريا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان شعور الجميع في الشراكة في المال ينمي لديهم الأدراك بان القوة الاقتصادية هي السبيل الى النصر.

التطرف.. قاتل الحركات الثورية

السبب الرئيس في فشل الحركات الثورية في تاريخ الأسلام هو ان عقلها الرافض للقيم والتقاليد والمعتقدات الدينية يكون مشحونا بكراهية الآخر ويدفعها سيكولوجيا الى التطرف.

فبعد ان انطلق القرامطة اواخر القرن الثالث الهجري وخاضوا صراعا طويلا ضد الخلافة العباسية وهددوا ابواب العاصمة بغداد مرارا، وانزلوا هزيمة كبيرة بجيش العباسيين في واقعة البصرة، فان حركتهم انكفأت لتقيد دولتها في جمهورية البحرين القرمطية. وتلك مشكلة الحركات الثورية انها تفشل في الربط بين الفكر والتطبيق. فمع ان القرامطة كانوا في حروبهم التي شنوها في العراق يرفعون رايات بيضاء مكتوب عليها آيات قرآنية من قبيل (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، فان كبار مفكريهم اعلنوا انهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بالجنة والنار، ولهم رأي في وجود (الله) يعدّه خصومهم كفرا.

لكن الأخطر في تطرفهم ما كان خلافا فكريا او فلسفيا او دينيا كتلك التي ذكرناها، بل كان عمليا. ففي العام 317 هجرية توجه (ابو طاهر القرمطي) نحو مكة فخرج واليها طالبا منه الابتعاد عن المدينة المقدسة فعاجلهم بالسيف وقتلهم جميعا، ودخل المسجد الحرام وقتلوا ونهبوا وقيل انه طلب رمي جثث القتلى في بئر زمزم. ثم قام بنزع ستار الكعبة الخارجي وقلع بابها.. وقرر ان ياخذ الحجر الاسود، فأخذه وظل عندهم اكثر من عشرين سنة ليضطر العباسيين الى دفع فدية قدرها 120 الف دينار ذهبي فأعادوه الى مكانه عام 337 هجرية.

نكبة عقل التغيير

كان يمكن لعقل التغيير الذي امتاز به القرامطة ان يتحول الى ظاهرة عربية واسلامية يمتد تأثيرها الى حاضرنا المعاصر في اقامة العدالة الاجتماعية التي دعى لها الدين الاسلامي واشترطها العقل المعاصر في النظام الديمقراطي، لكن عصرهم انتهى بعد قرنين من حكم كثرت فيه الجرائم بدافع الافكار المتطرفة، وأخطأ فيه عقل التغيير في ادراك الواقع وتعامل معه بالعاطفة لا بالمنطق، وفرض على الآخر ما رآه هو حقا وعدلا. وكان من نتيجة ما حصل أن (العقل القرمطي) جعل العقل المعاصر متضادا متناقضا في الموقف منه.. بين من يصف القرامطة بأنها حركة مغالية، وانهم زنادقة وملحدين وغوغاء ومجرمين، وبين من يصف حركتهم بأنها ثورة الكادحين، وانها تتفق مع الدين الذي يدعو الى تحقيق العدالة الأجتماعية وقول النبي محمد (ساعة عدالة اجتماعية افضل من ستين سنة عبادة)، وبين من يصفهم بأنهم اوائل الشيوعيين في الأسلام.

ومهما تعددت الآراء وتنوعت وتناقضت فاننا نخلص الى حقيقة ان العقل الديني في الأنظمة السياسية عبر تاريخ الأسلام يعمد الى ترويض وتخدير العقل الجمعي ويوظف الدين لبقاء الحاكم في السلطة حتى لو كان على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد او نظيره الخليفة العباسي المعتمد على الله.. ويفرز عقلا متمردا يهدف الى التغيير.. فتكون المواجهة بين عقل السلطة الراكد، وعقل يقنع صاحبه بان دعوته الى التغيير كصرخة في البرية، وعقل مؤمن بان تحرره من الدين ضمانة اكيدة لتحقيق التغيير.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

"ياأيُّها الذين آمنوا لاتُبطلوا صدقاتِكم بالمنِّ والأذى" البقرة 264

المنّ في اللغة أصله الانعام والفضل وهو بذل العطاء والاحسان، والمنانّ إسم من أسماء الله الحسنى ويعني المتفضل بعطاءه وإحسانه وأنعامه ورزقه، فالله يمنّ على عباده بباذخ العطايا وأجمل النعم، وآلاء الله جنة عرضها السموات والارض (وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها) النحل 18 فهو المنان على عباده ولامنّة لأحدٍ منهم عليه جلّ وعلا.

والمنان صفة مبالغة من المنّ وهي صفة الخالق الذي (منّ) علينا بالحياة ووالتفكير والنطق وصورنا بأجمل الصور، وأنعم علينا بجزيل العطايا وأسبغ نعمه ظاهرة وباطنة وتوّجنا بنعمة العقل وخصّنا بجميل الصفات وبعث فينا الرسل والانبياء لهدايتنا طريق الحق (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) ال عمران، 164

وإذا نظرنا إلى أسماء الله الحسنى والتي هي بذات الوقت صفاته جلّ وعلا سنجد إن بعضا من هذه الصفات تتحلى بها شخصية المؤمن كالكرم والرحمة والجود والمغفرة والسلام وغيرها من الصفات التي تعطي المؤمن طيفا من الصفات الحميدة والفضائل النبيلة، لكن صفة المنان أختصت بالذات الالهية فهو وحده الذي يمنّ على عباده بالنعم وعندها تكون موضع فخر واعتزازوعرفان من العبد بأن الله (منّ) عليه بجميل نعمائه فيكون ممتنا لله والحمد والشكر هو عنوان ردّالجميل.

وقد مدح الله جلّ وعلا (المنفقين) أموالهم في سبيل الله في السراء والضراء الباذلين الخير الذين يهبون بلا (منًّ) لمن أحسنوا اليه يبتغون ثوابهم من الله جل وعلا (الذين يُنفقونَ أموالهم في سبيلِ الله ثم لايتبعونَ ماأنفقوا منّاً ولاأذىً لهم أجرهم عند رَبِّهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 262

وللمنّ الإلهي وجوه كثيرة أخذت سبلا متنوعة للعطاء نذكر منها:

-المنّ بالإيمان: كما في قوله تعالى (فعند الله مغانم كثيرةٌ كذلكَ كٌنتم من قبلُ فمنَّ الله عليكم فتبيوا إنَّ الله كان بما تعملون خبيرًا) النساء 94

-المنّ بالهدى: كما في قوله تعالى (يمنّون عليك أن أسلموا قل لاتمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات 17

-المنّ بإرسال الرسل لهداية الناس: كما في قوله تعالى (لقد منَّ الله على المؤمنينَ إذ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلمهم الكتاب َ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين) ال عمران 164

- المنّ بالنبوة والهداية: كما في قوله تعالى (ولقد مننا على موسى وهارونَ ونجيناهما من الكرب العظيم) الصافات 114-120

- المنّ على المستضعفين في الارض وتمكينهم: كما في قوله تعالى (ونريدُ أن نَمنَّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الارض) القصص 5-6

- المنّ بالأجر غير المقطوع وغير الممنوع: كما في قوله تعالى (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون) فصلت8

- المنّ بالنجاة من العذاب: كما في قوله تعالى (قالوا إنّا كنا قبل في أهلنا مُشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) الطور25-27

 وأما المنّ المحمود من الخلق فهو ماكانت نيته خالصة لله جلّ وعلا كمساعدة الفقراء والمحتاجين وإغاثة الملهوف والاحسان الى الاهل والاقارب والجيران وتقديم المساعدة لمن يحتاجها فشأنه شأن المطر عطاءه لاينضب كما في قوله تعالى (الذين ينفقونَ أموالهم في سبيل الله ثم لايتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة263-262

وعلى الجانب الآخر فقد ورد المنّ المذموم الذي يجعل من العطايا سبيلا لإذلال الآخر وتحقيره وموضعته بموضع المهانة وهذا المنّ القبيح إنما يحط من قدر صاحبه ولايزيده إلاخسارا، فالمال مال الله والجاه من الله ووحده القادر أن يقدّر أويوسع وله مقاليد الامور، وهذا النوع المذموم من المنّ يكون أما بالقلب وهوأن يرى الشخص نفسه محسنا فيمتلأ قلبه منّا

وكِبرا، وأما أن يكون المنّ باللسان وهو أخبار الاخر بأنه تفضل عليه ولايفتأ أن يذكره بذلك كلما أ’تيحت الفرصة له وكأنما ينتظر مكافأة منه (قول معروف خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى والله غني حليم) البقرة263

والمنّ المذموم يأخذ عدة اتجاهات منها:

- التجرؤ بالمنّ على الله جل وعلا: كقوله تعالى (يمنّونَ عليكَ أَن أسلموا قُل لاتمنّوا عَليَّ إسلامكم بل الله يَمنُّ عليكم أن هداكمْ للأيمانِ إن كنتمْ صادقينَ) 17 الحجرات، وللاسف فهذا اللون من المنّ موجود فعلا وفي كل تفاصيل الحياة وحتى بإداء الواجبات الشرعية، فالمنافق بدل الامتنان للخالق على نعمائه فهو يمنّ عليه والله غني عن العالمين

- المنّ بالعطية: وهو جوهر الموضوع فالمنّ يُبطل الثواب والاجر (ياأيها الذينَ آمنوا لاتُبطلوا صدقاتكم بالمنَّ والاذى) البقرة264

والانسان المنان شخص مغرور امتلأت نفسه كبرا، فهو يرى الناس بعين طبعه، فتراه يمنّ على الغريب والقريب وتكاد أن تكون هذه الصفة ملازمة له، يزينها له قرينه ليجعل منه مطية ماتفتأ تذكّر الاخر بكل شئ مهما كان صغيرا، وبدلا من أن يكون ممتنًا لنعم الله ولقدرته على العطاء فإنه يكون كثير المنّ.

وقد مثّل الله جل وعلا الشخص الذي يمنّ ويؤذي بالصدقة كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس وليس لوجه الله –ومااكثرهم بين ظهرانينا- ليقال عنه جوادا وينال الثناء، فمثّله الله بصفوانٍ عليه تراب فيظنهُ الظان أرضاخصبة فاذا أصابه المطر ذهب التراب وبقي صلدا، فهذا التشبيه الرائع يعكس صورة الشخص الذي يمنّ على الاخرين ويكشف سوء نيته وهكذا تبطل الصدقة ولاينوبه غير سخط الله عليه، فهو من الذين لاينظر الله اليهم يوم القيامة.

 فالله هو العاطي الوهّاب وهو وحده الذي يمن على عباده بجميل آلائه، فالمنّ يختص بعطاء الله وهباته للعبد، لكن العبد إذا منَّ على الاخر بعطاء أو معروف واتبعه بتذكير وتعيير فهو عطاء قبيح ومذموم

والمنّ من النقائض المذمومة في النفس البشرية، فمامعنى العطاء والندم عليه أو اتخاذه سبيلا للتذكير ! فهذا الفعل مستقبح عند الله وعند الناس، وفي القرآن الكريم وردت آيات تحذيرية من قبح المنّ قال تعالى (ولا تمنن تستكثر) المدثر6 فالمنّ والبخل وجهان لعملة واحدة، لان البخيل ينظر الى السراب بعين الحقيقة وتعظم في نفسه العطية وإن كانت صغيرة ويتعجب بأي شئ مهما ضئُل، والمنّ ممحق للبركة جالب لغضب الله وصاحبه مطرود من رحمة الله، إذ لايمكن أن يعطي الانسان ويتباهى ويتفاخر بشئ لايملكه فالملك لله الواحد القهار وهي صفة من صفات المنافق ومظهر من مظاهر سوء الخلق، لا ن المنان لاينال من منّه غير نقصان ماله من غير أجر أوثواب.

 فالصدقة التي يهبها الانسان والمفترض أن تكون خالصة لله وغير مشروطة فإن اجتمعت المنة مع الصدقة أبطلت الاجر وإن وقعت في المعروف كدرت الصنيعة.

والمنّ البشري هو عنصر مكروه مذموم يحيل الصدقة أذىً للواهب والموهوب!!

فالواهب يشعر بالكبر والخيلاء والفخر لانه أوهب عطايا الله لمحتاج فهو كوهب الامير بما لايملك وتكبّره هذا إنما هو صغر ويزيده بعدا عن الله لرغبته برؤية أخيه كسيرا ذليلا فهو شخص مرائي وإن توهم بإنه عمل الخير، فهو مخطئ وفي ضلال كبير، فمن شروط الهبة المتصدق بها ألا تعلم اليد اليمنى بعطايا اليسرى، وهنا يُدخل المنان نفسه في سخط الله عليه ويلتحق بثلة ابتعدت عن رحمة الله .

وعليه وبعد هذا الابحار المتواضع في المنّ وتأويلاته نصل إلى حقيقة مفادها إن كل شئ في الحياة له وجهان وجه أبيض وهو طريق الخير ووجه أسود وهو طريق الشروكل وجه يعتمد على نوع التصرف فليكن معروفنا خالصًا لوجه لله سبحانه وتعالى.

ومن بديع خلق الله إنه جعل المنّ والسلوى من أجمل الطيبات وهو مايطلق عليه (منّ السماء) أو كما يسمى في شمال العراق (منّ السما) أو (ندى السما) أو (العسل السماوي) وتحديدا في مدينة السليمانية، وهو مادة صمغية دبقة يميل لونها الى الخضار شبيهة بالدبس تُنتج من أشجار المكسرات كالجوز والبلوط ولسان العصفور تتجمع فوق الجذوع والاوراق، ويقوم المزارعون بجمعها في الصباح الباكر قبل تعرضها للشمس حتى لاتفقد لزوجتها وتكوّر بشكل كرات وتدحرج وتقدم للاكل، وهي هبة ربانية بامتياز فلابذور ولاشتلات وليس للبشر دخل فيها سوى جمعها، سبحان الل ه (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى، كلوا من طيبات مارزقناكم) البقرة 57

وقد تعددت الروايات حول حلوى المنّ لكن الثابت إنه الرزق الطيب الذي أنزله الله ببركاته ورزقه الوفير وهو رمز القدرة الالهية للطيبات، واما السلوى فهو نوع من الطيور.

وأخيرا إذا تأملنا بهذه الكلمات قليلا وكثيرا (المُنفِق) و(المُنافق) فهي تبدأ بنفس المقطع (المنّ) لكن الفرق بينهما حرف واحد وهو الالف وهذا الألف فيه ماشاء الله من التأويل الذي يلخص موضوع المن ..

***

مريم لطفي الالوسي

 

أعلنت السيدة ربى شوكت الربيعي في صفحتها بالفيسبوك عن وفاة والدها الفنان العراقي الكبير شوكت الربيعي عن عمر 84 عاما. والربيعي شخصية عالمية، وفنان مرموق له بصمته:

شوكت الربيعي

ولد في محلة (الجديدة) – القادرية - مدينة العمارة – جنوب العراق 1940.

- في عام1963- أنهى دراسة الفن. وأقام أول معرض تجريبي على سياج مدرسة الرفاشية. وفي العام 

1964- أسس جماعة (الجنوب) للفنون التشكيلية في مدينة العمارة

- أقام معرضا شخصيا جديدا في قاعة نقابة المعلمين في العمارة. أنجز معارضه اللاحقة.

- في العام.. 1970-1973 انتخب رئيساً لجمعية التشكيليين العراقيين – فرع البصرة. لدورتين متتاليتين

- منحته وزارة الإعلام والثقافة ونقابة الفنانين جائزة الفنون الابداعية، وجائزة النقد الفني.2165 شوكت الربيعي فضاء ابداعي متوهج

- 1960-1990 اسهم في معارض مشتركة لجمعية ونقابة الفنانين العراقيين واتحاد التشكيليين العرب والرابطة الدولية للفنون التشكيلية

- اشترك بتأسيس رابطة نقاد الفن (الإيكا) المبدئي عام 1975م ثم الاشهار بالتأسيس عام 1982 في العراق واسهم في لقاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون التشكيلية ولجنة (الإياب) و(الإيكا) في العراق.

- نشر على صفحات صحيفة المثقف عددا كبيرا من الكتب والدراسات النقدية والفنية والفكرية والثقافية.

- أجرت معه مؤسسة المثقف حوارا مفتوحا، كان حوارا تفصيليا شيقيا، شارك فيه عدد كبير من القراء والمتابعين، حول حياته والأحداث التي مر بها خلال تجربته الفنية.2166 2165 شوكت الربيعي فضاء ابداعي متوهج بالانكليزية

- احتفت مؤسسة المثقف سنة 2011م بالفنان الكبير من خلال ملف تكريم كانت حصيلته: قرابة مئة مادة، توزعت على: مقاربات نقدية، ورؤى نقدية، وحوار مفتوح، وشهادات حية، ونصوص مهداة للفنان. اضافة الى معرضه الفني.

- منحته مؤسسة المثقف شهادة الإبداع لعام 2012م.

- أصدرت له مؤسسة المثقف كتاب بعنوان: الفنان شوكت الربيعي .. فضاء ابداعي متوهج. الذي اشتمل على جميع مساهمات الكتاب في ملف التكريم.

- 2015م، صدر كتاب التكريم مترجما الى اللغة الانكليزية.

نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة، ولأهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

***

مؤسس المثقف

2/1/2024م

يعد أنور مغيث أحد القامات الفلسفية في جامعاتنا المصرية وواحد من الشخصيات التي تربطني به علاقة ود، حين عرفته لأول مرة وهو راجع من فرنسا للتقدم للعمل بجامعة حلوان في أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث عُينا معا مع كوكبة محترمة في الفلسفة من أمثال الدكتور حسن طلب، والدكتور مجدي عبد الحافظ، والدكتور هاشم توفيق، والدكتورة عطيات أبو السعود.

وأنور مغيث (مع حفظ الألقاب) مثقف أكاديمي، غزير الإنتاج، وذو اهتمامات فكرية متنوعة، وله شخصية مميزة أقدرها وأجلها، فقد كان وما زال يتميز بطابع الجدية، وهو صاحب كتابات ومقالات متميزة، وصاحب رؤية فلسفية عميقة، فهو من الذين يتميزون بالرصانة الفكرية، والمنهجية الصارمة، والتتبع الجاد للأفكار وخلفياتها، والغوص العميق، والتناول الجسور، بلا خشية ولا زلفى للإشكالات الفلسفية مدار البحث من غير شطط أو تحيز أو حماسة غير متأنية لهذا الجانب الفكري أو ذاك، وكذلك الترابط الفكري من غير رتابة أو استطراد ممل.

ولذلك فإن الفلسفة في نظره بحث عن الحقيقة، ووسيلة لتحرير الشعب من الجهل والاستبداد السياسي وثالث هي جسر للتواصل بين الثقافات، وهو يسعي لتحقيق هذه الغاية من خلال:

1- دراسات فلسفية متخصصة، حيث نلاحظ أن أعماله المنشورة بالعربية هي عن الفلسفة الأوربية المعاصرة: ماركس، وديلوز، ودريدا، ومدرسة فرانكفورت.. أما أعماله المنشورة بالفرنسية وتشمل كتابا عن الفكر المصري المعاصر بعنوان " تلقي الحداثة"، بالإضافة إلى دراسات منشورة في مجلات فلسفية فرنسية عن رفاعة الطهطاوي، ولطفي السيد، وحفني ناصف، سلامة موسي في الفكر العربي المعاصر.

