قضايا

متى ظهر اليسار العربي في التاريخ الحديث؟، وكيف تشكل؟، وكيف تمظهر؟، وكيف استمر؟، ومن هو اليساري الحقيقي؟ وكيف يكون المرء يساريا؟، وما إسهام اليساريين العرب في قضايا أمتهم؟، وما آرائهم وموقفهم وأخطائهم ومراجعاتهم؟ ـ ولماذا تراجع دور اليسار وحضوره وفاعليته؟، وما أزمته التي لا يكف أصحابه عن تردادها والنقاش حولها وطرح الحلول؟ وما موقف اليسار من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ومن الأنظمة المستبدة ومن الحركات الإسلامية ومن ثورات الربيع العربي ومن الانقلابات العسكرية وغير العسكرية؟، وهل لليسار العربي مستقبل؟

وقبل أن أجيب على تلك التساؤلات، دعونا نفسر اليسار العربي في التاريخ تفسيرا سوسيولوجيا فأقول: في الأول من آيار عام 1907 كانت هناك مظاهرات على أحد شواطئ لبنان، تعلن عن توجه جديد يتبناه مجموعة من المثقفين والطلاب الذين درسوا في أوروبا وعادوا إلى لبنان، حاملين معهم أفكارا اشتراكية، وقبل ذلك " أحمد فارس الشدياق"، في جريدته الشهيرة" الجوانب"، نشر مقالا عن الحركات العمالية، ضمنه كلمة" الاشتراكية" في استخدام عربي لها .

وفي دمشق في الثامن من آذار عام 1912 أصدر حلم الفتيان العدد الأول من جريدة الاشتراكية، ودعا فيه إلى المذهب الاشتراكي في المساواة والحقوق والواجبات قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد ثورة 1908 في تركيا، شاء نوع من الديمقراطية النسبية في الدولة العثمانية، فظهرت الصحف وتأسست الأحزاب، كما ظهر الجناح اليساري في الحركة الوطنية .

أما إذا انتقلنا لليسار المصري فنجده قد بدأ على الطلاب المصريين العائدين من أوروبا والذين بدأوا في نشر الأفكار الاشتراكية عند عودتهم في بداية العقد الأول من القرن العشرين، وقد تأسس الجزب الشيوعي الأول في مصر، في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1921، وكان أول حزب شيوعي في القارة الإفريقية والساحة العربي.

تبنى الحزب الماركسية اللينينية، وعٌرف بالحزب الاشتراكي المصري، وعقد مؤتمره الأول في العشرين من يوليو في عام 1922، وتقدم بطلب للانضمام إلى الأممية الثالثة الكومنتيرن،ثم نجح الحزب في عقد مؤتمره الثاني يومي السادس والسابع من يناير عام 1923، وقرر تسمية الحزب بالحزب الشيوعي المصري، وأقر البرنامج العام للحزب، وانتخب لجنة مركزية .

وقد تبعه الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924 ،والذي أسسه المصري – اللبناني " فؤاد الشمالي"، واللبناني " يوسف يزدك"، والأرمني " أرتن ماديميان"، وكان أمينه العام " خالد بكداش"ـ وكان الحزب الشيوعي اللبناني، هو الحزب الثاني في بلاد الشام، بعد الحزب الفلسطيني الذي تأسس في مارس عام 1919 .

نشأ اليسار العربي متزامنا مع قيام الاتحاد السوفيتي وقيام ما سمى بالمعسكر الاشتراكي، وفي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، كان اليسار العربي، قد دخل في مرحلة اليسارية الثانية، وهي مرحلة سوفيتية في عمومها، وفرنسية في الاستثناءات الحزبية وارتبطت بالحزب الشيوعي الفرنسي .

وفي هذه المرحلة ستشهد اليسارية الثانية غلبت الاستراتيجيات الدولية الكبرى على السياسات الاجتماعية الوطنية.

وفي الخامس عشر من آيار عام 1948 قيام ما يسمى بدولة إسرائيل، والتي بها اعترف الاتحاد السوفيتي بعد دقائق من إعلانها، فتبعه الشيوعيون العرب، حتى وصف الحزبان الشيوعيان في سوريا والعراق، تدخل العربي لإنقاذ فلسطين بالتدخل الرجعي، ودعا بعض قادة الحزب الشيوعي في مصر إلى تأييد إسرائيل لأنها تمثل مرحلة أرقى من التطور الاجتماعي، وهي مرحلة الرأسمالية، في حين أن الدول العربية تمثل مرحلة العلاقات الإقطاعية .

ظهرت الأحزاب الناصرية التي رفعت لافتات الاشتراكية، وكان أبرزها حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي قبل أن ينقسم إلى فرعين : سوري، وعراقي، بعد وصول الحزب إلى السلطة في البلدين على إثر انقلابين عسكريين؛ ففي سوريا قام بعض الضابط من القسم اليساري لحزب البعث السوري بانقلاب عسكري في الثامن من آذار عام 1963، وفي نهاية الستينات من القرن الماضي تأثر جيل جديد في العالم العربي بما يجري في العالم اليساري من ثورات فيتنام وكوبا، والثورة الطلابية في فرنسا، وظهور الجماعات الماوية والترتوسكية، ردا على التحجر الإيديولوجي بالاتحاد السوفيتي .

في لبنان برز يسار جديد من خارج الحزب الشيوعي، فتم تأسيس لبنان إشتراكي على يد مجموعة من الطلبة اللبنانيين في منتصف الستينيات، في حين انفصل التيار اللينييي عن الحزب الشيوعي اللبناني ليتحول لاحقا إلى اتحاد الشيوعيين اللبنانيين.

وفي تونس برزت كل من مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، ومجلة "آفاق"، وفي مصر بعد انحسار اليسار فترة الخمسينيات والستينيات، وامتلاء معتقلات النظام باليساريين والشيوعيين، عاد اليسار للظهور مطلع السبعينات مدفوعا بتفجر القضية الوطنية بعد هزيمة 1967 والحراك الطلابي في الجماعات .

ومع عودة التعددية الحزبية في منتصف السبعينات، كانت العودة الرسمية لليسار، واستمر الصعود حتى أواخر الثمانينيات قبل أن ينحسر اليسار مرة أخرى  بسبب تضييق الرئيس حسني مبارك على المجال العام .

وفي ديسمبر عام 1991  انهار الاتحاد السوفيتي واتجه عدد من القيادات الاتجاهات اليسارية إلى تجاوز المجال السياسي إلى المجتمع المدني والحقوقي، واستمر مسار انحسار اليسار إلى مطالع الألفية الجديدة، والتي شهدت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والحرب على أفغانستان والعراق عامي 2001، 2003 .

وفي أواخر 2010 جاء ثورات الربيع العربي، ووجد اليسار العربي فيها فرضة حقيقية للعودة، حيث شارك حزب العمال الشيوعي التونسي من اللحظات الأولى، كما شاركت مجموعات وافراد يساريون، سواء من خلال الاتحاد التونسي للشغل أو من خارجه.

وفي مصر كان الحزب الشيوعي المصري من الداعين إلى إضراب الخامس والعشرين من يناير، وكذلك الاشتراكيون الثوريون، وغيرهم من المجموعات القومية المحدودة، إلا أن اليسار التونسي المصري شهدا رسوبا في اختبار الانتخابات بعد رحيل نظام بن علي وحسني مبارك، وصعدت القوة الإسلامية الجاهزة، ما زاد من أزمة اليسار العربي، وعمقها، ودفع بعض الأصوات اليسارية إلى تحليلات متطرفة تتماهى مع خطابات الأنظمة السابقة، وتدعي أن ثورات الربيع العربي تخطيط أمريكي لاستبدال نظاما بآخر، وضرب المقاومة والممانعة وتقسيم الدول العربي.

وبعد هذه الجوالة التي غصناها عبر التاريخيانية التي أعشقها وهي تاريخيانية أستاذي عبد الله العروي، أود أن الإجابة على الأسئلة التي بدأتها، ولابد أن أنهيها من خلال سؤال محوري واحد وهو هل ولي اليسار إلى غير رجعة؟ ..، والإجابة تكون بلا وألف لا ..، فهل يمكن أن ننسى تلك التحولات اليسارية الكبرى في أمريكا الجنوبية والوسطي، والكاريبي (600 مليون) كما يقول نايف حواتمة، صعود الثورة الكوبية بقيادة يسارية جذرية، وكسر الحصار من حولها في العالم، ما عدا الجار الشمالي، هذه التحولات الكبرى أدت إلى اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما بفشل سياسات الحصار الأمريكي على مساحة 47 عاما، وكسر تعليق عضوية كوبا في منظمة الدول الأمريكية واستعادة حقها بين أسرة دول الأميركتين (3 حزيران / يونيو 2009)، وعلى الطريق كسر حصار الجار الجبار الشمالي .

كذلك لا ننسى التطورات العلمية التكنولوجية والاقتصادية العملاقة في الصين، فيتنام، والعملية العسكرية في كوريا الشمالية بإدارة قيادات يسارية، في الهند يتحالف يسار الوسط كما يقول نايف حواتمة (حزب المؤتمر) مع اليسار الماركسي وبالعودة للشعب، والانتخابات الديمقراطية وبرامج جامعة بين ثورات ما بعد التصنيع " العلم والمعرفة، العلمانية، والمساواة في المواطنة، التقدم والعدالة الاجتماعية .

كذلك لا ننسى التطورات نحو اليسار في جنوب إفريقيا (أكبر اقتصاد في إفريقيا، 47 مليون)، في أنجولا، ورياح العديد في عديد  أقطار أفريقيا السمراء، إنها عمليات النهوض العاصف الكبير في مسار شعوب العالم الثالث والجنوب نحو عالم الحداثة والعدالة الاجتماعية مع مطالع القرن الحادي والعشرين .

على الضفة الأخرى أزمة النظام المالي الرأسمالي العالمي الطاحنة اجتاحت اقتصاد بلدان المركز الرأسمالي العالي التطور، وامتدت على مساحة العالم أكثر وأكثر بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، واستفحلت أكثر وأكثر بعد حادث السابع من أكتوبر الماضي والتي تسمى بحادثة طوفان الاقصى .

خلاصة القول إن الأزمة في الرأسمالية كما قال نايف حواتمة دفعت بلدان أنظمة المركز الرأسمالي بلدان " المليار الذهبي" إلى العمل على وقف " الانهيار الشامل لاقتصاد السوق الحر " بالتدخل الواسع للدولة في الاقتصاد "بالتأميم " لغة أوروبا و" الاستحواذ" و" الشراء" باللغة الأمريكية وهو ذاته " التأميم وتملك الدولة" .. " الرقابة والمساءلة والمحاسبة" من جانب الدولة على المفاصل الاقتصادية من بنوك وشركات، حتى إلى "أشكال من الحماية "، وكل هذه العمليات مستمدة من التجارب الاشتراكية السابقة والراهنة.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

...................

المراجع

1- نايف حواتمة: اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير "نقد وتوقعات".

2- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الأول | قراءة ثانية.. يوتيوب.

3- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الثاني | قراءة ثانية.. يوتيوب.

ظل مفهوم الوصول إلى المعلومات لفترة طويلة حجر الزاوية في المجتمعات الديمقراطية. إنه حق أساسي يمكّن الأفراد، ويعزز الشفافية، ويخضع المؤسسات للمساءلة. ولكن مع التقدم التكنولوجيا، يجب أيضًا أن نفهم ما يعنيه الوصول إلى المعلومات.

على مر التاريخ، كان النضال من أجل الوصول إلى المعلومات محوريًا في حركات التغيير الاجتماعي. من الطباعة إلى الإنترنت، جلبت كل قفزة تكنولوجية فرصًا وتحديات جديدة. واليوم، نقف على شفا تحول نموذجي آخر، حيث يتوسع التركيز من مجرد البيانات إلى الخوارزميات التي تشكل عالمنا.

في السنوات الأخيرة، أصبحت الخوارزميات منتشرة بشكل متزايد في عمليات صنع القرار في مختلف القطاعات، من التمويل إلى العدالة الجنائية. وتتمتع هذه "الخوارزميات التنظيمية" بنفوذ كبير، ومع ذلك تظل أعمالها الداخلية مخفية عن التدقيق العام. وعلى هذا النحو، برز الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية كقضية ملحة في السعي لتحقيق الشفافية والمساءلة.

ولتقدير أهمية الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية، يجب علينا أولاً فهم السياق التاريخي والأسس القانونية لحقوق الوصول إلى المعلومات. فمن قانون حرية المعلومات إلى الاتفاقيات الدولية، هناك نسيج غني من التشريعات التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والانفتاح على المطالب الديموقراطية.

علاوة على ذلك، مع استمرار التكنولوجيا في تشكيل عالمنا، تطورت الطرق التي يمكننا من خلالها الوصول إلى المعلومات. إن ما كان يستلزم ذات يوم تقديم طلب رسمي للحصول على وثائق حكومية يشمل الآن التنقل في النظم البيئية الرقمية المعقدة وفهم عمليات صنع القرار الخوارزمية.

إن انتشار الخوارزميات في دواليب الحكم يحمل في طياته الكثير من الوعود وأيضا المخاطر. فمن ناحية، توفر هذه الأدوات الحسابية إمكانية تحقيق الكفاءة والموضوعية واتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات. ومن ناحية أخرى، فإنها تثير أيضًا مخاوف بشأن التحيز والتمييز.

وبما أن الخوارزميات أصبحت تمارس تأثيرًا أكبر على حياتنا، صار من الضروري اتخاذ موقف نقدي لدورها في تشكيل النتائج المجتمعية. وسواء كان تحديد الأهلية للحصول على الخدمات الاجتماعية أو التنبؤ بالعودة إلى الإجرام، فإن هذه الأنظمة تتمتع بقوة هائلة ويجب أن تخضع لتدقيق صارم.

على الرغم من فوائدها المحتملة، فإن الخوارزميات التنظيمية لا تخلو من بعض العيوب. ومن أهمها مسألة الشفافية – أو الافتقار إليها. وفي كثير من الأحيان، تظل الأعمال الداخلية لهذه الأنظمة محاطة بالسرية، مما يترك الأفراد المتضررين في حالة من الجهل بشأن كيفية اتخاذ القرارات.

علاوة على ذلك، فإن الخوارزميات ليست محصنة ضد التمييز، مما يعكس التحيزات المتأصلة الموجودة في البيانات التي تدربت على أساسها. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إدامة وتفاقم عدم المساواة، وخاصة بالنسبة للمجتمعات المهمشة.

واستجابة للتصدي لهذه التحديات، تشكلت هناك جوقة متزايدة من الأصوات التي تدعو إلى قدر أكبر من الشفافية الخوارزمية. ومن منظمات المجتمع المدني إلى صناع القرارات السياسية، هناك اعتراف واسع النطاق بالحاجة إلى تسليط الضوء على هذه الأنظمة الغامضة.

وتتخذ الجهود الرامية إلى تعزيز الشفافية الخوارزمية أشكالا عديدة، بما في ذلك المبادرات التشريعية، وحملات المناصرة، والحلول التكنولوجية. ومن خلال وضع هذه القضايا في مقدمة الخطاب العام، يمكننا أن نبدأ في مساءلة الخوارزميات ــ والمؤسسات التي تنشرها ــ عن أفعالها.

وإدراكًا لأهمية هذه القضية، بدأت بعض الحكومات في جميع أنحاء العالم في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنظيم عملية صنع القرار الخوارزمي. فمن اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي إلى قانون المساءلة الخوارزمية في كاليفورنيا، هناك مجموعة متزايدة من التشريعات التي تهدف إلى معالجة التحديات التي تفرضها هذه الأنظمة.

وفي الوقت نفسه، تتخذ شركات التكنولوجيا أيضًا خطوات لتعزيز الشفافية والمساءلة في خوارزمياتها. وسواء كان ذلك من خلال تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي القابلة للتفسير أو إنشاء آليات تدقيق مستقلة، فهناك اعتراف بأن الوضع الراهن لم يعد قابلاً للاستمرار.

وبينما نتطلع إلى المستقبل، فمن الواضح أن الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية سيلعب دورًا متزايد الأهمية في ضمان الشفافية والمساءلة في الحوكمة. ومع ذلك، فإن إعمال هذا الحق سيتطلب جهودًا متضافرة من صناع القرارات السياسية وخبراء التكنولوجيا والمجتمع المدني.

أحد السبل المحتملة لتحقيق هذا الهدف هو من خلال إنشاء إطار قانوني يعترف صراحة بالحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية. ومن خلال تكريس هذا المبدأ، يمكننا أن نزود المواطنين بالأدوات التي يحتاجون إليها لجعل الخوارزميات ــ والمؤسسات التي تنشرها ــ مسؤولة عن أفعالها.

وفي الختام، فإن التحول من الحق في الوصول إلى المعلومات إلى الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية يمثل تطورا حاسما في فهمنا للشفافية والمساءلة في تدبير الحكم. ومن خلال التصدي للتحديات التي تفرضها هذه الأنظمة الغامضة، يمكننا رسم مسار نحو مستقبل أكثر عدلا وإنصافا وديموقراطية.

***

عبده حقي

هناكَ قاعِدَةٌ معروفةٌ عندَ الأُصوليينَ السُّنَّة، وهذهِ القاعِدَةُ تقول:" تتغيَّرُ الأحكامُ بِتَغَيُّرِ الأزمان". ولايرادُ من "الأزمان" هنا معناها الفلسفي ؛ حيثُ يعرِّفُ الفلاسفَةُ " الزمان" بِأَنَّهُ : مقدارُ الحركةِ. ولايرادُ منها معناها الفيزيائي والرياضِيّ. حيثُ اختلفَ الزمانُ في فيزياء نيوتن الذي اتسمَ بصفةِ الاطلاق عنهُ في فيزياء اينشتين الذي اعتبر الزمانَ بعداً رابِعاً واعتبرَهُ نِسبِيّاً. الزمان عند الفقهاء هو التغيُّراتُ والظُروفُ المُحيطَةُ بنا.

ولكِنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَهُ هنا هو: كيف تتغَيَّرُ الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ في الواقعِ وَنَفسِ الأمرِ؟ ويُجيبُ أصحابُ هذهِ القاعِدَةِ : بأنَّنا لانعني بالاحكام التي يُغَيُّرُها الزمان هي الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ بل نعني بها الاحكامُ المُتَغَيِّرَةُ، فهذهِ هي الاحكامُ التي تَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الأزمانِ.

هذا مايقولُهُ مشهورُ الأُصوليينَ من اهلِ السُّنَّةِ، ولكنَّ الأُصوليينَ الشيعةَ قالوا بقاعِدَةٍ أُخرى هي:" الاحكامُ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ موضوعاتِها". ومعنى هذهِ القاعدةِ، أَنَّ الازمانَ لاتغيِّرُ الأحكامَ الشَّرعِيَّةَ وَانَّما تُغَيِّرُ موضوعاتِها، وتبقى  الاحكامُ على ثَباتِها، ومن خلالِ الأمثِلَةِ تَتَضِحُ هذهِ القاعِدَةُ.

فعلى سبيلِ المثال، نقولُ: أنَّ الخمرَ حرامٌ وَنَجِسَةٌ، هذانِ حُكمانِ للخَمرِ غير قابلينِ للتغيير والتبديلِ ولكن اذا تغَيَّرَ الموضوعُ والذي هو "الخمرُ" هنا، وانقلبَ خَلّاً فحينئذٍ يصبح ماكان خمراً بانقلابِهِ خلّاً حلالاً وطاهراً. الذي غَيَّرَهُ الزمانُ. هنا ليس الحكم؛ لانه ثابتٌ من الأول بحرمة الخمرِ ونجاستها، وثابتٌ للخَلِّ بالحلِيَّةِ والطهارَةِ. الذي تَبَدَّلَ هو الموضوعُ الخارجي الذي هو الخمرُ بانقلابِهِ خلّاً. مثال آخر : الخَشَبَةُ المُتَنَجِسَةُ بالبولِ اذا أحرقَتْها النارُ واستحالَتْ رماداً تكونُ  طاهرةً. هذهِ الخَشَبَةُ التي كانتْ نَجِسَةً اصبحتْ طاهرةً لانَّ الموضوعً تَغَيَّر. وقد ضرب الفقهاء مثلاً آخرَ وهو : الكلبُ المطمورُ في أرضٍ ملحِيَّةٍ لمئاتِ السنين بحيثُ استحالَ الى ملحٍ فهنا نقول بالطهارة بسبب تبدل الموضوع الخارجي. مع ملاحظة أنَّ المالكِيَّةَ  قالوا بطهارةِ الكلب.

هذه الموضوعاتُ هي موضوعاتٌ حِسِيَّةٌ، ولكن هناك حالات من التغير تظرأ على الموضوع بتغيّر بعض الصفات وهذه الصفاتُ ليست حسيَّةً مشاهدةً بالحاسة البصريَّةِ، ومثالُها: الدم، الفقهاء يقولون بحرمةِ بيعِ الاعيان النجسة كالدمِ اذا لم تكن له فائدةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ  لدى العُقَلاءِ، في السابق، لم تكن للدم فائدةٌ محلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء، بل كانت فائدتُه فائدةً مُحَرَّمَةٌ وهي شُربُهُ، أما اليومَ، فتحققت فوائدُ كثيرةٌ للدم وهي اعطاؤُهُ للمرضى من اجل انقاذ حياتهم، فاصبحت لهُ فائِدَةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء  وبالتالي يجوز بيعُهُ. فهنا الموضوع وهو " الدمُ" بقِيَ نفسه ولكن وجدت فيه صفاتٌ جديدةٌ لم تكُنْ معروفَةً في السابِقِ، وكأَنَّهُ صارَ موضوعاً جديداً ؛ ولذا جازَ بيعُهُ من اجلِ انقاذ جريحٍ أو اسعافِ مريضٍ.

وَأحياناً يبقى الموضوع على ماهو عليه، ولكنّ الصفةَ التعاقديَّةَ تُغَيِّرُ الحكم مثالهُ : الرجل والمرأة قبل العقدِ كانا أجنبيينِ عن بعضهما البعض، لايحلُّ لكل منهما لمس الآخر أوتقبيله أو سائر الاستمتاعات الاخرى، ولكن بعد العقد يحل لهما كلَّ شيء، الذي احدث التغيير هي الصفةُ التعاقديَّةُ التي انضمت الى الموضوع. اذن الاحكام لاتتغير بتغير الازمان، وانما الزمن يحدث اما تغييرات حِسيَّة في الموضوعِ أَو تغييرات في الصفات كالمنفعة المحللة المقصودة في الدم والتي تجيزُ لنا بيعَهُ، أو الصفة التعاقدية التي التي حدثت  للموضوع فغيرته من حرمة لمس المرأة قبل العقد الى حليّة سائر الاستمتاعات بعد العقد.

