قضايا

طوال كل العصور التي عاشتها بلاد وادي الرافدين؛ ماضيها وحاضرها لم يشهد العراق تردّيا في آدابه وفنونه كالتي نراها اليوم ؛ فحتى العصور المتأخرة التي سميت بالفترة المظلمة التي تلت اواخر العصر العباسي وتعاقب دويلات الاعاجم والقبائل غير العربية الغازية التي حكمت بلادنا الى ما قبل العصر الحديث لم تكن بالمستوى المتدني الذي نلحظه الان حيث ظهرت في تلك الفترة السالفة بعض علاماتٍ مضيئة وإشارات ابداعية ضمن ذاك الخضم الهائل من الغثّ في النتاج الادبي والفني .

ففي بلدٍ عريق موغل في القدم مثل وادي الرافدين والذي انجب ملحمة كلكامش والاناشيد السومرية وولدت فيه أقدم مكتبة في ربوع آشور وأكّـد وهي الآثار الادبية الخالدة الذي علّمت العالم القديم أصول الرقيّ في التفكير واستهدى الاغريق والرومان بنتاجه الثرّ الواسع الافق وخطَت الإلياذة والاوديسا خطى ملحمة كلكامش ، وفي ثراه الغنيّ ولدت الكتابة المسمارية في معابده وصروحه فمن الصعب جدا ان نصدّق ان يؤول حال الثقافة الواهن والضعف والهزال الذي اصاب عقل الانسان العراقي وريث بابل وسومر وآشور وأكّد ويحزّ في النفس ان يغرق الكثير من العراقيين في مستنقعات الجهل وهشاشة الفكر وتزداد الاميّة بهذه النسبة المخيفة وينحدر التعليم الى مستويات مفزعة تثير الأسى .

ومثلما يتدهور الوضع السياسي وهو الانعكاس الدقيق للوضع الثقافي العراقي فهناك شرائح سياسية من غلاة الدين التي تحكم الان مؤسساتنا الثقافية لا تريد ان يرقى الفن الى مدارج عالية باعتباره "حراما" ويظنون بخطلٍ واضح ان السينما مبعث للفساد الاخلاقي وان المسرح يلهي الانسان عن ممارسة عباداته بحيث ينسى المرء خالقه ويلهو بسحر الفن ويضيع في متاهات ابداعه وكذا الامر في اللوحات التشكيلية باعتبارها خربشات شيطانية تعمي بصر الانسان وتفقده بصيرته وكذا الامر في التماثيل والاعمال النحتية لأن الاعمال النحتية وفق وجهة نظرهم المسطحة الفارغة انها تنافس الله في مخلوقاته وهذه كلها تخرّصات غير سليمة وتنمّ عن جهل فاضح بدور الفن والادب في تغذية عقل الانسان وصقل مشاعره وتطهير روحه من شوائب الجهل وإدراك الجمال والإنصات الى الموسيقى والغناء الراقي لإزالة ما تراكم من كدَر الحياة وابعادها عن المنغصات التي تؤذي الانسان وتجعله حجرا صوانا فيما لو ابتعد عن الفن والادب ومراميه التي تهدف الى خلق المتعة والفائدة والارتقاء بالبشر الى صفاء الإنسانية وسموّها الاخلاقي والثقافة عموما تعمل على توثيق الجمال وتبرز حلاوته وبهجته.

وفي سنوات الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي كانت الحركات التجديدية الثقافية تبدأ من العراق وتنطلق الى بقية العالم العربي كحركة التجديد الذي تزعمها السياب ونازك الملائكة والبياتي في الشعر العربي وولادة الشعر الحرّ وفي نفس الفترة انطلقت ايضا الحركة التجديدية في الفن التشكيلي وكان رائدها جواد ونزار سليم مع بقاء العمود الشعري منتصبا شامخا بيد شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وقبله الرصافي والزهاوي ولو عدنا الى الوراء ايام زهو العراق كان زمام الشعر بيد ابي الطيب المتنبي ابن الكوفة المعطاء ، والبصرة ابنة العراق النجيب أول من ابتكرت علم اوزان الشعر العربي على يد الخليل الفراهيدي . فما الذي تغيّر ونحن نرى اليوم التراجع الكبير لبلاد ما بين القهرين حتى نكون في اسفل السلالم بل في اعمق اعماق القيعان؟!

لسنا نصدّق إن الانحدار والتدهور الثقافي سببهُ العولمة فكل اقطار العالم واقعة تحت تأثيرها ولكنها حافظت على موروثها الثقافي وبقيت تصون هويتها وتحدد معالمها بشعرها ونثرها وفنّها وعاداتها وتقاليدها وإرثها الحضاري.

نحن مَن وأدْنا ثقافتنا وقتلنا ابداعنا حين خضعت ثقافتنا لسنوات حكم دكتاتوري صارخ وكُمّمت افواهنا وضيّق الخناق على نتاجنا الادبي والفني وحوربت حرية التعبير.

ثمّ جاء الاحتلال الاميركي في العام / 2003 ليزيد الطين بلّة فانفلت حبل الثقافة وانكفأ المبدعون في بيوتهم وانعزلوا عن الساحة الفنية والادبية وأتيح لكل من يمتلك ثقافة مسطّحة بسيطة مسؤولا ثقافيا كبيرا يجرّ وراءهُ زمرةً من المتثاقفين ويمنحهم كل بضعة شهور منحا مالية من خزائن شعبنا المتعب وفتحنا ابواب مؤسساتنا الفنية والادبية على مصراعيها لهذا وذاك من بغاث الوعي وضعاف الكلمة وصارت المؤسسات الثقافية والفنية مرتعا للصغار وضيّقي الافق والمحسوبين على الابداع حشرا ومعظمهم ممن تربّى وتعلمَ في احضان سلطة الحزب الواحد وتسلّطوا بغمضة عين وصاروا أسيادا للإبداع وقادةً للفكر الذي خبا بسبب وجودهم بعدما كان زاهيا مشرقا طوال العصور الماضية وكان لامعا معطاءً حتى وقت قريب في سنوات الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن العشرين ومن المؤكد ان شمسه ستسطع حتما ويبزغ فجر آخر جديد مادام في العراق تاريخ حافل بالابداع وحضارة عريقة خضراء من جنائن بابل ومن صحائف وكتب آشور التي كتبت بالرقُم المسمارية التي علّمت العالم الكتابة .

أعرف ان الاوان لم يحن بعد للإرتقاء الثقافي والفني ببلادي الان لكنه حتما سيرسخ لاحقا ويعيد ترتيبه ويتم تجديده ولو طال الزمن على يد جيلنا المقبل أبناء الرافدين لأنهم خير خلف لخير سلَف .

***

جواد غلوم

 

إنَّ عُروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها قد تنزَّلت على العَرَب من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة. ربما كان من يَهرِف بمثل هذا يعرف ذلك الأصل، لكنَّ حالته، على الأرجح، تتمثَّل في حُبِّ التلبيس؛ لأهداف نفسيَّة لا تخفَى على عاقل، ولتعصُّبات ذهنيَّة، تُعمي وتُصِم. وفي ذاك من البدهيَّات شواهد، قد يسوقها نموذجٌ من الناس ليُثبِت بها على نفسه الإفلاس! وتلك من مغالطات (رجل القَشِّ)(1)، التي يركبها أمثال هؤلاء، حصانًا طرواديًّا زائفًا، من خلال دُمًى يصطنعونها- وإنْ كانوا لا يحسنون اصطناعها في الحدِّ الأدنَى- متمترسين بها دِفاعًا عن تراثهم! هذا إلى أساليب معروفة من الانتقاء والاجتزاء والبتر في بعض النصوص، بهدف توجيهها كيفما بُيِّتت الاعتقادات والنيات. وفي ذلك آية من آيات الإعياء في الاحتجاج، بالتماس ما لا يعني شيئًا في ميزان الحقائق الموضوعيَّة والعِلم. وهنا مثالٌ ثقافيٌّ واحد يكشف تاريخًا من تسيير النفوس والعقول في حروب فكريَّة غير نزيهة.

هكذا ابتدر (ذو القروح) لقاءنا. فتساءلت:

- وأين الردُّ على أمثال هؤلاء؟

- الحقُّ أنَّ الردَّ يندرج تحت تحذير الحكمة الفرنسيَّة: «من ينفِ، فإنَّما يتَّهم نفسه أحيانًا!qui s'excuse, s'accuse »(2) لأنَّ عدم نفي التُّهَم المتهافتة أَولى، على طريقة الشاعر القائل: «إذا نَطَقَ السَّفيهُ، فلا تُجِبْه!»

- لكن ما العمل إذا كثُر السُّفهاء، وكان فينا سمَّاعون لهم أكثر؟!

- صحيح، فمن نَكَد الثقافة، أن تجد نفسك أحيانًا مضطرًّا إلى إيضاح الواضحات.

- على أن من المسلمين أيضًا من هم أكثر تدليسًا، وعدم احترام لا للعقول، ولا لسياقات النصوص.

- ومنهم بشير (هذه الأُمَّة) الليبراليَّة، وهو سيِّد معمَّم. فهو الآخَر- في وجدانيَّاته، التي قد ينعتها بـ«العرفانيَّة»- يرتدُّ إلى الفكر الغنوصي العبَّاسي، مجترًّا مخاضات (ابن الراوندي) تارة، وبعض ما يُشبِه الباطنيَّات تارةً أخرى. مردِّدًا بدَوره القول بأنَّ «القرآن» من أكثر الكتب تناقضًا على وجه الأرض. وهو في ذلك أكثر من «الإنجيل» و«التوراة»، بزعمه! آخذًا بمنهاج هرمنيوطيقي، يبدو فيه عالةً على الإيراني الذي نهج هذا المنهاج (محمَّد مجتهد شبستري). على أنَّ هذا الأخير يبدو على عِلم بهذا المنهاج لا نصيب للسيِّد المعمَّم الليبراليِّ منه.(3)

- كيف يا سيِّدنا؟

- لستُ سيِّد أحد! ولكن لنقرأ النصوص التي يعبث بها الرجل في ندواته؟

- أهو يحكِّم العقل؟

- ليته يحكِّم العقل! وفرقٌ بين تحكيم العقل وتحكيم الدجل! ولكن لنر ميزان اعتدال الرجل وعقلانيَّته.

- هات!

- يبدأ لك بحكاية الآيات المدنيَّة والمكيَّة(4)، التي تتردَّد كذلك في (قناة الحياة) لدَى قمُّصها الهمام (زكريا بطرس)، وكأنما تشابَه قلباهما، قائلًا: إنَّ الآيات المكيَّة كان فيها «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْن»، فيما تأتي الآيات المدنيَّة وفيها قتالٌ وجهاد. وهذا وجه اختلافٍ وتناقضٍ لديه. والواقع أنَّ هذه أوهى حجَّة في مناقضتها للواقع والتاريخ معًا. فمن الطبيعي أن لا يدعو الرسول للقتال في (مكَّة)، ومن الطبيعي بعد تأسيس الدولة، وبعد التهديدات المُحيقة به، أن يُؤذَن لأهل المدينة بالقتال، دفاعًا عن النفوس والدولة الوليدة؛ فلكُلِّ حادث حديث. والتهديد كان من العَرَب المشركين، ومعهم اليهود من جانب، ونصارى الروم وأحلافهم من نصارى (الغساسنة) في (الشام) وغيرهم من جانبٍ آخر. كان التهديد من الأحزاب الذين حاصروا (المدينة) الوليدة وتألَّبوا عليها- أَعرابًا ويهودًا- ومن الرُّوم الذين كانوا يحشدون في الشَّام ويحضِّرون لاستئصال شأفة المدينة والمسلمين. والتاريخ معروف في ذلك. في تلك الظروف جاءت آيات القتال دفاعًا ودرءًا للعدوان. أ فمن العقل، أم من العدل، أن يُعَدَّ المُدافع معتديًا؟! أمَّا في غير تلكم الأحوال، فالآيات تَتْرَى واضحاتٍ في رفض العدوان: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَـمُسْرِفُون.» «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.»

- هل ثَمَّة أوضح من هذا؟

- وهذا ما ورد في (سورة البقرة)، المدنيَّة.

- هؤلاء لا تهمُّهم قراءة النصوص، بتمامها، ووَفق سياقاتها.

- ولذا تراهم يجتزئون، ويتقافزون، لانتقاء ما يشتهون، وما يخدم أغراضهم العقديَّة من جهةٍ، والتشويهيَّة من جهة. خائنين بذلك أمانة القراءة العِلميَّة، ومبادئ العدل، والإنصاف، والأخلاق.

- ألا ترى أنَّهم يفعلون ذلك، كما يفعل نظراؤهم من الأصوليِّين الإسلاميِّين من ذوي الأهواء، حينما يجتزئون من النصِّ كذلك ما يخدم مآربهم، متعامين عمَّا سواه.

- بل قل: متعامين عن الآيات المجاورة للآيات التي بها يستشهدون وعليها يدندنون. ستجدهم يقفزون إلى الآية التي تلي الآية السابقة- وكلُّها آياتٌ في سياقٍ واحدٍ متكاملة- قائلين ها هو قرآنكم يقول: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»! ويقفون هنا. لا يُكمِلون، حتى هذه الآية نفسها: «...وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ؛ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ. وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. فَإِن قَاتَلُوكُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ؛ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِين.» ثمَّ يقفز أحدهم كالكنغر إلى آيةٍ من سورةٍ أخرى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ. فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» فيصرخون: أ هو، يقول: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ».. إرهاب.. إرهاب يا أمريكا ويا إسرائيل! ألا تسمعان؟ وهؤلاء هم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ»، أي مجزَّءًا؛ ليقولوا ما يشاؤون.

- تعني أنهم لا يربطون الآيات حتى بسياقاتها الداخليَّة النصوصيَّة، فضلًا عن سياقاتها المتعلِّقة بالتاريخ، أو ما يسمَّى بأسباب النزول، أي (السياق الخارجي)؟

- نعم. لأنَّ هذا كلَّه لن يخدم أغراضهم. «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ! يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ. قُل: لَنْ تَتَّبِعُونَا، كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا! بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ فَإِن تُطِيعُوا، يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» (سورة الفتح).

- هؤلاء المخلَّفون من الأعراب كانوا خونةٌ للنظام القائم، إذن، أو للدَّولة بلغة العصر، هاربون من الخدمة العسكريَّة، وهم في الوقت نفسه وُصُوْلِيُّون، مرتزقة، نفعيُّون، يبحثون عن المغانم فقط.

- ولهذا يأتي الخطاب ليردَّ عليهم، أنهم إنْ كانوا صادقين في حُبِّ القتال، فـ«سيُدْعَوْنَ إلى القتال»، وليس فقط «سيُسمح لهم». ولكن «إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليس إلى «مَغَانِمَ ليَأْخُذُوهَا»؛ ليكون الاختبار، وليتبيَّن مَن يُقاتل في سبيل الله ممَّن يُقاتل في سبيل المغانم. كما هو اختبار الله لخلقه النفعيِّين دائمًا، منذ الشيطان الرجيم- الذي سقط في الاختبار؛ لأنه بنَى طاعته على بلوغ كبريائه؛ فلمَّا لم تتحقَّق مقايضته مع الله، نَكَص- وصولًا إلى نماذج أخرى، بَنَتْ إيمانها وتقواها على الرغبة في الحصول على مغانم، واستثناءات نفعيَّة خاصَّة، فيما هي «متدروشة»، لا تسعى؛ فلمَّا مرَّت بامتحان الله، سَقَطَتْ، وعندما لم تتحقَّق مقايضتها مع الله، كَفَرَتْ، وأصبحت شواهد على صبيانيَّة العقل المتشبِّث بماضي آبائه وأجداده!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) حول مغالطة (رجل القَشِّ)، يمكن الرجوع مثلًا إلى: (مصطفى، عادل، (2019)، المغالطات المنطقيَّة: فصول في المنطق غير الصوري، (القاهرة: رؤية)، 203- 214).

(2) ترجمته الحرفية: «مَن يعتذر، فقد اتهمَ نفسه!» غير أنَّ «مَن يعتذر» هنا بمعنى: «مَن ينفي اتهامًا»، لا «مَن يعتذر عنه». وكأنَّ من تداعيات هذا قول (محمود درويش): «لا تعتذر إلَّا لأُمِّك!»، مسمِّيًا ديوانه «لا تعتذر عمَّا فعلتَ!»

(3) كثيرًا ما يبدو قَدَر (العِراق)، تاريخيًّا وجغرافيًّا، أن يتبع (إيران)، حتى إنَّ (الزبيدي، تاج العروس، (عرق))- وهذه من الغرائب، ولا سيما في القرن الثاني عشر الهجري- ينقل في تعريف العراق: أن «العِراق: بلادٌ معْروفةٌ من فارِس، حدُّها من عبَّادان الى المَوصِل طولًا، ومن القادِسيَّة الى حُلْوانَ عرضًا!» مع أنها قامت في العِراق حضارات، ساميَّة وغير ساميَّة، مستقلَّة عن الفُرس، منذ ما قبل التاريخ، من السومريِّين، والأكاديِّين، والآشوريِّين، والبابليِّين، والكلدانيِّين.

(4) ثمَّة تداخلٌ في السُّوَر، بين الآيات المنسوبة إلى (مكَّة) وتلك المنسوبة إلى (المدينة). ذلك أن ترتيب «القرآن» لم يكن توقيفيًّا بصورة مطلقة، ولا متسلسلًا زمنيًّا، بدليل قِصَّة جمع «القرآن»؛ إذ لو كان توقيفيًّا، لما احتاج الأمر إلى جهد (عثمان) لجمعه، بل لما ساغ النظر في ترتيبه، ما دام توقيفيًّا، ولو كان متسلسلًا زمنيًّا، لكانت «سُورة العَلَق»، مثلًا، أُولى السُّوَر. وعليه، يبدو أن مسألة المَكِّي والمَدَني إنَّما نشأت عن «السِّيرة النبويَّة». والسِّيرة لم تكن تاريخًا عِلميًّا. بل لقد جمعت روايات شتَّى، في متن السِّيرة وفي هوامشها، اعتذر (ابن إسحاق) عن تحمُّل عُهدتها العِلميَّة؛ من حيث هو راوٍ، لا باحث ولا محقق. وبما أنَّ «القرآن» كذلك نصٌّ جَدَليٌّ، وبما أنَّه جاء وَفق طبيعة الثقافة الشفويَّة العَرَبيَّة، فلقد كان بطبيعته تلك قابلًا لتكرار الآيات والخطابات، بحسب مقتضيات الأحوال والنوازل. ولهذا كلِّه ظلَّ من الصعب «أرخنة» النصِّ القرآني على نحوٍ عِلمي، يترتَّب عليه القطع بما هو مَكِّيٌّ وما هو مَدَني. وحول المَكِّي والمَدَني (يُنظَر: السيوطي، جلال الدِّين، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 1: 43- 00).

 

تختلف الآراء حول طبيعة الكتابة للطفل حسب المجتمعات والطّبقات الفكريّة كما تختلف شركات الصناعة الثقافية فيما تقدّمه الى الأطفال من أفلام وصور متحرّكة ومن قصص. ويضع علماء الاجتماع والمنظّرون للكتابة للّطفل شروطا ينبغي أن تتوفّر في النّصوص متعللين بما يسمّى خطأ براءة الأطفال فهل الطفل بريء حتّى نحترم فيه براءته؟

في اعتقادنا أنه لا يصح الحديث عن البراءة عند الأطفال بكل بساطة ودون تحديد مفهومها. فالبراءة تعني التّخلّص من العيب أو من المرض أو من الخطأٍ وهي كذلك الخلوّ من الشيء. ونحن نتسرع في الحكم عندما نقول إن هذا الطفل بريء في حين أنّه لم يرتكب أي جرم نبرّئه منه. كل ما في الأمر أنه تصرّف بذكاء أو بالفطرة أو كان صادقا في كلامه أو كان نزيها في موقفه. نحن نحاكم الأطفال ونقيّم أفعالهم من وجهة نظرنا نحن، وجهة نظر ذات المرجعية الأخلاقية او الدينية او الموروثة أو العلمية. وبناء على أحكامنا المسبقة نجد أنفسنا نحاول أن نبني الطّفل الذي نريد ليكون متناسقا مع عقليتنا ومتناسبا مع ذواتنا وممتثلا لعاداتنا وتقاليدنا فننظّر ونؤسس ونكتب ونسطّر وننفّذ برامجنا ونسيّج حياة الطفل ونمارس عليه نفوذا يحدّ من حرّيته ويحاصره حتى يحصره في مساحة أضيق من خياله فنجعل منه كائنا يخاف من الفعل قبل أن يقوم به.

الطفل يعضّ ويصرخ ويضرب بالفطرة للتعبير عن الإحساس بالظّلم، وقد يكون هذا العنف الذي يمارسه الطفل نتيجة ضغط او شعور بالقمع او بالاحتقار. كل الأعمال العنيفة التي يمارسها الطفل على غيره لم يتعلّمها لا من العائلة ولا من المحيط فلا أحد أمره بأن يعضّ الآخر ولا من لقّنه فنون الضرب باليد أو بالسّاق (كلّ الأطفال يتعلّمون باكرا الرّكل لأنّه سهل). فهل نساهم من حيث لا تدري بأوامرنا ونواهينا في زرع ردّة الفعل العنيفة في الطّفل.

ألسنا أحد أسباب هذا النزوع الى العنف عندما نفرض عليه آراءنا وكتاباتنا التنظيرية؟ ألم نسع الى تحديد مساحة لحركة الطفل وتفكيره أصغر مما كان يتخيّل؟

نحاول جاهدين أن ننجز كتابة للطفل معينة ونضع لها عنوانا كبيرا: كيف تكون الكتابة للطّفل؟ ونجازي النصوص التي نعتبرها صالحة لتربية أطفالنا على سلوك حضاري نعتقد أنه الأفضل في بناء شخصية الطفل وصقل مواهبه ونسعى الى تلقينه اساليب الحياة من التفكير الى الممارسة ونلزمه باحترام القواعد التي نراها أساسية.  ونسطّر له طريقا ونسيج له مساحة للتحرّك ونسقط عليه الأوامر والنواهي. ونشرع في اختيار الالفاظ فنفصل الجميلة منها عن البذيئة والسلسة عن العنيفة ونقصر في الجمل أكثر ما يمكن ليستطيع الطفل حفظها ونؤلّف الخرافات ونطبعها في كتب ونزينها بالصور ونضع غلافا جذّابا لكل كتاب. ولنفرض أنّ كل هذا النظري صحيح وذو جدوى، ماذا إذن على مستوى الواقع؟

تحيّلوا أنّنا مرّرنا التوصيات والتوجيهات والبرامج لحاسوب أو روبوت وأمرناه بالتنفيذ بحرية على طريقة الذكاء الاصطناعي. أعتقد أنّه سيرفض ما كلّفناه به وستكون نتائج العمل الحر كالاتي. قد يستمع الطفل الينا وتشدّ انتباهه الخرافات التي نقلناها له بالعنعنة دون تفكير ودون تحريف فلم نجتهد يوما فنغيّرها لتتماشى مع أطفال القرن الحالي ومداركهم العقلية. وقد يستنجد الحاسوب، كما نفعل، بالغول ليكف الأطفال عن ضجيجهم ويناموا خائفين فنخلو نحن الى صمتنا.  قد يلتجئ الروبوت الى فتح التلفاز على أفلام من الصور المتحركة عمادها العنف والقتل والانتقام والجريمة والعقاب والبطل والضحية ولا من يحاسب الطفل عن طول الوقت الذي يمضيه امام الشاشة.

نحن نعاني ازدواجية في التعامل مع الطفل فنعيب عليه تشبثه بالحاسوب ونخاف عليه من الإدمان وننسى فضائل الحاسوب والعابه التي تنمّي ذكاء الطّفل وتعلمه الصّبر وتزرع فيه الرّغبة في الانتصار وتعلّمه العزيمة وتقبّل الهزيمة بروح رياضية بل نسعى الى رقمنة المدارس الابتدائية والاعتماد على المعلوماتية في التعليم. ولعلّ كثيرا منّا ما زال يذكر حبّنا للقصص المصوّرة التي لا تخلو من المغامرة والخداع والبطش والقتال. نذكر مثلا قصص kiwi و black le roc قبل أن تظهر قصص أخرى من النوع البوليسي وهي قصص تعتمد على الخيال والتحليل الدقيق الذي يستعمله المفتّش للوصول الى تفكيك الجريمة. هذه القصص تشدّ الطفل وترغّبه في القراءة فلماذا يراد من الكتّاب (وأخصّ بالذكر كتاب نصوص المسابقات) استبدلناها بقصص مضبوطة ومقيّدة ومحبوسة بشروط الجوائز.

لماذا نفرض على الطّفل أن يقرأ الكتب اللّطيفة التي نعدّها له ونترك له حرّية الإبحار في الشبكة العنكبوتية حيث يستقطبه تجّار التطبيقات واللّعب وتجار الدّين أيضا؟

الطّفل يولد حرّا بالفطرة محبّا للحرّية لا يريد أن يفعل ما يملى عليه لأنّه ببساطة لا يستطيع أن يقدّر أهمّية ما نوصيه به فهو، يطمح أن يصبح رجل أمن أو مفتّشا لينتصر للمظلومين ويعاقب المجرمين فنراه يفرح كلما انتصر بطل الحقّ على المجرم الشّرير.

الدفاع عن الحق كما الدفاع عن النفس أو عن الممتلكات غريزي وحبّ التّملّك أيضا. الطّفل يشعر الاخرين بأن أبويه ملك له لا ينبغي لأحد المساس بهما ويعبّر عن الدفاع عن هذا الملك بالعنف اوّلا ثمّ بالصراخ ثانيا عندما يشعر بأنه غلب على أمره.

الطّفل أكثر ذكاء ممّا نتصوّر وما علينا الا تنمية الذكاء بالحرية وبتوضيح الأمور حتّى تلك التي نعتبرها عنيفة. من الأفضل ـن نُعْلمه بأن الشّرّ موجود ويمكن مقاربته ولا بإخفاء الجريمة وتحريم النصوص أو تجريمها عندما تتناول العنف والجريمة بتعلة أن هذا من شأن الكبار.

نحن نتهم الطفل بالبراءة فنكتب له ما نريد ولا ما يريد.

***

المولدي فرّوج

حين يسلم المرء قياده للخيال ويمضي خلف دعاوى الذاكرة، لاستطلاع بواكير الوعي في المجتمع العراقي والاستدلال على بدايات تشكيل منظوماته الثقافية، فان الاحالة المتوقعة ستكون باتجاه ما تمخض عن صدمة الحداثة الغربية التي رافقت ظاهرة المدّ الاستعماري وما تبلور على أساسها – ألم يزعم البعض بأنها كانت القابلة التي أنجبت الفكرة الليبرالية من رحم مجتمع عاقر؟! .

بيد ان الاطمئنان لهذه الحصيلة الجاهزة لا يعدو أن يكون سوى ابتسارا "للوقائع واختزالا" للأحداث، التي شهدها ذلك المجتمع منذ مطلع القرن العشرين المنصرم ولحد الآن . ذلك لأن فاعلية تلك الصدمة – وان شملت حقول شتى – كانت ترمي الى تحقيق الهيمنة السياسية، وتعميق التبعية الاقتصادية، وتمزيق الوحدة الاجتماعية، وتلفيق الفتوحات الثقافية، دون أن تحفل بما ستؤول اليه الأوضاع من طغيان في الحالة الأولى، والحرمان في الحالة الثانية، والامتهان في الحالة الثالثة، والارتهان في الحالة الرابعة .

وهو ما تصدّت له وأسهمت بفضحه ثلة من الوطنيين الأقحاح الذين واجهوا، متنكبين سلاح الفكر العلمي والثقافة العقلانية، صعوبات مادية واعتبارية قلّ نظيرها لدى أقرانهم في المجتمعات الأخرى . ليس لأن الأفكار التي كانوا يروجونها تتسم بنزعة المناهضة الصلبة للسلطات الحاكمة والمناوئة الجذرية للسياسات الخاطئة فحسب، بل ولأن المنهجية التي كانوا يحللون بموجبها الواقع ويستنبطون من خلالها المعالجات، كانت متقدمة بأشواط على نمط القيم وأطرالتقاليد السائدة التي كان يرزح تحت وطأتها المجتمع العراقي، بحيث طوحت بالمسلمات القارة في مخياله الجمعي وزحزحت البديهيات الراكدة في سيكولوجيته الشعبية . وهو الأمر الذي دمغ الحزب الشيوعي العراقي – منذ بداية تكوينه وعلى امتداد تاريخه – بطابع الراديكالية النقدية، حيال ثوابت الدولة التسلطية ومرجعيات المجتمع التقليدية ومنطلقات الثقافة النخبوية، بحيث أفضت، بالتالي، لابتلاء اعضائه وجمهوره بأشرس أنواع القمع وأسوأ أشكال الاضطهاد التي قلما تعرض لمثلها أقرانهم من الأحزاب الأخرى، بالرغم مما كانوا يحملونه من آمال وما يضمرونه من نوايا .

ولهذا فان أغلب الذين أرسوا دعائم الفكر التاريخي وقواعد الثقافة الانسانية في بيئة المجتمع العراقي هم من أصول ماركسية بشكل عام وشيوعية بوجه خاص، مما قيض لأطوارالثقافة العراقية أن تحمل بصمات الفكر الذي بشروا به، وتضوع بنكهة الثقافة التي نشروا بذورها . ذلك لأنهم لم يراهنوا – لكي يجعلوا من الثقافة العلمية والفكر الجدلي مهمازا "لتغيير الواقع وتقدم المجتمع - فقط على (قوة الفكرة) بدلا" من (فكرة القوة) فحسب، وانما شرعوا لبناء مدماك ثقافي يقوم على أساس المنهجية الماركسية، التي ما أن يفرط بها أو يساوم عليها، حتى ينمو زؤان الأفكار الفجة وتشرأب التصورات السقيمة . ولهذا كان انجلس يقول في معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه الشهير – كما يشير لينين (ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما هو مرشد للعمل . ان هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخّاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان . واذ يغيب هذا المظهر عن البال، نجعل من الماركسية شيئا"وحيد الطرف، عديم الشكل، شيئا "جامدا" لا حياة فيه، ونفرّغ الماركسية من روحها الحية، وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات - ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية الدقيقة، التي من شأنها أن تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ) .

ومن المفارقات التي كانت شائعة ابان عهود الأنظمة الدكتاتورية والايديولوجيات الشمولية، أن النقاش الذي كان يجري في ظروف التقيّة السياسية – على ندرة حصوله ومحدودية نطاقه – بين أنصار هذا الحزب أو ذاك، لتحليل قضية من القضايا الفكرية التي كانت تهيمن على فضاء الوعي الاجتماعي، أو تفسير واقعة من الوقائع السياسية التي كانت تفرض سلطانها على جدول أعمال الواقع، غالبا ما كانت حصيلته النهائية تشير لصالح تلك العناصر التي غالبا"ما كانت توصم بمرجعيتها الشيوعية، حتى وان كانت لا تنتمي للحزب الشيوعي، باستثناء كونها تتوفر على رصيد (متواضع) من الثقافة الماركسية . وهو الأمر الذي كان يعد سببا "كافيا" لأن تكون محط ازدراء وضغينة من لدن جميع الاتجاهات التي كانت تعمل معها على نفس الساحة وضمن ذات البيئة، ليس لأن مدخلات تلك الثقافة كانت تشكل تحديا"لرؤى تلك المجموعات التي كانت تتغذى على المتخلف من الأفكار والمتعصب من النظريات فحسب، وانما لعمق مخرجاتها على صعيد الوعي الاجتماعي وشمولية طروحاتها على مستوى الواقع التاريخي .

وعلى ذلك فلن يسع المرء وهو يقلب صفحات ماضي الثقافة العراقية، التي شهدت مختلف ضروب الصراعات الايديولوجي، منذ بواكير تشكيل الدولة (الوطنية) ولحد الآن، ايجاد فاعل اجتماعي / مثقف حقيقي لا يمتح من معين ترسانة الفكر الماركسي أو خال من مؤثرات الثقافة الماركسية، سواء أكان معها – معظم أجنحة اليسار – كخطاب نظري وممارسة عملية، أو عليها – غالبية أجنحة اليمين - كنقد لطروحاتها ومعارضة لاتجاهاتها.

***

ثامر عباس

بقلم: كريسبين سارتويل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يعمل الخرف على تسريع العملية التي نمر بها جميعًا، حيث تصبح ذكرياتنا خارجة بشكل متزايد في العالم من حولنا

غالبًا ما يستخدم الأشخاص الذين يقومون بأعمال مذهلة في الذاكرة (تكرار سلسلة طويلة من الأرقام، على سبيل المثال) تقنية تسمى "قصر العقل"، والمعروفة أيضًا باسم "طريقة الموضع"، و"الغرفة الرومانية" و"الرحلة". "الطريقة." هذه التقنية قديمة- وقد وُصفت من قبل البلاغيين الرومانيين شيشرون وكوينتيليان - وتتضمن تخيل مبنى، مثل قصر أو منزل، وربط كل عنصر يجب تذكره بموقع في ذلك المبنى. يتحرك المرء عبر الهيكل المتخيل غرفة تلو الأخرى (وبالتالي "الرحلة")، ليجد العناصر المعنية.

أعتني بوالدتي جويس البالغة من العمر 98 عامًا،والتي كانت تعاني من مشاكل الذاكرة المنهكة بشكل متزايد لسنوات عديدة. وعلى مدى عقد أو عقدين من الزمن، تمكنت من التعويض عن هذه المشاكل بكفاءة مذهلة. إلى حد كبير، تم ترتيب حياتها بحيث تتمكن من العمل كما تتذكر بشكل أقل فأقل. وقيل لي إن هذه العملية - وهي ليست غير معتادة بالنسبة للأشخاص ضعاف الذاكرة - تظهر أن قصر العقل هو أكثر من مجرد خيال. ومع فقدانها للبنية الداخلية للذاكرة، أصبحت صالات عقلها حرفية وخارجية. في البداية، بشكل منهجي، ثم بشكل فوضوي، استخدمت جويس أبيل منزلها هنا في ريف فيرجينيا كذكرى لها.

بطريقة ما نحن جميعا نفعل هذا. نحن ننثر الصور الفوتوغرافية أو الأشياء المهمة في جميع أنحاء مساحتنا بحيث نتذكرها أثناء تحركنا فيها. معظم الناس، عندما يسيرون في منازلهم، يستخدمون طريقة السفر، أو على الأقل يحتمل أن يكونوا في رحلة حنين بين القطع الأثرية، نحو ماضيهم. قصر الذاكرة ليس مجرد صور في رؤوسنا، ولكنه يتكون من أشياء من بيئتنا المبنية.

إحدى الطرق التي احتفظت بها جويس بذكرياتها كانت باستخدام الملاحظات اللاصقة. لمدة عقد أو أكثر، كتبت كل ما أرادت أن تتذكره - أسماء الأشخاص وأرقام هواتفهم، والمواعيد، والأفلام التي أرادت مشاهدتها، والكتب التي أرادت قراءتها، والاقتباسات التي ستقرأها بصوت عالٍ في حفل تأبينها (في الحقيقة)، والعديد من الأشياء. اشياء اخرى. لقد ألصقتها في جميع أنحاء مكتبها وعلى الجدران. وأكثر فأكثر، كانت كل حقيقة تتطلب ملاحظة، وتكاثرت في أكوام وأكوام، ولم يعد معظمها مرئيًا تحت التراكمات اللاحقة. ملاحظات حول كيفية تشغيل التلفزيون متراكمة حول التلفزيون؛ تذكيرات الطعام من السنوات الماضية المتراكمة في المطبخ. انجرفت الملاحظات في النهاية إلى الأسفل فوق كل شيء. بمجرد أن فقدت ملاحظة ما، وهي العملية التي تسارعت مع تراجع ذاكرتها، كان لا بد من كتابة ملاحظة أخرى إذا أردنا استرجاع نفس الحقيقة. وما إلى ذلك وهلم جرا.

كان الأمر كما لو أنني حطمت نافذة، وسمحت للرياح أن تهب عبر قصر عقلها، مما أدى إلى تشويش كل شيء

لقد حدث أسوأ قتال خضته معها منذ تمرد مراهقتي عام 1973 تقريبًا قبل عامين، بعد أن حدقت في تراكم الملاحظات وقررت أنه يجب القيام بشيء ما. لقد جمعتهم جميعا. عشرون منهم أو نحو ذلك قالوا فقط "جون ويليامز، كافاتينا"، للإشارة إلى قطعة موسيقية محبوبة بشكل خاص. لقد اختزلت هذا إلى ملاحظة واحدة وتخلصت من الباقي، بالإضافة إلى مئات الأوراق الأخرى (وأيضًا العديد من قصاصات الورق والمظاريف التي تحتوي على ملاحظات مماثلة). كان هدفي هو الحفاظ على جميع شذرات المعلومات، دون تكرار. حاولت أن أتحدث معها أثناء قيامي بذلك، لكنني شعرت أيضًا أنه كان عليّ أن أقوم بالتخلص الفعلي  بعيدا عنها، وإلا فلن يتم ذلك أبدًا. لقد كانت جويس دائمًا شخصًا أنيقًا ومنظمًا نسبيًا، وكانت لدي فكرة أنها ستقدر  تدخلى في النهاية.

عندما رأت جويس النتيجة، شعرت بالخوف. بكت مرارا وتكرارا لبضعة أيام. كانت على يقين من أن هناك أشخاصًا فقدت أسمائهم وعناوينهم في هذه العملية ولن تتمكن الآن من استعادتها. لم تكن تعرف حتى من هم ، فقط أن الناس كانوا يضيعون، وأن هناك أشخاصًا تحبهم ولا يمكنها الاتصال بهم مرة أخرى. مفارقة فظيعة في الذاكرة: قد يكون لديك شعور بأنك نسيت، ولكنك نسيت ما نسيته.

لقد حاولت حقًا التأكد من عدم اختفاء أية معلومات. ولكن كان الأمر كما لو أنني حطمت نافذة، وسمحت للريح بأن تهدر عبر قصرها العقلي، وأفسدت كل شيء. لقد فكرت (وأفكر)، لكنها عانت من ذلك بشكل مباشر كخسارة لذاتها. وفي صباح أحد الأيام بعد بضعة أشهر، روت حلمًا من الليلة السابقة. في الحلم، عرفت أن هناك أشخاصًا يحبونها وتحبهم، لكنها لم تستطع تذكر أسمائهم ولم يكن لديها أي وسيلة للتواصل معهم. لقد فقدت الجميع. "ثم أصبح كل شيء مظلمًا." وكانت تبكي. لقد كان أكثر من مجرد حلم.

إنها تحتاج إلى المزيد من المساعدة، هذا ما استنتجته بينما كنت أقوم بتجميع ملاحظاتي، وأنا وأطفالي نعيش معها بشكل متقطع أو في نوبات منذ ذلك الحين. وهذا يعني أن الناس هنا، يعيدون ترتيب أوانيها ومقاليها وأثاثها، إلى حد ما، حتى نتمكن من القيام بما يجب القيام به (الطهي لها والعمل أيضًا عن بعد، على سبيل المثال). لقد أصبحت عملية التغيير أسهل إلى حد ما؛ لقد أصبحت أكثر مرونة مع مرور الوقت. ولكن كان هناك أيضًا الكثير من الحزن والغضب، لأنه كان هناك الكثير من الخسارة. إنها تشعر أنها فقدت كل ما يتحرك، وقليلًا من نفسها إلى جانب ذلك.

أعتقد، بطريقة ما، أنها تختبر كل تغيير في منزلها كتغيير في نفسها، وأعتقد أنه، في الخيال وفي الواقع، مع الخرف أو بدونه، لا يوجد تمييز ثابت بين من نحن وأين نحن . أماكننا وأنفسنا ليست مختلفة تماما. حسنًا، هذا ليس مفاجئًا، فأنا حتى الآن أمتص مكاني في رئتي ثم أطلق جزءًا من نفسي مرة أخرى إلى الغلاف الجوي أثناء الزفير. عندما أتدفق عبر بيئتي، فإنها تتدفق من خلالي. إن العلاقة أو حتى عدم التمييز بين الأشخاص والأماكن التي يشغلونها هي موضوع اهتمام في علم النفس المعاصر، والأخلاق العملية، والعلاقات الدولية، التي تهتم أكثر فأكثر بالآثار التي تهدد الهوية نتيجة لفقدان المرء لموطنه.

إن أغراضنا، والغرف التي تحتويها، تشكل وتحافظ على إحساسنا بمن نحن

جادل الفيلسوف جون لوك في القرن السابع عشر بأن الذاكرة ضرورية للهوية الشخصية. لنفترض أنك شخص في الستينيات من عمرك. ما الذي يجعلك نفس الشخص الذي كنت عليه عندما كنت مراهقًا، رغم كل التغييرات؟ جادل لوك بأنه لا يمكن أن يكون هناك سوى تدفق مستقر ومتسق نسبيًا للذاكرة. يتذكر الشخص الذي يبلغ من العمر 60 عامًا أشياء كثيرة عن المراهق - حبه الأول، حيوانه الأليف المفضل أو كتابه أو أغنيته - بطريقة أو بدرجة لا يستطيع أي شخص آخر القيام بها. بالنسبة لأمي، مع تعرض تدفق الذاكرة للخطر، وبينما تملأ المساحات الفارغة في حياتها بالافتراضات، فإنها تعلم أن ذاتها مهددة. قالت لي ذات يوم: "في بعض الأحيان، أنسى من أنا وماذا يفترض أن أفعل". كان التمسك بملاحظاتها بمثابة الحفاظ  على نفسها.

ومرة أخرى، الذاكرة ليست مجرد عملية عقلية: فهي تستخدم عادةً البيئة والمصنوعات اليدوية الموجودة فيها. أول شيء تفعله عندما تحاول أن تتذكر المكان الذي وضعت فيه هاتفك هو النظر حولك في الغرفة. على أية حال، يتم الآن تحويل الذاكرة إلى مصادر خارجية على نطاق واسع، مثل تكنولوجيا المعلومات. نتذكر الآن من خلال Google وتطبيقات التقويم وملاحظات iPhone. لم تصل جويس أبدًا إلى عصر المعلومات، على الرغم من أنها لم ترسل بريدًا إلكترونيًا إلا قبل عامين. ربما ستكون الملاحظات اللاصقة للجيل القادم من كبار السن (أنا، على سبيل المثال) إلكترونية، على الرغم من أنني أعتقد أن ذكرياتنا لا تزال غير قابلة للانفصال عن الفضاء المادي، وأن الفضاء المادي له علاقة مختلفة بالذاكرة مقارنة بالفضاء المتخيل.

لذلك أعتقد أن تجربة والدتي تظهر شيئًا ما حول كيفية تذكرنا جميعًا: بمساعدة الأماكن والأشياء - حقيقية أو متخيلة، مصنوعة من الورق أو الكود (ولكن في حالتها، على وجه الخصوص، حقيقية ومصنوعة من الورق). قد نفكر في هذا كمثال رئيسي لما يسمى، في الفلسفة، بفرضية العقل الممتد*، التي طرحتها شخصيات مثل آندي كلارك، وديفيد تشالمرز، ومارك رولاندز. لتبسيط مجموعة معقدة من الأفكار: نحن نفكر من خلال بيئاتنا، والأشياء "الخارجية" هي جزء من شخصياتنا. أعتقد أننا نرى هذا طوال الوقت وفي كل مكان، ولكن بشكل خاص في المواقف التي تتفكك فيها الذاكرة الداخلية. من خلال العمل كأوعية للذاكرة الشخصية، فإن الأشياء الخاصة بنا والغرف التي تحتوي عليها، تشكل وتحافظ على إحساسنا بمن نحن عليه .

تحولت ذاكرة أمي من كونها مكانًا أو قصرًا متخيلًا بداخلها إلى كونها مطابقة إلى حد كبير لبيئتها المادية. لقد تم إخراج عملية التذكر بشكل مطرد إلى الخارج على مدى 20 عامًا. ربما هذه هي الطريقة التي تتفكك بها الشخصية الإنسانية أو تتحلل: عندما تضعف، فإنها تمتد إلى العالم، ولو بشكل يائس، وتغيره، وتعيد ترتيبه إلى كنز ذاكرة. لم يكن الأمر مجرد ملاحظات، بعد كل شيء: إذا كانت الذات هي الذاكرة، فإن منزلها وكل مصنوعاتها - كل طبعة وكل ملعقة، كل قرط وكل غرفة - موجودة فيها، كما هي فيه. لكن المكان الحقيقي أيضًا في تغير مستمر. إنه ينفجر شيئًا فشيئًا، ويصفر، ويتآكل. ويأتي ابنك فيعيد ترتيبه أو يفرغه، فتضيع أنت.

مثل الأشياء التي تتذكر، ربما يتفكك البشر من الداخل إلى الخارج، حتى نصبح غير متميزين عن بيئتنا. ببطء، تصبح ذكرياتنا والعالم كما هو، ونتوقف فورًا عن الوجود ونتوسع في كل شيء.

(تمت)

***

.....................

* تقوم فرضية العقل الممتد على أن وعينا يتكامل باستمرار ويتشكل بواسطة أشياء خارجية، بما في ذلك أشخاص آخرون، بطرق تشير إلى أن العقل يمتد إلى ما هو أبعد من حدود الجمجمة، أو حتى الجلد.

* المؤلف: كريسبين سارتويل/ Crispin Sartwell (من مواليد 20 يونيو 1958) أكاديمي وفيلسوف وصحفي أمريكي كان عضوًا في هيئة التدريس بقسم الفلسفة في كلية ديكنسون في كارلايل، بنسلفانيا حتى تقاعده في عام 2023.قام بتدريس الفلسفة والاتصالات والعلوم السياسية في جامعة فاندربيلت، وجامعة ألاباما، وجامعة ميلرسفيل في بنسلفانيا، وكلية معهد ميريلاند للفنون، وكلية ديكنسون. وأحدث كتاب له هو:  الجمال: غمر سريع (2022).

* رابط المقال على مجلة سايكى/ PSYCHE بتاريخ 14 مارس 2024

https://psyche.co/ideas/what-my-mothers-sticky-notes-show-about-the-nature-of-the-self

للنفس البشرية عناصر كلية وأخرى جزئية متفرعة عنها بحكم الأحوال والأفعال والانعكاسات، وهذه الظواهر أو الصور الجزئية قد تكون من حيث اعتبارها ثوابت نفسية إما أنها ذات طابع ظرفي أو عارضي و مؤقت أو دائم وغريزي قد يمس الكينونة الرئيسية للإنسان من جهة افتقارها أو استغنائها، ضعفها أو قوتها، جهلها أو علمها المبدئي بالأشياء والأبعاد..

فمن جملة هذه الصور يمكن طرح جانب الجهل والعلم كوصف رئيسي وشمولي للنفس الإنسانية بحسب وضعها بين هذين المتناقضتين، بحيث نجد الدلالة على هذين العنصرين الراسخين في النفس الإنسانية، في عدة آيات قرآنية أذكر من بينها قول الله تعالى:"اقرأ باسم ربك الذي خلق،خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم "[1].

ففي هذه الآيات استحثاث على البحث في أصل المعرفة عند الإنسان وتأسيسها النفسي وما هي الأدوات الضرورية لتحصيلها ومدى حدودها إصابة أو خطأ في التحصيل المعرفي ...

وإذا كان هذا الجهل الذي قد يتميز به الإنسان منذ بداية تكوينه يمثل حالة عادية بالنسبة إليه،مع قابلية التعلم والاستعداد له بإرادة التحصيل وتوظيف أدواته،فإننا سنجد القرآن الكريم يطرح صورة أخرى للجهل الإنساني وهو في طور النضج واكتمال أدوات المعرفة والاستبصار لديه،إلا أن هذا الطور من الجهل الإنساني سيكون نتيجة التصرف الذاتي في الصياغة المعرفية رغم الشعور الفطري لديه بالقصور عن الإحاطة العلمية،مما يعني أن هذا الجهل الذي سيقع فيه الإنسان هو جهل سلوكي بسبب عدم وعيه وتقديره للأمانة التي عرضت عليه وتحمله لمسؤولية الحفاظ عليها.

وهذا ما نجد وصفه في قول الله تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا "[2].

وبما أن الإنسان قد يطبعه الجهل بأبعاد اختياراته الذاتية  وبالمسؤولية التي يتحملها،باعتباره كائنا مكرما وراقيا على غيره من الجمادات والحيوانات والرياحين من جن وشياطين، فإنه بسبب جهله هذا سيقع في سلوكيات تخالف مضمون تلك الأمانة المشرفة وغايتها التكليفية،حتى إنه في بعض الأحيان قد يعمل ضد مصلحته كتناقض ذاتي .

وكنموذج على هذا التناقض الذي قد يطبع سلوك الإنسان ضد مصلحته نجد قول الله تعالى:"أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء،فلا تذهب نفسك عليهم حسرات،إن الله عليم بما يصنعون"[3]

هذا التناقض قد يصل إلى مستوى يمكن الاصطلاح عليه ب"الجهل بالجهل"بحيث قد يتوهم الإنسان معه أن علمه ذاتي وأن كل ما لديه من المعارف كسبي،حتى إذا جاء وقت الاختبار وجد أن ما لديه من العلم والمعرفة،بل الكسب بصفته علما ماديا أو معنويا، مجرد عارية وهبة من الله تعالى كما نجد الدلالة عليه في قول الله تعالى:"فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم، بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون،قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون"[4].

وفي هذا المعنى يطرح القرآن الكريم مبدأ الفطرة والمعرفة الضرورية، والتي هي في أصلها هبة من الله تعالى، وتمثل عنصرا رئيسيا في النفس الإنسانية،بل هو أصل تكوينها ورأس علومها ومبدئها.

يقول الله تعالى:"فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"[5].

وعن جهل الإنسان وعدم التزامه بمبادئ الفطرة المؤصلة للعلم الضروري لديه ستترتب سلوكيات خاصة تطبع نفسه على مستوى التحصيل المعرفي والحكم العلمي، من أهمها الجدل والخصومة "ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل وكان الإنسان أكثر شي، جدلا "[6]،"خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين"[7].

وكذلك الاستعجال في طلب الدليل أو الاستجابة المباشرة لكل طلباته دون وعي بأبعادها وشروطها، كما نجد نعته في قول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون "[8] "ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا"[9].

فهذا الاستعجال حين الإفراط في توظيفه قد يؤدي بالإنسان إلى إصدار أحكام خاطئة ربما يكون فيها هلاكه،من أخطرها الحكم الخطأ على قضاء الله وقدره ووصفه بالظلم أو عدم الحكمة،كما يعرض الله سبحانه وتعالى بعض هذه الأحكام الاستعجالية الخاطئة من طرف الإنسان بقوله:"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن،وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن"[10].

إذ ستصبح نفسه فيما بعد تعرف نزوعا إلى الجحود ونكران النعمة" وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا".

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المغرب

...............................

[1] سورة العلق آية 1-5

[2] سورة الأحزاب آية 72

[3] سورة فاطر آية 8

[4] سورة الزمر آية 49

[5] سورة الروم آية 30

[6] سورة الكهف آية 54

[7] سورة النحل آية 37

[8] سورة الأنبياء آية 37

[9] سورة الإسراء آية 17

[10] سورة الفجر آية 15-16

 

هذه الكريهة البغيضة الخلق، الشنيعة البشعة، المرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، غير أن تنشر بأسها وعنفها، ولا تدعنا نعيش تلك الحياة الغضة، السمحة، اليسيرة، التي تعيشها شعوب المنطقة، فالحرب الضروس التي ضربت رواقها على السودان، ولا تريد أن تفارقه، لم يصارحها أحد في الحق بعشق ولا غرام، أزمعت هذه الهيجاء التي تطوف في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، أن تنتزع أرواح الناس انتزاعا، وتتركها بين ذراعي الموت، وخصوماتنا المؤلمة التي أحالت شعبنا إلى صفوف متراصة تحت رأيتها، قد اجتمعت عندها طائفة كبيرة من ألوان الضغائن والأحقاد،  هذه العداوات والبغضاء، لم تزل بكل أسى وأسف جذعة قوية، لأن سدتنتها يعنون بها أشد العناية، ولا يريدون لنائرتها أن تخمد وتنطفئ.

والحق الذي لا سبيل إلى الشك فيه، أن الوغى سوف تدفع رجاء السودان إلى الفتور، والخمود، والانزواء، ذلك الرجاء الذي ينبغي أن يشغل عقلنا بالتفكير، وقلبنا بالعاطفة، في كيفية إخماد  أسباب هذه الحرب، التي لقينا فيها من الشدة، والمشقة، والبلاء، شيئاً عظيما، يمتنع عنا هذا الرجاء، لأن هناك من يعتقد أنه خليقاً أن يسود، إذا طال أمد هذه الحرب، وتبرم من طولها الجيش، ونسي أو تناسى هذا الجامح الطامح، أن الشعب يضيق به أشد الضيق، وينكر غايته وهدفه أعظم الانكار، والجيش السوداني لا يكتفي مثلنا بالانكار والضيق، بل يضيف لهما عزماً صادقاً لا يكاد يرقى إليه ظن، فالجيش تجتمع عنده هذه الضروب، مع الحاح عنيف بمحق المليشيا، قبل أن يبلغ العام، أو يكاد يبلغه دواسه معها.

والسودان حتى ينجو بنفسه من شرور هذه الحوادث الحادة، عليه أن يحلل، ويفند، ويمدح، ويذم، يحلل أسباب هذه النزاعات،  ويسعى أن يحصي مسوغاتها، فالسودان يحتاج أن يقف في فصول كل هذه الحروب التي استعرت في أراضيه، وقفت تفكير وتأمل، وأن ينتهج هذه الطريقة الشائعة المألوفة في الكثير من البيئات المتحضرة، التي تعكف على دراسة كل ما يؤرقها بالبحث والاستقصاء،  هذه الطريقة الناجعة هي وحدها التي تنتسخ آية الشك، وتبدد ظلمة الشبهة، علينا إذن أن ننثر كنانة هذه الأسباب أيها السادة، ونعمد إلى أشدها اعناتا إلى الذهن، فنتخذها موضوعاً يبعثنا على التفكير، ويحبب إلينا الروية، التي تكفل لنا  التخفف من هذا الحمل المنشوء، الذي إذا نزعناه عن رقابنا، لعشنا في لذة ودعة، ولتوثقت صلاتنا بالنهضة،  النهضة تلك المفردة العظيمة المعاني، الفينانة الأفرع، والتي لا يتحرك ذكرها إلا عند استرجاع ماضينا السحيق، وحتى نتحفّى بنتاج العقول، وجني الأذهان، علينا أن نقصي العواطف، ونبعد الاحساس، فالمشاعر مكانها  العبث والفنون، أما مشاكلنا العويصة المعقدة، فهي تحتاج إلى عقل نابه  ومنطق صائب، وتحليل دقيق،  نحتاج إلى عقل واعي ومدرك، يأنف من هذه الحياة الوضيعة، ولا يتكلف المعاذير لأصحابها، عقل جائشاً بالحركة والنشاط، يسعى لأن يبحث في الآراء المضطربة، وقضايا الهيجاء المتناقضة، فيقرب أسباب، ويقصي أخرى، ويظهر في خاتمة المطاف وجه الحرب الشاحب، ويبين صفرته ودمامته.