2- اهتم بالمقال الصحفي الفلسفي الموجه إلى القارئ غير المتخصص، وهو مستمر للآن في كتابة مقال دوري بالأهرام منذ أكثر من عشرة أعوام.

3- الترجمة، حيث يسعي أنور مغيث إلى تزويد المكتبة العربية بمؤلفات تعكس ما وصل إليه الفكر الفلسفي في الغرب.

زد على ذلك، فإن من يقرأ كتاباته ومقالاته لا يسعه إلا أن يعترف بأنه مثلما يتحلى رجل الأمن العام بروحية الأمن والنظام، فإن أنور مغيث يتحلى بنفس تلك الروحية في المحافظة على نزاهة التفكير ودقة التعبير.

وإذا جاز لي أن أشبه كتاباته ومقالاته بثوب المرأة، إذا قصر عن حده المعقول كشف عن عيوب وعورات، وإن طال عن حده المعقول أخفى مفاتن ومحاسن، ويمكننا هنا أن أسجل لأنور مغيث حقيقة أن كان موفقا في احترام هذا المقياس إلى حد بعيد.

من عادتي حين أكتب عن شخصية ما، أحب أن أغوص في مشروعها الفكري، وأنور مغيث من الشخصيات الفلسفية التي لا تميل إلى وضع رشته ووصفات جاهزة لمشروع فكري، ولكنه يؤمن بأنه مع المعاصرة التي تفرض نفسها حسب قوله في مقالاته تلقائيا ولا تحتاج إلى جهد فكري واع للدفاع عنها، فقد تبنت اليابان حسب اعتقاده الفكر الغربي في العلم والسياسة ولم تضع أمامه أي عائق باسم الأصالة، وكذلك الصينيين المدافعون عن الأصالة هم المدافعون عن استمرار الاستبداد.

ومن جهة أخرى وبالذات فيما يخص مستقبل المشروعات الفلسفية وبالذات بعد موت حسن حنفي لا مستقبل لها، وهذا لحسن الحظ في نظر أنور مغيث مما عرفناه باسم المشاريع الفكرية حيث لم يثر أي ضجيج، ولم يؤد إلى تقدم الوعي لأنها كانت مشاريع متواطنة مع الفكر السائد.

إتنان فقط في نظر أنور مغيث كانت لهما مشاريع فكرية ساهمت بالفعل في إيقاظ الوعي وزعزعة الركود الفكري، وهما طه حسين وزكي نحيب محمود.

أما طه حسين فهو حسب رأي أنور مغيث وبالذات في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر" والذي يعد في نظر أنور مغيث بيانا تاريخيا يبرز الدور الذى لا غنى عنه للثقافة في الانتقال من مجتمع متخلف إلى مجتمع حديث، فهو يطرح الأسس الفكرية اللازمة لكل حداثة تريد أن تصبح واقعاَ. أول هذه الأسس أن الحداثة ظاهرة تنتمى للمسار العام للبشرية وليست صيغة تخص ثقافة بعينها.

والحداثة في نظر أنور مغيث ليست مذهباَ أو عقيدة نحن مطالبون بالإيمان بها ولكنها صيغة للحياة تتحقق في أرقى تجلياتها في الغرب، وعلينا التأسي بها في مواجهة هذه الرؤية يبرز في فكرنا العربي موقفان متحفظان حسب رأي أنور مغيث : أولهما، أنني بذلك أنكر على نفسى الابتكار وأكتفى بالتقليد والتبعية؛ وثانيهما، أنني لست مضطراً للأخذ بكل شيء، ولكن أستعير ما أراه مفيداً. يرى طه حسين في كلا الموقفين تواطؤا على استمرار التخلف. ويرد على الموقف الأول بأطروحته الجريئة عن حضارة البحر المتوسط لينفي تهمة التبعية، كما يقدم اليابان باعتبارها المثال الحى الذى يطيح بهذه التحفظات، فإذا كنا نوصم أنفسنا بالتبعية فماذا يمكن أن نقول على اليابان البعيدة كل البعد عن الغرب جغرافياً وتاريخياً وثقافياً؟ وفيما يخص الموقف الثاني حينما قررت اليابان السير في طريق الحداثة تبنت دون تباطؤ نمط الحياة والقوانين والمؤسسات الغربية وعاد عليها ذلك بالنفع.

الحداثة إذن في نظر أنور مغيث اقتضاء لا مجال لإدارة الظهر له ولا مجال لإرجائه بدعوى تكوين حداثتنا الخاصة التي تسمح لنا بالتقدم الحضاري مع الاستمرار في قهر المرأة. وكل الرطانة العربية التي تتراكم منذ عقود تسعى بلا جدوى من أجل تحقيق هذا الاختيار البائس. ولهذا يظل كلام طه حسين عالياً في قيمته ومعناه.

وأما بالنسبة لزكي تجيب محمود في نظر أنور مغيث فهو مفكر له تأثير هائل على حياتنا الفكرية العربية المعاصرة. ولكى نفهم أبعاد هذا التأثير علينا أن نرجع إلى سؤال أساسي. حينما طالب أحمد لطفى السيد عام 1908 بضرورة تدريس الفلسفة في الجامعة الأهلية، حيث تساءل الناس وقتها كما يقول أنور مغيث: ما جدوى الفلسفة؟ وما هي ضرورتها لحياتنا العملية؟ وانقسم الناس وقتها إلى معسكرين، كليهما رافض للفلسفة. الأول يخشى على العقيدة من الفلسفة، ويضم رجال الدين والاستعمار الإنجليزي!، والثاني أنصار التقدم واللحاق بالحضارة الحديثة الذين كانوا يعتبرون الفلسفة من العلوم الكلامية التي تغمر حياتنا الشرقية، في حين أن المطلوب هو الاهتمام بالعلوم الدقيقة والتكنولوجية. حياة مفكرنا الكبير زكى نجيب محمود الزاخرة بالإنتاج الفكري هي الإجابة الحية المتجسدة على هذا السؤال الأساسي ما جدوى الفلسفة لحياتنا؟

كان الدكتور زكي نجيب محمود معتزاً بثقافته العربية حسب رأي أنور مغيث، ويعرف أن إسهام الحضارة العربية الإسلامية في تاريخ الفكر وتاريخ العلم الإنساني كان مهما وحاسماً. ولكن واقع الحال بعيد كل البعد عن هذا الماضي الزاهر. وكان لديه حدس بأن الجوانب المظلمة في هذا التراث مازالت حية وفاعلة، وتوجه الناس في سلوكهم واختياراتهم، فى حين أن الجوانب المضيئة توارت ولم يعد لها تأثير يذكر. من هنا كانت ضرورة العودة إلى زيارة التراث للتنقيب والفرز. وهو ما قام به مفكرنا مزوداً بمعيارين أساسيين في تقدير قيمة الأفكار وهما: العقل والتجريب. ويكفى أن نذكر كتباً مثل «تجديد الفكر العربي» و«ثقافتنا في مواجهة العصر»، التي حاول من خلالها أن يبين لنا أننا لسنا غرباء عن العقلانية ولا عن الروح العلمية، وأننا نمتلك في ثقافتنا مقومات التقدم. المهم أن نعرف ما الذى ينبغي أن نبحث عنه في تراثنا. وكما قال المفكر الفرنسي جوريس: حينما نرجع إلى الماضي، علينا أن نترك الرماد ونبحث عن الجذوة المشتعلة. الفلسفة عند كاتبنا ليست مصطلحات لاتينية يلوكها المثقفون، ولكنها رؤية توجه سلوك البشر. والتنوير عند الفيلسوف كانط هو وصول الإنسان إلى سن الرشد، ومعنى ذلك أن يتعود الإنسان على أن يفكر بنفسه ويوازن ويحسب ثم يختار بحرية، ويتحمل مسئولية اختياره، ولكن أن يبحث الإنسان عن سلطة توجهه وتختار له سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو أبوية، فهذا معناه أنه لم يصل بعد إلى سن الرشد. كانت هذه هى الروح الكامنة خلف مقالات الدكتور زكى الصحفية والتي وجهها لكل إنسان لكى يتمكن من تدبير أمور حياته بعقلانية.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي- كاتب مصري

 

"رحلة الدولة لتمكين المرأة في الريف المصري"

في الصباح الباسم الذي يعلن مولد صفحة جديدة من حياتنا عنوانها الأمل، قدمت صديقتي العزيزة "نور الهدى" إلى منزلي بعد أن علمت بحصولي إجازة من العمل ليست للاسترخاء، ولكن لتنظيف وترتيب المنزل. كانت برفقتها الست يامنة التي تعمل مع أختها في صناعة الأشغال اليدوية كالطبخ المنزلي للآخرين وصناعة حقائب اليد والتريكو والإكسسوار اليدوية. هي امرأة في الثلاثين من العمر تسكن إحدى القرى الصغيرة في أعماق الريف. كانت تعيش حياة متواضعة وبسيطة مع زوجها وأبنائها الخمسة. لم تكتف بدورها كأم وزوجة، فقد كانت تشعر أنها قادرة على المساهمة في دعم أسرتها؛ فقررت العمل في الأعمال اليدوية من أجل مساعدة زوجها الذي كان يعمل حرفياً باليومية من أجل تربية أبنائها الخمسة وإلحاقهم بالمدارس الحكومية، وعلى الرغم من ظهور الإرهاق عليها إلا أنها كانت دوما تعافر من أجل استمرار تعليم أبنائها بالمدارس؛ لأنها تركت التعليم في المرحلة الإعدادية؛ لتزوجيها خوفًا عليها من أن يفوتها قطار الزواج؛ فتبور- ويا ليتها قد بارت-، فقد بدت علامات المشيب والتجاعيد على وجهها الذي يكسوه الحزن بسبب كثرة الأبناء ومتطلباتهم، بجانب قلقها الدائم لمرض أختها الكبرى (الست كاملة) التي تحملت مسئولية الإنفاق على البيت بمفردها بعد أن تركها زوجها ورفض الإنفاق عليها وعلى الأبناء السبع؛ لتزوجه بفتاه صغيرة في سن بناته، وتخشى أن يحدث لأختها الكبرى مكروه.

وعقب شرائي بعضاً من الأعمال اليدوية من الست يامنة حكت لنا عما يحدث في الريف قائلةً:

- يامنة: للأسف، يا أستاذة "آمال" إنّ الآباء يفضلون تعليم الذكور، في حين يقع العبء الأكبر من الأنشطة المنزلية على عاتق الإناث. إن الرجال يقومون بالعمل من أجل الإنفاق على الأسرة وتلبية احتياجاتها، في حين أنه يوجد كثرة من الرجال ممن يلقون المسئولية بشكل كامل على زوجاتهم ،وقد يفر البعض بالزواج بأخرى، كما حدث مع أختي "كاملة". إن ما يحزنني هو أنني وغيري من النساء نقوم بالعمل سواء داخل الأسرة أو خارجها ولا يُنظر إلى مجهودنا المتضاعف بوصفه عملا منفصلا، إنني أشعر بالأسى خاصة من عدم تقدير زوجي لي، وتهديده بالزواج من أخرى لتقصيري في حقه، على الرغم من أنني أعمل -ليل نهار-حتى لا يتسرب أولادي وبناتي من التعليم، أضغط على نفسي وأُحملها فوق طاقتها حتى يصبح مستقبلهم أفضل مما أنا عليه، قد تكون الشهادة طوق نجاح لهم. وفي نهاية لقائي بالسيدة "يامنة" وعدتها بأن أساعدها في تسويق أعمالها اليدوية لدى زميلاتي في العمل، غادرت السيدة "يامنة" ولكن ظل عقلي شارداً.

-فإذا بصديقتي "نور" تقطع شرود ذهني قائلةً: أعتقد أن ما يدور في ذهنك الآن موضوع هام حول مشكلات المرأة الشرقية "النسوية الشرقية"، وأظن أنه عن الست "يامنة" بوصفها امرأة ريفية.

- نعم، صديقتي .. إن القصة ليست قصة "يامنة" فحسب، وإنما قصة العديدات من النساء الريفيات غير المتعلمات اللائي يقمن بأعمال كثيرة من أجل الحصول على قوت يومهن؛ بسبب أن شريك الحياة إما متوفىً و منفصلاً عنهن أو متزوجاً بأخرى، أو أنّ الحالة المادية بسيطة أو هجرته للخارج أو كان متخلياً عن تحمل المسئولية الأسرية، فنجدهن يقمن بالمشاركة في الزراعة والفلاحة وتربية الماشية، إلى جانب القيام بالأعمال اليدوية كالتطريز والخياطة والنسيج والحياكة وصناعة السلال والأواني أو صناعة الصابون والشموع، أضيفي لذلك القيام بدورهن الجوهري في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال وتعليمهم. وهذه الأعمال تحتاج منهن إلى جهد يفوق قدرتهن في كثير من الأحيان.

- نور الهدي: يتبين لي من حديث الست "يامنة" أن النساء والفتيات يعانين في المناطق الريفية، خاصة أن النساء والفتيات يفتقرن إلى فرص متساوية للحصول على الموارد والأصول الإنتاجية، والخدمات العامة، مثل التعليم والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وفي حين لا تحظى كثير من أعمالهن بالانتباه الواجب فضلا عن أنه غير مدفوع الأجر، وبخاصة مع تزايد أعباء أعمالهن بسبب هجرة الرجال إلى الخارج.(1) ولكن ما دور الدولة لتحسين وضع المرأة الريفية؟

- إن دور الدولة في مساندة المرأة وتمكينها اقتصاديًا واضح للعيان على سبيل المثال تم افتتاح معرض "تراثنا" للحرف التراثية والمنتجات اليدوية بسوهاج في الفترة من 8 وحتى 14 أكتوبر 2023م، وذلك بالجناح الخاص ببرنامج التنمية المحلية بصعيد مصر والذي يتضمن 27 عارضاً وعارضةً من أصحاب الحرف التراثية والمنتجات اليدوية من أبناء محافظة سوهاج شاركوا بعرض منتجاتهم.(2) وكذلك معرض الحرف التراثية والمنتجات اليدوية بالجيزة بمشاركة 35 عارضا من أبناء محافظة الجيزة وبمشاركة من المحافظات المجاورة، واستمر لمدة ثلاثة أيام خلال الفترة من 12 وحتى 14 سبتمبر 2023م من أجل توطين الصناعات الحرفية والتراثية لما لها من أهمية في توفير فرص عمل.(3) كل ذلك يا عزيزتي ينصب في صالح دعم عمل النساء في الأعمال اليدوية، ولكنني أحلم بالمزيد.

- نور الهدى: وما المزيد يا صديقتي الصدوق؟

- أتمنى أن تقوم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني بالتعاون مع الشركات الخاصة بفتح معارض دائمة على مدار العام - وليس لثلاثة أو أربعة أيام خلال العام- في كل محافظة لعرض المنتجات اليدوية للسيدات الريفيات، مع وجود وسطاء للتسويق يكونون مسئولين عن خدمة أخذ المنتجات منهن وإيصالها للمعارض الكبرى، إلى جانب طرح منتجاتهن في المدن السياحية بمصر كالإسكندرية وشرم الشيخ والأقصر وأسوان وغيرها؛ لبيعها للأجانب. بل والتأكيد على ضرورة زيادة تصدير تلك المنتجات؛ لتوفير دخل للنساء المنتجات من خلال زيادة العملة الصعبة للبلاد، وحتى يتسنى للدولة تسجيل أسماء الريفيات كعاملات منتجات؛ لتقديم خدمة التأمين الصحي لهن وتوفير معاشٍ شهريّ لهنّ عند وصولهن لسن الستين.

- نور الهدي: ولكن ما دور وسائل التكنولوجيا الحديثة في دعم المنتجات اليدوية للنساء؟

- بالفعل يا "نور" قد أطلق السيد اللواء محمود شعراوي وزير التنمية المحلية مبادرة "أيادي مصر" في يوم المرأة المصرية 16 مارس 2021م. وهي منصة إلكترونية الهدف منها التسويق الإلكتروني للمنتجات اليدوية والتراثية بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي وبالتعاون مع شركة إي-أسواق مصر. حيث يأتي المشروع في إطار إستراتيجية الدولة للتحول الرقمي؛ بهدف تمكين الفئات المهمشة وتقديم الدعم في خلق فرص عمل وتوظيف الشباب والتي تؤدى جميعها إلى التنمية في الريف ودعم المجتمعات المحلية، وخاصة فئات الشباب والمرأة في تسويق منتجاتهم ودعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، يمكن لكافة منتجي الحرف اليدوية التواصل مع المنصة من خلال منسق المنصة بكل محافظة أو من خلال الموقع الإلكتروني.(4) ولكن الأمر يحتاج إلى تسليط الضوء على منصة "أيادي مصر" إعلاميا، وتعريف النساء المنتجات للحرف اليدوية والحاصلات على قسط من التعليم بها وبكيفية التواصل من المنصة. ولأن هناك الكثيرات من النساء الريفيات غير متعلمات ولا يُجِدن استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة؛ فلابد من أن يتعرفن على كيفية التواصل المباشر مع منسق المنصة داخل محافظاتهن.

- نور الهدى: أتمنى أن يتحسن وضع الست "يامنة" وأختها في المستقبل.

- بإذن الرحمن يا "نور" سيكون الغدُ مشرقاً مليئاً بالأمل للست يامنة وغيرها من النساء الريفيات، ولكن عليهن أثناء تربية الأبناء التركيز على غرس فكرة المساواة بين الذكور والإناث في التعليم ثم التعليم وأكررها مرارًا وتكرارًا، وكذلك التوعية بخطورة الزواج المبكر مع التأكيد على ضرورة تنظيم الأسرة، فهذه عوامل أساسية لحل المعضلة في الريف المصري.

***

د. آمال طرزان - نسوية شرقية

...................

(1) موقع الأمم المتحدة اليوم الدولي للمرأة الريفية ،

https://www.un.org/ar/observances/rural-women-day , In:20/12/2023. 9:33PM.

(2) عمر وخلف: محافظ سوهاج: 27 عارضا يشاركون في معرض "تراثنا" للحرف اليدوية والتراثية اليوم السابع 7 أكتوبر 2023م.