هذا الموضوع طويل ومتشعب ولاتسعه هذه المقالة، وانَّما هي مجرد اثارات عسى ان ينتفع القارئ الكريم بها.

***

زعيم الخير الله

 

يعد الجابري أحد أهم رموز الإنسانيات العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، نظراً إلى ما قام بن من حفريات في طبقات النصوص التراثية والتأسيسية للحضارة العربية الإسلامية، وراح يفكك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي اعتبره شاهداً على استقالة العقل، لكن أهميته تعود إلى التأسيس لقراءة منهجية للتراث العربي الإسلامي وفق مقاربة نقدية، والعمل على ترغيب القارئ العربي لقراءة ما اختاره من نصوص التراث.

موضوع قراءتنا اليوم يدور حول مشروع محمد عابد الجابري الفكري، حيث أحاول تسليط الضوء على الأفكار الأساسية في هذا المشروع، وعلى بعض النقد الذي تلقاه مشروع الجابري، وخصوصا من جورج طرابيشي، والذي استغل على نقد مشروع الجابري قرابة ربع قرن، فربما كان هذا أهم ناقد لأهم مفكر، وقد شكلا كلاهما أشهر حالة نقد في تاريخ الفكر العربي المعاصر تقريبا.

تكون مشروع الجابري من سلسلة كتب أساسية، في مقدمتها كتاب" تكوين العقل العربي"، وهو الكتاب الأساس الذي صدر عام 1984، وكان له عند صدوره صدى عميق، ثم كتاب " بنية العقل العربي"، وهذين الكتابين يمثلان النواة الصلبة في مشروع الجابري، وبعد ذلك صدر كتابان آخران أقل قيمة من الكتابين السابقين ضمن المشروع، وهو " كتاب العقل السياسي العربي"،  و" العقل الأخلاقي العربي". وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى يمكن اعتبارها من رواتب المشروع الفكري للجابري، مثل كتاب " نحن والتراث.. قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ".

وهذه الكتب جميعا اشتغلت على أسئلة ومشكلات وقضايا هامة في مشروع الجابري، وقد انطلقت من حادث مؤلم أصاب العالم العربي في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهي هزيمة مصر من إسرائيل في حزيران لعام 1967، حيث أحدثت زلزالا عنيفا على قلوب كثير من المثقفين العرب وعقولهم وعلى رأسهم الجابري ـ لأن حجم الأمل كان لديه كبيرا، خصوصا بعد الخطاب القومي الناصري الذي صنع لهم من الحبة قبة ومن النملة فيل، ثم تبين له أن حجم الوهم كان أكبر من حجم الأمل، فألتفت الجابري يبحث عن أسباب الهزيمة وأسرارها في الواقع العربي والثقافة العربية.

وقد كان هناك سؤالا يدور في خلد الجابري وهو: هل نحن في حالة أزمة؟، وهل الهزيمة مجرد تعبير عن نتيجة للأزمة ؟، أم أن هذه الهزيمة تمثل حالة عابرة ؟

وهنا يجيبنا الجابري بأننا في أزمة مستفحلة، لا تدور فقط في سطح الحياة العربية، بل تدور في جذورنا المعرفة إلى ما سماه بـ "العقل العربي"، والعقل العربي يحتاج إلى وقفه لفهمه، فالجابري في "تكوين العقل العربي" ينبهنا أنه لا يقصد بالعقل العربي مجموع الأفكار التي يعبر العربي عن اهتماماته ومشاغله، بل بالعقل العربي بوصفه "الأداة المنتجة" لهذه الأفكار، وهذه الأفكار، إما أن تكون أفكار منفعلة، أو تكون أفكار فاعلة. والأفكار المنفعلة قد سمها بعض الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين من أمثال " لالاند" (العقل المكون)،  والتي تم تكوينها في نسيج الثقافة العربية، و"الأفكار الفاعلة"، سموها "العقل المكون".

وهنا نجد الجابري في مشروعه مهتم بتشريح الأفكار الفاعلة والمكونة في العقل العربي، وذلك بنظره المسؤولة عن أزمة العقل العربي.

إذن فالسياق النفسي الذي تشكيل من خلاله مشروع الجابري، هو سياق الشعور بالأزمة، أما السؤال الرئيس والذي هيمن على مشروعه، فهو سؤال النهضة العربية، وذلك من خلال السؤال الشهير: لماذا تخلف العرب عن غيرهم؟

والجابري يعيد طرح هذا السؤال، لأنه يعتقد أن جميع المحاولات الإصلاحية السابقة، قد فشلت في مهمتها منذ مجيئ "جمال الدين الأفغاني" حتى "زكي نجيب محمود"، وذلك لأنها تناولت التراث والفكر فقط، وأهملت الأداة المنتجة لهذا الفكر؛ أي أهملت العقل الفاعل المكون للفكر، لكن هذا العقل لم يأت من فراغ، وإنما يرتبط بإطار مرجعي، مثل الكرة المطاطية المربوطة بحبل مطاط.

وفي نظر الجابري أن لكل أمة إطارها المرجعي الذي يحدد عقلها الفاعل، وهذا الإطار له طبيعة شبه ثابتة لزمن طويل، فمثلا العقل اليوناني القديم قد سيطرت عليه "الفلسفة النظرية" وشكلت إطاره المرجعي، بينما العقل الغربي الحديث ارتبط بـ"الطبيعة والعلم التجريبي" ؛ في حين تشكل الإطار المرجعي للعقل العربي من خلال " النص الديني" ذو البنية الثابتة الجامدة "، والذي يعني الموروث الديني الاجتهادي وليس نص الوحي القرآني.

هذه هو الإطار الذي تشكلت فيه البنى الثقافية والفكرية المعرفية المسؤولة عن عجز العقل العربي في إنتاج حلول لمشكلاته في نظر الجابري، والإنسان العربي للأسف في نظره معجون بتراثه الديني، وهذا التراث إن صح التعبير هو بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ومن ثم فهو المسؤول عن مدخلات العقل ومخرجاته، وهو المسؤول عن المعاجلة لهذه المدخلات أيضا، ثم توقف الجابري عند طريقة المعالجة هذه  فقال:" إن بنية العقل العربي تتكون من ثلاثة أنظمة  في إنتاج المعرفة ومعالجاتها،  وهي تشبه أنظمة الحاسوب أو الهاتف، والنظام المعرفي الأول: العرفاني، والثاني: النظام البياني، والثالث: النظام البرهاني، واعتبر الجابري النظام الأخير أفضل من السابقين لكونه يدعو للعقلانية.

والنظام الأول البياني هو نسبة إلى البيان وهو الوضوح في اللغة، وهو الذي تنتمي إليه علوم اللسان العربي، وكذلك ينتمي إلى هذا النظام علوم الفقه واًصوله وما شابه ذلك، وهذه العلوم عبارة عن رسائل لإيضاح الرسالة الدينية، ولكن نواتها الصلبة هو اللسان العربي المبين؛ ما يعني أن هذه العلوم تعتمد بشكل أساسي على فقد اللغة، ولهذا يعد النظام البياني نتاج عقل عربي أصيل.

وأما النظام الثاني وهو العرفاني كما سماه، وهو نسبة إلى العرفان، أي المعرفة القلبية والحدسية، ويدخل في هذا النظام كل علوم التصوف والفرق الباطنية والغنوصية ـ والمعرفة في هذا النظام ليست وسيلتها الحدس.

أما النظام الثالث وهو البرهاني وقد استعار الجابري تسمية هذا النظام من "ابن رشد"، (الذي كان يتعصب له تعصبا شديدا)، وهو النظام الذي تنتمي إليه معظم مذاهب الفلسفة والمنطق الصوري، وقد سمى بـ" البرهاني" لأن وسيلته في المعرفة هو " العقل".

والجابري انتقد النظام العرفاني انتقادا شديد واعتبره قد ساهم في تعطيل العقل البرهاني الذي يربط النتائج بالمقدمات، وجعله عقلا غيبيًا يؤمن باللامعقول، ولذلك وصفه الجابري بالعقل المستقيل عن العمل في الوجود والحياة  وذلك لكونه يرى العالم من منظور سحري.

وهنا نجد الجابري يعلي من لواء العقلانية في نقده للعقل العرفاني من خلال تحيزه للعقل البرهاني، حيث يصفه بأنه " الأيقونة" التي خسرها العقل في مرحلة العرفان فسقط، وقد حمَل الجابري معظم المسؤولية في ترسيخ المذهب العرفاني الدخيل على العقل العربي من خلال الشيح الرئيس "ابن سينا".

وهنا نعود إلى سؤال النهضة الذي سأله الجابري، وهو لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟

وفي اعتقاد الجابري أن فشل كل المحاولات الإصلاحية السابقة، تكمن في أنها تناولت التراث والفكر العربي فقط وأهملت الأداة المنتجة، وهي العقل، وكيف تكون ومما يتكون ؟ وما المعطيات التي تحدد سلوك وطريقة هذا العقل ؟، لأننا بحسب الجابري إذا أردنا أن نجيب على سؤال النهضة وعن أسباب جمود وتقهقر العقل العربي بإجابة واضحة علينا أن نعود إلى دراسة تكوين العقل العربي والأداة التي قد تصنع التقدم كما قد تفضي إلى التأخر.

وانطلاقا من هنا بتتبع مسار تشكل العقل العربي وتتبع مصادره المعرفية التي أسست له، ولأن كل عقل محكوم بفضائه الثقافي بوصفه الإطار المرجعي لهذا العقل عندما مثلا يريد أن يفكر، فيفكر استنادا إلى هذا الإطار المرجعي الثقافي، وذلك من خلال ما بداخله من مفاهيم وتصورت وأفكار مسبقة تكون بها في الماضي.

وبناءً عليه هذا يدفعنا كما يقول الجابري لإعادة طرح سؤال النهضة مجددا لكن بطريقة مختلفة ليصبح السؤال على الشكل التالي: طالما أن كل عقل بطبيعة الحال يحمل الجديد في تكوينه الثقافي، فما البنى الثقافية والفكرية والمعرفية التي أدت بالعقل العربي إلى التأخر وأدت بالعقل الآخر إلى التقدم ؟

كلمة السر هنا بحسب الجابري تكمن كما ذكرنا من قبل في نوعية الثقافة المسيطرة ونوع ماهية التراث المهيمن عليها، فمثلا العقل اليوناني هو عقل فضائه الثقافي فلسفي – منطقي، والعقل الأوروبي الغربي هو عقل مرتبط بالعالم الطبيعي والمنطق العلمي، وأما العقل العربي فهو عقل وجداني – عاطفي ينطلق من النظرة الدينية ومرتبط بسلطة النص الثابتة، فإذن العقل العربي ذو بنية جامدة ثابتة وذلك من خلال تكونه الثقافي الماضي، وهذا ما جعل هذا العقل يعيش دائما في الماضي ويفكر بطريقة ماضوية رغم تغير الأحوال والأزمان والأمكنة.. إلخ.

أما ما الذي أدى إلى ثبات هذه البنية العقلية العربية على مر العصور وإلي اليوم؟ ؛ ولماذا ظلت البنية العقلية العربية ثابتة رغم اختلاف العصور والمراحل ورغم كل التطور والتقدم الذي طرأ ظل العقل العربي ثابت إلى اليوم فما السبب؟

اعتقد السبب كما يرى الجابري يعود إلى عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، هذا العصر الذي شكل محطة تاريخية أساسية لتكون البنية العقلية العربية وثباتها، ففي هذا العصر كُتب كل الموروث العربي سواء الإسلامي أو الجاهلي. كذلك في هذا العصر جُمعت اللغة العربية من الأعراب وتم تدوينها وتقعيدها، كذلك في هذا العصر ظهر النحويون ووضعوا علوم اللغة من نحو وصرف وغيرها. كما جٌمع الحديث وكتب السيرة وبرز فقهها وعلم الكلام، وبدأت فيه أيضا إرهاصات ترجمة علوم الأوائل مترافقة مع بدء ظهور فلاسفة العرب.

وقد قدم كل هؤلاء اسهاماتهم وانتاجاتهم ليشكل هذا الإنتاج المنوع البنية الثقافية العربية والمرجع الأساسي لهذا العقل العربي الذي بقيَ دائرا منذ ذلك الزمن وحتى اليوم في فلك هذه الثقافة التي تكونت وتشكلت في عصر التدوين.

وهنا يطرح الجابري وجهة نظره، وهي أن العقل العربي كان محكوما بثقافته وتراثه، وهذا التراث متغلغل بشكل كبير بين ثنايا الوعي واللاوعي عند الإنسان العربي. إذن الإنسان العربي متعلق بهذه الدرجة بتراثه، ومن ثم كما يرى الجابري لا يمكن أن يكون حديثنا عن التخلي الكامل عن هذا التراث أو حتى لا يمكن اللجوء إلى عملية إسقاط لهذا العقل العربي مثلا في سياق حضاري آخر ومختلف عنه بشكل كامل.

ولذلك فالطريق الأمثل كما يرى الجابري تكون بإقامة علاقة صحيحة ما بين العقل العربي وهذا التراث، وهذا الأمر يكون بإعادة قراءة هذا التراث من واقع سياقه الزمني، والظرفي، والمكاني، قراءة نقدية موضوعية، وستعمل هذه القراءة على تنقية هذا التراث من كل الشوائب والأساطير والمرويات وكل ما يوجد به من مسبقات ثابتة كي نستطيع بعد ذلك أن نستخرج من هذا التراث ما يصلح مثلا لزمن وعصر اليوم.

وانطلاقا من هنا يبدأ الجابري بتحليل الخارطة المعرفية التراثية المكونة والمشكلة لبنية العقل العربي، وذلك بعد دراسة مكثفة ليتوصل الجابري بأن الجابري محكوم بثلاثة بني وأنظمة معرفية وهي التي شرحناها من قبل.

وقد انتقد طرابيشي مشروع الجابري، فيما سماه " نقد نقد العقل العربي "،  حيث يرى فيه أن كل مشروع الجابري يقوم في نقد العقل العربي على اصطناع قطيعة معرفية " بين فكر المشرق والمغرب، وعلى التمييز بين " مدرسة مشرقية إشراقية " و " مدرسة مغربية برهانية "، وعلى التوكيد على أن رواد " المشروع الثقافي الأندلسي – المغربي " – ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي –تحركوا جميعهم في اتجاه واحد "، هو اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق "، و" الكف عن تقليد المشارقة " و " تأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق ".

وكتاب " نقد نقد العقل العربي " لطرابيشي يتصدى لتفكيك تلك " الأبستمولوجيا الجغرافية " ؛ من منطلق التوكيد على وحدة بنية العقل العربي الإسلامي، ووحدة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه، بجناحيه المشرقي والمغربي، ووحدة المركز الذي تفرعت عنه دوائره المحيطة. فلا التحول من دائرة البيان إلى دائرة العرفان أو دائرة البرهان، يعني انعتاقًا من جاذبية نقطة المركز، ولا التنقل بين الخانات يمكن أن يُشكل خروجًا عن رقعة شطرنج العقل العربي الإسلامي، الذي يبقى يصدر عن نظام أبستمي واحد، مهما تمايزت عبقريات الأشخاص، وعبقريات الأماكن.. وللحديث بقية!!

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.....................

المراجع

1- كتابات الجابري الأربعة: تكوين العقل العربي، وبنيته، والعقل السياسي والأخلاقي، نشرة مركز دراسات الوحدة العربية.

2- قناة يوسف حسين: ملخص عن مشروع محمد محمد عابد الجابري النقدي حول تكوين وبنية العقل العربي.. يوتيوب.

3- قناة بلقيس الثقافية:  فصول | الجابري ومشروع نقد العقل العربي.. يوتيوب.

بقلم: ريك لويس - محرر مجلة الفلسفة الآن

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

في صباح يوم غائم، توجهت شيلا إلى المقهى وأسقطت حقيبة ظهرها بخشونة على الأرض بجوار كرسيها المعتاد. على الفور قال لها صوت: "أوه! إحذري!" دارت حول نفسها ولكن لم يكن هناك أحد هناك. "لا، لا، هنا"، قالت حقيبة ظهرها.

"الكمبيوتر المحمول." أخرجت جهاز الكمبيوتر الخاص بها، والذي بدا سالما بسبب معاملتها المتعجرفة له، وفتحته بحذر. هل تركت مقطع فيديو قيد التشغيل؟ قال مكبر الصوت المدمج: "هذا أفضل". "ضعيها على الطاولة بعناية."

"اعذرني؟"

"يا عزيزي، بالتأكيد لا يمكنك أن تنسى؟ أنا أنت. هنا فقط."

صرخت شيلا على وجه السرعة إلى صانع القهوة: "مرحبا، قم بإلغاء مشروب اللاتيه الثلاثي! منزوعة الكافيين بالنسبة لي.

"لا، أنت حقا هنا." قال الكمبيوتر المحمول. "كنا نفكر بالأمس في مركز الوعي ومكان وجوده. يتذكر؟ بدا الدماغ قابلا للتلف للغاية، واسفنجيا للغاية، بحيث لا يكون آمنا. لذلك قمت بتحميل ذكرياتنا وشخصيتنا إلى السحابة ونقلت مركز وعيي إلى جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بك... أمممم، "الخاص بنا". فقط كوني متأنية معها، هذا كل ما أطلبه. لقد تركت ما يكفي من الوعي المتبقي في جمجمتي لإدارة الوظائف الأساسية مثل المشي إلى المقهى وطلب الكرواسون. يجب أن يكون الأمر على ما يرام، فنحن نعمل بشكل أساسي على الطيار الآلي في أيام الاثنين على أي حال.

***

ربما ستستمتع بهذه المشكلة: فهي تتعلق بك في الغالب!

يغوص كتابنا في سيل من المشكلات الفلسفية حول العقل والذات. على سبيل المثال، هل يتم اتخاذ قراراتك بحرية أم أنك تقوم فقط بأداء رقصة حتمية محددة سلفا بين السبب والنتيجة؟ هل هويتك كفرد شيء ثابت ودائم؟ أم أنها تتغير؟ هل يعتمد على ذاكرتك؟ هل هي قابلة للقسمة؟ العائد؟ هل تمكنك الاستعارات من نمذجة العالم؟ هل عقلك في النهاية مجرد مجموعة من الخلايا العصبية؟ "اعرف نفسك"، هذا ما أمر به النقش الموجود على واجهة معبد أبولو في دلفي، وهي النصيحة التي أيدها سقراط بحماس، وأصبحت هدفا للفلسفة منذ ذلك الحين. إذن، كما ترى، أنت على حق تماما في التفكير في نفسك من حين لآخر، وحتى في قراءة مجلة تتحدث عنك تماما. سقراط يقول ذلك!

هل لديك عقل أم من الأفضل أن تقول أنك عقل، ربما هو الذي يملك جسدك؟ هل عقلك هو نفس دماغك؟ أم نفسك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل عقلك يمتلك نفسك، أم العكس؟ هل يمكن لعقلك أن ينجو من موتك الجسدي عن طريق نقله إلى جهاز كمبيوتر، أو ربما تحميله على السحابة (مع أو بدون قيثارة)؟ هذا سؤال لا نتناوله هنا، على الرغم من أن دان دينيت، ذلك العالم الفيزيائي والمعرفي الشهير، قال إنه من الناحية العملية مستحيل لأن عمل دماغك داخل جمجمتك يتأثر ببيئته الكيميائية الشخصية للغاية، وهو أمر يمكن أن لا يمكن تكرارها في الكمبيوتر.

لدينا مقالتان للبحث عن الإرادة الحرة. هذا موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بالأسئلة المتعلقة بطبيعة العقل. غالبا ما ترتبط نظرية العقل لدى الفيلسوف بنظرية موازية تتعلق بحرية الإرادة. يقول أحد مؤلفينا إنه إذا كانت الإرادة الحرة فكرة متماسكة على الإطلاق، فقد تتمكن يوما ما من تعزيز مقدار الإرادة الحرة لديك عن طريق تناول حبوب منع الحمل.

ويمكن القول أن هذا الموضوع يتناول جوانب متنوعة من الطبيعة البشرية. لكن هذا يفترض وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية. لقد شكك الكثير من الفلاسفة في هذا. على سبيل المثال، اشتكى الوجوديون من أن الحديث عن الطبيعة البشرية يفترض مسبقًا فكرة الجوهرية، وهي فكرة أن هناك طريقة نحن عليها بشكل طبيعي أو ينبغي أن نكون عليها. يرفض الوجوديون ذلك صراحة، قائلين إننا نخترع أنفسنا ويجب أن نستمر في اختراع أنفسنا طوال حياتنا.

من ناحية أخرى، آمنت فيليبا فوت بالطبيعة البشرية واستخدمتها كأساس للأخلاق، كما ترون من مذكراتها التي أعيد اكتشافها مؤخرا إلى مجلة الفلسفة الأن، والتي نُشرت أخيرا في هذا العدد.

ربما الطبيعة البشرية ليست ثابتة ولكن من الواضح أن البشر يتشاركون في العديد من الخصائص العقلية. إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن المحتمل أن نجد أنه من المستحيل التعامل مع بعضنا البعض. إن قدرتنا على التعاطف، وقدرتنا على فهم بعضنا البعض، تعتمد على افتراضات (لا يمكن اختبارها بشكل مباشر) مفادها أن الآخرين يشبهوننا في كثير من النواحي من حيث تصوراتهم، وقدراتهم العقلية، واستجاباتهم العاطفية. أنت تشبهني قليلا، لذا أستطيع أن أحاول أن أفهمك، ولو بشكل ناقص.

ما الذي يجعلك أنت؟ ماذا لو تم تقسيم جزء منك أو تكراره؟ ماذا لو قام شخص ما بقص الأنسجة التي تربط بين نصفي الكرة في دماغك؟ هل سيكون هناك اثنان منكم بعد ذلك؟ أيهما سيمتلك السيارة؟ هل يجب أن يكون مركز وعيك موجودا في نفس مكان دماغك الجسدي؟ يبدو بديهيا. ومع ذلك، اعتقد أرسطو أن القلب هو مقر الذكاء، وهذا لم يمنعه من العمل أو تدريس الفلسفة. هل يمكنك نقل مركز وعيك خارج رأسك، مثل شيلا، أو ربما إذا استخدمت كاميرات عن بعد لتغيير الموقع الذي ترى منه العالم؟

تتكاثر الأسئلة إلى ما لا نهاية، والمساحة ضيقة جدا للتعامل معها جميعا. لكن الأخبار المذهلة التي أُعلنت للتو (انظر صفحة الأخبار لدينا) هي أن الباحثين تمكنوا من ربط ثلاثة أدمغة بشرية معا بشكل مباشر، مما مكن أصحابها من اللعب بشكل تعاوني، بدون كلمات، ولعب لعبة تشبه لعبة تتريس، مما يجعل هذه القضية الأكثر أهمية لدينا على الإطلاق.

***

........................