وحتى ننظر إلى أبعد من أنوفنا، علينا أن نحكم الإبانة، ونحقق الايضاح، ونلائم بين حكمنا على الأشياء وحكمنا على الناس، يجب أن نستيقن أن نظامنا الاجتماعي عامل لا سبيل إلى اغفاله، نظامنا هذا الذي يجب أن نسرف في لومه، وذمه، ولا نقتصد، لأنه ينال الحظ الأوفر من الميل والعاطفة، ولأن منظومته تحتوي على كل رث وفاسد، وحتى نتجنب َشرور هذا النظام، علينا أن نُحْكِم التربية، ونُحْكِم الأخلاق، ونُحْكِم القيم المستوحاة من الدين، حتى لا نخلط الحسن بالقبيح، والجيد بالردئ.

وحتى نفعل هذا كله، علينا أن نتكلف جهوداً، ونتجشم أهوالاً، و نستدعي تلك الملكات القوية التي تعيننا على التخلص من هذه الأزمات، نحن إذاً نفكر في هذه الأزمات على اختلافها، ونسعى في عزم وثاب للتخلص منها،  أول خطوة يجب علينا اتخاذها لطي سجل هذه الأزمات، يكمن في التركيز على طائفة بعينها،  طائفة لا تستطيع أن تقاوم جهدنا هذا أو تتأبى عليه، الطائفة صاحبة الشعور الجم، والإحساس القوي، علينا أن نوليها اهتمامنا، حتى تستطيع أن تعرف وتنكر، وتحذف وتضمر، في شأن الوطنية، حينها فقط تستطيع الناشئة أن تدفع عن نفسها، وتحسن الدفاع، وتتجاوز هذه المعاظلة والالتواء، التي أغرقنا نحن أنفسنا بين ثنياها، فهي منكبة على الأصول التي حذقتها من طفولتها الباكرة، ومتهاتفة على قيمها، وحريصة على أخلاقها، فالهوية والاعتداد بها، ملكة تحصلت عليها بالدرس والتحصيل، لا بالمعاناة والطلب مثل حالنا نحن، والناشئة حتى تنعم بحدة العاطفة، وصدق الشعور، علينا أن نجنبها كل ما تورطنا فيه، من آثرة، وجهل، وعجز ذهننا الكليل عن التفكير الصحيح، و أن ننأى بها عن التماهي الفج مع سلطان القبلية، وتعزيز الهوية الوطنية حتى يبلغ أقصاه عند الجيل الجديد، يجب أن تنهض به قطاعات ومؤسسات متعددة، أولها قطاع المناهج بكليات التربية، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن المناهج في كنهها هي الأثر الفني البديع الذي يشذب من غرائز الأطفال الساذجة، ويلهم عواطفهم الطليقة، ليأطرها ويدفعها نحو الخير والجمال، والمناهج التي تحرك الذهن، وتأجج العاطفة، -كما نعلم- يجب أن تخضع للتغيير والتجريب،  وأن تكون حافلة بالألفاظ الحرة المترفة، والصور والألحان الباذخة، وبالموسيقى والتصوير، وأن نعطي هذه الأداة الشائعة التي تسمى "الحكاية" حقها، فالأطفال يحبونها ويكلفون بها، لأنها تعبث بانفعالاتهم ونفوسهم، ويبقى أثرها منسوجاً على لوحة صدورهم،  ومرتسماً على صفحة أذهانهم، والقصص، والحكايات، وغيرها من الوسائل، ينبغي أن تكون وسيلة لا لأن تدفع المهج البريئة إلى الراحة والفتور، ولكن لأن تؤثل فيهم قيم الوطنية، حتى تحفل بها الخواطر، وتتدفق بها القرائح، ويغتني بها الشعور، والمناهج يجب ألا تكون مذاهب مختلفة، حتى لا يفترق الناس حيالها تفرقاً عظيما، ولكن أن تكون شاملة محيطة، تستثير العواطف، وتهيج الإحساس خاصة فيما يتعلق بالكرامة والأعياد الوطنية، فوقع هذه الملاحم والأعياد، يجب أن يظل خالداً في عقل هذه الأجيال وقلبها، هذه المناهج يفترض أن تنتهي بدارسها إلى القوة والخصب، وأن تقود لأن يتحلى طبعه بالرغبة في البر، والنفور من الشر، وألا يُعنى باللفظ الوضيع، أو يحوم حوله، تلك الألفاظ التي تكون ثقيلة على النفس، وممجوجة في الأذن،  مثل التعصب، والجمود، والآثرة، والخيانة، والاستبداد، والغرور، والجهوية، وغيرها من الألفاظ التي أقعدتنا عن ملاحقة الركب، ومجاراة التطور،يجب أن تنبو عنها السليقة السليمة، وحتى نجمل القول حول المناهج، نقول أن الغاية التي تسعى إليها المنظومة التعليمية من وراء وضع المناهج، هي أن تبسط اللسان، وتشحذ الخاطر.

  والمعلم أيسر سبيل لأن يؤدي مهمته الجليلة على أكمل وجه، علينا أن نجنبه هذه الحياة الغليظة الخشنة التي يعيشها الآن، وأن تخلو حياته من هذا الكد، وهذا الاضطراب، وألا تكون عوالمه كلها تعسة سيئة الحال، فمقام المعلم وقدره أجلّ من أن ينحط إلى هذه المرتبة، علينا أن نبعد معلمي الأجيال عن هذه المنزلة الكريهة، وأن نتعهدهم بالعناية والرعاية، ونصرفهم عن العاديات، لكي يستطيعوا أن يعصموا الأجيال من الإثم، وحتى لا يصيبهم الضعف، أو يدركهم الفتور، في نصرة أوطانهم، وفي الذود عنها، وفي التضحية والموت من أجل أن تبقي هي شامخة أبية، المعلم الذي يقدم ألوان العواطف والشعور لتلاميذه، يجب أن تكون سمات العلم والمعرفة هي السائدة عليه، لذا يجب أن يمضي في وتيرة الصقل والدورات المكثفة حتى نصل به إلى غايتها، وأن تظل نغمة الاستنارة، والمواكبة، ضاخبة، مجلجلة بين خلايا ذهنة المتقد.

  دعونا نسأل في دهش، بلغة حانية مستعطفة ولاة أمورنا، حتى متى تبقى مدارسنا على هذه الهيئة الرثة الكئيبة، إن واقع هذه المدارس حتماً يزري من نفسية الطفل المتلقي، ويجعلها ثقيلة سمجة،  لا تسعى إلى تحصيل، أو تهفو إلى تفوق، علينا أن نقي رياض الأطفال، والمدارس بكافة مراحلها وتقسيماتها، هذه النكبات المتصلة، وأن نعزز صلتها بالرقي والتطور والسناء، وأن تقترن مبانيها بمعاني المعرفة ورونقها، والمعرفة أكبر الظن أحط وأدنى عند ساستنا، لأجل ذلك لا تلتفت إلى هذه المدارس، إذن لا لوم ولا تثريب على ساستنا الذين يستخفوا بالدور الكبير الذي تقوم به هذه المدارس، ولعل من الثقل والاملال، أن نسهب في تفصيل تغاضيهم عنها على مر العقود والحقب، إن تجافي أرباب الحكم والتشريع عن الموئل الذي يرفد الناشئة بهذه الحياة التي يجب أن تمتزج بنفوسهم، يزري بآمال ومصلحة النوع الإنساني، ويقوض دعائم المجتمع، ويفت في عضد القدرة الشعبية التي شيدتها، فحكوماتنا المشبلة العطوف التي تطيل في الحديث، وتكثر من الثرثرة، وتسرف في الألفاظ الدالة على فضل التعليم، كان أرجى أن تكون أسرع حكومات المنطقة في الأخذ بأسباب التعليم، وأن تمعن في بناء هذه الصروح التي تحتفي بالحياة العقلية للأجيال، ولكنها لم تفعل، أو أنها لا تريد أن تفعل، لأنها تريد أن تحافظ على حياتنا القديمة المتصلة بالجهل وانتشار الأمية اتصالاً وثيقا، وألا نرى لهذا العلم جمالاً مغريا، وحسنا فتانا.

ولعل من الطبيعي أن ينتهي بنا الحديث إلي اللغة العربية التي تعتبر خلاصة كل شيء وجوهره في هذه الديار، شاء من شاء، وأبى من أبى، اللغة العربية التي تضحك من هذه الدعوات الفارغة البلهاء، التي تسهب وتطيل في ضرورة أن تتوقع في دائرة المعتقد والمذهب الديني، ولا تحظى بمثل هذا الانتشار، ونسيت هذه الدعوات أن وحدة السودان واتساقه لم تكن إلا بها، لقد صمم بعض السذج على مناهضة هذا الوعاء المترف، وشرعوا في امضاء هذا العزم، التماساً لرضى الغرب وتقرباً إليه، ولكن هذا التصميم، وهذا العزم، طرحه الزمان، وداس عليه بكلكله، ولم يبقى إلا على عنوانه، فنحن ما زلنا نسمع في اكبار وتثاؤب خفيف، مذيعي الأخبار في سوداننا يتداولون في أجهزة الراديو والتلفاز هذه اللغة في اسراف وجموح، ولم يبدلوها بعد بلغة أجنبية كانت أو محلية، ولعل الشيء الغريب أن أنصار هذه اللغة وخصومها يتحدثون بها، ويتشدقون بألفاظها الرنانة في حوارتهم الضحلة والعميقة، هم خاضعين لسلطانها إذن، ورغم ذلك يلومونها، ويعنفوها، ويستهجنون سطوتها التي لا تقتصر على أدب ودين،  فنظامهم السياسي نسجت أحرفه من هذه اللغة العصية على الهدم والاضمحلال أيضا. ومن السخف الذي لا يعادله سخف، أن نعادي هذه اللغة ونسرف في عدائها، لأن موطنها  الأصلي هو جزيرة العرب، ولأن أسمال العروبة هنا في سوداننا واسعة الخروق كما يرى البعض، علينا أن ننتحل لغة مغايرة لهذه اللغة، ونتخذها أداة للتخاطب عوضا عنها، ستظل هذه اللغة الشامخة تحتفظ بحقها في الحياة، وستظل هي الرائدة والمهيمنة على رصيفاتها، وسنظل نكبرها ونكبر دينها وأدبها، ولن تنقطع صلاتنا بقوتها وجذالة ألفاظها، ستظل أشجار هذه اللغة السامية مغروسة في ثرى هذه البلاد، ولن تتصدع جذورها، أو تتهاوى فروعها، أو تتقصف أوراقها، مهما تعددت تيارات الريح أو تضاربت، إذن لغة السودان الأولى لا تبتغي التأييد، ولكنها تبتغي أن نجاهد في سبيلها، وأن نحتفظ بطارفها وتليدها في حنايا هذه المهج الغضة البريئة، وألا يتعرض جيدها الأتلع النضير إلى الغواشي وسوء التقدير.

***

د. الطيب النقر

 

لقد عُرّفَت السياسة بأنها فن الممكن، ومن هذا التعريف أستنبط المشتغلون بالسياسة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، يعني كل شيء متاح ويمكن أستخدامه، فهو مرخص لهم أستخدامة لتحقيق الغاية المراد بلوغها من قِبلهم، وأستناداً على هذا المبدأ سمحوا لأنفسهم أدخال الكثير من الممارسات الغير أخلاقية، والغير أنسانية في عملهم السياسي، بل وأعتبروه فناً سياسياً، يعبر عن حذاقة وذكاء ذلك السياسي الممارس لهذا العمل الموسوم باللاأخلاقي واللاأنساني مادام يصب في تحقيق أهداف رسمتها السياسة العامة لبلده. لاشك أن هكذا لون من السياسة، هي سياسة متجردة من الأخلاق والأنسانية، وقد شهدت الأنسانية جراء هذا اللون من السياسة الويلات تلو الويلات من جرائم الحروب، وأستعمار للشعوب، وهضم للحقوق.

السياسة كعلم ونظريات وممارسات توظف لأدارة الدول والشعوب، والتحكم في أيقاع ونوع العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، ولكن للأسف جُيرت السياسة عند البعض من الحكام من أجل تعزيز سلطتهم، والتحكم بمقدرات شعوبهم، ومن هذا النوع من السياسة، هي السياسة التي رسمها الأمويون بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وهو من سبق السياسي والمفكرالأيطالي نيكولا مكيافيلي، بل يمكن أعتبار معاوية هو المؤسس الحقيقي للمكيافيلية السياسية، فقد صنع نموذجاً سياسياً يوظف فيه كل الممكنات المتاحة، من أجل بناء مملكته وتوطيد حكمه، فقد كان نموذج للدهاء السياسي الموسوم بالشيطنة في بناء أمبراطوريته الأموية، والتي كانت نموذج خارج للمألوف في فلسفتها وممارستها للحكم، فقد حدد هدفه بوضوح، الا وهو السيطرة والحكم الفردي، وبناء أمبراطورية عائلية، وقد لخصها في كلمة له (ماقاتلتكم لتصوموا ولا لتحجوا ولالتزكوا. قد عرفت أنكم تفعلون ذلك وإنما لأتأمر عليكم...). فقد سمح لنفسه من أجل تحقيق ما يصبو إليه من هدف شخصي، كل الممكنات سواء كانت مادية كالحروب، وقد فعلها، وكانت أشهرها حرب صفين التي قاتل فيها خليفة المسلمين الشرعي علي بن أبي طالب، وما تعرض إليه معارضوه من قتل وأضطهاد ونفي وسجون. أو سياسياً فقد مارس سياسة الأحتواء، وهي أستراتيجية تتضمن التحيد والتهميش والأستلطاف والترغيب للمعارضين، وهي سياسة عُرفت، بسياسة شعرة معاوية، وقد لخصتها كلمة له يقول فيها (لو كان بيني وبين الناس شعرة لما إنقطعت، فإن مسوها تركتها، وأن أرخوها جذبتها). من خلال ما عرضناه من منهج معاوية بشكل مختصر، سنوضح الممارسة السياسية الغير أخلاقية في توظيف النبوءات والحكايات لأجل توطيد سلطانه، وهي ممارسة تنطبق عليها الشعار الذي رفعه زميله من بعده مكيافيلي، وهو (الغاية تبرر الوسيلة) وتحت هذا الشعار أستخدم معاوية ممارسة لم تكن معهودة في السابق،وهو أستخدام الدين لا لخدمة الفضيلة وأنما لخدمة السلطة، وخدمته شخصياً، وهذا النوع من الممارسة لا تتطلب من الشخص أن يكون شريفاُ، وأنما فقط محب لنفسه فقط، وقد قالها الرجل كما ذكرنا أعلاه.

نستعرض هنا بعض الممارسات التي سجلها لنا التاريخ في كيفية توظيف الأموين للنبوءات والحكايات، وهنا نأخذ أمثلة نوضح به ممارساتهم في توظيف هذه النبوءات والحكايات كطريقة يهيمنوا بهما على الجمهور، ويضمنوا ولاءهم وطاعتهم لهم، ونذكر هنا أمثلة : عندما أراد هشام بن عبد الملك أزاحة أبن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد، ساعياً الى تبديله بنجله مسلمة كولي للعهد فأستعان بمستشاريه، فأشاروا عليه بفكرة الأسلوب الدعائي المتمثل بأختلاق الروايات والحكايات الموضوعة متوخياً تسقيطه أجتماعياً كطريق لأقصاءه بعيداً عن الصراع المادي، فقد أستعان هشام بتنفيذ هذه المهمة بالفقهاء والمحدثين لتحصيل هذه النبوءات، وقد ساهم الزهري بعدد غير قليل من هذه النبوءات والأحاديث، ومنها عن الزهري حديث نبوي تظهر فيه شخصية الوليد المراد تسقيطها (وُلد لأخي أُم سلمة وَلد، فسموه الوليد، فقال النبي : سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكوننَّ في هذه الأمة رجل يُقال له الوليد، لهو أَشد لهذه الأمة من فرعون لقومه)، وفي حديث آخر : سيكون في الأمة فرعون، يُقال له الوليد)(معمار الفكر المعتزلي ص56)، وأما النوع الثاني من الدعاية المضادة، هي الحكايات التي قِلت بعد مقتل الوليد، تصور أنحرافه المزعوم عن أخلاق الأسلام، بل وخروجه عن الإنسانية وشيطنته، بل وزندقته بأعين المجتمع، فقد جاء في أحد الحكايات بأن الوليد كان يخفي تمثال لماني يتعبد إليه، وكأنه لا يؤمن بالأسلام) (الأصفهاني: الأغاني7/56)، وهناك حكاية أُخرى حُكيت عليه بأنه كان يسكر فوق سطح الكعبة انتهاكاً لحرمتها) (تاريخ الطبري6/180، البداية والنهاية 7/62 ) وفي حكاية أخرى تتقول (بأن الوليد كان يريد يجمع بين أختين) (معمار الفكر المعتزلي ص57). هذا الأسلوب لم يتوقف على خليفة أموي واحد بل هو خط عام لسياسي هذه الدولة، فقد لعبت هذه السياسة دور حاسم في أقناع الجمهور بأن تولية الحاكم هو أمر سماوي لا راد لقضاءه، وليس على الناس الا السمع والطاعة، وهنا نأخذ دور النبوءات في تثبيت وأستباب الأمر لعمر ابن العاص بولايته على مصر وأنه أمر حتمي بأعتباره قضاء وقدر ألهي، فقد ذكر ابن يوسف الكندي المتوفي في القرن الرابع الهجري في كتابه الولاة والقضاة في حديثه عن والي مصر عمر بن العاص كالآتي (كان عمر بن العاص تاجراً في الجاهلية فأتى الأسكندرية فوافق عيداً لهم يجتمعون فيه ويلعبون.. أجتمع أبناء الملوك وأحضروا كرة لهم مما عملها لهم حكماءهم فتراموا بها بينهم وكان من شأنها المتعارف عندهم من وقعت في حجره مَلك الأسكندرية،أو قالوا ملك مصر فجعلوا يترامون بها وعمر في النظارة فسقطت الكرة في حجره فتعجبوا لذلك، وقالوا ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة وأنى لهذا الأعرابي يملك الأسكندرية، هذا والله لايكون) (محمد يسري: كيف لعبت النبوءة دوراً حاسماً في أنتقال السلطة)، ومن النبوءات التي قيلت لصالح تولية معاوية وتبرير سلطانه على رقاب المسلمين، هو ماذكره ابن كثير في كتاب البداية والنهاية المتوفي عام 700 هجرية وهناك من يقول 774 هجرية والذي يذكر في كتابه هذا أن هند بنت عتبة كانت قد تزوجت من الفاكه بن المغيرة المخزومي، وأنه في يوم ما شاهد الفاكه رجلاً يخرج من داره فشك في زوجته وأتهمها بالفسق والزنا، وتحاكم الطرفان الى أحد كهنة اليمن، فقام هذا الكاهن بتبرئة هند، وقال لها (أنهضي غير زانية، ولتلدن ملكاً يُقال له معاوية) وهنا أعتذر الفاكه لها ولكنها تركته وقالت له لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك فتزوجت من أبي سفيان بن حرب وكان لهما معاوية. من المعروف أن أبن كثير من الموالين لبني أميه لأنه من تلاميذ ابن تيمية، لذلك يكون حريص على أظهار مناقب بني أمية، وهناك نبوءة أخرى نذكرها كمثال لا للحصر أخرجها البغوي عن طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال فيها كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر، فقالت له قم لا رفعك الله، قال لها أعرابي لمَ تقولين هذا؟ والله إني أراه سيسود قومه، وأختم هذه النبوءات التي وظفت في الدجل السياسي، والتي أبدع فيها الأمويين أيما أبداع، والذي من خلاله عززوا سلطتهم في الحكم خلال 90 عام حكموا خلالها المسلمون بطريقة يتصاغر أمامها مكيافيلي بكل أساليبه الشيطانية، فقد ذكر الواقدي أن معاوية خاطب أهل الشام أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن فقال (أيها الناس إن رسول الله قال: إنك ستلي الخلافة من بعدي، فأختر الأرض المقدسة، وقد أخترتكم فألعنوا أبا تراب فلعنوه. أن هذا اللون من التفكير يستند الى آيديولوجية أبتدعها الأمويون للأنقضاض على السلطة، وقد سًميت بعقيدة الجبر أو القدرية تعززها أمثال هذه النبوءات والحكايات المختلقة والملفقة، والمحبوكة بشكل فني لا يخلو واضعيها من خيال واسع.

***

أياد الزهيري

عندما تكون المواطنة استلابا واغترابا؟!

كتب الأديب محمد الماغوط يقول: "عندما كنت أتمشى في حلب كنت أسمع بائع الجرائد يصيح: (الوطن بخمس ليرات، الثورة بثلاث ليرات، العروبة بليرتين) كنت أظنه يقصد ثمن الجريدة"

1- مقدمة:

إذا كانت المواطنة تعبيرا عن العلاقة الإنسانية بين الإنسان والإنسان من جهة، وبين الإنسان والوطن من جهة أخرى، فإن هذه العلاقة، بما تنطوي عليه من مضامين وقيم وأبعاد، تشكل أكثر العلاقات الإنسانية سموا بالإنسان وارتقاء بإنسانية. فالمواطنة في صورتها الحقيقية حالة من الازدهار الإنساني التي تولدّ في الإنسان حالة إنسانية تعبر عن أكثر مضامين وجوده الإنساني سموا ونبلا. وعندما يفقد الإنسان نبل هذه العلاقة بالوطن والإنسان فإنه يفقد أكثر عناصر وجوده أهمية وحيوية. ولا ضير في القول بأن توتر هذه العلاقة يدفع الإنسان إلى دوائر الاغتراب والاستلاب بكل ما تنطوي عليه هذه الدوائر من بؤس الوجود الإنساني وإكراهات الحياة، وذلك لأن الإنسان يكتسب جوهره الإنساني عبر تواصله الحرّ مع الوطن وبما يضفيه هذا التواصل من مشاعر إنسانية متدفقة المعاني والدلالات.

فالحرية جوهر المواطنة وعمقها، وذلك لأن المواطنة ترمز إلى الإنسان الحر القادر على المبادرة الإنسانية الحرة بحكم انتمائه إلى الأرض والمجتمع. والمواطنة تعني الإنسان الحر الذي يمتلك حقوقا وواجبات مؤسسة على مفهوم المشاركة الديمقراطية الحرة في مجتمع محدد وملموس، وهذا يعني بالمقابل أن الإنسان الذي لا يتحلى بصفة المواطنة في مجتمع معين هو كائن مستلب مغترب فاقد لجوهره الإنساني.

والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل هناك مواطنة في مجتمعات شمولية قائمة على التسلط والإكراه؟ وأين هو مكان الإنسان العربي في جغرافية المواطنة والانتماء إلى الوطن؟ هل هناك مواطنون أحرار وفقا لدلالة مفهوم المواطنة وأبعاده الإنسانية؟ أم أن الإنسان العربي ما زال بعيدا عن شرف اكتساب المواطنة في عالم حر؟ وبعبارة أخرى هل نحن أقنان أم أحرار في مجتمعات يسودها صلف القهر وجنون الاستبداد؟

2- أزمة المواطنة:

ويقينا أننا عندما نأخذ بالدلالة الحرة لمفهوم المواطنة فإننا سنجد غيابا مذهلا للوجود الإنساني في مختلف أصقاع عالمنا العربي حيث نجد ركاما بشريا فقد إنسانيته وكرامته وإحساسه بالمواطنة الحرة والوطن. فالإنسان العربي في دائرة التسلط والقهر فقد صلته الإنسانية بالأرض والوطن ويفتقد اليوم إلى أبسط معاني الوجود والكرامة في علاقته بالسلطة والأنظمة السياسية القائمة التي لا تستطيع أن ترى في مواطنيها إذا جاز التعبير أكثر من أقنان وعبيد ورقيق ورعاع وسوقة وعامة.

ومن أجل التعبير عن أزمة المواطنة في العالم العربي، وعن الحالة الاغترابية التي يعيشها الإنسان العربي، يمكننا أن نلجأ إلى المقارنة بين مشاهد التكريم التي يحظى بها المواطن الغربي في وطنه وبين مشاهد التعذيب والقهر التي يعانيها الإنسان العربي في وطنه ودياره. لنستعرض صورة واقعية ما زالت حيّة في الذاكرة تتمثل في مشهد استقبال الصحفية الفرنسية الُمحررة في العراق "فلورانس أوبنا" في طريق عودتها إلى الوطن، حيث استُقبلت في مطار باريس باحتفال وطني مهيب منتظر. ولم يكن غريبا على فرنسا الحرة أن يكون رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه في طليعة المستقبلين احتفاءً بعودة الصحفية المظفرة. لقد استنفرت فرنسا، شعباً وحكومةً، كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية، على مدى أشهر عديدة، من أجل تحرير فرنسية كانت تعمل مراسلة صحفية مغمورة في العراق، ولم يهدأ للحكومة الفرنسية جفن، وللشعب الفرنسي بال، حتى تمّ تحرير الصحفية المنكوبة وإعادتها إلى الوطن محاطة بكل مظاهر الرعاية والتكريم.

وقد يتساءل القارئ لماذا نسرد هذه الواقعة؟ ولما نستعرض عودة الصحفية المظفرة إلى فرنسا بعد غياب طويل؟ لأننا ببساطة نريد عبر هذه الصورة، للعلاقة الحيّة بين الدولة والمواطن، أن نعرّف بمفهوم المواطنة كما يتجلى في الوعي وفي الممارسة في البلدان الديمقراطية، وتحديد الكيفية التي يُعامل فيها المواطن في الغرب الأوروبي الديمقراطي. لأن الموقف السياسي والجماهيري من الصحفية الفرنسية المحررة في العراق يقدم أوضح تعبير عن معنى المواطنة وماهيتها في البلدان الديمقراطية. فكرامة المواطن في هذه البلدان ترمز إلى كرامة الوطن وتعنيها، وذلكم هو مفهوم المواطنة في مجتمعات حرّة.

عندما كنا نشاهد طقوس العودة المظفرة للمواطنة الفرنسية محاطة بكل مظاهر الحفاوة والتكريم من قبل الشعب والحكومة الفرنسية(وكانت هناك حالات مماثلة أخرى سابقة في إيطاليا، وبريطانيا، واستراليا، وأمريكا) عشنا معضلة الصراع الوجداني لحالة نفسية متناقضة ومـتأزمة في الآن الواحد، وتتمثل هذه المعضلة الوجدانية في انشطار وجداني بين شعورين متناقضين: يتمثل أحدهما بحالة من الفرح والسعادة بينما يتمثل الآخر بحالة أخرى من الحزن والأسى والمرارة: فرح لا يوصف لحالة إنسانية يتم فيها تحرير الصحفية الفرنسية ونجاتها من اعتباط الاختطاف، وحالة أخرى مناقضة لها تتمثل في شعور المرارة والأسى لأن هذا يذكرنا بالمأساة التي تكوي قلوب المواطنين العرب في كثير من أقطارهم عندما يعودون إلى أوطانهم من غربة طالت أو قصرت، حيث ينتظرهم في مطارات بلدانهم احتفاء وطني من نوع آخر، فأسماؤهم مرصودة في السجلات الحمراء ودهاليز أجهزة الأمن والاستخبارات في انتظارهم، حيث يكون الداخل إليها مفقودا والخارج منها مولودا. نعم هما صورتان للاحتفاء بالمواطن صورة فرنسية، وصورة عربية فأيهما أكثر تشويقا وجمالا(1)؟

قد تكون هذه الصورة وهذه المقارنة أفضل الممكن في التعبير عن مفهوم المواطنة في مجتمع ديمقراطي ومفهومها في مجتمع شمولي ديكتاتوري. وتلك هي صورة واحدة في فسيفساء الاستبداد التي لا تحصى رموزها ولا تستنفد معانيها.

المواطنة كرامة الوطن في الإنسان، والمواطن صورة لكرامة الوطن، وتلك هي الصورة التي نشاهدها في سيناريو المواطنة في الدول المتقدمة. أما المواطنة في بعض بلداننا فهي المذلة التي يؤصلها سدنة النظام القاهر في الإنسان المقهور، وصورة المواطن هي صورة تتجلى فيها مذلة الوطن، لأن كرامة الوطن من كرامة مواطنيه. فالوطن الذي نعيش فيه يعاني من المذلة والقهر لأن المواطن فقد شروط الكرامة الإنسانية وسقط في متاهات الاغتراب والاستلاب الذي فرض عليه في دورة الاستبداد السياسي الذي يتصف بالعمق والشمول.

فالأنظمة السياسية المستبدة تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تحويل المواطنين إلى رعايا وعبيد، إلى أفراد يدينون بالولاء الأعمى للنظام القاهر المستبد. والمواطنة في منظور النظام السياسي هي ولاء المحكوم للحاكم ورضوخ المواطن لإرادة النظام. فالخضوع هو مبتدأ المواطنة في الأنظمة الأمنية والقمعية والإذلال هو خبرها. الإكراه هو المنطلق، والعبودية الإنسانية هي الغاية التي تسعى إليها الأنظمة البائدة.

ففي العالم العربي المعاصر ما زال مفهوم القبيلة والطائفة يتقدم على مفهوم المواطنة. وما زال مفهوم الانتماء إلى القبيلة والطائفة يتصدر مختلف الانتماءات وفي مقدمتها الانتماء إلى الوطن. وما زال مفهوم الوطن في دائرة الغموض، وما زالت العلاقة بين الوطن والمواطن علاقة مشوبة بالخوف والقلق والحذر(2).

إن بناء مفهوم المواطنة citoyenneté وتأصيله وعيا مرجعيا في عقل المواطن في اتجاه تعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافيا وإنسانيا أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المعاصر. ولا ريب في ذلك لأن مفهوم المواطنة يشكل واحدا من المفاهيم الأساسية التي تأخذ مكانها في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمعات الإنسانية المتقدمة في السلّم الحضاري. ويعول كثير من المفكرين اليوم على أهمية بناء هذا المفهوم وتأصيله في اتجاه تحرير الوعي اليوم من أثقال الانتماءات التقليدية الضيقة التي تتمثل يقينا في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيقة. فالتحولات الكبرى الضاغطة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية تعمل على تفكيك المنظومات الأيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهيمنة والوجود.

2- السياق التاريخي لأزمة المواطنة في البلدان العربية:

إن الحديث عن المواطنة في البلدان العربية يتطلب منا أن نتساءل عن أوضاع الدولة ما بعد الاستعمار والكولونيالية. كيف تشكلت هذه الدول وكيف تأصلت هويتها؟ كيف تستلهم القيم الديمقراطية والتجربة الديمقراطية من الغرب؟ وما هي الكيفيات التي تعمدها هذه الدول في استقدام التجارب الغربية؟ هل تحترم هذه المبادئ والتجارب الديمقراطية التي تجري في العالم المتقدم؟ كيف تقاوم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية وكيف تتعايش من أجل المحافظة على وجودها إزاء المؤسسات الحديثة؟

لقد قسمت البلدان العربية وفقا لاتفاقية سايكس بيكو إلى دول ودويلات وجاء هذا التقسيم بوحي من مصالح الدول الكولونيالية الكبرى التي اعتمدت تقسيما إداريا يجعلها أكثر قدرة على إدارة هذه البلدان فيما بعد الكولونيالية. ولم تأخذ هذه الدول بعين الاعتبار أو الأهمية التكوينات الإتنية والعرقية والقبلية لهذه الدول بعين الاعتبار. لقد شطرت هذه التقسيمات القبائل العربية في عدة دول وشطرت القرى أحيانا إلى ثلاثة أقسام، وشتت العائلات الكبرى في دولتين أو أكثر. وقد عملت الكولونيالية هذه على تكوين دول وحرصت على بناء أيديولوجيات سياسية متكاملة مع الكولونيالية الأم.

وفي دائرة هذا التقسيم ترتب على الشعوب العربية أن تنمي انتماءها إلى صيغة الدولة التي شكلت بحدودها الكولونيالية. وهي دول حديثة التكوّن وقد فرضت على شعوبها من الخارج. وقد تطلب ذلك من كل فرد ومواطن أن يعترف بولائه لهذه الدولة أو تلك، من منطلق البحث عن السلام والاستمرار في الوجود، وأن يعلن عن نفسه "مواطنا " يؤدي واجباته ويمتلك حقوقه في إطار الدولة الحديثة، التي فرضت عليه دولة ينتمي إليها لأسباب استعمارية وليس لاعتبارات تاريخية أو حضارية. وهذا يعني أن الأمر تطلب من كل فرد شملته الدولة الحديثة ألا يشعر بأن أجنبي يعيش في دولة لا ينتمي إليها. وقد اقتضى الأمر أن يعيد المواطن تكيفه الجديد وأن يبدأ تدريجيا بتأصيل هذا الانتماء الجديد للدولة الكولونيالية الجديدة. وغني عن البيان أن الزعماء العرب في عهد الاستقلال لم يستطيعوا أن يمتلكوا مفهوما واضحا عن الدولة وطبيعتها وأسسها وإشكالاتها. وكانوا يجهلون ربما أن الروح الوطنية والقومية هي الأصل في عملية بناء الدولة. وكانوا يجهلون ربما بأن الدولة لا يمكنها أن تكون مؤسسة خاصة لحكامها.

لقد نشأت الدول القديمة على أساس الأمة Nation فالأمة توجد في أصل الدولة L'ETAT وقد تشكلت هذه الدولة بدساتيرها ومؤسساتها وفقا للروح القومية. ولكن وعلى خلاف ما هو معهود في التاريخ فإن الدول العربية هي التي تشكلت أولا ثم هي التي أدت إلى ولادة الأمة(بالمعنى الضيق للأمة: الدولة القطرية). ونحن هنا إزاء قانونية معكوسة في تاريخ تشكل الدول والأمم. ولأن الدولة لا يمكنها أن تنشأ إلا في أحضان الأمة فإن الدراما السياسية في هذه البلدان ما زالت تدور في حلقة مفرغة.

وبالتالي فإن هذه الإشكالية المتعلقة بنشوء الدولة على نحو كولونيالي خارجي أدى إلى تشويش كبير في مسألة المواطنة والانتماء. ولم تتضح معالم مفهوم المواطنة في كثير من البلدان العربية المعاصرة. وليس غريبا جدا إذا قلنا بأن مشاعر القلق والتوتر وغياب الأمن الوطني وتداعي المشاعر بالشرعية التي تمثلها الدولة بقي طاغيا في كثير من ممارسات الحياة الثقافية في البلدان العربية، ولذلك بقي الولاء مكرسا للوحدات الاجتماعية الجوهرية الصغرى، كالولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة بوصفها كيانات اجتماعية أكثر رسوخا وأهمية من الدولة التي فرضت بمقتضى الأحوال الكولونيالية المعروفة.

3- الأنظمة السياسية العربية واستلاب الإنسان:

لقد عملت الأنظمة السياسية والديكتاتورية القائمة في القرن الماضي على تغييب القيم الديمقراطية في المؤسسات الثقافية وفرغتها من المضامين الحرة جميعها، وجعلت من مجرد التذكير بحقوق الإنسان والمواطنة والقيم الديمقراطية زندقة وكفرا، وجاء الحصاد في نهاية الأمر جراح دامية. لقد أدت وضعية النشوء غير الطبيعي للدولة إلى غياب الشعور بالأمن عن المواطن. فالدولة الحديثة المصممة على نماذج خارجية غريبة عن طبيعة المجتمع وهي تعاني صعوبة في الحصول على ثقة المواطن واقتناعه بمشروعيتها السياسية. وهذه الدولة تواجه تبعة إرثين مختلقين يتمثل أحدهما في التركة الثقيلة لكيانات اجتماعية تقليدية وما قبل تاريخية أحيانا ويتمثل الثاني في إرث ثقافي وسياسي غربي محمل بتراث ديمقراطي إنساني بالغ النضج والتعقيد. وهذه الوضعية الانشطارية دفعت الدولة إلى استخدام العنف والإسراف في التسلط من أجل ضمان الأمن، وذلك لأنها عاجزة في الأصل عن عقلنة هذا الواقع الذي يتفجر بتناقضاته الماثلة بين الجديد والقديم، بين الحديث والمتجدد، بين التقليدي والحداثي، بين الدولة العصرية والتكوينات التقليدية للحياة المجتمعية، بين مفهوم المواطنة ومفهوم الرعاية (الرعية). وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الدولة نفسها بعيدة جدا عن الثقة بالمواطن نفسه. فالمواطن غالبا ما ينظر إليه بوصفه عدوا للدولة والدولة هي العدو الأول للمواطن كما يراها المواطن نفسه. وهنا نجد أنفسنا في أجواء انعدام الثقة الكلية بين المواطن والدولة. وهذا بدوره يشوش الصورة التي يفترض أن تكون للمواطنة وعلاقة الدولة بالمواطن. وعلى هذا الأساس فإن المواطن يعش حالة توتر وقلق تتصف بالاستمرار والديمومة عندما يتعلق الأمر بالدولة وممارساتها القمعية.

في الدول الديمقراطية يشارك المواطن في عملية بناء القوانين الخاصة بالحياة العامة، وله الحق أن ينظر فيها ويبدي الرأي حولها. وهذا الأمر لا وجود له في الغالب في الدول العربية ما بعد الكولونيالية.

فمبدأ المساواة لا يتطلب أن تكون القوانين والقرارات التي تشكل النظام حقيقية وواقعية فحسب، بل يتطلب أن تؤسس هذه المساواة على منظومة من القيم الضرورية والأساسية لوجود المجتمع الحرّ. وهذا يعني أن الأمر يقتضي وجود اتفاق اجتماعي حول القيم الأساسية المطلوبة للمجتمع الحر. وعندما لا يوجد مثل هذا الاتفاق فإن الوضع السياسي والاجتماعي يكون حرجا إلى حدّ كبير.

وهنا يمكن القول بأن البلدان العربية تعاني من غياب هذا التوافق القيمي المؤسس للدولة الحديثة. ويضاف إلى ذلك أن الشعب لا يمكنه ولا يستطيع وليس متاحا أمامه أبدا أن يراقب أو أن يحاسب على الممارسات التي يمارسها أهل النظام السياسي الأساسي. وهذا ينسحب أيضا على وضعية البرلمانات التي تأخذ صورة منتخبة من قبل الشعب حيث لا تملك هذه البرلمانات في الأغلب أي خيار سياسي ما لم تحدده الدولة. وهذا يعني أن النظام التمثيلي لا يعدو أن يكون في الواقع أكثر من "بروباغاندا" سياسية في خدمة النظام السياسي القائم، وتكمن وظيفة هذا النظام التمثيلي (البرلمانات، ومجالس الشعب، مجالس النواب) في ترويج صورة خارجية للعالم الخارجي الغربي بالتحديد عن وجود نظام ديمقراطي، وبالتالي فإن هذه السمة تجعلها تحظى بدعم الغرب وتقديره ولاسيما للأنظمة التي تعاني من صعوبات وتحديات داخلية. وفي هذه الدول إلا في حالات استثنائية فإن الحزب الواحد هو الذي يحدد مرشحيه إلى البرلمان وهذا الحزب الواحد هو الذي يرشح سيده الوحيد إلى سدة الرئاسة.

فالشعوب العربية لا تشارك في صنع القرار أو القوانين، وليس لها أن تخضعها للمراقبة، فالحكومات العربية هي المعنية وحدها ببناء القوانين وإصدار التشريعات، والشعوب معنية إلى حدّ كبير باحترامها وتنفيذها. فالمواطنون مطالبون باحترام هذه القوانين طوعا أو كرها، وعندما يخرجون عن هذا التصور فإنهم يعاملون بوصفهم عملاء للخارج وأعداء للأمة والوطن.

وفي هذا الجو المفعم بالخطر وغياب الأمن والشرعية، فإن المواطن لا يجد أمامه خيارا آخر سوى التخلي عن حريته والتنازل عن كرامته من أجل أمنه الشخصي(3). فالدولة- بمعنى النظام السياسي القائم - لا تحافظ على وجودها من خلال الاقتراع الحر، بل تعتمد مبدأ القوة العسكرية أو الأمنية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب علينا أن نفهم لماذا تلجأ الحكومات إلى اغتصاب حقوق الإنسان وانتهاكها ولماذا أصبح انتهاك هذه الحقوق قاعدة في السلوك السياسي في أغلب النظم السياسية العربية.

وفي دائرة هذه الصورة لغياب الحق والقانون فإن الشعوب العربية تعاني من نهوض مؤشرات الفقر فيها إلى الحدود القصوى عالميا. وبالتالي فإن أغلب الدول العربية (غير الخليجية) تنظر المساعدات الخارجية. وفي هذه الظروف تتضاءل تدريجيا الإمكانيات التربوية في تحقيق فرص حقيقية للتعليم، وغالبا ما يجد الطلاب أنفسهم مكرهين لمتابعة دراساتهم في فروع واختصاصات علمية غير مجدية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن الإشارة هنا أيضا إلى ارتفاع مستوى ومعدلات الأمية التي تبلغ أحيانا 70% بين الإناث في بعض البلدان.

وعندما ننظر اليوم في العالم المتقدم نجد أن التعددية السياسية قد أصبحت اليوم عقيدة سياسية راسخة في الغرب وفي البلدان المتقدمة. وهذه التعددية هي التي توجد في أصل الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان في التعبير وفي المشاركة السياسية. ومع أن الزعماء العرب يعلنون عن هذه التعددية فإنهم في العمق يتنكرون لأي صيغة من صيغ التعدد السياسي التي تفرض نفسها في مختلف بلدان العالم. وهذا التنكر والرفض المبطن يفسر لنا غياب التعددية السياسية فعليا وحضورها شكليا. لقد واظب كثير من الحكام العرب على تغييب هذه التعددية تحت ذريعة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية أو ذريعة التحدي الصهيوني، أو ذريعة التنمية والتعمير، أو الصمود والتصدي، وغير ذلك من الذرائع التي لا تصمد أبدا للمنطق والاختبار والنظرة الموضوعية.

فالنظام السياسي العربي الراهن يعاني من التخلف والجمود حيث تسوده التشريعات السياسية الموروثة منذ مئات السنين، لقد حرم هذا النظام الإنسان العربي عمدا من حقوقه الأساسية وحرمه من أبسط المبادئ التي نادت بها الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، وهو " نظام تسلطي يقوم على الاستبداد وخنق القيم الديمقراطية ولاسيما في مجال الحياة الثقافية"(4).

وتحت تأثير هذا المنع والقمع والحرمان بقي مفهوم المواطنة بمعانيه السياسية والأخلاقية مفهوما غامضا ومرفوضا ومصادرا. والفرد في العالم العربي لم يصبح مواطنا بعد لأنه ما زال يفتقر إلى الروابط الإنسانية والحقوقية مع الدولة ومؤسساتها. إنه فرد من القطيع والرعية يحظى برعاية الدولة وحمايتها واحتقارها، إنه عبء ثقيل على الكيان السياسي، والحاكم في نظر الرعية هذه هو من تُستجدى عنايته وتُنتظر رحمته ويطمع في غدق عطائه، إنه ولي النعمة ورب النقمة ومفتاح الرحمة في نظر رعاياه وقطعانه.

4- خاتمة:

فالمواطنة في العالم العربي ما زالت تختنق بعوامل الاستبداد وعناصر الاستعباد. وقد بيّنا أنه لا يمكن الحديث أبدا عن مواطنة في زمن القمع والإكراه. والإنسان العربي يحتاج حتى في أحسن الأحوال وأفضل الظروف الممكنة للديمقراطية يحتاج إلى قَدَرِ ثقافي جديد إلى" تسونامي" ثقافية هائلة تنتقل به إلى مناخ ديمقراطية حيث يتأصل مفهوم المواطنة. " فالمجتمع العربي " والعالم الثالث بشكل عام" لا يزال يحتاج إلى تعميق الوعي المؤسسي والقانوني الذي يدعم الحس الوطني ويقلص الحاجة إلى الضوابط البيروقراطية على مختلف الصعد(5).

ويلاحظ في هذا السياق أن بعض الدول العربية تعمل على بذل جهود سياسية وتربوية كبيرة في بناء الإحساس الموضوعي بالمواطنة. " لكن معظم هذه الجهود تدور في نطاق الشعارات المثالية التي ينتظر أن تتحول في زمن ما إلى ممارسات. ومن المتوقع أن يطول الوقت للاقتراب من ذلك الهدف الطموح. خصوصا وأن بعض الشعارات تحتاج إلى أن يجلى عنه الغموض كي يقترب من عقل جماهير الناس الذين لا يزالون يعانون وضعا صعبا من الأمية الثقافية والمؤسسية والحضارية والسياسية. ولعل من العقبات التي تعرقل عملية التطور الحضاري للشخصية العربية عموما التضاد بين التبعية الذهنية العشائرية ومتطلبات العقل الحضاري الذي لا يمكن أن تستغني الدولة عنه لضمان سيادتها وتأمين الاعتراف الجماهيري بها ومؤسساتها(6).

إن ممارسة المواطنة الديمقراطية يفترض أن يكون المواطنون متساويين فيما يتعلق بالحقوق وأن يمتلكوا القدرة على تحمل المسؤولية والمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية وأن يشاكوا أيضا في فعاليات المؤسسات السياسية. ومن الواضح في هذا السياق أن عالمنا المعاصر يفيض بمختلف الشروط والعناصر التي تمنع على الأفراد ممارسة المواطنة. فمبدأ المساواة في الحقوق يصطدم في واقع الأمر بتحديات كبيرة تتمثل في البطالة واللاتسامح والعنف والنفي والإقصاء والاستبعاد والإخفاق المدرسي وكثير من أشكال التمييز العنصري والإقليمي وغياب الأنظمة الديمقراطية. ومن ثم فإن مشاركة المواطن بالشأن العام يصطدم بجعله الكبير للحقوق أو باللامبالاة وغياب الإحساس بالمسؤولية فيما يتعلق بقضايا الشأن العام في المجتمع التنمية وتعزيز المؤسسات العامة.

***

أ. د. علي اسعد وطفة

جامعة الكويت- كلية التربية

........................

مراجع المقالة:

(1) - نعني هنا الأنظمة الشمولية دون غيرها في البلدان العربية.

(2)- رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27-28 سبتمبر أيلول عمان، 1994،(صص 73-91) ص 91.

(3) -NAHIMANA(F). Emergence d’un Etat, Paris, L’Harmattan, 1993, pp. 247-263

(4)- مبدر لويس، المثقفون العرب والمستقبل العربي، الوحدة، عدد101،فبراير /مارس، 1993،صص(175-185)صص178.

(5)- قيس النوري، حول بنى السلطة والثقافة والأزمة العربية، آفاق الديمقراطية والتركيب الثقافي العربي، الفكر العربي، العددان 85 – 86، 1996،صص 38-48، ص. 47

(6) - قيس النوري، حول بنى السلطة والثقافة والأزمة العربية، المرجع السابق، ص. 48

 

بقلم : ديفيد والتنر تووز

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يجب أن يصبح العلم متناغمًا مع المحادثات الدقيقة التي تسود الحياة كلها، من العصور البدائية إلى الحاضر

الحياة ليست حلما. حذر! حذر! حذر!

نسقط على الدرج لنأكل الأرض الرطبة.

أو نتسلق إلى حافة الثلج بأصوات زهور الأضاليا الميتة.

– من قصيدة “المدينة التي لا تنام” لفيدريكو غارسيا لوركا (1898-1936)

ترجمة: روبرت بلي

كنت أقف وسط خليط من الوحل والروث بجوار حظيرة الألبان، أتحدث إلى الكاميرا عن مرض جنون البقر- كان ذلك في أوائل التسعينيات، عندما كان المزارعون وعامة الناس والسياسيون في حالة من الذعرالشديد  بشأن المخاطر المحتملة المرتبطة باعتلال الدماغ الإسفنجي البقري (BSE)- عندما اقترب مني إحدى العجول، وصدمني بأنفه، وشرع  في لعق ملابسى، تراجع طاقم الأخبار بعيدًا، وهم يراقبون السياج المعدني الثقيل خلفهم.

- هل هم بخير؟ هذا أمر طبيعي؟

ضحكت وخدشت البقرة بين قرنيها. "طبيعي تماما." إنها فقط تحب الملح الموجود على ملابسي. ثم تساءلت إذا كان ذلك صحيحًا. هذا ما تعلمته في كلية الطب البيطري. لقد كنت في الأساس بديلاً بشريًا لكتلة الملح التي يستخدمها العديد من المزارعين. أم أن هذا التفاعل بين الأنواع كان أكثر من مجرد السعي وراء الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية؟

في الآونة الأخيرة، بعد أن استخدمت خرطوم حديقة لإخراج فأر من جحره في مزرعة الدجاج، ثم ضربته على رأسه بالطوب، غمرني حزن عميق. اقترحت ابنتي أنني كنت أعبر عن الحزن الذي شعرت به بعد تشخيص مرض السرطان الذي تلقته زوجتي في الأسبوع السابق. ذلك ربما يكون صحيحا. ومع ذلك، فإن هذه التجربة مع الفأر أثارت أيضًا ذاكرة قوية من أيامي كطالب بيطري. لقد طلب مني أحد الأساتذة التخلص من خروف حديث الولادة مشوه خلقيًا. لا أذكر التعليمات التي أعطيت لي. لا أذكر التعليمات التي أعطيت لي. وفي غمرة شعور في غير محله بالشك الأخلاقي، لا بد أنني استوعبت فكرة أن الموت المفاجئ أكثر إنسانية من الموت المستمر. أتذكر أنني أمسكت بالحمل، الذي كان زلقًا بسبب سوائل الولادة، من قدميه الخلفيتين، وأرجحته في دائرة، وحطمته على جدار خرساني. هل كانت مشاعري اللاحقة حول هذه الأحداث تعاطفًا مبالغا فيه وفى غير محله؟

ماذا يعني عندما تتخبط قطة في حضني، وأداعبها على الفور، أو أضحك من كلب يتبع صاحبه، الذي يحمل كيسًا صغيرًا من فضلات الكلاب؟ هل يجب على القط والكلب الحصول على مكان مريح وآمن للراحة أو ممارسة بعض التمارين أو تناول الطعام؟ عندما تستقر ستة دجاجات في الفناء الخلفي لدي في صف واحد خلف السياج السلكي للاستماع إلي وأنا أغني بوب ديلان أو رافي، ما الذي يسمعونه؟ إذا قرأت أكثر من مجرد احتياجات حيوانية بسيطة في هذه الأحداث، فهل أقوم بالتجسيم العاطفي؟  هل أقوم بتعقيد ما هو في الأساس علاقات بسيطة دون داعٍ؟ كنت أعتقد ذلك.

باعتباري عالم أوبئة متخصص في الأمراض التي تتشاركها الحيوانات الأخرى مع البشر، فقد وجدت نفسي في كثير من الأحيان أخوض في مستنقع من المعضلات، التي لم تكن أكثر إرباكًا مما كانت عليه عندما كنت، قبل بضع سنوات،حيث  ناضلت مع قضية أليس في بلاد العجائب المتعلقة بالعلاقات الإنسانية مع الحشرات. الحشرات مجرد حيوانات. والأطباء البيطريون، بموجب القانون والميل، مجبرون على رعاية رفاهية جميع الحيوانات. إذن… ماذا؟

في تدريسي وأبحاثي، كنت أضع عادة العلاقات بين الإنسان والحيوان، بما في ذلك تلك التي تتعلق بالمفصليات، في ضوء الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات الأخرى والبشر. على سبيل المثال، قمت بدراسة مرض لايم الذي ينقله القراد، وكذلك فيروس غرب النيل* الذي ينقله البعوض، ومرض النوم الذي تنقله ذبابة تسي تسي، وداء الليشمانيات الذي ينتقل عن طريق ذباب الرمل. كان عملي هو وصف دورات حياة هذه الأمراض، ومن ثم إيجاد طرق فعالة لقتل نواقلها.

لكن الحشرات ليست مجرد ناقلين يحملون رسائل عن الطفيليات والمرض والموت. وكما أكدت العديد من مؤتمرات الأمم المتحدة، فهي أيضًا مصدر مهم ومستدام للغذاء لمليارات البشر.

وأكثر من هذا.

لم يفكر العديد من العلماء مرتين في استخدام الحشرات لاستخلاص استنتاجات حول البشر

في عام 1909، اقترح توماس هانت مورغان أن حشرة ثنائيات الجناح Drosophila melanogaster ستكون مرشحًا مثاليًا للدراسات الوراثية. تنجذب ذبابة الفاكهة إلى الخل ومنتجات الفاكهة الحمضية الأخرى. ومن ثم يشار إليها عادة باسم ذباب الفاكهة. تتكاثر بسرعة وليس لديها متطلبات غذائية صعبة. وحتى القرن الحادي والعشرين، كانت هذه الجينات أساسًا لكثير من فهمنا للقواعد الجينية للأمراض البشرية والحيوانية والنباتية، بالإضافة إلى علاجاتنا لها. تكريمًا لخدمتها العظيمة للإنسانية، كانت ذبابة الفاكهة من بين الحيوانات متعددة الخلايا الأولى التي تم تسلسل جينومها بالكامل. لم يفكر العديد من العلماء مرتين قبل استخدام الحشرة لاستخلاص استنتاجات حول البشر. في الواقع، يشير نيكولاس شتراوسفيلد وفرانك هيرث، في بحث نشر في مجلة ساينس عام 2013، إلى أوجه تشابه عميقة في كيفية تنظيم الدماغ للسلوك في المفصليات (مثل الذباب وسرطان البحر) والفقاريات (مثل الأسماك والفئران والبشر).

إذا كان بإمكاننا التعرف على الإدراك البشري والسلوك وعلم الأمراض من خلال دراسة الحشرات، فكيف يؤدي ذلك إلى طمس الخطوط الفاصلة بين "نحن" و"هم"؟

ومن خلال إجراء مقارنات جينية بين البشر والأنواع الأخرى، يمكننا حساب الحمض النووي أو خيوط الجينات (حزم من الحمض النووي ذات الوظائف المعروفة). ومن الناحية الوبائية، يمكن مقارنتها بإحصاء الأفراد أو المجموعات مثل الأسر.

وتشير الدراسات الجارية حول التشابه الجيني بين الأنواع إلى أننا يمكن أن نكون، في بعض النواحي على الأقل، متشابهين وراثيا بنسبة 80 إلى 90 في المائة مع القطط والكلاب والجرذان والماشية. وأقل قليلاً بالنسبة للدجاج، ونشبه الحشرات المختلفة بنسبة 40 إلى 60 في المائة، بما في ذلك ذباب الفاكهة.