(3) مرام محمد: افتتاح معرض الحرف التراثية والمنتجات اليدوية بالجيزة غدا بمشاركة 35 عارضا اليوم السابع 11 اغسطس 2023 م

https://www.youm7.com/story/2023/8/11

(4) وزارة التنمية المحلية: مبادرة ايادي مصر

https://mld.gov.eg/ar/p/3041/putting-reference-conditions-to-prepare-the-environmental-impact-assessment-studies-for-infrastructure-projects-of-sanitary-landfill

لينك موقع أيادي مصر: http://ayadymisr.com

يعد الأستاذ الدكتور عصمت نصار واحد من كبار المتخصصين في الفكر العربي، والذين يطلق عليهم لقب " مفكر صاحب مشروع فكري"، ومفكر "مسكون بأوجاع الوطن"، وهناك محاضرة له أعجبتني بعنوان " الفكر العربي الحديث بين غربة الخطاب وغربة المشروع"، وقد ألقاها من خلال الفيديو خاصية زووم بجامعة بغداد، حيث تساءل نصار قائلا: هل فكرة النهضة وفكرة القيام من الغفوة كانت موجودة في بنية الفكر العربي الحديث؟

وهنا يجبنا نصار بقوله: نعم ولكن عند أصحاب المشروعات وليس الخطابات، حيث لم يتقدم مفكر عربي واحدة بمفرده يتحدث كيف انتقد من !.. بل كانت هناك عصبة من المفكرين على تواصل دقيق وصريح بينهم جميعا، ومتأزر ومكمل ومتواصل لقيام النهضة العربية المأمولة التي لم تتحقق بعد، فقد أرادت الظروف أن تتوقف حركة النهضة التي نبتت بالفعل من عقول أبناء الأمة العربية، ولكن الخطابات التي ذاعت ورُوج لها في معظم الأقطار العربية،و في أجهزة الإعلام كانت مدفوعة من الآخر أو من الأغيار لإيقاف ذلك المشروع الذي ما زلنا نضعه في قفص الاتهام.

فإريك فروم في نظر نصار عندما يتحدث عن اغتراب المفكر تقول أنه رافض تماما الواقع، مع أنه سياسيا واخلاقيا ليس عن غيرة ولكن تشبها بالأغيار، وهذا لا يتفق مع الأصيل أو مع الذي يسعى إلى البناء، فالتخلي عن بلدته وجلدته، والتبرء من تراثه باسم التقدم، لا يعني أبدا الانتماء أو الإنضواء بالولاء، فلا يستطيع أحد أن يعيش بلا مأوى، والواقع شاهد بذلك .

يقول نصار: فنتأمل ما يدور من محاولات حيث نجد الكل يتكالب على هذه الأمة، ومن ذا الذي يسعى بخراب عرينه أو  كنفه أو عيشه .. الأغيار بالقطع والمستفيد منهم، ودائما وأبدا كنا لقمة سائغة وعقول تقبل الوعي الزائف لكي يردد ما يقوله الغرب وما يقوله أعداء هذه الأمة .

ثم يقول أيضا أترك الاعتراضات التي أعيي أنها تدور في عقول سيادتكم عن تلك الادعاءات التي أقولها، وهو أنه ليست هناك خطابات فلسفية في الفكر العربي بمفردها تريد أن تبني أو تتحدث عن التقدم بمنأى عن المشروع الأصيل الذي نشعر بغربته، وبين الاغتراب والغربة اتصال وتواصل واشتقاق، فإذا اكن المغترب يرفض واقعه، فإن المدرك لفكره وتراثه وحضارته وكل أفكاره التليدة في مجتمع يرفضها بمقتضى جهله بها، يصبح هذا الفكر غريبا ويشعر بغربة وأسى .

ويستطرد نصار فيقول: أقول أن المجددين الأٌوُل قد صنعوا بالفعل مشروع منذ أخريات القرن الثامن عشر له أصول وله نهج وله قضايا تتمثل في خمس: التراث، والتجديد، والحرية، والوعي، والاصلاح، ولا توجد قضية سادسة خارج هذا النطاق، وكل الخطابات التي كتبت قبل وبعد هذا العقد المتفق عليه بين أكابر مفكري العرب في مصر والشام والعراق واليمن وتونس ثم المغرب والجزائر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر .

وثمة نقطة أخري مهمة ركز عليها نصار وهي أن أخطر شيء على الدين هو استحالته إلى أيديولوجية، كما أنّ المصيبة الكبرى التي توقع بالمتدينين هى اشتغالهم للسياسة أو لتسيس مصالح الساسة باسم الدين، وقد فطن الغرب إلى هذه الحقائق التي شهدت بها الوقائع التاريخية، فقد جيشت أوربا حملاتها الصليبية الاستعمارية باسم المسيح واصطنعت أكذوبة على لسان أحد الرهبان عرفت باسم (حربة المسيح)، والفتنة الكبرى التي وقعت فى عصر الخلفاء كانت تفوح منها مطامع الساسة، وقد انقلبت بعد ذلك إلى فرق عقائدية مزقت الأمة إلى شيعة وخوارج وسنة وجميعهم يدعي أنّه يملك راية الفرقة الناجية؛ أعني أنّ أمتنا أصيبت بالداءين استحالة الدين إلى أيديولوجية في صورة الجماعات والطوائف العقدية، وخضوع قادة تلك الطوائف لألاعيب السياسة في الداخل والخارج، فمنذ عام 1453 بدأت نظرية المؤامرة التي طالما نتهكم عليها! فقد قرر علماء الاستشراق العقلي الغربيون وضع المخططات لهدم الإسلام من الداخل، وذلك عن طريقين أولهما تقوية الجماعات والفرق الجانحة بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها، وثانيها اصطناع مللٍ حديثة تحمل بين طياتها جراثيم التطرف. وما كان على أقطاب هذه الجماعات والفرق إلا السمع والطاعة لمن يمدونهم بالأفكار الضالة من جهة والأموال والعتاد من جهة ثانية، فالإخوان المسلمون صنيعة المحافل الماسونية، والشيعة المعاصرون صنيعة أمريكا، شأنهم شأن داعش والسلفية الجهادية والقاعدة. ولا يستخف القارئ بتلك الحقائق أو ما نعتقد بأنّه كذلك فجميع المتطرفين يجتمعون على دستور واحد قوامه التعصب والعنف وتمزيق الأمة الإسلامية والحيلولة بين وحدة أقطارها، بالإضافة إلى تضليل عقول شبيبتها، ولا أَمل من التكرار بأنّ مصيبتنا الكبرى في استحالة مرونة النصوص الدينية إلى جمود الأيديولوجيات النظرية والسياسية. وقد كشفت الوثائق المعاصرة عن تورط معظم قادة تلك الجماعات فيما نُطلق عليه حروب الجيل الرابع على الأمة الإسلامية ومشاركتها كذلك في خطة أمريكا لإعادة تقسيم العالم العربي، الأمر الذي تأباه بطبيعة الحال الأصول الإسلامية وغاياتها في خيرية العالم. وأتذكر حديث رسول الله الذي جاء فيه أنّ المصطفى سأل ربه عن ثلاثة فأجابه إلى اثنتين: أولهما ألا تهلك أمته من جوع وفقر، وثانيهما ألا تهلك أمته على يد أمة أخرى، أما الثالثة التي لم يجبه الله فيها أن تهلك أمته وتتمزق إذا ما استحالت إلى ما نحن فيه من ضلال وكذب وتعصب وعنف كلها من أمور السياسة، والسياسة كما نعلم لا تخلو من جمود الأيديولوجيات وسقوط القيم.

وسقوط القيم في نظر نصار يرجع إلى أزمة الخطاب الفلسفي، وهذه الأزمة كما يقول  متشعبة الأسباب ومترامية الدروب ولا يمكن إيجازها في مثل هذا المقام، ولكن يمكننا التصريح بأنّ الخطاب الفلسفي المعاصر لم يفلح في الجمع بين الثابت والمتغير في سياقاته، ولم يحسن فض النزاع المتوهم بين المنقول والمعقول ولم ينجح في التمييز بين التجديد والتبديد، فضلاً عن أنّ لغته وقعت في شرك الإيديولوجية وفقدت مرونة الحوار، وجعلت من التفكير العقلي مرادفاً للكفر، ومن التدين مرادفاً للجمود والتخلف، أضف إلى ذلك كله خلو حياتنا الثقافية المعاصرة من المتفلسفين على شاكلة حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس وحسين الجسر ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق فجميعهم فطن إلى أنّ الفلسفة تكمن في المنهج وليس المذهب، وأنّ الحق لا يضاد الحق.

وهنا يتساءل نصار فيقول: كيف يمكن أن يسهم تجديد الخطاب الفلسفي والديني في نبذ العنف والإرهاب، وهل يعني التجديد مجاراة لما تم في الغرب من فصل الدين عن الدنيا؟

وهنا يجيبنا فيقول: السبيل إلى ذلك في فتح باب الحوار بين المنهج الفلسفي العقلي والنهج الديني في استيعاب النص وتجديده، ولنا في قادة الفكر الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين الأسوة الحسنة، فقد اجتهدوا في تثقيف المجتمع على نحو يحول بينه وبين التطرف في كل صوره، والابتعاد عن التقليد، والتبعية في شتى دروبها. فوظيفة الفلسفة هى التفسير والتبرير وقيادة ثورة التغيير، وكل ذلك نفتقر إليه في أحاديثنا ومناظراتنا وخطاباتنا على قلتها، حتى بات الخطاب الفلسفي من أعداء الحرية.

ثم يستطرد نصار قائلا: أكرر أنّ الفلسفة هى طوق النجاة بكل ما نحن فيه من تردٍّ وانحطاط، وسبيلنا الأقوم للنهوض والرقي، ونعني بالفلسفة (المنهج). فالمنهج هو الآلية التي تمكننا من إحياء التراث ونقد الوافد والفصل بين ثوابت الهوية والمتغيرات الحضارية في التجديد، وهى التي تقوم بتوعية الرأي العام القائد وترشده إلى ما يجب الأخذ به وما ينبغي العزوف عنه وتؤهل الرأي العام التابع بقبول التحديث والمبادئ العلمية وأصول المدنية، وهى أيضاً التي تنقذ المجتمعات من الأوهام الأربعة (خرافات الموروث، والمعتقدات الزائفة، ولجاجة العوام والسفسطة، وأكاذيب أصحاب السلطة والمشاهير ومزيفي الوعي) وهي كذلك التي تستطيع التمييز بين الأفكار الزائفة والحقيقة والخيال والواقع، وتمكن الأنا من الحوار الهادئ مع الآخر لذلك كله أرى ضرورة إعادة بناء كل برامجنا التعليمية والثقافية على أسس فلسفية... وللحديث بقية..

***

أ. د. محمود محمد على – كاتب مصري

 

بدءاً أودّ القول أن الشأن الثقافي العام عربياً وعالمياً لعام 2023 قد تأثر بشدة بالأحداث الدامية في فلسطين الحبيبة وضراوة العدوان عليها. ان العالم كله ليشهد لحظة قاسية في سياق القضية الفلسطينية فرْقت المواقف والرؤى الثقافية منها الى موقفين حادّين بين مؤيّد ومندّدٍ مما يعمق المأساوية والفداحة التي تتخذها آلام هذا الشعب البطل المناهض والمتجدد كعنقاء لن يفلح أيما عدوان في كسرها أو ازهاق روحها الباسلة. ومما يشهده الشأن الثقافي هو التماهي مع كل من الموقفين الآنفي الذكر بتأثر بالأطراف السياسية العربية كما هو متعارف عليه.

ولوسائل الميديا وقنوات الانترنيت عام 2023 أثرٌ كبير في ابراز ردود أفعال جماهيرية مع أو ضدّ ازاء مواقف ثقافية تم فيها الثناء أو الانتقاد لاحراج المناوئين أو المستغرقين في السعي الى المنافع والغنائم (كالذي حدث من جهة في الثناء على مسرحي مصري وانتقاد بل ذمّ لمسرحي مصري آخر).

ان هيمنة الوسائل الرقمية ما زال هائلاً ومهيمناً على الكتاب مهما كان نوعه في العالم وفي نطاق العالم العربي أيضاً بل أكثر على نحو كارثي بما يشبه الوقوع في الفخ، فخ شبكة العنكبوت الانترنيتية ولقد أثّر ذلك بعمق في الطابع الثقافي للمنتوج الأدبي في اتجاهاتٍ عدّة. فمن ذلك مثلاً يمكنني القول أننا نشهد عودة الشفاهية والخوض فيما قيل ويقال لا فيما يُكتب ويؤسسُ لفكر، وبروز نجوم التيك توك واليوتيوب وسائر وسائل الميديا ونشر الكلام السطحي الذي لا يحمل في مضمونه أو شكله أية قيم ثقافية ولا ينتجها بالطبع. ولقد اصطبغ الكتاب الأدبي العربي بالمرور السريع عبر هذه الوسائل فليس له أي وزن غير الترويج والانتشار السريع المنطفئ من دون تأثير واضح.

 مازال الأدباء يطبعون مؤلفاتهم بأنفسهم من دون مراجعة مؤسساتية قائمة على أسس ثقافية رصينة، ما من رصد رادع للأخطاء في هذه المؤلفات مما يزيد من فسحة الاستسهال والافساد الثقافي. مازال أدباء الشفاهية اليوم ممن تكرسهم المحافل والمهرجانات نجوم هذا النمط في الانتشار بكل اندفاع وجسارة. أخطاء هذا النشر مكرسة حتى في العناوين الكبيرة والمقدمات والملخصات في الأغلفة من دون أية محاولة لاستدراك الخطأ أو تصويبه. نحن في حاجةٍ ماسة لعمل مؤسسات ثقافية مخلصة وأصيلة للعمل من أجل الثقافة لا لسواها.

لقد صار لكلٍ الحق من ناحية في الافتاء بأحكامٍ أدبية ونقدية جاهزة ومعلنة بنقاط حاسمةٍ جازمة من دون اجراء التطبيقات النقدية أو البحثية والأدلة والبراهين الموضوعية المناسبة لمعالجة النصوص الأدبية وتوجيه الرأي العام بمصداقية وبناء وعي لدى الأجيال الجديدة. لقد ازداد دأبُ النقاد الانطباعيين في الادلاء بالأحكام غير المنضبطة الى منهج نقدي أو معرفة دالّة.

هناك، بالطبع، نقد عالمي للحظة الثقافية التي يعيش في مدارها العالم عبر النت ووسائله، هذا النقد يمثل أساساً لفهم الاختلال الثقافي السائد وتفسيره من تشييء للانسان، وتشتّت للقيم، ورداءة للابداع. هناك مفردات أصبحت مكرّسة في التعليقات السريعة من نحو ذمّ (نظام التفاهة) وتكرار الاستشهاد بأقوال لامبرتو ايكو وسواه في ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحقّ في الكلام. وأنا أقول في سياق الأدب العربي ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحق في التأليف! وصار من هؤلاء شعراء ثم أصبح من هؤلاء الشعراء روائيون ونقاد وهلمّ جرا..

يمكننا بضمير مرتاح جداً القاء الكثرة الكاثرة مما دبّجه هؤلاء "الأدباء" في سلال القمامة والتخلّص من هذا المنتوج بقلّة وعيه ومعرفته بل بجهله والعودة الى كلاسيكيات الابداع العربي للنجاة حقاً من كوارث هذه المرحلة!

كثرة المهرجانات الاستعراضية ال Show والسير على سجادٍ أحمر لسدّ شهوات النجوم السطحيين في أكثر من محفل جعل الهوة كبيرة بين المثقف بكل مظاهر وجوده والمتلقي. نحن نشهد مهرجاناتٍ سينمائيةً من هذا النوع، ومعارض كتبٍ بنجوم ليست لهم علاقة بالكتاب وثرثرة اعلامية وضجيج لا يهم القارئ العربي ولا يسعى الى جذبه بل لوضع الطبقة الفنية والأدبية في سياق مبرر.

وأضيف هنا أن هناك منصات رقمية عربية تسعى الى نشر الأدب التافه وتروّج له، كالذي حدث مثلاً من اعلان عن أفضل شاعرة في العراق لعام 2023 وتقديم وجوه ملفقة ومجمّلة بالقوة وبالفعل بقوة التجارة التي تروّج لها. ومثل هذه الجهات تحيط بها الريبة والغايات المبطّنة سياسياً وثقافياً ويحيط بها الجهل والتصنّع القميء. كذلك تشجيع الكتابات غير المتقنة بوصفها وليدة التعبير عن الجميع فالكل من حقه أن يكون أديباً حتى ان كان غير متمكن من أدوات الكتابة والابداع.

وهناك جهات أخرى ترفع من شأن الأدب الشعبي وترسخه لجعله وريثاً بل ابناً شرعياً للأدب العربي القائم على الثقافة والفكر. وغير ذلك كثير!

حقيقةً أجد الهجاء آخر معاقل الأدب الرصين الذي اغتالته قوى الجهل والتخلف والادّعاء.

ولو أردتُ تذكر فعالية ثقافية فيمكنني التمثل بتظاهرة رياضية حدث فيها الجذب للمتلقي من عرض صور ونماذج قديمة من حضارات العراق كالذي حدث في حفل افتتاح كأس الخليج العربي لكرة القدم في البصرة، اذ قُدِّم فيه خطاب ثقافي تاريخي بانورامي عريق ومصوّر على نحو بديع، لهذا أذكره هنا بوصفه قد قدّم طقساً ثقافياً لم تقّدمه فعاليات أخرى يُفترضُ أنها ثقافية.

وقبل قليل قرأتُ عن استقطاب أدبي لقضية فلسطين في معرض كتاب بالجزائر. وهناك تجمّعات في مصر والعراق واليمن وسوريا قد ندّدتْ بعدوان الاحتلال وألقيت فيها الخطابات والأناشيد!

لعل الأعوام القادمة أكثر اشراقاً ولنأمل في اطار ذلك بمعجزات تُحسّن الواقع العربي عامةً لا الثقافي فحسب!

***

د. سهام جبار

أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مختلف الصناعات وأعاد تشكيل الطرائق التي نتصور بها العالم ونتفاعل معه. ومع ذلك، مع استمرار تقدم قدرات الذكاء الاصطناعي، يجد الفنانون والكتاب أنفسهم يتصارعون مع مجموعة خاصة من الاهتمامات التي تخصهم في مجالات إبداعهم.

فكيف يتسبب الذكاء الاصطناعي في إثارة القلق داخل عوالم الدينامية الإبداعية، وتأثيره على التعبير الفني وروح الخيال البشري.

لقد تغلغل الذكاء الاصطناعي في المشهد الفني بأشكال مختلفة، بدءًا من الخوارزميات التوليدية التي تنشئ فنونًا بصرية إلى نماذج اللغة التي تنتج نصوصا شعرية ونثرية .

وإذا كانت هذه الأعمال التي يولدها الذكاء الاصطناعي غالبا ما تعرض الكفاءة التقنية، فإن اقتحام الآلات للمجال المخصص تقليديا للإبداع البشري يثير أسئلة جوهرية وملحة.

غالبًا ما يستمد الفنانون والكتاب قوتهم الإبداعية من التجارب الشخصية والعواطف والنظرة العالمية المميزة. ويظهر القلق عندما يحاول الذكاء الاصطناعي، الذي يفتقر إلى الخبرات الإنسانية، تقليد هذه الصفات. هل تستطيع الآلة حقًا التقاط جوهر المشاعر الإنسانية، أم أنها مجرد تقليد جامد؟

إن الخوف من فقدان الأصالة الإنسانية هو في طليعة مخاوف المبدعين الذين يخشون أن يفتقر الأدب والفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي إلى اللمسة الحقيقية التي تجعل الإبداعات البشرية يتردد صداها في الأوساط الفنية وتتفاعل معها الجماهير .