المصدر:

https://philosophynow.org/issues/130/You_and_Your_Mind

 

إن من يتابع الحراك الديني على المستوى الشعبي والرسمي/ الدولتي والمعرفي في تاريخنا المعاصر، سيجد ذاك الصراع المعلن أو الخفي بين أصحاب التيارات الدينيّة السائدة في الساحة السياسيّة والشعبيّة والمعرفيّة حتى اليوم، رغم قدمها في الخطاب الإسلامي، حيث تعود إلى مراحل متقدمة جداً من تاريخ الخلافة الإسلاميّة، وخاصة عندما بدأ يوظف الدين لتبرير التناقضات والصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة من بداية قيام الحلافة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول، وتاريخ هذه القضية في الإسلام يعود في الحقيقة إلى الفتن التي وجدت في الصدر الأول كمقتل عثمان، ومعركة الجمل وصفين، حيث بدأ المسلمون يتساءلون عن معنى الإيمان والكفر، وعن المعاصي أهي بقضاء نافذ، وأمر لا مرد له كما تروج ذلك السلطة الأموية، أم أن الإنسان مسؤول عما يقترفه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؟ وما هي حدود هذه المسؤولية؟ هذه التناقضات والصراعات التي تمظهرت فكرياً  بين أصحاب الإرهاصات الأوليّة للتيار العقلاني، كما هو الحال عند (غيلان الدمشقي وجعد بن درهم، وعموم المعتزلة)، وغيرهم ممن أكد على حرية الإنسان وإرادته في تقرير مصيره، وبين أصحاب التيار الجبري الذي قال به (جهم بن صفوان) وتبناه مشايخ السلطان مع الحكم الأموي،  ثم مع الخلافة العباسيّة بشكل خاص كالحنابلة الذين فسح لهم في نشر تيارهم بشكل واسع الخليفة "المتوكل" الذي تبني فكرهم وجعله فكر الخلافة الإسلامية 232 للهجرة وصولاً إلى وهابيّة ودواعش العصر. ففي تاريخنا المعاصر، لم تزل المذاهب والعديد من الفرق الإسلاميّة قائمة وتمارس نشاطها، حيث نجد دولاً عربيّة وإسلاميّة ما زالت تتخذ من هذا المذهب أو ذاك، أو من هذه الفرقة الكلاميّة أو الدينيّة أو تلك، توجهاً دينيّاً لها، فهذه مالكيّة المذهب، أو أباضيّة، أو شافعيّة، وتلك زيديّة، أو اثنا عشريّة، وتلك تدعي الوسطيّة في الإسلام، وغيرها اعتمدت الفكر الأشعري أو الماتريدي.. وغير ذلك. الأمر الذي جعلنا نحمل معنا حتى تاريخه، تلك الصراعات الدمويّة والكراهية بين أصحاب هذه المذاهب والفرق الدينيّة. وبالتالي هذا يتطلب منا أن نعيد قراءة أهم المواقف الفكريّة العقيديّة التي لازالت تمارس نشاطها في حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة، محاولين كشف الأبعاد الحقيقيّة على الأقل لهذه المواقف، ودورها في زرع الخلاف بين أبناء أمتنا في تاريخنا المعاصر، والمساهمة بشكل فاعل في زيادة تخلف هذه الأمّة، علما أن الخلافات ذاتها وفي معظمها تدور حول قضايا غيبيّة ولاهوتيّة وضنيّة، لا يمكن ملامستها في الواقع، أو الحكم عليها علميّاً، كصفات الله، وخلق القرآن، والحساب والعقاب، ومرتكب الكبيرة، وعذاب القبر وغير ذلك من قضايا سُجن وعُذب ونُفي وقُتل الكثير ممن كان يأخذ بها أو عافها من المختلفين بالرأي حولها.

التيار الجبري:

الجبر لغة:

جاء في معجم المعاني الجامع – (معجم في اللغة العربيّة):

جبَرَ يَجبُر، جَبْرًا وجُبُورًا وجِبارةً، فهو جابِر، والمفعول مجبور – للمتعدِّي.

والجبر اصطلاحاً: هو إجبار وإكراه لإنسان على فعل أمر ما دون إرادته ورغبته.

وفي المصطلح الديني: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله. وكما يقول الشهرستاني في الملل والنحل: سُمِّي الجَبريَّة بذلك لأنهم يقولون: إن العبد مُجبر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن الله سبحانه أجبر العباد على الإيمان أو الكفر. (1). وهذا ما قال به "أبو حسن الأشعري" في كتابه (مقالات الإسلاميين): (هو إجبار الناس وإرغامهم على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم. ويرى الجَبريَّة أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر أو الطاعة أو المعصية التي وقعت منه، ليست فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يغير شيئًا من ذلك.). (2)

و(الجبرية أصناف، هناك الجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل. وهناك الجبرية المتوسطة، وهي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وهذا ما قال به الأشاعرة في نظرية الكسب.  وهذا ما جعل المعتزلة يعدون الأشعريّة جبريّة.). (3).

و"الجَبْرية أو المجبرة"، هي فرقة كلاميّة وجدت في الإسلام كما وجدت في غيره من الديانات التوحيديّة الثلاثة، وجوهر عقيدتها، هو أنها تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخيراً لأنه لا قدرة له على اختيار أعماله، ولذلك فقد اعتبرها علماء أهل السنة والجماعة. من الفرق الضالة المخالفة لمنهج وعقيدة الإسلام الحق. أي مخالفة لأهل السنة والجماعة. ويقال إن أول من قال بهذا المذهب الباطل هو "الجعد بن درهم" مؤدب "مروان  بن محمد" آخر خلفاء بني أميّة، ولذا كان يلقب بـ"مروان الجعدى"، (4).

هذا وقد اعتبر الأشاعرة وأهل السنة عموماً الجبريّة في المقام الأول لوصف أتباع جهم بن صفوان (ت 746) وذلك لأن الأشاعرة يعتبرون عقيدتهم بموقف وسط بين القدريّة والجبريّة، ومن ناحية أخرى اعتبر المعتزلة أن الماتريديّة والأشعريّة بمثابة جبريّة لأنهم حسب رأيهم رفضوا العقيدة الصحيحة المتمثلة في الإرادة الحرة. وكذلك استخدم الشيعة (الزيديّة والاسماعيليّة والإماميّة الاثني عشريّة) مصطلح الجبريّة أو المجبرة متهمين به الأشعريين والحنابلة. مع أن الحنابلة والسلفيين عموما ينتقدون جميع الفرق الكلاميّة مثل القدريّة والجبريّة والمرجئة والجهميّة والمعتزلة وينعتونهم بالضالين. (5).

المرجعيّة المقدسة للجبريّة:

لقد اعتمد الجبريّة على نصوص مقدسة من القرآن والحديث لتأكيد موقفهم هذا، كقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ).{التغابن: 11}. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾. [الأنفال: 17]. وقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). {التكوير: 28}.  وقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي. (6).

مبادئ الفرقة الجبريّة:

إن أهم هذه المبادئ وأشهرها عندهم، هو مبدؤهم الخاص بأفعال العباد، وإن العباد في أفعالهم مجبرون، وكل ما يصدر عنهم إنما يصدر اضطرارًا، فليس لهم إرادة أو قدرة أو اختيار، فالعبد - كما يقولون - كالريشة المعلقة في الهواء، يُسيِّرها الهواء حيث يشاء؛ فكذلك العبد، هو في يد القدر يُسَيِّره حيث يشاء؛ فجميع أفعال العباد اضطراريّة، والله تعالى أوجد الفعل في العباد، كما أوجده في الجمادات والنباتات، وإذا نُسبت الأفعال إلى العباد، فإنما تنسب مجازًا باعتبار المحل، ولا تنسب إليه حقيقة.

نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن:

لقد نفت الجبريّة قدم صفات الله، والكلام صفة من صفات الله؛ فإذا كان الكلام، صفة قديمة لله كان القرآن باعتباره كلامًا إلهيًّا قديمًا، وهم ينكرون القدم، إلا للذات الإلهيّة وحدها، ومن ثم فلا يكون الكلام قديمًا، ولا تكون صفات الله قديمة، وينبني عليه القول بخلق القرآن.

لقد اعتقدوا أن الله واحد في ذاته، بمعنى: أنه غير مركب من أجزاء، وأنه لا شريك له في ذاته، بمعنى: أنه غير متعدد، وهو واحد في أفعاله، فلا شريك له، ومن هنا، ذهبوا: إلى أن الله تعالى، لا يتصف بصفات زائدة عليه من العلم والقدرة، والإرادة وغيرها.

وهم لا يصفون الباري تعالى، بصفة يوصف بها الخلق؛ لأن ذلك يقتضي تشبيه الله تعالى بالمخلوقين، ولذلك نفوا وصف الله تعالى، بأنه حيٌّ، عالٍ، سميع، بصير، غني، حكيم، رحيم، ونفوا هذه الصفات عن الله تعالى، وما يماثلها مما يوصف به الخلق. وأخذوا بالآية: (ليس كمثله شيء).

موقفهم من الجنة والنار:

يؤمنون بأن حركات أهل الخلدين -الجنة والنار- تنقطع، وأن الجنة والنار، تفنيان بعد أن يتنعم أهل الجنة، ويتعذب أهل النار المدّة التي قدرها الله تعالى.

الإيمان عند الجبرية:

إن الإيمان عند الجبرية، يتحقق بمجرد المعرفة، حتى ولو لم يقر باللسان أو جحد اللسان؛ فمن عرف بقلبه، فهو مؤمن، حتى لو أنكر وكفر بلسانه.

المعرفة تَجِبُ بالعقل قبل ورود السمع؛ إذ أن العقل يمكنه معرفة الخير والشر، ويمكن أن يصل إلى معرفة ما وراء الطبيعة والبعث.

انكار تجسيد الخالق:

ينكر الجبريون أن يكون الله تعالى على العرش، أو أن له كرسيًّا، أو أن يكون في السماء دون الأرض، بل الله في نظرهم في كل مكان. وهم ينفون رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. (7).

هكذا نرى أن الجبريّة يقحمون انفسهم في مناقشة وتأكيد قضايا تتعلق بالخالق ولا يعلمها إلا هو، وعلى هذا الأساس كفروا الناس وزندقوهم وقتلوا بعضهم، وبخاصة الفلاسفة العرب والمسلمين الذي رفضوا النقاش بهذه القضايا الغيبيّة، بغض النظر عن كل ما قدموه من قضايا تتعلق في علوم الحياة الماديّة والفكريّة معاً.

الرد على الجَبريَّة:

في التحليل السوسيولوجي والأنثربويولوجي (الأناسي) تعتبر الجبريّة في سياقها العام موقفاً سلبيّاً من الحياة بالنسبة للإنسان ودوره ومكانته في هذه الحياة، فتاريخ المجتمعات البشريّة من خلال الدراسات التاريخيّة للعصور البشريّة، بين لنا بأن بناء هذه الحياة في كل مفرداتها الماديّة والروحيّة قام بها الإنسان منذ أن صنع وسائل إنتاجه الأوليّة بيده، وصولا إلى كل حالات تطور هذه الوسائل، وما تركته هذه الوسائل ذاتها من تغيير في حياة الإنسان وإعادة تشكيل هذه الحياة بشكل مستمر مادياً وفكريا وفقاً لمصلحة من يتحكم بإدارة هذه الحياة في أفرادها ومجتمعاتها ودولها.

إن النص المقدس (القرآن والحديث) كثيراً ما أشار إلى حريّة الإرادة الإنسانيّة في اختيارات وممارسة أو نشاط هذا الإنسان في بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة معاً.

فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 272]. وقوله تعالى ({قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله تعالى: ({إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]، وقوله : ({اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصّلت: 40].

روى الشيخانِ عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى). (رواه البخاري ومسلم.).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.) رواه البخاري.

لا شك أن حالة التشابه في الآيات بين الجبر والقدر واضحة هنا، ولكن علينا أن ننتبه إلى قضيّة أساسيّة في التعامل مع هذا النص المتشابه، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الموقف الجبري خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة تحقق لهم وللسلطان الذي يعملون على خدمته منافع كثيرة، لذلك هم يعملون على دفع الناس لتبني الجبر بغية تجهيل الناس وتغييب عقولهم عن حقيقة أمرهم وما يحيط بهم. أما الذين يأخذون بمقاصد الدين وجوهره الحقيقي وخدمته للإنسان ورقيه وتقدمه، فهم يؤكدون على أن الإنسان حر في إرادته وتفكيره وهو مخير في أمره، وعلى هذا الأساس هناك الكثير من أصحاب هذا الرأي من رجال الدين حوصروا تاريخيّاً من قبل السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخ السلطان وتاريخنا العربي والإسلامي ماضياً وحاضراً يدلنا على ذلك.

ملاك القول: لنتخذ من العقل وحريّة الإرادة في أعمالنا وتفكيرنا ما يؤكد إنسانيتنا ودورنا في صنع تاريخا.. هنا فقط نؤكد إنسانيتنا وبأننا خلفاء على هذه الأرض كما قال عنا النص الديني المقدس نفسه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..............................

الهوامش:

1- (الملل والنحل للشهرستاني جـ 1 ص ـ 87). الناشر مؤسسة الحلبي.

2- (مقالات الإسلاميين – أبو الحسن الأشعري - جـ 1 صـ 338). الناشر مطبعة الدولة – استانبول

3- (موقع اليوم السابع: من هم "الجبرية".. ولماذا رآهم أهل السنة والجماعة "فرقة ضالة"؟ محمد عبد الرحمن.).

كذلك يراجع : (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ: 349).

4- المرجع ذاته. موقع اليوم السابع.

5- الويكيبيديا.

6- (موقع اسلام ويب.عقيدة القدرية والجبرية .(ولمعرفة عقيدة الجبرية والقدرية راجع كتب العقيدة، وراجع الفتاوى التالية مع إحالاتها: 9192، 36591، 35375.) كما وردة في مقال الموقع ذاته.

7- للاستزادة في معرفة مبدئ الجبرية راجع: موقع المعلومات: ما هي الفرقة الجبريّة. محمود عاطف.

يقول نيتشه: عندما نكون متعبين  تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي هزمناها منذ مدة طويلة.. هل هو عودة المكبوت؟ هل بناء لم يكن صلب، هل تغيرت المعاني في الفهم سلبًا، أم إيجابًا؟ النضج أم التدهور! نحاول في هذه السطور أن نبين كيف يكون التحليل النفسي ضياء للمعرفة عما يدور في دواخلنا، إذا ما سلمنا جدلًا بأن النفس تعرف مسعاها، ونحن نتفق مع دواخلنا بهذه المعرفة، ولكن لا نريد أن نعرف!! هل هذه المعرفة مؤلمة؟ هل هي تاريخ غابر به من الخجل ما لا نريد معرفته فيصطدم بجدار الحقيقة، وما أدراك من الحقيقة،  التي تكمن فينا ونحاول ازاحتها إلى موضوعات جانبية نبررها، نسقطها، ننقلها إلى موضوع آخر لكي لا نعرفها، ونحن نعرفها حق المعرفة، وندركها في وعينا وفي لا وعينا، نكبتها خجلًا أو خوفًا، أو نصطنع الضد منها بوصفه خير وسيلة لضبط الرغبة المحظورة وكبتها كما يقول "مصطفى زيور".

تؤكد لنا المعرفة النفسية المعمقة في النفس أن عناصر الوعي المتخيل في الفكر هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار، هذه الأفكار هي وعينا بهذا الموضوع، أو ذاك، وهي بكل الأحوال تتكون بعدة طرائق من التفكير وقوة تقديرها، أعني تأثيرها فينا، والشعور بها في لحظات حينما تداهمنا بلا سابق انذار، وهو يمكن أن يكون تفكير رمزي، لا نستطيع رفضه، ويجبرنا على قبوله، والمهم هنا يعلمنا التحليل النفسي كيف نُكونْ  هذه الصورة على أنها أثرٌ مادي رغم أنها عنصر غير حي، ويلعب الدور الأساس في أما تدهور صحتنا، أو رفضه، وحتى لو رفضناه سيعود يومًا بشكل آخر محرف!! وهنا يصدق نيتشه حينما يرى:  تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي عرفناها وتعاملنا معها وسلطنا الضوء عليها بضياء التحليل النفسي قبل الخوض في العلاج ليكون الشفاء. ويقول "سارتر" لا يمكننا قبول تصور تضاف بموجبه الوظيفة الرمزية على الصورة من الخارج، يبدو لنا، ونأمل أن نكون قد أوضحنا إلى حد ما أن الصورة رمزية في جوهرها وبنيتها بذاتها، ولا يمكن لأحد أن يقمع وظيفة الصورة الرمزية من دون التسبب في تلاشي الصورة نفسها. ونقول كيف تأسست وأَنبنت ؟ وكيف تم استدعائها في تلك اللحظة من المكان والزمان، ومن استدعاها ؟ هذه التساؤلات يجيب عليها التحليل النفسي بشكل مسهب ومستفيض بالمعرفة الحقة، من فرويد مرورًا إلى أنا فرويد وهيلين دويتش وميلاني كلاين، وحتى من خرج على التحليل بإتجاهات جديدة منهم الفرد آدلر، أو كارل يونغ، أو غيرهم، وصولا إلى عمق ما طرحه جاك لاكان في رؤيته الأعمق في مفاهيم سيجموند فرويد، وسبر أغوار النفس.

التحليل النفسي يعرفنا باستبصار ما يدور في دواخل أنفسنا، وهو ما كان يعنيه  مصطفى زيور بضياءٍ، ومن ثم فهو شفاء، وقوله نقلا عن فرويد: إن المريض الرئيس الذي يشغلني حاليًا هو نفسي. ويؤكد " مصطفى زيور" النفس أثناء جهادها للمعرفة، لا تقتصر على أن تكون مرآة تعكس الأشياء، لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية، ضياء وشفاء للنفس معًا. فلو كان الشخص الذي يعرف أنه يوسوس ويحاول جاهدًا استبعاد الفكرة التي تجعل منه يوسوس، ولكنه كلما حاول وبحث وناقش مع نفسه، تعاظم وسواسه، فنراه حينما يطرح أتفه مسألة نراه يثير مسائل أخرى تعذبه مثل المسألة التي يحاول طرحها، ويظل يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع رفضها، أو يعززها ليبذل جهودًا مضنية في استبعادها، وهو على معرفة تامة بما يفكر به، ويقوم بفعله، يقوم بالفعل ونقيضه، لذا فالتحليل النفسي كما عبر عنه سيجموند فرويد بأنه ينقلنا ليس من الشقاء  إلى السعادة، وإنما إلى شقاء مرضي إلى شقاء عادي، فكما تتطلب الحياة الهادئة راحة البال يتطلب التفكير الناجح التركيز وصفاء الذهن. 

يرى "جاك لاكان " إن مفهوم الفهم هذا له دلالة واضحة جدًا، إنه المنطلق الذي جعل منه "ياسبيرز " تحت إسم علاقة الفهم، ركيزة كل عطاءه في علم النفس المرضي، وهذا المفهوم يؤدي إلى التفكير بأن أشياء مفهومة في حد ذاتها، فإذا حزن شخص مثلا، فَمَرد ذلك إلى أنه لم يحصل على ما رغبت فيه نفسه، إلا أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، ذلك لأن هناك أشخاصًا ملكت أيمانهم كل ما ترغب إليه قلوبهم وأنفسهم،  إلا أنهم مع ذلك يبقون في حزن شديد، فالحزن إذًا هو شغف من طبيعة مغايرة تمامًا. وهذا المفهوم الذي هو مفهوم المفهوم لا تتم الإشارة إليه إلا كعلاقة متموضعة دومًا على الحدود، كلما تم الإقتراب منها أصبحت بعيدة المنال كما يقول لاكان. ويضيف " لاكان" أيضًا  أن كل ما هو سيكولوجي في السلوك الإنساني يخضع لإضطرابات جدًا عميقة، ويتضمن مفارقات جدًا واضحة، إلى حد تستحيل فيه معرفة ما يمكن فعله بشأنه كي يتسنى التفريق في مجاله بين الخيط الأبيض والخيط الأسود. فالتحليل النفسي معرفة قل نظيرها ومختلفة عن العلوم النفسية التي دائمًا تأخذ أجزاء من النفس وتكتفي بها، وكأنها جشطالت غير متكامل الأجزاء، فمعرفة حدة الشخصية، أو دراسة أبعاد الإندفاعية والغضب، أو بعض الأنماط المعرفية عن ظاهرة جزئية في النفس، أو دراسة أنماط محدودة من النفس وربطها باضطراب نوع من أنواع الشخصية وغيرها، لا يمنح التعرف على ما يدور بكل ما فيها وأقصد هنا النفس ، وتساؤلنا كيف تتم المعرفة ؟ وكيف يمكن الإهتداء بكلية النفس ومعرفتها؟ في حين أن المعرفة الكلية بالموضوع دون تجزءته تجعل صاحبها يبصر بعمق لما يجري في نفسه، وهو ضياء للمعرفة.

 يبين لنا التحليل النفسي عدة مواقف في حياتنا النفسية نستدل بها في  بعض الأحيان بالفطنة رغم انها موجودة فينا، لم تغادرنا منذ تكونها من الطفولة،  وأزاء ذلك فقول سيجموند فرويد

وقد أكدت التجربة هذه،  فعادة ما يتم اختزال نسيان الانطباعات والمشاهد والتجارب في "حجبها" فعندما يتحدث المريض عن هذا الشيء "المنسي"، نادرا ما يفشل في إضافة: بقوله  الواقع كنت أعرف ذلك دائما، أنا فقط لم أفكر في ذلك. غالباً ما يعبر عن خيبة أمله لأنه لا يستطيع التفكير في ما يكفي من الأشياء التي يمكن أن يتعرف عليها على أنها "منسية".

والتي لم يفكر فيها مرة أخرى منذ حدوثها، كما ورد هذا النص عند فرويد في مقالة التذكر والتكرار، من خلال،  ترجمة الصديق الاستاذ محمد أمين، ويضيف فرويد أيضًا: من العمليات النفسية التي يمكن مقارنتها بالانطباعات والتجارب كأفعال داخلية بحتة، والتخيلات، والعمليات العلائقية، والعواطف، والارتباطات، فيجب النظر إليها بشكل منفصل في علاقتها بالنسيان والتذكر،  يحدث هنا في كثير من الأحيان أن يتم "تذكر " شيء ما ولا يمكن "نسيانه"  أبدًا لأنه لم يتم ملاحظته مطلقاً في أي وقت، ولم يكن واعياً أبدًا، فضلا عن  ذلك  يبدو أنه لا علاقة له على الإطلاق بالعملية النفسية ما إذا كان هذا "الارتباط" واعياً أم لا. ثم نسيها أو لم يستحضرها إلى الوعي أبدًا.