يعيدني هذا إلى إعادة فحص علاقتي بالبقرة في الحظيرة، والقطة في حضني، والدجاج الذي يبدو مفتونًا بغنائي، وحزني على قتل الحمل والفأر (ولكن ليس البعوض والذباب). لقد تطورت بعض هياكلنا الجينية ــ تلك التي تترجم إلى سمات وظيفية أساسية للحفاظ على الحياة ــ من أسلاف مشتركين منذ ملايين السنين. هذه هي أقدم ذكرياتنا الجماعية، وهي مدمجة في جوهر هويتنا. عندما أنظر إلى عينى قطة، أو حتى دجاجة، وعندما تعيد النظر، هل نتعرف على هذه الذكريات الجينية المشتركة وغير المعلنة والمنسية؟

ماذا عن الكائنات الحية التي ترى العالم بطريقة مختلفة وغير بصرية؟ في العقود الأولى من القرن العشرين، اقترح جاكوب فون أوكسكول أن كل كائن عضوي له عالمه المتصور الخاص به. منذ ذلك الحين، اكتشف العلماء أن هذه البيئة، كما أطلق عليها أوكسكول، تم إنشاؤها بواسطة حواس بالكاد يمكننا تخيلها، ناهيك عن فهمها. لن أغامر هنا بحياة الفطر أو الأشجار. أجد الأمر مربكًا وصادمًا بدرجة كافية عندما أفكر في مسؤولياتي تجاه الكائنات الحية التي وصفناها بالحيوانات.

أين تكمن الذكريات التي أتقاسمها مع هذه الأنواع الأخرى - ليس فقط حيوانات المزرعة والحيوانات الأليفة والحيوانات الضخمة التي كانت الاهتمامات الرئيسية في حياتي المهنية - ولكن أيضًا أصغر المخلوقات الموجودة تحت قدمي، على بشرتي وفي الهواء؟ ما هي الرعاية والاهتمام الذي أدين لهم به؟ بالتأكيد ليس فقط التأكيد الغامض على أنه لا ينبغي لنا أن نجعل الحيوانات غير البشرية تعاني. كيف نعرف أننا نواجه صعوبة في فصل الألم عن المعاناة لدى البشر؟

لا أستطيع أن أجد الكلمات للتعبير عن هذه الذكريات:  هذا الفرح، هذا الحزن، هذه المعرفة.

أيًا كان الإجراء الذي أقوم به، سواء أمشي أو آكل أو أخرج الفضلات، فإنه يتكبد حياة الآخرين تكلفة، سواء عن طريق قتلهم وأكلهم مباشرة، أو عن طريق تناول الأطعمة التي كان من الممكن أن يعيشوا عليها. التأثير الأكثر تطرفًا الذي أحدثته حياتي على الأنواع الأخرى هو الانقراض، ليس فقط وجودهم الجسدي، ولكن أيضًا ذكرياتهم، سواء تلك المكتسبة خلال حياتهم أو تلك المتجسدة في الحمض النووي الخاص بهم، وبعضها جزء من الحمض النووي الخاص بي. عندما تموت الكائنات الحية وتختفي، ما هي مسؤولياتي تجاه تلك الذكريات؟

ذات مرة، قال أحد زملائي إن انقراض أي نوع من الحيوانات خلال حياتنا العملية يشكل فشلاً عالميًا واسع النطاق للرعاية البيطرية. إن أي تقرير عن انقراض الأنواع من شأنه ـ بل وينبغي له ـ أن يثير شعوراً بالحزن والخسارة والفشل المهني.

فماذا إذن عن التقارير عن "الحشرات"، والموت العالمي لتريليونات الحشرات الفردية، وربما الملايين من الأنواع، والتي لم نلاحظ أو ندرس أو نصنف الكثير منها بعد؟ هل من واجبي الأخلاقي أن أحزن على فقدان المجهول المجهول؟

أين يقع الخط الفاصل بين التفكير الجماعي والانتقادات التصحيحية لأقراننا؟

في المناقشات العامة، غالبًا ما يرتبط الانقراض بكلمة الأنواع. حتى وقت قريب، كنت أفكر بشكل فضفاض إلى حد ما في مفهوم الأنواع. مثل جميع التصنيفات، فإن فكرة أن الكائنات الحية يمكن فرزها وتصنيفها بشكل نهائي إلى مربعات يمكن أن تكون مفيدة. بالتأكيد، كان من المهم بالنسبة لي على المستوى المهني أن أتمكن من التمييز بين القطط والكلاب والأبقار والأغنام والخنازير والفيلة والزرافات. وبمجرد أن نتعثر في ما هو أبعد من الأفراد في البيئة المعقدة للحياة الحيوانية، فإن نظام التصنيف الذي ابتكره المتحدثون اللاتينيون الأثرياء من أوروبا يصبح أكثر صعوبة. وكما لخصت لولو ميلر مؤخرًا في كتابها لماذا لا توجد الأسماك (2020)، فقد أدى التصنيف الليني إلى إدامة الممارسات الثقافية الوحشية والقاسية للتفوق العنصري والجنسي والجسدى.

في كثير من الأحيان، ادعى العلماء علنًا أن العلم يهدف إلى الموضوعية: إذا وضعنا جميع ملاحظاتنا في نفس قاعدة البيانات، فهل ستصحح ميولنا وتحيزاتنا بعضها البعض؟ أين يقع الخط الفاصل بين التفكير الجماعي والانتقادات التصحيحية لأقراننا؟

كيف يمكننا أن نفكر بشكل قاطع في العفن الغروي الذي يتصرف في بعض الظروف كالحيوانات، وفي ظروف أخرى يتصرف كالنباتات، والتي يوصف بعضها بأنها خلايا مفردة عملاقة تحتوي على آلاف النوى؟ هل نجمعهم معًا في صندوق من بقايا الطعام غير محدد المعالم؟ وماذا عن الدينوفلاجيلات، التي بذلت جهدًا كبيرًا في شرحها لطلابي وزملائي، عندما ظهرت "أزهار" بحرية سامة تهدد صحة البشر والحيوانات الأخرى؟بعضها يقوم بعملية التمثيل الضوئي، وبعضها يأكل الفرائس، والبعض الآخر يتعايش في الشعاب المرجانية. يبدو أن علماء التصنيف قد تجنبوا التصنيفات الفنية الأكثر إثارة للجدل من خلال الإشارة إلى الفروع الحيوية، وهي أنواع حديثة تنحدر من سلف مشترك. وحتى تلك التصنيفات مثيرة للجدل.

يرتبط التصنيف ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي نفكر بها في العلاقة بين العلم والعالم الذي نعيش فيه. يمكن إرجاع العديد من مفاهيمنا حول العلم إلى جندي نبيل وفيلسوف طبيعي من القرن السابع عشر. في خطابه حول المنهج (1637)، أعلن رينيه ديكارت أنه يوجه أفكاره:

بطريقة منظمة؛ البدء بأبسط الأشياء التي يسهل التعرف عليها، ثم الصعود تدريجيًا، إذا جاز التعبير، إلى معرفة أكثرها تعقيدًا؛ وإقامة النظام العقلي، حتى لو لم يكن للأشياء أولوية طبيعية على بعضها البعض...

إن ما نعتبره علمًا في القرن الحادي والعشرين هو تقريبًا كل هذا النشاط الديكارتي القائم على الأشياء.

نعتقد أن أفضل العلوم يتم إجراؤها في المختبر. وقد زعم بعض علماء الأوبئة أن الدراسات الأكثر موثوقية هي التجارب العشوائية المنضبطة مزدوجة التعمية، حيث يتم اختيار الحيوانات أو البشر والأشياء الصيدلانية بشكل عشوائي. وكما هو متوقع، فإن مثل هذه الدراسات تعمل بشكل جيد في المختبرات أو المستشفيات، حيث يمكن التحكم في التفاعلات مع البيئة المحلية (نظريًا على الأقل). تقدم هذه التصميمات البحثية أدلة ضعيفة في أحسن الأحوال حول فعالية التغذية أو اللقاحات أو الأدوية، على سبيل المثال، في العالم المعقد الذي لا يمكن السيطرة عليه والذي نعيش فيه.

تواجه العلوم المبنية على الكائنات تحديات حتى مع أبسط النتائج الثنائية للأفراد. كيف يمكننا تحديد ما إذا كان الشخص يعاني من الإسهال أم لا؟ كنت أقول لطلابي إنك تعرف أن شخصًا ما مصاب بالإسهال إذا أخذ برازه شكل الوعاء الذي تم وضعه فيه. كيف نحدد الصحة؟ اقترحت ابنتي عندما كانت مراهقة أن الشخص السليم يتعافى من المرض بسرعة أكبر من الشخص الذي لا يتمتع بصحة جيدة. هذه التعريفات قابلة للتطبيق، ولكن من غير المرجح أن تجدها في أي منشورات علمية رسمية.

تواجه الأساليب الديكارتية صعوبة أكبر في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بتغير النظم البيئية الاجتماعية أو شلالات الانقراض. ما هو نوع العلم الذي يمكن استخدامه لدحض أو إثبات أساليب تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟  من الصعب أن نتصور، ومن المستحيل أن نثبت باستخدام العلوم التقليدية المبنية على المختبرات، أن اختفاء مختلف المفصليات أو الأشجار أو الضفادع يرتبط بصحة الإنسان وبقائه.

ليس الكون، كما ألمح ديكارت، مجرد مجموعة من "الأشياء". الكون موجود بفضل شبكة معقدة من العلاقات بين الأشياء. ومع ذلك، وبعيدًا عن القوى الواضحة بشكل صارخ مثل الجاذبية، فقد فشل علمنا المبني على الأشياء في معالجة العلاقات بين كل تلك الأشياء. اقترح باري سميت، رئيس الأبحاث الكندي السابق في التغير البيئي العالمي، أننا ركزنا في بعض الأحيان بشكل حصري على ما نسميه بالعلوم الصعبة (وهذا يعني أن العلوم الاجتماعية هي علوم لينة) ولم يتم إيلاء الاهتمام الكافي للعلوم الصعبة للغاية التي تعالج التغير الاجتماعي في سياق التغير البيئي. حتى عندما يتعلق الأمر بالجاذبية، فإننا نبحث باستمرار عن جسيم يمكن أن تتواجد فيه هذه القوة غير المرئية.

لقد تشبث الكثير منا بهذا العلم الاختزالي القائم على الموضوع كوسيلة للتحوط ضد العقيدة الدينية والسياسية، ولأنه «ينجح» في بعض الظروف. لقد أتاحت لنا العلوم المبنية على الكائنات أن نصف، بتفاصيل دقيقة، هياكل الفيروسات والكلاب والأشجار والكواكب والفراشات. يمكننا إجراء عملية جراحية على قطة ابتلعت زينة عيد الميلاد أو على بقرة تتطلب عملية قيصرية. يمكننا أن نصف بتفاصيل رائعة الرقصات والمعارك بين الطيور والنحل والغوريلا والفيلة والكنغر والبشر. نحن مندهشون من الطرق العديدة المختلفة، والتي لا يمكن تصورها في بعض الأحيان، التي ترى بها الكلاب والنحل والخفافيش العالم الذي نتقاسمه العيش . من خلال قلب تلسكوباتنا والنظر في أسرار الأجسام، يمكننا إنشاء لقاحات ضد بروتينات السنبلة، وتغيير جينومات الحشرات بحيث لا يمكنها حمل الأمراض التي تهم الإنسان، ومراقبة البريونات، التي لا تعيش إلا بمعنى الاعتماد المشترك، والتي قد يسبب أو لا يسبب المرض. يمكننا أن نكتشف، ولو بشكل عابر، ما نعتقد أنه أصغر جسيمات المادة والطاقة في الكون؛ نطلق عليها أسماء مثل الكواركات (من رواية جيمس جويس التي صدرت عام 1939 بعنوان Finnegans Wake) والبوزونات (التي سميت على اسم عالم الفيزياء الهندي ساتيندرا ناث بوز).

أليست القدرة على التنافس مع العلم المبني على الموضوع يعد تقدمًا على اليقين المبني على الغريزة أو المعتقد أو الأيديولوجية؟  يمكننا على الأقل البحث عن أنواع مختلفة من الأدلة أو المعقولية الرياضية لتقديم الحجج والحجج المضادة. إن هذه الإنجازات التي أطلق عليها توماس كون «العلم الطبيعي» تعتبر كبيرة. ولكن إذا كانت فكرة الأنواع محل خلاف، وإذا استمرت الذكريات بطريقة ما بين الكائنات الحية، وإذا كنا أكثر من مجرد مجموعة من الأشياء، بل شبكة واحدة متشابكة من الحياة، فما الذي يقع بين فضاءات كل هذه الأشياء. ما هو الشيء الذي ينقرض إن لم يكن الأنواع؟

أنا مظهر من مظاهر الحوار بين الكائنات الميكروبية التي تتحاور مع كل شيء آخر

إذا كان بحثي في العلاقات المتضاربة بين البشر والمفصليات يتحدى افتراضاتي حول الحيوانات والأنواع، فإن البكتيريا والعتائق والفطريات والأشياء شبه الحية التي نسميها الفيروسات تتحدى افتراضاتي الأعمق حول الذات والوجود.. وتتشارك هذه الكائنات المادة الجينية ــ ذكريات تجارب الماضي ــ فيما بينها، مما يدفع البعض إلى القول بأن تعدادها العالمي، وفقا لبعض المعايير، هو نوع واحد، أو ربما حتى كائن حي واحد. تتكون أجسامنا من تريليونات الخلايا، والعديد منها ينحدر من نسل تطوري لكائنات بدائية وحيدة الخلية. طوال التطور، أدخلت المواد الوراثية الفيروسية نفسها في الجينوم البشري. كما أن أجسامنا تستضيف عشرات التريليونات من مجموعة متنوعة من الكائنات وحيدة الخلية التي أطلق عليها عالم الأحياء الدقيقة الحائز على جائزة نوبل جوشوا ليدربيرج اسم الميكروبيوم. يتواصل أعضاء هذا الميكروبيوم مع بعضهم البعض باستخدام ما يسمى الآن باستشعار النصاب، ويتواصلون مع الخلايا التي تشكل أجسامنا من خلال لغات مبنية من جزيئات تعبر جميع حدودنا الوقائية التي تحدد نفسها بنفسها. أعضاء هذا الميكروبيوم، في محادثاتهم مع خلايا أجسامنا، يؤثرون على مناعتنا، وسلوكنا، وحالتنا الغذائية والصحية، وحالتنا العقلية. نحن مخلوق من الكائنات الحية الدقيقة لدينا، ونحمل، في شكل مادي، ذكريات عميقة عن الحياة على الأرض.

تعد الميكروبات محلية بشكل مكثف في آن واحد، وهي محادثة من خلال الأكل والتغوط مع المناظر الطبيعية التي نعيش فيها، وعالمية، حيث تنخرط في محادثات ميكروبية بين مجموعات من الفيروسات والبكتيريا والعتائق والفطريات التي تنتقل عن طريق التجارة والهجرة وتيارات الرياح والمياه.أنا تجسيد لمحادثة بين الكائنات الميكروبية، التي تتحدث مع كل شيء آخر: البقرة التي تلعق ملابسي (التي يتحدد ميكروبيومها جزئيًا بواسطة دقيق الصويا والحبوب من المناظر الطبيعية الأخرى)، وتريليونات البكتيريا الموجودة في السماد الموجود على حذائي، القطة التي في حجري، والحمل المشوه، والفأر الذي يحفر في حظيرة دجاجي، والدجاج المصطف عند السياج، يستمع إلى غنائي.

اعتاد بعض طلابي أن يجدوا أنفسهم مشلولين بسبب مخططات السباغيتي التي أنشأناها للروابط بين الكائنات الحية، والأمراض، والديناميات الاجتماعية، والتغير البيئي والمناخي. إذا كان كل شيء مرتبطاً بكل شيء آخر ــ ليس بطريقة غامضة في العصر الجديد، ولكن من حيث التأثيرات والنتائج التي يمكن ملاحظتها، وإن كان من الممكن التنبؤ بها بشكل غامض ــ فكيف يمكننا أن نتصرف؟

أنا لا أحتوي على الحشود. أنا الحشود.عندما أتفاعل – جراحيًا، طبيًا، جسديًا، وبائيًا – مع الكائنات الحية الأخرى، أنا لا أحارب مرضًا وبائيًا أو خللًا جسديًا.أنا لا أحتاج إلى تسليح أفضل.أحتاج إلى تسهيلات أكبر مع لغات متعددة الأنواع. إنني منخرط في محادثة عبر الانقسامات الثقافية مع جموع أخرى، والتي بدأنا للتو في استكشاف لغاتها وأنماط إدراكها. وبالنظر إلى هذه الحدود البيولوجية الجديدة، أعرب ليدربيرج عن أسفه لأن علم الأحياء "مثقل بالفعل بالحقائق لدرجة أنه معرض لخطر التعثر في انتظار التقدم في المنطق واللسانيات لتسهيل تكامل التفاصيل".

رفض هوكينج لاحقًا فكرة أن القوانين غير المشروطة تحكم الكون الشبيه بالآلة

منذ وقت ليس ببعيد، افترض معظم الفيزيائيين افتراضًا غير معلن مفاده أن الكون متماسك ويعمل وفقًا لقوانين، بينما تحدد طبيعة وشكل الكون الذي ندركه، فهو موجود بطريقة أو بأخرى خارج الزمان والمكان. في كتابه "تاريخ موجز للزمن" (1988)، تساءل ستيفن هوكينج:

ما الذي ينفخ النار في المعادلات ويصنع الكون الذي يمكنهم وصفه؟ … لماذا يتكبد الكون كل عناء الوجود؟ …

[إذا اكتشفنا نظرية كاملة، فمع مرور الوقت يجب أن تكون مفهومة على نطاق واسع للجميع، وليس فقط لعدد قليل من العلماء. وعندها سنكون جميعًا، فلاسفة وعلماء وأشخاصًا عاديين، قادرين على الانضمام إلى المناقشة حول سبب وجودنا والكون. إذا وجدنا الجواب على هذا، فسيكون ذلك هو الانتصار النهائي للعقل البشري – لأننا عندها سنعرف أفكار الله.

لكن في كتابه "أصل الزمن: النظرية النهائية لستيفن هوكينج" (2023)، ذكر توماس هيرتوغ، صديق هوكينج ومعاونه الوثيق، هذه المحادثة مع هوكينج  فىعام 2002:

تخطى ستيفن محادثته الصغيرة المعتادة وبدأ العمل على الفور.

لقد غيرت رأيي. [أ] التاريخ الموجز [للزمن] مكتوب من منظور خاطئ...

إن وجهة نظر عين الله [التي أخذها موجز التاريخ] مناسبة للتجارب المعملية مثل تشتت الجسيمات حيث يقوم المرء بإعداد الحالة الأولية وقياس الحالة النهائية. ومع ذلك، فإننا لا نعرف ما هي الحالة الأولية للكون، وبالتأكيد لا يمكننا تجربة حالات أولية مختلفة، لمعرفة أنواع الأكوان التي تنتجها…

وقال إن الفشل في إدراك ذلك يقودنا إلى طريق مسدود. نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة [للفيزياء] في علم الكونيات.

بدلًا من البحث عن نظرية شاملة يمكنها تفسير كل شيء، رفض هوكينج لاحقًا فكرة أن القوانين غير المشروطة تحكم الكون الشبيه بالآلة. كان فهمه الجديد هو أن «الكون هو نوع من الكيانات ذاتية التنظيم، حيث تظهر جميع أنواع الأنماط الناشئة... [وأنه] إذا كان هناك إجابة لسؤال الوجود العظيم، فيجب العثور عليها في هذا العالم. "، وليس في بنية من المطلقات وراءه." في الواقع، هذا يعني أننا إذا بدأنا من حيث نحن وتلمسنا الكون وراءنا، فإننا لا نكتشف نظرية نهائية لكل شيء. وخلص هوكينج إلى القول: "نحن نخلق الكون بقدر ما يخلقنا".

لقد أدرك الكثير منا في علوم الحياة التطبيقية، وخاصة في مجال أوبئة الأمراض الحيوانية المنشأ والعلاقات بين صحة البشر والحيوانات الأخرى والنظم البيئية، منذ فترة طويلة تحديات إدارة النظم البيئية من الداخل إلى الخارج. ومن المطمئن، من وجهة نظر علمية، أن الفيزيائيين يتوصلون إلى استنتاجات مماثلة.

إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، فليس من الخيال أن نرى أن ما تسميه بعض الثقافات الكائنات المقدسة، أو البساتين، أو الينابيع، أو الوديان، أو الأرواح، أو الآلهة، هو مزيج من قوى الجاذبية (غير المرئية)، والمحادثات المتجددة والشخصية التي تستشعر المجتمع بين الميكروبات.

إن قوى الجاذبية، بناقلاتها الكهرومغناطيسية القوية والضعيفة، تربط كل شيء في كل مكان، مما يدعم ويشكل الكون الذي نعيش فيه. في التصورات الاستعمارية الإمبراطورية، ليس فقط تلك الخاصة بالأوروبيين وأحفادهم في مرحلة ما بعد التنوير، ولكن أيضًا تلك التي لا تعد ولا تحصى من "الآشوريين"، والبابليين، والمصريين، والمنغوليين، والفرس، والرومان، والروس، والألمان، والموريين - هذه القوى الغامضة كانت تسمى الآلهة. لقد تم تكريم الكائن العضوي الذي يخرج من العالم المصغر منذ فترة طويلة في الأماكن المقدسة والغذاء والماء والحيوانات الروحية والناس.

بما أن الوجود والكون خالقان مشاركان، ولأن المستقبل غير مؤكد، فإن كل ما نقوم به مهم، ومهمتنا كبشر هي أن نستكشف، بكل الطرق الممكنة، ما يعنيه هذا.

في هذا الفهم للكون، لا توجد قوانين صادرة من خارج العالم الذي نعرفه، ولا توجد ألواح أو كتب مقدسة أو نبوءات أو نظريات نهائية صممها علماء الرياضيات أو الفيزيائيون أو علماء الأحياء يمكنها تفسير كل شيء.

إذا بدأنا بمكاننا، وما نلاحظه، وما (نعتقد) أننا نعرفه – العلاقات والتواصل غير اللفظي والمحادثات بين الأبقار والقطط والدجاج والجرذان والحملان والقراد والبكتيريا – يمكننا أن نبدأ في إنشاء علم غير مهووس بالأشياء يتناسب مع المهمة، نسخة موسعة ومتعددة الأنواع من علم ما بعد الطبيعي.

بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن معنى في العالم، لا أستطيع أن أفكر في بداية أفضل من ملاحظة أنه بما أن الوجود والكون خالقان مشاركان، والمستقبل غير مؤكد، فإن كل ما نقوم به مهم.

أعود إلى وجودي وسط هذا الدليل المادي: الأبقار والقراد وذباب الفاكهة والقطط والدجاج والحملان والبكتيريا. نسعى معًا إلى إيجاد طرق للحفاظ على ذكرياتنا الجماعية بما يتجاوز انقراض أجسادنا وأنواعنا المرصوفة بالحصى، في عالم متجدد ومتجدد يتجاوز تصورنا.

***

..................

الكاتب: ديفيد والتنر تووز هو عالم أوبئة بيطري كندي متخصص في أساليب دمج صحة البشر والحيوانات الأخرى والنظم البيئية. وقد نشر أكثر من 100 ورقة بحثية تمت مراجعتها من قبل أقرانه، والعديد من الكتب المدرسية المعترف بها دوليًا، بالإضافة إلى الخيال والشعر والعلوم. تشمل هذه الكتب الغذاء والجنس والسالمونيلا (2008)، أصل البراز (2013)، أكل الخنافس! (2017)، وعن الأوبئة (2020)، ومؤامرة الدجاج (2022)، وجاذبية الحب (2023). يعيش في أونتاريو على أرض تعد الموطن التقليدي لقبيلة Haudenosaunee وAnishinaabe والشعب المحايد.

* فيروس غرب النيل (WNV) هو فيروس منقول بالمفصليات حيواني المنشأ ينقله البعوض وينتمي إلى جنس الفيروس المصفر (Flavivirus) ضمن فصيلة الفيروسات المصفرة. ويوجد هذا الفيروس المصفر في المناطق المعتدلة والاستوائية من العالم. وقد تم اكتشافه لأول مرة في منطقة غرب النيل الفرعية في دولة أوغندا في شرق أفريقيا عام 1937. وقبل منتصف التسعينيات من القرن العشرين، ظهر مرض فيروس غرب النيل بشكل متقطع فقط، وكان يشكل خطورة بسيطة على البشر، إلى أن تفشى في الجزائر عام 1994 مع وقوع حالات إصابة بالتهاب الدماغ الناتج عن فيروس غرب النيل، وكان أول تفشي كبير للمرض في رومانيا في عام 1996 مع إصابة عدد كبير من الحالات بـمرض غزوي العصب. وقد انتشر فيروس غرب النيل الآن على مستوى العالم، حيث تم اكتشاف أول حالة في نصف الأرض الغربي في مدينة نيويورك في عام 1999؛ وعلى مدار السنوات الخمس التالية لذلك، انتشر الفيروس عبر الولايات الأمريكية ال48 المتجاورة، وشمالاً إلى كندا ونحو الجنوب إلى جزر الكاريبي وأمريكا اللاتينية. كما انتشر فيروس غرب النيل في أوروبا فيما وراء حوض البحر الأبيض المتوسط [تم اكتشاف سلالة جديدة من الفيروس مؤخرًا في عام 2012 في إيطاليا]. ويعتبر فيروس غرب النيل الآن ممراض متوطن في إفريقيا وآسيا وأستراليا والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة، التي تعرضت في عام 2012 لواحد من أسوأ الأوبئة.

تسببت الموافقة على فتح برامج دراسات عليا في الجامعات الاهلية في جدل كبير في الوسط الأكاديمي، حيث اثارت اعتراض شديد من العديد من الأكاديميين والمهتمين بالشأن التعليمي. هذا القرار اعاد الى الواجهة العديد من التساؤلات حول سياسة التعليم العالي، وأثار قلق العديد من المهتمين بالشأن الأكاديمي بشأن فائدتها ونتائجها المحتملة.

وعلى الرغم من المطالب بالتريث في فتح الدراسات العليا، وبضرورة توفير الدراسات اللازمة لتحديد مقدار الحاجة لها قبل الشروع في فتح برامج جديدة، استمرت وزارة التعليم في سياستها في انتاج اعداد كبيرة من حاملي الشهادات في مختلف التخصصات، وفتح مجالات التعيين لهم للتدريس في الجامعات بدون تدريب لما بعد الدكتوراه، ودون الالتفات الى مشكلة الضعف الاكاديمي وضعف المهارات، وانتشار ظاهرة الاطاريح المزورة والمسروقة وكتابة الرسائل الجامعية من قبل المكاتب التجارية.

هذا ولقد عانى التعليم العالي الاولي على مر العقود الماضية، مثله مثل الدراسات العليا، من تدهور خطير لاسباب مثل ضعف المستوى التعليمي، وعدم وجود اجراءات فعالة لضمان الجودة، والاعتماد المفرط على التلقين والحفظ دون التركيز على التفكير النقدي والتحليلي. وواجه التعليم العالي عديد من التحديات، بدءا من نقص التمويل الحكومي الذي اثرسلبيا على توفر الموارد اللازمة والبنية التحتية. وازدادت حدة التحديات بتدني جودة التعليم بسبب نقص الأساتذة المؤهلين والبرامج الدراسية الحديثة، بينما ظل الفساد يؤثر سلبا على جودة التعليم ونزاهة القبول والامتحانات، وازداد تأثير البيروقراطية على كفاءة الإدارة وتقديم الخدمات للطلاب. واستمرت معاناة الجامعات من نقص التكنولوجيا الحديثة وعدم مواكبة مناهجها للتطورات العالمية في مجال التعليم. ولا يزال خريجو الجامعات يواجهون مشاكل البطالة بسبب عدم ملائمة المناهج لاحتياجات السوق والمجتمع ونقص الفرص الوظيفية في السوق العراقية

وانطلاقا مما ذكرته اعلاه، ولاستبعاد احتمالية التخلص من هذه المشاكل في الوقت الحاضر، ارى بأن تمديد فترة الدراسة لسنوات الدراسة الاولية اصبح ضروريا اذا ما رغبنا في تحسين معارف ومعلومات الخريجين، والمساهمة في زيادة المحتوى العلمي والمهاراتي للشهادة، باعتبار انه كلما زادت عدد الوحدات الدراسية والتجارب العملية والبحث العلمي يمكن ان تزاد المعرفة كميا ولربما نوعيا ايضا. ومن هذا المنطلق تأتي دعوتي إلى زيادة فترة التعليم الجامعي.

ومن هذا ينشأ اعتقادي بأن إضافة سنة او سنتين للدراسة الجامعية قد يساهم بشكل كبير في رفع مستوى الشهادة الأكاديمية وزيادة المعرفة والخبرة التي يتلقاها الطلاب. من المهم أن يكون لكل خريج شهادة جامعية بعد خمس او ست سنوات من الدراسة، تعادل درجة الماجستير (لربما يطلق عليها بالبكلوريوس العالي). هذا سيمكن الطلاب من تعويض النقص في معرفتهم والاستفادة من جو الجامعة الاكاديمي لفترة أطول، كما انه سيشبع رغبة كل خريج لتحقيق ما يسعى له اليوم في الحصول على درجة اكاديمية عليا، ومن دون الاضرار بالمستوى العلمي، والذي يعتمد اعتمادا كاملا في العراق على عدد السنوات الدراسية وليس على جودة ونوعية وتميز التعليم. ولن تتعارض هذه الزيادة في فترة الدراسة مع نظام بولونيا وسيتطلب مجرد زيادة 60 وحدة ECTS.

مع اني مؤمن بأن رفع مستوى التعليم العالي يجب أن يكون أحد أولوياتنا في العراق، ويجب أن نسعى إلى تحسين جودة التعليم في جميع المؤسسات التعليمية، ارى انه في الوقت الحاضر، ولوجود صعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف، ولكون زيادة فترة الدراسة الزمنية مع تغيير اسم درجة التخرج لا تتعارض مع هدف تحسين المستوى الأكاديمي المحقق فأني ادعو للنظر في امكانية التمديد. علما ان فؤائد التمديد عديدة ويمكن تلخيصها بالتالي:

1. تعميق المعرفة والمهارات: تمديد فترة الدراسة سيُعزز المعرفة والمهارات بشكل كبير، حيث سيتيح المزيد من الوقت لتغطية محتوى المواد الدراسية بشكل أعمق وأشمل، مما يسمح للطلاب بالتركيز على مجالات تخصصهم بشكل أكبر واكتساب مهارات إضافية مثل مهارات البحث العلمي والكتابة الأكاديمية، ليصبحوا أكثر تميزا في سوق العمل.

2. تحسين فرص العمل: سيؤدي تمديد فترة الدراسة إلى تحسين فرص العمل بشكل كبير، حيث سيخرج الطلاب بمؤهلات أكاديمية أكثر تميزا، مما يزيد من قدرتهم على المنافسة في سوق العمل ويُتيح لهم التخصص في مجالات أكثر ندرة، مما يعزز من فرصهم في الحصول على وظائف أفضل واعلى راتباً.

3. تعزيز فرص الابتكار: سيتيح تمديد فترة الدراسة المزيد من الوقت للطلاب لإجراء البحوث والدراسات، مما سيشجعهم على التفكير بشكل نقدي وإبداعي، ويعزز من فرصهم في تطوير مشاريعهم الخاصة، مما يساهم في تحسين مهاراتهم الشخصية وامكاناتهم الإبداعية.

4. تحسين جودة التعليم: سيتيح تمديد فترة الدراسة الى المزيد من الوقت للأساتذة للتفاعل مع الطلاب بشكل أفضل، ممّا سيحسن فرص التعاون بين الطلاب والأساتذة، ويتيح للجامعات فرصة أفضل لتطوير برامجها الدراسية بشكل ملبي لاحتياجات الطلاب وسوق العمل.

5. التكيف مع متطلبات العصر: سيساعد تمديد فترة الدراسة على مواكبة التطورات السريعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، مما سيتيح للطلاب اكتساب مهارات تناسب احتياجات سوق العمل، ويحسن من قدرتهم على المساهمة في تنمية المجتمع، مما قد يشجعهم على استكمال دراستهم العليا في الدكتوراه.

6. الفوائد الشخصية للطلاب: سيتيح تمديد فترة الدراسة للطلاب فرصة تطوير مهاراتهم الشخصية، مثل مهارات التواصل والقيادة، من خلال المشاركة في الأنشطة الطلابية والتعرف على أشخاص جدد وتكوين علاقات مع أساتذتهم، مما يساعدهم على بناء شخصياتهم وتعزيز قدرتهم على التفاعل مع الآخرين بشكل إيجابي.

7. فوائد اقتصادية: سيساهم تمديد فترة الدراسة في زيادة فرص العمل للخريجين، مما سيعزز من مساهمة التعليم العالي في تنمية الاقتصاد، ويحسن من مستوى المعيشة للمجتمع.

8. فوائد اجتماعية: سيساهم تمديد فترة الدراسة في تقليل معدلات البطالة، وهو ما يزيد من الوعي المجتمعي بأهمية التعليم، ويحسن من مستوى المعيشة للمجتمع.

وباختصار، يعد تمديد فترة الدراسة موضوعا ذا فوائد جمة، حيث يتيح للطلاب المزيد من الوقت لإجراء البحوث، وتطوير مهاراتهم الشخصية، واكتساب مهارات تناسب احتياجات سوق العمل، ويعزز من فرص التعاون بينهم وبين أساتذتهم، ويساهم في مواكبة التطورات السريعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا. ويقلل من فروق الشهادات بين العراق والدول المتطورة.

ولكن، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التكلفة المالية لتمديد فترة الدراسة، والتأكد من قدرة الطلاب على تحمل عبء الدراسة لمدة 5 او 6 سنوات (علما ان حصولهم على شهادة البكلوريوس العالي او الماجستير ستكون حافزا مهما)، وضمان تصميم برامج الدراسة بشكل مناسب لتلبية احتياجات سوق العمل.

في الختام، تمديد فترة الدراسة للحصول على الشهادة الاولية في التعليم العالي من 4 سنوات إلى 5 او 6 سنوات له العديد من الفوائد والاهمية، ولكن يجب التأكد من أن هذا التمديد يتم بشكل مدروس وضمن خطة شاملة لتطوير التعليم العالي.

***

ا. د. محمد الربيعي

يوجد هناك احياناً خيط رفيع بين: الخطأ والصواب / العدالة والظلم / الشجاعة والتهور / الكرم والسفه / الحُرص والبُخل / العبقرية والذكاء / النباهة والبلاهة

وقد تعمل المعتقدات والآراء السابقة والعواطف والثقافة المحلية والبيئة أثرها في ازالة القدرة على التمييز  بينهما!. وتعمل الفلسفة ومشتقاتها من العلوم القانونية والإجتماعية والنفسية على إيجاد معايير للتمييز بينهما.

والمعيار هو عملية مقارنة بين نموذج متفق عليه قانوناً او عرفاً انه يمثل نمودج ينبغي ان يحتذى به في التقييم، (تقييم السلوك الفردي او الآراء او المقترحات، الحسن والقبح، العدل والظلم..).

والقانون هو علم معياري لأنه يضع قواعد لما ينبغي ان يكون عليه سلوك الفرد وسط الجماعة

فاذا تمت الشكوى من طبيب او محامي او مهندس او قاض؟ بانهم ارتكبوا سلوكاً خاطئاً!

فما هو معيار الخطأ؟

هنا يضع القانون معيار الرجل المعتاد، وهو شخص من نفس طائفة الفاعل نجرده من ظروفه الشخصية لاهو بالذكي جداً بحيث يصل بنا الى القمة ولاهو بالغبي بحيث ينزل بنا للحضيض ونحيطه بنفس ظروف الفاعل وقت ارتكاب الفعل، لنرى مدى اقترابه من النموذج المعياري. فإذا كتب طبيب لمريض وصفة طبية ساءت على اثرها حالة المريض. فالمحكمة هنا تسأل هل ان الطبيب المعتاد  يستعمل مثل هذا العلاج لهذه الحالة ام لا؟ ولها ان تستعين باهل الخبرة من الاطباء، ومن ثم تحكم بوجود الخطأ، اذا كانت هذه الوصفة غير معتمدة. اما اذا كانت معتمدة ومقبولة من عدد من الاطباء فلا وجود للخطأ.

وفي القضايا السياسية يقترح الفيلسوف روسكو باوند معيار المصلحة العامة. بينما يتفق معظم الكتاب والباحثين ورجال القانون والسياسة الاحرار والمستقلين ان افضل معيار هو (الاستفتاء الشعبي). اذ يقول الشعب كلمته فيما هو يراه جيداً او سيئاً، خاصة اذا سبقته حملة تنويرية عامة.

وإذا قلت عن شخص انه عادل وشجاع وكريم! فبمن قارنته واعتبرته عادلاً وشجاعاً وكريماً؟

هل قارنته بقواعد السلوك التي جاءت بها الاديان السماوية مثلاً! ام قواعد الأخلاق، ام مقارنة برجال ونساء شهد لهم التاريخ والناس بتلك الصفات؟.

هل وضعت نموذجاً مثل الرسول المصطفى ام آل بيت النبوة ام حاتم الطائي ام الحجاج مثلاً

وبخلاف التقييم العادل المستند الى معايير موضوعية فان العدالة والشجاعة والكرم ستكون مجرد شعارات فارغة ....

ومن تاريخنا المعاصر يوصف بعض الناس فلاناً من الناس بأنه كان قائداً شجاعاً وعادلاً ...

ولكن الشجاع عندما يقدم على امر عليه ان يحسب حساب النتائج المترتبة على شجاعته وشعاراته خاصة اذا كانت مردوداتها على شعب بأكمله. وبخلافه يعد متهوراً وارعناً. ولذلك قالت العرب بحق: (ان الشجاع حين يرى المخاطر يَفُر).

واذا قلنا ان الفرار شجاعة في موقف معين يتجمد فيه الجبان وتشل حركته كما هو الأرنب، فإن هذا يؤكد مرة اخرى ان المفاهيم جميعاً نسبية بحسب وقائع الزمان والمكان.

***

فارس حامد عبد الكريم

 

بقلم: جون كلايبورن إيسبل

ترحمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

صوفي دي غروشي أو صوفي دي كوندورسيه

(8 أبريل  1764 – 8 سبتمبر 1822)

***

الرسالة الثانية (الترجمة عن الانجليزية)

إن التعاطف الذي نقدر عليه مع الآلام الجسدية، والذي هو جزء مما نفهمه تحت اسم الإنسانية، سيكون شعورًا قصير الأمد جدًا بحيث لا يكون مفيدًا في كثير من الأحيان،عزيزي C***، إذا كنا غير قادرين على التفكير بقدر من الحساسية. ولكن بما أن التأمل يطيل الأفكار التي جلبتها لنا حواسنا، فإنه يضخم ويحفظ فينا تأثير رؤية المعاناة، ويمكن للمرء أن يقول إن هذا هو ما يجعلنا بشرًا حقًا. في الواقع، هو التأمل الذي يثبّت في نفوسنا وجود الألم الذي لم تره أعيننا إلا لحظة واحدة، ويدفعنا إلى علاجه لمحو فكرته المؤلمة والملحة؛إنه الانعكاس الذي يساعد حركتنا الطبيعية، ويجبر تعاطفنا على أن يكون نشطًا في تقديم أشياء لها مرة أخرى لم تترك سوى انطباعًا مؤقتًا عليها؛ إنه التأمل الذي، عند رؤية الألم، يذكرنا بأننا خاضعون لهذا الطاغية المدمر للحياة، مثل الكائن الذي نراه مضطهدًا به، يجلبنا إليه بحركة من العاطفة والحنان موجهة نحو أنفسنا، ويثيرون اهتمامنا بآلامهم، حتى عندما يفضلون إبعاد حساسيتنا بدلاً من جذبها؛ وأخيرًا، إنه التأمل ، الذي، من خلال العادات التي يمنحها لحساسيتنا، وبإطالة حركاته، يجعل الإنسانية شعورا فاعلا ودائما في نفوسنا، يتوق إلى ممارسة نفسه، ويمضي قدما دون انتظار الإثارة، باحثا عن سعادة البشر في أعماله. العلم، في تأملات الطبيعة والخبرة والفلسفة، أو أنه يتحد مع الألم والمصائب، ويتبعهم في كل مكان ويصبح معزيهم، إلههم.. ومن ثم فإن الشعور الإنساني هو، إلى حد ما، حبة أودعت في أعماق قلب الإنسان بطبيعته، وستعمل على تخصيبها وتنميها ملكة التفكير. لكن سيقول البعض أن بعض الحيوانات قادرة على الشفقة وليس على التفكير؟(١)3558 صوفي

ماري لويز صوفي دي غروشي هى ابنة فرانسوا جاك دي غروشي وماركيز دي غروشي وماري جيلبرت هنرييت فريتو دي بيني. ولدت غروشي في مولان عام 1764 وتوفيت في باريس عام 1822. وفي عام 1786 تزوجت من عالم الرياضيات والفيلسوف ماري جان أنطوان نيكولا دي كاريتات، ماركيز دي كوندورسيه. كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وكان هو في الثانية والأربعين، وكان أكاديميًا بارزًا. بعد زواجها، أنشأت صوفي دي كوندورسيه صالونًا حضره تورجو، وبومارشيه، وجوج، وستال، والعديد من الفلاسفة إلى جانب الزوار الأجانب مثل جيفرسون، وبيكاريا، وربما آدم سميث. لعب هذا الصالون لاحقًا دورًا مهمًا في سياسة جيروندين. سمحت كوندورسيه للدائرة الاجتماعية، الملتزمة بالحقوق المتساوية للمرأة، بالاجتماع في منزلها؛ وربما ساعد اهتمامها بحقوق المرأة في تشكيل مقال زوجها عام 1790 بعنوان: "Sur l'admission des femmes au droit de cité"في عام 1793، بعد شجب دستور اليعاقبة، اختبأ زوجها. زارته كوندورسيه سرًا وشجعته على الكتابة. قام المركيز بتأليف كتابه Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit human (1795)، والذي قامت بتحريره فيما بعد؛ تقدمت كوندورسيه بطلب الطلاق بموافقة زوجها، لأن ذلك سيسمح للزوجة والابنة بالاحتفاظ بأصول الأسرة. وفي عام 1794، غادر مخبئه وتم التعرف عليه وتسليمه إلى السلطات. ثم عثرعليه ميتًا في السجن في صباح اليوم التالي، على الأرجح منتحرا. نشرت كوندورسيه آخر أعمال زوجها بعد وفاته. بسبب حظره ووفاته التي سبقت طلاقهما المخطط له، تُركت كوندورسيه معدمة، تعيل نفسها وابنتها وشقيقتها الصغرى. ومن أجل البقاء، افتتحت مشروعًا تجاريًا إلى جانب أعمالها في الكتابة والترجمة. تلقت تعليمًا عاليًا في وقتها، وأجادت تعلم  الإنجليزية والإيطالية بطلاقة وترجمت أعمال آدم سميث وتوماس باين. أهم منشوراتها هي رسائلها الثمانية Lettres sur la Sympathie، التي أضيفت عام 1798 إلى ترجمتها لنظرية المشاعر الأخلاقية لسميث (1759). وبقيت الترجمة  التى أنجزتها أصلا  معتمدا طوال القرنين التاليين، بينما تم تجاهل رسائل التعاطف الثمانية إلى حد كبير. في عام 1799، استأنفت كوندورسيه صالونها، حيث عملت بين عامي 1801 و1804 لنشر أعمال زوجها الكاملة.  التزمت بآراء زوجها السياسية، حتى النهاية،وفي ظل القنصلية والإمبراطورية، أصبح صالونها مكانًا لاجتماع معارضي النظام مثل فورييل. وشهدت رد فعل البوربون بعد عام 1815، وتوفيت عام 1822 أثناء إعداد طبعة جديدة من أعمال زوجها.3559 صوفي

يفتح المقطع أعلاه الرسالة الثانية من رسائل كوندورسيه الثمانية حول التعاطف الملحقة بترجمتها لكتاب سميث عام 1798، على الرغم من أن النص أقدم ببضع سنوات - يذكر زوجها الرسائل في وصيته المكتوبة عام 1794. تبدأ الرسالة الثانية بمديح ممتد للتأمل كنوع من الملاط الذي يقوي بناء التجربة الرحيمة. ينتمي آدم سميث، مثل هاتشيسون وهيوم، إلى التقليد الاسكتلندي الذي يحرص على إيجاد توازن في التعاطف مع المصلحة الذاتية التي يروج لها هوبز أو لاروشفوكو والتي تعتبر مركزية في علم الاقتصاد اليوم. ربما تتميز كوندورسيه بتغيير في التركيز: فبينما يرى سميث التعاطف كنوع من المشهد الذي يعاد سرده في العقل المشاهد، يقدمه كوندورسيه بمصطلحات أكثر مادية، ككيمياء القلب، كما يقترح أحد المراجعين المعاصرين.(2) وتبدو كوندورسيه غير منزعجة من ملاحظة سميث التي مفادها أننا يمكن أن نتعاطف مع الموتى، رغم أنهم لا يساهمون في ذلك؛ كل عنوان رسائلها هو صهرها الإيديولوجي كابانيس،كل عنوان رسائلها هو صهرها الإيديولوجي كابانيس، الذي تستشهد تقاريره عن اللياقة البدنية والأخلاقية للإنسان (1802) برسائلها وتدوين وجهة نظر مادية شاملة للعقل في تقليد كونديلاك. إن اختزال العقل في المادة هو مشروع كبير، يعادل اختزال لابلاس للسماء في الفيزياء النيوتونية في كتابه المعاصر Mécanique céleste (1796)، وربما بدا أكثر أهمية من اتباع استعارة سميث المسرحية. تزعم كوندورسيه في الرسالة الأولى أن لغتها الإنجليزية كانت سيئة عندما بدأت - "je n'entendais pas assez l'anglais pour lire l'original" - ولكن يبدو أن هذا قد تم تصحيحه. دعونا نلاحظ أن روسو يرفض أيضًا استعارة سميث المسرحية، ويختار بدلاً من ذلك التركيز على الشفقة؛لكن الكثير من هذا قد يكون التفاصيل التي تشعر كوندورسيه أنها يمكن حلها في الوحدة النهائية، وتقديم أدوات جديدة لإعادة ترسيخ العاطفة في الفكر الأخلاقي.

تمتعت النساء بدور قديم ما قبل الحداثة كوسيط للفكر الطليعي، وكوندورسيه، الذي تسبق ترجمتها لسميث رسائلها، تتبع هذا التقليد؛ وقد قيل إن قاموس مترجمتها أكثر مادية من معجم سميث، وهو ما سيكون غير عادي بالنسبة لـ تحويل من الإنجليزية إلى الفرنسية. وسبقتها دو شاتليه، التي توفيت عام 1749، في ترجمة كتاب نيوتن "مبادئ الرياضيات" (1687) في أربعينيات القرن الثامن عشر، لكن النساء ترجمن الكثير خلال هذه الفترة، وكان هذا النوع من الأدب يُستغل بشكل شائع. شارك دو شاتليه وستال أيضًا اهتمام كوندورسيه بالفلسفة الأخلاقية. بدأت كوندورسيه في هذه الأثناء حياتها المهنية كمترجمة من خلال العمل على نص يدافع عن الثورة الفرنسية المبكرة بقلم جيمس ماكينتوش، زعيم اليمين الاسكتلندي، في عام 1792.

(تمت)

***

................................

* جون كلايبورن إيسبل، مصائر النساء: الكاتبات الفرنسيات، 1750-1850. كامبريدج, المملكة المتحدة: دار نشر الكتاب المفتوح، 2023،

الأعمال:

1- [كوندورسيه، صوفي دي]، بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)

2- ماكينتوش، جيمس، اعتذار الثورة الفرنسية والمعجبون بها الإنجليز […]، ترجمة. صوفي دي غروشي (باريس: ف. بويسون، 1792)

3- سميث، آدم، نظرية المشاعر الأخلاقية […]، ترجمة. صوفي دي غروشي (باريس: ف. بويسون، 1798)

الهوامش:

1- بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)، ص. 38-39.

2-   مارك أندريه بيرنييه، "تحولات التعاطف في عصر التنوير"، في رسائل عن التعاطف (1798) بقلم صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي، تحرير. مارك أندريه بيرنييه وديدري داوسون (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)، ص. 14.

المصادر:

1- أرنولد تيتارد، مادلين، صوفي دي غروشي، ماركيزة كوندورسيه: سيدة القلب (باريس: كريستيان، 2003)

2- بيرجيس، ساندرين، وإريك شليسر، رسائل صوفي دي غروشي حول التعاطف: مشاركة نقدية مع نظرية المشاعر الأخلاقية لآدم سميث (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2019)

3- بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)

4- بواسيل، تييري، صوفي دو كوندورسيه، امرأة التنوير، 1764–1822 (باريس: مطابع عصر النهضة، 1988)

5- بروكس، باربرا، “النسوية عند كوندورسيه وصوفي دي جروشي”، دراسات عن فولتير والقرن الثامن عشر 189 (1980)، ص 297 – 361.

6- براون، كارين، صوفي غروشي دو كوندورسيه حول التعاطف الأخلاقي والتقدم الاجتماعي (أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة مدينة نيويورك، 1997)

7- براون، كارين، صوفي دي غروشي، رسائل في التعاطف (1798): طبعة نقدية، ترجمة. جيمس ماكليلان (فيلادلفيا: الجمعية الفلسفية الأمريكية، 2008)

8- ستيفن كالي، الصالونات الفرنسية: المجتمع الراقي والتواصل السياسي من النظام القديم إلى ثورة 1848 (بالتيمور: مطبعة جامعة جونز هوبكنز، 2004)

9- شارل ليجير، أسرى الحب، استنادا إلى وثائق غير منشورة. رسائل حميمة من صوفي دو كوندورسيه وإيمي دو كونيي وعدد قليل من القلوب الحساسة الأخرى (باريس: سي. جيلاندري، 1933)

10- فالنتينو، هنري، مدام دي كوندورسيه؛ أصدقائه وأحبائه، 1764-1822 (باريس: بيرين، 1950)

Lettres sur la Sympathie

Lettre II

La sympathie dont nous sommes susceptibles pour les maux physiques, et qui est une partie de ce que nous comprenons sous le nom d’humanité, serait un sentiment trop peu durable pour être souvent utile, mon cher C***, si nous n’étions capables de réflexion autant que de sensibilité ; mais comme la réflexion prolonge les idées que nous ont apportées nos sens, elle étend et conserve en nous l’effet de la vue de la douleur, et l’on peut dire que c’est elle qui nous rend véritablement humains. En effet, c’est la réflexion qui fixe dans notre âme la présence d’un mal que nos yeux n’ont vu qu’un moment, et qui nous porte à le soulager pour en effacer l’idée importune et douloureuse ; c’est la réflexion qui, venant au secours de notre mobilité naturelle, force notre compassion à être active en lui offrant de nouveau les objets qui n’avaient fait sur elle qu’une impression momentanée ; c’est la réflexion qui, à la vue de la douleur, nous rappelant que nous sommes sujets de ce tyran destructeur de la vie, comme l’être que nous en voyons opprimé, nous rapproche de lui par un mouvement d’émotion et d’attendrissement sur nous-mêmes, et nous intéresse à ses maux, même lorsqu’ils pourraient plutôt repousser qu’attirer notre sensibilité ; c’est la réflexion enfin qui, par les habitudes qu’elle donne à notre sensibilité, en prolongeant ses mouvements, fait que l’humanité devient dans nos âmes, un sentiment actif et permanent qui, brûlant de s’exercer, va sans attendre qu’on l’excite, chercher le bonheur des hommes dans les travaux des sciences, dans les méditations de la nature, de l’expérience, et de la philosophie, ou qui, s’attachant à la douleur et à l’infortune, la suit partout, et en devient le consolateur, le dieu. Le sentiment de l’humanité est donc en quelque sorte, un germe déposé au fond du cœur de l’homme par la nature, et que la faculté de réfléchir va féconder et développer.

Mais quelques animaux, dira-t-on, sont susceptibles de pitié, et ne le sont pas de réflexion ?1

كتب: ك.م. سيثا K.M. Seethi

ترجمة: علي حمدان

***

بناء على تجربته مع العديد من الحركات، تحدى تورين الفكرة التي تقول ان السلوك الجماعي يمكن تعريفه فقط استنادا الى الامتثال للقوانين والعادات والقيم السائدة. قام بمبادرات لدراسة السلوك الجمعي: أولا، من خلال الانغماس في مختلف الحركات الاجتماعية والسياسية مثل حركة الطلاب، وحركة مكافحة الطاقة النووية، والحركة القومية. والعمال النقابيين في قطاعات مختلفة، وحركة التضامن البولندية، ومناجم الفحم في تشيلي، وصناعة الصلب، وحركة زابانيستا في تشياباس في المكسيك. كان منهجه معارضا للدراسات الوظيفية التي تعتبر الفاعلين والأنظمة مترابطة. وجادل في ان منطق الأنظمة الاجتماعية والفاعلين الاجتماعين ، خاصة الذين يسعون للابتكار والتدخل النقدي، يتعارض بشكل أساسي. حيث تسعى  القوى الفاعلة الى قدر اكبر من الحرية والاستقلال والكرامة والمسؤولية.

في عام 1969، اعرب تورين عن انتقاده لمفهوم المجتمع ما بعد الصناعي، بشكل خاص كما صاغه دانيال بيل، الذي صوره على انه المجتمع المفرط في الصناعة. وعلى مدى الخمسة عشر عاما التالية، تضأل الحماس لفكرة الثورة ما بعد الصناعية، مع قلة من المراقبين وخاصة في دوائر الاعمال، على استعداد لتبنيها. عوضا عن ذلك، ظهر تعبير اكثر ملاءمة،  ثورة صناعية جديدة او تقدم كبير في الإنتاجية الصناعية. وجادل تورين بان تعريف مجتمع ما بعد الصناعي يجب ان يقارب الان بطريقة أشمل واكثر جذرية. يجب ان ينظر اليه على انه ثقافة جديدة تفرز نزاعات وحركات اجتماعية جديدة. ان التعريف المهني الواسع لمجتمع المعلومات هو تعريف مضلل ويفشل في تبرير فكرة ظهور مجتمع متميز. وبدلا من ذلك، ينبغي تعريف مجتمع ما بعد الصناعة بشكل اضيق من خلال الإنتاج التكنولوجي للسلع الرمزية التي تشكل او تحول فهمنا للطبيعة البشرية والعالم من حولنا.

بناء على ذلك، حدد تورين أربعة مكونات رئيسية للمجتمع ما بعد الصناعي: البحث والتطوير، ومعالجة المعلومات، والعلوم الطبية والتقنيات الحيوية، ووسائل الاعلام الجماهيرية. على النقيض من ذلك، كانت الأنشطة البيروقراطية وإنتاج المعدات الكهربائية والالكترونية تعتبر قطاعات ناشئة في مجتمع صناعي يتم تعريفة في المقام الأول من خلال انتاج السلع، بدلا من خلال قنوات الاتصال الجديدة وخلق اللغات الاصطناعية.