أيضا يثير استخدام الذكاء الاصطناعي معضلات أخلاقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا الملكية والإسناد والتعويض العادل للمبدعين . مع اكتساب الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي للاعتراف والقيمة، تصبح مسألة من يملك حقوق هذه الإبداعات معقدة بشكل متزايد. إن الفنانين يشعرون بالقلق من الاستغلال المحتمل لأعمالهم وتقليل قيمة حرفتهم في عالم يزاحمهم فيه الذكاء الاصطناعي.

وبعيدًا عن العملية الإبداعية، هناك قلق متزايد بين الفنانين والكتاب بشأن احتمالية إزاحة بعض الوظائف. مع زيادة كفاءة خوارزميات الذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى، هل يمكن أن يكون هناك مستقبل سوف يتم فيه تهميش الفنانين والكتاب الآدميين ؟ ويشكل هذا القلق بشأن الجدوى الاقتصادية مصدر قلق ملحا لأولئك الذين يخشون أن يؤدي دمج الذكاء الاصطناعي في الصناعات الإبداعية إلى التقليل من قيمة العمل الفني البشري.

إن تقاطع الذكاء الاصطناعي والفنون هو مشهد معقد ومتطور يثير الإثارة والخوف حيث يتصارع الفنانون والكتاب مع الآثار العميقة لهذا التحول التكنولوجي، خوفًا من فقدان الأصالة، وتآكل البصمة واللمسة الإنسانية تدريجيا ، واحتمال ظهور تحديات أخلاقية واقتصادية. ومع استمرار الحوار بين الذكاء الاصطناعي والإبداع الإنساني، فمن الضروري التعامل مع هذه المخاوف بشكل مدروس، والتأكد من أن تكامل الذكاء الاصطناعي قد يعزز النسيج الغني للتعبير البشري بدلاً من إضعافه. قد يعتمد مستقبل الفن والأدب على قدرتنا على تحقيق توازن دقيق بين الابتكار والحفاظ على العناصر الإنسانية العميقة التي تحدد روحنا الإبداعية.

***

عبده حقي

 

مقدمة: يتناول البحث المسألة الأثينية وأرتباطها بمركز السلطة وشرعيتها فى محاولة لإثراء البحث حول السلطة وشرعيتها حول طبيعة العلاقة بين السياسى والديموجرافى ومعرفة إستراتيجيات مختلفة الإثينات فى التعامل مع المتغير الديموجرافى وأستثماره فى الحياة السياسية.

ففى موريتانيا على سبيل المثال سيطرة أثينية واحدة على السلطة منذ القرن السابع عشر وهى فئة الحسانية وهى خليط بين القبائل العربية والبربرية من صنهاجة غير أنه حدث تراجع ديموجرافى فى الأونة الأخيرة.للفئة الغالبة سياسيا لحساب الفئات الزنجية والتى تعد نسبة الخصوبة والسلوك الإيجابى عندها الأرفع على الأطلاق فى البلاد وهذا عامل جديد قد يدفع بالأثنيات الزنجية للمطالبة بزيادة إشراكها فى الحياة السياسية العامة.

من هذا المنطلق وجب علينا دراسة الظواهر الأجتماعية لربط ومعرفة العلاقة الأزلية بين الحياة الإجتماعية والسياسية والصراعات المسلحة بين  الشعوب على مر الحقب التاريخية الأزلية والزواج المبكر من أهم الظواهر الإجتماعية لما يخلقه من مشكلات إجتماعية وخلط بين الأنساب المتباعدة مما يثر بالسلب أو الإيجاب فى الحياة العامة للمجتمعات.

الزواج المبكر

يُعرّف الزواج المُبكّر أو ما يُسمّى بزواج الأطفال على أنّهُ الزواج الذي يكون فيه عمر أحد الطرفين أو كليهما دون سن 18 عاماً، أو لم يبلغا سن الرشد المحدد في الدولة، ويُعدّ الزواج المُبكّر أحد أنواع الزواج القسري، حيث إنّ أحد الطرفين أو كليهما لا يملك الحريّة الكاملة في الموافقة، أو لا يُظِهر موافقةً صريحةً على الزواج، حيث إنّه لا يمتلك القدرة على تحديد الشريك المناسب له، لا سيّما أنّ أسباب عدم القدرة على الموافقة قد تختلف من شخص لآخر، وذلك لعدّة عوامل منها معدل النمو الجسدي، أو النفسي، أو الجنسي، أو العاطفي، أو قد يفتقد أحد الطرفين إلى خبرات الحياة التي تُمكّنه من اتخاذ القرار المناسب، وفي كثير من الأحيان، تُعدّ الفتيات الصغيرات هنَّ الأكثر تأثّراً بظاهرة الزواج المُبكّر، حيث إنّ بعض الأسر تفرض على الطفلة شريك حياتها المستقبلي منذ ولادتها، فما أن تصل إلى سنّ تستطيع فيه الإنجاب حتّى يتمّ تزويجها فوراً.

أسباب الزواج المبكر تتعدّد أسباب الزواج المُبكّر، فهي على النحو الآتي: محدودية التعليم: إنّ حرمان الفتاة من التعليم بسبب عدم توافر وسائل النقل الآمنة بين المنزل والمدرسة، وانخفاض نوعية التعليم، وندرة فرص التعليم أدّى إلى بقاء الفتاة في منزلها فتميل نحو الزواج المُبكّر، فالفتاة التي تلقّت تعليماً لمدّة عشر سنوات تنخفض نسبة تزويجها في سن دون 18 عاماً لستّة أضعاف. ضعف الالتزام بالقانون وتنفيذه: إنّ عدم نشر المعرفة الكافية خاصةً بقانون حظر الزواج المُبكّر لعام 2006م، وفي كيفيّة تطبيق القانون ومعرفة عواقب تجاوزه أدّى إلى ضعف تنفيذه، كما أنّ هناك عدم ثقة من قِبل المجتمع بالمؤسسات المُنفّذة لهذا القانون، لا سيّما أنّ كثيراً من الأفراد يرون أنّ التقاليد والأعراف أقوى من القانون والمؤسسات، حيث إنّ عدد حالات التبليغ عن الزواج المُبكّر قليلة جداً. سوء الوضع الاقتصادي: أكثر من نصف الفتيات اللاتي تزوجن في سن مُبكّر هنّ من أفقر الأسر في العالم، وذلك لأنّ الأسرة التي تُعاني من الفقر تعتبر الزواج المُبكّر طريقةً لتحسين وضعها الاقتصادي، حيث إنّها تعتبر المهر المدفوع فرصةً لتأمين حاجات الأسرة، وتغطية الديون المتراكمة، وحلّ الأزمات الاقتصادية التي تمرّ بها الأسرة، كما أنّ هذه الأسر تعتبر زواج ابنة لديهم يُقلّل من نفقات الأسرة مع الاطمئنان إلى أنّها ستحصل على الطعام، والملبس، والتعليم المناسب بعد زواجها، أمّا في بعض الدول التي يقع فيها مهر الزواج على عاتق ذوي الزوجة فتميل أسرتها لتزويجها في سن مُبكّر، حيث تدفع أموالاً أقل إذا كانت العروس شابةً غير متعلمة.

التقاليد الاجتماعية: كثيرٌ من المجتمعات تعتبر أنّ الفتاة التي تعدّت سنّ الحيض قد أصبحت امرأةً في نظر المجتمع، ومن التقليد أن يتمّ إعطاؤها مكانتها كزوجة وأمّ عن طريق الزواج، بالإضافة إلى ذلك تعتقد بعض المجتمعات أنّ زواج الفتاة قبل سن البلوغ سببٌ في إدامة البركة على أسرتها، ممّا يُسبّب ضغطاً اجتماعياً يقود الأسرة نحو تزويج بناتها في سنّ مُبكّر. انعدام الأمن وانتشار الأزمات: في المجتمعات التي تتعرّض فيها الفتيات إلى خطر المضايقات والاعتداء البدني أو الجنسي، يتجه الآباء نحو تزويج بناتهم لحمايتهنّ والحفاظ على سلامتهنّ، كما أنّ نسب حالات الزواج المُبكّر تزداد في المناطق التي تُعاني من الأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية، وتلك التي ينتشر فيها العنف والفقر، فمن بين عشر دول تُعاني من أزمات بكافة أشكالها تسع منها تُعاني من ارتفاع معدل الزواج المُبكّر فيها.[٥] آثار الزواج المبكر شهدت جمهورية افريقيا الوسطى انتشاراً للزواج المُبكّر بين الأطفال الذكور، إلّا أنّ معدل الزواج المُبكّر عند الفتيات يزيد عن ضعف معدل الزواج المُبكّر عند الأولاد، لذلك تظهر آثار الزواج المُبكّر على كلّ من الأولاد والبنات على حدٍّ سواء لكنّها تظهر بشكل أوضح على الفتيات، حيث يواجه كلا الطرفين مخاطر وآثار تختلف بناءً على الاختلاف البيولوجي والاجتماعي لكلّ منهما، لا سيّما أنّ جميع هذه الآثار تُعتبر تعدٍّ على حقوق الطفل سواء كان ذكر أو أنثى، فمن آثار الزواج المُبكّر على الأولاد من الأطفال إجبارهم على تحمّل مسؤولية كبيرة وهم ليسوا مؤهلين لها، كما أنّ إشغال دور الأبوة في وقت مُبكّر يؤدّي إلى ضغوط اقتصادية قد تمنع الطفل المتزوج من متابعة التعليم وتطوير مهاراته للحصول على وظيفة مناسبة.

تُعاني الطفلة التي تتزوج مُبكّراً من عزلة اجتماعية بعيدةً عن الأهل والأصدقاء ومن يُشكّلون مصادر دعم لها، بالإضافة إلى أنّها تجد صعوبةً في التعليم والتوظيف، فمثلاً في ملاوي حوالي ثلثا النساء اللواتي لم يتلقين التعليم الرسمي هنّ من العرائس الأطفال، و5% منهن فقط استطعن الالتحاق بالمرحلة الثانوية والتعليم العالي، كما أنّ هؤلاء الفتيات غير قادرات على التعامل بأمور الزواج، حيث إنّهنّ أكثر عرضةً للفيروسات المنتقلة جنسية؛ كفيروس العوز المناعي البشري "HIV".

يُعرّض الضغط الاجتماعي العروس الطفلة لحالة حمل مُبكّر، ففي نيبال مثلاً هناك أكثر من ثلث النساء التي تترواح أعمارهن بين 20 و24 واللواتي تزوجن قبل بلوغهنّ سنّ الخامسة عشر لهنّ ثلاثة أطفال أو أكثر، مقابل 1% من النساء اللواتي تزوجن بعد سن البلوغ ولهنّ نفس العدد من الأطفال، وبالرغم من ذلك فهي لا تتلقّى عنايةً طبيةً جيدةً أثناء فترة الحمل، ففي بلدان مثل بنغلاديش، وإثيوبيا، ونيبال، والنيجر حصلت النساء اللواتي تزوجن عند سن البلوغ مرّتين أكثر على رعاية صحيّة مناسبة أثناء الولادة مقارنةً مع النساء اللواتي تزوجن تحت سن الخامسة عشر بالرغم من أنهنّ يمتلكن جسماً غير مؤهل بشكلٍ كافٍ للولادة، ممّا يُعرّض حياتهنّ وحياة أطفالهنّ للخطر.

الآثار الصحيّة والنفسيّة للزواج المبكر على الفتاة الآثار الصحيّة على الفتاة تكون المرأة قادرةً على الإنجاب فور بلوغها، إلّا أنّ حدوث حمل قبل سن الخامسة عشر يؤدّي إلى نتائج سلبية عديدة؛ كفقر الدم، وارتفاع ضغط الدم لدى الأم، وزيادة حجم رأس الجنين عن حوض الأم، كما تواجه الأمهات الصغيرات التي تتراوح أعمارهنّ ما بين 10 و19 عاماً نسبةً أعلى من إمكانية الإصابة بتسمّم الحمل، والتهاب بطانة الرحم بعد الولادة، والتهابات في الجهاز التناسلي، من الأمهات التي تتراوح أعمارهنّ ما بين 20 و24 عام، كما أنّ حوالي 3.9 مليون حالة إجهاض خطيرة تحدث للفتيات من عمر 15 إلى 19 عام سنوياً، ممّا يؤدّي إلى الوفاة في بعض الأحيان أو الإصابة بمشاكل صحيّة دائمة، أمّا حاجات الأمهات الحوامل في سن المراهقة من عناية عاطفية، ونفسية، واجتماعية تكون بدرجة أكبر من حاجة النساء الأكبر سناً.

تكون الأم المراهقة أكثر عرضةً لاكتئاب ما بعد الولادة بمقدار الضعف عن المرأة الأم الأكبر سنّاً، وقد تظهر أعراض تقلّب في المزاج، وقلق، وحزن، وصعوبة في التركيز والأكل والنوم لمدّة أسبوع إلى أسبوعين، كما أنّ خطر الاكتئاب قد يزداد إذا أنجبت الأم قبل مرور تسعة أشهر، ومن الأعراض الإضافية التي قد تُصاحب اكتئاب ما بعد الولادة ما يأتي:

صعوبة في إقامة علاقة أمومة جيدة بين الطفل والأم. التعب الشديد. نوبات الخوف، والهلع، والقلق. تفكير الأم في إيذاء نفسها أو إيذاء الطفل. عدم الاستمتاع بالأنشطة التي كانت تُسعد الفتاة سابقاً. الآثار النفسيّة على الفتاة تظهر الآثار النفسية للزواج المُبكّر على الفتاة نتيجة فقدانها لحنان ورعاية الوالدين وفرصة العيش والاستمتاع بمرحلة الطفولة، حيثث تتعدّد المسؤوليات في الحياة الزوجية ممّا يؤدّي إلى تعرّضها للضغط لعدم تفهّمها طبيعة العلاقة الزوجية، فتظهر عليها بعض الآثار النفسيّة كاضطرابات في العلاقة الحميمة بين الزوجين نتيجة الخوف، وقد تحتاج إلى تدخّل طبي في بعض الحالات، كما قد تظهر على الزوجة أعراض الاكتئاب والقلق نتيجة كثرة المشاكل الزوجية الناتجة عن عدم تفهّم الطرف المقابل، وقد تظهر بعض الاضطرابات الشخصية وصور من الهستيريا والفصام، كما تزداد احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية أثناء فترتيّ الحمل والنفاس، حيث تزداد متطلبات الحياة على كاهل الزوجة لوجود طفل، بالإضافة إلى متطلبات الزوج والأقارب.

تعرّض حياة الفتاة ومولودها للخطر تظهر الآثار الصحية للزواج المُبكّر على الفتاة من خلال ارتفاع معدل الوفاة عند الفتيات المتزوجات تحت سن 15 بخمس مرّات عن الفتيات المتزوجات في سن العشرين، كما أنّهنّ أكثر عرضةً لحدوث نزيف ومضاعفات أثناء الولادة، كما تُشير منظمة أنقذوا الأطفال (بالإنجليزية: Save The Children) في منشورها السنوي لعام 2004م إلى أنّ احتمال وفاة مواليد الفتاة المتزوجة دون سن البلوغ بعد انقضاء عام واحد من أعمارهم مضاعفٌ مقارنةً بمواليد الفتاة التي تزوجت في سن العشرين، أمّا في حال بقائهم على قيد الحياة فإنّهم يُصبحون أكثر عرضةً للحصول على مستوى منخفض من الرعاية الصحية وسوء التغذية نتيجة لاتباع الأمهات سلوكيات خاطئة في التغذية مقارنةً مع الأمهات الأكبر سنّاً.

الآثار الصحيّة والنفسيّة للزواج المبكر على الأطفال تكون الأمهات المراهقات أكثر عرضةً لإنجاب أطفال خدج يُعانون من نقص في الوزن عند الولادة؛ وذلك لعدم توافر الوقت الكافي لإتمام مرحلة النمو داخل بطن الأم، حيث يزن الطفل الذي يُعاني من نقص في الوزن عند الولادة ما بين 1500 إلى 2500 غرام، وفي حالات نقص الوزن الحادّ قد يصل وزنه إلى أقل من 1500 غرام، ففي هذه الحالة يحتاج الطفل إلى تدخّل طبي في وحدة الأطفال الخدج داخل المستشفى، وتقديم جهاز التنفس الصناعي إذا لزم الأمر لمساعدته على التنفس.

تظهر الآثارالصحية بأشكال متعددة على صحة الجنين ومنها؛ التعرّض للاختناق داخل بطن الأم؛ بسبب القصور الشديد في الدورة الدموية المغذيّة للطفل، كما أنّ الولادة المبكّرة تُعرّض الطفل لبعض المخاطر منها؛ عدم اكتمال نمو الرئتين، وحدوث عدّة أضرار في الجهاز الهضمي، كما قد يُصاب الطفل بتأخّر النمو الجسدي والعقلي، وزيادة الفرصة بالإصابة بمرض الشلل الدماغي، أو العمى، أو الإعاقة السمعية، أو قد يتوفّى الطفل بسبب الالتهابات بعدّة أنواعها.

تتمثّل الآثار النفسيّة المترتبة على الطفل في مشاعر الحرمان التي تنتابه لعدم قدرة الأم القاصرة على القيام بواجبها اتجاه طفلها، فينشأ عن ذلك اضطربات نفسية قد تُصاحب الطفل حتّى يكبر وينتج عنها أمراض نفسية؛ كالفصام والاكتئاب، كما أنّ انخفاض الرعاية التربوية السليمة تؤدّي إلى تأخّر النمو الذهني لدى الطفل، لذلك فالزواج المُبكّر هو أحد أسباب انتشار الأمراض والاضطربات النفسية داخل الأسرة والمجتمع، ممّا يؤدّي إلى زيادة العبء الاقتصادي على النظام الصحي. آثار الزواج المبكر الاجتماعية يولّد الزواج المُبكّر عدّة آثار اجتماعية كالطلاق المُبكّر الناتج عن اكتشاف الزوجين عدم استعدادهما لبناء أسرة ناجحة؛ وذلك لصغر سنّهما وعدم وعيهما الكافي في آلية بناء الأسرة، ومن الآثار الاجتماعية الناجمة عن الزواج المُبكّر ما يأتي:

انتشار العنف الأسري:

تبلغ نسبة الفتيات المتزوجات التي تترواح أعمارهنّ ما بين 15 و19 سنة واللواتي يتعرّضن للعنف الجنسي من قِبل أزوجهنّ 13% مقارنةً مع النساء في عمر 30 إلى 39 عام بنسبة 10%، كما أنّهن أكثر عرضةً للعنف، وإساءة المعاملة، والإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة، وعادةً ينشأ الزواج المبكر بين طرفين بينهما فجوة كبيرة ناتجة عن الفرق الكبير في السن، ممّا يُسبّب أزمةً في العلاقة الزوجية، فينشأ العنف الأسري، حيث إنّ 50% من الفتيات اللواتي تزوجن تحت سن 18 يتعّرضن للعنف البدني والجنسي من قِبل الشريك أثناء فترة الزواج.

انتشار الفقر:

ينتشر الزواج المُبكّر بين الفئات الأكثر فقراً في أنحاء العالم، كما أنّ الزواج المُبكّر عائق في تحقيق مستويات تعليم أعلى وتحقيق استقرار مادي أمام الطرفين سواء كان ذكر أو أنثى، لذلك فالفقر والزواج المُبكّر مشكلتان متلازمتان.