لا نجافي الحقيقة كثيرًا، أو نبتعد عنها إذا ما أطلعنا على أفكار ونظريات التحليل النفسي بكل اتجاهاته، أنه يدلنا على معرفة ما يدور بدواخلنا، وإذا ما تمعنا به بعمقق لوجدنا أنفسنا نضع أصابعنا على مواضع نعرفها، ولكننا نخاف الغوص فيها، لأنها بؤر ربما ضحله، بها ذكريات مؤلمة نسيناها وتناسيناها، فما هو بداخلنا يمكن أن يقدم لنا التحليل النفسي خدمة الضياء له، وبالتحليل النفسي يكون العلاج منه، إن وجدنا لذلك من بدٍ له وضرورة، ولا يوجد في إنسان اليوم من يبرأ  مما رشح في داخله من آلم ترك الذكريات، فالتحليل النفسي هو الضياء، وهو الشفاء.

***

د. أسعد شريف الامارة

 

وفي العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، أصبحت مخاطر الشمولية أكثر انتشارا من أي وقت مضى. الشمولية هي نظام سياسي لا تعترف فيه الدولة بأي حدود لسلطتها وتسعى إلى تنظيم كل جانب من جوانب الحياة العامة والخاصة. مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لدى الحكومات والشركات إمكانية وصول غير مسبوقة إلى المعلومات الشخصية للأشخاص، مما يسمح لهم بمراقبة الأفراد والسيطرة عليهم على مستوى لم يسبق له مثيل من قبل. في هذا المقال، سوف نستكشف السياق التاريخي للشمولية، وتأثيرها في العصر الرقمي، والشخصيات الرئيسية في هذا المجال، والتطورات المستقبلية المحتملة.

تتمتع الشمولية بتاريخ طويل، مع أمثلة مثل ألمانيا النازية، وروسيا الستالينية، وكوريا الشمالية الحديثة. سعت هذه الأنظمة إلى الحفاظ على السلطة من خلال المراقبة والرقابة والتلاعب بالمعلومات. مع ظهور الإنترنت، أصبح لدى الحكومات والشركات أدوات جديدة تحت تصرفها لمراقبة مواطنيها والسيطرة عليهم. على سبيل المثال، يستخدم نظام الائتمان الاجتماعي في الصين البيانات من كاميرات المراقبة، والنشاط عبر الإنترنت، والمعاملات المالية لتحديد تصنيف لكل فرد، وهو ما يحدد مدى وصوله إلى الخدمات والفرص. يعاقب هذا النظام المعارضة بشكل فعال ويكافئ الولاء للدولة، مما يخلق ثقافة الخوف والرقابة الذاتية.

إن تأثير الشمولية في العصر الرقمي يتجاوز سيطرة الحكومة. قامت شركات مثل فيسبوك، وجوجل، وأمازون بجمع كميات هائلة من البيانات عن مستخدميها، والتي تستخدمها للإعلانات المستهدفة والتلاعب. تتمتع هذه الشركات بالقدرة على التأثير على الرأي العام، وتشكيل النتائج السياسية، وحتى التأثير على الانتخابات. إن الفضيحة الأخيرة التي تورطت فيها شركة كامبريدج أناليتيكا، والتي استخدمت بيانات فيسبوك لاستهداف الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، تسلط الضوء على مخاطر قوة الشركات غير الخاضعة للرقابة في العصر الرقمي.

ومن الشخصيات الرئيسية في مجال مخاطر الشمولية في العصر الرقمي المبلغين عن المخالفات مثل إدوارد سنودن وتشيلسي مانينغ، الذين كشفوا عن برامج المراقبة الحكومية وانتهاكات حقوق الإنسان. لقد خاطر هؤلاء الأفراد بحريتهم وسلامتهم لتسليط الضوء على مدى سيطرة الدولة في العصر الرقمي. أثارت أفعالهم جدلا وأدت إلى إصلاحات في بعض البلدان، لكنهم واجهوا أيضا ردود فعل عنيفة واضطهادا من السلطات.

بالإضافة إلى المبلغين عن المخالفات، لعب النشطاء والصحفيون والأكاديميون أيضا دورا حاسما في رفع مستوى الوعي حول مخاطر الشمولية في العصر الرقمي. تعمل منظمات مثل مؤسسة الحدود الإلكترونية ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراسلون بلا حدود على حماية حقوق الخصوصية وحرية التعبير وحقوق الإنسان على الإنترنت. تدافع هذه المجموعات عن حقوق مستخدمي الإنترنت، وتتحدى الرقابة والمراقبة، وتعزز الشفافية والمساءلة في ممارسات الحكومة والشركات.

وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن مخاطر الشمولية في العصر الرقمي لا تزال تتطور. يشكل التقدم في التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي، والتعرف على الوجه، وجمع البيانات البيومترية تهديدات جديدة للخصوصية والحرية. وتستخدم الحكومات والشركات هذه الأدوات بشكل متزايد لمراقبة الأفراد والسيطرة عليهم، مما يؤدي إلى مستقبل يتم فيه إسكات المعارضة وتآكل الاستقلالية. ومن الضروري أن يظل المجتمع يقظا ومقاوما لهذه التعديات على الحريات المدنية.

في الختام، فإن مخاطر الشمولية في العصر الرقمي حقيقية ومنتشرة. من المراقبة الحكومية إلى سيطرة الشركات، يواجه الأفراد تهديدات غير مسبوقة لخصوصيتهم وحريتهم واستقلاليتهم. تعمل الشخصيات الرئيسية مثل المبلغين عن المخالفات والناشطين والمنظمات بلا كلل لحماية الحقوق على الإنترنت، لكن المعركة لم تنته بعد. إن الوعي والنشاط والدعوة ضرورية لحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العصر الرقمي. ومع استمرار التقدم التكنولوجي، يجب على المجتمع أن يظل يقظا واستباقيا في الدفاع ضد الشمولية بجميع أشكالها. يعتمد مستقبل الحرية والديمقراطية على جهودنا الجماعية لمقاومة الاستبداد ودعم القيم الديمقراطية في العصر الرقمي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ما هو الدين؟ ومن اين نشأ؟

لو جمعت الاجابات التي كتبت عن هذين السؤالين ووضعتها في باخرة لغرقت!. والاشكالية الاعقد انك لو قراتها كلها لما وصلت الى تعريف او مفهوم للدين، ولما ارحت دماغك بالوصول الى مصدر نشأته فتخلص الى نتيجة، ان الفلاسفة والعلماء بتنوع اختصاصاتهم قد استعصى عليهم الاتفاق على تعريف محدد للدين، وما اذا كان قد نشأ من عقل الحيوان البشري ام من قوة مجهولة، ، وما اذا كانت قد خلقت الكون قوة تتجاوز نفسها يدعوها بعضنا الله.. تواصل اهتمامها وعنايتها بما خلقته. ولماذا يقدم كل دين نسخته الخاصة به عن هذه القوة المدعوة الله ، وعما تريده منا، وماذا سيحدث للناس بعد موتهم ما اذا كانوا سيتحلون الى رماد وينتهون أو انهم الى عالم آخرسيبعثون؟!

سنبدأ هذه الحلقة في موقف علم النفس من الدين بأشهر أربعة في موقفين متضادين:

علماء النفس والدين

كانت العلاقة بين علم النفس والدين في النصف الاول من القرن العشرين ضعيفة ومرتبكة وفيها اشكالية خلاصتها ان عالم النفس لا ينظر للدين باهتمام وجدية، وان المتدين لا يعتبر علم النفس علما، ما يعني ان علم النفس والدين لا يمكن التوفيق بينهما، وانه من المستحيل ان يكون هناك علم بأسم علم نفس الدين. وبقي هذا الحال الى سبعينيات القرن الماضي، ففيه بدأت (المصالحة) وظهرت مقالات ومنشورات توظف علم النفس في تحليل موضوعات دينية، تطورت الى محاولات طموحة بينها ظهور كتاب في 1988 بعنوان علم نفس المعرفة الدينية لـ(واتس وويليمز Watts&Wplliams) ليشهد عقد التسعينيات الاعتراف علميا بعلم النفس الديني.

سنبدأ بايجاز مواقف فريقين متضادين من اشهر علماء النفس والاجتماع، نطرحها بموضوعية وحيادية، أي أن دورنا هو الناقل لوجهة النظر وليس الناقد لها..ونبدأها ب(شيخ) النفسانيين، سيجموند فرويد.

1- سيجموند فرويد:

بدأت تأملات فرويد الأولى حول الدين من أوجه التشابه بين الأعراض العصابية والممارسات الدينية، وتتدرج في ايضاح رأيه بالدين عبر عدد من مؤلفاته، بدأ اهمها بالطوطم والتابو(1913)، ومستقبل وهم، وخلل في الحضارة، وانتهى بموسى والتوحيد (1937)، وصف الدين فيها بانه "عصاب قهري عام". واعلن ان التحليل النفسي كان آخر من تصدّى بالنقد للنظرة الدينية للكون، بأن ردّ اصل الدين الى عجز الطفولة وقلة حيلتها، وردّ مضمونه الى بقاء رغبات الطفولة وحاجاتها حتى سن النضج. موضحّا بأنه لا يتضمن على التحديد دحض الدين، لكنه ضروري لمعلوماتنا عنه، واننا (فرويد) لانتناقض مع الدين الا حين يدّعي انه ذو اصل الهي.

وعن اصل نشوء الدين يجيب فرويد بأنه اكتشف مبدأ " القدرة المطلقة للافكار " الذي يوجد بدوره في اساس السحر، وأنه مضى في نشوء الكون بمقارنته نقطة فنقطة بعصاب الوسواس القهري، وبيّن ان كثيرا" من مسلمات الحياة النفسية البدائية لا تزال فعّالة لذلك الاضطراب الغريب.

والواقع ان نظريات التحليل النفسي تفسر الدين بدلالة (وهم) ناجم عن تفكير مرغوب فيه يشكل بديلا لشخص الأب، وتصف الدين بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان وبين العالم الخارجي الذي يعيش فيه، ناجمة عن عمليات اسقاطية.واوضح في كتابه " مستقبل وهم " ان الدين ينبع من عجز الانسان في مواجهة قوى الطبيعة بالخارج والقوى الغريزية داخل نفسه.مع التوضيح بأن وصفه للدين بانه (وهم) لا يعني القول بأنها خاطئة بل يعني انها تخضع لمنطق الرغبة وليس منطق الحقيقة، تماما مثل وهم سكرتيرة بعمر عشرين سنة..تحلم بانها ستتزوج مديرها ذي الستين عاما.

ولقد ذهب فرويد الى ابعد من وصفه للدين بأنه " وهم " بقوله ان الدين " خطر " لأنه يميل الى تقديس مؤسسات انسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ. فضلا" عن ان ما يقوم به الدين، يضيف، من تعليم الناس الاعتقاد في وهم وتحريم التفكير النقدي بأن يجعله مسؤلا" عما اصاب العقل من فقر.

ومع أن فرويد وصف الدين بأنه حالة سيكولوجية لقضية وهمية، فأنه لم يسفّه العقائد الدينية ولم يقل عنها انها كاذبة.

2- فروم:

يعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما: الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian . ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو " ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي..موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

3- يونج:

اذا كان فرويد (ضد أو عدو) الدين فان يونج (مع أو صديق) الدين. ولهذا السبب فقد دعمته الكنيسة، ليس فقط لأنه مع الدين بل لأنه انشق على فرويد واختلف معه في طروحاته بخصوص الجنس وعقدة أوديب واللاشعور والدين. فالقاريء لنظرية فرويد يستنتج منها أن الانسان هو الذي خلق الدين فيما يستنتج من نظرية يونج أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان.

ولقد بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وتأسيسه مدرسة أو منهجا أسماه (علم النفس التحليلي)، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين..وخلص الى نتيبحة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل لآخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، وأن الدين هو من بين الأمور التي يحتويها هذا اللاشعور الجمعي الانساني بصورة طبيعية بوصفه مسألة فطرية، ويستنتج: بما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعل.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

4- فرانكل:

لموقف فرانكل الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية.وكان والده وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات الموت. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية) أعاد طبعه عام 1963 بعنوان (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت.واستنتج بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية، وأن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف..الابادة فيها متوقعة كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول:شحبت وجوههم وهزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني:صمدوا وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل.. وتبين لي بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى، اوصلته الى ابتكار طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy)، يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة.وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض.ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: وجوديون مؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي. والثاني: وجوديون ملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الربّ الذي تمثل وجود هذه الطبيعة..كما يرون.

مؤكد انك ستتساءل عن موقفنا نحن من الدين.. ولك ان تجده في كتابنا (الدين والسلطة).. وقد نوجزه في مقالة قادمة..مع تساؤل لك: مع ايهم انت من هؤلاء الأربعة في موقفهم من الدين؟

***

أ.د. قاسم حسين صالح

بعد جدالات الأسبوعين الماضيين، قد يسألني القارئ العزيز: لنفترض أنَّنا أردنا التَّحررَ من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟

الواقع أنَّ عدداً من الأصدقاء قد وجَّه هذا السؤال فعلاً. لكنّي لاحظت أنَّ بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحوّل كهذا. من ذلك مثلاً، قول من قال إنَّ الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم إنَّ الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا، لم تتخلَّ عن تقاليدها القديمة حين قرَّرت ركوبَ قطار الحداثة، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟

ويتراءَى لي أنَّ هذا النوع من الأسئلة، يستبطن رغبةً قوية في التَّحرر من قيود الماضي، لكنَّه - من ناحية أخرى - يشير إلى تخوّف من الكلفة النفسية والاجتماعية، التي ربَّما تترتَّب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه الأسئلة، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة، نظيرَ ما فعل الصينيون أو اليابانيون مثلا؟

حسناً، دعنا نقل من حيث المبدأ إنَّنا لا نملك دليلاً نهائياً قاطعاً، على أنَّ طريقة الحياة الحديثة أو نظيرتها التقليدية، خالية من العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندّعيه أنَّ فضائل الحداثة أوسعُ وأعمقُ من نظيرتها التقليدية، كما أنَّ عيوبَها أيسرُ علاجاً وأقلُّ مؤونةً. ومن هنا فإنَّه يصعب جداً إقناع الناس باختيار هذا الطريق أو ذاك. إنَّها مسؤولية فردية. بوسع كل فرد منا أن يتأمَّل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه، ثم يختار ما يراه اقربَ لمصلحته أو تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا الخيار أو نقيضه.

إنَّ التحرر من حياة التقاليد ليس صعباً جداً من الناحية المادية، لكنَّه - على أي حال - يحتاج إلى تبني «رؤية كونية» جديدة، أي القواعد الكبرى التي يقوم عليها فهم الإنسان لذاته وعالمه، وعلاقته بالبشر والأشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد، أريد التأكيد على ثلاث:

الأولى: الإنسان محور الحياة في هذا الكون، ولحياته وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو - من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الإنسان «الفرد» حر في اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.

الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية، وتعميق صلة الإنسان بالله والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره، ومن ثم تطوير حياتنا، وتعزيز ازدهارها المادي والأخلاقي. تشترك القيم الدينية والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد، ماديا وأخلاقيا.

الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد القيمة العلمية للأفكار. التاريخ حركة دائبة إلى الأمام. ما يأتي أصح وأكمل مما مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة، هو المصدر الأول للمعرفة. ومواصلة العقل لتعامله النقدي مع الأفكار والمعلومات، تؤدي دائما إلى فهم أفضل للإنسان والكون المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته، ولا تفضيل لحقبة على حقبة، لكن بالنظر إلى محورية الجهد البشري في صناعة التقدم، فإن ما يأتي سيكون غالبا أكمل وأصح مما مضى.

هذه القواعد الثلاث تحدد - في اعتقادي - الخط الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية، هو ما يجعل الإنسان منتميا إلى العصر الجديد. لا يتعلق الأمر بلباس قديم أو جديد، ولا لغة محلية أو عالمية، ولا مصادر معلومات خاصة ولا آيديولوجيا أو دين بعينه. يمكن للإنسان الحديث كما التقليدي، أن يكون متديناً أو ملحداً. ويمكن له أن يعيش في مدينة حديثة أو في أعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم، هل تنتمي للعصر القديم أم تتفاعل مع العصر الجديد.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: جولييت زانيتا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

ليلة الزفاف (تاريخ العلاقة الزوجية الحميمة) لعائشة ليمبادا، مراجعة بقلم جولييت زانيتا

ماذا "بعد الاحتفال بالزواج، وكيف يكون الختام؟ "وسط الصمت والجهل والخوف، كان للأزواج الشباب في القرن التاسع عشر طقوس وأماكن ليكونوا "وحدهم أخيرًا". بالتراضى، وبدون عنف.

إن إلقاء الضوء على هذه المناطق الرمادية" التي تشكل البعد "الحميمي، وحتى السري" لليلة الزفاف، هو طموح عائشة ليمبادا. من خلال أطروحتها، في La Nuit de noces "ليلة الزفاف"، شرعت في تناول هذا الشيء الذي لا يترك سوى آثار قليلة، في الواقع، مادة ضئيلة للغاية أمام المؤرخ.

تغطي دراسة هذا الحدث، الاستثنائي والعادي، القرن التاسع عشر الطويل في فرنسا. ولئن كانت الأيام الأولى من هذا القرن تحمل أثر التحولات في المؤسسة الزوجية، فإن الفترة التي تنتهي فيها الدراسة تتزامن مع تطورات اجتماعية وأخلاقية ودينية، فضلا عن ثورة جنسية أولى.

المصادر وتأثيرات المصدر

يتكون العمل من سبعة فصول. تركز المرحلة الأولى على التوتر بين الصمت المفروض والكشف عن توقعات ليلة الزفاف (الفصول 1، 2، 3)، ثم يتم تحليل طقوس هذه الليلة وأماكنها وأزمنتها (الفصلان 4 و 5). . أخيرًا، تركز عائشة ليمبادا على القبض على العروسين فى ليلة الزفاف (الفصلان السادس والسابع).

لكتابة هذه القصة، كان التحدي الأول الذي واجهته عائشة ليمبادا هو التغلب على فكرة أن ليلة الزفاف عادة لم تترك أي أثر . تسلط  المؤلفة الضوء على العديد من المصادر التي تتناول هذا الموضوع: الخيال، والكتابات الأكاديمية، والمقالات، والقصص الشخصية، والمصادر المطبوعة، والبطاقات البريدية، وسجلات المحكمة. إنها وثائق مع قليل من الثرثرة تسمح لنا بالتقاط خطابات مختلفة حول هذه الليلة الأولى. تكمن أصالة هذا العمل في استغلال الأسباب الزوجية القانونية. هذه المادة، التي لا يمكن للباحثين الوصول إليها عادة، تسمح للمؤلف بملاحظة الشهادات الواردة مباشرة من الزوجات والأزواج.

في الفصل السادس، تشير عائشة ليمابادا إلى أن هذه المصادر القضائية الكنسية تجعل من الممكن فهم المشاعر التي تمر عبر الأفراد، والتي غالبًا ما يصعب على المؤرخين الوصول إليها. حيث تقدم الروايات معلومات عن مجموعة واسعة من المشاعر، تركز الشهادات في سياق قانوني على الجانب السلبي من المشاعر.

وبعد عشر صفحات تقريبًا – وربما متأخرًا قليلًا – تستحضر عائشة ليمبادا "الأثر المصدري" (ص 219) الذي يشكله هذا التوثيق، نتاجًا لسياقه، أي الانفصال. وهذه الإجراءات تتم في الواقع من قبل الزوجات والأزواج الذين يرغبون في الانفصال والذين يطلبون فسخ الزواج أو إبطاله.

من الجهل إلى الرغبة

يشرح الفصل الأول، "خيال ليلة الزفاف"، كيف اجتاز القرن التاسع عشر تمثيلات مبنية بقدر ما تعكس ممارسات الأفراد والسلطات. وينشأ تناقض بين تكاثر الخطابات المتعلقة بالجنس والرقابة على هذه الخطابات، عندما لا تتعلق بالمعرفة أو الطب.

إذا كان الفصل الثاني، "مصنع الجهل"، يبدأ باقتباس من تعليق على se marie (1893) لإميل زولا يسلط الضوء على التربية الجنسية غير المتكافئة بين الجنسين، فإن عائشة ليمبادا سرعان ما تترك الخيال لتقرأ شهادات الأزواج. وهي تحلل بناء الجهل الأنثوي، لا سيما من خلال التربية الجنسية القائمة على النوع الاجتماعي والطبقي. أما الفصل الثالث، بعنوان “محاربة الجهل الزواجي”، فقد اتخذ وجهة نظر معاكسة للفصل الأول من خلال دراسة الخطابات العلمية حول ليلة الزفاف، وخاصة الطبية والدينية، وتحليل كيفية تحول هذه اللحظة إلى قضية اجتماعية وسياسية.

ويقترح الفصل الرابع استكشاف "الرغبات في العلاقة الحميمة" في القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للحياة الخاصة. تصف المؤلفة سيناريو ليلة الزفاف، مستعرضة مراحله الجماعية والفردية، ومحددة الممارسات الشعبية والبرجوازية. من خلال رغبة الزوجين المتزايدة في أن يكونا "وحيدين أخيرًا"،وفقًا للصيغة المعمول بها، يتم تقويض الاحتفالات الجماعية. تقترب عائشة ليمبادا أيضًا من الليلة الأولى من خلال مادية المكان (سكن الزوجة، شقة الوالدين، غرفة الفندق المحلية أو أثناء ليلة الزفاف).

وبعد التأمل في الطقوس والأماكن، يتناول الفصل التالي، "إتمام الزواج"، مسألة الوقت الذي يدرسه أزواج المستقبل وعائلاتهم بعناية. عادة ما يتم اللقاء الجنسي الأول في الليل، في ليلة الزفاف أو بعد بضعة أيام. موافقة الزوجة مرغوبة ولكنها تتأثر بـ "المعيار الاجتماعي والثقافي والديني" (ص 171) للواجب الزوجي.

في غرفة نوم الزوجين

يقدم الفصل السادس تأملًا في "صعوبات العلاقة الحميمة الأولى". إن مسألة التأثير هي مسألة مركزية، ولكن يصعب على المؤرخ الوصول إليها. من خلال تسليط الضوء على الآليات الجنسانية التي تحدد المؤسسة الزوجية والتوقعات المجتمعية لليلة الزفاف، تلقي عائشة ليمبادا الضوء على الاستراتيجيات الدقيقة التي يستخدمها الأزواج أثناء الليل.

يمكن للمرأة أن تصر على عدم موافقتها على الزواج، بينما بالنسبة للرجل فإن هذا سيكون بمثابة اعتراف بالضعف وافتقار إلى الرجولة. بعد استكشاف العلاقة الحميمة الأولى في غرفة نوم العروس، يركز الفصل الأخير ("في سرير العروس والعريس") على الحياة الجنسية في ليلة الزفاف. وإذا كانت مسألة الدخول بالزواج تنسج خيطاً مشتركاً في جميع أنحاء العمل، فإنه يتم التدرج في الفضاءات والأزمنة: من الأوقات الجماعية (الوجبات، الكرة) إلى الأوقات الفردية (الليل، شهر العسل).