بحث تورين عن الحركات الاجتماعية كان مثيرا للأعجاب. وفقا له، كان مفهوم الحركة الاجتماعية يحمل أهمية حاسمة في علم الاجتماع المعاصر. تنبع هذه الأهمية ليس فقط من الحاجة الى التمييز بين علم الاجتماع وتعريفات قديمة كانت ترتكز على دراسة المجتمع ذاته، والتي يجب استبدالها بالاهتمام بالفعل الاجتماعي، ولكن أيضا من الحاجة الملحة الى بناء فهم جديد للحياة الاجتماعية. هذا البناء يتطلب ادراج مفهوم الحركة الاجتماعية كرابط حيوي بين رصد التكنولوجيا الجديدة وتصور اشكال جديدة من المشاركة السياسية. على عكس الفكر الاجتماعي السابق، فان مفهوم الحركة الاجتماعية الان يمكنه ان يحتل دورا مركزيا في التحليل الاجتماعي. ان لدية الإمكانيات ليصبح الأساس الذي يمكن من خلاله اجراء فحص شامل وفهم لديناميكيات المجتمع المعاصر. من خلال الاعتراف بالقوة التغيرية للحركات الاجتماعية وتفاعلها مع التكنولوجيات الناشئة. يمكن لعلم الاجتماع ان يتبنى نهجا اكثر شمولية وصلة في دراسة تعقيدات الحياة الاجتماعية في العصر الحاضر.

كتب تورين " الحركات الاجتماعية ليست عوامل ايجابية او سلبية في تاريخ الحداثة، او في تحرير الإنسانية. انها تعمل في نوع معين من الإنتاج والتنظيم الاجتماعي. ولهذا السبب نؤكد على اولوية الصراعات الاجتماعية والبنيوية على الحركات التاريخية". وقال ان" الحركات الاجتماعية الجديدة هي اقل اجتماعية سياسية (سوسيوـسياسي) واكثر اجتماعية ثقافية (سوسيوـثقافي). فالهوة بين المجتمع المدني والدولة تتزايد، بينما يتلاشى الفصل بين الحياة الخاصة والعامة. ان الاستمرارية من الحركة الاجتماعية الى الحزب السياسي اخذة في الاختفاء: والحياة السياسية تميل الى ان تكون منطقة مكتئبة بين دولة اقوى في بيئة دولية متغيرة، وعلى الناحية الاخرى، حركات اجتماعية ثقافية". وكتب أيضا" المخاطرة الرئيسية لم تعد هي رؤية الحركات الاجتماعية تمتصها الأحزاب السياسية كما كان الحال في الأنظمة الشيوعية، ولكن الانفصال الكامل بين الحركات الاجتماعية والدولة. في مثل هذه الحال، يمكن بسهولة للحركات الاجتماعية ان تصبح متجزئة، تتحول الى دفاع عن الأقليات او البحث عن الهوية، بينما تصبح الحياة العامة مهيمن عليها من قبل حركات مؤيدة او معارضة للدولة.

في عام 2014، كتب تورين " اليوم مهمتنا الرئيسية هي فهم الحالات الاجتماعية والجهات الفاعلة اجتماعيا التي تختلف تماما عن تلك التي كانت في المجتمعات الصناعية. من جهة نشهد صعود الانظمة الاستبدادية، ومن جهة أخرى، في الغرب؛ تم استبدال راس المال الصناعي أولا عام 1929 ثم مرة أخرى في عام 2007- 2008 براس المال المالي الذي لا يحمل وظيفة اقتصادية، ولكنه يهدف فقط لتحقيق الربح باي وسيلة ممكنة. يمكن للجهات الفاعلة ان تقاوم راس المال المضارب القوي الساعي نحو الربح الصرف من خلال الدفاع عن القيم الأخلاقية العالمية. بينما لم تستحوذ فكرة حقوق الانسان على الاهمية خلال الفترة الطويلة بعد الحرب. فأننا نرى الان ان حقوق الانسان والديمقراطية هما القيمتان الوحيدتان اللتان  يبدو انهما قادرتان على حشد ما يكفى من القوى الاجتماعية والسياسية لمعارضة الأنظمة الاستبدادية المناهضة للديمقراطية، ورأسمالية المضاربة".

قبل بضع سنوات، لاحظ الن: في القرن العشرين، روج المؤيدون من الدول الأكثر ثراء للاعتقاد بان النمو الاقتصادي والديمقراطية السياسية والسعادة الشخصية أمورا مترابطة. ومع ذلك، أشار الى ان الوقع القاسي للتاريخ قد دمر هذا الراي المتفائل الى حد كبير. وأضاف ان حقائق التاريخ القاسية حطمت هذه النظرة المفرطة في التفاؤل. وقال  الديمقراطية والتنمية لا تتقدمان دائما معا في الواقع، يمكنهم حتى التحرك في اتجاهات متعاكسة تماما. وان الديمقراطية لا تكون واقعية الا عندما يشكل سكان البلد كيانا سياسيا نشطا. تضعف او تختفي عندما تقود القرارات السياسية عوامل غير اجتماعية مثل الولاء والمشاعر القومية، والتكامل المجتمعي، وإرادة الحاكم، او حتى السعي الى التحديث نفسه.

تحول تورين الى ناقد للسياسات النيوليبرالية التي ازدادت أهميتها منذ التسعينات. خلال نهاية القرن العشرين، وضع بجرأة مسألة الذات والديمقراطية في مقدمة الخطاب الفكري من خلال اعماله المؤثرة، ولاسيما نقد الحداثة وما هي الديمقراطية. هذه النصوص الرائدة تحدت الفهم التقليدي للديمقراطية كمجرد مجموعة من الضمانات المؤسسية او ممارسة سلبية في الحرية. بدلا من ذلك ، قدم تورين تصور عميق للديمقراطية.

وفقا لتورين، تستلزم الديمقراطية كفاحا مستمرا يقوم به افراد متجذرين في ثقافاتهم الفريدة وتطلعاتهم الى الحرية، ضد المنطق السائد المفروض من قبل الأنظمة القائمة، وفي هذا الاطار، طرح تورين عن رؤية للديمقراطية تتجاوز الحدود التقليدية وتحتضن الوكالة الفعالة للأفراد في تشكيل مصائرهم الخاصة. قدمت أفكاره وجهة نظرة جديدة حول الديمقراطية. مؤكدة القوة التغيرية للأفراد المشاركين في السعي وراء الحرية في سياقاتهم الثقافية الخاصة.

اثار منهج تورين انتقادات من بعض الزوايا. في كتاباته المبكرة رأى ان منهجه "الفعلي " هو نتيجة طبيعية للنظريات البنيوية والوظيفية. معترفا بمساهماتهما في الفهم الاجتماعي. ومع ذلك مع تقدم عمله، نأي بنفسه تدريجيا عن هذه المفاهيم المنافسة دون الانخراط في مناقشات او مناظرات تفصيلية. مع تصرفات مثيرة للجدل الى حد ما، رفض تورين بشكل جدلي ليس فقط مفاهيم البنيوية والوظيفية ولكن أيضا التفاعلية الرمزية والتجريبية والنظريات التطورية للمجتمع والفلسفة الاجتماعية ايضا.

وفقا لديتر روشت، يشير المبدأ النظري المركزي لتورين الا ان المجتمع المعاصر ليس مجرد نظام لإعادة الإنتاج، بل هو  كيان ديناميكي يعيد خلق نفسه باستمرار من خلال الصراع. فهو يرى المجتمع كمجموعة هرمية من أنظمة العمل، حيث يشارك الفاعلون ذو المصالح المتضاربة والتوجهات الثقافية المشتركة ضمن نفس النطاق الاجتماعي. يعارض تورين الفكرة بان المجتمع مبني فقط على الاقتصاد او الأفكار او انه يتألف من أنظمة فرعية او مستويات هرمية. بدلا من ذلك، فهو يحدد التاريخ والعلاقات الطبقية كمكونات أساسية للمجتمع، مؤكدا على توليد النماذج وتحويل التوجهات الى ممارسات اجتماعية في سياق الهيمنة الاجتماعية.

منظور تورين قد تحدى فكرة المجتمع كمنظمة ميكانيكية او جامدة، عوضا عن ذلك اكد على العمل والعلاقات الاجتماعية. تتعارض هذه الرؤية مع الوظيفية والبنيوية، حيث تسلط الضوء على الطابع الديناميكي للتفاعلات الاجتماعية بفاعلية الافراد في سياق اجتماعي معطى. في السبعينات، قام تورين بتوسيع أفكاره وطور أسلوبا يسمى "التدخل الاجتماعي" لتحليل الحركات الاجتماعية. هذا الاسلوب، جنبا الى جنب مع نهجه "العملي"، يهدف الى تحديد وفهم ظهور حركات اجتماعية هامة تلعب دورا مركزيا في مجتمع مبرمج. في الماضي، كانت حركة العمال تحتل هذا الموقف المركزي في المجتمع الصناعي، بينما احتلت حركات الحريات المدنية هذا الموقف في مجتمع السوق. سعى تورين لكشف وفهم الحركة الاجتماعية التي ستتولى دورا مؤثرا مماثلا في ديناميكيات تطور المجتمع المبرمج.

كما اشار روتشت، الى ان الآراء قد تختلف بشان مكانة تورين كشخصية بارزة في علم الاجتماع المعاصر، الا ان اسهاماته في دراسة الحركات الاجتماعية لا يمكن انكارها. تتميز اعماله الواسعة بنهج طموح ولكنه مثير للجدل، رسخت مكانته كواحد من ابرز العلماء في هذا المجال. وعلى النقيض من العديد من اقرانه، سعى تورين لتقريب الفجوة بين الأطر النظرية الكبرى والتحليل التجريبي التفصيلي على المستوى الاجتماعي الجزئي. قناعته الفكرية الثابتة وموقفه الواضح ميزته عن غيره، حيث تحدى بشجاعة النهج البديل دون قلق ظاهر من الانتقادات او رد الفعل العنيف.

 

أُكتاتف لارمانياك - ماتورون

Octave Larmagnac-Matheron

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

" الصوم المتقطّع، تمرين الصوم، الخ ...: إنّ ممارسات الامتناع الطوعي عن الأكل تحظى بالإعجاب، ولكنها أيضا موضوع انتقاد متزايد. وغالبا ما يقترن الصوم بحكمة الشرق، ومع ذلك فثمة مدافعين عنه كُثْر في الفلسفة الغربية. وهذه بعض نصوصهم توضح ذلك:

- إبيكتات: (الصوم بوصفه تمرينا للتحكم في النفس(sophrosynè, σωφροσύνη) )

"تدرّب أحيانا على أن تَحْيَى كمريض، كي تحيى يوما كمعافى. صُمْ، اشرب الماء ؛ امتنع تماما عن الرغبة، حتى تكون رغباتك موافقة للعقل".

"محاورات"

**

- القديس أغسطسنوس: (الصوم نوعان: إذلال النفس وتغذية الفكر)

" إذلال النفس، بإيمان صادق، وبتذرّع الصلاة وقهر الجسد.. والنوع الثاني من الصوم.. يُقدّم بوصفه تغذية الفكر..". يمكّننا الصوم فعلا من " أن نُصرف عن الملذّات الحسية بتذوّق الحلاوة الروحية للحكمة والحقيقة، والتألم طوعا من الجوع والعطش".

أغسطينوس " في منفعة الصوم".

**

- شوبنهاور: (الصوم فنّ كسر الإرادة الحياة، فنّ تطهّر)

إنّ الزاهد" يحسّ أيضا كلّ رغبات إرادة الحياة، بوصفه جسدا نشطا، وتجليا للإرادة ؛ لكنّه يضعها تحت قدميه عمدا (...)لا عن صغر الإرادة ذاتها، بل إنه يعمد إلى إذلال ما يجعلها مرئية وموضوعة، أي جسده؛ فهو يغذّيه ببخل، متجنّبا بلوغه حالة رخاء وقوّة متأجّجة، ممّا يجعل الإرادة تُولد من جديد أكثر قوّة وأكثر اندفاعا، هذه الإرادة التي هو المُعَبِّر عنها ومرآتها. فهو يمارس الصوم، و إضعاف الشهوة حتى، ويتّبع نُظُم الانضباط، بغاية أن يكسّر تدريجيّا ويُميت، بضروب من الحرمان و المعاناة المستمرّة، هذه الإرادة للحياة، التي يعترف بها (الزاهد) ويكرهها مبدئيا".

"العالم بوصف إرادة وتمثّلا" (1818)

**

نيتشه: (ضرورة التشريع لتعلّم الجوع بالصّوم.)

" لابدّ أن توجد ضروب من الصوّم، وأن يُترك للمُشرّع، حيثما تتحكّم عادات ودوافع قويّة، أن يُدرج أيّاما فاصلة نتصدّى فيها لهذه الدّوافع ونتعلّم بدورنا أن نجوع ".

نيتشه " من وراء الخير والشرّ " 1886

**

- لوفيناس: (الصوم أن نضحّي من أجل الآخر)

" أن نعطي، هو أن نوجد من أجل الآخر، رغما عنّا، لكن بالقطع مع ما هو لذاتنا، هو أن ننتزع الخبز من فمنا، وأن نشبع جوع الآخر بصومنا الخاص".

لوفيناس " محاولة وجوارات (مع فرانسوا بواريي . 1996)

**

- ميشيل فوكو: (الامتناع عن الأكل طوعيا أمر أساسي في التاريخ)

" هي سمة مشتركة بين الطب الإغريقي والروماني، تتمثّل في أن نسند إلى الحِمْية الغذائية مكانة أكثر من الجنس. فالمسألة الرئيسية بالنسبة إلى هذا الطبّ هو أن نأكل ونشرب. وكان لابدّ من تطوّر كبير سنلْمَسُه في الرهبنة المسيحية، حتى يبدأ الانشغال بالجنس في إحداث توازن بينه والغذاء. لكنّ يظلّ، ولوقت طويل، الامتناع عن الأكل وضروب الصوم، أساسيّا. وستكون، لحظة هامّة في تاريخ الإيتيقا في المجتمعات الأوروبية، يوم أن تَغَلّب الانشغال بالجنس ونظامه على صرامة الوصفات الغذائيّة".

تاريخ الجنسانية (1984).

***

...............................

* عن "مجلة الفلسفة " (Philo - Magasine1)، مارس 2023

في العصور القديمة، لم تكن كلمة طاغية بالضرورة تحقيراً وتدل على صاحب السلطة السياسية المطلقة. فالطغيان في العالم اليوناني والروماني، هو شكل من أشكال الحكم الاستبدادي يمارس فيه فرد واحد السلطة دون أي قيود قانونية. في استخدامها الحديث، عادة ما تكون كلمة الطغيان تحقيراً وتشير ضمناً إلى الحيازة أو الاستخدام غير الشرعي للسلطة. يتشارك جميع الطغاة بنفس الطريقة القبيحة، لأن الجميع يسعون إلى نفس التأثير: الترهيب وليس السحر. عادة ما تجتمع عناصر السيرة الذاتية للطغاة، من الصعود إلى السقوط، في كل حالة تقريباً لتكوين رواية موحدة.

الديكتاتور هو زعيم سياسي يحكم دولة بسلطة مطلقة وغير محدودة. تسمى الدول التي يحكمها ديكتاتوريون بالديكتاتوريات. تم تطبيقه لأول مرة على قضاة الجمهورية الرومانية القديمة الذين تم منحهم صلاحيات استثنائية مؤقتاً للتعامل مع حالات الطوارئ، ويعتبر الحكام المستبدون المعاصرون، من أكثر الحكام قسوة وخطورة في التاريخ.

اليوم، يرتبط مصطلح "الدكتاتور" بالحكام القساة والقمعيين الذين ينتهكون حقوق الإنسان ويحافظون على سلطتهم من خلال سجن وإعدام معارضيهم. عادة ما يصل الديكتاتوريون إلى السلطة من خلال استخدام القوة العسكرية أو الخداع السياسي ويحدون أو يحرمون الحريات المدنية الأساسية بشكل منهجي.

وعلى غرار "الطاغية" و"المستبد"، أصبح مصطلح "الدكتاتور" يشير إلى الحكام الذين يمارسون سلطة قمعية وقاسية وحتى مسيئة على الناس. وبهذا المعنى، لا ينبغي الخلط بين الدكتاتوريين والملوك الدستوريين مثل الملوك والملكات الذين يصلون إلى السلطة من خلال خط وراثي للخلافة.

من خلال قبضهم على السلطة الكاملة على القوات المسلحة، وعلى الأجهزة الأمنية، وعلى وسائل الإعلام، يقضي الطغاة على كل معارضة لحكمهم. يستخدم الدكتاتوريون عادةً القوة العسكرية أو الخداع السياسي للحصول على السلطة، والتي يحافظون عليها من خلال الإرهاب والإكراه والقضاء على الحريات المدنية الأساسية. غالباً ما يكون الطغاة يتمتعون بشخصية كاريزمية بطبيعتهم، ويميلون إلى استخدام تقنيات مثل الدعاية الجماهيرية المنمقة لإثارة مشاعر الدعم والقومية بين الناس.

في حين أن الطغاة قد يحملون وجهات نظر سياسية قوية ويمكن دعمهم من قبل الحركات السياسية المنظمة، مثل الشيوعية، إلا أنهم قد يكونون أيضاً غير سياسيين، ولا يحركهم سوى الطموح الشخصي أو الجشع.

كما تم استخدامه لأول مرة في مدينة روما القديمة، لم يكن مصطلح "الديكتاتور" مهينًا كما هو الحال الآن. كان الدكتاتوريون الرومان الأوائل قضاة موقرين مُنحوا السلطة المطلقة لفترة محدودة للتعامل مع حالات الطوارئ الاجتماعية أو السياسية. تتم مقارنة الدكتاتوريين المعاصرين بالعديد من الطغاة الذين حكموا "اليونان القديمة" Ancient Greece

 و"إسبرطة" Sparta خلال القرنين الثاني عشر والتاسع قبل الميلاد.

مع تراجع انتشار الأنظمة الملكية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبحت الديكتاتوريات والديمقراطيات الدستورية هي الأشكال السائدة للحكم في جميع أنحاء العالم. وبالمثل، تغير دور وأساليب الدكتاتوريين مع مرور الوقت. خلال القرن التاسع عشر، وصل العديد من الطغاة إلى السلطة في دول أمريكا اللاتينية عندما أصبحت مستقلة عن إسبانيا. هؤلاء الدكتاتوريون، مثل "أنطونيو لوبيز دي سانتا آنا" Antonio López de Santa Anna في المكسيك، و"خوان مانويل دي روزاس" Juan Manuel de Rosas في الأرجنتين، قاموا عادة بتشكيل جيوش خاصة للاستيلاء على السلطة من الحكومات الوطنية الجديدة الضعيفة.

الدكتاتوريون عبر التاريخ

لقد كانت الدكتاتورية، من ناحية ما، هي الحالة الافتراضية للإنسانية. يمكن تلخيص النظام الحكومي الأساسي منذ فجر الحضارة، ببساطة، في تلقي الأوامر من الرئيس. يخبر الزعماء الكبار، وهم من الذكور دائماً، أتباعهم بما يجب عليهم فعله، ويفعلون ذلك، أو يُقتلون. في بعض الأحيان يتم ارتداء هذا في عملية صنع القرار المجتمعي، من قبل مجموعة من الرؤساء المحليين أو الحكماء، ولكن حتى الإدارة الأكثر جماعية يجب أن يكون لها رئيس: "كابو دي توتي كابي" Capo dei capi يحترم الرأس الآخرـ مصطلح يستخدم للإشارة إلى زعيم الجريمة القوي للغاية في المافيا الصقلية أو الأمريكية الذي يتمتع بنفوذ كبير على المنظمة بأكملها ـ كما كان الملوك في إنجلترا يحترمون اللوردات. لكن الكابو لا يزال هو الكابو والملك لا يزال هو الملك. على الرغم من أن الترتيب يمكن أن يتم التلاعب به إلا أن الحقائق الأساسية لا تتغير.

مع اجتياح ردود الفعل المضادة لليبرالية التنويرية خلال العقود الأولى من القرن العشرين، كان على الحكام المستبدين، أن يتبنوا طقوساً مختلفة عن طقوس الملوك والأباطرة الذين سبقوهم. أدى غياب الأسطورة الموروثة المعقولة والحاجة إلى إنشاء نصب تذكارية واحتفالات تحظى بشعبية وترهيب في نفس الوقت إلى ظهور أنماط عامة جديدة من القيادة. كل هؤلاء اجتمعوا في أسلوب عبادة الطغاة.

ارتكب الطغاة جرائم ضد الحضارة إلى جانب الجرائم ضد الإنسانية. لقد اتُهم "ستالين" Joseph Stalin باستجواب وتعذيب وإعدام أكثر من 1.5 مليون شخص. وفي ذروة حملته في عامي 1937 و1938، كان معدل الإعدام حوالي ألف شخص يومياً. لكن ستالين يتحمل أيضاً مسؤولية التدهور الثقافي الكابوسي الذي حدث في نفس الوقت، وهو الإصرار على استبدال الفن بالسياسة.

مع عبادة القائد الذي تم ختم اسمه على كل سطح ممكن. مثل بيت الثقافة الستاليني، التابع لمصنع ستالين، في ساحة ستالين، في مدينة ستالينسك.

 يمكن العثور على مثل هذه الكوميديا السوداء للأنانية حتى بين الطغاة الستالينيين الجدد. في عام 1985، أمر "نيكولاي تشاوشيسكو" Nicolae Ceaușescu الزعيم الشيوعي الروماني، بإعداد برامج تلفزيونية مثل "عصر نيكولاي تشاوشيسكو" و"العلم في عصر نيكولاي تشاوشيسكو". وبموجب القانون، كانت صورته تظهر في بداية كل كتاب مدرسي.

امتد هذا الأسلوب إلى أركان العالم عبر نماذج للطغاة في بلدان عديدة. على سبيل المثال ـ الحكام المستبدين مثل "دوفالييه" François Duvalier في هايتي، و"منجيستو" mənɡɨstu haylə Maryam في إثيوبيا الذين دمروا بلدانهم الفقيرة، ويتوافق مع هذا النوع الرهيب عدد من الطغاة في العالم العربي. السبب الذي يجعل الطغاة يُظهرون أسلوباً واحداً هو جزئياً ـ التأثير المتبادل والتهجين (صنع الفنانون الكوريون الشماليون لـ "منجيستو" نصباً تذكارياً يبلغ ارتفاعه مائة وستين قدماً في إثيوبيا)، وجزئياً هو الحاجة المشتركة. الكل يشترك في قبح واحد، لأن الكل يتجه نحو نتيجة واحدة: ليس السحر، بل الترهيب، وليس الإقناع، بل الخوف.

طراز موحد

تتجمع العناصر معاً في كل حالة تقريباً لتكوين سيرة ذاتية موحدة للديكتاتور. هناك الصعود، الذي عادة ما يساعد فيه الانتهازيون من الحاشية الذين يخدعون أنفسهم، والذين يعتقدون أنهم قادرون على كبح جماح الشخصية الاستبدادية الصاعدة. لعب البلاشفة القدامى، مثل "غريغوري زينوفييف"  Grigory  Zinovyev دوراً مهماً في مواجهة "تروتسكي" Leon Trotsky وفي صعود ستالين إلى حد كبير.

كما فعل السياسي الألماني المحافظ "فرانز فون بابن" Franz von Papen في عهد "هتلر" Adolf Hitler. حين كان يردد "يمكننا السيطرة عليه" وهو شعار أظهر قصر نظر باين. ثم هناك الوصول إلى السلطة، والتطهير المحموم على نحو متزايد، تليها عبادة الشخصية التي تُصبح أكثر سخافة مع مرور الزمن، لأنها شيء قابل للتضخم فقط، وليس للتغير. إلى جانب ذلك تأتي بعض إعادة التماهي مع شخصيات من الماضي الوطني. حيث أصبح استغلال التاريخ الآري الخيالي، الذي رسمته الأسطورة الاسكندنافية آلهة "فالهالان" Valhalla محورياً في عبادة هتلر. وبنفس الطريقة تبنى دوفالييه روحانية مذهب "الفودو" Vaudou الهاييتي، وقدم نفسه على أنه الصورة الرمزية لروح المقبرة البارون "صاميدي" Samedi.

ثم تأتي عزلة الدكتاتور داخل قصره - حيث لا أصدقاء له، ويصاب بجنون العظمة - ويشذب دائرته لتقتصر على عدد قليل من المتملقين. وبدلاً من أن يبتهج الدكتاتور بانتصاره، ينسحب إلى عزلة مخيفة. وأخيرا، بعد كل الموت والوحشية المفروضة، تنتهي سلطة الدكتاتور، وغالباً تنتهي حياته أيضاً بمفاجأة ملحوظة.

يمكن مشاهدة لقطات فيديو لـ "تشاوشيسكو" في بوخارست عام 1989، وهو يخاطب بثقة الجمهور المجتمع ويدرك في لحظة واحدة أن الجمهور قد تحول وتغير. "أيها الرفاق! اخفضوا أصواتكم!" ويصرخ الدكتاتور، بينما تصرخ زوجته بأعلى صوت: «اصمتوا!» وبعد أيام قليلة فقط كانت فرقة الإعدام تُنهي حياة الاثنين.

تم طرد الفاشي "موسوليني" Benito Mussolini فجأة، وكان هتلر ليفعل ذلك أيضاً لو لم يقتل نفسه أولاً. وبدا أن ستالين قد وصل إلى نهايته الطبيعية، ولكن كما يُظهِر فيلم "موت ستالين"، فإنه ربما مات في وقت أقرب مما كان ليموت لولا ذلك، لأن رفاقه كانوا مرعوبين للغاية لدرجة أنهم لم يتمكنوا من القيام بأي شيء عندما وجدوه فاقداً للوعي في غرفة مظلمة.

ومع ذلك، فإن هؤلاء الحكام المستبدين: وبغرابة فظيعة في معظم المجالات، يميلون إلى أن يكونوا جيدين في شيء واحد، ومهاراتهم في شيء واحد تجعل أتباعهم الخائفين يبالغون في تقدير مهارتهم في كل شيء. مثل أطفال الأب المخمور الذين يعتبرون عملاً صغيراً من الأعمال الخيرية في عيد الميلاد دليلاً على الكرم الغريزي الهائل.

يمكن مقارنة صعود "هتلر" برواية اليساري المجري "جون لوكاش" György Lukács وسوف يتذكر المرء كيف أدرك لوكاش، دون تخفيف الصورة، أن "هتلر" قام ببعض الأشياء بشكل جيد للغاية. إن لحظات الدهاء وحتى الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها "هتلر" من حين لآخر ــ على سبيل المثال ـ عندما رأى أن "ستالين" سيثق به في عدم غزو روسيا، أو أن فرنسا لم تكن مستعدة للقتال ــ جعلت أتباعه أكثر اقتناعاً بعبقريته من أي وقت مضى.

عبادة الشخصية

إن الفرق بين القيادة الكاريزمية وعبادة الشخصية – نقاط مختلفة في مسار الدكتاتور – هو أن القائد الكاريزمي يجب أن يُظهر نفسه، ولكن في موضوع عبادة الشخصية لا يستطيع الديكتاتور أن يُظهر نفسه بشكل كبير. تصبح المسافة بين الحقيقة والصورة أكبر من أن تستمر.

الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" Mao Zedong لا يستطيع أن يكون عالماً بكل شيء على نحو جدير بالثقة إلا من خلال رؤيته على نحو لا يمكن التنبؤ به. إن فرض عنصر الغموض أمر ضروري للديكتاتور. ولذلك فإن معظم الطغاة نادراً ما يظهرون علناً في ذروة طغيانهم. على سبيل المثال ظل "ستالين" و"هتلر" مختبئين طوال فترة طويلة أثناء الحرب العالمية الثانية.

أثناء الثورة الثقافية، كانت صورة "ماو" موجودة في كل مكان، ولكن عندما كان يستعد لاستقبال الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" Richard Nixon عام 1972 أخفى كثيراً من الصور. تمت إزالة جميع العلامات التي تشير إلى الرئيس من الشوارع والميادين. لقد تم تفكيك آلاف التماثيل، وإرسالها سراً لإعادة تدويرها.

يتجه الملك أو الإمبراطور إلى الدين أو الطقوس الوطنية طلباً للمجد. فالديكتاتور الذي نهض مع ثورة ضد النظام القديم، هو إلى حد ما متمرد للأيقونات، ويجب أن يكون أكثر غموضاً.

أما "موسيليني" فقد مرت أشهر لم يره فيها أحد. طما رفض "ستالين" المشاركة في موكب النصر الخاص به بعد الحرب العالمية الثانية، تاركاً المهمة لجنراله الكبير "جورجي جوكوف" Georgy Zhukov. كما تحصن "دوفالييه" في قصره، ثم ظهر فجأة وهو يتسوق في متاجر صغيرة في العاصمة الهاييتية "بورت أو برنس" Port-au-Prince. وأحياناً يكون هناك، وأحياناً لا، فهو كان بطل بألف وجه بقدر ما هو مراقب بمليون عين.

والسؤال التاريخي المهم حقاً هو كيف تختلف عبادة شخصية الاستبدادي الحديث عن عبادة الملك أو الإمبراطور. تم تأليه الأباطرة الرومان. من المهم أن عبادة الشخصية السياسية في القرن العشرين نشأت في سياق عبادة المشاهير الأوسع، فكان من الممكن إضفاء الطابع الأسطوري على الملوك الذين وصلوا إلى السلطة في القرون التي سبقت وسائل الإعلام، وإضفاء طابع شعري عليهم، لأن الأساطير والقصائد كانت المادة الثقافية الرئيسية الموجودة. لقد تنافس الطغاة مع الأفلام ومع النجوم. قال "تشارلي شابلن"  Charlie Chaplin ذات مرة: "عندما رأيت هتلر لأول مرة، بهذا الشارب الصغير، اعتقدت أنه يقلدني". على الرغم من أن "تشابلن" كان حزيناً بأثر رجعي، إلا أنها لم تكن فكرة مجنونة - وكان يستخدمها لإحداث تأثير كوميدي رائع في أعماله.

الطغاة واللغة

لقد ظهر التعصب والطغاة تاريخياً جنباً إلى جنب. حتى يومنا هذا، لا يزال الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" Donald Trump يحب الطغاة، ليس فقط لأنه يحب المستبدين، ولكن أيضاً لأنهم يقدمون أنفسهم، بطرق يفهمها، كمشاهير مع حاشية و"مظاهر" معدة مسبقاً. وإذا كان هناك أسلوب دكتاتوري ينتشر في جميع أنحاء الكوكب، فهل هناك أيضاً صوت دكتاتوري - طريقة محددة يستخدمون بها اللغة؟ كتب الشاعر البريطاني الأمريكي "ويستان اودن" Wystan Auden في عام 1968، بعد دخول الدبابات السوفييتية إلى براغ: "يفعل الغول ما يستطيع الغيلان فعله، وهي أفعال مستحيلة تماماً على الإنسان. لكن هناك أمراً واحداً لا يستطيع الغول فعله، هو إتقان الكلام." فكرة أن اللغة كانت الحصن الأخير ضد الجنون كانت فكرة مركزية في منتصف القرن الماضي، بالنسبة لعقول مثل الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" Albert Camus والروائي البريطاني "جورج أورويل" George Orwell فالوضوح هو اختبار للنزاهة، كما ذكر أورويل في كتابه "السياسة واللغة الإنجليزية" إن الطغاة لا يستطيعون التحدث بشكل منطقي.

ولكن ماذا لو كانت الفكرة المروعة أن العكس هو الصحيح - ماذا لو كانت اللغة هي بالضبط ما تتقنه الغيلان. يميل الأشخاص السيئون إلى إتقان اللغة بشكل أفضل من الأشخاص الطيبين، الذين غالباً ما يكونون معقودي اللسان في مواجهة قوى العالم وتعقيدات الطغيان. ماذا لو كانت مآسي الطغيان في المقام الأول، مآسي البلاغة التي أُسيء تطبيقها - لغة تستخدم لأغراض شريرة، ولكنها استخدمت بشكل جيد. لعدة قرون تعلم الطلاب اللاتينية عن طريق حفظ كتابات الطاغية الروماني العظيم والغول الذي أنهى الجمهورية "يوليوس قيصر" Julius Caesar لقد فعلوا ذلك بالضبط لأن أسلوب قيصر كان واضحاً جداً. حيث كان يفرز بكفاءة طبقة "الدرويد" Druid ـ أي الكهنة ـ والصور، ويركز دائماً على النقطة الرئيسية.

يميل أسوأ الطغاة إلى أن يكونوا القراء والكتاب الأكثر حماسة. مات "هتلر" وفي مكتباته الخاصة ما يزيد على ستة عشر ألف كتاب. كتب الزعيم البلشفي "ستالين" كتاباً طُبع بعشرات الملايين، وعلى الرغم من أن القيام بذلك يكون عادة سهلاً عندما تدير الناشر، وتمتلك جميع المكتبات، وتحرر جميع مراجعات الكتب، إلا أن "ستالين" قام بالكتابة بنفسه. كما شارك "موسوليني" في تأليف ثلاث مسرحيات أثناء حكمه لإيطاليا. وكان الرئيس الفخري لجمعية "مارك توين الدولية" Mark Twain International Society حيث كتب تحية لقراء مؤلفه المفضل أثناء تنصيبه في منصب بلقب "دوتشي" Duce.

السلطة من فوهة البندقية

بعكس الطغاة، أياً كان ما فعلوه، هناك من كتب بشكل أكثر وضوحاً وإسهاباً مما فعلوا، على سبيل المثال، رئيس الوزراء البريطاني السابق "كليمنت أتلي" Clement Attlee أو السياسي الأسكتلندي "تومي دوغلاس" Tomy Douglas - السياسيون الاشتراكيون الديمقراطيون الذين فعلوا خيراً كبيراً في العالم ولم يتركوا وراءهم سوى القليل من الشعارات الجذابة. مثل تلك التي كان يرددها الزعيم "ماو تسي تونغ" مثل "السلطة السياسية تنبثق من فوهة البندقية" و"الثورة ليست حفل عشاء". إن اعتذارات ماو عن القتل الجماعي، قد لا تكون مشاعر مثيرة للإعجاب، لكنها أقوال مأثورة لا تُنسى - أكثر تذكراً بكثير من الحقيقة المتناقضة التي يقولها بعض الناس. تنمو القوة السياسية من فوهات بعض الأسلحة في بعض الأحيان، اعتمادًا على ما تعنيه بـ "السلطة" و"السياسة"، ومن تصوب البندقية نحوه.

تم وضع هذه الفرضية المتناقضة بشكل جيد في كتاب الكاتب الاسكتلندي "دانييل كالدر" Daniel Kalder  "المكتبة الجهنمية: عن الطغاة، والكتب التي كتبوها، وغيرها من كوارث محو الأمية" The Infernal Library: On Dictators, the Books They Wrote, and Other Catastrophes of Literacy. الصادر عام 2018، وهو عمل باحث غير أكاديمي يتمتع بشهية مذهلة للقراءة. ويعتبر كتاب من أدبيات الدكتاتورية.   وفي كتاب "الديكتاتوريون: عبادة الفرد في القرن العشرين" الطريق إلى الديكتاتورية" “Dictators: The Cult of the Individual in the Twentieth Century” The Road to Dictatorship. للمؤرخ الهولندي "فرانك ديكوتير"  Frank Dikötter، وصدر في عام 2020.

كلا الكتابين يتضمنان نفس الطغاة، لكن تركيز "كالدر" ينصب على كلماتهم أكثر من أفعالهم. لقد عمل على قائمة قراءة من شأنها أن تجعل معظم الناس يتجهون يائسين نحو الخروج. يمكن لأي شخص أن يقرأ كتاب "كفاحي" إذا كان لديه الجرأة لتحمل هراء رسام الألوان المائية النمساوي الفاشل الذي يشفق على نفسه. لكن "كالدر" شق طريقه بالفعل من خلال فلسفة "أنطونيو دي أوليفيرا سالازار" António de Oliveira Salazar الذي كان رئيس وزراء البرتغال في منتصف القرن الماضي، وكان استبدادياً، وظل لعقود من الزمن شبه دكتاتور وشبه فاشي، ويقدم كتابه الصادر عام 1939 بعنوان "العقيدة والعمل" مراجعة عادلة لفترة حكمه.

ربما سمعتم أن كتاب "ستالين" بعنوان "أسس اللينينية" طُبع بالملايين، لكن كالدر قرأه وقال عنه بنوع من الاحترام "إنه واضح ومقتضب، وجيد في تلخيص الأفكار المعقدة لشخص متوسط المستوى".

ما أقصده هو النقطة المثيرة للقلق، وهي أن أسوأ الطغاة في القرن الماضي لم يكونوا هم الأقل وحشية من المتعلمين في خيالنا. (هتلر البالغ من العمر عشرين عاماً والفقير في فيينا، ذكر كلمة "كاتب" في وثيقة رسمية باعتبارها مهنته. لم يكن كذلك، لكنه كان ما كان يحلم بأن يصبحه). ولم تنبع قوتهم من فوهة البندقية. لقد نشأت من قدرتهم على تكوين جمل تقول إن القوة تنبع من فوهة البندقية، في حين أنها في الواقع تنبثق من صفحات الكتاب. وكان "ماو" أكثر فعالية كمدافع منه كجنرال. المشكلة في لغة هؤلاء الطغاة هي ما استخدموه من أجله.

في هذا السياق أطن أن "لينين" هو منشئ الأسلوب الشمولي الحديث في النثر، متبنى لهجة ماركس الجدلية لأغراض الثورة الشيوعية. والنسخة أكثر اعتدالا من" لينين" التي لا تزال تظهر من وقت لآخر - ولا بد من القول إن ذلك يرجع جزئيا إلى كتاب الناقد الأمريكي "إدموند ويلسون" Edmund Wilson الذي صدر عام 1940 بعنوان: "إلى محطة فنلندا: دراسة في كتابة التاريخ وتمثيله" To the Finland Station: A Study in the Writing and Acting of History. يعتبر هذا الكتاب أحد أعظم الأعمال في الكتابة التاريخية الحديثة، وهو وصف كلاسيكي للأفكار والأشخاص والسياسة التي أدت إلى الثورة البلشفية.

ربما لم يكن "لينين" حساسًا بالقدر الكافي للحريات المدنية في كتاب "ويلسون" لكنه كان إنسانياً وفلسفياً في الأساس، ومفكراً من الدرجة الأولى، وقع في أزمة من الدرجة الأولى. وكان عيبه هو افتقاره إلى الصبر على إنسانيته العميقة، وفرض رقابة ذاتية حتى على حبه لـ "بيتهوفن" سعياً لتحقيق الصالح العام. بعد "ويلسون" أظهر الكاتب البريطاني التشيكي "توم ستوبارد" Tom Stoppard في فيلمه الكوميدي الرائع "محاكاة ساخرة" Travesties عام 1974، أظهر لينين وهو يستمع بلهفة إلى سوناتا  Appassionata لـ "بيتهوفنن".

 حاول الأديب الروسي "فلاديمير نابوكوف" Vladimir Nabokov الذي كان يعرف "لينين" بصورة أفضل، تحرير "ويلسون" من وهم هذا الاعتقاد. وكتب إلىه في عام 1948: "ما تراه الآن على أنه تغيير نحو الأسوأ ('الستالينية') في النظام، هو في الواقع تغيير نحو الأفضل في المعرفة من جانبك". لقد حدثت الآن تغييرات في الديكور تحجب بشكل أو بآخر هاوية سوداء من القمع والإرهاب لا تتغير.

يوافق الاسكتلندي "دانييل كالدر" على هذا الرأي. فبعد قراءته كتاب لينين "الدولة والثورة" كتب: "من المستحيل أن نتفاجأ بأن مصير الاتحاد السوفييتي كان بهذا السوء". في عام 1905 كان لينين يرفض فكرة "الحرية" في مجتمع استغلالي حيث كتب: "إن حرية الكاتب أو الفنان أو الممثلة البرجوازية هي ببساطة اعتماد مقنع (أو مقنع بشكل نفاق) على كيس المال، والفساد، والدعارة". ومن المهم أن تأتي "الممثلة" في موقف لا يوافق عليه لينين.

 اعتبر المفكر الإنجليزي اللبرالي "جون ستيوارت ميل" John Stuart Mill وشريكته "هارييت تايلور" Harriet Taylor Mill)‏ في كتابهما "إخضاع المرأة" The Subjection of Women الصادر عام 1869، الممثلات على أنهن أحد رعايا الحركة النسوية الليبرالية، حيث إنهن كن النوع الوحيد من الفنانات الذي كانت مساواتهن أو تفوقهن على الرجال معروضة أمام الملأ.  (كانت هيلين ابنة تايلور ممثلة). وبالتالي فإن إضعاف معنويات الممثلات واعتبارهن مجرد عاهرات هو جزء أساسي من الهجوم الماركسي على النسوية البرجوازية.

الرومانسي القاتل

إن "ستالين" ـ في رأي كالدر ـ لا يخلف "لينين" كمؤلف فحسب، بل يتفوق عليه. هذا يشكل وجهة نظر مضادة لموقف التروتسكية من "ستالين" باعتباره رئيس قطاع طرق جورجي. ويرى "كالدر" أن "ستالين" كان في الواقع مفكراً كبيراً، وكاتباً جيداً، قادراً على الترويج لماركس بطرق لم يستطع لينين القيام بها. لقد كان أيضاً حرفياً نثرياً مخلصاً، كما تشهد بذلك مخطوطاته المميزة.

نظراً لأن وسيلة ستالين الأساسية للتفاعل مع العالم المادي كانت من خلال الورق، فليس من المستغرب أنه استمر في إظهار الرهبة الخرافية لقوة الكلمة المكتوبة. كان "ستالين" مفتوناً بالكتب والروايات والمسرحيات والفنون بشكل عام. حتى أن بعض الكتاب لجأوا إلى ستالين للحصول على المشورة الأدبية. والأمر المذهل هو أنهم فهموا ذلك: فقد بدأ أحد الكتاب المسرحيين البارزين هو "ألكسندر أفينوجينوف" Alexander Afinogenov في إرسال مسرحياته مباشرة إلى ستالين لقراءتها لأول مرة، وعلى الرغم من الأعباء المترتبة على حكم إمبراطورية شمولية، كان ستالين يعود إليه بملاحظات. فكانت تلك الدولة التي على رأسها محرر.

يخلص "كالدر" في كتابه إلى أن "ستالين" كان رومانسياً ساذجاً، على الأقل بقدر ما كان يؤمن بقوة الأدب التحويلية. لقد أدرك أن الكلمات تشكل الأفكار، والأفكار تشكل النفوس. في عام 1932 استدعى أربعين من كبار كتاب الاتحاد السوفييتي للحضور لتناول العشاء، وحثهم بلغة يمكن للمرء أن يتوقعها من عميد كلية يدافع عن العلوم الإنسانية قائلاً: "إن دباباتنا لا قيمة لها إذا كانت الأرواح التي يجب أن تقودها مصنوعة من الطين. ولهذا أرفع كأسي إليكم أيها الكتاب، إلى مهندسي النفس البشرية" من بين الكتاب الذين كانوا في تلك الغرفة، قتل ستالين أحد عشر كاتباً منهم قبل نهاية الثلاثينيات.

بعد إلقاء بعض الضوء على "ستالين"، نجد أن "هتلر" و"موسوليني"، باعتبارهما مؤلفين، يكاد يكونا في حالة من عدم الاستقرار. ومع ذلك يمكننا ملاحظة شيئاً يصعب التعبير عنه، ولكنه يستحق التفكير فيه. عندما خاطب "ستالين" العمال الذين يصنعون الجرارات، كان مهتماً في الواقع بالجرارات: فهي وسيلة نحو روسيا أكثر إنتاجية. وكانت الحياة الأفضل - القائمة على المزارع الفعالة والمكهربة والحديثة - واضحة للعيان، مهما كان عدد الأرواح التي كان عليك أن تحصدها للوصول إلى تلك الحياة.

وعلى النقيض من ذلك، كان "هتلر" و"موسوليني" متشائمين. يبذل عملهم طاقة أكبر بكثير على ميلودراما الانحدار والانحطاط، وعلى رؤى اليهود وهم ينقلون مرض الزهري إلى العذارى والنساء الآريات، وعلى الآثار الرومانية، أكثر من التركيز على المستقبل الإيجابي. وقد قرأ عدداً من المؤرخين مذكرات "موسوليني" التي كتبها بعد إقالته، وأذهلتهم قناعة الدكتاتور الإيطالي المثيرة للشفقة على نفسه بأن ثمن السلطة هو الانغلاق التام على الذات، حيث كتب: إذا كان لدي أي أصدقاء، فهذا هو الوقت المناسب ليتعاطفوا معي، حرفياً ليعانوا معي. ولكن بما أنني لا أملك أي شيء، فإن مصائبي تظل ضمن الدائرة المغلقة لحياتي الخاصة.

كان هذا الذوق لليأس جزءاً من رومانسية الرجلين. في حالة "هتلر" كان مسؤولاً بشكل مباشر عن الأشهر الأخيرة المروعة من الحرب التي خسرها بالفعل. لقد أراد أن يحترق العالم، لأن ألمانيا لم تكن تستحقه.

نشير إلى وجود اختلاف آخر بين ""ستالين" و"هتلر". إن الاتحاد السوفييتي وشموليته اليسارية بشكل عام كانت تعتمد على ثقافة الكلمة المكتوبة. أما الرايخ الثالث، والاستبداد اليميني بشكل عام اعتمد ثقافة الكلمة المنطوقة. حذراً من هيبة التأليف، ولكن مع اكتشاف "هتلر" أن الكتابة عمل شاق، أملى معظم كتاب "كفاحي" على كاهل كاتبه "رودولف هيس" Rudolf Hess المتحمس. كان "هتلر" دائماً غير راضٍ عن بطء القراءة والكتابة، مقارنة بالقوة المفعمة بالحيوية في مسيراته.

في حين أن التراث الماركسي كونه ذو عقلية نظرية وملتزماً بالمبادئ، ينطوي على أولوية النص، فإن الاستبداد اليميني، كونه رومانسياً وجذاباً مدعوماً بالسحر المشترك بين الخطيب وحشده. يعتمد أحدهما على مجموعة من القواعد المجردة، وعلى سلسلة من السحر المتبادل.

خداع الذات

رغم أن لمنظور التاريخي يشير إلى أن الدكتاتورية اليوم في تراجع.  لكننا نرى علامات مشؤومة في صعود واستمرار عدد من الطغاة في الدول الشمولية، وتلك النامية.

الرئيس الصيني الحالي "شي جين بينغ" Xi Jinping أصبح محبوبا بفضل "آلة الدعاية" الرهيبة. وفي عام 2017، منحته جريدة الحزب سبعة ألقاب، من القائد المبدع، جوهر الحزب، والخادم الذي يسعى لتحقيق السعادة للشعب، إلى زعيم بلد عظيم، ومهندس التحديث في العصر الجديد. نلاحظ في الوقت نفسه أنه بينما يبذل النظام جهوداً متضافرة لطمس المجتمع المدني الناشئ، يتم حبس ونفي وسجن الآلاف من المحامين ونشطاء حقوق الإنسان والصحفيين والزعماء الدينيين في الصين.

إن صورة "أودن" Uden النبيلة ـ كبير الآلهة في الميثولوجيا النورديةـ التي يحارب فيها الشعراء الغول الأبكم، لا يمكنها أن تنجو من صدمة التاريخ. اتضح أن الغيلان جزء من الثقافة الأدبية وكانوا كذلك دائماً - يتحدثون ويكتبون الكتب ويقرأون كتب الآخرين. إذا كنا نعني بحماية سلامة اللغة دعم الاعتقاد بأن الثقافة الأدبية، أو حتى مجرد قول الحقيقة، هي في حد ذاتها حصن، فإن الحقائق لا تدعم الفرضية. فالثقافة الأدبية ليست علاجاً للشمولية. إن الخطابة سائلة ومفيدة للأسوأ كما هي مفيدة للأفضل. إن العلوم الإنسانية يا للأسف، تنتمي إلى الإنسانية.

ربما تكون الفكرة الأكثر إحباطاً الذي أثارها كلا الكتابين، هو الطبيعة الضعيفة للمراقبين في مواجهة الأعمال الوحشية الخشنة للديكتاتوريات. لاحظوا تودد "ماو تسي تونغ" الناجح للكتاب والزعماء الغربيين، الذين أبقوا الأسطورة الماوية حية، بينما انحدرت سياساته إلى العبثية.

قرأت مرة أنه عثر في بلدة أسكتلندية صغيرة على ترجمة إنجليزية معاصرة لخطاب "ستالين" في مؤتمر مشغلي الحصادات والجمعيات، والذي ألقاه في ديسمبر من عام 1935، بما في ذلك ترجمة رد فعل الجمهور: هتافات وتصفيق بصوت عالٍ ومطول. صرخات "يعيش ستالين الحبيب!". والعجيب هو أن الكُتيب قد تُرجم إلى اللغة الإنجليزية في غضون أيام بعد إلقاء الخطاب. بعد ذلك قام اليساريون الهائجون بنقله عبر الأمواج، وقراءته، ووجدوا فيه قيمة، في مجتمع لم يكن فيه أحد يتضور جوعاً حتى الموت، أو يُطلق عليه الرصاص في الرأس، أو يُحتجز في معسكرات العمل بالسخرة. إن القدرة على خداع الذات من جانب الطوباويين المدللين بشأن واقع المدينة الفاضلة تظل العنصر الأكثر غموضاً في قصة القرن العشرين.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

بقلم: جينا ميرولت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

سواء كنا واثقين أو خجولين، فإن مزاجنا غالبًا ما يكون متأصلًا منذ الولادة. لكن كيفية تأثير ذلك على حياتنا فهو أمر متروك للفهم .

في صباح أحد أيام السبت في حمام السباحة المحلي الخاص بي، يستعد ثلاثة أطفال يبلغون من العمر عامًا واحدًا لدرس السباحة الأسبوعي، حيث تلبسهم أمهاتهم بعناية ملابس سباحة ملونة. إحداهن، وهي فتاة،تبتسم بسعادة للكشكشة الحمراء الموجودة أسفل ذقنها. طفل آخر، يفلت من سيطرة والدته ويركض بسرعة عاريا حتى نهاية غرفة خلع الملابس، ويصرخ تحسبا. والثالث، طفل آخر، يحتج بلطف على الطقوس بأكملها. وهو عابس رغم محاولات والدته تشجيع حماسته. في لغة الأم الهادئة، تشير إلى السلاحف المبتسمة والأسماك السعيدة التي تشكل عرضًا صغيرًا تحت الماء على ملابس السباحة الخاصة به. لكن تقييمه يظل ثابتا، ومزاجه لا يتزحزح. في نهاية المطاف، خرج الأطفال الثلاثة وأمهاتهم إلى حمام السباحة، حاملين معهم المناشف والألعاب. لكن ليست ألعاب الحمام البسيطة هي ما يميز تجربة هؤلاء الأطفال فحسب. هناك متغير آخر يلعب دورًا أيضًا، وقد تم عرضه بالكامل أثناء استعدادهم للسباحة. وهذا ما يسميه علماء التنمية المزاج.

يعرف علماء النفس المزاج بأنه فروق فردية في ردود الفعل العاطفية والجسدية والانتباه للمشاهد والأصوات والروائح والأذواق واللمس وما إلى ذلك، وكذلك في التنظيم الذاتي للعاطفة والسلوك والانتباه. خلال الأيام القليلة الأولى من الحياة، يكشف الأطفال عن مزاجهم الفطري لوالديهم. بعض الأطفال مبتهجون وممتعون، والبعض الآخر رصين، والبعض الآخر ليس لديه أي أنماط نوم وأكل يمكن التنبؤ بها، والبعض الآخر سريع الانفعال، والبعض الآخر يتكيف مع الظروف المتغيرة المحيطة بهم. في عام 1956، أطلق الطبيبان النفسيان ألكسندر توماس وستيلا تشيس، اللذان أذهلهما إلقاء اللوم على الأمهات فيما يتعلق بنتائج الأطفال، دراسة نيويورك طويلة المدى للتحقيق في التصرفات الفطرية لدى الرضع وتأثيرها على النمو طويل المدى بما في ذلك الشخصية والإنجاز المدرسي والعلاقات مع الأقران. والتفاعل بين الوالدين والطفل والصحة العقلية. وقاموا بالتطبيق على 133 رضيعًا (66 ذكرًا و67 أنثى) من 82 عائلة بيضاء من الطبقة المتوسطة، وجمعوا بيانات عنهم في مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب لمدة 32 عامًا. كان هدفهما هو فهم كيفية مساهمة الأطفال في تنميتهم، وتحديد ما إذا كان مزاج الطفل يتفاعل مع البيئة لتحقيق نتائج محددة وكيفية ذلك.

حدد توماس وتشيس تسعة أبعاد للمزاج: مستوى النشاط، والانتظام، والنهج، والقدرة على التكيف، والشدة، والعتبة الحسية، والمزاج، والتشتت، والمثابرة. وباستخدام هذه الأبعاد، ميزا ثلاثة أنواع مزاجية واسعة النطاق: سهلة، وصعبة، وبطيئة الإحماء. معظم الأطفال، حوالي 40%، ينتمون إلى فئة "سهلة" مما يعني أنهم يتمتعون بمزاج إيجابي بشكل عام، ويتكيفون بشكل جيد مع المواقف والروتينات الجديدة، ويتم تهدئتهم بسرعة عند الانزعاج. وكانت نسبة أقل، حوالي 10%، "صعبة" بسبب ردود أفعالهم السلبية والحادة بشكل عام تجاه الأحداث البسيطة، وطول الوقت اللازم للتهدئة، وافتقارهم إلى إيقاعات الأكل والنوم والهضم التي يمكن التنبؤ بها. وتم وصف 15% آخرين بأنهم "بطيئون في عملية الإحماء" بسبب عدم ارتياحهم العام وتخوفهم من المواقف الجديدة - وهو نوع من اليقظة المزمنة - ولكن أيضًا بسبب قدرتهم على التكيف مع مرور الوقت والدعم. إذا كنت تقوم بحساب النتائج، فلا بد أنك لاحظت أن حوالي ثلث الأطفال الرضع لا يمكن تصنيفهم باستخدام هذا النظام، مما يشير إلى أن بعض الأطفال لديهم ميول مختلطة أو أن هذه الأبعاد الأولية تحتاج إلى تحسين أو توسيع.