انخفاض مستوى التعليم: يمنع الزواج المُبكّر الفتاة من مواصلة تعليمها، وذلك لأنّ الكثير من المجتمعات ترفض فكرة ذهاب فتاة متزوجة أو خاطبة إلى المدرسة، أو قد يكون الزوج هو الطرف الرافض لحضور زوجته إلى المدرسة، بالإضافة إلى أنّ متطلبات الحياة الزوجية من أعمال منزلية ورعاية الأطفال، أو وجود مضاعفات ناتجة عن الحمل، تُعيق الفتاة من الذهاب إلى المدرسة ومواصلة التعليم. معدلات وأماكن انتشار الزواج المبكر في العالم ينتشر الزواج المُبكّر في المناطق الريفية بشكل أكبر من المناطق الحضرية، حيث تبلغ نسبة الزواج المُبكّر في الريف 48% أمّا المناطق الحضرية 29%، ومن جهة أخرى هناك اختلاف بانتشار الزواج المُبكّر بين المجتمعات الطائفية والقبلية، حيث وجد انخفاض معدل زواج الأطفال عند بعض الجماعات القبلية مقارنةً مع الجماعات الأخرى.

حقّقت دول جنوب أفريقيا في الصحراء الكبرى تحديداً أعلى مستوى من انتشار الزواج المُبكّر بنسبة تبلغ 4 من كلّ 10 شابات تزوجن تحت سن 18، تليها دول جنوب آسيا حيث بلغ عدد 3 شابات من أصل 10 قد تزوجن قبل سن 18، أمّا في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بلغت نسبة الزواج المُبكّر 25%، وفي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 18%، وأخيراً في أوروبا الشرقية ودول آسيا الوسطى بلغت النسبة 11%، كما أنّ هناك اختلاف جغرافي في الدول التي تنشر فيها زواج الفتيات عن تلك الدول التي ينتشر فيها زواج الأولاد في سن مُبكّر.

وثّقت منظمة اليونيسيف لعام 2019م العدد الكلي الذي يضم عدد الذكور والإناث الذين تزوجوا دون سن 18 حيث بلغ 765 مليون حالة، ووصل عدد المتزوجين من الأولاد والرجال الذين سبق لهم وتزوجوا دون سن 18 إلى 115 مليون حالة، وتُشكّل جمهورية أفريقيا الوسطى أعلى نسب لانتشار زواج الأطفال الذكور حيث بلغت النسبة فيها 28%، تليها نيكاراغوا بنسبة 19%، وأخيراً مدغشقر بنسبة 13%.

لا يقتصر الزواج المُبكّر على المجتمعات الإسلامية، والأفريقية، والفقيرة، فالواقع يُثبت أنّ الزواج المُبكّر ظاهرة انتشرت في جميع أنحاء العالم على اختلاف القارات، والثقافات، والأديان، والمستوى الاقتصادي سواء الدول الفقيرة أو الدول الغنية، إلّا أنّه ينتشر بنسب أكبر في الدول النامية كوّن الفقر أحد الأسباب الرئيسية له، حيث إنّ حوالي فتاة واحدة من أصل 3 فتيات في العالم النامي تزوجن دون سن 18، فالفتيات حققن الغالبية في الزواج دون سن 18 حيث وصلت النسبة 82%، ففي كلّ عام تتزوج 12 مليون فتاة دون سن البلوغ دون أيّ استعداد جسدي أو حتّى عاطفي.

انخفض معدل الزواج المُبكّر بشكل كبير في دول جنوب شرق آسيا خلال العشر سنوات الماضية، فتحوّلت النسبة من 50% إلى 30%، حيث كان لدولة الهند تحديداً الدور الأكبر في هذا التقدّم، ويعود سبب ذلك إلى الاستراتيجيات التي تبنّتها الحكومة الهندية من خلال زيادة معدل التعليم للفتيات، وزيادة الاستثمارات التي تستهدف فئة المراهقات، وبثّ رسائل توعوية على المستوى الوطني تستنكر شرعية زواج الأطفال وتوضّح مدى ضرره.

آليّات التعامل مع الزواج المبكر هناك بعض الآليّات المناسبة للتعامل مع ظاهرة الزواج المُبكّر، وهي كالآتي:

نشر الوعي:

فقد أقام صندوق الأمم المتحدة للسكان "UNFPA" برنامج "العمل من أجل المراهقات" الذي يشمل 12 دولة في كلّ من آسيا، وأفريقيا، وأمريكيا اللاتينية، يهدف إلى تعليم الفتيات حقوقهنّ التي تتضمّن الحق في التعليم، والصحة، والحق في العيش في مكان آمن خالٍ من العنف، وحق الكرامة، والحق في اختيار شريك الحياة كأيّ إنسان بالغ، كما تتلقّى الفتيات أيضاً برامج تخصّ الصحة الإنجابية، وتدريبات تشمل المهارات الحياتية؛ كمهارة التفاوض التي يُمكن أن تُساعد على إقناع الأهل عن صرف النظر عن أمر الارتباط لفترة معينة أو حتّى رفضه، حيث أصبحن هؤلاء الفتيات قدوةً في مجتماعتهنّ يُعبّرن عن الفتاة المراهقة المتعلمة، أملاً في أن يكون هذا الوضع الطبيعي لجميع الفتيات في ذات السن. فرض القوانين والتشريعات: حيث أصدرت معظم دول العالم قوانين صارمةً ضدّ زواج الأطفال، وفرضت العقوبات اللازمة في تجاوز هذه القوانين، ولكنّ خوف الآباء على بناتهم أضعف هذه القوانين بعض الشيء، فادّعى الأمر إلى إيجاد حلول لجذور ظاهرة الزواج المُبكّر من خلال تعزيز المساواة بين الجنسين، وإنهاء مشكلة الفقر عن طريق بناء شبكة آمان اجتماعي تحمي الفتيات وذويهنّ، وزيادة فرص التعليم، وتقديم الخدمات الصحية، وتوفير فرص العمل. إنشاء حملات جماهرية: وذلك من خلال جذب انتباه جميع سكّان العالم والحكّام العالميين، حيث تمّ نشر عواقب الزواج المُبكّر التي يُعاني منها الكثير من الشباب من خلال حملات عالمية، والدعوة لوضع قضية زواج الأطفال ضمن مرتبة ذات أولوية على المستوى الدولي، ففي عام 2015م دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إظهار الدعم ورفض الزواج المُبكّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إنشاء خطط طوارىء: وذلك من خلال تقديم المساعدة اللازمة لمن يُعاني من آثار الزواج المُبكّر أو الزواج القسري، عن طريق تقديم المساعدة القانونية من خلال تلقّي الحماية، أو الانفصال القانوني، أو الطلاق، أو البتّ في أمر الحضانة في حالة وجود أطفال، كما يُمكن تقديم الخدمات الاجتماعية، أو تأمين سكن آمن في حالات الطوارىء.

إنشاء مراكز توعوية للمقبلين على الزواج: حيث تستهدف هذه المراكز الشباب في مرحلة ما قبل الزواج، بدعم من منظمات المجتمع المحلي، لإيجاد حلول لمشاكل الشباب في سن المراهقة؛ كالمساعدة في إيجاد فرص عمل مناسبة لهم، وتقديم دورات تأهيل ما قبل الزواج تهتم بالأسرة، وتوضّح أهميتها، وكيفية التعامل مع الزوجة واحترامها، وطرق تأمين سبل العيش في المستقبل، أمّا بالنسبة للزوجة فتُقدّم هذه المراكز توعيةً تخصّ الفتيات الصغيرات في كيفية تحمّل مسؤولية الزواج، واحترام الزوج، وطرق التربية الصالحة، وأمور تربوية أخرى، بالإضافة إلى التوعية الصحية، والنفسية، والاجتماعية، وغيرها من الأمور التي تهمّ المرأة المتزوجة. الاهتمام بترابط الأسرة: يؤدّي الحثّ على تماسك الأسرة من خلال بناء أسرة متكاملة مترابطة متفاهمة إلى انخفاض عدد الفتيات المتزوجات في سن مُبكّرة.

***

الكاتب د/  أحمد عزيز الدين أحمد

الثامن والعشرون من ديسمبر ٢٠٢٣م.

.........................

المصادر:

(1) منظمة أنقذوا الأطفال

منشورها السنوى لعام 2004م (Save the Children)

(2) صندوق الأمم المتحدة UNFPA  برنامج العمل على المراهقات

(3) الكاتب والروائي أحمد عزيز الدين أحمد

 

الحقيقةُ التي يبحثُ عنها الانسانُ هي موجودةٌ وَمُتَحَقِقَةٌ، ولكنَّها صَعبَةُ المَنالِ وتحتاجُ الى بَحثٍ وَاكتشافٍ.نحنُ نَكتَشِفُ الحَقيقَةَ؛ لِانَّها موجُودَةٌ، ولانخترعُها كما يقولُ القائلونَ بِنِسبِيَّةِ الحقيقةِ.

 قانونُ الجاذِبِيَّةِ -على سبيلِ المثال- هو حقيقةٌ موجودةٌ في الكَونِ ونيوتن قامَ باكتشافِ هذه الحقيقة.

والحقيقةُ لها طريقانِ، طريقُ الخارج وَطريقُ الداخل، وقد عَبَّرَ القرآنُ الكريمُ عن هذينِ الطريقينِ، بالآفاقِ والانفسِ، يقول الله تعالى:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). فصلت:الآية: (53).

فهناك طريق خارجي للوصول الى حقيقة الحقائق وَالهِ هذا الكون، وهو عالم الآفاق، اي العالم الخارجي الذي يحيطُ بنا، ولكنَّهُ طريقٌ أَطول، تقعُ فيه المغالطات، وتستخدم فيه طرقُ الخداعِ وَأَساليبُهُ، وهناك طريقٌ داخِلِيٌّ للوصولِ الى الحقيقةِ وهو عالَم الأَنفس، الذي هو الطريقُ الأقربُ للوصولِ الى الحقيقة؛ لأَنَّهُ يجعلكَ وجهاً لوجهٍ في مواجَهَةِ الحقيقة، فهو طريقٌ لايقبلُ الالتواء والخداع والمغالطة.

فابراهيم (ع) لما حَطَّمَ الاصنامَ ووضع الفأسَ على رقبةِ كبير الاصنام وقالَ: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ). الانبياء:الآية: (63).

وبعد تفكيرٍ وَتَأمُلٍ ورجوعٍ الى النفس أَقَروا بالحقيقةِ التي صدمهم بها خليلُ الرَّحمن: (فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ).الانبياء:الآية: (64).

في عالم الخارج كانوا يضللون الناس ويخدعونهم، ولكن حينما رجعوا الى أَنفسهم اقرّوا بالحقيقةِ الصادمة بلا خداعٍ ولا التواء.

وكذلك الأَمرُ معَ فِرعونَ وحاشيته وزبانيته وكل الجوقة المحيطة به، بعد أن كذَّبوا موسى ونعتوهُ بكلِّ النُّعوتِ السيئة وقالوا بأنَّهُ ساحرٌ، ولكنَّ القُرآنَ الكريمَ كشفَ لنا دواخلَهم وما انطوت عليه انفسهم من الحقيقة، يقول الله تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).النمل:الآية:(14).

وقوله تعالى:(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). يوسف:الآية:(53).

وسواء كان هذا القول ليوسف عليه السلام أم لامرأة العزيز فالنتيجة أنَّ الانسانَ يعرفُ نفسه ان كان بريئاً أَو مُذنباً، وهذه الطريقة، طريقة الرجوع الى النفس ليجرد الانسان ذاتَهُ من الاكاذيب والاباطيل والخداع، ليجدَ نفسهُ وجهاً لوجهٍ امام الحقيقة بلا رتوش ولا التواءات.

 وفي هذا السياق، اتحدث عن الجرائم التي يرتكبها الصهاينَةُ ضد أَهلنا في غزة، التي تتعرض لابادة وكوارث انسانيَّة وازهاق للارواح أمام سمع العالم المتحضر وبصره، هذه القوى الاستكبارية تعرف الحقيقة ولكنّها تزيّف وتدجل وتكذب لحجب الحقيقة . وقد قلنا الطريق الخارجي يقع فيه التضليل والخداع والاكاذيب، ولكن هذه القُوى تدركُ تماماً ان اسرائيل ظالمة ومجرمة وان الفلسطينيَّ المتشبث بأرضه ووطنه هو صاحب الحق .

(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً). النمل: الآية:14.

***

زعيم الخيرالله

أبرز الردود على مقال الأسبوع الماضي، كانَ سؤالاً استنكارياً يتناول «مبدأ» ترجيح الحاضر على الماضي. وقد شرح أحد الزملاء وجهة نظره على الوجه التالي: إذا كنَّا سنقدّم الماضي على الحاضر في كل الأحوال، فلماذا نبجّل أمواتاً مثل أرسطو والمتنبي وإيمانويل كانط وابن سينا وآينشتاين وسواهم؟

ويظهر لي أن هذا النوع من الأسئلة منبعثٌ مما نسميه قلق الهوية، أي ذلك الشعور العفوي بأنَّ تبجيل الحاضر يقود، موضوعياً، للتهوين من قيمة الموروث القيمي، الذي يوجّه جانباً مهماً من سلوكنا اليومي.

مع ذلك، فهو سؤال مشروع، أياً كان رأينا في موضوعه. فهو يشير إلى عيب مهم في نقاشاتنا الثقافية، يتمثل في إطلاق القول بأن زمناً ما خير من الأزمان الأخرى. ولعلَّ بعض القراء مطلع على الجدل المتعلق بالرواية المنسوبة للنبي «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم». وهي رواية لا تنطوي على تكليف عملي ولا تحدد واجباً، إلا أنها تشير – ضمنياً – إلى أن خيرية الزمان (أو أهله) تسير باتجاه تناقصي.

لكن نسبة هذه الرواية للنبي هي التي توجب التوقف عندها للتأمل والتأويل. ولولا هذا لما توقف عندها أحد. في الحقيقة فإن هذه النسبة هي سبب الجدل حول ما سميناه «مبدأ» في أول المقال. لأن كثيراً من الناس يسألون مستنكرين: هل نسمع قول النبي ثم نمضي دون اكتراث؟

حسناً، دعنا نرتب النقاش، فنسأل أولاً عن معنى أن يكون زمان خيراً من زمان آخر، فالواضح أن المقصود به هو الناس. لكن ما معنى أن يكون أهل زمن خيراً من غيرهم؟ سوف نستعمل هنا المقاييس المادية المتعارفة عند البشر كافة، فهم يفضلون شريحة من الناس على غيرهم تبعاً لما عندهم من علم أو قوة اقتصادية أو بدنية أو سياسية، أو لما يملكون من فضائل روحية/أخلاقية، أو لما بذلوه من جهد في ظرف استثنائي.

ويظهر لي أن الخيرية المقصودة، صحيحة في الحالتين الأخيرتين فحسب. فالواضح أن أهل الأزمنة التالية، ولا سيما عصرنا الحاضر، أكثر علماً وقوة وثروة.

الفضائل الأخلاقية والإخلاص والاجتهاد في العمل تحسب لصاحبها وترفع منزلته. لكنها – بطبيعة الحال – لا تجعله أكثر علماً. حين نحتاج إلى دليل علمي، فلن نبحث عنه عند سابق أو لاحق، بل عند شخص متخصص في مجاله، سواء انتمى إلى عصر قديم أو جديد، وسواء كان مؤمناً أو لم يكن.

ينبغي أن أشير هنا لما ذكره المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري عن ميل غالبية العرب، بصورة عفوية في الغالب، إلى اعتبار الماضي مخزناً للقيم العليا، وهو ميل ينطوي أحياناً على خلط للمعارف بالقيم، حيث نعد الشيء صحيحاً لأن زيداً من السلف قاله، ولعل زيداً هذا ليس من أهل العلم، أو لعلّ علمه لا يجاري علم أحد الأحياء. ربما كان زيد قوي الإيمان، ربما كان شجاعاً كريماً نبيل الخلق، فهل هذا يجعل رأيه في مسألة علمية، مقدماً على رأي المختص فيها؟

من هذا نعرف أن تفضيل أهل بلد، أو أهل زمان، أو أبناء مجتمع، على غيرهم، تقييمات شخصية وليست موضوعية، أي أنها لا ترجح رأيهم في قضايا العلم ولا تجعلها مساوية لرأي المختصين.

أظن أن هذا يوضح أيضاً سبب ترجيحنا لعلوم عصرنا على علوم الأولين، في العموم وليس التفصيل. وفحواه بإيجاز هو أن طبيعة العلم التوسع والتعمق بصورة تراكمية. كل زمن يضيف لبنة إلى بناء العلم، حتى يرتفع البناء ويتكامل. اكتشاف نواقص السابق هو الذي أطلق شرارة الاكتشاف الحاضر، ولولا اكتشاف النقص لما عرفنا الحاجة إلى علم جديد. فهل يعقل أن نعود إلى ما عرفنا نقصه، مع وجود الأكمل؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

قبل أكثر من عشرين عاماً سألت كاتباً سويسرياً صديقاً جمعتني به ظروف العمل، وكنت أظنه آثاريا "أركيولوجيا" أو إناسيا "انثربولوجيا" نظراً لاهتماماته ومعلوماته الموسوعية في هذه العلوم، وكان قد نشر ثلاثة كتب، كتابان منها عن الحضارة المصرية القديمة وثالث عن حضارة المايا في أميركا الوسطى إلى جانب عشرات وربما مئات مقالات، سألته قائلا: بوصفك أنثروبولوجيا، ما معلوماتك عن الخلاف بين العلماء الأنثروبولوجيين حول القضية الفلانية وأي الجانبين تؤيد؟ فرد عليِّ مستغرباً وضاحكا: مهلا، مهلا، ولكن من قال لك أنني أركيولوجي؟ قلت له: مقالاتك وكتبك الثلاثة عن الحضارات القديمة هي التي قالت لي ذلك! وحينها قال لي: لا يا عزيزي، أنا لست أركيولوجيا ولا أنثروبولوجيا ولا مؤرخا محترفا بل مجرد كاتب صحافي متخصص في هذه العلوم والمجالات، والفرق كبير بين الباحث العالم والكاتب الصحافي الإعلامي المتخصص! ألا تعرف أن الصحافة والإعلام أنواع مختلفة؟

بصراحة، لم أكن أعرف الفرق بين هذه الأنواع والتخصصات الصحافية، وحتى حين عرفتُ وبدأتُ البحث عما يؤكد وجودها في المشهد الثقافي العربي لم أجد سوى الفوضى الهائلة والتدخل البدائي الشديد. فباستثناء "الصحافة الاستقصائية" ربما، والتي انتشرت في العقدين الأخيرين في العراق، لا نكاد نجد شيئاً يروي الغليل، أما الصحافة الميدانية فهي تابعة للصحافة الإخبارية وفرع مكمل منها، يقوم به المراسلون الميدانيون، الحربيون وغير الحربيين.