الخيال المحيط بعذرية الأنثى يجعلها قضية رئيسية في ليلة الزفاف. تراقب عائشة ليمبادا  الطريقة التي يبحث بها الزوجان عن آثار هذه العذرية. وتعود في الوقت نفسه إلى البناء الثقافي والأخلاقي والعلمي لخيال العلاقة الجنسية الأولى.

الامهات

إذا كانت ليلة الزفاف، والجماع المتوقع خلالها، يتعلق بشخصين، فإن  هناك شخصية أخرى  حاضرة ضمنيًا في العمل: شخصية الأمهات. ويبدو أن دورهن مركزي، سواء قبل الزفاف أو بعد ليلة الزفاف. وهن حاضرات في مختلف الطقوس التي تسبق الدخول، منها على سبيل المثال «موعد نوم العروس» (ص41). ويتأكدنن بتكتم من اكتمال ليلة الزفاف، من خلال فحص آثار الفراش أو وجوه الزوجين في اليوم التالي. يمكنهن أيضًا خلق علاقات غير شرعية غير مرغوب فيها بين المتزوجين حديثًا (هذه هي الصورة السلبية لحمات الزوج التي تم نقلها في ثمانينيات القرن التاسع عشر). وحتى قبل الزواج، من المتوقع منهن أن يعتنين بالتثقيف الجنسي القليل لعروس المستقبل، للتحايل على جهل الإناث أو حتى تعليم الذكور، حتى لا يعامل الرجال زوجاتهم بوحشية.

تاريخ الاغتصاب الزوجي

وبعكس قصة ليلة الزفاف هذه، فهي في النهاية قصة اغتصاب زوجي تقدمه عائشة ليمبادا. بفضل خلفيتها في تاريخ المرأة والجنس، فإنها تسلط الضوء على الديناميكيات الجنسانية التي حكمت القرن التاسع عشر الطويل وأثرت على تمثيلات وتجارب ليلة الزفاف. يشكل التفكير الذي تم إجراؤه حول موافقة الزوجين إحدى المساهمات الرئيسية في هذا العمل، والتي قد تستفيد من استكشافها، ولا سيما من خلال الحوار مع عمل ماييل برنارد*.

من الفصل الأول، تستحضر عائشة لمبادا موضوع "الاغتصاب الزوجي" الذي يظهر في الأدب والصحافة ويظهر أيضًا تحت اسم "الاغتصاب القانوني". وتؤكد بعد ذلك على الارتباط بين الجهل والاغتصاب من خلال غياب الثقافة الجنسية، مما يمنع الشابات من فهم وتقدير علاقتهن الأولى.

وبعيدًا عن الخطاب المقدم في الصحافة والدوائر الطبية، تقوم عائشة ليمبادا بتحليل شهادات الأفراد الذين يعتبرون ليلة زفافهم بمثابة اغتصاب. فهي تطرح، على سبيل المثال، في فصل "إتمام الزواج"، العلاقة بين الزواج المدني والاحتفالات الدينية، التي كانت النساء الكاثوليكيات يعتبرنها اغتصابا (ص 183).

***

............................

* ماييل برنارد، تاريخ موافقة الأنثى. من صمت القرون إلى عصر القطيعة، باريس، آركي، 2021.

المراجعة: جولييت زانيتا/ Juliette Zanetta طالبة دكتوراه في جامعة لوميير ليون الثانية (مختبر الأبحاث التاريخية في رون ألب - UMR 5190). أطروحته التاريخية، التي تركز على العنف الجنسي بين الأزواج، تحمل عنوانًا مؤقتًا "من الموافقة الضمنية إلى الاغتصاب الزوجي". لتاريخ العنف الجنسي بين الأزواج (مقاطعات ألب ماريتيم، رون، سين، ثمانينيات القرن التاسع عشر - ثمانينيات القرن العشرين)"، تحت إشراف ساندرا بري ومانويلا مارتيني.

المؤلفة: عائشة ليمبادا / Aïcha Limbada أستاذة مشاركة ودكتورة في التاريخ المعاصر (جامعة باريس 1 بانثيون السوربون) وباحثة مشاركة في مركز تاريخ القرن التاسع عشر. وهي حاليا عضو في المدرسة الفرنسية في روما.

 

بقلم: تيم لوت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف وجدت طريقي للخروج من الاكتئاب بفضل كتابات القس الإنجليزي الذي جلب البوذية إلى الغرب؟.

منذ أن كنت طفلاً، كنت حساسًا جدًا لفكرة أن العقل البشري غير قادر في نهاية المطاف على فهم العالم (بنفس الطريقة التي يبدو بها الآخرون فقط بعد حدوث فاجعة أو حدث صادم وغير متوقع): كل شيء فى تناقض ومفارقة، ولا أحد يعرف الكثير على وجه اليقين، بغض النظر عن اعترافه بعكس ذلك.

إنها عقلية غير مريحة، ونتيجة لذلك، شعرت دائمًا بالحاجة إلى بناء صندوق مفاهيمي في ذهني كبير بما يكفي ليناسب العالم. يبدو أن معظم الناس لديهم موهبة إنكار تناقضات الحياة أو تجاهلها مع سيطرة متطلبات العمل والحياة. أو يقعون في أيديولوجية، ربما دينية أو سياسية، تبدو وكأنها تجعل العالم مكانًا مفهومًا.

لم أتمكن أبدًا من دعم أي من الاستراتيجيتين. كان الشعور بالفوضى العقلية الزاحفة يتسلل دائمًا إلى أطراف حياتي. ولعل هذا هو السبب وراء إصابتي باكتئاب حاد عندما كنت في السابعة والعشرين من عمري، ولم أتعافى لعدة سنوات.

وكانت نتيجة ذلك كتابي الأول، وهو عبارة عن مذكرات بعنوان "رائحة الورود المجففة" (1996). وبينما كنت أبحث عنه، قرأت أعمال عالمة النفس دوروثي رو، وهي من أتباع الفلسفة البوذية الهادئة، السرية تقريبًا. سر، لأن رو كانت تعرف ما يعنيه مصطلح «بوذي» في الخيال الشعبي (كما حدث معي) - التفكير السحري، وقرع الجرس التبتي، ولصق رقائق الذهب على تماثيل بوذا.

الحقيقة لا يمكن العثور عليها عن طريق تقطيع كل شيء إلى أجزاء مثل طفل مدلل من خلال كتابات رو، تعرفت لأول مرة على آلان واتس، وبدا وكأنه فيلسوف غير متوقع. أثار اسمه صورة مندوب مبيعات السلع الورقية في منطقة صناعية إقليمية صغيرة. لكن من خلال واتس وكتاباته، تعرفت مباشرة على أفكار بوذية الزن. كنت متشككًا في البداية، إذ كنت أرى أن بوذية الزن ديانة وليست فلسفة. لم أكن مهتمًا بالحقائق الأربع النبيلة، أو المسار الثماني، وبالتأكيد لم أؤمن بالكارما أو التناسخ.

ومع ذلك، فقد قرأت بعض كتب واتس. لقد كان لهم تأثير كبير علي. يعد "معنى السعادة" (1940) و"حكمة انعدام الأمن" (1951) أساسين مثيرين للإعجاب لعمله، وقد أكدا على ما علمني إياه رو بالفعل: أن الحياة ليس لها معنى جوهري، تمامًا كما تفعل مقطوعة موسيقية. لم يكن لديك معنى داخلي. نقطة'. كانت الحياة، بلغة الزن، يوجين - نوع من اللاهدف السامي.

لقد أظهر لي واتس، مثل رو، كيف نبني معانينا الخاصة عن الحياة. لا يوجد شيء مسلم به، وبما أن كل شيء غير مؤكد، يجب علينا أن نجمع رؤية عالمية قد تتناسب تقريبًا مع الحقائق، ولكنها لا تكون أبدًا سوى تخمين - خيال عملي. وهذا أيضًا فهم نموذجي لفلسفة زن، وهو أن الحياة لا يمكن وصفها، بل تجربتها فقط. إن محاولة رؤية الحياة بأكملها تشبه محاولة استكشاف كهف واسع به علبة من أعواد الثقاب.

وعلى الرغم من إعجابي بذلك، إلا أنني نسيت أمر واتس بعد أن انتهيت من كتبه، وتابعت مسيرتي المهنية ككاتب خيالي. لقد سئمت من التأمل. وبعد سنوات، دفعتني موجة سيئة في حياتي إلى الهاوية مرة أخرى. في عام 2004، توفي ثلاثة من الأصدقاء المقربين في تتابع مفاجئ. واحد مات امام عيني وقتل آخر. وثالث مات بالسرطان. لقد عاد اكتئابي -  وهذا الشعور الأصلي باللامعنى - عاد إلى الظهور. التفت إلى واتس مرة أخرى. هذه المرة، كان الأمر كما لو كنت أقرأ لحياتي العزيزة.

كان آلان واتس غزير الإنتاج خلال 58 عامًا من عمره. توفي عام 1973، بعد أن أنتج ليس فقط 27 كتابًا، بل أيضًا عشرات المحاضرات، وكلها متاحة على الإنترنت. كانت ذات عناوين مثيرة للاهتمام مثل "أن تكون غامضًا"، و"الموت"، و"العدم"، و"القدرة المطلقة". توقفت عن كتابة الروايات وشقيت طريقي عبر كل واحدة منها بدلاً من ذلك.

لقد عثرت على قرص DVD لرسوم متحركة لواتس من تأليف تري باركر ومات ستون.و اكتشفت أن فان موريسون كتب أغنية عنه وأن جوني ديب كان من أتباعه. لكنه ظل غير معروف إلى حد كبير في بريطانيا، على الرغم من أنه كان إنجليزيًا، وإن كان في الخارج.

ولد واتس في تشيسلهرست، كينت، في عام 1915. كان والده مندوب مبيعات لشركة إطارات ميشلان وكانت والدته ربة منزل وكان والدها مبشرًا. في وقت لاحق من حياته، كتب واتس عن الرؤى الغامضة التي راودته بعد معاناته من الحمى عندما كان طفلاً. خلال عطلاته المدرسية - عندما كان طالبًا في مدرسة كينغز كامبريدج - سافر مع المتحمس للبوذية فرانسيس كروشو، الذي كان أول من أبدى اهتمامًا بالديانات الشرقية.

بعيون ثاقبة مثل أليستر كراولي، وصف نفسه بأنه "فنان روحي".

في سن السادسة عشرة، كان واتس سكرتيرًا لمحفل لندن البوذي، الذي كان يديره المحامي كريسماس همفريز. لكن واتس أفسد فرصته في الحصول على منحة دراسية في جامعة أكسفورد لأنه تم الحكم على إحدى مقالات الامتحان بأنها "متعجرفة ومتقلبة". وعلى الرغم من ذكائه الواضح، لم يحصل واتس أبدًا على شهادة جامعية بريطانية. ربما تكون هذه إحدى صفاته الأخرى التي تتوافق مع روحي - فأنا أيضًا تركت المدرسة بمرحلتين فقط، ومثل واتس، أتعلم ذاتيًا.

عندما كان شابا، عمل واتس في شركة طباعة ثم في أحد البنوك. خلال هذا الوقت، انضم إلى "المعلم المارق" الصربي ديميتري ميترينوفيتش - أحد أتباع المعلم الروحي الأرمني جي آي غوردجييف وعالم الباطنية الروسي بي دي أوسبنسكي - الذي كان له تأثير كبير على تفكيره.

في سن الحادية والعشرين، في عام 1936، حضر المؤتمر العالمي للأديان في جامعة لندن. هناك، سمع عالم الزن الشهير دي تي سوزوكي يتحدث، وتم تقديمه إليه. وفي وقت لاحق من ذلك العام، نشر واتس كتابه الأول "روح الزن".

وفي نفس العام التقى بالوريثة الأمريكية إليانور إيفريت، التي كانت والدتها تنتمي إلى دائرة زن البوذية التقليدية في نيويورك. تزوج من إليانور في عام 1938 وانتقلا إلى أمريكا، حيث تدرب ليصبح كاهنًا أسقفيًا قبل أن يترك الخدمة عام 1950، وبذلك انفصل نهائيًا عن جذوره المسيحية. ومنذ ذلك الحين ركز على دراسة الأفكار الفلسفية الشرقية وإيصالها إلى الجماهير الغربية.

شعرت بالانجذاب الشديد إلى آلان واتس. ليس فقط لأفكاره، ولكن له شخصيا. لم يكن واتس فيلسوفًا أكاديميًا جافًا. بعيون مغطاة وثاقبة مثل أليستر كراولي، كان مهرجًا ومفكرًا، واصفًا نفسه بأنه "فنان روحي". وصفه ألدوس هكسلي بأنه "رجل فضولي". "نصف راهب ونصف مشغل لسباق الخيل." وافق واتس بكل إخلاص على توصيف هكسلي. كان يحمل عصا فضية "من أجل التفاخر الشخصى"، وكان يتسكع مع كين كيسي وجاك كيرواك (حتى أنه تم تقليده في "على الطريق" بدور آرثر ويل). كان صوته الذي تلقى تعليمه في المدرسة الإنجليزية العامة غنيًا وعميقًا، مثل صوت النبي، وكانت ضحكته مثيرة ومعدية.

لكن أفكاره هي التي أثارتني أكثر. لقد كان، إن لم يكن الأقدم، فمن المؤكد أنه أهم مترجم للأفكار الفلسفية الشرقية إلى الغرب. في بعض النواحي، كانت تفسيراته جذرية - على سبيل المثال، رفض فكرة الزن الأساسية عن الزازن (التي تنطوي على قضاء ساعات في التأمل التأملي) باعتبارها غير ضرورية. "تجلس القطة حتى تتعب من الجلوس، ثم تنهض وتتمدد وتبتعد"، كان تفسيره المتسامح لزازن. وكان تعليقه على المتحمسين الغربيين للزن أقل تسامحاً بعض الشيء، حيث سخر منهم ووصفهم بأنهم "المدرسة المتوترة... الذين يبدو أنهم يعتقدون أن الزن يجلس أساساً على مؤخرتك إلى أجل غير مسمى". لقد كان من دواعي الارتياح الكبير أن أقرأ هذا لشخص مثلي، الذي وجدت فكرة الإفراط في التأمل غير صحية مثل فكرة الإفراط في العادة السرية.

رفض واتس أيضًا المفاهيم التقليدية للتناسخ والفهم العام للكارما كنظام للمكافآت والعقوبات يتم تنفيذه مدى الحياة بعد الحياة. لقد كان هذا النهج الراديكالي هو الذي جعل أفكاره جديدة للغاية - ولم يكن لديه وقت للحكمة التقليدية، حتى من أولئك الذين ادعوا أنهم يعرفون زن من الداخل والخارج.

إن فكرة التجول بعصا مجازية لضرب نفسك بها هي فكرة غريبة على معلم الزن. لقد تحولت العديد من أفكار الزن إلى فلسفة "العصر الجديد"، وتحولت أساسًا إلى تفكير بالتمني، وهراء شبه ديني، وأوهام نرجسية لـ "جيل أنا". ولكن قبل أن يسيطر عليها البيتنيك والهيبيون، كانت فلسفة الزن، كما وصفها واتس، متشددة وعملية ومنطقية، وفي بعض النواحي، ذات لهجة إنجليزية غريبة، حيث كانت تحتوي على خيوط عميقة من الشك والفكاهة (لن ترى قديسين مسيحيين يضحكون أبدًا. لكن معظم حكماء الزن لديهم ابتسامة على وجوههم، مثل بوذا).

إن الزن والطاوية أقرب إلى العلاج النفسي منها إلى الدين، كما أوضح واتس في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب (1961). إنها تدور حول إيجاد طريقة للحفاظ على شخصية صحية في ثقافة تميل إلى تشابكك في الكثير من الروابط المنطقية اللاواعية. من ناحية، يُطلب منك أن تكون "حرًا"، ومن ناحية أخرى، يجب عليك اتباع مطالب المجتمع. مثال آخر هو التعليمات التي يجب أن تكون عفويًا.

هذه الأنواع من العوائق، أو الروابط المزدوجة، وفقًا لكتابات الزن، تنتج توترًا داخليًا، وإحباطًا، وعصابًا - وهو ما تسميه البوذية "دوكا". رأى واتس أن وظيفته، من خلال فلسفة الزن، هي تعليمك التفكير بوضوح، حتى تتمكن من الرؤية من خلال التفكير التقليدي إلى مكان يمكن أن يكون فيه عقلك في سلام داخل ثقافة كان من الممكن أن تكون مصممة لتوليد القلق.

ولكن، على الرغم من أنه كان كاتبًا مسليًا يقدم أفكاره بوضوح رائع، إلا أن واتس كان يواجه مهمة صعبة - ويرجع ذلك أساسًا إلى أن فلسفة الزن والطاوية تتعارضان بشكل أساسي مع العقل الغربي. يجد الفلاسفة الغربيون والعلمانيون أن المفكرين الشرقيين محبطون لأن الحكماء البوذيين ليس لديهم نفس التركيز على قوة اللغة والعقل والمنطق لتحويل الذات أو "المعرفة"، بالطريقة التي يفكر بها الغربيون في الكلمة.

إن الألغاز، أو الكوان، التي يتحدث بها مفكرو الزن مصممة لإثارة أعصابك وتجعلك تدرك مدى عدم كفاية الكلمات - سواء كانت كلمات منطوقة أو حوارات داخلية - لها أي معنى. يؤكد الزن على الحدس والموشين، أي العقل الفارغ، أكثر من التخطيط والتفكير. والوضع المثالي هو أن عقلك يمكن أن يتحرر من المايا (وهو ما يعني كلا من الوهم واللعب) وبالتالي تحقيق نوع من الرنين أو الانعكاس الفوري أو مونين، والذي يمكن ترجمته بشكل غريب إلى الآن/العقل/القلب.

وهذا يجعلها غريبة عن التقاليد الفلسفية الغربية، التي تميل إلى عدم الثقة في العفوية، لأنها من المفترض أنها تمهد الطريق لهيمنة الغرائز الحيوانية الغاشمة والعواطف الخطيرة. لكن فكرة التجول بعصا غليظة مجازية تضرب بها نفسك إذا ارتكبت خطأً، أو انجرفت وراء عواطفك، هي فكرة غريبة على معلم الزن.

أخيرًا، تم استخدام الزن من قبل محاربي الساموراي، الذين كان عليهم أن يضربوا على الفور دون تفكير وإلا سيموتون. في الروح السليمة، يكون الحدس أكثر أهمية من التفكير الواعي. ملايين السنين من التطور جعلت الإنسان اللاواعي حكيمًا، وليس متهورًا. يمكن العثور على أفكار مماثلة في الكتب الحديثة مثل كتاب "/ غمضة  Blink" لمالكولم جلادويل، والذي يؤكد على قيمة ردود الفعل العفوية.

ظهر الزن كرد فعل على المجتمع الياباني التقليدي والطقوسي الذي خرج منه. لا بد أن هذا قد أثر في واتس، الذي نشأ في وقت لم يكن فيه المجتمع البريطاني - الضيق الأفق والانطوائي والتقليدي - مختلفًا تمامًا عن عالم اليابانيين "المتوتر" الذي يسيطر على نفسه. وفي مثل هذا المجتمع يصبح السلوك العفوي مستحيلا.

كلمة Zen هي طريقة نطق يابانية لـChan، وهي الطريقة الصينية لنطق الكلمة السنسكريتية الهندية Dhyana أو Sunya، والتي تعني الفراغ أو الخواء. هذا هو أساس الزن نفسه - أن كل الحياة والوجود يعتمد على نوع من الفراغ الديناميكي (وجهة نظر يدعمها الآن العلم الحديث، الذي يرى أن ظواهر المستوى دون الذري تظهر وتختفي في "الرغوة الكمومية").**

ومن وجهة النظر هذه، لا يوجد "أشياء"، ولا فرق بين المادة والطاقة. انظر إلى أي شيء عن كثب بما فيه الكفاية - حتى لو كانت صخرة أو طاولة - وسوف ترى أنه حدث، وليس شيئًا. كل "شيء" يحدث في الحقيقة. وهذا أيضاً يتفق مع المعرفة العلمية الحديثة. علاوة على ذلك، لا يوجد "تعدد الأحداث". هناك حدث واحد فقط، له جوانب متعددة، يتكشف. نحن لسنا مجرد ذوات منفصلة محبوسة في أكياس من الجلد. نحن نخرج من العالم، وليس إليه. كل منا تعبير عن العالم، ولسنا غرباء في أرض غريبة، أو مجرد صدفة وعي في عالم أعمى غبي، كما يعلمنا علم التطور.

ربما يكون التركيز على اللحظة الحالية هو السمة الأكثر تميزًا لدى Zen. في علاقتنا الغربية مع الوقت، والتي نختار فيها الماضي بشكل قهري من أجل تعلم الدروس منه ومن ثم التخطيط لمستقبل افتراضي يمكن فيه تطبيق تلك الدروس، تم ضغط اللحظة الحالية إلى شريحة صغيرة على مدار الساعة بين الماضي الواسع والمستقبل الذي لا نهاية له. Zen، أكثر من أي شيء آخر، يدور حول استعادة وتوسيع اللحظة الحالية.

إنه يحاول أن يجعلك تفهم، دون مناقشة هذه النقطة، أنه لا يوجد أي غرض للوصول إلى أي مكان إذا كان كل ما تفعله، عندما تصل إلى هناك، هو التفكير في الوصول إلى لحظة أخرى في المستقبل. الحياة موجودة في الحاضر أو لا توجد في أي مكان على الإطلاق، وإذا لم تتمكن من فهم ذلك، فأنت ببساطة تعيش خيالًا.

بالنسبة لجميع كتاب الزن، الحياة، كما كانت بالنسبة لشكسبير، تشبه الحلم: عابرة وغير جوهرية. "لم تنشق لك صخرة الدهر". لا يوجد أمن. قال واتس إن البحث عن الأمان يشبه القفز من أعلى منحدر بينما يتمسك بصخرة من أجل الأمان: وهم سخيف. كل شيء يمر ويجب أن تموت. لا تضيعوا الوقت في التفكير بطريقة أخرى. لم يكن لدى بوذا ولا أتباعه الوقت الكافي للتفكير في الحياة الآخرة. يمكن اعتبار عقيدة التناسخ بشكل أكثر دقة بمثابة ولادة جديدة مستمرة للموت طوال الحياة، ومجيء وذهاب الطاقة العالمية المستمرة، التي نحن جميعًا جزء منها، قبل الموت وبعده.