ومع ذلك، فقد أبطل توماس وتشيس بشكل فعال فكرة أن الأطفال يولدون "ألواحًا بيضاء" يتلقونها بشكل سلبي وتتشكل بواسطة البيئة. لقد قلب عملهم السيناريو على وجهات النظر النفسية التي أولت اهتمامًا شبه حصري لدور الوالدين والبيئة في نمو الطفل، في حين تجاهلت تأثير الميول الفطرية لدى الطفل. أظهر توماس وتشيس، من خلال العمل مع زملائهما الذين واصلوا دراستهم الأصلية، أن الأطفال حديثي الولادة، الذين يبلغ عمرهم أحيانًا ساعات فقط، يبدأون في التأثير عن غير قصد على البيئة المادية والاجتماعية من خلال التكيف أو المقاومة أو المراقبة أو التفاعل أو تجاهلها بطرق يدفعها مزاجهم البيولوجي. وأن يقوم الآباء والأشقاء وغيرهم من الأشخاص المقربين بتغيير البيئة و/أو سلوكياتهم استجابةً لذلك. وبعبارة أخرى، فإن البيئة والطفل لديهما علاقة ديناميكية ثنائية الاتجاه منذ البداية، وتتغيران استجابة لبعضهما البعض. علاوة على ذلك، فإن هذا التأثير يعني أن الأطفال يلعبون دورًا رئيسيًا في نموهم.3540 mireault

أدى العمل الإضافي الذي قامت به ماري روثبارت وجيروم كاجان إلى توسيع نطاق ما اكتشفه توماس وشطرنج. استكشف روثبارت أبعادًا مزاجية أخرى مثل التهدئة والتخوف، بالإضافة إلى إعادة تعريف بُعد "الاقتراب" باعتباره الإثارة الإيجابية للطفل والتقدم السريع نحو المواقف الجديدة. كان الطفل الموجود في غرفة تبديل الملابس في ذلك الصباح، والذي صرخ بسعادة بينما كان يركض عاريًا نحو سطح حمام السباحة، هو الطفل المدلل للنهج المزاجي: لقد كان سعيدًا باحتمال وجود حمام السباحة ولم يرغب في انتظار والدته (أو بدلة السباحة الخاصة به). !) لتبدأ. قام روثبارت أيضًا بتقسيم الحالة المزاجية والشدة إلى عدة أنواع فرعية إضافية. قبل أسابيع، رأيت طفلة صغيرة كانت تشعر بحزن شديد عند وصولها إلى حمام السباحة، ولم تتمكن من الدخول إلى المبنى. تدحرجت على الرصيف أمام الباب، متنقلة بين البكاء والصراخ، ورفضت طلبات والديها اللطيفة بإعادة النظر. بدا مظهرها متجذرًا في خوف لا يمكن تخفيفه، سواء من خلال وجود والديها، أو من خلال بطة مطاطية صغيرة يقدمها لها المنقذ عند دخول المبنى. شعر والداها بالفزع بسبب رد فعلها وعدم قدرتهما على تهدئتها على الفور. ولم يكن رد فعلها إظهاراً للعصيان المتعمد. وبدلاً من ذلك، كان نوعًا من الرعب، وهي صفة مزاجية تُعرف باسم "رد الفعل".

إن هذا المتغير المزاجي – التفاعل – هو الذي أصبح محور عمل كاجان، ويرجع ذلك تقريبا إلى سهولة ملاحظته في الإثارة الصوتية والجسدية والعاطفية والفسيولوجية للأطفال الصغار، حتى عند مواجهة مواقف غير مألوفة ولكنها غير ضارة. في أحد الاختبارات، قدم كاجان وزملاؤه لأطفال بعمر أربعة أشهر جهازًا متحركًا يتأرجح بلطف على بعد بضعة أقدام أمامهم. كان معظم الأطفال يراقبون الحركة بهدوء، لكن حوالي 20% منهم سرعان ما أصبحوا مفرطين في التحفيز والإثارة. لقد نطقوا وشدوا عضلاتهم وقوسوا ظهورهم وهتفوا أو بكوا. وتبين أن هذا الاختبار البسيط يتمتع بقوة تنبؤية قوية. وباستخدام هذا التقييم، كان الرضع الذين يعتبرون "متفاعلين" في عمر أربعة أشهر أكثر عرضة للخجل كأطفال صغار، ومكبوتين اجتماعيا كأطفال كبار، وقلقين كمراهقين. وفي متابعة طويلة الأمد، يمكن لاختبار كاجان أن يميز بين الشباب الذين يشعرون بالقلق أو من لا يشعرون بالقلق؛ كانت المجموعة الأولى تتفاعل مع اختبار الهاتف المحمول عندما كانت رضع، في حين أن المجموعة الأخيرة لم تفعل ذلك. يبدو أن مزاج الرضيع يمكن أن يمتد إلى مرحلة البلوغ.

لقد وجدت الدراسات الحديثة أن ثلاثة جوانب عامة للمزاج على وجه الخصوص مفيدة بشكل خاص في التنبؤ بالنتائج التنموية طويلة المدى. الأول هو التفاعل أو الانفعال السلبي، في إشارة إلى المزاج السلبي العام، وردود الفعل السلبية الشديدة، والضيق إما عند فرض الحدود (مثل الغضب) أو في المواقف الجديدة (مثل الخوف). والثاني هو التنظيم الذاتي، والذي يشير إليه الباحثون على أنه "السيطرة الجادة" على المشاعر (على سبيل المثال، تهدئة الذات) وعلى الانتباه (على سبيل المثال، القدرة على الحفاظ على التركيز). والثالث يحمل أسماء مختلفة، بما في ذلك الانسحاب من النهج، أو التثبيط، أو التواصل الاجتماعي، ويشير إلى الميل إلى الاقتراب من أشخاص ومواقف جديدة، أو توخي الحذر والانسحاب. هناك مستويات إضافية من هذه الأبعاد، ولكن هذه الأبعاد الثلاثة صمدت بشكل أفضل في الاختبارات العلمية للموثوقية والصلاحية بين الرضع والأطفال والمراهقين. لقد أثبتت مئات الدراسات لاحقًا وبشكل لا لبس فيه أن المزاج هو عامل دافع لنمو الطفل، وهو على الأقل لا يقل أهمية عن كل ما يأتي بعد دخول الطفل إلى العالم، بما في ذلك الأبوة والأمومة.

وبقطع النظر عن ظهوره المبكر، هناك أدلة أخرى - من الحيوانات، وعلم الأعصاب، والتوائم، والدراسات الطولية - على أن المزاج له أساس بيولوجي. أولاً، لا يقتصر الأمر على الأطفال الرضع الذين يظهرون خصائص مزاجية. الثدييات الصغيرة الأخرى تفعل ذلك أيضًا، بما في ذلك الكلاب والفيلة والدلافين وحتى السناجب. وهذا يشير إلى أن المزاج جزء من نظام بيولوجي مشترك. يشرح كاجان المزاج باعتباره تحيزًا فطريًا في الكيمياء العصبية للدماغ. على وجه الخصوص، تمتلك جميع أدمغة الثدييات بنية صغيرة، تسمى اللوزة الدماغية، والتي تعمل كجزء من نظام إنذار مدمج. اللوزة الدماغية هي المسؤولة في المقام الأول عن تقييم التهديد، وعندما يتم اكتشافه، فإنها ترسل إشارة إلى الجهاز العصبي الودي للعمل من خلال استجابة القتال أو الطيران. في الأفراد المتفاعلين، يتم تحفيز اللوزة الدماغية بسهولة أكبر، لذلك يتم تشغيل نظام الإنذار عند عتبة أقل. على الرغم من أن البيئة والخبرة يمكن أن تغيرا استجابة اللوزة الدماغية في أي من الاتجاهين، فإن بعض الأفراد - بما في ذلك الأطفال المتفاعلين بعمر أربعة أشهر في دراسة كاجان - يولدون مع ميل إلى إدراك التهديد بسهولة كبيرة. وأظهرت أبحاث أخرى بالمثل أن الانفعال السلبي والانسحاب لدى الأطفال يتميز بنشاط أكبر في الدماغ الأمامي الأيمن، في حين يرتبط النمط المزاجي المعاكس بنشاط أكبر في الدماغ الأمامي الأيسر.

تقدم دراسات التوائم دليلاً إضافيًا على أن المزاج موهوب وراثيًا. في أحد تصميمات الأبحاث، قارن العلماء التوائم المتطابقة (الذين يتشاركون 100% من جيناتهم) مع التوائم غير المتطابقة (الذين يشتركون في 50% من جيناتهم) من حيث الصفات المزاجية. إذا كانت التوائم المتطابقة أكثر تشابهاً من التوائم غير المتطابقة، فيمكن للعلماء أن يستنتجوا بشكل معقول أن هذه السمة وراثية. وفي تصميم بحثي آخر، استخدم العلماء درجات مزاج أحد التوأمين للتنبؤ بدرجات التوأم الآخر. يجد كلا النموذجين باستمرار وراثة عالية لمعظم أبعاد المزاج بما في ذلك التواصل الاجتماعي، والعاطفة، والنشاط، ومدى الانتباه، والمثابرة، والتهدئة، على سبيل المثال.

من المرجح أن يصبح الأطفال سريعو الانفعال أطفالًا غير قادرين على التحكم في غضبهم أو دوافعهم.

تُظهر الدراسات الطولية التي تتابع الأطفال طوال فترة نموهم مدى تأثير المزاج عند الولادة على نمو الطفل. لقد درست العديد من الدراسات النتائج التنموية طويلة المدى المتعلقة بأبعاد محددة للمزاج. بشكل عام، ترتبط ردود الفعل المزاجية السلبية والمزاج الصعب بشكل عام بالسلوك المعارض والتحدي ومشاكل السلوك، والتي يشار إليها مجتمعة باسم "المشاكل الخارجية"، كما أنها تنبئ بتعاطي المخدرات في مرحلة المراهقة.

باستخدام دراسات المتابعة الطويلة التي تبدأ في مرحلة الطفولة، وجد جويل نيج أن الرضع سريعي الانفعال أكثر عرضة لأن يصبحوا أطفالًا لا يستطيعون التحكم في غضبهم أو دوافعهم عند الإحباط، في حين أن الرضع المفرطين في النشاط هم أكثر عرضة لأن يصبحوا أطفالًا مندفعين. في كلتا الحالتين، يتم منع تطوير السيطرة المجهدة. وقد دفعت هذه النتائج نيج إلى اقتراح أن اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ليس اضطرابًا ناجمًا عن عدم الانتباه أو فرط النشاط، ولكنه اضطراب في التنظيم الذاتي القائم على المزاج.من ناحية أخرى، يرتبط الخجل المزاجي والكبت بـ "المشاكل الداخلية" مثل القلق. مشكلة داخلية أخرى، وهي الاكتئاب، ارتبطت بالمزاج السلبي المزاجي، وانخفاض القدرة على التكيف والميل إلى الانسحاب من الأشياء والمواقف الجديدة بدلاً من الاقتراب منها.

والجدير بالذكر أن الرضع الذين يظهرون "النهج" المزاجي قد يكونون أكثر عرضة للتطور إلى أطفال فضوليين. يكمن الأساس العصبي للفضول في نواة الدماغ المتكئة، وهي بنية تشارك في "نظام البحث" الذي يكمن وراء الدافع لاستكشاف وفهم البيئة.توفر النواة المتكئة الرابط بين الدافع - على سبيل المثال، الدافع للحصول على مكافأة، مثل تناول الطعام أو تقليل التوتر - والإجراء المطلوب للحصول على تلك المكافأة. في إحدى الدراسات، قمنا بمتابعة ما يقرب من 60 طفلاً شاركوا كأطفال في العديد من الدراسات التنموية التي أجراها مختبري حيث قمنا بقياس مزاجهم. وتم بعد ذلك تقييم الأطفال، الذين يبلغ متوسط أعمارهم خمس سنوات عند المتابعة، من حيث الفضول.تنبأ النهج المزاجي عند عمر ستة أشهر بشكل كبير بفضول الأطفال، مما يشير إلى أن الأطفال الفضوليين قد يبدأون حياتهم وهم يتمتعون بميل تحفيزي فطري. قد يحصل هؤلاء الأطفال على دفعة من الطبيعة لتوقع أن التجارب الجديدة ستكون إيجابية، وبالتالي يتم تحفيزهم للبحث عن الجديد والاستمرار فيه. والأهم من ذلك، أن هؤلاء الأطفال قد تم منحهم أيضًا التنظيم الذاتي اللازم للحفاظ على اهتمامهم وجهودهم نحو الاستكشاف. وبما أن البيانات المزاجية في مرحلة الطفولة تنبأت بهذه الخاصية في مرحلة الطفولة، فمن المحتمل أن تلعب الطبيعة دورًا في هذه النتيجة.

يشير المدى الطويل لمزاج الطفل في مرحلة الطفولة وما بعدها إلى استقراره المحتمل ويبدو أنه يؤكد أن المزاج بيولوجي وغير متغير. ومع ذلك، يمكن للبيئة أن تقدم استجابة متسقة للصفات المزاجية مما يشجعها على البقاء سليمة. تخيل الرضيع الخجول، على سبيل المثال، الذي من المحتمل أن يواجه ردود فعل مماثلة لخجله من أفراد الأسرة والأقران ومقدمي الرعاية والغرباء. نظرًا لأن الرضيع الخجول سيكون أقل عرضة لقبول المبادرات والفرص الاجتماعية، مع مرور الوقت، قد يكون الآخرون أقل عرضة لتقديمها لهم. وبالتالي، فإن الطفل الخجول أقل احتمالاً أن يحصل على الفرص الاجتماعية التي يمكن أن تشجعه على الجرأة.

استكشفت العديد من الدراسات الاختلافات والتشابهات بين الثقافات في المزاج، ووجدت أنه على الرغم من أن بعض جوانب المزاج، مثل الحساسية الإدراكية ومستوى النشاط، تتقاطع مع الثقافات، إلا أن الأبعاد الأخرى - مثل النهج والإيقاع - تختلف وقد تعكس ممارسات الأبوة والأمومة الخاصة بالثقافة. وبما أن الآباء الأمريكيين يميلون إلى تقدير الاستقلالية، فمن المرجح أن يشجعوا سلوك "النهج" المستقل لدى أطفالهم. تعترف هذه النتائج بأنه على الرغم من أن المزاج هبة بطبيعته ويجعل بعض النتائج النفسية أكثر احتمالا، إلا أنه قابل للتأثير من قبل البيئة، بحيث لا يتم ضمان نتيجة معينة. مرحبا بكم أيها الآباء.

على الرغم من أن توماس وشطرنج أظهرا اختلافات مزاجية فطرية، إلا أنهما لم يؤكدا أن المزاج كان مسؤولًا عن نتائج الأطفال أكثر من البيئة. وبدلاً من ذلك، اقترحا أن النمو الأمثل للطفل يعتمد على "مدى التوافق" بين قدرات الطفل الفطرية وخصائصه، ومتطلبات البيئة الاجتماعية، بما في ذلك توقعات الوالدين وممارساتهم. قد تكون البيئة الصاخبة أو الفوضوية مناسبة بشكل خاص للرضيع شديد التفاعل مع عتبات حسية منخفضة بشكل طبيعي وعدم القدرة على تهدئة الذات. ومن ناحية أخرى، فإن بيئة الدير لن تكون مناسبة لطفل مهتم بالحداثة. وهذا التفاعل، حيث يواجه مزاج الطفل البيئة - والعكس صحيح - هو ما اقترح توماس وتشيس أنه مسؤول عن النجاح على المدى الطويل. وبعبارة أخرى، البيئة مهمة.

ركزت معظم الأبحاث حول تأثيرات الأبوة والأمومة على المزاج على الأطفال الذين يعانون من سمات مزاجية صعبة مثل التهيج والتفاعل. بشكل عام، ترتبط هذه السمات بالعقاب الأبوي أو الانسحاب، والتي يمكن أن تساهم معًا في مشاكل السلوك الخارجي الموصوفة سابقًا. ومع ذلك، أظهرت أبحاث أخرى أنه - اعتمادًا على عمر الوالدين وفهمهم لتهيج أطفالهم - يضاعف العديد من الآباء الذين لديهم أطفال صعبين الجهود ليكونوا إيجابيين، مثل إظهار المزيد من الدفء والصبر.

لنأخذ على سبيل المثال الطفلة الصغيرة شديدة التفاعل التى رفضت الدخول إلى مرفق السباحة والذي أظهر والداها صبرًا وهدوءًا ملحوظين.لقد تحدثا بنبرة منخفضة، وقدما لها الراحة والدعم، وجلسا معها على الأرض، واحتضناها عن كثب حتى هدأت أخيرًا. في النهاية، وافقت على النظر من خلال النوافذ الكبيرة الحجم ومشاهدة الأطفال الذين كانوا بالداخل بالفعل وهم يستمتعون بالمياه. كان هذا أقصى ما دفع والداها إلى جدول أعمالهما، حيث كان ذلك أقصى ما تمكنت من تحقيقه في ذلك الصباح. تم العثور على هذه الأنواع من الجهود لتعزيز التنمية الاجتماعية الشاملة للأطفال.

يكفي الانضباط الأبوي اللطيف لتعزيز تنمية الضمير لدى الأطفال الخائفين.

وجد العمل طويل الأمد الذي أجراه جاي بيلسكي، الذي تابع الأطفال السلبيين مزاجيا لأكثر من عقد من الزمان، أنهم يزدهرون أكاديميا واجتماعيا - وفي بعض الحالات أكثر من نظرائهم الهادئين مزاجيا - إذا كان آباؤهم ودودين ومستجيبين وحساسين لمطالبهم المبكرة. لقد أظهر عمل بيلسكي بشكل عام أن الأطفال الضعفاء مزاجيًا هم أكثر عرضة للتأثيرات السلبية الناجمة عن سوء التربية والبيئات ولكنهم يحصلون أيضًا على فائدة أكبر من البيئات الداعمة، بما في ذلك الأبوة والأمومة الدافئة والمستجيبة. واتساقًا مع هذا، وجد مختبرنا أن الأطفال الذين كانوا أقل ميلًا إلى الابتسام والضحك في عمر الستة أشهر من الناحية المزاجية، كانت لديهم ارتباطات أكثر أمانًا بحلول أعياد ميلادهم الأولى. من المفترض أن يكون السبب في ذلك هو أن الآباء أمضوا المزيد من الوقت والجهد في محاولة تحسين المزاج العام لأطفالهم الرضع، الأمر الذي أتى بثماره فيما يتعلق بأمان التعلق.

وقد تابع خط آخر من الأبحاث الرضع الذين يعانون من مزاج خائف، مثل أسلوب "الإحماء البطيء" الذي حدده توماس وتشيس لأول مرة. هنا، يُحدث الأبوة والأمومة فرقًا واضحًا. على الرغم من أن الآباء قد يميلون إلى المبالغة في حماية الطفل اليقظ أو السيطرة عليه أو في بيئته، إلا أن هذا يؤدى إلى تفاقم الحذر الطبيعي لدى الطفل وتعزيز الانسحاب الاجتماعي. لقد تناولت الكثير من الأعمال المتعلقة بالمزاج الخائف على وجه التحديد علاقتها بتطور الضمير الأخلاقي، حيث يميل التثبيط إلى أن يكون علامة على ضبط النفس. في الواقع، يرتبط المزاج المخيف بتطور التعاطف والشعور بالذنب والخجل.لقد وجد باحثون مثل جرازينا كوتشانسكا أن الانضباط الأبوي اللطيف يكفي لتعزيز تنمية الضمير لدى الأطفال الخائفين؛ وفي الوقت نفسه، عند الأطفال الشجعان، يعتمد الوعي الأخلاقي بشكل أكبر على جودة علاقات الطفل مع مقدمي الرعاية له، مما يشجع الطفل على تقدير العلاقات واعتماد "القاعدة الذهبية".

وجد العمل الإضافي في مختبرنا اختلافات في تأثير الوالدين على الرضع الشجعان والخائفين. في تجربة حديثة، عُرض على أطفال بعمر ستة أشهر رأس عارضة أزياء بيضاء ذات عيون كبيرة للغاية، وهو حافز غامض يمكن أن يثير الحذر أو التسلية. وفي ظروف تجريبية مختلفة، طُلب من الآباء إما أن يضحكوا على المانيكان أو يظهروا الخوف تجاهها. يمكن إقناع الأطفال الخائفين مزاجيًا بالاستمرار في التفاعل مع المحفز بمجرد ملاحظة ضحك والديهم.ومن ناحية أخرى، فإن إشارات خوف الآباء تجاه المحفز لم تفعل شيئًا لثني الأطفال الشجعان عن الانشغال بالدمى. لذا فإن البيئة، بما في ذلك الأبوة والأمومة، يمكن أن تؤثر على المزاج وتجعل بعض النتائج النفسية - بما في ذلك التواصل الاجتماعي، والتعامل، وحتى الضمير الأخلاقي - أكثر احتمالا. ومع ذلك، في البيئات شديدة التوتر، من المرجح أن تكون قدرات الطفل المزاجية على التنظيم الذاتي لمشاعره وسلوكه وانتباهه أكثر أهمية.

بعد السباحة، رأيت مرة أخرى الأطفال الثلاثة في غرفة خلع الملابس، وكلهم يرتجفون تحت مناشفهم،وأمهاتهن يتذكرن نجاحاتهم المائية الأخيرة. يحاول الطفل المبتهج الهروب من لفافة المنشفة الضيقة مثل هوديني الصغير، وتضحك والدته غير مصدقة من طاقته المستمرة. الطفل الذي يرتدي ملابس السباحة الحمراء المكشكشة يأكل بهدوء بعض الكعك على شكل سمكة ويشاهده بابتسامة مسلية. ويظهر الطفل، الذي كان حزينًا في السابق، نظرة ارتياح عندما تضع والدته لعبته المفضلة بين يديه، بعد أن توقعت حساسيته تجاه هذه المرحلة الانتقالية. الطبيعة والتنشئة معروضة بالكامل في حمام السباحة المحلى صباح يوم السبت.

***

..........................

المؤلفة: جينا ميرولت/ Gina Mireault: أستاذة ورئيسة قسم علم النفس في جامعة شمال فيرمونت. تركز أبحاثها على التجارب العاطفية للرضع والأطفال، بما في ذلك الحزن والخسارة والقلق ونوبات الغضب والضحك والفكاهة. تم الاستشهاد بأبحاثها في صحيفة وول ستريت جورنال، وهافينغتون بوست، وساينس ديلي، وCNN.com، وWebMD، وديلي تلغراف، وأمريكان بيبي، وتربية الأطفال، وصالون. ظهرت أعمالها أيضًا في برنامج NOVA ScienceNow على قناة PBS، وبرنامج NBC Nightly News، وبرنامج The Takeaway على قناة NPR.

 

"أفمن أسس بنيانه على تقوى الله ورضوانه خيرُ أم أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فأنهار به.. والله لا يهدي القوم الظالمين".. فمن حكمَ العدل َوصل.. ومن اتبع الظلم سقط..

أية قرآنية مُحكمة.. تنطبق تمام الانطباق على من أسسوا جمهورية العراق عام 2003 حينما طاوعوا المحتل على فرض رأيه وقوانينه على الشعب دون اعتراض، بعد ان حقق لهم المحتل ما طالبوه به من المكاسب المادية الشخصية دون مراعاة حقوق الله والشعب والدستور(الأمتيازات الخاصة).. هذا ما أعترف به ممثل المحتل الحاكم المدني في مجلس الحكم علنا وصراحة في كتابه سنة في بغداد.. دون اعتراض من احدٍ.

وحين كتب الدستور ب139 مادة مثلت القواعد الاساسية لحكم الدولة.. قواعد صادقت عليها الجمعية الوطنية.. الا أنهم أضافوا عليه خمس مواد دستورية من عندهم بعد الموافقة من الشعب عليه.. لذا جاءت المواد من 140- 144 مواد غير قانونية التنفيذ، وغير مصادق عليها من قبل الشعب – باطلة - ولا يجوز العمل بها.. فأخترقوها تحديا للقسم واليمين الذي اقسموه امام الشعب.

نصت المادة الاولى من الدستور على ان نظام الحكم في الدولة العراقية - دولة أتحادية - دون ذكر ان كانت فدرالية او كونفدرالية عبرَ عن معنى مقصود منهم في تداخل نظام الحكم.. فاذا طبقت الفدرالية فليس من حق أقليم الشمال تطبيق الدستور بأزدواجية المعايير.. أما اذا كانت فدرالية، فعلى الحكومة ان تشمل بها كل الأقاليم دون تمييز. في وقت ان المادة 113من الدستورقررت ان اقليم الشمال وسلطاته القائمة أقليما أتحادياً دون تحديد.. وهذا نقص في التشريع، النقص لا يعالج الا بأعادة مراجعة الدستور.

وتنص المادة (9) من الدستور الفقرة (ب) يحظر تكوين مليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة الا بقانون. ولم يستثني مليشيات البشمركة الكردية.. لكنهم منحوا حق تكوين حرس الحدودغير مستقل عن القوات المسلحة العراقية.لكن هذا الشرط ضرب عرض الحائط وعين رئيس اركان الجيش كرديا غير مؤهل لمثل هذا المنصب تحديا للدستور.. ,قبلت حكومة المركزاجراء مفاوضات حول رواتب البشمركة دون الاعلان عنها في مجلس النواب.. فكان التدخل واضحا وما جرَ هذا التداخل من مخالفات لازالت عالقة الى اليوم.

ومع كل الذي حدث من غموض التطبيق بموجب المادة 137، و138 من الدستور في توضيح شفافية النص هو الذي اوجد كل هذه الاشكاليات التي تحدث بين المركز والاقليم.. والتي نرجو لها ان لا تستمر.. كون ان التجربة السياسية في أقليم كردستان العراق.. تجربة رائعة بحاجة للاستفادة منها في كل العرا ق دون تمييز.

نقطة اخرى بحاجة الى توضيح من قبل المركز الخاصة بأرتكاب الجرائم الدولية والارهابية من قبل كل من ينتمي للطرفين.. في وقت تم التعامل مع المادة (21) من الدستور بضبابية التنفيذ.. فعلى من تقع المسئولية في التقصير.. اين المدعي العام صاحب الحق في الرأي والقول.. والقضاء هو المستقل الاول في حكم الشعب وتفسير الدستور.

وتبقى المادة (109) الخاصة بادارة النفط والغازاحدى اشكاليات التوافق بين المركز والاقليم باعتبار ان النفط والغاز ملك الشعب العراقي دون تمييز.. وبما ان التوزيع السكاني المتداخل ورغبة كل من المركز والاقليم بالحصول على النسبة الاكبر من العائدات ظلت المادة اشكالية الاشكاليات بين الطرفين.. لكن التعداد السكاني تقع مسئوليته على وزارة التخطيط التي لم يجلس على كرسيها من الكفاءات التي يمكنها تلافي النقص، وسبب كل هذا الخلاف هو المحاصصة الكريهة اللا قانونية التي طبقت في نظام الحكم وهي خارج مواد الدستور.. كل هذه الاخطاء نتجت من تغطية لتوافقات مصلحية غير مكشوفة بين الطرفين تبعها نقص في المعالجة والتنفيذ.وقل بصراحة خيانة الامانة وتحدي القسم واليمين.

وتبقى المادة (15) من الدستورالتي تبين حقوق الفرد في الحرية والعدالة الاجتماعية.. حبرا على ورق دون الحقوق خاصة بعد ان فشلت الحكومات المتعاقبة في اقرار العفو العام والتحقيق في المظلومية في القتل دون مسوغ قانوني ثبت.ونستطيع ان نقول ان مجلس القضاء الاعلى هو المتهم في التقصير.

ويبقى انتخاب الرئاسات الثلاثة على اساس المحاصصة والطائفية والمكونات السياسية اساس التخريب.. لم يشهد الوطن منذ 2003 الى اليوم مجيءرئاسات كفوة وشخصيات كريزماتية تستحق المنصب لذا بقي العراق في حالة الفرقة والتشرذم والمصالح الخاصة لا غير رغم المنافع المادية الباهضة التي خصت لها دون مراعاة حالة الوطن في التعمير والتغيير.

وتبقى شبكة الاعلام العراقي في خدمة السلطة لا المواطن لذا جرى التعتيم على كل المخالفات والمساوىء التي ارتكبت بحق الشعب من قبل مؤسسات الدولة دون مسائلة القانون والتقصد في عدم ذكر اسماء المخالفين.وخاصة في التعتيم على السراق والخونة والمارقين الذين استغلوا السلطة خارج القانون..

وتبقى اللجان التي كلفتت بكتابة الدستور من غير اصحاب الفقه الدستوري والقانوني وادخال رجال الدين في صياغة القوانين قد اثرت تماما على الحقوق العامة كما في المادة الثانية من الدستور التي نصت على ان لا يجوز سن مادة تخالف الشريعة الاسلامية في التنفيذ.وهذه المادة ضربة قاصمة للحقوق.

أمن اجل هذا التقصير جاء التغيير..؟

اليوم دولة فيها الفوضى عارمة في مسالة تعيين الوكلاء والمستشارين دون حدود.. وهي فرصة للاستغلال النادي والتقاعد للمحاسيب.ومعضلة توزيع المستحقات المالية دةن تعداد سكاني معتمد.. عقد الافاقيات المركزية من اختصاص المركز لكن الاقاليم تقوم بعقدها دون مبالاة المركز وهذا تجاوز على الدستور. ونصت المادة 104 على انشاء مجلس الخدمة لضبط التعينات وشروطها.زفضرب عرض الحائط واصبح التعيين للمسئولين دون قانون.وملايين المخالفات القانونية التي ترتكبها السلطة دون محاسبة القانون.

ان الذي يحدث في العراق اليوم هو ابطاء في مسيرة حضارة العراقيين مما ولد حالة الانقطاع بين الحاكم والمحكوم، واصبح حال النظام كالشجرة التي ماتت جذورها فجفت اورقها حتى تموت.

ونحن نقول كما قال القرآن: ان الذين كفروا.. سواءً انذرتهم ام لم تنذرهم لايؤمنون.وهكذا اصبح القدر الحقيقي للسلطة في موقعين السلطة والاستبداد فكيف تقف منهما..؟

الدولة نشأت على باطل ومن ينشأعلى باطل فهوباطل.. لكن العتب على مرجعية الدين التي تدعي انها تراقب العدل والقانون لماذا هذا السكوت وكيف يفسر؟.. ولاعتب عليها ما دامت من غيرالعراقيين.

من كان يدعي المعارضة ويقسم انه جاء من اجل الشعب مطئطئاً رأسه امامنا للذي قام بالتغيير.. اين هو اليوم من القسم واليمين.. بغض النظر عن الدين ام امذهب الباطل الذي كان يتمشدق به امام المواطنين.

نعم انتم اليوم تمثلون دولة الهولاكيين لذا لا عتب عليكم فليكتب التاريخ تاريخ المغول من جديد.

***

د.عبد الجبارالعبيدي

قد تبدو للوهلة الأولى بأنّ الضّرورة مُنتفيّة لإعادة قراءة مشروع الدّكتور عليّ الورديّ (1913/1995م)، وإنّ محاولة العودة إلى التّفاعل مع منجزه الكبير ما هي إلاّ محاولة الولوج في اللا جدوى، لأنّ المجتمع العراقيّ يُعَدُّ من أكثر المجتمعات عُرضَةً للتّقلُّب والتّحوّل الاجتماعيّ والسياسيّ على امتداد تاريخه، وبالتّالي ما جدوى أن يبقى الاهتمام قائماً بمفكرٍ عراقيّ قدّم نتاجه عن طبيعة المجتمع ومكوّناته الثّقافيّة قبل ستين عاماً تقريباً؟!

إنّ الموضوع بجملته لا يتمركز بالضّرورة حول الإيمان المطلق بما جاء به الدّكتور الورديّ، بقدر ما يرتبط بحاجة الرّاهن العراقيّ المُلحاحة لاستثمار الهدف الابستمولوجيّ لمشروعه، واشتغاله الحفريّ في تبيان مجاهيل المجتمع العراقيّ، الذي ما زال يعيش فوضى عارمة لا قرار لها في مختلف فعاليّاته وعلى كافّة الصُّعد.

فالدّكتور الورديّ من الأوائل الذين دشّنوا ثقافة النّقد الاجتماعيّ في بنية مجتمعيّة إطلاقيّه، تتحرّك وتتفاعل ضمن دائرة مُتبنيّات ثقافيّة جامدة، وكان من غير الممكن سماع صوت مُشاكس، يُغاير السّائد والمألوف لقناعاتِ النّاس وتقاليدهم، التي صَيّرها بعض المُنتفعين إلى مُسلّماتٍ وثوابتٍ مُقدّسة، أصبحت فيما بعد جزءاً مهمّاً من البنية الثّقافيّة والمعرفيّة للمجتمع العراقيّ، وهذا التجذير والقداسة جعلها - أيّ تلك القناعات -خارج أطر الّنقد العلميّ والموضوعيّ، بل وحتّى خارج إمكانيّة غربلتها وتصفيتها، ولعلَّ هذا أوّل الأسباب التي تضطرّنا إلى إعادة قراءة مشروع الدّكتور الورديّ والإشكاليّات التي اشتغل عليها، من غير استشعار أيّ ضجر أو ترهُّل أو استهلاك.

ومن هنا فإنّ المسوّغات التي تُعيدنا لمشروع الدّكتور الورديّ تبدو جَليّة ومقبولة الآن، ليس لأنّ الورديّ قام بدراسة المنظومة الاجتماعيّة العراقيّة وفَكّ مرموزاتها وأجاب عن أغلب إشكالاتها وحسب، بل لأنّه ضغط على جراحنا بقوّة من خلال استفزازنا داخل قرارة ما نحاول دائماً أن نغضُّ الطّرف عنه ونضعه في دائرة الصّمت القَهريّ، واستطاع زعزعة بعض اليقينيّات الواهمة (دّينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً) والتي دائماً ما نبتعد عنها ونخشى مكاشفتها، فضلاً عن محاسبتها وإهمالها.

لذا، فمشروع الدّكتور الورديّ ما زال يحتفظ بقيمته وطراوته ولم تنفذ فاعليّته حتّى الآن، في حين تلاشت الكثير من الكتابات لمن جايل الورديّ ومن جاء بعده، لاسيّما في مَجالي الاجتماع والثّقافة.

ومن أهمّ الأسباب التي ساعدت على ديمومة مشروع الورديّ، هو أنّه لم يكن من جوقة المُثقّفين الذين لا يرتبطون بالاشتراطات الواقعيّة للراهن العراقيّ اليوميّ المُعاش، ولم يتغافل عن هموم النّاس ومشاكلهم ولم يُدر ظهره لها، بل نراه جابه المخزون الثقافيّ الشّعبيّ، الذي اعتبره من الرّكائز التي دائماً ما تعود بالنّاس إلى الماضي الرّاكد، أيّ أنّ ذلك المخزون الثّقافيّ الذي جابهه الورديّ وجعله تحت مجهره، هو المنبع الأساس الذي يُغذّي الراهن بكافّة التناقضات عن طريق ظهورها على الواقع كممارساتٍ سلوكيّةٍ يوميّة للفرد العراقيّ.

وكذلك من الأسباب التي تجعل منجز الدّكتور الورديّ مادّة مقروءة طازجة لم تؤثّر فيها عوامل التّقادم، هو كون الورديّ تحرّر من شِراك الإيديولوجيّة وشِباكها وهو يشتغل في تشخيص المخزون الثّقافيّ العراقيّ، وقد يكون هذا أمراً مستحيلاً في البحث العلميّ المتعلّق بموضوعة الإنسان والتّاريخ، بل أنّه تحرّر أيضاً من القيود المنهجيّة والأكاديميّة غير المنطقيّة لعلم الاجتماع ذاته، مما ساعده على امتلاك زمام الموضوعيّة، من غير إن تتصدّع تساؤلاته الإشكاليّة وتترهّل كُلّما تقادم الزّمن.

كان الدّكتور الورديّ دائم السّعي لإنتاج ثقافةٍ نقديّةٍ فاحصة، ووعي دائم الحِراك للفرد العراقيّ، عِوضاً عن قوالب الثّقافة المؤدلجة واطلاقيّتها، التي دائماً ما تصنع مخيالاً مُزيّفاً للنّاس وتُصيُّر بعض التّقاليد الموروثة على أنّها من الثّوابت والمرتكزات التي لا يُمكن تَخَطيها. وأيضاً من المبرّرات التي تُعيدنا إلى قراءة مشروع الورديّ وتجعله في صدارة الاهتمامات للقارئ والباحث، هو النّكوص الثقافيّ العراقيّ وتشظّيه منذ اكتشاف الورديّ مَواطن الوهن والخور في ذلك المنجز وحتّى الآن، حيث أنّ ما أنجزه وأبدعه المثقّف العراقيّ لم يَرقَ ليُصبح مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات ثقافته، ولم يسع المثقّف العراقيّ لتصحيح هذا المسار الخاطئ، ولم يتمكّن من إنتاج رؤى مُغايرة ومُشاكسة لوعي الفرد العراقيّ المألوف. بل دائماً ما كان - ولعلّه حتّى الآن - ذلك المُنجز بمثابة المحاولات الفرديّة التي لم تتجاوز جانب الإرهاص عند مُنتِجيها، ومنذ أيام الدّكتور الورديّ وحتّى الآن لم يَخرج لنا مشروعاً ثقافيّاً كبيراً إلّا ما نَدَرَ، يعتمد الموضوعيّة والنّقد العلميّ المتحرّر من قيود الاستلاب والتّبعيّة، وبالتّالي يُنتج تفاعلاً ثقافيّاً يُفضي بنا بالضّرورة إلى تفاعلٍ اجتماعيّ.

وهذا لا يعني التّنكيل والتّقليل من شأنيّة الثّقافة العراقيّة برمّتها أو الحكم عليها بالفشل، بل هو إيضاح إلى أنّ منجزها ما زال متشظّيّاً هنا وهناك، ولم يستطع إنتاج منظومة وعي عراقيّة مستقلّة، لأنّ الكثير ممن اشتغل على إنتاج المنجز الثقافيّ في العراق، ولأسباب مختلفة، لم يندكّوا بواقع المجتمع والفرد ليكونوا في خطّ المواجهة مع كُلّ المتغيّرات التي تطرأ على الرّاهن اليوميّ للنّاس، وهذا ما أشار إليه الدّكتور الورديّ كثيراً، واستهجنه أكثير.

إنّ الرّاهن العراقيّ (سياسياً واجتماعيّاً) وما يكتنفه من صراعٍ واحترابٍ جَليّ، قد استشرفه الدّكتور الورديّ في الكثير من كتاباته، لأنّ شخصيّة الإنسان – بحسب الورديّ – هي نتاج ثقافته وانعكاس لها في الأعمّ الأغلب. والصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة التي نشهدها اليوم تظهر لنا وبوضوحٍ النّزعة البدويّة لدى الكثيرين ممن تصدّروا المشهد، وبالتّالي فهم يديرون دفّة الأمور بمنطقِ البداوةِ والغَلَبَةِ والثّأرِ والاستئثار.

ولأنّ السّائد في العراق بمختلف المجالات، هو خاضع لذات العناصر الثّقافيّة التي اشتغل عليها الورديّ، بل وما زالت فاعلة وبقوّة بسبب وجود من يسعى وبكلّ جدٍّ لدوامها وإنعاشها، فإنّ اهمال ما أكَّد عليه الوردي كون العقل من منتجات المجتمع، قد يبدو أمراً مغالطاً ومجانباً للصّواب، وهذا ما يبقي الدّكتور الورديّ ومشروعه التّصحيحيّ إنعطافة كبرى في تاريخ العراق وثقافته، ما دام المنجز الثّقافيّ العراقيّ خاضعاً ومُذعناً لنفس التّقاليد – المُسَلّمات – الزّائفة.

وهذا ما قد نتحدّث عنه في مناسباتٍ لاحقة.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

 

كتب: ك.م. سيثا K.M. Seethi

ترجمة: علي حمدان

***

الان تورين عالم اجتماع فرنسي توفى في 9 من يونيو، 2023. وكان معروفا بإسهاماته العلمية العميقة في العلوم الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة وامريكا اللاتينية وحتى في العالم الأفرو-اسيوي. لا يمكن اغفال تأثير تورين على المجال الاكاديمي. خلال مسيرته الفكرية، كرس تورين نفسه لفهم وتفسير العلاقة المعقدة بين الافراد والمجتمع، واشكال تمثلها المتنوعة. وذهبت أفكاره الى ما هو ابعد من الحواجز اللغوية، حيث الهمت علماء وقراء من خلفيات ثقافية مختلفة.

ولد تورين في عام 1925 في هير مانفيل-سورمير في فرنسا، ودرس في كل من جامعة كولومبيا، وجامعة شيكاغو، وجامعة هارفارد. لعب سقوط فرنسا في عام 1940 دورا كبيرا في تشكيل تاريخ تورين الشخصي ورحلته الفكرية. كانت هذه التجربة التحويلية لها تأثير كبير على رؤيته ونظرته للعالم. خلال دراسته في الولايات المتحدة خلال الخمسينات من القرن الماضي حضر تورين محاضرة لعالم الاجتماع الشهير تالكوت بارسونز. ومع ذلك بدلا من ان يستلهم من المحاضرة، تأثر كثيرا بوصف بارسونز للمجتمع ككيان مستقر ومتناغم. وقال " جعلني ذلك مريضا، وفي غضون ساعتين، فهمت لماذا كنت معارضا لتحليل بارسونز، كما هو الحال مع الكثير من الأمريكيين المنتصرين في الحرب. كان المجتمع مسألة بسيطة، فهم يعيشون فيه كمنزل به سقف وجدران. اما انا فكنت غير مرتاح في مجتمع يتسم بالسلوك غير السوي والانهيار ولم يعد يعرف ما يريده".

كانت محاضرة بارسونز نقطة تحول في رحلة تورين الفكرية. لم يؤدي ذلك فقط بتنشيط نظرته النقدية ولكنه أيضا حفز إصرارا لا هوادة لديه على تحدي المفاهيم المؤسسة للمجتمع. حفزه هذا على دراسة الديناميكيات الاجتماعية المعقدة، حيث سعى الى التصدي للتفاعل بين الافراد والمجتمعات التي يعيشون فيها، من خلال تحدي السرد السائد. شرع تورين في سعي لا ينقطع وراء المعرفة، بهدف فهم جوهر وجودنا الاجتماعي المتعدد الجوانب.

تبدا مسيرة تورين كباحث في المجلس الوطني الفرنسي في عام 1960، تولى منصب كبير الباحثين في المدرسة العليا للدراسات العملية في باريس.  هناك أسس مركز التحليل والتدخل الاجتماعي ( CADIS). يشمل عالم تورين الفكري علم اجتماع العمل، مع فترات مختلفة تركز على الجوانب العملية والتاريخية والفلسفية. خلال المرحلة الأولى، استكشف البعد العملي للعمل الاجتماعي. وفي وقت لاحق، قام بدراسة العمل الاجتماعي في سياق تاريخي، مع الاخذ في الاعتبار تطوره مع مرور الوقت. ثم تناول تورين العمل الاجتماعي من منظور فلسفي، حيث تفاعل مع أسئلة نظرية اعمق.

خلال مسيرته المهنية، بذل تورين جهودا جادة لدمج المناهج النظرية والتحليلية، والبحث الاجتماعي التجريبي. وتحليل الاحداث التاريخية الواقعية. يتضح التزامه بالاستكشاف متعدد التخصصات في مجموعة كتاباته المتنوعة، على سبيل المثال، الف تورين كتابا حول الجامعات وحركة الطلاب الامريكية، مما يظهر اهتمامه العميق بفهم المؤسسات التعليمية والحركات الاجتماعية. كما تابع بعناية تطور كندا الناطقة باللغة الفرنسية. واجرى ابحاثا مفصلة حول هذا الموضوع. كما قام بدراسات معمقة حول البلدان ما بعد الشيوعية في شرق أوروبا، وتعمق في التحولات الاجتماعية والسياسية الفريدة التي شهدتها هذه البلدان. كما كرس جزءا كبيرا من مجهوده العلمي في دراسة بلدان أمريكا اللاتينية، من خلال تعاطيه لمواضيع ومناطق متنوعة. تعكس اعمال تورين التفاني الذي يبديه في استكشاف الطابع المتعدد الاوجه للمجتمعات، باستخدام مجموعة متنوعة من الأساليب والمناهج لاكتساب نظرة ثاقبة لتعقيدات الديناميكيات الاجتماعية البشرية.

في بداية دراسته، كانت أبحاث تورين تركز على علم اجتماع الوعي العمالي. وخلال هذه الفترة، الف تورين اعماله الأولى في أمريكا اللاتينية. حيث قام بدراسة عمال مناجم الفحم وعمال الصناعات المعدنية في تشيلي. ومن الملاحظ ان كتابه  "المجتمع ما بعد الصناعي" صدر أيضا في هذا الوقت. ولقد تمحورت المرحلة الثانية من أبحاث تورين حول احداث هامة مثل احتجاجات مايو 1968 والانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وقد دفعت هذه التجارب اهتمامه العميق بدراسات الحركات الاجتماعية. بالتعاون مع مجموعة من الاكاديميين، وضع تورين طريقة "للتدخل الاجتماعي" واجرى سلسلة من الدراسات لفهم هذه الحركات وديناميكياتها. في دراساته التالية، تمحور اهتمامه أساسا حول مفهوم الذات، الذي يعتبره المبدأ المركزي القائم وراء أفعال الحركات الاجتماعية. لقد ركز بشكل كبير على قوة ودوافع الافراد داخل هذه الحركات. شكلت هذه المرحلة  تحولا نحو استكشاف اكثر فلسفية للموضوع ودوره في تشكيل التغيير المجتمعي.

في عام 1966، انضم تورين ، مدفوعا بكراهية شديدة بالنظام الاكاديمي القائم، الى جامعة نانتير Nanterre  المنشأة حديثا  بالقرب من باريس. لم يكن يعلم انه سيجد نفسه في مركز حركة الطلاب في أوروبا.  التي أصبحت بسرعة قوة ثقافية وسياسية مهمة. ومن بين الكثير من الكتب التي كتبت حول هذه الحركة، كان تورين يعتقد ان كتابه الخاص كان اكثر الكتب دعما للحركة، معترفا بان هذه الحركة "الثقافية" الناشئة تختلف عن الحركات" الاجتماعية" التقليدية.  لكنه أشار أيضا الى الصراعات بين هذه الحركة الثقافية والأيديولوجيات الماركسية والتروتسكية والماوية السائدة التي حاولت فهمها من الناحية السياسية البحتة. وقارن تورين هذا التصادم بوضع نبيذ جديد في قناني قديمة، مسلطا الضوء على الحاجة الى طرق جديدة للتفكير لفهم الديناميكيات المتغيرة في تلك الفترة. ونتيجة لذلك، وجد تورين نفسه في خلاف مع كل من الأساتذة المحافظين والجماعات السياسية اليسارية. يتبع.

***

 

لا عيب أن نتعلم من الآخرين، لنبدأ من حيث انتهوا، ونفيد من تجاربهم الغنية لنتجنب الإخفاق الذي وقعوا فيه في مراحل ما قبل النجاح، بعد أن نسينا ما علمه لنا أسلافنا، ووعوه هم وتعلموه بعد أن اقتبسوه منا، فالمثاقفة والتناقل الثقافي سمة الحياة البشرية في كل حين، ولا يكفي أن يكون أجدادنا عظماء، بل يجب أن نتعلم صنع العظمة ونمارسها.

وما أريد التحدث عنه على عجالة هو موضوع ونظام التعليم الابتدائي في العراق مقارنة بنظام التعليم الياباني، بسبب الإخفاقات الكبيرة التي شخصها المتخصصون في نظامنا، والتي تدفع الطلاب إلى كره التعلم، والتغيب المستمر، والتسرب من الدراسة وتركها، واعتماد أساليب الغش في الامتحان، ودفع الرشاوى من أجل النجاح، وأخيرا وليس آخراً قلة المبدعين، وقليل الموهوبين، بعد أن أصبحت الغاية من التعلم هي الحصول على وثيقة تتيح للطالب الحصول على وظيفة في إحدى الدوائر الرسمية لا أكثر، وبدون أي طموح أبعد من ذلك.!

ففي الوقت الذي يوجب النظام التعليمي العراقي خضوع الطالب للامتحان من الصف الأول الابتدائي، نجد نظام التعليم في اليابان يمتنع عن اجراء أي امتحان مهما كان نوعه للطلاب من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي، لأنها مرحلة الإعداد المركزية التي تبنى وتقام عليها جميع المراحل التعليمية والحياتية الأخرى، فهم يعتقدون أن في هذه المرحلة التعليمية الحساسة هناك عشرات الدروس الأخرى التي هي أكثر أهمية من الامتحان؛ والتي يجب على الطالب تعلمها ابتداء، والتعود عليها بشكل مستمر، ليسهم في بناء نفسه وثقافته ومن ثم بناء المجتمع، والإسهام في تقدم وتطور البلد. من هنا نجدهم يقصرون تعليم الطلاب في هذه المرحلة الابتدائية والأساسية على أساسيات الحياة المعاصرة والنظام المجتمعي، فهم يعطون الأولوية لتعليم الطالب احترام السلوك والأخلاق، واحترام الناس الآخرين دون اعتبار لوضعهم المالي أو الوظيفي أو السلطوي، فالجميع متساوون في نظر الجميع، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، في وقت تخلينا نحن، وتخلت مناهجنا التعليمية عن هذه الجزئية المهمة في الحياة.

وهم يسعون إلى تعليم الطالب أهمية استقلال الذات بالشكل الأمثل، وتعويده على تحمل المسؤولية الفردية والمجتمعية، وإشعاره بأهمية العمل المشترك، ومن ثم تعليمه القدرة على ممارسة العمل المشترك ضمن الفريق، لتعليم الطلاب بشكل عام أهمية تقديس العمل مهما كان نوعه. ومن تجاربهم العملية التي تمارس باستمرار في جميع مدارسهم؛ تعليم الطلاب على المشاركة الجمعية رفقة الأساتذة لتنظيف المدرسة وجميع مرافقها يوميا، فالطلاب العراقيين الذين لا يشعرون بأهمية هذه المشاركة وقدسيتها؛ كونها تسحق الروح الطبقية لدى بعضهم، يقابلها تقاسم طلبة اليابان في تحمل المسؤوليات بكل أنواعها، فهم يتولون مثلا القيام بجميع أعمال المنظفين، طالما أنهم هم الذين تسببوا في وجود تلك الفوضى وإن لم تكن مقصودة، قبالة ذلك تشكو المدارس العراقية من قلة عدد عمال الخدمات والمنظفين، لا بسبب عدم التزام الطلاب بأبجديات النظافة فحسب، بل واحتقارهم لهذا العمل ولمن يقوم به وفق رؤية طبقية مقيتة،  في وقت لا تجد فيه وظيفة عامل نظافة في مدارس اليابان لأن طلابها هم من يتولى هذه المهمة.

وفي الوقت الذي يسهم فيه بعض طلاب المدارس الابتدائية العراقية في تلويث البيئة، وتحطيم الأشجار، وقطف الورود وسحقها، وإلقاء القمامة ولاسيما المخلفات البلاستيكية في كل مكان، تجد نظام التعليم الياباني يسعى إلى تعليم الطلاب أهمية تقدير البيئة وحفظها والحفاظ عليها والعناية بها لتبقى سليمة جميلة مشرقة.

وفي الوقت الذي يعتبر فيه نظام التعليم العراقي درجة الامتحان بكل أنواعه اليومي والأسبوعي والشهري والفصلي والسنوي هي الفاصل بين نجاح ورسوب الطالب الابتدائي، يسعى نظام التعليم الياباني إلى متابعة مهمة أن يتخصص التعليم في هذه المرحلة في تنمية قدرات المعرفة العامة النظرية والعملية والسلوكية والمجتمعية لدى الطالب، لا من أجل تحصيل الدرجات مثلما هو عندنا.

وفي الوقت الذي تعم فيه الفوضى مدارسنا وبشكل خال من أي وجه من أوجه التحضر والرقي والذوق، يؤكد نظام التعليم الياباني وباستمرار على وجوب التزام الطالب بالأدب والانضباط، وتقدير الوقت، والحفاظ على الموعد، والالتزام بأوقات الدوام والعمل، وبسبب هذا النظام نجد معدلات الحضور في المدارس اليابانية تقترب من النسبة المطلقة 100% في وقت تتراوح نسب الغياب في مدارسنا الابتدائية بين 10 إلى 25 بالمائة وتتجاوز هذه النسبة في بعض الأحيان.

وفي الواقع، بل الذي يحز في النفس كثيرا أننا أجدر من غيرنا باتباع تعاليم ديننا ومجتمعنا التي تدعو إلى الاهتمام بالصغار وفق قاعدة السلف "خذوهم صغارا" المستقاة من قول رسول الله ﷺ: "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"، فالتعليم في الصغر ممارسة عملية، وتمرين تقوية، وتهذيب سلوكي بنائي، وإسهام جاد في وضع أسس النشأة وفق مقاسات العلم والدين والإنسانية، وهي عملية معقدة تحتاج إلى الاهتمام الكبير بجميع أركانها العملية؛ ابتداء بـ"المربى" الذي يكون في هذه المرحلة ورقة بيضاء تنتظر الأقلام لتخط وتطبع عليها ما تشاء، مرورا بـ"المربي" الذي يجب اعداده إعدادا علميا وسلوكيا ومهنيا تحت رقابة صارمة، وصولا إلى "المنهج المقرر" الذي ليس شرطا أن يكون كتابا، فهو قد يكون دروسا نظرية واستطلاعية ومشاهدات حياتية وقصص

إن المنعطفات الحياتية الخطيرة التي يمر بها العالم اليوم، والتهديدات المباشرة لعالمنا العربي والإسلامي، تعتبر مسألة مصيرية حاسمة، تتطلب منا جميعا الإسهام في وضع مناهج التحصين المجتمعي وفق كل المتاحات ومنها إعادة بناء منظومات التعليم في جميع مراحله ولاسيما الابتدائية منها وفق سياقات التحضر والتمدن والمعاصرة، بعيدا عن التقليدية الموروثة بكل سلبياتها وتأخرها، فالتربية بوصفها سلوك تهذيبي يسعى وراء تحسين القدرات والتحصين من الخطأ لا تقف عند مستوى التعليم المنهجي وحده، ولا يكفي الطالب أن يتعلم القراءة والكتابة وحدهما، ولا أن يتحصل على درجات عالية في الامتحانات، طالما أن اللعب مثلا حق طبيعي نشأوي وتربوي في مرحلة الطفولة، وطالما أن التربية الأخلاقية هي التي تؤسس لباقي المراحل المهمة، وعلى الدوائر المتخصصة أن تراعي هذه الملاحظات وتعمل بموجبها من أجل غد مشرق، ليس مستحيلا أن نصله إذا صفت النوايا وأخلص المسؤول.