ولهذا، أقدم هذه البسطة السريعة في أنواع الصحافة المعاصرة حتى لا نخلط بين الصحافي والإعلامي المتخصص في ميدان علمي أو حياتي معين وبين العلماء المتخصصين فيها فليس من الصحيح أن يطلق كل من نشر بضع مقالات أو بضعة كتب في التاريخ العام أصبح مؤرخاً أو عالماً متخصصاً رغم أنه لا يحمل شهادة علمية رفيعة من جهة علمية معترف بها، وتجربة في التنقيب الآثاري ذات حصاد حقلي جيد وإتقان للغة قديمة أو أكثر، وخصوصا اللغة الأكدية أو السومرية أو الآرامية وغيرها. وإذا كانت الشهادة ليست كل شيء، ويمكن التعويض عنها بالتعلم والدراسة الذاتية، وأعرف شخصيا باحثين عصاميين عرب محترمين لا يحملون شهادات علمية رسمية ولكنهم يتقون أكثر من لغة قديمة منقرضة أو شبه منقرضة وعملوا في فرق للتنقيب في بلدانهم أو خارجها وقد أصدروا كتباً ودراسات مهمة تنبئ عن قدرات علمية مرموقة. وللأسف فأنا لستُ من هؤلاء ولا أسمح لنفسي بالتبجح بصفة الباحث المتخصص وأعتز بكوني إعلامياً وصحافياً متخصصاً هاوياً وليس محترفاً وقد أكون باحثاً في التراث العرب إسلامي واللغة العربية ولهجاتها وهذا أمر لا يهمني كثيرا سواء كنتُ أحوزه فعلا أم لا!

أما كلمة "مُفَكِّر" فهي فضيحة اصطلاحية كاملة، كيف ذلك؟ إنَّ هذه الكلمة التي أطلقت في عصرنا على كل من هبَّ ودبَّ حتى إنها أطلقت على بعض الحكام المستبدين في بلداننا والذين أصدر بعضهم كراسات وكتيبات تحوي بعض خواطرهم وأفكارهم الإنشائية الفارغة.

فهذه الكلمة "مفكر" وهي صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المزيد بالتضعيف "فكَّر"، ليس لها مقابل استعمالي في اللغات الأجنبية المهيمنة إمبرياليا، ولو أنك فكرت باستعمالها في حديثك وقلت ما يرادفها حرفياً في اللغة الإنكليزية (THINKER) أو بالفرنسية (PENSEUR) لضحك منك السامعون من أهل هاتين اللغتين. ومع  ذلك، فقد تأتي الكلمة بمعنى مثقف أو مثير للتفكير أو سوفسطائي ...إلخ، ولكنها لا تعني ما تعنيه في اللغة العربية فهي لا تستخدم بالشكل والمعنى الاستعمالي الذي تستعمل به في اللغة العربية، وتحديدا بمعنى يحايث وبشكل تقريبي معنى كلمة الفيلسوف والعالم والباحث الكبير، تخلو من أي محمول محدد إلا بما يوحي بالفخفخة والوجاهة المضافة إلى صفة الباحث. أما كلمة (علّامة) فهي كلمة عربية لا مقابل لها في اللغات الحية الأكثر هيمنة انتشارا، ولا تبتعد كثيرا عن كلمة "مفكر" ويكاد استعمالها يقتصر على اللغة العربية وتعني العالم الكبير وهي صيغة مبالغة من عالم وتعني "واسع العلم والمعرفة"، ويمكن لنا استعمال كلمة "باحث" أو عالِم" مطرح مفكر أو (علًامة) دون أن يختل المعنى أو تقوم القيامة.

ولا أدري أي نوع من المفكرين هذا الذي لا يفرق أحد الموصوفين به بين شمال وجنوب البحر المتوسط وشرقه وغربه فيستبدل مصطلحات جيوسياسية راسخة بأخرى من ابتكاره ولا وجود له هو في الجغرافيا من قبيل "شعوب شرق وغرب المتوسط"! نترك هذا المفكر بسلام ونستعرض أدناه أنواع الصحافة المعاصرة بشيء من الاختصار:

1- الصحافة الاستقصائية:

يقول تعريفها الأكاديمي؛ هي الصحافة التي تتولى التحقيق في موضوع معين مثل الجرائم الخطيرة أو الفساد السياسي أو مخالفات الشركات...إلخ. وقد يقضي الصحافي الاستقصائي شهورا أو سنوات في البحث وإعداد التقرير. تعد الصحافة الاستقصائية مصدرا رئيسيا للمعلومات. معظم الصحافة الاستقصائية يقوم بها صحفيون يعملون لدى صحيفة أو وكالة أنباء أو عامل حر.

ويقوم العمل الصحافي الاستقصائي على مبادئ من أهمها:

* الحياد في جمع وتقديم المعلومات الموثقة والمعلومات المعاكسة إنْ وجدت.

* السرية في كتابة التقرير الصحافي الاستقصائي حتى يوم النشر وعدم السماح باستغلاله لأغراض سياسية أو غيرها بهدف الابتزاز.

* سبر أغوار الموضوع من كافة الجوانب وتسليط الضوء على خلفياته وجوانبه غير المعروفة.

2- الصحافة الميدانية:

وهي الصحافة التي يشكل المراسلون والمراسلات في ميدان الحدث عمادها الرئيس، وينبغي أن يكون هؤلاء صحافيين ميدانيين بشكل خاص فليس كل صحافي مكتبي يمكن أن يخرج من مكتبه ويكون مراسلا ميدانيا.

في هذا الصدد يقول أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية راغب جابر الذي اختبر العمل الصحفي خلال عقود، إن "الصحفي المكتبي لا يستطيع أن يصنع حكاية من الحدث، بينما المراسل الميداني يمكنه فعل ذلك". ويرى أن مستقبل التغطيات الميدانية هو "للكتابة الانطباعية وحركة الكاميرا التي يجب ألا تصور تصويرا جافا"، لافتا إلى أن التغطية التقليدية "لم تعد جاذبة للمشاهد، وبالتالي أصبح دور الصحفي أكبر، وهو ما يستوجب تدريبا مستمرا"، وكذلك وجود "سقف حرية مرتفع على المؤسسات توفيره لصحفييها الميدانيين".

ويجزم جابر بأن هناك صحفيين أو مراسلين لا يملكون متطلبات الحد الأدنى المطلوب للقيام بتغطيات ميدانية، وأن أخبارهم تؤشر على "سياسات تحرير مقررة سلفا، تطبع عملهم إرضاءً لمؤسساتهم فيفقدون جزءا من حريتهم".

3- صحافة المواطن:

وعنها نقرأ "صحافة المواطن هو شكل جديد من أشكال الممارسات الصحافية غير المهنية. ومع تطور هذه الممارسات، بدأت صحافة ‏المواطن تأخذ حصتها من النقاشات والأبحاث في البلدان المتقدمة على المستوى الإعلامي.‏

وقد كان ومازال يشار إلى هذه الظاهرة الإعلامية باستعمال مصطلحات متنوعة من قبيل (الصحافة التشاركية)، ‏و(الإعلام مفتوح المصادر)، و(الإعلام الديمقراطي)، و(صحافة الشارع)، و(الإعلام البديل)، و(الصحافة ‏الشعبية) إلى غير ذلك من التسميات والمصطلحات التي كانت قد طُورت من طرف الباحثين في هذه الظاهرة ‏الإعلامية والمنظرين لها مثل: كليمينسيا رودريغيز صاحبة مصطلح (إعلام المواطن)، وبومان ويليس صاحبي ‏مصطلح (الصحافة التشاركية)، ودان جيلمور صاحب مصطلح (الصحافة الشعبية)، وهاكيت وكارول صاحبي ‏مصطلح (الإعلام الديمقراطي). وعلى الرغم من وجود اختلافات بسيطة بين هذه التسميات إلا أن تصوراتها ‏تصب في نفس الاتجاه كما سوف نرى. مقالة بعنوان " صحافة المواطن وتجريد المفهوم/ مجلة العربية عدد العدد (567) كانون الأول - ديسمبر 2023 م".

4- الصحافة المتخصصة "الإعلام التخصصي" ويسمى أيضا الصحافة العلمية في العلوم:

هناك أكثر من تعريف للصحافة المتخصصة؛ هي الصحافة التي تمثلها صحيفة أو مجلة أو دورية تعطي أكبر قدر من الاهتمام لفرع واحد من فروع التخصصات العلمية التي يهتم بها نوع واحد من القراء.

التعريف الثاني: الصحافة التخصصية أو المتخصصة هي التي تُعنى بجانب واحد من اهتمامات القراء في التطلع والاستزادة منها وهي ليست صحافة للعامة أو المجتمع كله وإنما مقتصرة على قطاع معين من القراء.

وربما كان هذا النوع من الصحافة من أعقد الأنواع وأكثرها دقة ويتطلب مهارة خاصة وثقافة علمية في التخصص المعني دون ان يكون الإعلامي بعد كل هذا باحثا أو عالما فللباحث صفاته ومهاراته وشهاداته العلمية وطريقة عمله.

من أنواع الإعلام التخصصي نجد الصحافة المتخصصة بعلوم الفضاء والفلك أو الفيزياء أو الرياضات المختلفة أو في علوم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية أو تلك التي تدمج بين العلوم الإنسانية والتجريبية كالأركيولوجيا والانثروبولوجيا وفروع التأريخ المتعددة وهذه العلوم كما هو معروف سائرة نحو المزيد من التفرع إلى تخصصات أدق وأضيق ميدانا.

وعلى المتصدين للعمل البحثي والإعلامي والصحافي أن يتبينوا ويفهموا الفروق الكبيرة والدقيقة بين هذه الأنواع من الإعلام والصحافة على الأقل للخروج من الأمية المعلوماتية في هذا الباب ومغادرة الفوضى الهائلة التي تسم المشهد الثقافي والإعلامي في بلداننا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

ان شبة الجزيرة شبه الجزيرة الأيبيرية قد غزها العالم العربي وصل العالم الاسلامي الى سلسة جبال كانتابريا ولكن تم استردادها بعد ذلك من قبل الجيش المسيحي  ومن الاراضي التي تم استعادتها كانت منطقة طليطة في عام 1085 وبفضل ثقافة التسامح للملوك الكاثوليك عاشت الثقافة الثلاثة (الثقافة العربية الاسلامية والمسيحية واليهودية) بسلام ونشأت مدرسة المترجمين التي تولت مهمة تفسير وترجمة النصوص الكلاسكية واليونانية الى اللاتينية  ويمكن القول بان طليطة كانت الارض الخصبة للأتصال الثقافات الثلاثة حيث كان يقصدها المسيح من منطقة الشمال لياخذوا النصوص الاغريقية والعربية المنسية وبعد ذلك شهدت اوربا عصر النهضة بفضل العلوم المعرفية التي وصلت اليها من طليطة حيث ترجمة اعمال ارسطو وترجم القران الكريم وترجم مزامير العهد القديم ويمكن القول ان هؤلاء المترجمين قد انجازوا مهمتم في الترجمة خلال قرن ونص وان مدرسة المترجمين قد مرت بفترتين الاولى اثناء القرن الثاني عشر، فترة حكم الفونسوا العاشر التي خصصت للترجمة التقنية والفلسفية والقرن الثالث عشر خصص للترجمة علم الفلك والطب والعلوم الاخرى.

والان لدينا بعض تسأولات التي سيتم الاجابة عليها  من خلال التطرق الى بعض النقاط الرئيسية:

1. من هي وكيف كانت مدينة الثقافات الثلاثة أو مدرسة المترجمين وماهدفها؟

2. من هؤلاء المترجمين وماهو أثرهم بالغ الأهمية

3. لماذا تمت الترجمة في طُلَيْطِلَة على وجه التحديد؟

4. ماهو نظام الترجمة الذي كان تستخدمه؟

5. ماهي المادة المترجمة التي كانت الاسرع انتشار  في تلك الحقبة؟

من هي وكيف كانت مدينة الثقافات الثلاثة أو مدرسة المترجمين؟

ظهرت في طُلَيْطِلَة في اثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر حركة ثقافية ذات أهمية كبيرة، وسمي الجزء الكبير من نشاطها المنفذ بمدرسة المترجمين، وبفضل هذه الحركة حصل انتقال كبير في الثقافة الالفية الشرقية اليونانية والعربية إلى الغرب.

جمعت تلك حركة عددا″ من المترجمين، لكن لا يمكن ضمان وجود مدرسة مستقرة.لأن المترجمين لم يركزوا على مؤسسة معينة كانت فيها علاقة مهنية بين أعضائها ، فهي ليست أكثر من مجرد حركة من المستعربين (المسيحيين الذين عاشوا في الأندلس وعرفوا اللغة العربية) واليهود والإسلاميين بل إنهم رواد النهضة الفكرية في القرن الثاني عشر.

كان هدفها نقل جميع النصوص المتعلقة بمجالات المعرفة، والمعرفة التي جلبها العرب إلى إسبانيا المسلمة، ولا سيما العلوم العربية وانتقالها الى اللاتينية والاسبانية والمعرفة التي ظلت مجهولة في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى.

أصبحت طُلَيْطِلَة "مدينة الثقافات الثلاث"، وهو الاسم الذي اعتمدته لتوثيق حقيقة المسلمين واليهود والمسيحيين الذين عاشوا مع عاداتهم  وتقاليدهم بسلام نسبي في اثناء القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لذا نشأت مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة في اثناء القرن الثاني عشر، وحولت هذه المدينة إلى نواة فكرية مهمة على المستوى الأوروبي.

من هؤلاء المترجمين وماهو أثرهم بالغ الأهمية:

تسمية مدرسة المترجمين يجب القول أن اسم مدرسة المترجمين لم يحقق إجماعا بين العلماء والباحثين والدارسين، وعلى سبيل المثال، الإشبيلي من أصل إسباني فرانسيسكو ماركيز فيلانويفا يقول:

(إنه منذ القرن التاسع عشر تم تطبيق هذا المصطلح (مدرسة المترجمين) لكنه يعده غير مناسب على الرغم من ان هذه التسمية معروفة في جميع أنحاء العالم لم تكن مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة مركزًا تعليميًا ولكنه بالأحرى مكان لقاء أو اجتماع مجموعة من العلماء المسيحيين و اليهود و المسلمين الذين عملوا معًا في طُلَيْطِلَة في البحث وترجمة جميع أعمال الثقافة العربية التي تم العثور عليها ونقلها في وقت لاحق إلى بقية أوروبا في العصور الوسطى، في هذا الخط نفسه اليوم يؤكد المستعرب إدواردو مانزانو أن المدرسة لم تكن موجودة على الإطلاق وإنه يجب عدّها حركة من الناس يطلق عليهم حرفيًا خبراء اللغات ربما تم تكليفهم وتحت حماية بعض الرعاة لهذه الحركة، بأن ينجزوا  ترجمة الأعمال الكلاسيكية المكتوبة آنذاك باللغة العربية إلى اللاتينية).

لماذا تمت الترجمة في طُلَيْطِلَة على وجه التحديد؟

طلَيْطِلَة تتمعّ بخصائص جيدة للغاية لأنه بعد أن غزوها من ألفونسو السادس عام 1085 ، أصبحت مركزاً مهماً لترجمة النصوص العلمية أكثر من ترجمة العربية إلى اللاتينية وكان هذا بسبب خصائص عدة: أولها بسبب الموقع الجغرافي لطُلَيْطِلَة فهي أول مدينة كبيرة مسلمة سقطت في أيدي السلطة المسيحية كان يبلغ عدد سكانها حوالي 200 ألف نسمة وهم من المستعربين (كلمة مستعرب هي كلمة مستعارة من العربية الفصحى، بمعنى من يتبنى طرائق العرب) ويعلم الجميع أنهم كانوا المسيحيين الذين عاشوا في طُلَيْطِلَة في وقت كانت هناك حكومة مسلمة فضلاً عن وجود المسلمين واليهود ومن هؤلاء شكّلت مجتمعًا مزدهرًا الى جانب عامل اخر مهم وهو إنه كان هناك سكان مستعربون ويهود احتفظوا باللغة العربية كلغة تعلموها ولتوافر المخطوطات باللغة العربية، ففي طُلَيْطِلَة مصادر غنية للغاية بالكتب العربية التي شكلت جزءًا منها مكتبة الخليفة الحكم الثاني تقدر أكثر أو أقل حوالي 250000 مخطوطة باللغة العربية في طُلَيْطِلَة، بعضها كما يقال جاءت من مكتبة قرطبة والأخرى كانت قادمة مباشرة من الشرق.

* نُقلت بقايا مكتبة الحكم الثاني ، التي تُرجمت مقتنياتها إلى هناك بحلول ذلك الوقت ، لم تتم ترجمتها إلى اللاتينية فحسب بل تمت ترجمتها بشكل نهائي إلى الإسبانية والفرنسية. كمثال واضح هو العمل العربي Libro de la Escala، الذي يتضمن سلسلة من الأساطير المتعلقة برحلة قام بها محمد في الجنة والجنة ترجم ألفونسو العاشر هذا العمل إلى الإسبانية قبل عام 1264، ولاحقًا ترجمته بوينافينتورا دي سيينا إلى الفرنسية واللاتينية. استوحى دانتي من هذه الترجمة الفرنسية تأسيس قاعدة حبكة الكوميديا الإلهية.

* كما كان لطليطلة خاصية مميزة مهمة وهي أنه في هذه المدينة بلاط أو محكمة أرشيبسكوبال أجنبية للتشريع يمكننا القول أن لغتها العامة كانت لاتينية  اذا ان بنسبة 90٪ من الثقافة العربية انتقلت في العصور الوسطى إلى الغرب عن طريق مدرسة مترجمي طُلَيْطِلَة في أهم مرحلتين، الأولى: مع رئيس أساقفة دون ريموندو في طُلَيْطِلَة القرن الثاني عشر وعصر آخر مهم خلال حكومة ألفونسو العاشر الحكيم في القرن الثالث عشر الذي كلفه بنفسه لرؤية الأعمال المترجمة التي يعدّها مهمة، ويجب أن تكون مترجمة وقام بنفسه بإدارة الترجمات بدلاً من رئيس الأساقفة، وراجع ترجمتها النهائية.

* سمحت الحركة التي بدأها ريموند بنشر المعرفة الشرقية بشكل عام في أوروبا وهذه هي الطريقة التي أتاحت رعاية غير مسبوقة من الملوك والأساقفة المسيحيين للحركة ثقافية ولهذا كانت طُلَيْطِلَة المركز الرئيس لترجمات العربية واللاتينية لأكثر من قرنين من الزمان، و كانت محط تركيز وانجذاب إلى معرفة عقيدة العرب كانت شهرتها كما كانت قبل قرطبة زارها عدد من العلماء والأجانب من بينهم: رئيس دير كلوني راهب ولاهوتي فرنسيي بطرس المبجل أو المكرم الذي سافر بهدف مزدوج لزيارة أديرة كلونياك وادخال التواصل مع خبراء اللغة العربية من شأنه تسهيل الوصول إلى النص اصل القران الكريم والاعمال مكتوبة عن النبي محمد (ص) وفي عام 1143 ترجم بيدرو دي طليطة أو بطرس المبجل القرآن بعد ان شكّل بطرس فريق ترجمة من الرهبان لنقل الأعمال من العربية إلى اللاتينية، من أهم ما ترجمه هذا الفريق  القران  الكريم وتعد هذه أول ترجمة غربية للقرآن.الكريم

ماهو نظام الترجمة الذي كان يستخدم؟

ترجم البيزنطيون نصوصاً يونانية باللهجة السيريانية الآرامية، وقام العرب على طوال القرنين السابع والعاشر بترجمة النصوص إلى العربية، أذ إنّ العربية حلّت محل اليونانية والسيريانية والفارسية فكان التحدث بها في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية كانت القراءة والكتابة باللغة العربية حتى أعمال علماء الفرس كعالم الرياضيات المشهور وعالم الفلك والمؤرخ والمترجم البيروني والفيلسوف والعالم ابن سينا كانت أعماله مكتوبة باللغة العربية.