التحدي الآخر الذي يواجه المفكرين الغربيين عند التعامل مع الزن هو أنه، على عكس الدين والفلسفة الغربية، لا يوجد قانون أخلاقي محدد. الحقائق النبيلة ليست تعاليم أخلاقية. في زن (على عكس بوذية ماهايانا مع "مسارها الثماني") لا يوجد حكم على الخير أو الشر، باستثناء أن كليهما ضروريان لجعل الكون ديناميكيًا.

وكما قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، لا توجد فكرة عن "الخير" لتدمير "الشر"، أو العكس. لا يمكن تدمير الشر، مثلما لا يمكن تدمير الخير، لأنهما قطبان متضادان للشيء نفسه، مثل قطبي المغناطيس. التدمير ضروري مثل الخلق. يجب أن توجد الفوضى إذا أردنا أن نعرف ما هو النظام. كلا الجانبين من الواقع، في حالة توتر مع بعضهما البعض، ضروريان للحفاظ على استمرار اللعبة بأكملها: وحدة الأضداد.

وهذا يمكن أن يؤدي إلى بعض المنطق الأخلاقي الصادم إلى حد ما. عندما سئل الملحن الأميركي وأتباع الزن جون كيج: "ألا تعتقد أن هناك الكثير من المعاناة في العالم؟"، أجاب: "أعتقد أن هناك القدر المناسب من المعاناة". وهذا يلخص، ولكنه يسخر إلى حد ما من الزن. النظرة العالمية - أن الظلام والنور، السلبي والإيجابي، الين واليانغ، كلها أجزاء ضرورية من الكل الشامل.

تكمن وراء هذا التفكير فكرة مفادها أن الأخلاقيين، بالنسبة لأتباع زن البارعين، يشكلون خطرًا لأنهم سيدمرون كل شيء في سعيهم لتحقيق رؤيتهم لـ "الخير".  قد يؤدي الجشع الصريح إلى تدمير القرية المحلية للحصول على ثرواتها ونسائها - لكن هذا لن يكون سيئًا للغاية لأنه سيحافظ على الثروة والنساء.

إن الموقف "القطعي" تجاه الحياة يمنحنا المعرفة الميتة، وليس المعرفة الحية

ومع ذلك، إذا كنت في حملة أخلاقية، فسوف تدمر كل شيء في أعقابك. ومن يستطيع أن ينكر أن تاريخ القرن العشرين يدعم وجهة النظر هذه، حيث تسببت الإيديولوجيات النازية والشيوعية في إحداث مثل هذا الدمار؟ ففي نهاية المطاف، كان هتلر مثالياً أيضاً. لذا فإن كونفوشيوس - الذي لم يكن، باعتراف الجميع، جزءًا من تقليد الزن، على الرغم من تأثيره عليه - لا يضع القيمة الأعظم على الخير المطلق، بل على "القلب الإنساني"، أو جين. إذا كان قلبك إنسانيًا، فمن غير المرجح أن ترغب في ارتكاب أي شر كبير، حتى بدون رؤية أخلاقية عظيمة لإرشادك. وحتى إذا قمت بذلك، فإن الضرر الذي تسببه سيكون محدودًا بمصلحتك الشخصية.

ربما يكون هذا الافتقار إلى مدونة أخلاقية واضحة هو السبب وراء عدم كون فلسفة الزن مناسبة تمامًا للعقل الشاب أو غير الناضج. في الخمسينيات من القرن الماضي، انتقد واتس استيلاء البيتنيك على زن في كتابه Beat Zen وSquare Zen وZen (1959). ويبدو أن القدرية الواضحة للزن تفتح الباب أمام الأفراد "ليفعلوا ما يريدون". اعتقد واتس أن فرقة البيتس كانت طفولية، على الرغم من أنه أشار إلى أن سلوكهم كشف أيضًا عن مفارقة ذكية: أن القدرية المطلقة تعني الحرية المطلقة. وهنا أيضًا يمكنك النظر إليها من كلا الجانبين.

في الواقع، أن الزن  ليس قدريًا. بل إنها تقبل شيئًا تجد الفلسفة الغربية صعوبة في فهمه، وهو أن حقيقتين متناقضتين ممكنتان في نفس الوقت. يعتمد الأمر فقط على الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر. إن العالم ليس عالمًا متسقًا منطقيًا، ولكنه عالم متناقض للغاية. مرة أخرى، هذا موضح في العلم، الذي يوضح أن شيئين يمكن أن يكونا واحدًا في نفس الوقت - الضوء، على سبيل المثال، يعمل كجسيم وموجة. يقول أساتذة الزن نفس الشيء عن حياة الإنسان. ربما أنت تفعل ذلك. ربما "إنه" يفعلك. لا توجد طريقة لمعرفة أيهما. إنها مثل رقصة رسمية بارعة لدرجة أنك لا تستطيع معرفة من يقودها ومن يتبعها.

في حين أنه من المنعش أن فلسفة زن مدعومة بطرق عديدة من خلال المعرفة العلمية الحالية، إلا أنها أيضًا نقد للفكر العلمي. يتطلب التقليد العلمي تقسيم الأشياء -عقليًا وجسديًا- إلى أجزاء أصغر وأصغر لدراستها. فهو يقترح أن النوع الوحيد من المعرفة هو التجريبي وأن القوانين الصارمة للمنهج العلمي هي النوع الوحيد الصالح.

يشير زن إلى أن هذا يشبه رمي الطفل مع ماء الاستحمام – قد يكون التفكير العلمي مفيدًا للغاية، ولكنه أيضًا ضار بالمفهوم الهادف للحياة. يميل إلى تجاهل السياق الأساسي للأشياء. نحن نعيش في عالم غير دقيق. الطبيعة غامضة إلى حد غير عادي. يروج العلم لفكرة "الحقائق الغاشمة" الصعبة والواضحة، لكن بعض الحقائق تكون لينة. إن الموقف "القطعي" تجاه الحياة يمنحنا المعرفة الميتة، وليس المعرفة الحية.

إن الطبيعة الأساسية للعالم ليست شيئًا يمكن للمرء أن يكون دقيقًا جدًا بشأنه. يجب أن يظل أساس حياة الفرد وفكره دائمًا غير محدد. بعض الأفكار (مثل الطاو، "طريقة الأشياء") تأتي إلينا، ولا يمكننا الخروج والبحث عنها. فهي غامضة وغير معروفة.

هذا النوع من التفكير هو لعنة بالنسبة للعالم الحديث الذي يعتقد أن كل شيء يمكن أن يكون معروفا، وفي النهاية سوف يكون معروفا. لكن واتس يرى أنه من المستحيل تقدير الكون ما لم تعرف متى تتوقف عن البحث. الحقيقة لا يمكن العثور عليها عن طريق تقطيع كل شيء إلى أجزاء مثل طفل مدلل.

من المستحيل، بالطبع، تلخيص Zen في بضعة آلاف من الكلمات. في الواقع لا يطلب تلخيصها. المبدأ الأول للزن، الذي عبر عنه الفيلسوف لاو تزو، هو "أولئك الذين يعرفون لا يقولون، وأولئك الذين يقولون لا يعرفون". إن الزن ليس تبشيريا، بل على العكس تماما. يطلب منك أن تأتي إليه، بالدعاء، وتثيره. وهناك قول آخر لزن يقول: "من يسعى إلى الإقناع لا يقنع".

لكنها أقنعتني. بعد قضاء ما يقرب من عامين في دراسة فلسفة الزن والطاوية وأعمال آلان واتس، أعتقد أنني حققت حقًا نوعًا من الساتوري - التحرر من الثقل الداخلي وتناقضات الحياة العادية. عندما سأل أحد الطلاب واتس عن الشعور بالتنوير، قال إنه شعور عادي للغاية - ولكن مثل المشي قليلاً في الهواء، على ارتفاع بوصة واحدة فوق الأرض. وهذا بالضبط ما شعرت به – كل يوم.

لا أعرف كم من الوقت استمرت التجربة. ربما لمدة عام، وربما لفترة أطول. طوال ذلك الوقت، كانت فكرة واتس والزن موجودة في ذهني، لتبلغني بأفكاري وأفعالي. لقد اختفت ضجيج الخلفية، وحالة القلق والثرثرة التي كانت مصدر إلهام لحياتي القديمة. كان رأسي صافيا. لقد تخللتني الفلسفة بالكامل. لقد كانت حياتي حقا أكثر بهجة مما كانت عليه في أي وقت مضى. لم يزعجني شيء. شعرت بالطاقة والتفاؤل.

ثم ذات يوم فقدت الرؤية. لا أعرف كيف حدث ذلك. لقد أخذتني فترة من التوتر والاكتئاب السريري، وعندما ظهرت على السطح مرة أخرى، ترك واتس والتاو أفكاري. لقد كنت وحدي مرة أخرى، في حيرة ومتضاربة. كنت أعرف الكلمات، لكن لم أعد أسمع الموسيقى. الأفكار والعادات القديمة التي كنت مشروطًا بها منذ ولادتي أعادت تأكيد نفسها. مرة أخرى، شعرت بالقلق من الأمور التي لا معنى لها، وتوهت في الماضي والمستقبل بدلاً من الوجود في الحاضر الديناميكي.

ولكن بعد ذلك، لا ينبغي لي أن أتفاجأ. ما علمه آلان واتس، قبل كل شيء، هو أن كل شيء عابر. كل شيء يأتي ويذهب. واتس نفسه لم يكن موجودا في حالة دائمة من النعيم الروحي. لقد مات وهو مدمن على الكحول. لقد كان يشرب الخمر بكثرة طوال حياته. لم تكن حياته اللاحقة سهلة: ففي سنواته الأخيرة، كان يشبه شخصية ديكنز، حيث كان يعمل يائسًا لإعالة أطفاله السبعة، ومن المفترض، زوجتيه السابقتين (عندما توفي كان لديه بالفعل زوجة ثالثة). لكنه لم يكن بأي حال من الأحوال سكيرًا "تعيسًا". لم يعرب أبدًا عن الذنب أو الندم بشأن الشرب أو التدخين، ولم يفوت محاضرة أو موعدًا نهائيًا للكتابة.

إذا أخذنا مثال واتس نفسه في الاعتبار، فإن كونك "مستنيرًا" لا يجعلك دائمًا سعيدًا. ومع ذلك، لا يزال هناك شيء يستحق تحقيقه. إنه يجلب الوضوح والسلام، رغم أنه لا يحميك من كل تقلبات الحياة.

لقد جاء "التنوير" الشخصي الخاص بي وذهب، ولكنني آمل أن يعود. ولعل هذا المقال هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. يبدو الأمر كذلك. قد يكون أو لا يكون في يدي. ولكن إذا تمكنت من العثور على الطريق مرة أخرى، فسوف أبقى عليه حتى أفقده. وكما يشير قول الزن، إذا رأيت بوذا، فسوف أقتله. لأنه في اللحظة التي تبدأ فيها بالتفكير بأنك "مستنير"، فأنت لم تعد مستنيرًا.

(تمت)

***

......................

المؤلف: تيم لوت / Tim Lott  مؤلف كتاب "رائحة الورود المجففة" (كلاسيكيات البطريق الحديثة) و"تحت نفس النجوم" (سايمون وشوستر).

*دوروثي رو (17 ديسمبر 1930 - 25 مارس 2019) كانت عالمة نفس ومؤلفة أسترالية بريطانية، وكان مجال اهتمامها هو الاكتئاب.

** الرغوة الكمومية أو رغوة الزمكان هي تقلب كمي نظري للزمكان على مقاييس صغيرة جدًا بسبب ميكانيكا الكم. وتتنبأ النظرية أنه عند هذه المقاييس الصغيرة، يتم إنشاء وتدمير جسيمات المادة والمادة المضادة باستمرار. وتسمى هذه الأجسام دون الذرية بالجسيمات الافتراضية.  وقد ابتكر هذه الفكرة جون ويلر في عام 1955.

 

قبلَ الاجابةِ عن هذا السؤال، لابدَّ لنا من تحديدِ المُصطلحاتِ، فماذا نعني بالتحديث؟ وماهي الحداثةُ؟، التحديثُ نعني به الجانب التطبيقي للحداثة أَو هو الجانب المادي من الحداثةِ. كاستخدام الهاتف الجوال، واستخدام الانترنت، واستخدام الطائرة في السفر، هذه كُلُّها  تدخل تحتَ مصطلحِ التحديث؛ وبالتالي ليس كل من يستخدم ادوات التحديث هذه يعتبرُ حداثَوِّياً ؛ لانَّ التحديثَ مرتبطٌ بالجانبِ الماديِّ، أَمّا الحداثةُ فتتعلقُ ببنية التفكير، الحداثة تتعلق بالافكار والمفاهيم، أَمّا التحديثُ فهو الجانب التطبيقي التراكمي من الحداثة.

 كثيرٌ من البلدان المتخلفة تستخدم ادوات الحداثة المادية، تستخدم المواصلات الحديثة ووسائل التواصل الحديثة وتتكلم لغات اجنبيَّةً ولكن هذا لايجعل منها مجتمعات حداثوية ؛ لان تحديث هذه المجتمعات بالتكنولوجيا والوسائل الحديثة لايجعل هذهِ المجتمعاتِ حداثَويَّةً. الحداثة  هي تغيير طريقة التفكير والبنية الفكرية، الحداثةُ: هي تغيير المفاهيم والرؤى الكونية في فهم الحياة والكون والانسان.

والسؤالُ الذي يطرحُ نَفسَهُ هنا، هو: هل نحنُ بحاجَةٍ الى تحديثٍ أَم حداثَةٍ؟

للوهلةِ الأُولى قد يقالُ  نحن لسنا بحاجَةٍ الى حداثَةٍ ؛ لانَّ رؤانا وطريقةَ تفكيرنا تختلف عن رؤى وطريقة تفكير الغربيين، ومفاهيمهم عن الحياة والكون تختلف عن مفاهيمنا عن الكون والحياة والانسان. ان نظرتهم للحياة والوجود نظرة ماديَّةٌ .نظرتهم تقوم على الفردانيّة، وانزال الانسان عن عرشه ومساواته بالاشياء، وكذلك، النظرة الغربيَّة الماديَّة تفصلُ القِيَمَ عن الواقعِ، وبالتالي نحنُ لانحتاجُ الى حداثتِهم بل نحنُ في أَمَسِّ الحاجَةِ الى تحديثِهم.

هل يمكنُ الفصلُ بينَ الحداثَةِ والتحديثِ؟

هل المُنْجَزاتُ الماديَّةُ للحداثَةِ لاصِلَةَ لها بالحَداثَةِ؟ والاجابَةُ عن هذا التساؤلِ هي أَنَّ المنتَجَ الماديَّ غيرُ مقطوعِ الصِلَةِ بالفكرةِ التي أنتجتهُ . لايمكننا ابداً أن نتصورَ ان المنتَجاتِ الماديَّةَ لا تحملُ بصماتِ الفكرةِ التي انتجتها، المخترعون.  قبل ان يخترعوا جهازاً ماديَّاً اندلعت فكرةٌ في رؤوسهم أَدَّت الى هذا الاختراع. ولكن على الرغم من ذلك، يمكن الاستفادة من التحديث مع ربطه بقيمنا ورؤيتنا الكونية للكون والحياة والانسان، ونظرتنا الى الانسان ومكانته في الوجود، وربط القيم والاخلاق بالواقع ..

وبالتالي: نستطيع ان نغيّرَ من توجهات الحداثَةِ وقيمها الماديَّةِ وننزع عنها أنانيتَها وغُلُوُّها في تقديس الفرد . كما أَنَّ لنا حداثتنا التي أَعلت من مكانة الانسان وحفظت حقوقه، ولم تسمح بالتجاوز عليه وهدر آدميتِهِ.

وخلاصةُ القولِ: يمكنُنا الاخذ بالتحديث مفصولاً عن قيمهِ الغربيَّةِ الماديَّةِ وربطهِ بقيمنا ورؤيتِنا عن الكونِ والحياة.

***

زعيم الخير الله

 

في عالم انفجر بتطورات تكنولوجية خارقة، في مجالات البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا وعلوم الجينوم والمواد والمناخ والطاقة والفيزياء الكمومية والتكنولوجيا الرقمية، ضاعت على العراق فرصة المشاركة في هذه التطورات ولم ينل منها نصيبه. فلم يكن له أي دور في هذه الاختراعات والابتكارات، ولم يتمكن من الاستفادة منها في تحسين حياة شعبه وتطوير بلاده، على الرغم من توافر العديد من اصحاب الشهادات العليا في هذه المجالات، التي تم إعدادها بعجالة محلياً وبامكانيات محدودة وبأدوات بسيطة ولم تسنح لها فرصة اظهار إمكانياتها، بل ضاعت في خضم الفساد والمصالح الشخصية وانعدام التكافؤ والفرص.

وكان السبب وراء ضياع الفرص هو انعزالنا وانغلاقنا وعدم تواصلنا مع العالم الخارجي يعود الى الارهاب والفساد والحروب والصراعات الداخلية والخارجية التي شهدها العراق منذ عقود، والتي أدت إلى تدمير البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والبحثية والصناعية، وتشتيت الكوادر العلمية والفنية والهندسية، حيث اكتفينا باتصالنا المحدود محلياً ولم نفتح آذاننا وعيوننا وعقولنا لما يحدث في العالم من تقدم وتطور. فشلنا في استيعاب المعلومات والخبرات الحديثة في هذه المجالات المتقدمة، وبقينا في ظلمة التخلف حالنا حال كثير من الدول العربية التي تعاني من نفس الازمة. و زاد الطين بلة إهمالنا لتطوير القدرات الابتكارية والمهاراتية لأصحاب الشهادات العليا، واكتفينا بتعليمهم المواضيع المهنية التقليدية وبأساليب التلقين والحفظ.

وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة حول الملكية الفكرية، يحتل العراق المرتبة 131 من اصل 132 دولة في مؤشر الابتكار العالمي،  لكن هذه المرتبة  المتدنية بالرغم من التحديات التي تثيرها، لأنها تعني أن العراق قد اهمل إمكاناته في مجال الابتكار والتنمية، تثير القلق ايضا حول اهمية البحوث والاختراعات العديدة التي يعلن عنها الباحثون والمبتكرون العراقيون عن طريق اوراقهم البحثية وشهادات براءة الاختراع، وحول دور التربية والتعليم في تنمية القدرات الفكرية وتزويد الفرد بالمهارات والمعارف وتعزيز التنمية المستدامة وتشجيع البحث العلمي والابتكار.

ولكي نتعرف عن سبب حصول العراق على هذه المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي يجب علينا استكشاف الحالة المتخلفة والمتدهورة  لعناصر هذا المؤشر فهو ليس مجرد مقياس لحالة التعليم والتكنولوجيا والابتكار وانما مقياس لكفاءة وفعالية النظام الايكولوجي للابتكار متمثلا في مؤسسات الدولة وحالة الاستقرار السياسي ورأس المال البشري والبحث والبنية التحتية وحالة الاسواق والاعمال التجارية، بالاضافة للنواتج المعرفية والتكنولوجية والابداعية، والتي جميعها تؤكد على ضرورة إجراء تحول جذري في هيكلة البحث والتطوير والابتكار، وللحاجة الى اصلاح شامل للنظام التعليمي.

وهو ما يتطلب اجراءات جوهرية وشاملة تتضمن تعزيز الاستقرار السياسي والرؤية السياسية لخلق بيئة مناسبة للابتكار والاستثمار، وتحسين البنية التحتية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا، وذلك لتوفير بيئة مساعدة للابتكار وتحفيز الاستثمار، والاهم هو ضرورة إجراء إصلاحات شاملة في نظام التعليم لتعزيز رأس المال البشري وتطوير المهارات والمعرفة اللازمة للابتكار، وتوفير التمويل الكافي والدعم للبحوث العلمية وتطوير التكنولوجيا، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الابتكار وتبادل المعرفة والتجارب والتكنولوجيا مع الدول المتقدمة، ولابد ان يرافق ذلك إجراء إصلاحات في النظام القانوني والتنظيمي لحماية الملكية الفكرية وتسهيل عملية الاستثمار وتشجيع روح ريادة الأعمال. فقط من خلال العمل على تنفيذ هذه الإجراءات على المدى القريب والبعيد، يمكن للعراق تحقيق تحسين ملحوظ في مستوى المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي.

والآن، ماذا عسانا أن نفعل في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ هل نستسلم للتحدي الجديد الذي يهدد مستقبلنا وهويتنا؟ أم نستيقظ من سباتنا ونفتح آفاقنا للتواصل والتعاون مع العالم الخارجي؟ في هذا العصر، ستظهر اختراعات واختراقات وابتكارات جديدة في مجالات علوم الحاسبات والرياضيات وتطوير انظمة ذكية والتعلم الآلي والتعلم العميق ومعالجة اللغة والرؤية الحاسوبية والروبوتات وعلوم الأعصاب والادراك، تلك المجالات التي تحدد مصير البشرية ومستوى تقدمها ورفاهيتها. إذا لم نلتفت إلى هذا التحدي ونتخذ الإجراءات اللازمة الآن، فسنبقى مجرد مستهلكين لهذه التقنيات كما نفعله مع تلفوناتنا النقالة ووسائل الاتصال الاجتماعي دون أن نلعب أي دور في تطويرها أو تطبيقها، ولن نعرف معنى الاختراع والابتكار كما لم نعرفه في السابق. يبدو جليا انه في ظل ضعف البنية التحتية الحالية للتكنولوجيا، وانعدام الفرص المناسبة، تسود حالة من السبات العميق في المجال التكنولوجي في العراق. لهذا يجب على الحكومة العراقية أن تواجه هذه التحديات بجدية، وأن تستيقظ من هذا السبات لتستثمر في التكنولوجيا وتبني مستقبل أفضل لشباب العراق.

ثورة علمية ضرورية في نظام الابتعاث لنهضة العراق

نؤمن ايمانا عميقا بأهمية الابتعاث كركيزة اساسية لنهضة العراق الاقتصادية والتكنولوجية. ولطالما سعينا إلى إقناع القيادات السياسية بضرورة الابتعاث، ايمانا منا بأنه السبيل الأمثل لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق. نحن في يومنا هذا بحاجة إلى ثورة في نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية ونهل العلم منها والتواصل مع جامعاتها والتفاعل مع مؤسساتها العلمية والتكنولوجية، حتى نتمكن من الاستفادة من الخبرات الحديثة في هذه المجالات الحيوية، ونعود بما نتعلمه إلى بلادنا لنساهم في رفعتها وتقدمها، ونشارك بفعالية في الحوار العلمي العالمي ونساهم في تحقيق الانجازات العلمية. بكل يقين اؤكد ان نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية اهم بوابةً لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق لكنه يواجه العديد من التحديات التي تجعله بحاجة إلى ثورة شاملة لتطويره، كتوسيع نطاق التخصصات، وانشاء صندوق دعم للابتعاث يوفر تمويل دون الاعتماد على المنح الدراسية، وخلق بيئة مناسبة للبحث العلمي في الوطن لتشجيع الطلاب على العودة بعد اكمال دراستهم والمساهمة في تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي. ولابد من الاشارة الى انه وبهدف معالجة بعض التحديات التي تواجه نظام الابتعاث، أطلقت رئاسة الوزراء مبادرة لابتعاث 5000 طالب. ان هذه المبادرة تعد خطوة إيجابية على طريق نهضة العراق العلمية والتكنولوجية، ونأمل أن تتبعها خطوات أخرى لتطوير نظام الابتعاث ودعمه، ليتسنى للطلاب العراقيين نيل أفضل الفرص التعليمية وتحقيق الإنجازات العلمية.