***

الدكتور صالح الطائي

على مدى أكثر من نصف قرن، بقيت توصيفات عالم الاجتماع علي الوردي للشخصية العراقية هي السائدة مثل نصوص مقدسة لا يمكن الطعن بها أو مخالفتها، ومنها قوله بالازدواجية التي وسم بها تلك الشخصية فأصبحت كأنها حقيقة غير قابلة للطعن والتشكيك، مع أن الرجل لم يقل يوماً بأن أحكامه قطعية، إنما كان يشير صراحة إلى إمكانية تغيير آرائه إن ظهرت له حقائق ومعلومات جديدة، وذلك من طباع العلماء وتواضعهم ويقينهم بمحدودية المعرفة الانسانية. ولو جاءت أحكام الوردي في دراسات سوسيولوجية باردة لما انتبه اليها أحد من الناس، ولمرت حتى على الأوساط الاكاديمية مرور الكرام، لكنه بما امتلكه من أسلوب بسيط ولغة مرنة وروح طريفة ساخرة، تمكن أن يتسيد حقبة زمنية طويلة على غيره من الأكاديميين والباحثين في مجال تخصصه، حتى أصبح بحق أباً لعلم الاجتماع العراقي – إن صحت التسمية – من دون منازع.

في كتابه " ثقافة التصلب .. منظور جديد لفهم المجتمع العراقي" الصادر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع يتصدى الباحث في الشأن العراقي منقذ داغر ومعه السيدة ميشيل كيلفاند من جامعة ستانفورد الأميركية أستاذة إدارة الثقافات المتعددة والحائزة على جوائز عديدة في مجالات علم النفس والعلوم السلوكية، للقيام بهذه المهمة غير المعتادة، تفنيد رأي الوردي في ازدواجية الشخصية العراقية، على الرغم من اعجابه بما قام به الوردي من جهود كبيرة في دراساته لطبيعة المجتمع العراقي . ولأن داغر بحكم تخصصه وميدان عمله في الإدارة العامة واستطلاعات الرأي العام يعتمد التوصيفات المستمدة من الأرقام والحقائق العلمية، ومنها أول استطلاع علمي شامل للرأي العام في العراق أجراه فريقه البحثي عام 2003 كشف فيه من خلال مقابلات زادت على المليون ونصف مقابلة مع مواطنين عراقيين عن حقائق جديدة بخصوص الكثير من المفاهيم الشائعة عن المجتمع والشخصية العراقية، مثل ازدواجية الشخصية والطائفية والقبلية وعدم المرونة التي تتسم بها تلك الشخصية بحسب ما هو شائع عنها. وهو على الرغم من شغفه بكتابات الوردي القادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية في المجتمع العراقي بلغة بسيطة، فإن علامات استفهام كانت تدور في ذهنه عن صحة المنهج العلمي في تحليله الاجتماعي كما يقول " فقد كنتُ دوماً – كباحث- أجد صعوبة في تقبل التعميمات الاجتماعية بخاصة حينما تفتقد الى أدلة رقمية تجريبية، لقد كنتُ أتضايق حين أسمع إن العراقي مزدوج الشخصية مثلاً، ليس لأن ذلك لا يليق بالعراقي أو تحيزاً لانتمائي، بل لصعوبة تقبلي – علمياً – لفكرة التعميم اعتماداً على الملاحظات الشخصية". ويفسر الكتاب بعض الظواهر الاجتماعية السائدة في المجتمع العراقي، تفسيراً علمياً "بدلاً من شيطنة المجتمع العراقي وجلد الذات العراقية والثقافة المجتمعية السائدة في العراق، كما يبتعد عن الأحكام المسبقة التي ألصقت تلك الظواهر بشخصية العراقي في الأدبيات والمنتديات ووسائل التواصل العامة، ذلك أن كل الأسباب التي ساقها الوردي لتفسير ازدواج الشخصية لدى العراقي لا تبدو كافية لتفسير ما يحصل للعراقيين حينما يتناقضون في آرائهم وسلوكياتهم في مواقف مختلفة".

والخلاصة أن ازدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية تحدث لدى كثير من الناس في كل المجتمعات البشرية بسبب الصراع الثقافي الذي يمكن أن تعيشه تلك المجتمعات، وهي ليست مرضاً نفسياً تعاني منه الشخصية العراقية لوحدها كما حاول الوردي ترسيخه في اذهان الجمهور والباحثين الاجتماعيين الذين ساروا على منواله، اعجاباً باسلوبه البسيط الذي يتناغم معه عموم القراء.

***

د. طه جزّع – كاتب أكاديمي

 

قلما نصادف مطبوع يتحدث فيه صاحبه عن أحوال وأهوال المجتمع العراقي، يخلو متنه من الإشارة – بهذا القدر أو ذاك - الى أحداث ماضي هذا المجتمع ويتطرق الى وقائع تاريخه القديم، ليس لأن كاتب المطبوع يدرك أهمية هذه الإشارة ويقيّم ضرورة تلك الالتفاتة، بقدر ما يراعي الحالة الذهنية والسيكولوجية المضطربة التي يبدو عليها الإنسان العراقي وهو يقارع ظروف ويصارع أوضاع واقعه الاجتماعي المرير . بحيث انه لا يتردد في الرهان على ما قد يجنيه من مكاسب (مادية ومعنوية) في حال كونه استطاع تحيين واستثمار تلك الأحداث والوقائع، طالما يلمس أنها لا تزال فعالة على صعيد الوعي وشغالة على صعيد العلاقات .

ولهذا ترى أن الغالبية العظمى من العراقيين لم يبرحوا مأخوذين بهول الصدمات المتتالية والانهيارات المستمرة، التي لم تفتأ تنهال فوق رؤوسهم كما اللعنات التي لا فكاك عنها ولا خلاص منها، حتى إن السؤال الذي يخامرهم عما جرى لهم في الماضي ويجري عليهم في الحاضر والمرجح انه سيداهمهم في المستقبل، بات لازمة لا تفارق شفاههم ولا يغادر وعيهم، بحيث لم يعد يخلو حديث من أحاديثهم عنه وفيه وحوله . إذ طالما قرأوا في كتب التاريخ والحضارة والدين التي تهيأت لهم فرص دراستها عبر مختلف مراحل الدراسة وأنماط التلقين التربوي، فضلا"عن أدبيات الأحزاب السياسية التي انخرطوا في صفوفها لاحقا"، ناهيك بالطبع عن سيل الخطابات الإيديولوجية التي تبثها وسائل الإعلام الخاصة بالدولة / السلطة المسماة (وطنية)؛ إن العراق كان في يوم ما مهدا"للحضارة العالمية وبوابة للتاريخ الكوني، وباكورة للوعي البشري؟! . أفلم يتناهى إلى أسماعهم - منذ نعومة أظفارهم حتى بلغوا من العمر عتيا - إن الأبجدية الإنسانية كانت قد اخترعت فوق ترابه، ولم تنبثق الأديان السماوية إلاّ من بين جنباته، ولم تشرّع القوانين الوضعية إلاّ وسط رحابه ؟! .

والحال، ربما يخطر على بال العراقيون تساؤل مفاده ؛ لماذا بعد كل هذا المزايا التاريخية والمناقب الحضارية آلت بنا الحال إلى هذا الدرك المزري والمآل المفجع من الانقسامات الاجتماعية، والصراعات المذهبية، والتهتكات الأخلاقية ؟! . ورغم أن مثل هذا التساؤل المشروع واردة، بلّه متوقع، من لدن جلّ العراقيين المأخوذين بهول الصدمات والمفاجئات، إلاّ أن أحدا"منهم لم يذهب بعيدا"في البحث عن مكمن الإجابات الحقيقية التي يمكنها أن تطفي ظمأ حيرتهم وتشفي غليل قلقهم . ولأجل ذلك نقول؛ أن على كل من يريد ويسعى – حقا "وصدقا"- للعثور على بغيته من الإجابات الواقعية لأسئلته الحائرة وتوقعاته القلقة ولواعجه الممضّة، الشروع بتوجيه دفة بحثه وتنقيبه – بتجرد ودون مسبقات طوباوية ومسلمات وقناعات زائفة - صوب مواريث (الماضي) القارة في قيعان متخيله الجمعي المحاط بأسيجة من الممنوعات والمحرمات، والتي طالما تغنى بمفاخرها المختلقة في كل حين، ورقص على أمجادها الملفقة في كل مناسبة، بحيث ستشيح تلك المواريث عن أحداث يندى لها الجبين لوضاعتها ووقائع تقشعر لها الأبدان لفضاعتها !! .

ولهذا علينا أن نقرّ ونعترف بحقائق ؛ ان إقليمنا (الجغرافي) ليس سوى سلسلة من الصراعات بين المراكز والهوامش، وأن موروثنا (التاريخي) ليس سوى سلسلة من الحروب والمذابح بين الأقوام والأعراق، وأن اعتقادنا (الديني) ليس سوى سلسلة من الكراهيات والاستقطابات بين الطوائف والمذاهب، وأن تكويننا (الاجتماعي) ليس سوى سلسلة من عمليات الكرّ والفر بين أهل الوبر وأهل المدر، وأن رصيدنا (الحضاري) ليس سوى  سلسلة من التهميش والاحتواء بين الثقافات  الجماعات والأقليات ! .

***

ثامر عباس

بودي في يوم المرأة لو نتوقف عن تبادل التهاني وارسال بطاقات التهنئة الملونة، بودي في يوم المرأة لو نتوقف عن أقامة الأحتفاليات في الدوائر الرسمية وغير الرسمية، بودي في يوم المرأة لونتوقف عن التقاط الصور والقاء القصائد الشعرية وغيرها من الفعاليات التي تعبر عن تكريمنا للمرأة في يومها وفي المقابل نمعن قليلا بما قدمناه لها (حكومة وبرلمانا ومجتمعا). دعوني أسطر امامكم عدد الخطط والستراتيجيات التي مازالت سارية المفعول الى يومنا هذا و التي كتبت من قبل خبراء ومستشارون ومختصون من أجل المرأة.

- الستراتيجية الوطنية للمرأة العراقية (2023 - 2030) والتي كان عنوانها (الستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة)

- الستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف القائم على النوع الأجتماعي ( 2018- 2030)

- الخطة الوطنية الثانية لأجندة المرأة والأمن والسلام (2021 - 2024)

- الستراتيجية الوطنية للصحة الأنجابية (2020- 2030)

كُرسّت تشكيلات رسمية لتمكين المرأة في كل وزارة وهيئة مستقلة ودواوين الأوقاف وفي كل محافظة، مما يشي و من خلال هذه الجهود بأن موضوع المرأة والنهوض بها ذو أولوية لصاحب القرار العراقي، ونحن منذ عام 2014 نعمل على تحقيق خطط الأمن والسلام ولكن يبدو ان كل ماتم تسطيره اعلاه هو حبر على ورق لم يتغلغل في العقل العراقي ولم يتبناه الرجال قبل النساء ولم تخصص له الميزانيات كما تخصص للبرامج الخدمية والأعمار وغيرها، ودليل ذلك بمجرد دخول عصابات أرهابية (داعش) الى عدد من محافظات العراق، كان هدفهم الأول النساء فلم تترك رذيلة الا واقترفوها بحق النساء حتى ليقف المرء مذهولا أمام ممارساتهم القذرة، وبعد تعافي العراق من افعال هذه العصابات وبعد تنفس الصعداء والعمل على توفير السياسات اعلاه لدعم المرأة، مرة أخرى و بمجرد تناقل المقاطع الفديوية عن المعنى الذي يتبناه الغرب لمصطلح الجندر (النوع الأجتماعي) حتى بادرت الحكومة الى تبني مصطلح آخر وتغيرت عناوين السياسات لتصبح متوائمة مع المصطلح الجديد، والغيت تشكيلات المرأة في العديد من المؤسسات الحكومية وهبت موجة عدائية للمرأة سببت الغاء حتى كلمة (تمكين) الكلمة العربية والمذكورة في القرآن الكريم وتحميلها معان ليست صحيحة ولم تجد المرأة من يقف بجانبها على الأقل للأبقاء على مصطلح (تمكين) الذي يشير الى الدعم والتقوية والتعزيز، ولكن هيهات هبت العاصفة وجرفت معها كل المكتسبات التي كانت حبرا على ورق لم تلق اذنا صاغية ولا نية صادقة للتنفيذ. هانحن الآن نعود ادراجنا ونحمل أشلاء مشاريعنا وخططنا التي مزقتها العاصفة لنحاول الوقوف من جديد ولكن الأرض من تحتنا رخوة لاتكاد تستطيع حملنا. وهنا أقول ماقيمة الأحتفال وتبادل التهاني بيوم المرأة اذا لم نستطع بناء الثقة ولم نجسّر الأقوال بالأفعال ولم تقوى شوكة مطالبتنا بما يكفي بحيث لاتنتزعها اي عاصفة أخرى، ماقيمة الأحتفال ولم تستطع النساء منذ 2008 الى يومنا هذا من أقناع مجلس النواب بتشريع قانون لتجريم العنف الأسري الذي حوادثه تغص بها مراكز الشرطة ودائرة حماية الأسرة والمرأة والطفل. لا احتفال و لا تهنئة ولا شعارات زائفة لتكريم المرأة مالم تتغير العقول و تتجذر التبنيات لتكون أصيلة في عمق الثقافة العراقية لاتهزها الهزاهز ولاتغيرها مقاطع يوتيوب او غيره من وسائل التواصل الأجتماعي

***

د.عامرة البلداوي

8-آذار-2024

أولا: مشكلة الإثبات بيت الأدوات وإسقاط الذات

إذا كان موضوع القيافة قد أصبح شبه مفقود في عصرنا لردع الشبهات التي تثار وهما حول بعض الأنساب فإنه-كما يقال-قد توصل العلم الحديث إلى نوع من الإثبات الذي يصل الوالد بولده على مستوى الشبه الوراثي المأخوذ من الحامض النووي للخلية، أو قد يوظف موضوع الفصائل الدموية في هذا المجال ولكن في باب نفي النسب لا إثباته، بحيث "يوجد عدد كبير من فصائل الدم الوراثية بجانب فصائل (أ ب و) بالإضافة إلى عدد آخر لا بأس به من البروتينات الوراثية على سطح وبداخل خلايا الدم الحمراء والبيضاء وفي كثير من إفرازات الجسم كالبصاق والمني، ويمكن حاليا تشخيص المئات من هذه العوامل الوراثية لغرض تحديد هوية صاحبها، وفي ذلك فائدة كبيرة في حالات القتل والاغتصاب، ففحص عينة صغيرة من الدم يمكن أن تساعد كثيرا في تشخيص الجاني .

فلقد أصبحت الطرق الوراثية تلعب دورا مهما ومتعاظما في البحث عن الجناة والمجرمين وإدانتهم حيث توفر أدلة علمية دقيقة وملموسة لا تعتمد على الحدس أو التخمين، فبلغت في يومنا هذا من الدقة بحيث يمكن التأكد من النتائج بدرجة كالتي بلغتها بصمات الأصابع، وتعتمد المحاكم في الفصل بالأبوة على فحوص الدم إلا أن المعلومات تستخدم في معظم الأحيان بيان عدم صحة ادعاء الأبوة أكثر من محاولة إثباتها".

إذ أن الحاملين للفصائل المتشابهة كثيرون ولا يمكن إحصاؤهم، ومن ثم فلا يمكن إثبات البنوة بمجرد وجود الفصيل المحتمل لدى الطفل الناتج عن وطء رجل لامرأة ؛سواء أكان هذا الوطء شرعيا أم غيره . فالناتج يكون بحسب الشخصين وفصائلهما كمعطيين للفصيل المحتمل عند الولد كقاعدة عادية.

بهذا فتكون الأم هي التي لا يمكن نفي الولد عنها لأنه خرج من بطنها، أما الرجل الذي كان سبب حملها فهو إما أن يكون الشخص الحقيقي في إنتاج هذا الحمل وإما أن لا يكون، وذلك لوجود نفس الفصيل لدى الرجل محل الإثبات عند أشخاص آخرين غيره؛ فلا يتبين حينئذ هل هو نفس الرجل صاحب الحمل أم غيره، لكن في حالة النفي فإنه إذا لم يوجد فصيل الطفل المحتمل والمتناسل من رجل وامرأة معينين بفصائلهما، فلا تثبت بنوته ضرورة، لأن فصيل الطفل غير ممكنة من الفصيلتين المحددتين لرجل وامرأة.

المثال على هذا: إذا كان للرجل فصيلة "ب" Bوللمرأة فصيلة "ب" B فإن الفصيلة المحتملة للطفل هي:وO، ب.إذن فالفصيلة المستحيلة للطفل هي:أ، أب.فيكون وجود هذه الأخيرة لديه نافيا لأبوة الرجل الذي يحمل فصيلة بA.

غير أنه توجد فصيلة قد لا يستساغ معها تحقيق هذا الإلغاء وهي اجتماع فصيلتي: أ، ب. والتي يحتمل معها وجود فصيلة:و، أ، ب، أب.ومن ثم فلا توجد فصيلة مستحيلة لدى الطفل في هذه الحالة، ولا يمكن نفي الأبوة بسبب هذه الفصيلة، فتبقى الأمور في مسألة الفصائل مجرد احتمال واستئناس في باب الإلحاق سواء كان الأمر مجرد إلحاق نسلي خلقي محض أو إلحاق نسبي شرعي كما سنرى شروطه و ظروفه في حينه، إضافة إلى هذا ما يمكن أن يقع من أخطاء تقنية في التحاليل المخبرية من إمكان وضع مصل خاص بهذا الفصيلة في تحليل فصيلة أخرى، فتكون النتيجة غير صحيحة بسبب خطأ إنساني قصدا وبغير قصد ، إذ المحلل أو الطبيب قد لا يتمتع بشروط العدالة الشرعية كما هو الأمر في باب القيافة و الشهادة كما سبق وبينا بإيجاز.

ثانيا: المعاهدات الدولية لا تسقط الأحكام الشرعية ولا السلامة الغريزية

فطرح هذا الموضوع في باب الولادة والنسب كنا نتوخى منه التنبيه على أن مسألة العلاقة النسلية والنسَبية الأسرية لدى الإنسان ليست مجرد علاقة مادية أو اجتماعية تواضعية محضة، وإنما هي ذات جذور عقدية وروحية وأخلاقية لابد من مراعاتها عند التشريع والتوظيف العملي للحقوق والواجبات .

كما أن المعاهدات الدولية المؤسسة على مجرد الرؤية المادية والتواضعية العلمانية للعلاقة بين الجنسين -ودون مراعاة التشريع الديني في ضبطها -لا يمكن لها أن تعطي الحل الأمثل لمشاكل البشرية وأزماتها الأسرية والنفسية والاجتماعية، وخاصة حينما تتذرع في صياغة قوانينها بالاعتماد على التقدم التقني أو الطبي الوراثي وما إلى ذلك.

إن المشكلة ليست في المادة أو ألآلة التقنية والمعطيات العلمية البحتة وإنما هي منحصرة في المتحكم بهذه المادة والموجه لها بحسب هواه، وأي هوى وانفلات وخسف فكري أسوأ من أن يتداول مما يسمى بالزواج المثلي والتناقش حول قانونيته في البرلمانات، لغاية أن أقرته بعض المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية والأوروبية والذي بمقتضاه قد يصبح قانونا ساري المفعول في كل أنحاء البلاد حسب قانونهم الفاسد.

فأي هوى وخسف مثل أن يصبح الجهر بالشذوذ الجنسي النسوي مادة إعلامية مهمة في مؤتمرات دولية كما حدث في مؤتمر بكين مثلا، إضافة إلى إقرار الإجهاض بضرورة وغير ضرورة مما يهدر معه حق الطفل والمرأة والرجل في النسب والوجود معا.

إنه الهوِيَّ في غياهب الظلمات والفساد، وإهدار النسل والأنساب ومعها الوجود الإنساني وكرامته عموما :"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون" "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين" .

من هنا فإن أهم ما يمكن تسجيله في التعديل الذي ركز عليه في مدونة الأسرة المغربية و ذلك من خلال خطاب الملك محمد السادس أمام مجلس النواب بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية السابعة يوم 13شعبان 1424 الموافق10اكتوبر2003، هو النقطتين الثامنة والتاسعة المتضمنتين لمسألتين مترابطتين ومتناسبتين مع الموضوع الذي نحن بصدد دراسته وهما "الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولة التي صادق عليها المغرب ..."و"حماية حق الطفل في النسب في حالة عدم توثيق عقد الزواج لأسباب قاهرة، باعتماد المحكمة البينات المقدمة في شأن إثبات البنوة..." .

بحيث أن هذا الحق يمثل لب القضية في المشكلات الأسرية ونتائج اختلالها أو انضباطها، مما تنضوي تحته تفرعا كل العناصر الأخرى إما قبلا أو تبعا سواء تعلق الأمر بسن الزواج أو الولاية والمساواة والتعدد والطلاق والتطليق والمواريث وغيرها ...

من هنا فالمعاهدات الدولية إما أن تكون متناسبة مع مقتضيات العدالة ومفهوم النسب الشرعي الذي يخضع له كل البشر في تأسيسه الأسري أصالة -كما سنرى -وإما أن تكون غير متناسبة .

فالمناسبة يمكنها أن تصبح ملزمة شرعا إذا كانت مبنية على مبادئ العدالة والإنصاف واعتبار الشعور المشترك بين البشر بدون عنصرية عرقية أو جنسية، وبذلك فيكون توقيع المعاهدات بمثاب الموافقة على حلف الفضول الذي أيده النبي صلى الله عليه وسلم وأقر به بعد الإسلام، لأنه كان مبنيا على حفظ الحقوق ورد المظالم والوقوف في وجه الظالم و التناصر لمصلحة المظلوم والمعدوم، كما يروى عنه في ذلك قوله "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، لو دعيت به في الإسلام لأجبت" .

أما غير المناسبة فإنها ستكون غير مقبولة ولا ملزمة شرعا أو عقلا وكذلك واقعا، لأنها تتنافى مع مقتضيات الإنسانية في مبدأ التوالد وارتباط الأصل بالفرع وتحديد الهوية وبالتالي ضمان الحقوق في كنف أسرة منضبطة ومتآلفة، لا في حضن ملاجئ وتكريس شيوعية المرأة الأطفال وإهدار نسبهم كما يصبو إليه المفسدون و الإباحيون وخاصة لدى الغربيين!

إذ عدم احترام النسبة بين الأب وابنه وأمه قد يؤدي إلى إهدار لحقوقه، وإهدار حقوقه يؤدي إلى إهدار حقوق أمه وإهدار حقوق أمه يؤدي إلى إهدار حقوق أبيه، فتكون المهدرات دائرية المسلك وعائدة بوبالها على الجميع، وبالتالي يضيع الأصل والفرع، وتندثر القيم الأسرية المبنية على التآلف والمحبة والغيرة والمساكنة والرحمة.

فهذا ما كانت ترنو إلى تحقيقه الجمهورية الوهمية الأفلاطونية المسماة غلطا بالجمهورية الفاضلة وهو ما تصبو إليه أيضا الصهيونية العالمية والماسونية والامبريالية الغربية وعلى رأسها الطاغية الأمريكية صاحبة الزعامة فيما تسميه بالنظام العالمي الجديد، والذي في حقيقته: انتكاسة إنسانية نحو الفوضى والإفلاس البشري العام بذريعة حقوق المرأة والطفل والإنسان وكذا الحيوان. نعرض لبعض من قوانين الجمهورية المذكورة ومدى تقاربها مع ما يطرح من حلول وترويج في الإعلام المعاصر لا تزيد الإنسانية إلا قربا من رعب مرض السيدا وسرعة انتشاره بدل الحد من خطورته!!

يقول أفلاطون في محاوراته:

"فإن كنت مشرعا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم ثم تجمع بين هؤلاء و أولئك فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه ويعيشون سويا!"

صورة هذا التعايش يحددها القانون التالي :"إنها تتعلق بالقانون الذي يترتب على القانون الحالي وعلى القوانين السابقة عليه .-وما هو ؟...هو أن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعا للجميع، فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم، وليكن الأطفال أيضا مشاعا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الابن أباه...".

فهذا التعايش والشيوع بفساده يتأسس على فساد آخر وهو البناء الاجتماعي والأسري العنصري كما يقول: " من الضروري تبعا للمبادئ التي أقررناها أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضعف نطاق ممكن ولابد من تربية الأطفال الأولين الآخرين إن كنا نود أن تحتفظ للقطيع بأصالته، ومن الناحية الأخرى فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء كي يتجنبوا على قدر استطاعتهم كالخلاف داخل قطيع الحراس" .

أخيرا فيكون مصير الأطفال هو: "أما الأطفال فعندما يولدون يعهد بهم إلى هيئة تتولى شؤونهم، فتكون إما من رجال أو من نساء وإما من الجنسين معا مادامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء ".

فهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق وإنما جوابها هو قول الله تعالى "ولو اتبع الحق أهواءهم لفدت السموات والأرض ومن فيهن". "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " "وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم""قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون " .

فلنبحث عن الطيب ومسلكه عند أهل الحق من الأنبياء والرسل الذين أسسوا النسب الإنساني وحموا حقوقه من الطفولة إلى الكهولة.

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

وجدة، المملكة المغربية

إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .

واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .

وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ - تأثُّرًا وتأثيرًا -، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .

ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ، رِوايةُ " لوليتا " (1955)، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 - 1977)، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك (1928 - 1999) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .

أبرزت الروايةُ مَواضيع مُثيرة للجدل، ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون، وسُلوكًا يُعْتَبَر تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال، فبطلُ الرواية " هَمْبِرْت هَمْبِرْت " هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر، مريض بشهوة المُراهقين، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا، بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا، و " لوليتا " هو لقب دولوريس الخاص .

يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السَّرْد الذاتي، حيث يقوم " همبرت همبرت " بسرد قِصَّته معَ دولوريس مِن جانب واحد، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية، مُحَاوِلًا كسب تعاطف القارئ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي . وقَد قَدَّمَت الروايةُ تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات (البيدوفيليا) .

صارتْ " عُقْدَة لوليتا " (عُقْدَة الحِرمان الكبير ) مِن أشهر العُقَد النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها بِضِعْفِ عُمرها على الأقل، أوْ في عُمر أبيها، لَيْسَ هذا فقط، بَلْ إنَّها كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على فِعْل ذلك . وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في الطفولةِ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه . وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل البَيْت، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت . وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة . والجديرُ بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان .

ومِن أبرز الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ، نظريةُ التَّحَدِّي والاستجابةِ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي (1889- 1975)، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين، ويُعْتَبَر أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل .

ويُفَسِّر توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة، مِن خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ " التَّحَدِّي والاستجابة "، التي يَعترف بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي، وعلى وَجه الخُصُوص مِن عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ (1875 - 1961) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس التَّحليلي، الذي يَقُول إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه لفترة ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة:

أ - استجابة سلبية: تَتَمَثَّل في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به، ومُحاولة استرجاعه واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة، فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا انعزاليًّا انطوائيًّا .

ب - استبجابة إيجابية: تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا انبساطيًّا .

إنَّ " التَّحَدِّي والاستجابة " نظرية في التاريخ، اقْتَبَسَهَا توينبي مِن عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي (العِلْم الذي يَدرس العلاقةَ بين العقلِ والسُّلُوكِ مِن أجْلِ اكتشافِ أنماطِ السُّلُوكِ وخَصائصِ الأفعالِ)، وقامَ بتطبيقها على الأُمَمِ والحضاراتِ، فالأُمَمُ حِين تَتَعَرَّض للمخاطرِ العظيمةِ والأزماتِ الشديدة، وتَكُون هي الحَلْقَةَ الأضعف، ويَكُون تَوَازُن القُوى في غَيْرِ مَصلحتها، فإنَّها تَعُود إلى تُراثِها الحضاري، وذاكرتها المَاضَوِيَّة، في مُحاولة لاستجماعِ قُوَّتها، واستنهاضِ قُدرتها على مُواجهة التَّحَدِّي، فالتاريخُ لا يُمكِن استرجاعُه إلا بشكل تَمَاثُلِي أوْ تَشَابُهِي، ولا يُمكِن استعادته إلا كَمَأسَاةٍ أوْ مَلْهَاةٍ .

والحضارات - حَسَب نظرية توينبي - تَصْعَد أوْ تَسْقُط على قَدْرِ استجابتها للتحدياتِ والأزماتِ التي تُواجهها، فإمَّا أن تَنكمش على ذاتها، وتَتَقَوْقَع على نَفْسِها، وتَنسحب مِن الحياة، وتَرْجِع إلى الوراء، وإمَّا أن تَتَحَدَّى الواقعَ بالإبداعِ والابتكارِ في مُحاولة مِنها لتجاوزه، وصناعة واقع جديد مُنَاسِب لِمُتَطَلَّبَاتِ العَصْرِ ومُقتضياته .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لقد تضاربت آراء الكتاب والباحثين حول أسباب ديمومة تخلف منظومة الوعي الاجتماعي في المجتمع العراقي، كما لو أن هناك لعنة ميتافيزيقية أو تعويذة سحرية تطارده كظله عبر الأيام والسنين، دون أن يكون – على ما يبدو – أن هناك أمل بالخلاص من آثارها والنجاة من عواقبها، وهو الأمر أشاع بين الأفراد والجماعات حالة من البلادة الذهنية والنكوصية النفسية واللا - أوبالية الأخلاقية.

والغريب في الأمر إنه كلما ازدادت وطأة المعاناة التي يكابدها العراقيون ويرزحون تحتها، كلما كانوا أقرب إلى الاستكانة وأميل إلى الخنوع وأسرع إلى الطاعة، بحيث مكنوا كل من ساسهم وامتلك زمام أمورهم وتمكن من أعنة قيادهم، من إلباسهم رداء الفقر والجوع وسامهم صنوف الحرمان والهوان، فضلا"عن جعلهم (أكباش محارق) مجانية جاهزين للذبح فداء"لطيش سلوكه المتهور ونزوة قرارته المهلكة. 

والحقيقة أنه لو أمعنا النظر بأسباب هذه الحالة الارتدادية ومحصّنا جيدا"بمصادر صيرورتها، سنفاجئ ان الأمر لا يتعلق بأي غموض ولا يرتبط بأية غرابة في هذه القضية المحيّرة، بقدر ما هي حصيلة تراكم انحرافات وإخفاقات وتشوهات (النظم التعليمية) التي أخضع لها عقل الإنسان العراقي وتماها مع قيمها، عبر سلسلة متواصلة من مراحل (التدجين) البدياغوجي و(التنميط) الإيديولوجي الممنهج ؛ ابتداء بالمرحلة الابتدائية الأولية وصولا"الى المرحلة الجامعية النهائية، مرورا"بالمراحل الانتقالية المتوسطة والثانوية. بحيث ان هذا الإنسان المستباح لايكاد يخرج من هذه الدوامة إلاّ وقد اكتملت عمليات (تعليب) وعيه و(نمذجة) سلوكه و(تأطير) مخياله.

وإذا ما كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) قد أشاح الستار عن الدور الخطير الذي تلعبه أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، من حيث تكريس التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والفكري بين طبقات المجتمع، ومن ثم خلق حالة من الشرعية الزائفة بين الحاكم والمحكوم تتمخض عنها وتترتب عليها، ليس فقط حالة من القبول والرضا السيكولوجي بين الفئات والشرائح الفقيرة إزاء (الهيمنة السياسية) المبطنة التي تمارس ضدها من لدن رموز السلطة فحسب، بل وكذلك حملها على الرضوخ والامتثال لشتى ضروب (العنف الرمزي) الذي تبرع في توظيفه واستثماره وسائل الميديا العملاقة. 

نقول إذا كان هكذا هو الحال في المجتمعات الغربية التي بلغ فيها وعي الإنسان بمواطنيته الحضارية شأوا متقدما"من النضج والاكتمال، كيف ينبغي لنا أن ننظر الى دور ووظيفة أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات العربية بصورة عامة والمجتمع العراقي بشكل خاص، لاسيما وأن مناهجها وأساليبها مصممة لانتهاج سبل ملتوية تسعى من خلالها خلق أجيال من الكائنات (المحنطة) ذهنيا"و(المنمطة) سلوكيا"؟!. وعلى ضوء هذه الحقيقة البينة، لن يتأتى لكل من يعتلي صهوة السلطة في العراق ويروم إصلاح أوضاع شعبه ويضمن مستقبل أجياله، دون مراعاة تسلسل الأولويات التي من ِشأنها النهوض بواقع هذا المجتمع الذي لم تفتأ مكوناته المتشظية تندفع  صوب الحضيض الحضاري والإنساني على نحو متسارع.

ولعلنا لا نخطئ الحقيقة ولا نجانب الصواب إذا ما أجزمنا بواقعة أن سلامة (النظام التعليمي) لأي دولة، من حيث المحتوى العلمي والمعرفي الذي يشتمل عليه، ومن حيث طبيعة المناهج التحليلية والأساليب الإدارية التي يعتمدها، هي من يقرر – في المحصلة النهائية - مصير المجتمع ويحدد مسار تطوره الحضاري ايجابيا"أم سلبيا". ذلك لأن هذا النظام - المهمل عادة في البلدان الضعيفة والمتخلفة - أضحى يشكل في الوقت الحاضر (البنية التحتية) التي يقام عليها مدماك (الوعي الاجتماعي) برمته. وبعبارة موجزة، حيثما يكون عليه النظام التعليمي والتربوي في المجتمع المعني، سيكون عليه (وعي) مكوناته وجماعاته التي يتشكل منها نسيجه السوسيولوجي ومعماره الثقافي.  

***

ثامر عباس

العنف كلمة بدأت تأخذ مداها الواسع والمقلق في السنوات الأخيرة، حتى لا يكاد يمر يوم، بل ساعة إلا وللعنف فيه حصة. قبل أن نغوص بأسباب العنف، نعرفه بأختصار شديد. العنف: كلمة تعني لغةً الشدة والقسوة، أما أصطلاحاً فتعني معالجة الأمور بشدة وغلظة، أما في معجم لسان العرب يعني: الخرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق.

العنف نوعين، منه مايكون جسدي، ومنه اللفظي، وهو الذي يهمنا في بحثنا هذا. العنف اللفظي تنطلق أهميته، بل خطورته، بأنه البداية الممهده للعنف الجسدي. يبدأ العنف اللفظي بكلمات التحقير والتعنيف التي يشعر بها الضحية بالأهانة والأستهجان والأستهزاء، في محاولة يراد منها التصغير والتنقيص من الطرف الأخر لأستشعاره بالضعة سواء كانت مادية أو أجتماعية، من أجل سحق الخصم لأجل أستسلامه وأخضاعة وأرجاعه الى بيت الطاعة أو سحقه والتخلص منه بأعتباره طرف مقلق للطرف الآخر، لكي يسود الطرف المنتصر على الساحة، سواء كانت هذه الساحة أجتماعية أو أقتصادية أو عسكرية أو سياسية. فالعنف مجاله جداً واسع، يبدأ من الزوج والزوجة الى الأطفال، الى المدرسة الى،السوق الى السياسة، ويكاد يشمل كل نواحي الحياة.

أهمية موضوع العنف يأتي من خلال تصاعده بشكل محموم في مجتمعنا العراقي، وهو محل أهتمامنا، حيث تصاعد بشكل يثير الدهشة ومخاوف الشارع العراقي، والذي أدى تصاعده في السنوات الأخيرة  الى هجرة داخلية وخارجية، وقتل، وسفك للدماء رُوع من خلالها المجتمع، وفقد الكثير من طاقاته، وكفاءاته العلمية. وكلنا عاش العنف بكل أشكاله، الحكومي، والحزبي والطائفي والعشائري، وحتى الشخصي، وكيف هز المجتمع من الأعماق، مما ساهم بتصدعه وتمزيقه، وكاد أن يشعل حرب أهلية يستعر لظاها الى ماشاء الله، وتحرق الجميع، ويتمزق البلد، ويَمحى ككيان من الخارطة.

العنف مبعثه توتر النفس ومايختلج بها من صراعات وغليان، تغذيها طموحها الشره، وتسقيها الأفكار العدوانية، سواء كانت فكرية أم سياسية أم دينية، أو طائفية، وحتى عشائرية، فالعنف أما أن يكون سببه داخلي كما يعبر عنه فرويد بأنه تواصل مادي بين الطاقة النفسية للشخص والعالم المحيط، وهو نتيجة لعدم أشباع دوافع اللذة فيقود الى تراكم طاقة نفسية في اللاوعي، تخرج منه بشكل عنيف وهدام. ومن المهم نذكر هنا سؤال وجهه البرت أنشتاين الى عالم النفس النمساوي فرويد يسأله فيه، ماالذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ فأجابه فرويد إجابة تقطر تشائم قائلاً: للأسف هذا مستحيل لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه (العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد)، فقد يكون العنف اللفظي يبدأ من نكتة، أو مزحة بين أصدقاء، فتتحول الى مشادة بالأيدي، وربما الى القتل.

عادةً يكون المجتمع الذي خضع لقهر أجتماعي وسياسي طويل حساس جداً للكلمة، وغالباً ما تكون ردود أفعاله حادة وعنيفة، والسبب يعود الى ما يختزنه من طاقة مُعدة للأنفجار في ثنايا نفسة تبحث عن سبب لكي تنفجر، ويتخلص من عبئها الثقيل على نفسه، كما أن العادات والتقاليد تلعب دور فعال في سرعة الإثارة للكلمة، وخاصة المجتمعات العشائرية، حيث الكلمة التي يُشم منها رائحة التوهين والتصغير، قد تسهم في أشعال حرب عشائرية يذهب ضحيتها العشرات. من خلال ما قدمنا من أسباب نفسيه وأجتماعية للعنف، يجعل شعبنا العراقي في مركز دائرة العنف، فهو شعب سريع الأستفزاز والأثارة بعكس الشعب المصري، فالعراقي تجمعت ظروف أجتماعية وثقافية وسياسية جعلت منه أنسان سريع الغضب، وأعتقد مايحدث من مشاكل يومية على كل المستويات من العائلة أنتهاءً بالأحزاب والعشائر، تؤكد ما ذهبنا أليه. كما ذكرنا فأن للعنف كثير من الأسياب ولكن رأينا أن نُشير الى سببين كان لهما الأثر الواضح والكبيرفي المساهمة على ترسخ العنف في مجتمعنا، تاركاً بصمة عنفية لا تزال آثارها الى اليوم، بل يمكن أعتبارها ظواهر أسست للعنف في مجتمعنا العراقي، فأرتأينا بأخذ نموذجين أحدهما من التاريخ البعيد، وهو الصراع المعتزلي مع الحنابلة، والآخر من التاريخ القريب،ذلك الصراع الذي حدث بين الحزب الشيوعي العراقي مع حزب البعث العربي الأشتراكي في العراق منذ بداية النصف الأول من القرن الماضي، والذي أمتد الى نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث قام البعث بتصفية وتشريد الكثير من عناصر الحزب الشيوعي، وبطريقة وحشية.

بدأ الخلاف بين المعتزلة والحنابلة بأختلاف فكري، حيث تبنى المعتزلة فكرت الحرية الأنسانية، وأن الأنسان حر في أفعالة، وبالتالي هو مسؤول عنها شراً أو خيراً ، وهناك قضية أخرى أختلفوا عليها، وهي بماتسمى (قضية خلق القرآن) وهي مسألة كلامية حصل الجدل عليها الى أوجّه بين المعتزلة والحنابلة، حتى وصل الأمر الى الأستتابه أو القتل في عهد المتوكل العباسي الذي تبنى المذهب الحنبلي كأيديولوجيا للسلطة، والتي راح ضحيتها الكثيرون، والحقيقة لقد بدأ المعتزلة بتكفير من يختلف معهم بعد أن أدناهم المأمون العباسي من بلاطه وتبنى أفكارهم، وقد أضطهدوا الحنابلة وعلى رأسهم أمامهم أحمد بن حنبل، حيث قُدم للمحاكمة بسبب أفكاره التي تتعارض مع المعتزلة وخاصة في مسألة (خلق القرآن) مما أُعتبر أسلوباً تعسفياً في مواجهة من يُختلف معه عقائدياً، وهذا ما أوغر قلوب الحنابلة، وقاد الى معاملة المعتزلة بقسوة حين تبناهم الخليفة العباسي المتوكل بالله، وتعرضوا الى أضطهاد شديد من قِبل الحنابلة، وقد أضطر أحد المعتزلة الى الأعتكاف في بيته خمسين سنة لايبرح الخروج من بيته، وقادوا حرب كلاميه ضدهم، حتى ألف أحد أتباع بن حنبل المدعو حرب بن أسماعيل (المتوفي 288) كتاباً سماه كتاب السنة والجماعة شتم فيه فرق أهل الصلاة وخص بهم المعتزلة بقدر كبير من شتائمله، وقد تعمق الأنقسام الأجتماعي مع سيادة منطق التكفير، والذي وصل الى حد أن يقوم أحد زعماء الحنبلية المدعو الشيخ الحسن بن علي البربهاري الى أنشاء ميليشيا مسلحة أستولت على الشارع البغدادي والبصري (معمار الفكر المعتزلي ص355) والتي خُتمت بفتنة الكرخ التي أمر بها المستعصم بالله العباسي المتبني للحنابلة بأحراق محال ودور الكرخ الشيعية  ونهبها، وهتكوا النساء سنة 454 هجرية، على يد أبن الخليفة المستعصم، أبو بكر، ولم تكن حرب الكلمات التي يتقدمها التكفير والتي تنتهي بالسب والشتم فقط بين المعتزلة والحنابلة فقط، بل  أستفحل الأمر، حتى بات المعتزلة يكفر بعضهم بعضاً، والذي قاد هذا الأسراف بالتكفير الى أضمحلال وجود المعتزلة خاصة بالبصرة، وقد نقل ابو حيان التوحيدي صورةً سيئة عن تكفير المعتزلة لبعضهم، وخاصة الجُبائين، حيث وصل الأمر بهم الى تكفير الأب لأبنه فنرى تكفير أبو علي الجبائي لأبنه أبو هاشم الجبائي، وفي المقابل كفر الأبن أبو هاشم أباه أبو علي الجبائي. هذه الصورة للحرب الكلامية التي حدثت على أرض العراق في التاريخ البعيد، ولكن يمكننا أخذ صورة أخرى لهكذا نوع من تاريخنا الحديث وفي بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ صراع محموم بين البعثيين والشيوعين العراقيين، والتي بدأت على شكل حرب كلامية عن طريق رفع شعارات تنديد وتحريض كلامي من قِبل الشيوعين ضد البعثيين الذين قاموا بمحاولة أغتيال للزعيم بعد الكريم قاسم، وكانت هذه الشعارات أمثال (أعدم أشنق لا تقول ما عندي وقت) و(ماكو مآمرة تصير والجبال موجودة)، حتى أدت هذه المماحكات الكلامية الى تشكيل مليشيات تسمى بأنصار السلام، كما تواصل العنف الكلامي عبر مسيرات وخطابات تتسم بالتشدد، وتفوح منها رائحة العنف، من خلال مسيرات ومهرجانات خطابية  في الموصل وكركوك أدت الى عنف مادي،راح ضحيتها أفراد من الجهة المقابلة، مما أوغر صدور البعثيين، حيث أضمروا للشيوعين الأنتقام، وفعلاً عندما أنقلب البعثيين في 8 شباط 1963 م على الزعيم عبد الكريم شكل البعثيون مليشيات الحرس القومي السيئة الصيت والتي سامت الشيوعين سوء العذاب والتي راح ضحيتها الكثير منهم، حيث مارس البعثيون أبشع أساليب التعذيب للشيوعيون حتى صار السحل بالشوارع، وأُعتدي على الكثير من النساء،وزُج الكثير منهم بالسجون والمعتقلات، وسجن نقرة السلمان سيئ الصيت شاهد على ماحدث، وهذا ما يذكرنا بفتنة الكرخ التي حدثت بين مليشيات الحنابلة التي أسسها الشيخ البربهاري وأهالي الكرخ من الشيعة، كما أُستخدمت ضد خصومهم من المعتزلة، ومن هنا تبدأ الحروب والنزاعات من فكرة تُنطق بلسان صاحبها فتتحول الى شرارة تحرق الأخضر واليابس. نحن ذكرنا مثلين لا للحصر وأنما كمثلين حصلا على أرض العراق كنتيجة لعنف الخطاب بين المتخاصمين، وبالعموم يحمل هكذا خطاب بين ثناياه فكرة تكفير وأقصاء الأخر عبر ما يحمله أحد أو كلا الخصمين لفكرة تملك الحقيقة المطلقة، والتي تتحول هذه الأفكار الى قناعة تامة عند هذه الأطراف مما يسمح أحدهم أو كليهما لنفسه الى ألغاء الأخر بكل الطرق المتاحة. لا شك بأن عنف الكلمة قد يكون أكثر أستفزاز للطرف الأخر، لما تحمله الكلمة من زخم يُثير حفيظة الطرف الآخر، قد تَحمله على رفع السلاح بوجه الطرف الأخر. أن حساسية الكلمة قد نجدها في بيئة تختلف تماماً في تأثيرها وحساسيتها في بيئة أخرى، وهذا يعتمد على الوضع التاريخي والأجتماعي والثقافي بين منطقة وأخرى أو بلد وآخر، والعنف ثقافة قبل أن يكون سلوك فمثلاً البدوي يقول الذي لا يجلب حقه بالسيف جبان، ونحن شهدنا في الآونة الأخيرة كثرة أستخدام العنف في المناطق الجنوبية، بين العشائر، والتي كانت آخرها في ناحية الأصلاح والتي راح ضحيتها مدير الأستخبارات العسكرية برتبة عميد ركن، في حين لم نجد هذا العنف بين عشائر الفرات الأوسط، وهنا يتبين أن للعادات والتقاليد والثقافة دور بارز ومهم في أستخدام العنف وعدمه، لذا يبقى الحوار هو الطريق الأنجع في صناعة السلم الأهلي، وبناء حياة أكثر أستقرار وأمان في المجتمع الواحد، وإن ما ذكرنا أعلاه من حوادث لانبغي من وراءها الا العبرة، لكي لا تتكرر المأساة التي حصدت الآلاف من أرواح شعبنا، وكلفتنا الكثير من الدماء، فالحوار هو سبيل الأحرار، وطريق العقلاء، ومسلك الأقوياء.

***

أياد الزهيري

 

1) من خلال الاختلاف السلوكي سواء على المستوى الروحي المحض أو المتلبس بالمادة لدى الإنسان قد تتحدد طبيعة الأرواح في عدة قضايا منها:التواصل وعدمه، كما نجده في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"[1].

فالتآلف والاختلاف سيتحددان أو لا بحسب توجه الأرواح لا الأبدان، ولهذا يبقى السلوك في أصله هو عمل الأرواح ابتداء، أما التصرف البدني فإنه تابع ومشخص ظاهري للإرادة ومقاصدها.

وهكذا نرى أن أصل المنهج الإسلامي في معرفة النفس يعتمد على الاعتبار الروحي بالدرجة الأولى لأنه المحرك الأول للبدن وأعضائه، إذ أن الروح يقوم بعمل التحريك وتحصيل الإدراك أولا فبعمل التصريف الهادف ثانيا، بعده بتقبل التكليف والخطاب المتضمن ثالثا ثم بتحمل مسئولية الجزاء رابعا.

فعند خاتمة المرحلة الدنيوية سيتم تخليص الروح من الجسد بإعادة السكون إلى أصله، بينما يبقى الشعور الروحي حاضرا، لأن الموت في الحقيقة يمثل عملية فصل الجانب الروحي عن الجانب الجسدي.

ونظرا للارتباط الذاتي المستأنس بوضعه بين نوع الروح ونوع الجسد، بحسب تأسسه السلوكي وبحسب انعطاف الذات على عناصرها، فقد يترتب ألم ذاتي عند هذا الانفصال؛يمكن تحديد مستواه بحسب تعلق الروح بالجسد إيجابا أو سلبا.

لأنه إذا كان الغالب على الشخص سلوكا روحانيا منعكسا إيجابا، حسب ما تقتضيه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فسيكون تعلق الجسد بالروح تعلقا فطريا وتشبتا مؤلما عند الفصل، للتوافق الحاصل بين فطرة الروح وفطرة الجسد.

أما إذا كان الغالب على السلوك عملا ماديا منعكسا على الروح سلبا، وصارفا إياها عن الغاية والفطرة الأصلية التي خلقت عليها ومن أجلها، فإن تكدر الروح بتكدر البدن قد يسبب توافقا أيضا بين العنصرين مما يؤدي إلى تشبثهما ببعضهما وتلاصقهما لحد التقرح عند الانسلاخ بالموت مما يؤدي أيضا إلى الألم، وهكذا باقي الحالات التي تكون عليها علاقة الروح بالجسد.

ولهذا فموضوع فصل الروح عن الجسد عند خاتمة السلوك قد جاء في القرآن دالا على صورة مؤلمة لا يسلم منها أي شخص مهما كان مستواه السلوكي وتوجهه الروحي والبدني، وهو ما نجده في قول الله تعالى :"كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون "[2]، وكذلك قوله تعالى :" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ "[3].

يقول الله تعالى:"وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ"[4].

إن هذه الوحدة التكوينية لشخصية الإنسان في مرحلة خلق الروح أو الجسد، أو التحامهما مما ينتج كائنا واعيا وملموسا في آن واحد سيبني عليها الإسلام قواعد الاستكشاف النفسي بتقرير عناصر الوحدة النفسية سواء على مستوى الانطباع الذاتي الباطني أو الظاهري جوهرا وسلوكا عرضيا.

ويتجلى ذلك في التسلسل التالي:

السلامة العقدية: وعند مناقضتها يترتب: الانحراف العقدي والسلوكي

= توهم المماثلة = الميل بحسب التماثل = الوحدة الجنسية الشاردة.

2)  إن التقسيم الرئيسي للنفوس لا يعدو صورتين: إحداهما أصلية والثانية فرعية .

فالأصلية تمثل الواقع الحقيقي للنفس الإنسانية في طورها الأولي وتكوينها المبدئي، وفي موافقتها السلوكية والعقدية لما يقتضيه هذا التكوين الأصلي للنفس البشرية، وهذا ما يسمى بالفطرة أو غريزة التوحيد عند الإنسان كما تنص عليه الآيات التاليات، قول الله تعالى:"وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى! شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون "[5].

و" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[6].

و" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) "[7].

كما قد نجد تبيينا نبويا في الموضوع يؤسس هذه الوحدة النفسية عند الإنسان وارتكازها العقدي كعنصر أساسي لتحقيق الوحدة في التربية وتقعيدها وضبطها وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "[8] الحديث.

فهذه الأدلة قد تخط لنا الصورة الأولية للنفس البشرية، ولهذا فهي واحدة في تكوينها الروحي وواحدة في تكوينها الجسدي ومراحله، وعلى هذه الوحدة تنبني أيضا الوحدة الجنسية باعتبارها فرعا عن الوحدة الفطرية، وذلك لاعتبار المساواة العنصرية بين الرجل والمرأة وبين ما يتفرع عنهما من ذرية.

فنجد مثلا قول الله تعالى يؤكد هذه الحقيقة "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"[9] وقوله:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "[10].

ويبين هذا المعنى بصيغة حديثية قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:"كلكم لآدم وآدم من تراب...".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء"[11].

فالوحدة الجنسية قد تتخذ صورة دورية على مستوى التناوب بين الأصل والفرع، ولكنها مع ذلك تبدو تسلسلية الامتداد الفرعي، إذ الأصل يلد الفرع والفرع يلد الفرع فيصير حينذاك أصلا... وهكذا. وإلا فإن أصل الإنسان ينحصر في شخصية واحدة هي آدم عليه السلام كما نص عليه الحديث النبوي الشريف: "كلكم لآدم ".

هذه الوحدة الأصلية ووحدة التسلسل الفرعي لابد وسينتج عنها وحدة في الاعتقاد والسلوك، وهي التي نص عليها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باسم الفطرة، والتي قد تتحد النفوس في تمثُّلها والتواصل عن طريقها بحسب مستوى الالتزام بها عقيدة وسلوكا.

ولهذا فحينما ينحرف الشخص عن الفطرة قد يخرج عن دائرة الوحدة النفسية الإيجابية التي خلق عليها إلى ما عبر عنه القرآن الكريم في الآية:"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون".

فالارتداد إلى أسفل سافلين قد يعني الخروج عن دائرة الفطرة والوحدة النفسية التي طبع عليها الإنسان أصلا وفرعا، ولكن هذه الوحدة المخترقة التي تمثل القاعدة في سلامة بنية الإنسان قد تترتب عنها وحدة شاذة لا تكاد تنفصل عن الوحدة الفطرية في جوهرها، وإنما هي وحدة عرضية وهمية مترتبة عن المضادة للوحدة الأصلية.

ولهذا فهي من جهة:وحدة، لأن الفطرة لا تنمحي جوهرا، ومن جهة أخرى هي: شرود وشذوذ ناتج عن اختراق الوحدة الفطرية اختراقا عرضيا مضادا لها مما أنتج مجموعة شذوذات وشرودات قد تجمعها وحدة يمكن الاصطلاح عليها بوحدة الشذوذ والشرود تجوزا، لأن كلمة الوحدة لا تتطابق مع واقع الشرود، وإنما نوظف المصطلح -كما قلنا- لأن الوحدة لا تكون إلا بالفطرة.

إذ مهما شرد الإنسان إلا وبقي لديه ارتباط بالفطرة ولو في شكلها العرضي، وستتجلى هذه الوحدة الشرودية في قول الله تعالى :"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون"[12].

فالتشابه القلبي الذي تطابق عند هؤلاء هو في الحقيقة يمثل شرودا جماعيا مضادا للفطرة المبنية عليها نفس الإنسان، ولهذا فأوجه التوجه النفسي قد تنقسم إلى قسمين لا غير، عنهما تترتب النتائج بحسب التزام أحدهما.

ومن هنا فقد يحدث التشابه سواء فيما بين الموافقين للفطرة أو المخالفين لها، على مستوى الوحدة في المواقف والاتجاه، ويتجلى هذان القسمان بكل دقة ووضوح وإيجاز في قول الله تعالى:"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"[13].

وعلى هذا التقسيم سيحدد الإسلام سلوك الناس ونوعية وحدة توجههم العقدي أو السلوكي، أعرض لنموذج منه في قول الله تعالى:"المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف و يقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلافهم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والموتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"[14].

فظلمهم لأنفسهم هو مخالفتهم للفطرة الأصلية التي تم على أساسها تكوينهم وذلك بنسيانهم لخالقهم .

***

الدكتور محمد بنيعيش - المغرب

أستاذ الفكر والحضارة

................................