كما ترجم المستعربون الأعمال الى اللغة المستعربة( وهي اللغة الروماسية التي خالطتها الكثير من الكلمات العربية)، واذا كان المستعربون يتكلمون الاسبانية والعربية فضلاً عن معرفة اليهود باللغة العربية جيداً.

بعد سنوات،وفي اثناء الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، شجّع الملك ألفونسو العاشر الحكيم على النشاط الثقافي للترجمه بشكل مكثّف.و وصلت طُلَيْطِلَة إلى واحدة من أعظم مراحل الابداع، لتصبح عاصمة الثقافة الأوروبية، استغنى ألفونسو العاشر عن النسخة اللاتينية المترجمة وترك الإصدارات المباشرة إلى الأسبانية أثناء حكمه ظهر ما يسمى بمدرسة المترجمون طُلَيْطِلَة وصار لطليطة سمعة كبيرة ووصلت جميع الترجمات العربية المنجزة في الحقبة الملكية الى شهرة في الأدب الغربي في وقت قصير.

ماهي المادة المترجمة التي كانت الاسرع انتشار في تلك الحقبة؟

كانت المادة الاسرع انتشاراً الى مدرسة المترجمين، والتي أعطت دفعة قوية للعلوم التجريبية، وكانت المساهمة مهمة بشكل خاص في علم الفلك، والرياضيات، وعلم التنجيم ومفاهيم الطب وعمليا قابلة للتبديل في ذلك الوقت  استمد العرب  العلوم من مصدرين من اليونان والهند إذ تطورّ الجبر وعلم الهندسة وحدث في وقت واحد تقريبًا مع وصول علماء الرياضيات العرب اللامعين، فلا يمكننا نسيان الخوارزمي الذي ولد في القرن التاسع في بغداد لكنه كان من أصل فارسي كان شخصية قيادية لعلماء الرياضيات العرب في عصره، كتب الى الخليفة العباسي المأمون كتاباً مشهوراً مثل كتاب الرياضيات فهو من أكبر العقول العلمية المؤثرةً الاسلامية في التفكير الرياضي أكثر من أي كاتب آخر من العصور الوسطى في عمله الحسابي للخوارزمية وهو أولا من استعمل الأرقام في اللغة العربية الارقام الهندية ومازالت موجودة في ترجمته اللاتينيه  الى جانب  هذه الارقام التسعة استخدم  الرقم الصفر وكلمة صفر تاتي من لاتنة اللغة العربية والتي كانت بنفس الوقت ترجمة من الهندية لكلمة شنيا يعني فارغ بتحديد خالي من كل شئ

أمر الخليفة العباسي المأمون بترجمة الأعمال الرئيسية الفرسية والهندية واليونانية إلى اللغة العربية في بيت حكمة بغداد في القرن التاسع ، فيما يتعلق بطُلَيْطِلَة  علينا أن نتذكر الزرقالي الشهير سمي بذلك لأن أصل اسمه اللاتيني «أرزاشيل» من الكلمة العربية الزرقالي أي النقّاش، كان azarquiel  واحدًا من أكثر علماء الفلك العرب المشهورين عاش في مدينة طُلَيْطِلَة تقريبًا من عام 1061 إلى 1080 وفي هذه المدينة طور جزءًا كبيرًا من عمله من بين أمور أخرى يتم تذكرها، أذ اخترع الأسطرلاب الذي يسمح بإجراء الحساب والملاحظات الفلكية من أي خط عرض ترجم جيراردو الكريموني أعماله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وأشار إلى الزرقالي بوصفه عالم فلك وساحراً.تُرجمت هذه الأعمال إلى اللغة الإسبانية في القرن الثالث عشر بأمر من الملك ألفونسو العاشر في قسم من سلسلة كتب معرفة علم الفلك بعنوان «كتب صفائح الكواكب السبعة». اخترع أيضًا نوعًا مثاليًا من الأسطرلابات المعروفة باسم لوح الزرقالي (الصفيحة الزرقالية)، والذي اشتهر في أوروبا تحت اسم صفيحة الاسطرلابات هذا ولا يمكننا نسيانه كما لاينسى ذكر مجال الطب، لأن نصوصاً عدة ترجمت في طُلَيْطِلَة، وكان ذلك بمثابة كتباً تعليمية التي تعلّم بها و درب الأطباء الأوروبيون في اثناء العصور الوسطى على سبيل المثال في القرن الثالث عشر أعمال الطبيب والجراح والفيلسوف الاغريقي الى الإمبراطورية الرومانية جالينوس هيمنت آراؤه على الطب

الأوروبي طوال ألف سنة في مجال علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأدوية وعلم الأعصاب، أيضًا في الأدب كان هناك دعم كبير، لا أعتقد أنه في الجزء العلمي الذي أشرنا إليه باختصار ، لكن لا يسعنا إلا أن نتذكر أنه من مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة، نقلت الفلسفة العربية إلى أوروبا ، ولاسيما أعمال هؤلاء الفلاسفة المشهورين في القرن الحادي عشر أرسطو والذي يعرفه الجميع بلا شك أنه كان له تأثير كبير على ألبيرتوس، ماغنوس والقديس توماس في المجال الادبي كانت ترجمة القصص القصيرة والخرافة الاخلاقية الشرقية لها تأثير كبير على السرد الأوروبي نتذكر ترجمة كليلة ودمنة وهي مجموعة من القصص ذات طابع تعليمي ذي أصل هندوسي أمر الملك ألفونسو العاشر بترجمة نسخته العربية الى اكثر من 40 لغة آسيوية وأوروبية، وشارك في الترجمة كبار العلماء والمترجمين الرئيسين لمدرسة مترجمين طُلَيْطِلَة

أما من بين أهم المترجمين المتميزين في مدرسة طُلَيْطِلَة التي الذين مارسوا أنشطتهم في الترجمة بدعم من رئيس أساقفة طُلَيْطِلَة دون ريموندو الذي شكل الصوت العربي

دومينجو جونديسالبو من مدينة طُلَيْطِلَة ومعاونه يوحنا الإشبيلي ولا يمكننا أن ننسى جيرمان الألماني الذي توفي كأسقف أستورجا عام 1272، وأيضاً اللاسكتلندي ميغيل إسكوتو كان في أوائل القرن الثالث عشر شخصية بارزة وخبير اً في السحر الأسود ومنجمًا رسميًا في محكمة باليرمو مع الإمبراطور فريدريك الثاني وعدداً مهماً من المتعاونين اليهود الذين اعتمدهم ألفونسو ديسيمو في ترجماته

أود أن أقول بإيجاز أن اللغة العربية، فضلاً عن أنها وسيلة للتعبير عن الثقافة الإسلامية ونقلها كان بطريقة خاصة من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر ، إذ استمر الجسر الثقافي بين الشرق والغرب في طُلَيْطِلَة لأغراض علمية وطلَيْطِلَة كمدينة شرقية صحيح كانت مسيحية، فنحن نتحدث بالفعل عن طليطة يحكمها ملوك مسيحيون ولكن طُلَيْطِلَة مسيحية مستشرقة كما قال اسحاق نيوتن، فقد قطعنا مسافة بعيدة لأننا كنا نركب على الأكتاف "العمالقة" عبارة مهمة للغاية وذات عمق كبير وأعتقد أن مدرسة طُلَيْطِلَة للمترجمين أسهمت بشكل كبير في ذلك فالوقوف على أكتاف العمالقة هو استعارة تعني "استخدام الفهم الذي اكتسبه كبار المفكرين الذين أتوا من قبل لإحراز تقدم فكري".

***

أ.م.د. انتظار علي جبر

قسم اللغة الاسبانية

بقلم: كلي رازن

ترجمة بتصرف: علي حمدان

***

انطونيو نياغرا (Antonio Negri) فيلسوف إيطالي كتاباته ونشاطاته الداعية الى ثورة عمالية جديدة، أدت  الى سجنه في عام ,1979 وبعد عقدين من ذلك اصبح مفكرا عالميا مشهورا عندما اصدر كتابه "الإمبراطورية"، لقد تم الترحيب بالكتاب باعتباره البيان الشيوعي الجديد، توفى يوم السبت 22 ديسمبر، ,2023عن عمر يناهز 90 عاما.

خلال مسيرته المهنية، كان السيد نياغري من بين المفكرين الاكاديميين القلائل الذين استطاعوا بموهبتهم وجاذبيتهم لجعل أفكارهم متاحة للجمهور الواسع.

كشخصية بارزة في حركة Potere Operio سلطة العمال في ستينات وسبعينات القرن الماضي، الهم اتباعه ليس فقط بمقالاته القوية ولكن أيضا باستعداده للخروج الى الشوارع والمصانع في مدن شمال إيطاليا، وتنظيم العمال والدعوة الى الثورة.

"الإمبراطورية" (2000) الذي تم تأليفه مع مايكل هاردت، أستاذ الادب في جامعة دوك Duke، فعل شيئا مماثلا لجيل جديد من اليسار، حيث قدم ما وجده الكثيرون تفسيرا ماركسيا مقنعا للعولمة بعد الحرب الباردة.

على رغم اللغة الاكاديمية الكثيفة واكثر من ما يقرب من 500 صفحة ، الا انه حقق نجاحا فوريا، وقد تم ترجمة الكتاب الى اثنى عشرة لغة، وتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعا في صحيفة واشنطن بوست وغيرها من الصحف. وضمن للسيد نياغري مكانا دائما بين المثقفين التقدميين العالميين، بصحبة شخصيات مثل نعوم شومسكي وسلافوي جيجيك.

برز السيد نياغري كشخصية فكرية بارزة في إيطاليا في اواخر ستينات القرن الماضي، عندما كان أستاذا للفلسفة في جامعة بادوفا. كان جيل ما بعد الحرب قد بلغ سن الرشد، وكان الكثيرون في اليسار يبحثون عن إجابات جديدة تتجاوز الاشتراكية التقليدية وشيوعية ابائهم.

نياغري لم يكتف بالبقاء في الفصل الدراسي، فقد ساعد في تنظيم Potere Operaio، وهي حركة تجاوزت ايديولوجيتها سياسات العمل الشيوعية التقليدية، للدعوة الى انهاء العمل المأجور نفسه.

" كنا نقف امام المصانع في الساعة 5 صباحا" قال في مقابلة مع "أنطونيو نياغري: ثورة لا تنتهي" وهو فيلم وثائقي عام 2004 عن حياته المهنية، من اخراج اندرياس بليشلر والكسندرا ويلتز، بعد ذلك كنت استقل السيارة الى بادوفا، واربط ربطة عنقي واعيش حياتي الاكاديمية".

اكتسبت الحركة عنفوانها في عام  1969، عندما انفجرت سلسلة من الاضرابات العنيفة في بعض المصانع في المدن الصناعية مثل تورينو، وكذلك معارك شوارع في روما وميلانو، لقد ايد السيد نياغري كل تلك الاحداث متحدثا عن "افق ثوري" وشيك وخاصة بتضامن مجموعات مثل مجموعته مع الحركات الاجتماعية الأخرى، مثل الحركة النسوية، لإحداث تغيير جذري.

قاومت الحكومة الإيطالية، في بعض الأحيان بالتحالف مع المنظمات الفاشية الجديدة،  مما أدى الى اندلاع حرب شبه أهلية استمرت عقدا من الزمان والمعروفة في إيطاليا باسم سنوات الرصاص. وقامت الشرطة بقمع المتظاهرين وضربهم واعتقالهم، في حين شنت الجماعات شبه العسكرية هجمات تبدو وكان اليسار المتطرف هو المسؤول عنها، بما في ذلك تفجير عام 1969 في ميلانو الذي اسفر عن مقتل 16 شخصا. استمر عنف اليسار الذي لم يدينه السيد نياغري ولم يناصره أيضا. في عام 1978، اختطف فصيل منشق الالوية الحمراء، الدو مورو، رئيس الوزراء السابق الذي كان رئيسا للحزب الديمقراطي المسيحي، وبعد ما يقرب من شهرين، تم العثور عليه مقتولا.

اعتقلت الشرطة عشرات النشطاء اليساريين، بمن فيهم نياغري في عام 1979، الذي اقتيد الى سجن شديد الحراسة في روما، اتهم في الأصل بقيادة الالوية الحمراء والمساعدة في تنظيم عملية الاختطاف، واحتجز لمدة اربع سنوات دون محاكمة.

خلال ذلك الوقت عاد الى الكتابة، واصدر عدة مقالات طويلة عن الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، كما بدا في إعادة التفكير في بعض افتراضاته الأساسية حول الماركسية.

في عام 1983، تم انتخابه للبرلمان على قائمة الحزب الراديكالي، وهي نتيجة منحته الحصانة من الملاحقة القضائية. ولكن بعد ان صوت البرلمان على رفع الحصانة، اتهمه المدعون العامون بجريمتي قتل لا علاقة لها بمقتل مورو، وكذلك بكتابة مواد تحريضية. واسقطت التهم المتعلقة تحديدا بقضية مورو لعدم كفاية الأدلة.

فر السيد نياغري الى فرنسا التي رفضت تسليمه. بقى يحاضر في فرنسا واصبح صديقا مع منظرين مثل جيل دولوز وفيليكس غوتاري.

كما التقى بالسيد هاردت الذي كان يعيش وقتها في باريس. اعتقد كلاهما ان نهاية الحرب الباردة دعت الى اطار ماركسي جديد للتحليل، اطار يفسر ما اعتبراه ضعف الدولة القومية في مواجهة راس المال العالمي. كانت اطروحتهم هو ما اسموه "الإمبراطورية"، ليس كيانا او مكانا واحدا، بل شكلا سائلا وخاضعا للرقابة من هياكل السلطة التي تتحرك بسهولة بين الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي.

الإمبراطورية، كما كتبا في كتابهم الذي يحمل نفس العنوان، ليس ببساطة نتاج للقهر الرأسمالي انما في الواقع هو البنية التي يتمثل فيها القهر الرأسمالي، والتي أيضا تنبثق فيها اشكال جديدة من المقاومة. وكتبا " تخلق الإمبراطورية إمكانات اكبر للثورة مما فعلت أنظمة السلطة الحديثة، لأنها تقدم لنا، الى جانب  القيادة،  مجموعة من تحالف جميع المستغلين والمقهورين، جمهور يعارض الإمبراطورية بشكل مباشر، دون وساطة بينهما. 

السيد نياغري عاد الى إيطاليا في عام 1997 معتقدا انه سيحصل على البراءة ، وعوضا عن ذلك تم سجنه،  بالتعاون مع السيد هاردت انهى الكتاب وهو في السجن عام 2000. اصدار "الإمبراطورية" كان في الوقت المناسب حيت كانت تعم الاحتجاجات والمظاهرات في انحاء العالم ضد صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية  ومجموعة  السبع الصناعية. في وقت ما على ما يبدو، كان لدى أي طالب دراسات عليا يحترم نفسه في العلوم الانسانية   نسخة من "الامبراطورية " حاضرة على الرف بصحبة "راس المال" لكارل ماركس وكتب جوديث بتلر.

"ما قام به هاردت ونياغري ليس اكثر من إعادة كتابة  للبيان الشيوعي ليتماشى مع عصرنا الحاضر" ذلك ما كتبه السيد جيجيك في مراجعة للكتاب.

تم اطلاق سراح السيد نياغري من السجن عام 2003، استمر هو والسيد هاردت في كتابة جزأين ل" الإمبراطورية" – "التعددية: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية" ( 2004) و"الكومنولث" (2009). وكلا الكتابين محاولة لتحديد وسائل المقاومة ضد راس المال المعولم. لم يكن السيد نياغري دون نقد حتى من قبل اليسا، حيث زعم البعض انه و السيد هاردت قللا من الأهمية المستمرة للدولة القومية، على سبيل المثال في الحرب الروسية الأوكرانية او التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

لكن أنصاره يقولون ان عمله يمكن ان ينظر اليه أيضا على انه جزء من فهم متطور لتعقيدات مجتمع القرن الحادي والعشرين، حيث تتمتع كل من الشركات والحكومات بالقدرة على تغيير الجغرافيا السياسية. في حين ان الحركات الشعبية العالمية يمكن ان تظهر بين عشية وضحاها وتغير العالم.

***

..........................

Clay Risen

New York Times

Dec, 22, 2023

يقف الشاعر بدر شاكر السياب في مقدمة مجددي القصيدة العربية الحديثة، وهو المثقف الذي كان جزءاً من نسيج الثقافة العراقية، وكان من الأشخاص القريبين من السياب الكاتب محمود العبطة، وهو أول من كتب عنه بكتاب تحت عنوان (بدر شاكر السياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق) الصادر عام 1965 عن مطبعة المعارف في بغداد. ويقول عن السياب في ص16-17 من كتابه: (في السنين الأخيرة نشر مقالات ظالمة وقصائد تزلف في صحف بغداد، وكما توظف محرراً في مجلة حكومية في البصرة، وسافر إلى روما وألقى محاضرة عن الشعر في العراق، أنزلته من عيون الناس، واتصل ونشر في مجلة حوار المشبوهة، إن هذه المواقف نقاط سوداء في صفحته).

ثم كتب السياب مقالاته (كنت شيوعياً)، لينشر من خلالها تجربته مع الحزب الشيوعي العراقي ويسمي شخصاً كان مسؤوله (الرفيق رائد)، والكتاب عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة الحرية عام 1959م، تحتوي على أربعين مقالة على شكل حلقات أسبوعية، وقد صَبّ جام غضبه على كل شيوعي في العالم وكل حزب يحمل هذا الاسم وأفكاره، ففجر في خصومته معهم لينسب صورة قاتمة وبشعة لهذا الحزب آنذاك في طريقته وأسلوبه ومعاملاته، حيث إن عين سخطه ابداها، وجعل كل مساوئ الدنيا في هذا الحزب وأفراده، ثم تحدث عن اتصاله بالأحزاب الشيوعية الأخرى خارج العراق كحزب تودة الشيوعي الإيراني، فعندما اختلف مع رفاق الأمس قلب ظهر المِجنّ لهم ولم يسعفه الوقت حتى كان يحلم بانهياره انهياراً تامّاً.

مع كل ما ذكرناه اعلاه إلا أنه استقبل الشهرة من خلال قصائده الأولى، ومن ثم ظهرت تناقضاته في حدتهّا، ففي أيامه الأخير قد أساء كثيراً، وخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963م، التي كتبها وهو بالمستشفى في لندن ومنها:

لولاه ما عاد الشيوعي حاكماً

كما شاء أو كان الشيوعي ينحر

*

لك الحمد إذ رويت بالثأر أرضنا

فسرنا على الدرب الذي كاد يطمر

وقصيدته إلى العراق الثائر:

والله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار

طلع النهار فلا غروب

*

يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب

أخذت من العملاء ثأرك كفّ شعبي حين ثار

*

فهو إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب

*

كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود.