***

ا. د. محمد الربيعي

قيل لنا إن مرتكبي العنف يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم، لكن الحقيقة أسوأ. فلماذا نحط من قدر الآخرين ونستعبدهم ونبيدهم. إن البشرية قد تتوقف عند حدود القبيلة أو القرية، أو عند حدود العرق، أو الدين، أو اللغة، أو اللون. واليوم تبدو ظواهر مثل العنف، والقسوة، والتجريد من الإنسانية أمراً منتشراً. لو بحثنا في محركات البحث عن المجموعة البشرية المفضلة والمحتقرة لدينا "اليهود، والسود، والعرب، والمسلمين، والمثليين" وما إلى ذلك - جنباً إلى جنب مع كلمات مثل "الحشرات"، أو "الصراصير"، أو "الحيوانات"، وسوف يتدفق أمامنا سيل لا يتوقف منها. سوف نسمع كلمة "حيوانات" يستخدمها حتى الأشخاص المحترمون، في إشارة إلى الإرهابيين، أو الإسرائيليين، أو الفلسطينيين، أو المهاجرين غير الشرعيين، أو مُرحّلي المهاجرين غير الشرعيين. تظهر مثل القسوة والتجريد  في خطاب المتعصبين البيض، والتيارات اليمينية غالباً، ولكن نجده عندما يتحدث بعضنا عن المتعصبين البيض أيضاً.

إنها ليست مجرد مسألة كلمات. على مر التاريخ، اعتقد بعض الناس أنه من المقبول امتلاك البشر، وكانت هناك مناقشات صريحة من قبل بعض الباحثون والساسة فيما إذا كانت مجموعات معينة (مثل السود والأمريكيين الأصليين) "عبيدًا طبيعيين". وحتى في القرن الماضي، كانت هناك حدائق حيوانات بشرية، حيث تم وضع الأفارقة في حظائر لينظر إليها الأوروبيون.

نظراً لندرة الأدلة المتاحة، فإن دراسات علماء الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية منقسمة بشدة حول سؤال: ما هو عمر العنف البشري؟ استنتج بعض العلماء أن البشر عنيفون بطبيعتهم، شأن عالم النفس النمساوي "سيغموند فرويد"  Sigmund Freud الذي يعتبر أن الإنسان هو كائن يختزن قدراً كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية. وآخرون أنهم في الأساس غير عنيفين، إنما يتعلون العنف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى. مثل عالم النفس الاجتماعي الكندي الأمريكي "ألبرت باندورا" Albert Bandura، ولكن في كلا المدرستين التفسيريتين هناك ميل واضح للاعتماد على نظرية المعرفة الطبيعية لتحليل أنواع البنى النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى تجريد الآخرين من إنسانيتهم وإساءة معاملتهم.

لا تحتاج إلى أن تكون عدائياً لتكون عنصرياً، لكنك تحتاج إلى تصنيف المجموعات. فإذا كنت تعتقد أن أعضاء مجموعة معينة أقل شأناً، وأن لديهم قيمة جوهرية أقل من أعضاء مجموعة أخرى، فإنك تظهر العنصرية. إن التجريد من الإنسانية هو ظاهرة اجتماعية معقدة، ترتبط ارتباطًا وثيقاً بالأذى والإهمال بين المجموعات.

العقلية اللاإنسانية

إن تصنيف الناس أو تصنيف الأجناس حسب العرق، أو اللون، أو الدين، أو القومية، أو اللغة، يؤدي إلى تجريدهم من إنسانيتهم. يعرّف علماء النفس والأنثروبولوجيا التجريد من الإنسانية بأنه تصور شخص آخر على أنه دون البشر. يقول عالم النفس التطوري في جامعة نيو إنجلاند "ديفيد ليفينغستون سميث"David Livingston Smith "في ظل الظروف المناسبة، فإننا جميعًا تقريبًاً قادرون على الانزلاق إلى العقلية اللاإنسانية، وارتكاب أعمال وحشية كان من الصعب أو حتى المستحيل بالنسبة لنا القيام بها".

هذا التصنيف للأشخاص حسب "العرق" له تاريخ طويل. حدّد الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو نوعين من الناس: اليونانيون والآخرون. جمع  كل غير اليونانيين معاً باعتبارهم برابرة، وليس ـ على سبيل المثال ـ سوريين أو إثيوبيين أو فرس. كان من المفترض أن يكون البرابرة أقل عقلانية من اليونانيين. كان البرابرة "عبيدًا بطبيعتهم"، مما يعني أنه كان من الطبيعي أن يستعبدهم اليونانيون. وتم استخدام أفكار مماثلة لتبرير الاستعمار واستعباد الشعوب في جميع أنحاء العالم من قبل القوى الأوروبية.

فخلال تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، كان الملاكين عبر التاريخ يعتبرون العبيد حيوانات دون البشر. كما جمع الأوروبيون والأمريكيون الشعوب الأفريقية معًا على أنهم سود «الزنوج» تاريخياً، رافضين حقيقة أنهم ينتمون إلى مجتمعات مختلفة.

هناك العديد من الأحداث التاريخية التي توضح التحول إلى العقلية اللاإنسانية. والأكثر شهرة بالطبع هو أيديولوجية ألمانيا النازية، التي نشرت أفكارًا حول تفوق الآريين على جميع الأمم الأخرى. وكانوا ينظرون إلى الفساد على أنه متأصل في الأشخاص اليهود. وعندما وصف النازيون اليهود بأنهم "Untermenschen"أي دون البشر، أو أقل من البشر، واعتبروهم جرذان لم يقصدوا ذلك مجازياً، كما يقول سميث "لم يقصدوا أنهم كانوا مثل البشر دون البشر. بل كانوا يقصدون أنهم كانوا حرفيا دون البشر." وحين أطلق اليهود الصهاينة على الفلسطينيين أنهم حيوانات بشرية، كانوا يقصدون ما قالوه تماماً.

وفي مثال مماثل يمكن تسمية سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا القائمة على التمييز العنصري، الذي استمر حوالي نصف قرن وسقط رسميا في العام 1991 أيضاً تجريداً للإنسانية من قبل أتباع "الحركة البيضاء" لغالبية السكان الأصليين الأفريكانيين (أو البوير).

وعندما شاركت قبائل "الهوتو" في الإبادة الجماعية في رواندا أطلقوا على قبائل "التوتسي" صراصير. هذا التجريد من الإنسانية فتح الباب أمام القسوة ن والوحشية، والإبادة الجماعية.

التجريد من الإنسانية هو وسيلة لحرب المعلومات، والجوهر هو تشكيل صورة الشخص الذي يصبح غير مهم، طفيلي ولا يستحق الوجود. وهو أحد أكثر طرق الحرب الإعلامية وحشية. على سبيل المثال صورة الجندية الأمريكية "ليندي إنجلاند" Lynndie England وهي تسحب مقوداً مربوطاً برقبة سجينة في سجن أبو غريب، تضطر للزحف على الأرض، بينما  زميلتها الجندية "ميغان أمبوهل" Megan Ambuhl تُراقب.

خلال الحرب العالمية الأولى ظهر ملصق دعائي نمساوي يصور أحد الصرب على أنه إرهابي يشبه القرد. كما ظهر ملصق دعائي أمريكي من الحرب العالمية الثانية يظهر فيه جندي ياباني على شكل فأر.

التحريض على أعمال الإبادة الجماعية

التجريد من الإنسانية هو أحد أشكال التحريض على الإبادة الجماعية. كما تم استخدامه لتبرير الحروب، والقتل القضائي وخارج نطاق القضاء، ومصادرة الممتلكات، والحرمان من حق الاقتراع وغيرها من الحقوق، ولمهاجمة الأعداء أو المعارضين السياسيين. وهذا ما تفعله إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.

تؤكد أفعال الصهيونية في فلسطين أنه عندما نكون في قبضة عقلية تجرد الإنسان من إنسانيته، فإننا غالباً ما نرى الآخر المجرد من إنسانيته "مرعباً وخطراً"، مما يؤدي إلى ما يراه الجناة على أنه صراع حياة أو موت ضد عدو قاتل. ومن المهم أن نتذكر أن المجردين من الإنسانية يعتقدون في الواقع أن الأشخاص الذين يضطهدوهم أقل من البشر، مما يجعل عملية التجريد من الإنسانية خطيرة للغاية. مثل دعوة "نسيم فاتوري" نائب رئيس الكنسيت الإسرائيلي وعضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن إلى حرق قطاع غزة بالكامل. حيث نشر النائب المتطرف، تدوينة بالعبرية على حسابه على "أكس" قال فيها "كل الانشغال بمدى توفر الإنترنت في غزة ألا يظهر ذلك أننا لم نتعلم شيئا.. نحن إنسانيون للغاية.. احرقوا غزة الآن لا أقل من ذلك". وكان نفسه قد طالب في تصريحات نقلتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى البلدان المستعدة لاستقبالهم وعلى رأسها اسكتلندا. وكذلك دعوات وزير التراث الإسرائيلي "عميحاي إلياهو" ل إلى ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية وإبادتها كأحد الخيارات المطروحة. وبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية دعا إلى استخدام الصواريخ الباليستية لمحو غزة عن الخارطة.

وكانت مواقف مماثلة واضحة تجاه السكان الأصليين في الأمريكيتين ("يعود الهندي دائماً إلى بطانيته" - مما يعني أنه لا يمكن أن يكونوا "متحضرين") وتجاه العبيد السود الذين كان يُفترض أن لديهم دوافع وحشية. يُظهر الإعدام خارج نطاق القانون أسوأ سلوكيات التجريد من الإنسانية - السادية والتعذيب والقتل. كان يُعتقد أن العبيد السود الذين أرادوا الهروب من العبودية، وهي حالتهم الطبيعية المفترضة، يعانون من اضطراب نفسي "ورم درابيتومانيا" وكان يتم جلدهم كعلاج. وهذا المرض العقلي المُفترض اخترعه الطبيب الأمريكي "صموئيل كارترايت"Samuel Cartwright في عام 1851 لشرح رحلة العبيد الأولى إلى شمال الولايات المتحدة. وفقًا لكارترايت، تم تفسير هروب العبيد بالحركات اللاإرادية.

من الناحية البيولوجية، يمكن وصف التجريد من الإنسانية على أنه نوع مُدخل يهمش النوع البشري، أو شخص/عملية مُدخلة تحط من شأن الآخرين بشكل غير إنساني. أثناء الحرب الصينية اليابانية الثانية، تنافس اثنان من ضباط الجيش الإمبراطوري الياباني في الصين المحتلة لمعرفة من يمكنه قتل مئة صيني بالسيف أولاً خلال مذبحة "نانجينغ" Nanjing.

تم تجريد الأمريكيين الأصليين من إنسانيتهم باعتبارهم "متوحشين هنود لا يرحمون" في إعلان استقلال الولايات المتحدة. وفي عام 1890 قام الجيش الأمريكي بقتل ثلاثمائة من الهنود السكان الأصليين، معظمهم من الرجال والنساء والأطفال في مذبحة سميت "مجزرة الركبة الجريحة" Wounded Knee Massacre. وفي الولايات المتحدة، تم تجريد الأمريكيين من أصل أفريقي من إنسانيتهم من خلال تصنيفهم على أنهم رئيسيات غير بشرية.

في أستراليا تم استبعاد السكان الأصليين من تعداد السكان حين وافقت المستعمرات الأسترالية الست على الاتحاد، وأنشأت الدولة القومية الحديثة عام 1901.  وتم حرمانهم بشكل قاطع من حق التصويت. لم يُسمح للسكان الأصليين الأستراليين بمزايا الضمان الاجتماعي (مثل معاشات الشيخوخة وبدلات الأمومة) التي كانت تُقدم للآخرين.

التمييز والعنصرية

التجريد من الإنسانية العنصري للمجموعات يستلزم فهم الجماعات والأفراد على أنهم أقل من إنسان كامل بحكم عرقهم. غالباً ما يحدث التجريد من الإنسانية نتيجة للصراع بين المجموعات. حيث يتم تمثيل الآخرين العرقيين والعنصريين كحيوانات في الثقافة الشعبية. هناك أدلة على أن هذا التمثيل لا يزال قائماً في السياق الأمريكي مع الأمريكيين من أصل أفريقي المرتبطين ضمنيا بالقردة. وبقدر ما يكون لدى الفرد هذا الارتباط الضمني المهين للإنسانية، فمن المرجح أن يدعم العنف ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.

كثيراً ما يرتبط التجريد من الإنسانية بنزاعات الإبادة الجماعية تاريخياً، حيث تصور الأيديولوجيات قبل وأثناء الصراع الضحايا على أنهم دون البشر "مثل القوارض" ويمكن أيضاً تجريد المهاجرين واللاجئين من إنسانيتهم بهذه الطريقة. كما حصل في عدد من الدول الأوروبية عام 2015 خلال أزمة تدفق اللاجئين.

يتم تخصيص كلمات مثل المهاجر والمغترب للأجانب بناءً على وضعهم الاجتماعي وثرواتهم، بدلاً من القدرة أو الإنجازات أو التوافق السياسي. المغترب هي كلمة تصف الأشخاص المتميزين، ذوي البشرة الفاتحة في كثير من الأحيان والذين يقيمون حديثاً في منطقة ما، ولها دلالات تشير إلى القدرة والثروة والثقة. وفي الوقت نفسه، تُستخدم كلمة مهاجر لوصف الأشخاص القادمين إلى مكان جديد للإقامة فيه، وتوحي بمعنى أقل استحسانًا بكثير.

يتم أحيانًا ربط كلمة "مهاجر" بكلمة "غير شرعي"، والتي تحمل دلالة مهينة للغاية. إن إساءة استخدام هذه المصطلحات - غالباً ما يتم استخدامها بشكل غير دقيق - لوصف الآخر، يمكن أن يغير تصور المجموعة ككل بطريقة سلبية.

ويؤكد سميث أنه "طالما استمر التمييز والعنصرية، فإن التجريد من الإنسانية هو قاب قوسين أو أدنى". تُظهِر العنصرية البعض على أنهم كائنات بشرية أقل شأناً، في حين يُظهر التجريد من الإنسانية طبيعة أقل من الإنسانية. فالتجريد من الإنسانية هو عنصرية منشطة.

خلاصة القول: يمكننا إقناع أنفسنا بالاعتقاد بأن الآخرين هم دون البشر أو ليسوا أشخاصاً، من خلال الروايات الثقافية أو من خلال البيولوجيا العصبية الحساسة للتهديدات، أو مزيج من ذلك. إن الاعتقاد بأن الآخر ليس شخصاً حقيقياً يمكّننا من ارتكاب أعمال القسوة والدمار. إن الأحداث التي تدور حولنا تؤكد ما وصل إليه الفيلسوف الفرنسي "بليز باسكال" Blaise Pascal  في عام 1658 حين قال " البشر هم مجد الكون وحثالته. نحن نحب ونكره. نساعد ونضر. نمد يدنا ونلصق السكين".

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

ربما بدا هذا الاسم غريباً على كثير منا، ولكن يجب أن تعلم ان الجامعات المحترمة في العالم باتت لا تقبل اليوم بحثاً في الترقية أو التأهيل إلا إذا كان منشوراً في مجلة معتمدة على منصة سكوباس.

وسكوباس هو قاعدة بيانات عالمية انطلقت من هولندا 2004 بهدف التدقيق في القيمة العلمية لما ينشر من بحوث في العالم.

وفي مواجهة مسخرة الألقاب الأكاديمية، والدعاوى الزائفة خاصة في عصر القص واللصق والذكاء الصناعي كل باحث يزعم أنه يكتب، وكل دار نشر تدعي أنها تنشر، وكل جامعة تدعي أنها تخترع، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم الرسالة والنبوة والملك. ومع تسارع التكنولوجيا ووسائل التواصل منحت المنصات العملاقة منصات متساوية للفلاسفة وللحمقى، وبات الفيلسوف والأمي وقارئة الفنجان يملكان الحق نفسه في النقد والتحليل والاستشراف وبناء خطط المستقبل، وليس سراً أن الفيلسوف أتعس الثلاثة فلن يستطيع أن يزاحم مواهبهم الاستثنائية في الوصل إلى الجمهور وبات في أحيان كثيرة ستجديهم للوصول إلى قرائه.

وهكذا بات على العلم الموضوعي أن يحمي نفسه، وأن تتوفر في العالم الأكاديمي جهة مرجعية تقول هذا علم وهذا جهل، وهذا معرفة وهذا عصفورية، وتنصف البحث العلمي من زيف القص واللصق، والقطش واللحش، وقد نجحت سكوباس بالفعل في أخذ المبادرة، عبر تحالف دولي مع تسع مؤسسات كبرى في العالم بحيث تم وضع معايير علمية صارمة في البحث والمصادر والحوكمة حتى يقال بعد ذلك للبحث العلمي إنه بحث محكم.

رصدت سكوباس آلاف الأكاديميين المتخصصين للقيام بمراقبة دقيقة لأداء كل مجلة محكمة في العالم، ووضعت معايير صارمة لقبول المجلة منها جدية البحث العلمي، والزمن الحتمي للبحث والتحكيم، وقوة المصادر وحجم الاقتباس وآلية التحكيم والاستمرارية وغير ذلك، وعبر جهود دقيقة ومتواصلة نجحت سكوباس في توفير هذه المنصة المحكمة، وبالفعل بات في قوائمها اليوم 29200 مجلة محكمة بأكثر من ثلاثين لغة حول العالم، تصدر من 105 دول حول العالم، وتشارك في نشرها 7000 دار نشر جامعية أو مستقلة، ورصدت بحوث 140 ألف مؤتمر علمي حول العالم، كمجلات رصينة تحترم قواعد البحث العلمي، وتم اعتماد 27 ألف سلسلة كتب تضم أكثر من 261 ألف كتاباً ويتم رصدها وتصنيفها بأكثر من خمسين إحداثية متقابلة للوصول إلى أهم المجلات وأكبرها وأصغرها، وأقدمها وأحدثها، وأكثرها تخصصاً ومباشرة، وأكثرها اقتباساً وتناولاً، وأكثرها حضوراً في البحوث العلمية الجدية.

وآمنت سكوباس بجدل الحياة المستمر، فلا حكم يصلح للأبد، فالحياة ليست حقيقة قارّة، بل هي جدل مستمر، وعروسة الأفكار اليوم قد تكون أرملة الزمن القادم، وكذلك عروسة المجلات، فبات البحث المستمر في أداء المجلات العلمية مرصوداً على كاميرات ساهرة لا يكاد يغيب عنها شيء، وباتت تصدر باستمرار قوائم المجلات المرضى المرشحة للموت، وتعقبها بالطبع قوائم المجلات الراحلة، وتستقبل في الوقت نفسه قوائم المجلات الجديدة الوافدة التي نجحت في إقناع سكوباس بجديتها وحضورها.

وباتت المنصة تتعرض للمراجعة شهرياً حيث يتوفي كل شهر نحو عشر مجلات ويدخل عدد أكبر من ذلك، كما هو شأن الحياة، فمن استهتر بقيم البحث العلمي ومعاييره فإنه يحكم بنزوله إلى المجلات العابثة، وهكذا باتت الجامعات في العالم كلها تناضل من أجل البقاء على قوائم سكوباس.

بالطبع لا يمكن لتقرير كهذا أن يشرح كل المعايير التي تقيس بها سكوباس البحث العلمي، ولكنني معني هنا بالسؤال عن واقع البحث العلمي العربي، وحضور الجامعات العربية في منصة التنافس العلمي الدولي وقدرتنا كحضارة عربية وإسلامية على التأثير.

ولكن كم هو عدد المجلات العربية في سكوباس؟ وكم هو حجمنا في التأثير على السباق المعرفي في العالم؟

من المؤلم أن نقول إنها خمسة فقط توفي منها اثنتان العام الماضي، وهناك 12 مجلة أخرى في البلاد العربية تنشر بشكل ثنائي بالعربية ولغة أخرى، وهي تتوزع بين جامعات عراقية وسعودية وأردنية ومصرية وجامعة تونسية! وهي في الغالب تنشر في سياق ثنائي اللغات.

الناطقون بالعربية 445 مليون إنسان، وهو رقم يعادل تقريباً 16% من سكان الكوكب، ولكن المجلات العلمية التي تنشر بلغة العرب تعادل فقط 0.04% من المجلات العلمية التي ينشرها أبناء هذا الكوكب!!.

إنه رقم مفجع لأولئك الذين يعلمون قيمة البحث العلمي، والأشد إيلاماً ليس غياب المعرفة العلمية بل هو حضور مؤسسات التجهيل التي باتت توفر في حرم المدارس كل شيء إلا البحث العلمي، والتي تتوج بغرور نرجسي يزدري المعايير العالمية للمعرفة ويقدس الجهل الوطني!!

بالطبع الطريقة الأريح للتعامل مع هذا الانهيار العلمي هي أن نقول كالعادة: مؤامرة علينا وعلى بلادنا، والأرقام كلها زائفة، ونحن مصدر العلم والمعرفة والحضارة للعالم ولكنهم سرقوا ذلك منا!!!!...

ما زال أمامنا مشوار طويل للحاق بالقطار الحضاري الذي ينطلق بجنون من دون توقف

***

الدكتور محمد حبش: مفكر وأكاديمي سوري عضو برلماني سابق، صاحب مشروع فكري نقدي حول التسامح الإسلامي - صدر له نحو ستين كتاباً مطبوعا يكرس فيها ومن خلالها رسالته في إخاء الأديان وكرامة الانسان .

معيقات تطور الأوضاع التي نعيشها اليوم بالمغرب الأقصى لها جذور تاريخية مرتبطة بالإيديولوجية الكولونيالية العالمية. خاب أمل المرحوم جمال عبد الناصر بمصر، وتم الاعتداء على النمو الطبيعي للحركة الوطنية المغربية. وكان حدث استشهاد الزعيم المهدي بن بركة مدويا في الفضاء السياسي العالمي. إنها الاعتبارات التي جعلتني أنكب على كتابة هذا المقال محاولا العودة إلى استنتاجات الدكتور عبد الله العروي، ساعيا لفتح النقاش الوطني في شأن تحديات الحاضر ورهانات المستقبل.