[1] رواه مسلم والبخاري في كتاب بدء الخلق

[2] سورة العنكبوت آية 6

[3] سورة الأنعام آية 94

[4] سورة الأنعام آية 99

[5] سورة الأعراف آية 172

[6] سورة الروم آية 30

[7] سورة التين آية 4-5

[8] رواه البخاري، كتاب التفسير والجنائز

[9] سورة النساء آية 1

[10] سورة الروم آية 20

[11] رواه البخاري، كتال بدء الخلق

[12] سورة البقرة آية 118

[13] سورة الشمس آية 7-10

[14] سورة التوبة آية 67-70

 

إن سيكولوجية نفاد الصبر يمكن أن تجعل الانتظار أكثر احتمالا

بقلم: مات هيوستن

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشير الدراسات الجديدة حول تجربة نفاد الصبر إلى أن هناك ما هو أكثر من مجرد المدة التي قضيتها معلقًا إذا كنت تنظر على مدار الساعة في انتظار نتيجة الاختبار، أو تتململ تحسبًا لوصول قطار في أي لحظة، أو قمت بتحديث موجز الأخبار الخاص بك بشدة قبل إعلان مهم، فأنت تعرف مدى الإزعاج العميق الناتج عن الاضطرار إلى الانتظار، والعجز عن تسريع الأمور. متى تصل مشاعر نفاد الصبر هذه إلى ذروتها؟ هل الأمر كله يتعلق بالشعور بأنك انتظرت طويلاً؟

لمعرفة ذلك، قام فريق ثنائى  من علماء السلوك، أنابيل روبرتس من جامعة تكساس في أوستن وأيليت فيشباخ من كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، باستطلاع آراء الأشخاص الذين ينتظرون في سيناريوهات مختلفة: أثناء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. في عام 2020؛ وتوقع الإصدار العام المقرر لأول لقاح لكوفيد-19 في الولايات المتحدة؛ والركاب ينتظرون وصول حافلتهم.

في الدراسات حول الانتخابات ولقاح كوفيد-19، صنف المشاركون نفاد صبرهم في نقاط متعددة أثناء الانتظار. في المتوسط، كان نفاد صبر الناس يزداد كلما اقتربوا مما اعتقدوا أنه نهاية الانتظار. ولكن الأمر لا يقتصر على أن نفاد الصبر ينمو مع زيادة وقت الانتظار. يبدو أن هناك شيئًا محبطًا بشكل خاص بشأن اقترابك من نهاية فترة الانتظار. في دراسة الحافلة، كان هؤلاء الأشخاص الذين توقعوا وصول الحافلة في أي لحظة هم الذين شعروا بفارغ الصبر، حتى لو لم يكونوا بالضرورة ينتظرون كل هذا الوقت. وقد يفسر هذا سبب اكتشاف الباحثين خلال دراسة لقاح كوفيد-19 أن نفاد الصبر تجاه نهاية الوباء ظل ثابتا مع مرور الوقت: فالنهاية لم تكن تلوح في الأفق بعد.

وفقًا للباحثين، فإن العامل الرئيسي الذي يساهم في زيادة نفاد الصبر، خاصة قرب نهاية الانتظار، هو رغبتنا في إنهاء الانتظار - في الأساس، "الرغبة في إخراج هذا الشيء من عقلك أو شطبه من قائمة المهام الخاصة بك،" "، على حد تعبير روبرتس.ضع في اعتبارك هذا: إذا كنت تعمل على مشروع ما، أو تشارك في سباق، وكانت النهاية تلوح في الأفق، فإن الرغبة في إنجازها قد تحفزك على زيادة معدل سرعتك . في الواقع، يُظهر "تأثير التدرج في الهدف" أن "الناس يصبحون أكثر تحفيزًا لتحقيق أهدافهم كلما اقتربوا من النهاية"، كما يقول روبرتس.

ولكن عندما تكون عالقًا في انتظار رحلة، أو طاولة في مطعم، لفترة زمنية متوقعة، فليس هناك الكثير مما يمكنك فعله للوصول إلى هدفك بشكل أسرع؛ لا يمكنك الانتظار لفترة أطول لتسريع الأمور. لذا فإن الرغبة في التصرف، وإنهاء الأمر (أي إنهاء الأمر)، قد تتحول إلى "شعور سلبي بالإحباط ونفاد الصبر" قرب نهاية الانتظار، كما يقترح الباحثون.

يأتي المزيد من الأدلة لهذا التفسير من دراسات أخرى أجراها الباحثون والتي تضمنت انتظارات افتراضية. على سبيل المثال، عندما تخيل المشاركون استلام طرد ما في عدد معين من الأيام، قدروا أن نفاد صبرهم سيكون أكثر شدة إذا كانوا أقرب إلى وصوله، وكذلك رغبتهم في "إغلاقه".

إذا كنت في موقف يتعين عليك فيه تقديم المشورة لشخص ما بشأن المدة التي يتعين عليه الانتظار فيها، فإليك بعض المعلومات المفيدة. على سبيل المثال، إذا كنت ترسل طردًا لشخص ما، "قد يكون من المفيد المبالغة في تقدير نهاية الانتظار بدلاً من التقليل من مدة وصوله ،" كما يقول روبرتس، "حتى تتمكن في الواقع من جعل نفسك تنتظر قبل أن تشعر بهذا الشعور الشديد بنفاد الصبر". في نهاية الانتظار." قد ينجح نهج مماثل في سياقات أخرى، مثل عندما تخبر شخصًا ما عن الوقت الذي ستستغرقه العودة إليه.

يقول لي روبرتس إن النتائج الجديدة يمكن أن تكون مفيدة أيضًا لإدارة تجارب الانتظار الخاصة بك. على سبيل المثال، معرفة أن نفاد صبرك من المرجح أن يصل إلى ذروته في الدقائق القليلة التي تسبق وصول القطار الخاص بك يشير إلى أن هذا سيكون الوقت المناسب لحل   الكلمات المتقاطعة أو البث الصوتي (فقط احرص على عدم تفويت موعد الوصول).وعندما يكون هناك تحديث أو إعلان طال انتظاره وشيكًا، وليس هناك ما يمكنك فعله حيال ذلك، فقد تفكر في إعطاء عقلك لنشاط غير ذي صلة تمامًا - حتى ينتهي الانتظار أخيرًا.

(انتهى)

***

..................................

الكاتب: مات هيوستن/ Matt Huston محرر وكاتب مهتم بعلم النفس والصحة العقلية والثقافة. قبل انضمامه إلى Aeon+Psyche، كان عضوًا في هيئة التحرير في مجلة Psychology Today لما يقرب من عقد من الزمان. لقد كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع في مجال السلوك البشري، بدءًا من العلاج عن بعد إلى الإدراك الاجتماعي إلى التكاثر في العلوم النفسية.

مقالات من تحرير الكاتب على مجلة أيون:

https://aeon.co/users/matt-huston

وصلتني هذا الأسبوع ثلاثةُ أسئلةٍ، أظنُّها نموذجاً للنقاشات غير المفيدة، أي تلك التي أدعو أصدقائي الكرام للزهد فيها. لعلَّ القارئَ العزيز يذكر أنَّ مقالاتي الأخيرة تناولت مسألة الحداثة وحاجتنا إليها وبعض الفروق الرئيسية بين عصر الحداثة وعصر التقاليد. وفي هذا السياق، كتب أحدُ الأعزاءِ متسائلاً «ما هو مفهوم الحداثة الذي تقصده». وسأل آخر عن المقصود بالعصر، وهل أعني العصر في المفهوم الإسلامي أم الغربي. وتناول الثالث فكرة التقليد، ولماذا نعرضها في سياق سلبي نوعاً ما، مع أنَّ الدولَ الصناعية المتقدمة تتمسك بتقاليدها وتفخر بها.

وذكّرني هذا بأسئلة مماثلة واجهتها في أوقات سابقة، عن المقصود بالمساواة والحرية والقانون وأمثالها. بديهي أنني لا أمانع من تلقي هذه الأسئلة أو غيرها. لكنَّني أودُّ أن يهتمَّ القارئ بالموضوع المطروح للنقاش وليس الألفاظ المستعملة في عرضه. وذكَّرني هذا بمشروع لأحدِ زملاء الدراسة يتضمَّن شرحاً لديوان «أغاني الحياة» للشاعر التونسي الشهير الراحل أبي القاسم الشابي. خصَّص الزميل فصلاً من 20 صفحة تقريباً لشرح العنوان، وقد أفرط في تعداد معاني كلمةِ «أغاني» وكلمةِ «الحياة» واستعمالاتهما المنفردة والمجتمعة وتاريخ ظهور الكلمة ومواطن تَكرارها، وسياقاتِ استعمال كلمة «الحياة» في القرآن وكلمة «أغاني» في شعر العرب القديم... إلخ.

وقد علَّق الأستاذ على هذا العمل بأنَّه قليلُ الفائدة، وطلب حذفَ الفصل كله، فغضب الزميل أشدَّ الغضب، واعتبر قولَ الأستاذ إهانةً لشخصه؛ لأنَّه استغرق في هذا العمل نحو ستة أشهر. ولسوء الحظ فإنَّ غضبَه انتهى بتركه الدراسة والكتابة والابتعاد عنهما تماماً.

والذي يهمني بيانه أننا نستعمل الألفاظ والمصطلحات في السياقات المتعارفة في هذا الزمان، ولا نخترع لها معاني من عندنا، كما نتجنَّب الاستعمالات المخصوصة أو الغريبة. ولا بدَّ أنَّ القراءَ يعرفون أنَّ موضوعَ البحث وسياق الكلام يحددان المعنى الدقيقَ للفظ والمصطلح. وقد التفت أهلُ القلمِ للفارق المتوقع بين الاستعمال السياقي والاصطلاحي وبين الاستعمال اللغوي الدقيق، فوضعوا للأول عنواناً هو «الاستعمال الإجرائي» الذي يعني أنَّه يؤخذ كما يفهم في العرف السائر بين الناس أو بحسب السياق، حتى لو اختلف قليلاً عن المعنى اللغوي الدقيق.

وهذا سائر في كل العلوم واللغات كافة. ونعلم مثلاً أنَّ القرآن الكريم استعمل العديد من الألفاظ في معنى غير معناها اللغوي، وأطلق عليها دارسو الشريعة اسم «الحقيقة الشرعية» تمييزاً لها عن نظيرتها اللغوية. ونعلم أيضاً أن بعض الألفاظ تستعمل في حقول علمية عدّة، فتنصرف إلى معنى مختلف في كل من تلك العلوم.

ومثل ذلك المعاني المرتبطة بالسياق. وأذكر أستاذاً لنا كانَ يسأل مازحاً: لقد رأيت الله، فهل رأيته أنت؟ وفي بعض الأحيان كانَ يسأل الطلبة المستجدين قائلاً: يرى الفلاسفة أنَّك حيوانٌ ناطق، فهل أنت كذلك؟ وكنا ننكر تلك الأقوال في بداية عهدنا به، ثم تعلمنا أنَّه كان يقصد تحديداً إيضاح تأثير السياق والموضوع وإلزاماته.

لا يستطيع الكاتب شرح كل مصطلح يستعمله في كل مقال. ولو فعل لضاعت فكرة المقال الرئيسية. ثم إنَّه لا ضير في أن نختلفَ قليلاً أو كثيراً في تحديد معنى الكلمة، بل حتى فكرة المقال كله، فمقال الرأي هدفه إثارة الذهن، ودعوة القارئ للتفكير في المسألة المطروحة. ولو نجح الكاتب في إثارة ذهن القارئ فقد حقق غرضه كاملاً، حتى لو اتخذ القارئ موقفاً معارضاً كلياً لفكرة المقال. ليس غرضي من الكتابة إقناع القراء بأي شيء، بل مشاركتهم في التفكير وتفصيح الأسئلة التي أراها ضرورية أو مفيدة. أما النتائج فهي تخص كل قارئ بمفرده.

زبدة ما أردت دعوة القراء الأعزاء إليه، هو: كُفّوا عن الانشغال بالكلمات والألفاظ، وخذوها كما تفهمونها في النظرة الأولى، فليس المقصود غيرها، فإن تبيّن خطأها فلن تسقط السماء على الأرض. نحن نخطئ كل يوم ونكرر أخطاءنا، ثم نكتشفها فنصحح، وهذه طبيعة الحياة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كنا مقتنعين، أن تسمية «الحَشاشين»، جماعة حسَن الصَّباح(ت: 518 هجريَّة)، شوهت مِن قِبل الرَّحالين الأوروبيين، وفي مقدمتهم ماركو بولو(لويس، الحشاشون. الأمين، الإسماعيليون والمغول ونصير الدّين الطُّوسيّ)، وعلى أنهم يتخيلون الجنَّة تحت تأثير المخدر، يرونها مِن خلال الحدائق الغناء، المزروعة لهذه الغاية. ملتُ حينها إلى رأي المؤرخ حسن الأمين(ت: 2001) في «الإسماعيليون...»، مِن أنَّ الغربيين دسوا فرية تعاطي الجماعة «الحشيش»، للقيام بالاغتيال، بينما، حسب الأمين، اعتبر تسميتهم بـ«الحشاشين» نسبة لحشائش الأدوية.

لكنَّ بعد العمل في كتاب «صرعى العقائد المقتولون بسبب ديني قديماً وحديثاً»، وجدنا أنَّ جماعة عُرفت بـ«الحشيشية»، ينفذون الاغتيالات، والمؤرخ كان زيديّاً، قبل ماركو(1254-1323م)، قال: «قومٌ في تلك الدِّيار، يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينيًّا»(ابن دَعثم، السّيرة الشَّريفة المنصوريَّة). تحدث المؤرخ ابن دعثم(ت: 615 هجريّة/1218م) عن أربعة أسرى مِن «النَّزاريّة».

كذلك كان الحشيش معروفاً، بدلالة التَّحريم، وفق «زَهر العريش في تحريم الحَشيش»، لبرهان الدِّين الزِّركشيّ(ت: 794هـ)، ووجود «الجُنينة تصغير جنة، من أخبث بقاع الأرض... تعرف ببيع الحشيشة، التي يبتلعها أراذل النَّاس، وقد فشت هذه الشَّجرة»(المقريزيّ، المواعظ والاعتبار).

حتَّى قيل الشِّعر في تناولها، مع التَّوصية بزراعتها، وتبنت ذلك جماعة دينيّة: «دع الخمر واشرب مِن مدامة حيدر/ معنبرة خضراء مثل الزَّبرجد»(المصدر نفسه). هذا الوقت غير البعيد عن القرن السَّادس الهجري، أي وجود النِّزاريَّة، وممارستهم للاغتيال. كان الحشيش يستخدم مكيفاً للدماغ، وقيل عنه «في الحشيش مِن الإسكار والإفساد»(الزَّركشي، زهر العريش).

لهذا أنَّ تسمية تلك الجماعة بالحشاشين، ليست نسبة للأدوية، إنما إلى المخدر، ولا هي اختلاق أوروبي. تجدر الإشارة إلى أنّ الحشاشين تخلوا عن الاغتيال بعد جمع العقيدة الدّينيَّة السّياسيَّة والمخدر في دافع الاغتيال، واتجهوا إلى الدّعوة، العام(608هـ)، حسب مؤرخ معاصر للحدث(ابن الأثير، الكامل في التّاريخ).

إنَّ ما مِن جماعةٍ دينيَّةٍ سياسية مسلحةٍ، تمارس الاغتيال دون فتوى، أو تحت مخدر العقيدة، أو المادة المكيفة، وأخطرها عندما تمارس بيد الدّين السّياسيّ، لأنَّ التّنفيذ يكون واجباً مقدساً، فكم حاول «الإخوان المسلمون» التنصل مِن اغتيال المستشار أحمد الخازندار(1948)، حتى فضح الأمر أحد أقطابهم عبد العزيز كامل(ت: 1991)، في بحث القضية مع حسن البنا(اغتيل: 1949)، ومدبر الاغتيال عبد الرحمن السّنديّ(ت: 1962)، والسؤال: «مَن يتحمل دم الخازندار»؟ قال السّنديّ: «عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص مِن الخازندار، فرغبته في الخلاص منه»(كامل، في نهر الحياة)، ورغبة «الإمام» يعني فتوى، والبنا لدى الإخوان «الأستاذ» و«الإمام».

لم يُقتل فرج فودة(1992) إلا بفتوى، أيد تنفيذها في المحكمة الإخواني محمَّد الغزاليّ(ت: 1996)، وعندما قَدم شابٌ متطرف وغرز سكينه في عنق نجيب محفوظ(1995) كان بفتوى، فهو لم يقرأ كتاباً له، كان المنفذ مخدراً بالفتوى.

لم تغتل القوى الدّينيَّة أحداً داخل العراق، إلا بفتوى، وبينهم الثمانمئة شاب أصحاب شعار «نريد وطناً»(2019)، فالجماعات التي تنفذ متدينة بطاعة أوليائها، لا تتحرك إلا بفتاوى «جهاديّة»، ومَن يطلع على «دليل المجاهد»(1993) سيجد(213) فتوى، بينها قتل نساء، وأطفال، وتفجير قطارات، وسرقة بنوك، وتزوير عملة، وما قتلت جماعة الزّرقاوي ولا البغدادي، مِن العراقيين، إلا بفتاوى مِن قضاتهما. هذا، وخلال عملي في «صرعى العقائد...» ظهر وراء كلّ قتيل فتوى تُشرع قتله، والمنفذون مخدرون بطاعة المفتين.

أقول: إنَّ منفذ الاغتيال، لابد أنه وقع تحت تأثير مخدر: عقيدةٍ، أو فتوى، أو حشيش، مارست الاغتيال، عبر التّاريخ، سُلطات وجماعات، وكان يُعرف بـ«البيات»، ومِن عجبٍ أنَّ فصيلاً خارجيّاً قد حَرمه، قبل تخلي الحشاشين بقرون، وهم «الأخنسيَّة»، أتباع أخنس بن قيس، «حرموا الاغتيال والقتل والسَّرقة بالسِّر»(الشّهرستانيّ، الملل والنّحل).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تعرّف الهوية الوطنية، بأنها مجموعة من القيم والعادات والتقاليد  والأعراف والمُثل، التي تميز ما بين الشعوب أو الأمم عن الأخرى، كما تعد الثقافة بمفومها العام، هي بناء للشخصية، وقوة ودعم للهوية الوطنية لدى الأفراد داخل المجتمع.

ولا شك فأن الهوية الوطنية تلعب دوراً كبيراً في بناء المجتمع والدولة موحدة، لذا فهي تعتمد أو تقوم على عدة عوامل وعمليات تكون في غالب الأحيان نتيجة للتأثيرات الاجتماعية والتربوية الموروث منها وغير الموروث، بالاضافة الى ما حملت من رواسب تأريخية مضافة اليها عبر تأريخها الحضاري داخل الامة، وكذلك ما يشمل تأريخ الشعوب الأخرى من عوامل يضاف لهُويتها الوطنية في كل أرجاء العالم، فضلاً على التأثيرات القادمة من المناطق الاقليمية المحيطة للدولة جراء أختلاطها بالمجتمعات فيما بينها عبر التأريخ، وبما يترك فيها من تشكيلات، تشكل فيما بعد أضافة لعاداتها وقيمها التي ستكون جزءاً لا يتجزء منها، أو تشكل أعراف تتعارف الناس عليه فيما بعد، بعد مرور حقبة من الزمن.

إلا إن هنالك من أهم وأبرز العناصر التي تلعب دورًا في صناعة ثقافة الى الهوية الوطنية للفرد داخل المجتمع، تقف في مقدمتها، التربية والتعليم، حيث تلعب دورًا حاسمًا في بناء الهوية الوطنية، كما تتضمن هذه العملية أسلوباً من خلال توجيه الأفراد نحو قيم وتقاليد الوطن وفهم تأريخه وثقافته، فاللغة لها موقعها في بناء الهوية الوطنية، ذلك من خلال استخدام لغة مشتركة فيما بين أفراد المجتمع، فضلاً لما ترتبط من مشاعر متبادلة وفهم قواعدها، لانها أحد المكونات الأساسية للتواصل والتماسك الوطني بين أفراد المجتمع الواحد، فتعد جزء أساسي للتقارب والفهم والتواصل الذي يعمق ما يصبو اليه الانسان، أضافة لسهولة الادراك والوعي لما تطرح من مفاهيم.

أما التأريخ والتراث الوطني للدولة، فهو يساعد في تعزيز الانتماء للهوية الوطنية، ذلك أن تأريخ الأمة وتراثها يشكلان جزءًا هامًا في بناء الهوية الوطنية.

كما الحال لعبت الفنون والثقافة الشعبية بعدها المؤثر في تعزيز الهوية الوطنية، من خلال ما تعكس التعبيرات الفنية والثقافية جوانب مهمة فيها، والذي يطلق عليه بالانخراط المجتمعي والمشاركة في الأنشطة المجتمعية العامة والاجتماعية الخاصة، التي تعزز الانتماء وتعمل على توحيد الأفراد ضمن المجتمع الوطني الواحد.

أضافة الى ما يقدمه الإعلام ووسائل الاتصال من دور فاعل في نقل القيم والتقاليد الوطنية وبثها وتعزيزها للإنتماء، ومنحها قوة مضافة وترسيخ لكل المفاهيم الحقيقية التي تخدم المجتمع والدولة.

فضلاً عن إعطاءها المواطنة الفاعلة دورها الحقيقي، من خلال المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تساهم في تعزيزها، ومن الجدير بالذكر أن هذه العوامل تتفاعل مع بعضها البعض، وتختلف بآختلاف الثقافات والسياقات الاجتماعية بين مجتمع وآخر.

لقد شكلت الثقافة والتراث دورًا هامًا في تعزيز الهوية الوطنية وتمييز الشعوب عن غيرها، بما تمتلك من أرث يخدم المواطن الذي يعتز بثقافته وأرثه، وهذا ما يتاتى أيضاً من خلال الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي عند الفرد، الذي يؤثر بدوره في بناء وتماسك الدولة، فضلاً عن الخبرات الشخصية والتجارب، وهذا ما أكدته الكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية، بأن التجارب الشخصية والتجارب الحياتية لها دورها في بناء الهوية الوطنية، إذ يتم تشكيلها من خلال تفاعل الفرد مع بيئته وتجاربه الحياتية، التي تضيف رصيداً آخر في التعزيز بين الوطن والمواطنة والإنتماء، فالانتماء الاجتماعي يؤثر في المجموعات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد مهما تعددت قومياته وأديانه وأعراقه، وخلق الشعور الايجابي للإنسان  في تشكيل الهوية الوطنية، حيث يمكن أن يؤثر التفاعل مع المجموعات المختلفة على تشكيل وجهات نظر الفرد وقيمه، والاقتراب بين افراده وعدم الشعور بالدونية والاغتراب، فيدفع كل الاطراف داخل خيمة الدولة بحب الأرض أو الوطن أو الدولة التي يشعر بالزهو في أنتماء الفرد اليها.

القيم التربوية عند الإنسان

لقد أكد أغلب الدراسات التربوية والنفسية والدراسات التي تشمل علم الانسان والبيئة، إن القيم التربوية لها دور كبير في تنمية الهوية الوطنية للإنسان، فهي تبلور الشخصية وتدفع بها الى الانتماء والولاء للوطن، كما تعد التربية وسيلة لنقل القيم الوطنية والتأريخ والثقافة الخاصة بالدولة، من خلال تعريف الأفراد بالجوانب الإيجابية للدولة والإنتماء اليها، فهم يتعلمون الفخر بوطنهم والاحترام لقيمه، كما يشجع التركيز على التربية الحقة  بإحساس الفرد بالانتماء والولاء للدولة، وهذا بدوره سيعزز الروابط الاجتماعية والتفاعل الإيجابي بين ذات الفرد وما يحيطه مع الآخرين،  وبالتالي يعد الفرد جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الوطني، وهو مدعو هنا للمشاركة في تطويره وتحسينه، وهذا ما يعزز الشعور بالمسؤولية والمشاركة الفعّالة في بناء الوطن.

أضافة الى أنه يساعد التركيز على التربية الوطنية في تشكيل هوية الفرد وفهمه لمكانته والمسؤولية الملقاة على عاتقه، ويتمثل ذلك في تطوير قيمه الشخصية بما يتلاءم مع القيم الوطنية، كما يمكن للتربية الوطنية أن تدفع بالتواصل بين أفراد المجتمع الواحد من خلال فهمهم للثقافة واللغة الواحدة أو الشعور الواحد، مما يساعد ذلك في تعزيز التفاهم وتقدير التنوع الثقافي داخل الوطن الواحد. ويمكن للتربية الوطنية أن تلعب دورًا في مقاومة التأثيرات السلبية الخارجية وبناء حصانة ثقافية لدى الأفراد.

بشكل عام، يعزز التركيز على القيم التربوية، الفهم العميق للفرد لهويته الوطنية وتساهم في بناء مجتمع قوي ومترابط، قادر على مواجهة التحديات التي تعصف بالدولة، أو النيل من قيم المجتمع الأصيلة فيه أو تحريف المفاهيم والتراث، وحتى العادات التي تعارف أفراد المجتمع الواحد عليها عبر أجيال متعاقبة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بقلم: فريديريك جريمو1.

ترجمة: مراد غريبي

***

يظهر اسمه في جميع مطالب النقابات (حتى أن هناك إضرابات مخصصة له)، ويتم إنشاء علامات التصنيف للتنديد بالإرهاق المهني الذي يمكن أن يعزى إلى طالب غير عادي، والتقارير والإجازات المرضية يومية في كل مدرسة.

في قاعة المعلمين، يسمع الرثاء من مدرسة لم تعد لديها القدرة على استيعاب الطلاب ذوي الإعاقة، المصابين بالتوحد على رأس الموكب. كأس المدرسة الشاملة ممتلئ.

لذلك من المهم أن نسأل شيئين:

أولا، أن إدماج الجميع، الذي يسمح لكل طفل، بغض النظر عن اختلافه، الجلوس على مقاعد المدرسة مثل أي شخص آخر، هو أحد أفضل الأشياء التي حدثت للمدارس العامة.

ثانيا، حقيقة أن مشكلة جديدة تنشأ في العمل وأن الأمر يتطلب الابتكار والإبداع لحلها، وتجديد الذات والمهنة في هذه العملية، هو أمر جيد للعمال ومهنتهم. وعلى وجه التحديد، يشكل الإدماج نموذجا جديدا للمعلمين، ولكنه نموذج "متناقض"، استخدم مصطلح (دي جوليجاك2 وهانيك3)4.

ويستند إلى القيم الإنسانية القوية التي يحملها الأساتذة تاريخيا. تعليم جميع أطفال الأمة، ومكافحة التمييز، وعدم ترك أي طالب على جانب الطريق.. أليس هذا ما اشتركوا فيه؟ ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن هذا النموذج يضر بالمهنة بأكملها.3504 فريديريك جريمو1

لماذا وما السبب؟ بطبيعة الحال، يرتبط هذا ارتباطا وثيقا بنقص الموارد التي لا يبدو أن الحكومات وحدها هي التي تراها. كيف يمكن لأي شخص أن يتخيل تضاعف عدد الأطفال ذوي الإعاقة في المدارس إلى ثلاثة أضعاف تقريبا في عشرين عاما دون أي تمويل إضافي للتعليم، مع النظر لتخفيض عشرات الآلاف من الوظائف؟

وبدقة يتم التركيز على الوسائل. إن منع المعلمين من القيام بعمل جيد من خلال عدم تزويدهم بالموارد هو حيلة فجة وبالية (ولكنها فعالة) لتقويضهم ومؤسستهم في هذه العملية. ولكن السم يمكن أيضا أن يقطر بصمت، في قطرات صغيرة، خلال سنوات من السياسات النيوليبرالية التي انتهت ليس فقط إلى إصابة المعلمين بالمرض، ولكن أيضا جعلهم يعتقدون أن الطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة هم السبب في أمراضهم.

ومع ذلك، فإن ما هو علامة على صحة العامل الجيدة هو أولا وقبل كل شيء قدرته على القيام بعمل جيد. ويستند ذلك إلى استقلاليته الإجرائية من ناحية وإلى معنى نشاطه من ناحية أخرى. ثلاثون عاما من الإصلاحات الإدارية لم تصادر تدريجيا الخبرة المهنية للمعلمين فحسب، بل طمست أيضا معنى عملهم.

انتهى الأمر بالمدارس الشاملة إلى لعب دور حصان طروادة لهذا المنطق النيوليبرالي. اليوم، هو المثل الأعلى، رأس الحربة للمفارقات المفروضة في قلب مهنة المعلمين والتي تنتهي بدفعهم إلى الجنون والجنون. وكيف لا تكون كذلك عندما تضطر، من ناحية، إلى أن تصبح مهندسا لمدرسة يمكن للأطفال ذوي الإعاقة الوصول إليها، ومن ناحية أخرى، يطلب منك توحيد تعليمك أكثر فأكثر، وإجراء التقييمات باستمرار، وحتى قريبا لاستخدام الأساليب والأدلة المعيارية.

لا يمكن أن تكون المدرسة واحدة من الدمج في نفس الوقت مثل سرير بروكست5، ولا يمكن تمزيق المعلمين إلى أجل غير مسمى بين مثل هذه الأوامر المتناقضة ... ما لم يمرضوا جميعا أو يرفضون الطلاب ذوي الإعاقة بشكل جماعي، وهو ما قد يحدث في نهاية المطاف إذا لم يوقف أي شيء التدمير المنظم لمهنة التدريس عبر العالم.

***

29/2/2024

.............

1- مدرس التربية الخاصة، باحث في العلوم التربوية ومؤلف

2- فانسان دي جولجايك هو عالم اجتماع فرنسي وأستاذ جامعي فخري.

3- فابيان هانيك عالمة اجتماع العمل العيادي، أستاذة بجامعة باريس7.

4- لهما كتاب مشترك بعنوان: الرأسمالية التناقض. نظام يدفع إلى الجنون/ الصادر سنة 2015 عن دار ساي، باريس

5- شخصية من المثيلوجيا اليونانية

 

احيانا تصيبني خيبة عارمة أتساءل فيها لمن انا اكتب؟. وما دوري كمثقفة تجاه الجماهير؟. صحيح أننا نعيش في زمن متوحش غير مسبوق من الأنانية والافراط في التمثيل حيث استطاعت التقنيات الذكية بصيغتها الذكية أن تكون محط جذب لدى الجميع بفعالية، تمارس عليها كل اشكال الهيمنة والتحكم والاستحكام. غير اننا حقيقة نعيش في واقع غير واقعي استطاعت الجماهير خلق فضائها ومجتمعها الخاص وتشكيله. لكن ماذا لو كان كل شيئ وهم وتوهم؟

الحقيقة اليوم اننا نعيش في لحظة تاريخية مفصلية كل شيء جديد حولنا. نعم، لقد استطعنا خلق وتثبيت موطئ قدم لنا في هذه الوالم الفتوحة، لكن المشكلة هي في اننا لا نعيش في هذا العالم بشكل منصف ومتساوي بل اننا عبارة عن مجتمع مفعول به، مستهلك يصدر تاريخ من الجهل المستأنف لكن مع فارق بسيط وملحوظ، وهو أن تفاهة الجماهير اصبحت متشاركة مع الجميع وموثقة رقميا وهذه كارثة العصر.

إن هذا الواقع، هو بفعل سلسلة من العبادة الوثنية التي تطورت في وجدان الجماهير دون تفكر والتي استطونت  بحبكة اسهمت استحكاما بليغا في مطارد عقول الناس والتأثير بها عبر تقنيات واختراعات غير مألوفة بلغت حد العبادة الجديدة، لكن من نوع اكثر عنفا وتحكما وعبودية يترتب عليها تمثلات مرضية نفسية وثقافية واجتماعية تشبه الادمان بكافة مفاهيمه، بفعل غياب قوانين وثقافة ترعى هذه التحديات وإمكانية التحكم بها. فهل يستطيع اليوم احدكم الاستغناء عن جهاز التلفون الذكي لدقائق أو ساعات أو ربما شهور بالتأكيد لا لانه، قد يعاني من هوس الاكتئابي والعزلة والاغتراب.

إلى هذا الحد وصل بنا الاستحكام الممنهج بفعل مجتمعات يمارس عليها سياسة القطيع والتجارب البشرية حيث بات الإنسان عبارة عن رقم قيمته هي في الأرباح التي تجنيها الشركات العملاقة. فالسؤال البديهي الذي يفترض الجميع أن يجيب عنه هل هذا التطور خدم البشرية واراحها ام مأسس لنوع جديد من المظالم والاستعباد والعبودية والعنف غير المسبوق؟.

إن ثورة المعرفة والذكاء الاصطناعي يجب أن تريح الإنسان وليس أن تجعله يعيش في متاهات التغرب والعزلة وفقدان القيمة والهوية، وأن تنعم عليه بالراحة الاقتصادية والنفسية والفكرية والإنسانية. فأين الإنسان اليوم من كل ذلك. فالانسان اليوم أصبح مبرمجا شبه آلي ولم يستطع تطوير منهجية تخدم وقعه السياسي عبر بناء مجتمعات جديدة تختلف عما سبق من الاضطهاد والاستغلال والاستبداد والفساد عبر تحقيق العدالة المساواة والحرية.

إن ما نعانيه اليوم خطير جدا بل مدمر لان الإنسان غير قادر على تحقيق هوية تليق به بفعل التفاوت والطبقية والحروب غير المتكافئة في المعرفة وصناعة المعلومات فكل تلك التحديات تحتاج إلى استقرار وميزانيات مادية وانفتاح حضاري وفكري تؤسس لصناعة معرفة وطنية وقوانين تراعي وتحمي المواطن من كافة تلك الجرائم التي تعتري البشرية وتستبيح الخصوصية وتطارد عقل الانسان بالتفاهات والمصفوفات الرقمية التي عجز الإنسان فيها عن خلق واقع جديد بعيد عن الاستعمار والهيمنة والسيطرة ولو افتراضيا.

***

اورنيلا سكر

صحافية متخصصة في الدراسات الاستشراقية

 

الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة

إختتمت أعمال الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة (UNEA)، التي إنعقدت تحت شعار: "تحقيق الوحدة العالمية من خلال الدبلوماسية البيئية"،خلال الفترة من 26/ 2 الى 1/ 3/ 2024، في مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) في نيروبي بكينيا.

الجمعية الأممية هي أعلى هيئة لصنع القرار في العالم بشأن البيئة. تأسست الجمعية في عام 2012 بقرار من مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (ريو+ 20)، الذي عقد في البرازيل. وهي تعتبر منتدى العضوية العالمي الوحيد المعني بالشؤون البيئية على كوكب الأرض، الذي يوفر منصة فريدة لاتخاذ القرارات الجريئة والأفكار الجديدة لرسم خطة جريئة للعمل البيئي الجماعي.

تعقد الجمعية إجتماعاتها كل عامين، بهدف تحديد أولويات السياسات البيئية وتطوير التشريعات الدولية في هذا الشأن. وتتاح خلالها الفرصة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة لمعالجة القضايا البيئية الحرجة التي تواجه كوكب الأرض، بشكل جماعي.

وقد بدأت الجمعية منذ إنشائها حقبة جديدة من التعددية يولى فيها الاهتمام للقضايا البيئية بنفس مستوى الاهتمام الذي تحظى به القضايا العالمية الرئيسية الأخرى، مثل السلام والأمن والصحة.

ووافقت الجمعية خلال السنين المنصرمة على قرارات مهمة بشأن موضوعات مثل مكافحة الاتجار غير المشروع بالحياة البرية، وحماية البيئة في مناطق النزاع المسلح، والتنقل الحضري المستدام، من بين أمور أخرى.

ونتيجة للمناقشات التي جرت في دورة جمعية البيئة لعام 2022، بدأت المفاوضات بشأن أول صك دولي ملزم قانونا لإنهاء التلوث البلاستيكي، والذي من المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية عام 2024.

عستضافت الدورة السادسة، برئاسة رئيستها د.ليلى بنعلي، وزيرة الأنتقال الطاقي والتنمية المستدامة المغربية، عددا قياسيا من المندوبين، بلغ نحو 6 آلاف، بما في ذلك 7 رؤساء دول و139 وزيرا ونائب وزير، بالإضافة إلى خبراء وناشطين وممثلي الصناعات المختلفة.

وركزت الدورة على الكيفية التي يمكن بها لتعددية الأطراف أن تساعد في معالجة الأزمة الكوكبية الثلاثية المتمثلة في تغير المناخ، وفقدان الطبيعة والتنوع البيولوجي، والتلوث والنفايات، بهدف المساعدة في استعادة الانسجام بين البشر والطبيعة، وتحسين حياة الأشخاص الأكثر ضعفاً في العالم ومن خلال القيام بذلك، ستدعم الدورة السادسة للجمعية تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وستتيح، بدعم من العلوم القوية، والتصميم السياسي، والمشاركة مع المجتمع، فرصة لحكومات العالم، ومجموعات المجتمع المدني، والمجتمع العلمي، والقطاع الخاص، لتشكيل السياسة البيئية العالمية.

وتمحورت الدورة السادسة حول أهمية الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف في التغلب على الأزمة العالمية ثلاثية الأبعاد والمتمثلة في الفوضى المناخية وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث.

وعلى الرغم من حالة عدم اليقين الاجتماعي والاقتصادي التي نشأت في أعقاب جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية المتزايدة الحالية، تميز العامان الماضيان بانتصارات مهمة للغاية للتعاون البيئي .فعلى سبيل المثال، عام 2022، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بحق الإنسان العالمي في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، مما فتح المجال لإجراء تغييرات دستورية وقانونية على المستوى القُطري لصالح البيئة والإنسانية.وفي العام نفسه، تمت الموافقة على إطار كونمينج - مونتريال التاريخي للتنوع البيولوجي العالمي، والذي يتضمن تدابير لحماية مليون نوع من الحيوانات والنباتات التي هي على وشك الانقراض. وفي حزيران 2023، وقعت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة على ما يسمى بمعاهدة أعالي البحار، للحفاظ على التنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج نطاق الولايات الوطنية. وفي تشرين الثاني 2023، تم الإعلان عن اتفاق طال انتظاره بشأن تمويل "الخسائر والأضرار" للبلدان الضعيفة المتضررة بشدة من تغير المناخ في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بدبي (كوب 28).

وخصصت الدورة السادسة للجمعية يوما لمناقشة هذه النجاحات وغيرها، والنظر في الكيفية التي يمكن بها للحكومات اتخاذ إجراءات واسعة النطاق وموحدة، بما في ذلك التمويل الكافي، لتنفيذ الاتفاقيات متعددة الأطراف التي وقعتها. وفي الوقت نفسه، ستركز الدورة السادسة على الالتزامات الجديدة وعلى الوفاء بجميع الالتزامات القائمة بالفعل.

لقد حددت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إنغر أندرسن المجالات الستة ذات الأولوية في الدورة السادسة للجمعية ، وهي ندرة المياه، والتعدين المسؤول، وإدارة المعادن - وخاصة الفوسفور، والتكنولوجيات التي تغير المناخ، وتمويل الإجراءات البيئية، وتنفيذ إطار كونمينغ - مونتريال.وقالت:"كل ما يتعين علينا القيام به هو أن نجتمع وننفذ هذه الحلول العالمية التي وعدنا بها بعضنا البعض حتى نتمكن من تأمين المستقبل للبشرية جمعاء، والعيش على كوكب صحي ومزدهر".

وركزت المفاوضات قبل وأثناء الجمعية على القرارات المقترحة التي قدمتها الدول الأعضاء والإعلان الوزاري الذي سيتم اعتماده في ختام الجمعية. وتهدف القرارات إلى تحديد وترتيب أولويات التحديات المشتركة والحلول الممكنة. كما أنها تحدد مجالات العمل ذات الأولوية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وجاء في التقرير المقدم للجمعية:يعلم الجميع جيدا أننا نعيش أزمة كوكبية متفاقمة: تتمثل في أزمة تغير المناخ، وأزمة فقدان الطبيعة والأراضي، وأزمة التلوث والنفايات.، التي تلقي بظلالها على كل شخص يعيش على هذا الكوكب، بغض النظر عن الجنسية أو اللون أو العقيدة أو الجنس.والمطروح على الدورة السادسة ضمن الحلول والمعالجات مناقشة 20 قرارا ومقررين، تتطرق لموضوعات مثل تعديل الإشعاع الشمسي، والتعدين، والتصحر، ودورية الصناعة الزراعية لقصب السكر، والمبيدات الحشرية شديدة الخطورة، وزيادة قدرة النظم البيئية والمجتمعات المحلية على مواجهة الجفاف، والتعاون الإقليمي من أجل جودة الهواء، من بين أمور أخرى.

وكذلك القرارات التي يمكن أن تسرع الانتقال إلى الوصول إلى مستوى انبعاثات صفري صاف. وتحسين نوعية الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه. والإعداد لإدارة المحيطات والبحار لمواجهة التهديدات المقبلة. وبناء قدرة الناس على الصمود في مواجهة الجفاف. ودعم الجهود الدولية لإصلاح الأراضي المتدهورة.

وهناك قرارات من شأنها أن تعزز الإجراءات المتعددة الأطراف لمعالجة الظلم المناخي. وقد أطلق العنان لمحادثات عالمية حول التقنيات الناشئة التي ستزود الدول بالعلم والحكمة لاتخاذ الخيارات الصحيحة لصالح الناس والكوكب. وساعدت في نشر ثقافة (استخراج- وتصنيع- وهدر) الموارد التي تمثل القلب الملتوي لأزمة الكوكب الثلاثية - كما تم تسليط الضوء عليه في تقرير توقعات الموارد العالمية لعام 2024 الصادر عن الفريق الدولي المعني بالموارد.

وتأمل قيادة الجمعية وضع الخلافات السياسية جانبا.وقد حان الوقت للتركيز على حماية هذا الكوكب الأزرق الصغير الذي يعج بالحياة. وحان الوقت للتركيز على هدفنا المشترك: الطريق نحو مستقبل مستدام وآمن، يمكننا من خلاله اتخاذ قرارات سليمة وآمنة. ويمكننا أن نفعل ذلك من خلال الاتفاق على القرارات المعروضة لتعزيز العمل المتعدد الأطراف اليوم وغداً، وتأمين العدالة والإنصاف بين الأجيال.

وذكُرت القيادة المشاركين: لقد نجحت الروح التي يتحلى بها الجميع في نيروبي، مراراً وتكراراً، في تحقيق تعددية الأطراف في مجال البيئة. وقبل عامين، أصدرت هذه الجمعية قراراً تاريخياً بإطلاق المفاوضات من أجل التوصل إلى وضع صك عالمي بشأن التلوث بالمواد البلاستيكية، وهي العملية التي ينبغي اختتامها هذا العام. لقد قدمتم للعالم جرعة أمل كان في أمس الحاجة إليها. ولقد أظهرتم للعالم أن تعددية الأطراف العالمية في مجال البيئة ما زالت متاحة. إنها طريقة ناجعة. وهي متواجدة لتبقى.لذا، المطلوب اليوم الإتحاد مرة أخرى والتوصل إلى قرارات قوية، قرارات يمكن أن يكون لها تأثير حقيقي. وهذا يلبي احتياجات ملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل تحت وطأة ازمة الكوكب الثلاثية. وهذا يدعم الأسس البيئية التي سيرتكز عليها مستقبل يتسم بالسلم والعدل والاستدامة.

وكتبت انغر أندرسن: لا يمتلك العالم قائمة مهام بيئية فحسب، بل يمتلك قائمة حتمية من المهام البيئية التي يجب الاضطلاع بها – في سنة 2024 ولعقود قادمة من الزمن.فيجب علينا أن نبطئ من وتيرة تغير المناخ ونتكيف معه، ونحمي الطبيعة والتنوع البيولوجي ونعمل على إصلاحهما، ونوقف تدهور الأراضي والتصحر، ونقضي على التلوث والنفايات. وإذا ما اضطلعنا بذلك على النحو الصحيح، فسنتمكن من بناء مستقبل يفيد غالبية الناس وليس القلة فحسب، على النحو المنصوص عليه في أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.

وإختتمت: لذا يجب علينا جميعا، في الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة، أن نسعى جاهدين لإيجاد استراتيجيات جديدة لتنسيق غرف القيادة. دعونا نتعلم من بعضنا البعض ونطبق دروس الماضي على المستقبل. ولنبدأ بالوفاء بالالتزامات العديدة التي من شأنها أن تحافظ على سلامة كوكبنا وتجعل الإنسانية في أتم صحة وعافية.

***

د. كاظم المقدادي

شذرات من خواطر عبد الله العروي لسنة 1968

الحرية أساس النماء والتفوق الذاتي والوطني والجهوي والحضاري. سرعة حركية المعلومة والفكرة العلمية بين الأفراد والجماعات، في سياق مجتمع مؤسساتي مسؤول ومنفتح يضمن ترسيخ الخلاصات في الأذهان، تقوي التماسك بين أفعال وسلوكيات الشعوب والمعارف المتنوعة وتطور التكنولوجيا والعلوم المختلفة. إنها خلاصة أطرحها للنقاش مستحضرا شذرات من كتاب التاريخاني عبد الله العروي "خواطر الصباح، يوميات (1967 – 1973)". فما ترتب عن الثورات الثقافية الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، إضافة إلى ما تجسد من وضوح تام في التعاطي مع مفهوم القطيعة المنهجية والإبستمولوجية مع تراث الماضي، أفرز نموذجين حضاريين غربيين متباينين: النموذج الأمريكي والنموذج الأوروبي. لقد رصص الأمريكان الأسس المعرفية والثقافية الضامنة لاستمرارية تفوقهم العالمي في مجمل القطاعات الحيوية. لقد صقلوا التراث الحضاري البريطاني متجاوزين إياه في كل المجالات. التربية والتكوين والتنشئة بالولايات المتحدة الأمريكية تخضع لشروط الجودة العليا وقوة ارتباطاتها بالدرابة اليدوية والمعرفة الثقافية ووفرة الإنتاج المادي والاطلاع الواسع بالقانون وثقافة تدبير الشأن العام. لقد أكدت صفحات التاريخ أن ما ورثته المجتمعات العربية عامة والمجتمع المغربي خاصة من الدول المستعمرة، لم تتحول إلى فرص سانحة لتسريع تحقيق النماء على أساس نجاعة فعل الموارد البشرية والرفع من مستوى تفاعلها مع الطبيعة بإمكانياتها وقواها، وما تستدعيه من كشوفات علمية وتقنية للسيطرة عليها وسبر أغوار أسرارها.

الأمريكيون، يقول العروي (ص 45)، يتكلمون كما يتنفسون (كلام ديمقراطي) وبدون تمتمة الإنجليز المصطنعة (كلام أرستوقراطي). الطلبة الأمريكان غير معتادين على "التصميم". وأضاف أنه ليس مقتنعا بأن الطريقة الكلاسيكية التي يفخر بها الأوروبيون، والتي ورثناها نحن المغاربة المحدثون عن الفرنسيين، هي المثلى. نعم، يبرر العروي، إن "التصميم" يفرض أحكاما مسبقة، وإنه يحد من حرية التفكير. قلما نجد عند الطالب الأوروبي، وبالأحرى العربي، تلك العفوية التي نلمسها عند الأمريكي. كلما ضعف مستوى الحرية، كلما زادت حدة التمتمة في النقاشات والجدالات والمبالغة في "تصميم" الخطابات السياسية والإفراط في النفاق الاجتماعي والثقافي، وكلما توسعت الهوة بين العقلين النظري والعملي ....

وللتعبير على المفارقات السالفة الذكر، قدم العروي ما وقع للطيفة زوجته في أمريكا: "هذا الصباح طرقت لطيفة باب مكتبي وهي في غاية الاضطراب. قالت إنها كانت تقود السيارة في طريقها إلى الجامعة والمطر يتهاطل بغزارة. شعرت أنها اصطدمت بشيء، لكنها لم تعرف ماذا بالضبط. فضلت أن تلحق بي في الحال وتخبرني بالحادث. قالت إنها لا تعتقد أن أحدا رآها إذ بدت لها الطريق فارغة تماما. هدأت روعها وطلبت منها أن تذهب في الحين عند الطبيب ليكشف عن حقيقة حالها. بعد نصف ساعة تقريبا حضر شاب قال إنه طالب في الجامعة وإنه صاحب السيارة. كيف توصل إلي؟ هذه هي لوس أنجلس! هذه هي أمريكا! تظن أنك وحيد في صحراء ثم تكتشف أن كل ما تقوله يسجل وما تفعله يصور. اللافت للانتباه هو أن هذا الطالب الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة كلمني بهدوء ورصانة كما لو كان محاميا محنكا. قال إنه لا يود أن يذهب إلى القضاء إذ لا يليق بطالب أن يقاضي أستاذا رغم أن المخالفة تعد من أخطر المخالفات في أمريكا. وشرع يحكي ما حصل لبعض من غادروا مكان الحادث وكيف أدى بهم ذلك إلى الإفلاس. وأخيرا اقترح علي أن نتفاصل على أساس أن أتحمل تكاليف إصلاح سيارته وتعويضه على مصاريف النقل أثناء عملية الإصلاح. قال هذا وهو مقتنع أنه يحسن إلي".

تعقيبا على هذا الحدث، دعانا العروي أن نقارن بين التربية التي أدت إلى هذا التصرف وتربيتنا نحن إذ نجد الشاب فوق العشرين لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا مصحوبا بأحد أقاربه. وأضاف: "قبل الحماية كان ابن السابعة عشر يغامر لأنه كان يعرف قواعد المجتمع. كانت تربيتنا ملائمة للواقع. ثم جاء الاستعمار فأقصى المغاربة عن المجال العمومي. حاصرهم في بيوتهم أو بيوت الله فأصبحوا كلما تخطوا عتبتها يواجهون عالما غريبا عنهم يجهلون قواعده. هذا هو أصل العجز المتمكن في نفوسنا".

تعبيرا على جودة التعليم الأمريكي، تطرق العروي في نفس الكتاب لطبيعة العلاقة بين المتعلم والأستاذ: " لا يسجل بين قائمة المستمعين إلا من له اهتمام حقيقي بالموضوع. الطالب هناك كالمشاهد في قاعة العرض، أدى ثمن المقعد فينتظر أن يستمع إلى محاضرة شيقة. ينصت، يتفهم، لا يضيع أية دقيقة إذ الدقيقة ثمينة..... الأستاذ في أمريكا يحضر كل يوم عمل إلى مقر الجامعة – الدراسة مكلفة – لا يضيع وقتا يساوي مئات الدولارات. يلح أن يكون الأستاذ تحت اليد كلما احتاج إلى إرشاده (العادة: الأستاذ يترك باب مكتبه مفتوحا)".

الفجوة بين تطور الحضارتين الأمريكية والأوربية تتفاقم. على لسان لطيفة يقول العروي: "لا وجه للمقارنة بين الطبيب الأمريكي والطبيب الفرنسي. لا ينحصر امتياز الأول في جودة التجهيزات بل يتعلق أساسا بالعناية. تتكلم طويلا عن حرارة الدكتور ديغنم وعن برودة واستعلاء فيلي الفرنسي الذي لم يستطع إنقاذ نعمان". الوضعية الصينية والروسية والهندية تحتاج إلى تعميق البحث والتأمل. جهود بناء الحداثة بالمغرب بتراكمات السياسات والبرامج الرامية إلى عصرنة مؤسساته واقتصاده تكتسب يوما بعد يوم شرعية نعتها بالخصوصية مقارنة مع الدول العربية والإفريقية (تنامي القدرة على الندية في العلاقات الدولية). تواكل عدد كبير من الأفراد واعتمادهم على الوساطات في استغلال التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيات الحديثة والمعلوميات للاستفادة من الخدمات العمومية والخاصة تثير نوعا من القلق. المواطن يقاوم بشكل لاإرادي عروض تقوية مواطنته، مفضلا المكوث في وضعية الرعاية. عدد كبير من الفاعلين في القطاعين الخاص والعام (إخواننا وأخواتنا وأصدقاؤنا وأقربائنا ...) يقاومون إرادة التغيير لما يجنون من وضعية الجمود من منافع غير مشروعة. الآليات التكنولوجية والمنظومات المعلوماتية أوعية زاخرة بمقومات الحداثة ودعامات تقوية المواطنة في التعبيرات السلوكية للمواطن. المغرب يحتاج إلى ناخبين من نوع جديد لخلق المنطق التنموي المطلوب لإنتاج النخب على أساس الكفاءة والنجاعة والشفافية.

علينا اليوم، كمغاربة، أن نصرخ بكل ما نملك من قوة في فضاء الغربان التي تنعق فوق رؤوسنا متوقعين نهايتنا. علينا أن نردد على مسامعهم: نحن ذوات لا تحتضر، عزائمنا تتجدد، فلا تنتظرون رحيلنا عن تراب وطننا أو التفريط ولو بشبر من ترابه. الآفاق المغربية واعدة وعلى المغاربة طلب الكلمة.

***

الحسين بوخرطة

"أيّها الأثينيّون لقد حكمتم عليّ بالإعدام وهذا لا يحزنني بل يُسعدني لأنني انتصرت على أعدائي. أفضل أن أموت حراً على أن أعيش عبداً...". سقراط

1- مقدمة:

يعد سقراط (469-399) مَعْلماَ في تاريخ الفلسفة بعامة والحكمة الفلسفية في اليونان بخاصة. ويعد واحدا من أكبر أساطنة الفلسفة القديمة في بلاد الإغريق القديمة. ولد سقراط في أثينا حوالي 470 ق.م من أب يحترف مهنة النحت ومن أم تمتهن حكمة النساء (مولدة للنساء). عمل في البداية في مهنة النحت ثم تركها ليشتغل في الحكمة والفلسفة (1).

يقول آدير إنه عندما كان سقراط في أواسط عمره كان يمتلك بين كتفيه رأساً كرأس الإله الأسطوري ساتير ذي الذيل الطويل وأذني الفرس (إشارة إلى العظمة والنبوغ)، ويقال إن أنفه كان أفطس، فيه فتحتان شديدتا الاتساع، وله عينان متقدتان كعيني الحدأة، وشفتان غليظتان، وكان كرشه ضخما يهتز أمامه عند المسير. ولم يكن سقراط من طراز الناس المتبجحين الذين تستهويهم المظاهر، فلقد كان يرتدي ثيابا بسيطة، وينتعل في العادة حذاء قديما عفا عليه الزمن.

كان سقراط كما يبين آدير قبيح المنظر، قصير بدين دميم، بارز العينين كبير الأنف في قبح، واسع الفم بالي الثياب، ولكن الله أراد لهذا الجسد أن يكون مسكنا لعقل إنساني متفرد وروح ذكية قوية جميلة. فلم يكن يضاهي قبح جسده إلا جمال نفسه ورجاحة عقله وقوة شكيمته وصدق أخلاقه ونبل شجاعته. ومع كل ما منحه الله لسقراط من ذكاء وعبقرية إلا أنه كان يعلن أنه لا يعرف شيئا وأنه ليس حكيما ولكنه فيلسوف محب للحكمة فكثيرا ما قال: "أنا أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا " (2).

وقد عرف عن سقراط ولعه الشديد بالحوار فكان يجوب طرقات المدينة ويغشى ساحاتها في طلب الحوار والجدل مع العامة والخاصة من الناس لا يوفر أحدا البتة. وكان في حواره هذا يبز جميع خصومه من مفكرين وعلماء وحكماء وسوفسطائيين حتى ذاع صيته وطبق الآفاق. وقد ألب على نفسه الطبقة العليا في أثينا لأنه كانت يمقت هذه الطبقة ويحتقرها لما تجره على الشعب من ظلم وقهر وويلات. واستطاع خصومه من المفكرين والسياسيين أن يوجهوا إليه تهما عديدة باطلة أهمها: أنه يكفر بآلهة المدينة ويدعو إلى آلهة جديدة ويفسد عقول الناشئة والشباب.