فكان يؤكد على الثأر من رفاق الأمس بعد انقلاب شباط 1963م، وقادة الانقلاب سائرون نحو ذبح حلفاء الأمس، وينادي السياب باسم حفصة، وهي اشارة واضحة إلى الطائفية والعروبية بعينها، للثأر من الزعيم. فيقدم السياب افراط في الاساءة المبالغ بها، فكان عنيفاً متناقضاَ مقصوداً وواعياً، لذا تجد كلمة الثأر والتشفي والتلويح بالانتقام مفردات ألفهما سياق القصيدة، فضلاً عن التشهير برفاق الأمس.

يذكر السياب في كتابه (كنت شيوعياً-ص27) قائلاً: (إننا نحمّل رجال العهد البائد مسؤولية تلك الجريمة التي ارتكبوها بحق الشاعر معروف الرصافي حين حاربوه في رزقه، لأنه كان ضد الملك والبلاط، وها أنذا اليوم شاعراً لا يقل عن الرصافي شاعرية، ووطنياً مخلصاً وديمقراطياً صميماً أُحارب في رزقي، في عهد الزعيم الفذ عبد الكريم قاسم، لا لأني ضد الجمهورية بل لمجرد أنني أحب عبد الكريم أكثر مما أحب خروشوف أو ماركس أو لينين، وأحب العراق أكثر مما أحب الاتحاد السوفيتي، وأحب الشعب العربي العظيم أكثر مما أحب الشعب السوفيتي أو سواه من الشعوب). مع هذا أجد السياب بوضعه المادي ومرضه، ووضع العراق في صراعات القوميين والشيوعيين، لما كان اختلافه مع رفاق الأمس. وفعلاً (بعد مراوغة وإلحاح اقتنع بنصيحة أخيه أن يقابل أحد المسؤولين في الحزب، لكن هذه المقابلة لم تثمر بإعادته للوظيفة). كنت شيوعياً، ص66.

كانت أحد اسباب ثائرة التوتر بين السياب والحزب الشيوعي العراقي حينما طبع الحزب الشيوعي ديوانين للبياتي في مجلة الحزب آنذاك (أباريق مهمشة، أشعار في المنفى)، وتعتذر عن طباعة كراس لقصيدته (المومس العمياء) في وقت سابق، هو ما ذكره السياب في كتابه (كنت شيوعياً ص122، 136-137) قائلاً: (يذكر البياتي وقد يكون لصعود نجم الأخير أثر في التوتر، وتبني الشيوعيين الاحتفاء به هذا في غياب السياب، وسيتكرر ذكر البياتي حتى ليبدو جزءاً مهماً من معركته، أو هو لصيق باحتفائهم به). ويعلق في ص20 من كتابه ليقلل من شاعرية البياتي قائلاً: (ولاحظت آنذاك أن بعض المتشاعرين التافهين من أمثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك نظراً لخلو الميدان لهم). من خلال كلامه اعلاه أجد أن السياب يبدو ساذجاً، وكأن حكر الثقافة والشعر عليه دون سواه. فبدأت معركة السياب الحقيقية مع الشيوعيين منذ ذلك الحين، فأرخها في مقالاته في صحيفة الحرية، فيذكر في كتابه كنت شيوعياً ص25: (ثم روج الشيوعيون عني بأنني بعثي، وروج آخرون إشاعة تزعم أنني لست قومياً عربياً وإنما قومي سوري). فكانت صحة السياب على اشدها وكانت مواقفه تزداد تطرفاً، فضلاً عن موقف مجازر الإنقلابيين الغير إنسانية قد زادت من حجم الكارثة والخلافات، واستنتج مما مر به السياب أنه لم يكن بريئاً، كما لم تكن الجهة المقابلة التي ناصبها العداء اقل عدوانية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

بقلم: أندرو ستير

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

قد تبدو المدن الكبيرة ضارة بالصحة العقلية، لكن مقارنة معدلات الاكتئاب تشير إلى أن المدن الأكبر هي الأفضل.

المدن هي معاقل الفرص. فهي مليئة بأعداد كبيرة من الأشخاص الذين يتجمعون مع الأصدقاء والعائلة، ويزورون المطاعم والمتاحف وأماكن الحفلات الموسيقية والأحداث الرياضية، ويسافرون من وإلى العمل. ومع ذلك، فإن العديد منا الذين يعيشون في المدن قد أرهقهم هذا النشاط في بعض الأحيان. وفي أوقات أخرى، قد نشعر "بالوحدة وسط الزحام". على مدى عقود من الزمن، دفعت التجارب المتضاربة للحياة في المدن سكان المدن والعلماء إلى التساؤل: هل المدن سيئة للصحة العقلية؟

كانت الحكمة التقليدية والإجابة العلمية لأكثر من نصف قرن هي "نعم". وتتزايد أهمية هذا السؤال مع تقدم التوسع الحضري العالمي: فبحلول عام 2050، سيعيش حوالي ثلثي سكان العالم في المدن. يبدو أن المدن الكبرى، التي تحتوي على المزيد مما يجعل المدينة مدينة، سيئة بشكل خاص للصحة العقلية. يستحضر التفسير النموذجي عوامل مثل الضوضاء والجريمة والتفاعلات الاجتماعية القصيرة القاسية (فكر في سمعة مدينة نيويورك بالوقاحة) ليقول إن المدن الكبرى تخلق أعباء حسية واجتماعية يتعين على سكان المدن مواجهتها نفسيًا باستمرار. في حين يبدو أن هذا التفسير مدعوم ببعض الأدلة التي تشير إلى أن المناطق الريفية، بشكل عام، قد تكون معدلات الاكتئاب لديها أقل من المدن، إلا أن هناك أدلة قليلة على أن هذه العوامل المحددة تسبب ارتفاع معدلات الاكتئاب في المدن، ولا يوجد بحث في كيفية مقارنة المدن الكبرى بالمدن الصغرى .

وكما تبين، فإن العلاقة بين المدن والصحة العقلية أكثر تعقيدا مما توحي به التفسيرات التقليدية. أظهرت دراسة أجريتها مؤخراً مع زملائي في جامعة شيكاغو أن المدن الكبرى في الولايات المتحدة تعاني بالفعل من معدلات اكتئاب أقل بكثير من المدن الصغرى. قام فريقنا بفحص معدلات الاكتئاب التي حسبتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ومعدلات الاكتئاب الأخرى من إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة العقلية، ومعدلات أخرى قمنا بتقديرها باستخدام منشورات تويتر المحددة جغرافيًا وخوارزمية التعلم الآلي. على الرغم من حقيقة أنه تم استخدام أساليب مختلفة لتقييم معدلات الاكتئاب ــ بعضها كان يستند إلى معايير سريرية، وأحدها يتضمن استطلاعات عبر الهاتف، وما إلى ذلك ــ وكان كل مصدر يتضمن مجموعات مختلفة (وإن كانت متداخلة) من مدن الولايات المتحدة، فقد وجدنا نتيجة متسقة. وعلى وجه التحديد، ارتبط تضاعف عدد سكان المدينة بانخفاض بنسبة 12% في معدلات الاكتئاب، في المتوسط.

يبدو أن انخفاض معدلات الاكتئاب في المدن الكبرى هو نتيجة للطريقة التي يتم بها بناء المدن ويمكن تفسيرها من خلال رؤية علمية جديدة للمدن تسمى نظرية التوسع الحضري. لقد ساعدتنا نظرية التوسع الحضري على فهم السبب وراء شيوع بعض التجارب بين جميع سكان المدن، كما أنها تزودنا بوجهات نظر جديدة حول كيفية تأثير هذه التجارب الجماعية على الابتكار والجريمة والإنتاجية الاقتصادية، والآن الصحة العقلية.

بالنسبة لي، أصبح صخب الحياة في المدن الكبرى بارزًا بشكل خاص عندما سافرت لأول مرة من مسقط رأسي في مدينة نيويورك إلى شيكاغو للدراسة الجامعية. عندما نزلت من الطائرة، بدا أن الوتيرة الأبطأ والهدوء في الغرب الأوسط في شيكاغو مخيمين  في الهواء. وجدت نفسي أبطئ على الفور وأتأقلم مع نمط الحياة الأكثر استرخاءً إلى حد ما في منطقة حضرية يبلغ عدد سكانها 9.6 مليون نسمة (مقارنة بمنطقة مترو نيويورك التي يبلغ عدد سكانها 20.1 مليون نسمة).

كانت هذه التجربة، على الأرجح، بسبب استيعابي لحقيقة أن وتيرة الحياة أسرع في المدن الكبرى، وهي حقيقة تم التنبؤ بها كميًا وبشكل دقيق  من خلال نظرية التوسع الحضري.على وجه الخصوص، فإن المدينة التي يبلغ عدد سكانها ضعف عدد سكان مدينة أخرى سيكون لديها وتيرة حياة أسرع بنسبة 12 في المائة تقريبًا (نفس النسبة التي تنخفض بها معدلات الاكتئاب). ماذا يعني هذا بشكل ملموس؟ تظهر الأبحاث أن الناس يمشون بشكل أسرع في المدن الكبرى. يميل الأشخاص في المدن التي يبلغ عدد سكانها حوالي 10000 نسمة إلى المشي بسرعة 3.5 كيلومتر في الساعة، بينما يميل الأشخاص في المدن التي يبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة إلى المشي بسرعة 5.8 كيلومتر في الساعة، أي ما يقرب من الركض.

بالإضافة إلى سرعة المشي، وجدت الدراسات أدلة على أن الاختراعات وتنوع الوظائف والتفاعلات الاجتماعية وتنوع المطاعم والجريمة تزداد أيضًا في المدن الكبرى، وذلك وفقًا لقاعدة 12 بالمائة أيضًا. وهناك بعض التباين بين المدن، ولكن متوسط الزيادة يبلغ 12 في المائة لكل تضاعف عدد السكانوتظهر هذه الدراسات أن المدن، بشكل عام، تعزز قدرًا أكبر من التفاعل الاجتماعي (الإيجابي والسلبي)، والتنوع، والثقافة، وتوليد الأفكار. تتلخص هذه المبادئ في قاعدة الـ 12% (وبعض القواعد الأخرى) ويبدو أنها تنطبق عبر الثقافات وعلى مر الزمن، حيث يعود تاريخها إلى عام 1150 قبل الميلاد.

كيف يمكن أن نتمكن من إجراء مثل هذه التنبؤات الدقيقة في ضوء جميع العوامل التي تجعل كل مدينة وحي فريدًا من نوعه؟ نظرية التوسع الحضري في جوهرها عبارة عن مجموعة من النماذج الرياضية التي تشرح كيفية تنظيم المدن. هذه النماذج، إذا استعرنا عبارة من أفلاطون، "توحد في فكرة واحدة التفاصيل المتناثرة" للحياة في المدينة الحديثة وتشرح وتضع سياقًا لبعض التجارب التي يعيشها سكان المدينة كل يوم. إحدى الأفكار الرئيسية هي أن التخطيطات المادية للمدن تتبع قواعد بسيطة. تمتلك المدن شبكات بنية تحتية متعددة الطبقات ــ تتكون من خطوط الكهرباء، والشوارع، وخطوط السكك الحديدية، وما إلى ذلك ــ مع تفرع مكونات أكبر إلى مكونات أصغر تخدم مجموعات أصغر من الناس. وبهذا المعنى، فإن شبكات البنية التحتية للمدن تشبه شبكة الدورة الدموية البشرية المكونة من الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية المتفرعة، وأنماط الأشجار المتفرعة. إضافة إلى ذلك، فإن حركة الناس شبه العشوائية عبر المدن مقيدة بشبكات البنية التحتية هذه. وهذا يعني أنه يمكننا استعارة بعض الأدوات الرياضية من الفيزياء لبناء معادلات تصف كيفية تنقل الناس عبر المدن.

ومع بعض الاعتبارات الإضافية، تتساءل معادلات نظرية التوسع الحضري عما يحدث عندما نوازن بين التكاليف والفوائد المرتبطة بحركة الأفراد والسلع والمعلومات عبر شبكات البنية التحتية للمدن. في حين أن الرياضيات معقدة، فإن النتائج هي علاقات بسيطة بين حجم سكان المدينة ومجموعة متنوعة من المقاييس الحضرية. ومن هنا توقع زيادة بنسبة 12% في المقاييس الاجتماعية مثل الجريمة والابتكار مع مضاعفة حجم المدينة: وهذا نتيجة لكيفية بناء أنظمة البنية التحتية للمدن وتسهيل تفاعل الأشخاص الذين يسافرون عبرها.

وفيما يتعلق بالاكتئاب، فإن الفكرة الأكثر أهمية هي أن المدن الكبرى تسهل المزيد من التفاعل الاجتماعي. ونعم، هذا يتبع أيضًا قاعدة الـ 12 بالمائة. ولتوضيح ذلك في بعض الأرقام الافتراضية، إذا كان عدد سكان مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة لديهم متوسط 43 تفاعلًا اجتماعيًا داخل نفس المدينة، فمن المتوقع أن يكون لدى سكان مدينة يبلغ عدد سكانها 10 ملايين متوسط 63 تفاعلًا اجتماعيًا. لماذا هذا مهم للاكتئاب؟ منذ حوالي 10 سنوات، عرفنا أن عدد الاتصالات الاجتماعية التي يتمتع بها الأشخاص يرتبط ارتباطًا وثيقًا بخطر الإصابة بالاكتئاب: فكلما زاد عدد الأشخاص الذين تتفاعل معهم، انخفض خطر الإصابة بأعراض الاكتئاب. ولهذا فمن المنطقي أننا وجدنا أن معدلات الاكتئاب أقل في المدن الكبرى، وأن هذا الانخفاض في معدلات الاكتئاب يتبع قاعدة الـ 12%.

هذه الملاحظة لها آثار عميقة على كيفية تفكيرنا في الاكتئاب. وفي سياق الوباء العالمي المستمر، تجدر الإشارة إلى أن الاكتئاب داخل المدن يمكن فهمه جزئيا على أنه ظاهرة بيئية جماعية. لا شك أن العوامل الفردية مهمة في تجربة أي شخص مع الاكتئاب، ولكن الأمر كذلك بالنسبة للشبكة الاجتماعية الأوسع التي يندمج فيها الأشخاص. لسوء الحظ، ما زلنا لا نفهم بشكل كامل الديناميكيات الدقيقة التي تربط التفاعلات الاجتماعية بالاكتئاب. ومع ذلك، يشير بحثي إلى أن تأثير التفاعلات الاجتماعية تراكمي: قد تكون الصداقات والعلاقات الأسرية الوثيقة والداعمة أكثر أهمية من التفاعلات العابرة مع الغرباء، ولكن من المحتمل أن يكون هناك المزيد من الاثنين (وكل نوع آخر من التفاعل الاجتماعي). في المدن الكبرى.

والأهم من ذلك، أن البيئة المادية للمدينة (الطرق وخطوط القطارات والحافلات والأرصفة وممرات الدراجات) تشكل هذه الشبكات الاجتماعية. وعلى وجه التحديد، على مستوى المدن بأكملها، تعمل البنية التحتية على تسهيل توصيل السلع والخدمات والمعلومات، مما يساعد على دعم جميع الفرص التي توفرها المدن. وفي الوقت نفسه، تسمح شبكات البنية التحتية هذه للناس بالتنقل في جميع أنحاء المدينة للوصول إلى هذه الفرص، ونتيجة لذلك، تسهل أيضًا الفرص المتاحة لمزيد من التنوع وعدد أكبر من التفاعلات الاجتماعية.

بهذا المعنى، صحيح أن طابع المدينة، والتأثير الجماعي لسكانها، يخيم في الهواء، جاهزًا للتأثير على من هو قريب ليتنفسه.

ويأخذ هذا التشبيه معنى أكثر واقعية فيما يتعلق بكوفيد-19 ــ والذي ليس من المستغرب (نظرا لأن الاتصال الاجتماعي يسهل انتقال العدوى عبر الهواء)، أن يتبع نفس قاعدة الـ 12% في السرعة التي ينتشر بها عبر المدن. وكما هو الحال مع الأمراض المعدية مثل كوفيد-19، هناك مبرر قوي لإجراء قياسات محلية متكررة لمعدلات الاكتئاب. يبدو أن الاضطرابات الاكتئابية منتشرة بشكل متزايد، وهي منهكة للغاية، وتكلف الاقتصاد العالمي مليارات الدولارات كل عام من الإنتاج الاقتصادي المفقود. أظن أن مثل هذا الجهد لتتبع الاكتئاب سيكشف عن طرق أفضل لتوزيع إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية العقلية على المجتمعات التي هي في أمس الحاجة إليها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يمهد التتبع المحلي المتكرر الطريق لفهم أفضل لحالات الصحة العقلية الأخرى. بعض هذه الحالات، مثل القلق، تكون مصاحبة بشدة للاكتئاب وربما تتبع أنماطًا مماثلة. وقد تظهر حالات أخرى، مثل الفصام أو التوحد، أنماطًا مختلفة عبر مدن ذات أحجام مختلفة.  يمكن أن يساعدنا هذا التتبع أيضًا في فهم سبب انخفاض معدلات الاكتئاب في بعض المناطق الريفية، على الرغم من أن الشبكات الاجتماعية أصغر بشكل عام. ربما في المناطق الريفية، تعوض التفاعلات الاجتماعية عالية الجودة النقص في الكمية، بينما في المدن الكبرى تعوض الكمية عن انخفاض الجودة؟

تتمتع المدن تاريخياً بسمعة سيئة فيما يتعلق بالصحة العقلية والجسدية. ومع ذلك، في عالم سريع التحضر، يمكن أن يكون للتواصل الاجتماعي العالي في المدن الكبرى تأثيرات إيجابية على الصحة العقلية لسكان المدن. وفي حين أن التواصل الاجتماعي المتزايد يجعل احتواء الأوبئة مثل كوفيد-19 أكثر صعوبة، فإنه يؤدي أيضا إلى فرص اقتصادية أكبر، والمزيد من الابتكار السياسي والتكنولوجي، وعلى ما يبدو، انخفاض معدلات الاكتئاب. ومع تزايد عدد الأشخاص الذين يعيشون في المدن كل عام، فمن المهم أن ندرك ونقيس ونستوعب كيف تؤثر الأماكن المادية التي نسكنها - والأشخاص الذين نشاركهم تلك المساحات - على رفاهيتنا بطرق ربما لا نتوقعها.

***

.............................

الكاتب: أندرو ستير / Andrew Stier. طالب دكتوراه في علم الأعصاب التكاملي في جامعة شيكاغو. تركز أبحاثه على الفهم المنهجي لمحتوى الفكر والصحة العقلية في المدن.

مقتطفات:

تشبه شبكات البنية التحتية للمدن نظام الدورة الدموية للإنسان، وأنماط الأشجار المتفرعة

إن طابع المدينة، والتأثير الجماعي لسكانها، يخيم علي الهواء

رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/why-life-is-faster-but-depression-is-lower-in-bigger-cities

في المثقف اليوم