وكان رهط من تلاميذ سقراط يلتفون حوله ويلازمونه وكأنهم ظلاله، ومن أشهرهم أفلاطون وزينوفون، مفتتنين بذكاء المعلم ومأسورين بشخصيته الكاريزمية المؤثرة وذكائه المفرط. وأصبح يطلق على هذه الجماعة التي استسلمت طواعية لسحر شخصية سقراط اسم "السقراطيون"، وكان من أهمهم أفلاطون الذي قال في سقراط، بعد أن بلغ في فكره الفلسفي شأوا كبيرا: "من بين كل الرجال الذين قابلتهم في حياتي، كان سقراط الأكثر حكمة واستقامة".

كان سقراط تاعسا مع زوجته، ويقال إنه شاهد امرأة تحمل نارا فقال نار تحمل نارا والحامل شر من المحمول ". وكان كسولا لا يصلح لشيء في نظرها، وقد أهمل زوجته وأولاده أيضا ولم يستطع أن يوفر لهم الكريمة. ومن الصعب معرفة الطريقة التي كان يحصل فيها سقراط حياته، فهو لم يعمل في حياته في مهنة ولم يتقاض أجراً على التعليم الذي كان يقوم به، وكان يأكل عندما يدعوه تلامذته لتناول الطعام على موائدهم.

وكان سقراط بطلا محاربا شجاعا تشهد المعارك التي خاضها على بسالته وشجاعته وحسن تدبيره. وقد عرض نفسه مرارا عديدة للخطر وأنقذ حياة القائد الأثيني " السيبيادس" في المعاركة بعد أن اخترق صفوف الأعداء الداخلية (3 ).

وقد قدم سقراط إلى المحاكمة بتهمة الإلحاد وإفساد عقول الشباب ، ورفض سقراط أن يلتمس عفوا من المحكمة التي أدانته بالإعدام وشرب سم الشكران. وكان سقراط يستطيع أن يحصل على البراءة ولكنه سخر من قضاته وسفههم كما أنه كان يستطيع الهرب من سجنه بمساعدة تلامذته ولكنه رفض كل ذلك وقام بإعدام نفسه على خلاف العادة إذ هو من طلب السم وتجرع كأسه حتى آخر قطرة منه ومات وهو يبتسم بين تلامذته وأصدقائه الذين كانوا يجهشون ببكاء مرير على أستاذهم الكبير. ويعدّ سقراط أول شهيد للعقل والفلسفة في تاريخ الإنسانية ولذلك أطلق عليه شهيد العقل وأطلق على إعدامه " مقتل العقل " وقد أدينت ديمقراطية أثينا تاريخيا بإقدامها على هذه الجريمة الكبرى بحق الفلسفة. ونال سقراط بمقتله خلودا فكريا وفلسفيا ينقطع نظيره. فالطريقة التي أعدم بها جعلته بالإضافة إلى ما هو عليه أشبه بأسطورة للفلسفة والعقل والذكاء والحكمة. " هكذا مات سقراط وحفر موته إلى البد في ذاكرة الأجيال ذكرى شخصيته المدهشة "(4).

ويعود الفضل لسقراط في القضاء على الحركة السوفسطائية، وتحرير الوعي اليوناني من الإرباك والتشويش والاضطراب في الرؤية الذي نشرته تلك الحركة. وقد افتتح سقراط بفلسفته مرحلة جديدة في ازدهار الفلسفة اليونانية، ومهّد لتلميذه أفلاطون تطوير هذه الفلسفة إلى آفاق جديدة، انتهت إلى ذروتها على يد تلميذ الأخير أرسطو.

2- سقراط فيلسوفا:

اقر سقراط المبدأ السوفسطائي بأن " الإنسان مقياس الأشياء" وما دام الأمر كذلك فيتوجب على الإنسان أن يعرف نفسه وعلى هذا الأساس أطلق سقراط شعاره المشهور "أيها الإنسان اعرف نفسك" وهو الشعار الذي نجده مدونا على معبد دلفي المشهور. وفي هذا الأمر يقول شيشرون بأن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وحول النظر عن البحث في الطبيعة إلى البحث في الإنسان نفسه" وهكذا اتجهت الحكمة السقراطية للبحث في ماهية الإنسان بدلا من البحث في مظاهر الحياة الإنسانية.

كان بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين يرى بأن المعرفة تتكون من إحساسات أما سقراط فعلى خلاف ذلك كان يعتقد بأن المعرفة تتكون من إدراكات كلية أي من أفكار ومعان صحيحة يقرها الناموس الكوني في الإنسان ، ورفض أن تكون المعرفة خاضعة لمجرد إحساسات فردية مختلفة لا يحكمها قانون ولا ينظمها كيان معرفي محدد وواضح. ومن هذا المنطلق فإن سقراط يرى أن المعرفة كامنة في النفس كمون النار في الحجر وأن هذه المعرفة كلية شمولية تحكمها قوانين ونواميس عامة لا تغاير فيه بين البشر. وهذا يعني أنه يرفض هذه النسبية المطلقة التي يبحثها ويقرها السوفسطائيون ويقر بوجود حقائق كونية ثابتة تسجل حضورها في كل زمان ومكان.

لقد رفض سقراط البيان السفسطائي الذي يعتمد على محاججات لفظية قوامها التلاعب بالألفاظ والكلمات وتشويه الحقائق. وعمل على بناء المفاهيم العلمية التي تنتظم في أنواع وأجناس وعمل على تحديد هذه المفاهيم تحديدا يمتنع عليه الخلط والتداخل مع بعضها البعض وذلك من أجل بناء الحقيقية التي تمتنع على التزييف والتحريف والدجل السفسطائي المعروف

ومن جهة أخرى أقر سقراط مبدأ توأمة المعرفة والفضيلة فالفضيلة معرفة وكذلك المعرفة فضيلة بذاتها. فالمعرفة هي التي توجه الإنسان إلى الفضيلة ومن غير المعرفة تصبح الفضيلة فعلا بهيميا لا قيمة أخلاقية فيها. فالمعرفة هي التي تكسب الفعل الإنساني خاصته الأخلاقية ومن غير معرفة يستحيل أن نتحدث عن فضيلة أخلاقية(5 ).

أراد سقراط أن يصلح ما أفسده السوفسطائيون وأن يعيد إلى العقل ثقته بالحقيقية والفضيلة. فالسوفسطائيون كانوا يرون بأن النفس شهوة وهوى أما سقراط وعلى خلاف ذلك كان يرى أن الإنسان روح وعقل يسيطر على الحس ويعقله. وبالتالي فإن الإنسان بوصفه كينونة عاقلة يبحث عن الخير والفضيلة ويستلهمهما وهو وفقا لهذه الطبيعة العاقلة يرفض الرذيلة والخطيئة. فالجهل بذاته يولد الخطيئة والرزيلة أما المعرفة الحقة فهي التي تولد فينا حي الخير والسعي إليه.

فالقوانين كما يراها سقراط عادلة؛ لأنها صادرة عن العقل، ومطابقة للطبيعة الحقة، وان ما في العقل من القوانين هي صورة لقوانين إلهية غير مكتوبة بل مرسومة في قلوب البشر، فمن يحترم القوانين كما يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان يريد الخير دائماً ويرفض الشر. وعنده أن الفضيلة علم، والرذيلة جهل، أما الدين فهو تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية.

آمن سقراط بالخلود، وان النفس متمايزة عن الجسد، ولا تفسد بفساده، بل إنها تخلص منه بالموت، لأنه سجن لها، وتعود بعد ذلك إلى طبيعتها الصافية. لقد أحدث سقراط تأثيراً هائلاً في الحياة العقلية عند أهل أثينا، مما أدى الى حنق بعضهم عليه، فلفقوا له اتهاما بإنكار الآلهة الشعبية، وإفساد عقول الشباب، فَحُكِمَ عليه سنة 399 ق.م بتجرع السم، وقضى بعد أن تجرع سم الشوكران.

ولم يسجل سقراط تعاليمه في كتب أو مصنفات أو مذكرات. بل كان يحاور الناس في الطرقات وفي المحافل العامة وفي كل مكان يمكن أن يجتمع فيه الناس. وكان السؤال لديه فنا ومحاورة ومنهجا.

3- منهج سقراط أو الحوار السقراطي:

ما قدمه سقراط للإنسانية يتمثل في عبقرية المنهج وفي فن الحوار الفلسفي. فإليه يعود الأصل في منهج التفكير المنظم الحكيم الذي يولد الحقائق ويفجر المعرفة في عقل الإنسان. ويأخذ منهج الحوار الفلسفي عند سقراط مرحلتين متكاملتين تقتضي إحداهما الأخرى في عملية توليد المعرفة وتفجير ينابيعها. ويطبق على المرحلتين مرحلتا التهكم والتوليد. وقد قيل عن منهجه بأنه منهج الثعلب وفن الوصول إلى الحقيقية باكتشاف التناقضات في قول الخصم.

أولا: مرحلة التهكم:

تتمثل هذه المرحلة في فن التساؤل السقراطي وعبقرية الكشف عن التناقض في قول الخصم. ويطلق على هذه المرحلة بمرحلة المخاض التي تسبق وتمهد لمرحلة التوليد، في هذه المرحلة يطرح سقراط أسئلة عدة على مخاصمه متصنعا الجهل بها، ويتظاهر بتسليم ما يتضمنه قول محدثيه، ثم يلقي الأسئلة تباعا وهي أسئلة تجترح نفسها من مواطن التناقض والضعف في قول الخصم. وهو في هذه العملية ينتقل من قول إلى سؤال لازم منه ومن فكرة إلى فكرة أخرى حيث يدفع الخصم إلى تيهٍ من المعلومات المتضاربة المتناقضة فيوقع خصومه في التناقض والحيرة والدهشة والإحساس بالضعف والجهل والضياع وعدم القدرة على تنظيم الأفكار وتحقيق التساوق والانسجام بين جوانب القول والتفكير. وعندها تأتي اللحظة التي يعترف فيها الخصم بضعفه وجهله وعدم قدرته على امتلاك الحقيقية هذه التي يبحث عنها سقراط ويولدها. وتهدف هذه المرحلة إلى تحرير العقل من المعرفة السوفسطائية الناقصة وهي ما يطلق عليه العلم الزائف، ومن ثم إعدادها لقبول الحقيقية.

ثانيا: مرحلة التوليد:

المرحلة الأولى ن مرحلة التهكم، إعداد وتهيئة لمرحلة التوليد، وقد أطلق على المرحلة الأولى مرحلة المخاض التي تصيب المرأة بالإعياء والوهن أثناء الولادة حيث تسلم نفسها للداية لتساعدها في عملية الإنجاب. وفي مستوى المنهج فإن الخصم يصاب بحالة من الوهن والإعياء ويقر بضعفه وزيف معرفته. وعند ذلك يتدخل المعلم الحكيم سقراط ليعيد له تصنيف الحقائق وترتيبها وتوليدها في أعماق الخصم فيكشف له عم طبيعة التناقضات التي وقع فيها ثم يحررها من هذا التناقض ويعيد صقلها من جديد لتخرج في حلة معرفية جديدة سقط منها صدأ التناقض وزيف المعرفة. وباختصار في هذه المرحلة يساعد سقراط خصمه على التبصر والنظر والكشف وامتلاك الحقيقية ناصية الحقيقية وهذه هي مرحلة توليد الحقائق. فالتوليد هو استخراج الحق من النفس وكان سقراط يقول في تثمين هذا المنهج أنه كان يمارس مهنة أمه وكانت قابلة (مولدة النساء) ولكنه يولد الحقائق الكامنة في عقول الرجال.

4- التربية عند سقراط:

وهب سقراط التربية منهجا في العمل والتفكير والتكوين. وفي منهجه هذا يعلمنا كيف تصنع الحقائق وكيف ترتسم القيم وكيف تتفجر المعرفة في عقول الأطفال والناشئة عبر الحوار التربوي. وليس غريبا أبدا أن يكون منهج سقراط أحد أركان التربية الحديثة وقد أطلق عليه المنهج الحواري التوليدي أو المنهج السقراطي الذي يعتمد في تحرير عقول الأطفال من دائرة الجمود التي تفرضها المناهج التقليدية التي تعتمد على التلقين والاستظهار والجمود في تكوين العقل. وليس غريبا أيضا أن نجد مفكرا ثائرا مثل باولو فرايري ينادي بهذا المنهج السقراطي في كتابه المشهور " تعليم المقهورين ". اهتم سقراط بالتربية وكان مربيا بمنهجه وتعاليمه وحواره ودعوته إلى الفضيلة.

لقد أثر سقراط في التربية تأثيرا شمل المضمون والطريقة:

1- لقد أعطى سقراط للتربية مضمونها الأخلاقي وربط بشكل جوهري بين المعرفة والفضيلة. كما أنه أكد على هذه المعرفة التي تتوغل في أعماق الإنسان بدعوته التي لا تنقطع للبحث في النفس ومعرفة النفس بوصفها أشرف المعارف واسماها.

2- أما فيما يتعلق بالمنهج فإن المنهج العقلي الذي قدمه سقراط للإنسانية منهج تربوي بمعالمه وخطواته وغاياته. فهو المنهج الذي ينمي العقل ويفجر المعرفة ويسقط عن العقل صدأ الجمود ويحرر العقل من الترويض والوقوع في مصائد الجمود والتلقين.

3- كان سقراط يعتقد أن الأهداف الحقيقية للتربية تكون في تنمية عقل الفرد وصقل قواه العقلية وتمكينه من التفكير منهجيا في مختلف جوانب الحياة المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق اليقينية.

ومما لا شك فيه أن منهج سقراط والأهداف التي يعلنها ما تزال حتى اليوم غاية تنشدها التربية الحديثة التي ما زالت تعاني وتعاني من الطرائق التربوي الجامدة الساكنة التي تميت العقل بدلا من أن تحييه وتسطح المعرفة بدلا من أن تجعلها أكثر عمقا.

ومهما قيل في فضل سقراط على التربية وعلى الفلسفة فإن القول لن يفيه حقه. ويكفيه أنه أنجب للإنسانية عقلا فريداً فذاً عبقريا خالداً وهو عقل تلميذه الخالد أفلاطون مؤسس التربية المثالية. ويكفي سقراط فخرا أنه كان أول من رفع الشعار الفلسفي " أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" فدعا إلى عمق المعرفة الذي يتمثل في النفس الإنسانية، ويكفيه أنه أول من أعطى للمعرفة طابعا أخلاقيا، ويكفيه أيضا أنه حرر العقل الإنساني من أباطيل النسبية التي أسس لها السوفسطائيون. وفوق ذلك كله يكفيه أنه أول من سطر منهجا عقليا فلسفيا يتسم بالقدرة على بناء المعرفة وتطويرها.

5- خاتمة:

معظم النظريات تأفل مع الزمن وأكثرها يذوب في ثناياه، ولكن بعضها يومض ويزداد توهجا مع استطالات الأيام وتعاقب الأزمان. وها هو سقراط بفلسفته وشموخه الأخلاقي وعبقريته الفلسفية يتوهج دائما في كل عصر ويكبر مع الأيام ويزداد ومضا في كل الأزمان. ولا ريب أنه الفيلسوف الذي فجر ينابيع المعرفة معلما ومربيا وفيلسوفا وحكيما. وها هو ما زال ملهما للفكر ومنبراً للهداية في التربية ومرجعا فريدا في الأخلاق الإنسانية.

وها نحن اليوم ما زلنا نقف في القاعات وفي المدارج نستلهم منهجه الحواري الذي بقي المنجم التربوي العظيم الذي لا ينقطع مداده في التربية والتعليم، وها نحن نقول أيضا أن كل تربية لا تنهج منهجا سقراطيا محكوم عليها بالإخفاق والعدم. ومهما قيل في سقراط سيبقى بفلسفته وسيرته معْلماً أخلاقياً وصرحاً فكريا فلسفياً يندر مثيله في التاريخ الإنساني. ويطيب لنا في هذه الوقفة الاختتامية أن نقف مع الأبيات الخالدة لشاعر الكبير أحمد شوقي الذي ألمح إلى عظمة سقراط في تناوله كأس المنية دفاعا عن الشرف والكرامة والحقيقية:

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا

كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا

*

أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي

يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا

*

سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ

علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى

*

أخرجـتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ

وهديتَهُ النـورَ المبينَ سـبيلا

*

سقراط أعطى الكـأس وهي منيّةٌ

شفتي مُحِبٍّ يشتهي التقبيـلا

*

عرضوا الحيـاةَ عليه وهي غباوة

فأبى وآثَرَ أن يَمُوتَ نبيـلا

*

إنَّ الشجاعةَ في القلوبِ كثيرةٌ

ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلا

*

وإذا أصيـبَ القومُ في أخلاقِـهمْ

فأقـمْ عليهـم مأتماً وعـويلا

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية - جامعة الكويت

.......................

هوامش المقالة ومراجعها:

1- أحمد أمين، وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935، ص105.

2- أحمد أمين، وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص107.

3- ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985، ص 11.

4- ثيوكاريس كيسيدس، سقراط مسألة الجدل، الفارابي، ترجمة طلال السهيل، 2001، ص 249.

5- لمزيد من التفاصيل حول سقراط انظر: فرانسيس ولف،سقراط، ترجمة منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 2002.

 

بقلم: توماس إم ورد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أصبح اسمه الآن مرادفًا للأحمق، إلا أن دليله على وجود الله كان صارما للغاية  في العصور الوسطى.

لست كبيرًا بما يكفي لأتذكر قبعات الأغبياء، لكنني أتذكر رسمًا توضيحيًا تربويًا لصبي حزين يجلس في زاوية الفصل الدراسي يرتدي قبعة مدببة بينما ينظر زملاؤه بسعادة إلى معلمته. أوضح لي أستاذي أن القبعة المدببة كانت تسمى قبعة الغبى وكانت تستخدم في العصور القديمة لإذلال ومعاقبة الحمقى، أي الطلاب الذين لا يستطيعون أو لا يريدون تعلم دروسهم. وكان الدرس الذي تعلمناه واضحا: ربما لم يعد لدينا قبعات مدببة، ولكن الحزن والنبذ وحدهما ينتظران الأطفال الذين يكون أداؤهم سيئا في المدرسة.

ومن المفارقات أن جون دونز سكوت (حوالي 1265-1308)، الذي سُمي على اسمه، كان أداؤه جيدًا جدًا في المدرسة، مما أثار إعجاب زملائه الفرنسيسكان في أكسفورد كثيرًا لدرجة أنهم أرسلوه إلى جامعة باريس. أكسبه تألقه في باريس في النهاية منصبًا مؤقتًا ولكن مرموقًا وهو منصب الوصي على ماجستير اللاهوت. كانت كتاباته، على الرغم من صعوبتها، مؤثرة بشكل كبير في الفلسفة واللاهوت الغربيين، لدرجة أن الجامعات في جميع أنحاء أوروبا أنشأت كراسي للفكر الاسكتلندي جنبًا إلى جنب مع كراسي مخصصة للتوماوية. في القرن التاسع عشر، أعلن الشاعر اليسوعي جيرارد مانلي هوبكنز أن سكوت هو "أكثر من يحرك معنوياتي نحو السلام"، وفي منتصف القرن العشرين، استطاع الراهب الشهير توماس ميرتون أن يقول إن دليل دونز سكوت على وجود الله هو أفضل ما تم تقديمه على الإطلاق.

على الرغم من هذا الإرث المرموق، في وقت مبكر من القرن السادس عشر، كان الإنجليز المتعلمون يستخدمون كلمة "Duns" كمصطلح للإساءة. في عام 1587، كتب المؤرخ الإنجليزي رافائيل هولينشيد أنه "لقد أصبح مثلًا شائعًا في السخرية أن نطلق على شخص دونس الذي لا معنى له أو لا يعرف شيئًا، وهو ما يكاد يكون أحمق".يشرح جون ليلي في كتابه Euphues: تشريح الذكاء (1578): " ربما يكون الازدراء الإنساني للأساليب والأسلوب المدرسي - الذي تُقرأ عنه نصوص سكوت الملتوية أحيانًا وكأنها محاكاة ساخرة - تفسيرًا مناسبًا للربطد المؤسف بين "الأحمق" و"المجتهد" في "دونز". يجب أن يكون الإنسان أحمقًا ليضيع وقته في قراءة جون دونز سكوتس!

قطعة من كتاب الجمل الثاني (1475-1500) بقلم جون دونز سكوت بإذن من BnF، باريس.

ويظل سكوت شخصية مستقطبة، ولكن منتقديه من ذوي التوجهات الإنسانية سوف يشعرون بالرعب عندما يعلمون أننا هنا، في القرن الحادي والعشرين، نشهد إحياء سكوت. مرة أخرى، يأخذ الفلاسفة واللاهوتيون والمؤرخون الفكريون سكوت على محمل الجد، أحيانًا بروح الإعجاب وأحيانًا بسخرية عاطفية، ولكن على الرغم من ذلك، على محمل الجد. مما لا شك فيه أن هذا يرجع إلى حد ما  إلى التقدم الذي أحرزته اللجنة الاسكتلندية الدولية، التي أكملت في السنوات الأخيرة إصدارات نقدية لاثنين من أعمال سكوت الضخمة في اللاهوت الفلسفي: Ordinatio وLectura. نظرًا لأن هذه الأعمال وغيرها أصبحت متاحة بشكل أكبر، فقد ازدهرت المنح الدراسية لسكوتس. ووفقاً للباحث في سكوتس توبياس هوفمان، فإن 20 في المائة من جميع منحة سكوتس الدراسية التي تم إنتاجها على مدى السنوات السبعين الماضية تم إنتاجها في السنوات السبع الماضية. يوفر هذا الاهتمام المتزايد بسكوتس فرصة جيدة مثل أي مناسبة أخرى لتقديم هذا المفكر اللامع والغامض إلى جمهور جديد.

قد تبدو بعض اهتمامات سكوت اللاهوتية للوهلة الأولى غير ذات صلة للقراء العلمانيين، ولكن بالنسبة لسكوت كان اللاهوت موضوعًا في حد ذاته وسياقًا للانخراط في نشاط فلسفي مميز: من مشكلة الكليات إلى مشكلة العالميات. على أسس السلطة الأخلاقية، من العلاقة بين العقل والجسد إلى العلاقات بين العقل والكلمة والعالم، ومن وضوح اللغة الدينية إلى الأدلة العقلانية على وجود الله،لدى سكوت شيء مثير للاهتمام ليقوله في معظم المجالات الفرعية الرئيسية للفلسفة المعاصرة.

ولسوء الحظ، ليس هناك الكثير مما يمكن أن نقوله عن حياته. من المحتمل أنه وُلد في بلدة دونز في اسكتلندا، عام 1265 أو 1266. انخرط في الحركة الفرنسيسكانية عندما كان طفلاً، وأرسله رؤساؤه الفرنسيسكان إلى دار دراستهم في أكسفورد، ربما حوالي عام 1280. هناك درس الفنون الحرة ومرت لدراسة اللاهوت. ورسم كاهناً سنة 1291.

بحلول أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، كان قد اتخذ خطواته الأولى باعتباره لاهوتيًا محترفًا، حيث ألقى محاضرة في أكسفورد حول أحكام بيتر لومبارد، وهو كتاب دراسي قياسي في اللاهوت كان بمثابة المنهج الفعلي لدورات اللاهوت في جامعتي أكسفورد وباريس طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لكنه بدأ أيضًا ما كان بمثابة اهتمام جانبي مدى الحياة بالكتابة عن أرسطو، وأنتج تعليقات على معظم الأعمال المنطقية، وعلى الأقل بدأ تعليقات على الروح والميتافيزيقا، والتي أنهىها لاحقًا في باريس.

من غير المعروف سبب إرسال سكوت إلى هناك. ومن غير المعروف أيضًا سبب وفاته المفاجئة.

واصل إلقاء المحاضرات عن الجمل بعد انتقاله إلى باريس في وقت ما قبل بدء العام الدراسي عام 1302. وتشكل النسخ المنشورة من هذه المحاضرات الجزء الأكبر من إنتاجه الأدبي. لدينا ثلاث إصدارات مختلفة: القراءة الأولى، المكتملة والمنشورة في أكسفورد؛Ordinatio الأوسط، بدأ في أكسفورد؛ والتقارير اللاحقة، وهي مجموعة متنوعة من تقارير الطلاب عن محاضرات سكوت. ومن بين هذه الكتب، يعد كتاب Ordinatio هو الأكثر صقلًا وهو الأقرب إلى التعليق الكامل الذي كتبه سكوت على الجمل - كلمة "ordinatio" نفسها تعني تقريبًا "تم تحريرها بعناية".

في عام 1303 تم نفيه مؤقتًا من باريس لدعمه البابا بونيفاس الثامن على الملك فيليب الرابع في نزاعهما حول فرض الضرائب على ممتلكات الكنيسة. ليس من المعروف ما فعله سكوت خلال هذا المنفى، ولكن من المحتمل أنه عاد إلى أكسفورد وربما أمضى جزءًا من الوقت على الأقل في إلقاء المحاضرات في كامبريدج. وبعد عام، تمكن من العودة إلى باريس، حيث حصل أخيرًا في عام 1305 على درجة الدكتوراه في اللاهوت وترأس لمدة عامين منصب الوصي على درجة الماجستير في اللاهوت. خلال فترة وصايته، ترأس سكوت "النقاش الدائر"، وهو حدث أكاديمي رسمي حيث يمكن للجمهور طرح أسئلة على المعلم حول أي موضوع. نشر سكوت لاحقًا مجموعة من أسئلة النقاش بناءً على هذا الجدل.

في عام 1307، غادر سكوت باريس وتولى منصبًا أقل شهرة بكثير كمحاضر في بيت الدراسات الفرنسيسكانية في كولونيا. سيكون للمحاضر في مثل هذا البيت مسؤولية التدريس الأساسية للرهبان المقيمين في ذلك البيت. بالمقارنة مع البيت الفرنسيسكاني في باريس، ناهيك عن جامعة باريس، كان البيت الفرنسيسكاني في كولونيا بمثابة منطقة راكدة. من غير المعروف سبب إرسال سكوتس إلى هناك. ومن غير المعروف أيضًا سبب وفاته المفاجئة عام 1308، أي بعد حوالي عام من وصوله إلى كولونيا.

من المخيب للآمال بالطبع أن يكون لدينا القليل من المعلومات حول حياة سكوت. ومع ذلك، يوجد في هذا النقص درس حول الهدف الحقيقي لحياة سكوت. لا نعرف سبب إرساله إلى كولونيا في ذروة نجاحه في باريس، لكننا نعلم أنه من الفرنسيسكاني جدًا تجنب الثناء الدنيوي. كان سكوت، على أية حال، راهباً فرنسيسكانياً، والنظام الديني الذي أسسه القديس فرانسيس يسمى رسمياً نظام إخوة فرانسيس الصغار، كدليل على الفقر والتواضع اللذين كانوا يطمحون إليهما. من السهل أن نتخيل قبول سكوت الفرنسيسكاني طوعًا لوظيفة في كولونيا من شأنها أن تمنحه وقتًا أقل للكتابة، وفرصة أقل لإبهار أقرانه المؤثرين في النزاعات الفلسفية، وبالتالي شهرة ومكانة أقل مما كان سيحصل عليه لو بقي في المدينة. باريس.

ونظرًا لدعوته كراهب وكاهن فرنسيسكاني، فليس من المستغرب أن يكون وجود الله وطبيعته وكيف ينبغي لنا أن نعيش في نور الله هما الموضوعان الرئيسيان (ولكن ليس فقط) في عمل سكوت الفلسفي. ولكن سيكون من الخطأ النظر إلى جهود سكوت الفلسفية على أنها محاولات لترشيد العقائد الراسخة مسبقًا - وهذا سيكون غير عادل لسكوت، نظرًا للمعايير الجدلية العالية للغاية التي وضعها لنفسه.

لقد كان واثقًا من أننا نستطيع معرفة وجود الله من خلال عمل العقل الطبيعي دون مساعدة.

إحدى العقائد التي اعتقد أن الفلسفة يمكن أن تثبتها هي وجود الله. بصفته لاهوتيًا كاثوليكيًا،آمن إيمانا راسخا بوجود الله، لكنه اعتقد أيضًا أن الفلسفة، أو العقل الطبيعي، يمكن أن تثبت أن هناك طبيعة عليا هي السبب الأول لكل شيء آخر، وهي الغاية النهائية التي من أجلها يوجد كل شيء. وهو أفضل كائن ممكن. علاوة على ذلك، فإن هذه الطبيعة العليا لها عقل وإرادة، وكذلك شخصية، ولها كل الصفات الإلهية التقليدية مثل الحكمة والعدالة والحب والقوة. باختصار، يعتقد سكوت أن الفلسفة، دون مساعدة اللاهوت، يمكنها إثبات وجود الله.

قضيته مفصلة، وقد شرحت فيما يزيد عن 30 ألف كلمة في كتابه Tractatus de primo Principio - وهو عمل قمت بترجمته مؤخرًا وكتبت تعليقًا عليه (سيصدر هذا العام مع شركة Hackett Publishing Company) -تمرين موهوب بأسلوب مدرسي للغاية. إنها تطور نوعًا من الحجج الهجينة، متأثرة بكل من   الحجج "الكونية" الأرسطية-التوماوية التي تقترب من الله من البنية السببية للعالم، والحجج "الوجودية" الأنسلمية التي تحاول إثبات وجود الله الفعلي من خلال السمات المميزة لفكرة الله. ويعده المتخصصون على نطاق واسع بمثابة الجهد الأكثر صرامة لإثبات وجود الله في فترة العصور الوسطى.

ولكن في حين كان سكوت واثقًا من أننا نستطيع معرفة وجود الله والعديد من الصفات الإلهية من خلال العمل دون مساعدة من العقل الطبيعي، فإنه لم يعتقد أننا نستطيع بهذه الطريقة معرفة كل ما يمكن معرفته عن الله. كمسيحي، كان سكوت يعتقد أن الله هو "ثالوث" من الأقانيم الإلهية - ثلاثة أقانيم يشتركون في الطبيعة الإلهية الواحدة. لكنه لم يعتقد أننا يمكن أن نعرف هذه الحقيقة عن الله بمعزل عن الوحي الإلهي. لقد قام بتوسيع هذا التواضع الفكري ليشمل عقائد مسيحية أخرى معروفة، مثل قيامة الموتى: لقد اعتقد أن الفلسفة يمكن أن تظهر أنه من المحتمل أن يكون لدى البشر أرواح خالدة، ولكن هذا الإيمان بقيامة الموتى (وبالتالي إعادة توحيد البشر) (أرواح في أجساد) هو شيء يؤمن به الإيمان، لا يتعارض مع العقل ولكن لا يمكن اكتشافه عن طريق العقل.

وبينما اعتقد سكوت أن بعض التزاماته الدينية لا يمكن إثباتها بالعقل، فإنه لم يعتقد أن التزاماته الدينية تتعارض مع أي شيء يمكن أن يثبت العقل صحته. وفي هذا الصدد، يعد سكوت وريثًا لتقليد طويل من الفكر المسيحي الذي يؤكد الانسجام بين الإيمان والعقل. هنا يتفق سكوت مع توما الأكويني: كلاهما يعتقد أن وجود الله يمكن إثباته، لكن كون الله ثالوثًا لا يمكن إثباته.

ومع ذلك، لم يكن سكوت والأكويني متفقين في كل الموضوعات. أحد الاختلافات الأكثر شهرة بين هذين المفكرين العظماين في العصور الوسطى يتعلق بآرائهما حول كيفية عمل كلماتنا ومفاهيمنا عندما نحاول التفكير والتحدث عن الله. يعتقد كل منهما أن فكرنا ولغتنا يتطوران من تجربتنا للعالم من حولنا. وقد أدرك كل منهما أن الله ليس من بين هذه الأشياء المألوفة التي يتم اختبارها. لذا، بالنسبة لكلا المفكرين، من المهم بنفس القدر تقديم نوع من النظرية حول كيفية تفكيرنا والتحدث بشكل متماسك وهادف عن الله باستخدام مفاهيم وكلمات مصممة خصيصًا لأشياء محدودة ومعقولة. تبنى الأكويني وجهة النظر القائلة بأن مفاهيمنا وكلماتنا، عند تطبيقها على الله، لها معنى مماثل فقط. على سبيل المثال، "الحكمة" عند تطبيقها على الله لا ترتبط إلا بالقياس مع "الحكمة" عند تطبيقها على مخلوق، مثل سقراط.

قدم سكوت نظرية مختلفة قليلاً. لقد جادل بأن بعض كلماتنا ومفاهيمنا على الأقل لها نفس المعنى تمامًا عند تطبيقها على الله كما هو الحال عند تطبيقها على المخلوقات - فهي "أحادية اللفظ" (نفس المعنى)، وليست مجرد متشابهة. "الوجود" في حد ذاته هو أهم هذه المفاهيم والمصطلحات الأحادية. يعتقد سكوت أنه عندما نقول “الله موجود” و”سقراط موجود”، فإن كلمة “الوجود” لها نفس المعنى تمامًا في أحدهما كما في الآخر.

يؤكد كوتس أن هذه هي بالضبط الفجوة التي تفصل بين المخلوقات والله.

بالنسبة للبعض، يعتبر هذا الرأي مذهلا، بل ومخزيا. يعتقد الكتاب المؤثرون مثل عاموس فونكنشتاين وجون ميلبانك أن عقيدة سكوت في الوحدة أحدثت تغييرات هائلة في المجتمع الغربي.

في كتابه الإصلاح غير المقصود (2012)، يجادل براد جريجوري بأن الوحدة أدت إلى "تقنين تجاوز الله" وصعود العلمانية، وهي تسطيح وجودي يتساوى فيه الله والمخلوقات ميتافيزيقيًا، والله هو مجرد كيان نظري آخر بين الكيانات الأخرى. يمكن التخلص من العديد منها إذا كانت النظريات العلمية البديلة تشرح البيانات بشكل أفضل من البدائل اللاهوتية. مع تقدم العلم وتراجع الحاجة إلى الله، أصبح المعتقد والممارسة الدينية ينزلان أكثر فأكثر إلى عالم العاطفة والإيمان الأعمى. وأخيرا، فإن العلوم، التي تعمل الآن على افتراضات طبيعية تماما، أعطيت وحدها المسؤولية عن الوصف الموضوعي للعالم.

وسواء رحب المرء بهذه التغييرات المجتمعية أو أعرب عن أسفه لها، فإن الأغبياء يعلمون أن سكوت لا يمكن أن يكون مسؤولاً عنها. إن الاعتقاد بأننا نحن البشر نمتلك مفهومًا ينطبق على الله بنفس القدر كما ينطبق على المخلوقات لا يعني أو حتى يوحي ولو عن بعد بأن الله موجود تمامًا كما توجد المخلوقات. إن عقيدة سكوت المثيرة للجدل حول الوحدة غير ضارة باللاهوت، في أسوأ الأحوال.

لرؤية ذلك، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن عقيدة سكوت حول الوحدة هي في حد ذاتها مدعومة بنظرية المفاهيم التي بموجبها تكون معظم مفاهيمنا معقدة في حد ذاتها، ويمكن تحليلها إلى مكونات مفاهيمية أبسط. على سبيل المثال، المفهوم الأكثر عمومية الذي يمكننا من خلاله التفكير في مخلوق، باعتباره مخلوقًا، هو الوجود المحدود. هذا المفهوم المعقد لا ينطبق على الله. لكن المفهوم المعقد للوجود اللانهائي ينطبق على الله – في الواقع، وفقًا لسكوت، هو المفهوم الأكثر ملاءمة لدينا (من العقل الطبيعي وحده) للتفكير في الله. وبالطبع الوجود اللانهائي لا ينطبق على أي مخلوق.

لكن لاحظ أن كلًا من هذه المفاهيم – الوجود المحدود والوجود اللامتناهي – معقد، ويتضمن كل منها الوجود كعنصر مفاهيمي بسيط. لذا، من وجهة نظر سكوت، إذا كان الشيء كائنًا محدودًا، فهو كائن؛ وبالمثل، إذا كان الشيء كائنًا لا نهائيًا، فهو كائن. في هذا المستوى المفاهيمي الأبسط، لدينا مفهوم واحد فقط للوجود ينطبق على الله والمخلوقات. لا يمكن أن تكون هناك "فجوة" أكبر من تلك الموجودة بين المحدود واللانهائي - ويؤكد سكوت أن هذه هي بالضبط الفجوة التي تتسع بين المخلوقات والله. لكن هذه الفجوة لا علاقة لها بحقيقة أن مفهومي الوجود المحدود والوجود اللامتناهي يشتركان في المكون المفاهيمي البسيط للوجود على هذا النحو. إذا كان هناك خطأ في عقيدة سكوت حول الوحدة، فلا يمكن أن يكون ذلك بسبب الفشل في مراعاة الفجوة بين الله والمخلوقات. قد يعترض النقد ذو الصلة على نظريته حول المفاهيم المعقدة التي أدت إلى ظهور نظريته عن الوحدة - ولكن هذا موضوع لفلسفة العقل وفلسفة اللغة، وليس اللاهوت.

يعلن سكوت مرارًا وتكرارًا أن الله هو الخير الأسمى، بل الخير نفسه، وأن الله هو الحقيقة نفسها. ونظرًا لفهمه لكيفية عمل مفاهيمنا عندما نطبقها على الله  - لم يعتقد سكوت أننا عندما نسمي الله "صالحًا" أو "حقيقيًا"، فإننا نجهل ما يعنيه صلاح الله وحقيقته. بالتأكيد، لا يمكننا أن نفهم صلاح الله اللامتناهي، لكن يمكننا أن نكون واثقين من أنه إذا كان صحيحًا أن الله صالح، فإن صلاح الله واضح لنا.

إن وضوح الخير الإلهي يعمل كنوع من القيد المفاهيمي لتنظير سكوت حول علاقة الله بالأخلاق. نجد عند سكوت سببين أو مصدرين للمعايير الأخلاقية: من ناحية، اعتقد سكوت، متبعًا أرسطو، أنه يتجلى من طبيعة البشر ما هو جيد وما هو سيئ بالنسبة لنا، وهذا النوع من "الخير الطبيعي" ينتج عنه مجموعة واسعة من المعايير حول الصواب أو الخطأ. ولكن من ناحية أخرى، أكد سكوت على حرية الله في النظام الأخلاقي. وصايا الله – على سبيل المثال، تحب قريبك كنفسك؛ لا تقتل – فهي تولد التزامات أخلاقية، ولا يلزم أن تتبع أوامر الله بكل الطرق ما يمكن تمييزه بمجرد التفكير في الطبيعة البشرية. يعتبر سكوت أن الأمر لآدم وحواء بعدم أكل ثمرة شجرة معينة في جنة عدن - لو لم يأمرهم الله بعدم القيام بذلك، لما كان ذلك خطأ. لكن حرية الله في الأخلاق نفسها لا تنفي ما يمكننا اكتشافه بأنفسنا حول الصواب والخطأ، ولا تستلزم أن معايير الله الأخلاقية الموضوعة بحرية يمكن أن تقلب النظام الأخلاقي الطبيعي.

يبتكر سكوت ويخترع نوعًا جديدًا تمامًا من الكيانات: خاصية يمكن للمرء أن يمتلكها على الأكثر.

إن الواقعية حول الطبائع المشتركة تنبع من لغز فلسفي ليس اسميًا للخوض فيه: إذا كانت الإنسانية شيئًا نتشاركه جميعًا، فما الذي يجعلنا الأفراد الذين نحن عليه؟ بمعنى آخر، إذا كانت إنسانيتنا الجماعية واحدة، فما الذي يفسر وجود الكثير من الناس؟

للإجابة على هذا السؤال، طور سكوت مذهبه حول "haecceity"/ الهرطقة.: كل فرد ينتمي إلى النوع الذي ينتمي إليه بسبب طبيعته المشتركة، أما الفرد فهو بسبب طبيعته. كلمة "الهرطقة" تعني حرفيًا "thisness".  إنها تلك الميزة الفريدة لكل واحد منا، والتي تجعل من كل واحد منا إنسانًا مميزًا. كل نوع آخر من الخصائص التي يمكن أن يمتلكها أي كائن - اللون، الشكل، الحجم، العمر، والمكان،وما إلى ذلك - يمكن من حيث المبدأ مشاركتها مع شيء آخر. لذلك، لا يمكن لهذه الخصائص القابلة للمشاركة أن تفسر فرديتنا. لذلك يبتكر سكوت ويخترع نوعًا جديدًا تمامًا من الكيانات: خاصية يمكن للمرء أن يمتلكها على الأكثر. إن ذكاءك هو تلك الميزة الخاصة بك والتي لا يمكن أن يتمتع بها أحد غيرك.

لمعرفة مدى جذرية هذه النظرية، فكر في إجابة توما الأكويني على السؤال حول ما يميز الأشياء التي تشترك في طبيعة مشتركة. يعتقد الأكويني أن كل فرد لديه قطعة معينة من المادة بكمية معينة، وهذه القطعة من “المادة الكمية” تعمل على تفرد الأشياء الفردية. إذن أنا وأنت نشترك في الإنسانية، ولكن أنا أنا بسبب حالتي وأنت أنت بسبب قضيتك.

هناك شيء مفيد وبسيط في نظرية الأكويني، لكن سكوت ينتقدها على أساس أنه حتى لو افترضنا أنك وأنا لا نستطيع مشاركة نفس المادة في نفس الوقت، فإنها تظل هي المادة نفسها، حتى لو كانت كمية معينة من المادة،قابلة للمشاركة (حتى ولو في أوقات مختلفة فقط) وبالتالي فهي غير مناسبة لجعل الشيء الفردي هو الفرد ذاته. إن حماقة سكوت هي في الواقع نوع جديد من الأشياء في تاريخ الميتافيزيقا: شيء حقيقي، شيء يميز الشيء الذي يمتلكه حقًا - ولكنه شيء فريد تمامًا لحامله.

تظل نظرية سكوت عن الخداع إحدى وجهات نظره التي حددها البعض على أنها ذات أهمية تاريخية عالمية. في كتابه "عصر علماني" (2007)، قال تشارلز تايلور، مستوحى من لويس دوبري، إن أوكهام الاسمي وسكوتوس الواقعي يشتركان في التركيز على الفردية التي تعطي "مكانة جديدة للخاص"، وتمثل "نقطة تحول رئيسية في تاريخ الحضارة الغربية، خطوة مهمة نحو أولوية الفرد التي تحدد ثقافتنا.

أعترف أنني كثيرًا ما أميل إلى التوصل إلى استنتاجات تاريخية شاملة حول شخصيات العصور الوسطى التي أعمل عليها. إذا كان بإمكاني تصديقهم، فقد أعتبر بحثي أكثر أهمية مما هو عليه الآن وأواصل عملي بقوة أكبر. بروح تايلور، على سبيل المثال، يمكنني القول إن أوكهام وسكوتوس، جنبًا إلى جنب مع سلفهم الأكويني، مع التركيز على الأفراد الذين يشتركون فيهم هؤلاء الثلاثة، أدى إلى ظهور أولوية الفرد التي تحدد ثقافتنا. أو بنفس الروح ولكن بإحساس أكبر من الجرأة، قد أقول إن الأكويني، بإجابته المادية لمشكلة التفرد، جنبًا إلى جنب مع سكوت وأوكهام، اللذين آمنا بوجود المادة، بشروا معًا بالمادية السائدة. للعلوم والثقافة المعاصرة.

من الممكن تمامًا لشخص في القرن الحادي والعشرين أن يتساءل في القرن الرابع عشر عما إذا كان الله موجودًا.

بطبيعة الحال، سوف يتطلب الأمر عقلاً متهوراً لتصديق أي من هذه الادعاءات: فالصلات المرسومة بين الأكويني، وسكوتوس، وأوكهام ليست قوية بما يكفي لتوحيدهم كأسباب مشتركة للأحداث التاريخية المنسوبة إليهم.لكن هذه هي النقطة: إن النظرية الاسمية تتعلق إلى حد ما بالأفراد (بما أنها تدعي أن هناك أفرادًا فقط)، ونظرية الهيكية هي أيضًا بمعنى ما بالأفراد (بما أنها بالإضافة إلى الأفراد كيان فردي). ). الطبيعة المشتركة). لكن هذه النظريات تدور حول الأفراد بمعنى مختلف تمامًا، تمامًا كما أن حل الأكويني المادي لمشكلة التفرد يتعلق بالمادة بمعنى مختلف تمامًا عن، على سبيل المثال، توماس هوبز باعتباره ماديًا عندما يتعلق الأمر بالعقل البشري.   ولذلك، لا ينبغي جمعها معًا كأسباب مشتركة لنفس الحدث التاريخي. إن إنكار أوكهام لوجود شيء اسمه الطبيعة البشرية يبدو وكأنه نوع من الإنكار الذي من شأنه أن يؤثر على الطريقة التي يعيش بها الناس العاديون حياتهم، إذا وصل الأمر إلى التأثير عليهم.  ويمكن قول الشيء نفسه عن تأكيد سكوت على وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية. ولكن سيكون من المدهش إلى حد ما ــ ومجرد صدفة ــ أن يكون لإنكار وتأكيد نفس الرأي بالضبط نفس التأثير على الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم.

وباعتباري أحد الباحثين في سكوت، فإنني أرحب بتجدد الاهتمام بسكوتس في هذا القرن. لكن الطريقة الأكثر إثمارًا للانغماس في هذا الاهتمام، خاصة بالنسبة لأولئك الذين بدأوا للتو رحلتهم الفكرية مع دونز سكوت، هي ببساطة محاولة التعامل معه وفقًا لشروطه الخاصة، ومعالجة الأسئلة الفلسفية واللاهوتية الرئيسية مع سكوت، ومقاومة مطالب الراوي. ومن الملح أن نضع هذه السمة أو تلك من سمات فكر سكوت ضمن سرد يشرح لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. من الممكن حقًا لشخص في القرن الحادي والعشرين، كما كان الحال بالنسبة لشخص في القرن الرابع عشر، أن يتساءل عما إذا كان الله موجودًا، أو ما إذا كانت الكليات حقيقية، أو ما إذا كانت الأخلاق الموضوعية تتطلب مشرعًا إلهيًا.   عندما نطرح هذه الأسئلة الآن، فإننا نطرح نفس الأسئلة التي طرحوها في ذلك الوقت. وبفضل جهود الحمقى الذين حافظوا على ذاكرة سكوت حية لقرون عديدة، وقاموا بتحرير ونقل نصوصه وكتابة المقالات والكتب في محاولة لشرح تفكيره، يمكننا أن نرحب بسكوتس في ألغازنا الخاصة حول هذه الأسئلة وغيرها. ونظرًا لسرعة الفلسفة، فإن عام 1308 ليس بعيدًا.

(انتهى )

***

.......................

المؤلف: توماس إم وارد/ Thomas M Ward: أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة بايلور في تكساس. وهو مؤلف كتاب "أمر بالحب: مقدمة لجون دونز سكوتس" (2022) ومترجم "رسالة دونز سكوت حول المبدأ الأول" (ستصدر قريبًا في عام 2023).

 

في أقسى إساءة للعلم وللمرأة في آن واحد قام الكونغرس الأمريكي بالتدخل بشكل سافر، وأمر بإقالة أعظم ثلاث سيدات في العالم مرة واحدة!!!

كلودين جاي رئيسة جامعة هارفارد، وليز ماجيل رئيسة معهد ماساشوستس، وسالي كورنبلوث رئيسة جامعة بنسلفانيا... وبعد جلسة استدعاء في الكونغرس 7 ديسمبر أمر بإقالة الثلاثة، والسبب واحد وهو التعاطف مع الفلسطينيين ومعاداة السامية!!

والقصة متشابهة وهي تصريحات أدلت بها هذه السيدات في مناسبات مختلفة، تؤكد حق الطلبة في التعاطف مع المظلومين في غزة، ورفض السلوك الأمريكي المشين في تأييد إسرائيل تأييداً أعمى، حيث أظهرت الرئيسات الثلاثة على غير تنسيق بينهن مواقف متشابهة تفرضها عليهن الموضوعية والكرامة والإنسانية في نصرة المظلوم، وتأييد حق الطلبة في الصراخ ضد الظلم، وهو ما تفرضه كرامة العلم وحياده، والعلم رحم بين أهله والحكمة رحم بين أهلها، والشرف الأكاديمي رحم بين أهله، وقد أثبتت هؤلاء السيدات أن الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً، وأن المثقف لا يمكنه أن يقف على الحياد عندما تسحق الكرامة الإنسانية، وأنه لن ينحاز للأسطورة الميثولوجية على حساب مبادئه في حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا يمكنه أبداً أن يلزم الصمت وهو  يشاهد التغول السياسي الفاجر، حين يجلس الوحش على العرش ويذهب الجميل إلى المقصلة.

لا يمكن للمثقف أن يقف على الحياد حين يكون الصراع بين توجه كهنوتي يلعن العقل والمنطق والقانون، وبين بشر يطالبون بحقهم الإنساني في الحياة، في مواجهة ميثولوجيا عمياء تقسم الناس إلى شعب مختار، وشعوب غوييم. فالشعب المختار لا يسأل عما يفعل، وتبرر جرائمه وفظائعه بأنها إرادة الله، أما الغوييم فقد فصلت الكهنوتيات الدينية الزائفة مكانهم في خدمة الشعب المختار، وقرأ نتنياهو علناً نصوص سفر أشعيا الآمرة بالانتقام منهم ومن أطفالهم ونسائهم بدون رحمة، وقال بوضوح إنكم أيها الأشاوس امتداد لجيش أشعيا!!.

إنها أمانة أن تحافظ على كرامة العلم والمعرفة في مواجهة تغول كهذا، وأن تتحمل مسؤولياتك، فلا يجوز أن يسجل في التاريخ أن هارفارد وماساشوسيتس وبنسلفانيا كانت خرساء صامتة في مواجهة أسوأ انتهاك لحقوق الإنسان في الأرض.

إنهن رموز أعظم مؤسسات تعليمية في العالم، وفي تصنيف أعظم 500 جامعة في العالم عام 2023 حلت جامعة هارفارد في المركز الأول، ومعهد ماساشوستس في المركز الرابع، وجامعة بنسلفانيا في المركز السادس... ولعلها المرة الأولى التي تصل فيها النساء في وقت واحد لهذه المناصب العظيمة في الأكاديميا والعلم.

لا مبالغة مهما قلناه في كفاءة هؤلاء السيدات الثلاثة، والمعايير التي تفرضها هارفارد وبنسلفانيا وماساشوستس على الطلبة للالتحاق بهذه الجامعات تجعل الوصول إليها مقتصراً على العباقرة، فما بالك بالأستاذية فيها، والعبور في مدارج الترقيات التي تفرض أشد المعايير العلمية المتصورة حياداً ونزاهة وموضوعية، وما بالك بالوصول إلى رئاسة هذه الجامعات الأعرق والأعلى في العالم....

ولكن هذا المجد الأكاديمي المذهل وهذا النجاح الأسطوري، لم يشفع لهن في طاحونة السياسة، وانكشف المجتمع الأمريكي عن انحسار فاضح لمنزلة العلم والأكاديميا في مواجهة السياسة، واستطاع اللوبي المستفرس في الكونغرس أن يسحق قيم الحضارة الحديثة بالضربة الفنية القاضية، فأسقط كرامة العلم الأكاديمي، وأسقط مكاسب المرأة الحرة، وأسقط قيم الإنسانية في التعاطف مع المظلومين، وأشبع نهمة واحدة هي نهمة الحقد الأعمى ضد كل ما هو جميل.

في جامعة هارفارد على سبيل المثال فإن حصاد هارفارد من جوائز نوبل خلال 129 عاماً قد بلغ 161 فائزاً من أصل 900 جائزة منحتها هارفارد خلال مائة وعشرين عاماً، وهو الرقم الأعلى في العالم، وكان فيهم 78 عضواً في الهيئة التدريسية لهارفارد، و55 محاضرًا فيها، و80 خريجاً منها، وقد جمع هؤلاء 43 من جوائز نوبل في الفيزياء، و 55 في الكيمياء، و51 في الطب، و46 في الاقتصاد، و 8 في الآداب، و10 في السلام، ولا شك أن نوبل تقدم فقط للشخص الأهم في العالم وفق تقييم لجنة عريضة من أكبر الشخصيات العلمية والأكاديمية في العالم.

ولن تتأخر ماساشوستس وبنسلفانيا عن المراكز العشرة الأولى حتماً، وهذا كله يجعل منزلة هذه الجامعات هي الأعلى في العالم على المستوى العلمي والأكاديمي.

وإضافة إلى اغتيال العلم والمعرفة، فإن هذا السلوك الهمجي هو أيضاً بطش بجهود المرأة في التمكين، واعتداء سافر على مكتسباتها، وربما أستطيع الجزم بأنها المرة الأولى التي تصل فيها النساء في وقت واحد إلى هذه المواقع القيادية على المستوى الأكاديمي في العالم، وبذلك صرن أمثولة ملهمة للنساء في العالم، وبات حضورهن في الحقل الأكاديمي أوضح الأدلة على قدرات النساء ومواهبهن، وحقهن في قيادة الحياة.

وقناعتي أن خروج هذه السيدات القادة عن مواقعهن المتقدمة ليس نهاية الطريق بل من المؤكد أنهن سيتعرضن لمضايقات وملاحقات وتشويه سيرة، وهذا قد بدأ بالفعل، ويسعى أولئك الذين اغتالوا العلم والمعرفة أن يمارسوا نهمتهم في الانتقام من رموز العلم بالأساليب الرخيصة إياها، واختراع فضائح، وهو ما تقوم به هذه الكيانات الجاقدة ضد كل ما هو مختلف في الفكر والسلوك.

إنها اللحظة المناسبة لتنطلق حملة دولية للدفاع عن كرامة العلم والعلماء، والدفاع عن سمعة الجامعات العريقة وما قدمته للبشرية من إنجازات علمية وعملية، وتوفير حصانة للعلماء القادة من مكر السياسيين ومؤامراتهم وكيدهم الرخيص في العبث بقيم الحضارة وأخلاقها.

هل ستعلن الأمم المتحدة يوم السابع من ديسمبر يوماً عالمياً للدفاع عن العلم والعلماء، أو اليوم العالمي لكرامة الأكاديميا، بحيث تصل الرسالة واضحة أن أولى السلطات الخمسة بالاستقلال والكرامة هي السلطة الأكاديمية، وإن أي تغول تمارسه سلطة من السلطات الأربعة ضد الأكاديميا هو انهيار كامل في القيم الديمقراطية والحضارية.

وهو يوم يستحق أن يعلن من جانب آخر كيوم عالمي للدفاع عن المراة الناجحة، وتقدير كفاءاتها ومعارفها ومواهبها، ووجوب حماية هذه المكتسبات والحفاظ على الدور الإلهامي للمرأة الناجحة في العالم بعيداً عن صخب السلاح ومكر السياسة.

***

ا. د. محمد حبش

في المثقف اليوم