الاطلاع على التجارب الشخصية لعباقرة هذا الوطن في الفكر والمعرفة والرياضة والمقاولة والإدارة والإعلام ... تمكن المتتبع من الوصول إلى قناعة مفادها أن المرور من طبقة اجتماعية إلى أخرى مرتبط بشكل وثيق بالمجهودات الفردية، أي بوقائع التاريخ الشخصي بصدفه وفرصه. أساس التغيير مرتبط بالقدر، وحصول حدث استيقاظ الضمير في فترة من فترات الحياة، والاستعداد لدخول معركة التدافع لتوسيع هامش المشاركة في قيادة التغيير والدفاع عن ترسيخ مقومات الخصوصية التاريخية للمغرب الأقصى. وبذلك، يبقى تحقيق الذات بالنسبة لغالبية المغاربة مرتبطا بالاستعداد المستمر لتحمل عناء الكد وكلله. فحتى من لم يستغل حيوية وطاقة مرحلتي الطفولة والشباب يبقى الباب مفتوحا أمامه لخلق قطيعة مع ماضيه، ومن تم استدراك الزمن الضائع في العديد من المجالات الحيوية التي لا تتطلب القوة الجسمانية. الاستماتة في الكدح وما يحققه من بروز للنخب يبقى بدوره، في حالة حاجته إلى رافعات مؤسساتية، مرهونا باستعداد الذات الفردية للتفاعل في سياق معلوم لتبادل الإشارات. أساس هذا التفاعل وانطلاقته يتجلى في مستوى قدرة الفاعل على فك الرموز المضمرة المعبر عنها في الخطابات والتوجيهات السياسية التي تروج إعلاميا، والتي تنحصر أساسا في التعبير عن التأهب للتعاون الدائم لتطوير خدمات نسق المنظومة الرسمية. الالتزام بالدفاع عن الاستمرارية والاستقرار في الحياة الاجتماعية يشكلان الشرط الأساسي في الاندماج. يمكن لهوامش حرية الفعل أن تتوسع وتضمن ديمومتها كلما تم الالتزام بمضمون التوافق الأولي والتفاوض السلمي في شأن التطورات الممكنة. الاستقواء النخبوي، وتعمد تجاوز الخطوط الحمراء، يترتب عليهما عاجلا أم آجلا تنحية بأشكال متباينة من نسق السلطة وتسلسلاته ومستوياته داخل المجتمع. ابتزاز الدولة أو معاكسة منطق ممارسة السلطة القيادية بأبعاد الحاضر والمستقبل يتحول إلى نقمة بالنسبة للمبتز مهما ما راكمه من مكتسبات مادية ومعنوية.

 في سياق هذا الموضوع، خصص عبد الله العروي كتابا كاملا "بين الفلسفة والتاريخ" لبرهنة كون مصير الذات وتاريخ وقائعها شيء واحد. التاريخانية بالنسبة له علامة على تواضع. بما أنه يوثر العمل على النظر، فإنه يعتقد أنه لن يكون بإمكانه أن يجد جوابا معقولا عن شاغل فلسفي إلا انطلاقا مما يوحي به البحث التاريخي، وفي إطاره. لقد أقنع نفسه أن التاريخانية قدر وليست اختيارا.

كيف إذن تجسد هذا المنطق زمنيا في المشهد السياسي المغربي؟

لتقديم بعض عناصر الإجابة على هذا السؤال المعقد، لم يكن أمامي سوى السفر إلى مدينة الرباط لاقتناء ثلاثة كتب أساسية لعبد الله العروي. الكتاب الأول " الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912"، والكتاب الثاني هو " خواطر الصباح" يوميات (1967-1973)، والكتاب الثالث "خواطر الصباح" يوميات (1999-2007). سأحاول من خلال الكتب الثلاث مناقشة كيف ساهم الاستعمار في إحداث انزلاقات حرمت المنظومة السياسية المغربية الطبيعية من التطور بإمكانيات الذات، وإبراز ارتباط تحولاتها وتفاعلاتها مع التطورات الإقليمية والجهوية والدولية.

الوضعية المغربية الداخلية

إن دعوة العروي إلى التركيز على عصر الأنوار لا يدخل في خانة الدعوات إلى تقليد الآخر. التطورات التي عاشتها الدول الأوربية في القرنين السابع والثامن عشر شكلت مرجعا استثنائيا في التاريخ البشري. إن الدعوة لسبر أغوار هذه المرحلة التاريخية المرجعية بالنسبة له تحمل دلالة فكرية كبرى. إنها مرحلة الانقلاب الحاسم عن الظلم والعبودية والتسلط والاستغلال. إنه إعلان رسمي للرفض القطعي لاستغلال الأقليات (الخاصة) لعموم الشعوب الغربية (العامة).

من جهة أخرى، يعتبر العروي الانزلاق الذي تعمده المستشرقون في دراساتهم لدول الجنوب عامة، ولدول المشرق وشمال إفريقيا خاصة، قد أفرغ الثورات الأوروبية من نعومتها الإنسانية والحقوقية. لقد سطعت الأنوار شمالا وتم تعمد احتكار مزاياه ليسود الظلام جنوبا. إن الدفع بفكرة ميلاد المغرب الجديد سنة 1930 من طرف سلطة الحماية لا أساس له من الصحة. لقد كان هدف المستعمر هو الدفع بعدم وجود أي روح للأمة المغربية قبل هذا التاريخ لتبرير استغلال إمكانيات ترابه تحت شعار بناء حداثته.

لقد اختار العروي الفترة الزمنية لدراسته 1830-1912 لتفنيد ادعاءات المستعمر. لقد قدم كل المبررات لتمكين القارئ من الإلمام بالأطروحة التي نسجها خبراء الحماية. ما قام به هؤلاء هو محاولة تكييف الوضع القائم بالمغرب مع ما استنتجوه من خلال دراستهم للحركات القومية في أوروبا الوسطى وفي مناطق الدانوب خلال القرن التاسع عشر. على هذا الأساس، أبدعوا مفاهيم تربط نهاية المغرب القديم بعقد الحماية، وجعلوا من سنة 1930 بداية المغرب الجديد. حاولوا طمس كون مقاومة المغاربة للخطر الأجنبي آتية من بعيد، وارتبطت بالمد الإيبيري خلال القرن الخامس عشر. لقد ركز في أطروحته على هذا العمق التاريخي الرافض لما روجت له الأبحاث الاستعمارية السالفة الذكر. لقد برهن بالوصف الدقيق منجزا عملا تطبعه الدقة العلمية والمصداقية أن المغرب كان يتوفر قبل 1830 على بنيات مكونة لكيانه ولشخصيته التاريخية، ولعب البعد الثقافي في مجمل ترابه دور المحرك الديناميكي مجسدا المرآة العاكسة لتحولاته وتطوراته. المغرب قبل 1930 لم يكن مجرد تسيب للقبائل كما ادعت سلطة الحماية. الحركة الوطنية المغربية لها تاريخ قديم. وبذلك، فوجودها ليس نتيجة لإدخال قيم الحداثة من طرف الحماية.

ترسيخا لمنطق الاستقطاب في العمل السياسي لطمس حركات المقاومة الوطنية الترابية وتطلعاتها لتحقيق التحرر والاستقلالية بسواعد بناتها وأبنائها الوطنيين الأكفاء، ربطت فرنسا ميلاد الحركة الوطنية المغربية بالفترة التي تمكنت خلالها النخبة المستقطبة، تحت تأطيرها ودعمها، من المساهمة في ارتفاع الإنتاج وزيادته، وتوسيع السوق المغربي وانفتاحه. إنها التطورات التي حصل في سياقها المغرب على استقلاله. لقد تحقق هذا الاستقلال في ظرفية متوترة شملت كل الدول العربية.

تأثر أوضاع المغرب المستقل بالتطورات العربية

منذ الصفحات الأولى من كتابه "خواطر الصباح، يوميات 1967-1973"، وقف عبد الله العروي على أهم الأحداث والمستجدات التي كانت سببا في انزلاق الحركات التحررية العربية في الخمسينات والستينات. تخلى السوفيات على العرب وامتدت تداعيات وتأثيرات محاولات مصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى المغرب الأقصى. ولأبين المنعطفات غير السليمة التي تم اتخاذها بفعل حدة الضغوطات الدولية، سأقدم فيما يلي أهم ما جاء في الصفحات الأولى من الكتاب السالف الذكر.

* السنة 1967: بعد 19 سنة قضي الأمر وضاعت فلسطين بكاملها.. مؤقتا في أحسن الاحتمالات. وطيلة هذه السنوات تعززت الصهيونية بانتظام، بقوى غير ذاتية أساءت إلى العرب وإلى تطلعاتهم. سبب النجاح واضح: نظام عبد الناصر ضعيف سياسيا. اعتمد بالأساس على مساعدة الشيوعية الروسية دون أن يدرك في الوقت الملائم أن طبيعتها قد تغيرت. لم تتخل أمريكا عن إسرائيل في حين أن روسيا تخلت عن العرب.

* الخاسر هو القومية العربية والثورة العالمية. لم يعد هناك أمل في سياسة عبد الناصر ولا في دور الاتحاد السوفياتي. الفائز بالمقابل، هو الفكر الصيني من جهة، والامبريالية الأمريكية من جهة ثانية.

* ستتكون على المدى المتوسط دوائر نفوذ في الشرق الأوسط وفي إفريقيا بإيعاز ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية. سيتحول العالم العربي من منطقة ثورية إلى ساحة لنمو استعمار جديد بقيادة دولتين: مصر وإسرائيل. وسيكون ثمن المصالحة دفن أمل اشتراكية عربية حقيقية غير بيروقراطية.. قبل عبد الناصر قرار وقف إطلاق النار لأنه فهم الوضع الجديد، بعد أن فوات الأوان.

* هدفهم القضاء على نظام سوريا وسينجحون إذا لم تتدخل روسيا في الحين وفي إسرائيل بالذات.

* سياسة عبد الناصر، في آخر تحليل، سياسة بورجوازي صغير حانق ومتحيز رغم البلاغة المصطنعة. الأقوال تعبر عن الواقع الاجتماعي دون أن تؤثر في السياسة الفعلية. أمام الهزيمة يلجأ إلى المناورة لا إلى المقاومة الثورية.. هو الرئيس قبل وبعد الخطأ والهزيمة.. يقدم نفسه على الفور، في أعقاب الهزيمة، أمام المحكمة التي تبرئ ساحته في الحين. وفي الوقت نفسه يبرئ ساحة الجيش. أوليس هذا هو لب المشكل؟ لا خوف على البيروقراطية. لن تمس مصالحها.. المسؤول الوحيد عن الهزيمة، حسب التحليل، هو تراخي السوفيات. كان الاتحاد السوفياتي يحتاج إلى هزيمة العرب حتى يصبح المتكلم باسمهم ويقدم للأمريكان ما يعوضون به تراجعهم في آسيا.. السوفيات خلقوا في الشرق وضعا يمكن الأمريكان من قبول حل في فيتنام. في هذا الإطار كان الاتحاد السوفياتي يحتاج إلى هزيمة العرب.. هذه النقطة غابت دائما عن المحللين المصريين المتحمسين لبطولات الشعب الفيتنامي.

* الجزائر: تكلم بومدين عن "تردد الأصدقاء وتفرج المتفرجين". إنجلترا خانتنا البارحة... وها روسيا تخوننا اليوم. هذا ما نردده. لا يمكن الاعتماد كليا ودائما على صديق أو حليف. حليفك هو بالضبط من يريد أن تظل في حاجة إلى مساعدته. لم يعد للعرب، بعد الهزيمة، أي مجال للاستقلال.

خاتمة: سأقف عند هذا الحد. خواطر عبد الله العروي كتبها وهو تلميذ في ثانوية مراكش سنة 1949 واستهل كتابه الأول بخواطر صيف 1967 حيث اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية. وسعيا لتجديد العزائم مغربيا لترصيص مقومات الحركة الوطنية، والاعتزاز بخصوصية المملكة المغربية، وتزويد مسار الاستمرارية بمزيد من مقومات الديمقراطية والحقوق والنماء الذاتي، أرى أنه من الواجب العودة إلى سبر أغوار كتاباته التاريخية والفلسفية من سنة 1830 إلى سنة 2007، وهي الفترة الزمنية التي اشتغل عليها مفكرنا وخصص لها الكتب المذكورة أعلاه.

حسب النظرة الصينية، أضاع عبد الناصر تحقيق وحدة العرب عن طريق الحرب الثورية (على غرار ما قام به ماوتسي تونغ).. في لحظة الحسم تنكشف ازدواجية سياسته: الوجه المصري والوجه العربي. التضحية بمصالح مصر، أو ما تبقى منها، لتحقيق الوحدة أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكيان المصري.. عروبة مصر مصلحية في الأساس، أحادية الاتجاه، كما كانت جرمانية في روسيا.

المخزن المغربي أعطى اهتماما بالغا لكل هذه التموجات الجارفة مبكرا. لقد كان تقديره صائبا لقوة اليهود العالمية وتضامن كل اليهود مع إسرائيل. السلطة بالمغرب تتبع في نفس الوقت عن كتب ما يفوح من خواطر مفكريه ومثقفيه.

مباشرة بعد الإذن غير المباشر للاتحاد السوفياتي لعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المشرق العربي مقابل التخلي عن فيتنام، شاعت خطابات جديدة امتدت في أعماق الرأي العام الشعبي العربي: " أمرنا الله بأن نتحد فتفرقنا.. أمرنا الله بأن لا نتنابز بالألقاب ففعلنا ذلك علنا.. حبانا الله بدستور فأعرضنا عنه وأبدلناه بآخر يفصل الدين عن السياسة". لقد دق ناقوس إعطاء الانطلاقة لخلق التيارات الإسلامية عربيا ومغاربيا، بحيث فتح لها المجال لتحقيق التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية. أعطيت الانطلاقة لترعرع العهد الإسلامي، وأبرمت العقود لاستغلال الخيرات المشرقية في مجال الطاقة والمواد الخام والمزروعات خصوصا.. تطورت الأحداث وبرزت قوى مناهضة الاشتراكية الموالية للاتحاد السوفياتي. شاعت الحاجة لحكم الله كتصور بديل.

الوضعية الحالية: الصين تتقدم في مسارها السياسي القومي الثابت. روسيا لا سبيل لعودتها إلى الساحة الدولية سوى اعتناق دعم إيديولوجيات الاعتزاز بمقومات الذات الثقافية في العالم بأسره، ومقاومة نظرية خلق الإنسان العالمي الليبرالي. دول العالم بأسرها اندمجت في اقتصاد السوق الكونية. تمت تنحية التيارات الإسلامية الحليفة لأمريكا في الأمس القريب. بعدما مارست الحركات الإسلامية في المشرق السلطة بشكل من الأشكال في مطلع الألفية الثالثة، انقطع الحديث اليوم عن حركة الإخوان المسلمين في مصر، وعن الحركة الإسلامية في الباكستان، وعن الوهابية في المملكة العربية السعودية، وحركة النهضة في تونس..... أما في المغرب، فقد تمعن المغاربة في تجربة العدالة والتنمية، واعتبر الأمر طبيعيا أن تطلب حركة العدل والإحسان إنشاء حزب للعمل في المشهد السياسي بشكل رسمي.

***

مهندس إحصائي اقتصادي ومهيئ معماري

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يرتبط التسامح بشكل شائع بضعف الذاكرة - لكن الأبحاث تستكشف المعنى الحقيقي للتسامح عن الأخطاء.

يواجه فيليبي دي بريجارد، الباحث والفيلسوف في مجال الذاكرة بجامعة ديوك بولاية نورث كارولينا، مشكلة مع عبارة "سامح وانسى". يعود الاقتران إلى قرون مضت. "يجب أن تتحملني." صلي الآن، انسى واغفر،" يقول الملك لير لشكسبير لكورديليا. كتب سرفانتس في دون كيشوت: "دعونا ننسى ونسامح الجراح". إن نصح شخص ما "بالتسامح والنسيان" يوحي بأن التسامح يجب أن يترافق مع النسيان، أو السماح لخطأ الماضي بالهروب من عقل المرء.

ومع ذلك، فقد نشأ دي بريجارد في كولومبيا، حيث يحتفظ هو وكثيرون غيره بذكريات من المخالفات التي يصعب نسيانها. وكانت الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية في حالة حرب لأكثر من 50 عاما، أودت بحياة ما لا يقل عن 220 ألف شخص؛ وتشير التقديرات إلى أن 80 في المائة منهم كانوا من المدنيين. كان دي بريجارد طفلاً في الثمانينيات في بوغوتا. كان أفراد عائلته وأصدقاؤه محاصرين بسبب أنشطة عصابات المخدرات والحرب بين الجيش والمتمردين والقوات شبه العسكرية. يقول: "كانت التفجيرات شائعة". "كنا جميعًا نعرف أشخاصًا قتلوا أو أصيبوا في مثل هذه الأحداث". وفي الفترة من عام 1996 إلى عام 2005، ورد أن شخصًا ما كان يُختطف كل ثماني ساعات. يتذكر دي بريجارد قائلاً: "لقد تم اختطاف آباء العديد من أصدقاء المدرسة، وبعضهم لم يعود أبدًا". "اضطرت صديقة طفولتي إلى الفرار من كولومبيا بشكل غير متوقع، حيث نجت بصعوبة من محاولة اختطاف. لم أتمكن من قول وداعًا أبدًا.

عندما تم التصديق على اتفاق السلام في عام 2016 وسألت صحيفة الغارديان الكولومبيين عن أفكارهم، ذكر العديد منهم الحاجة إلى التسامح. وقال شاب يبلغ من العمر 23 عاماً: "من خلال الإندماج والتسامح، سنصبح بلداً أفضل". يمكن أن يكون التسامح صعبًا تحت أي ظرف من الظروف، وإذا كان النسيان أمرًا أساسيًا بالنسبة له، فقد يجعل الأمر أكثر صعوبة في سياق مثل هذا.

في العام الماضي، حصل دي بريجارد على منحة لكشف العلاقة الحقيقية بين التسامح والذاكرة. عندما يسامح الناس، هل يكون ذلك بسبب تلاشي ذكرياتهم عن أخطاء الماضي؟ وهذا يعني أن الأحداث التي لم تُغتفر من المرجح أن يتم تذكرها بمزيد من الوضوح والتفصيل، في حين أن الأخطاء التي غفرها الناس يتم تذكرها بشكل أقل وضوحًا،هذا إن تم تذكرها على الإطلاق.

ويؤيد دي بريجارد تفسيرا مختلفا: وهو أن التسامح أقرب إلى إعادة التقييم العاطفي. تتضمن إعادة التقييم العاطفي إعادة صياغة معنى شيء حدث من أجل تغيير تأثيره العاطفي. في الحياة اليومية، قد يتضمن ذلك التفكير في تجربة صعبة من منظور جديد يؤدي إلى تقليل الغضب أو القلق أو الحزن. فهو يغير المشاعر التي يشعر بها الشخص تجاه حدث ما، ولكن ليس تفاصيل الحدث في ذاكرته. فهو يعتبرها بمثابة "تهدئة الذاكرة" وليس "تعديل الذاكرة". عندما تهدأ الذاكرة، يقول دي بريجارد: "ربما لا تزال تتذكر الحدث كما حدث بالفعل، ولكن عندما تفعل ذلك، فإنك لا تواجهه بشكل سلبي كما فعلت من قبل أو بنفس القدر من الحدة".

إذا كان التسامح  يشبه إعادة التقييم بهذه الطريقة، فإن النسيان ليس ضروريًا: لا يجب أن تضعف ذاكرة الحدث حتى يتمكن شخص ما من التسامح. إذا كان الأمر كذلك، فيمكننا أن نفترض أن "كل من الأشخاص الذين سامحوا والأشخاص الذين لم يغفروا يختبرون ذكرياتهم بنفس القدر من الوضوح"، كما يقول دي بريجارد.

ولاستكشاف ما إذا كان هذا صحيحًا، أجرى دي بريجارد مجموعة أولية من التجارب مع المشاركين عبر الإنترنت. طلب هو وزملاؤه من الناس أن يتذكروا حدثًا وقع خلال السنوات العشر الماضية، حيث ألحق بهم شخص آخر الأذى العاطفي أو الجسدي. وطُلب من البعض أن يفكروا في الوقت الذي يغفرون فيه لمرتكب الجريمة؛ وتذكر آخرون حدثًا لم يغفروه. بعد ذلك، ملأ المشاركون استبيانًا لتقييم مدى تذكرهم لتفاصيل الحدث، مثل الأحاسيس التي مروا بها في ذلك الوقت. لم تظهر المجموعتان – أولئك الذين سامحوا والذين لم يسامحوا – أي اختلافات في مدى تذكرهم لتفاصيل الأحداث.

ما الذي تغير: أولئك الذين قالوا إنهم غفروا لمرتكب الجريمة، صنفوا شدة مشاعرهم أقل عند تذكر الحدث وقالوا إن المخالفة لم تكن ذات أهمية لحياتهم الحالية أو أنها ليست أساسية لهويتهم.الأشخاص الذين يتذكرون شيئًا سامحوه كانت لديهم أيضًا رغبة أقل في الانتقام له وحاجة أقل لتجنب مرتكبي الجرائم. يقول دي بريجارد: "ما فعلوه هو أنهم أعادوا تقييم المكونات العاطفية لذكرياتهم". "عندما يتذكرون ذلك، فإنهم لا يزالون يتذكرون الأحداث التي حدثت"، ولكن بشكل أقل سلبية.

سيجري دي بريجارد الآن تجارب مماثلة لكولومبيا: مع أولئك الذين نجوا من العنف في مونتيس دي ماريا، في شمال البلاد، ومع الأشخاص في بوغوتا الذين لم يتأثروا بشكل مباشر ولكنهم يعرفون آخرين تأثروا، بالإضافة إلى مجموعة مقارنة في الولايات المتحدة. بعض المناطق في كولومبيا التي سيجري فيها الفريق مقابلاته تقع في أجزاء من البلاد لم يحلم أبدًا بالذهاب إليها وهو صغير. يقول دي بريغارد: "يقام المشروع في مناطق ريفية للغاية في كولومبيا والتي تأثرت بشكل خاص بالعنف". لقد عانوا من أشياء فظيعة: قتل الناس أمام أعينهم، وعمليات الاختطاف، والاختفاء. وكان لا بد من تهجيرهم جميعًا تقريبًا وترك كل شيء وراءهم.

ويعتقد أن عمل الفريق سيستمر في الكشف عن العلاقة - أو عدم وجودها - بين فقدان الذاكرة والمغفرة، وكيف أن التسامح  ينطوي على تغيير الجوانب العاطفية لتجربة الشخص. ما وجدوه يمكن أن يساعد أيضًا الأشخاص الذين يجدون صعوبة في التسامح.

يقول دي بريجارد: "هناك أشخاص يريدون أن يغفروا ويحملوا أنفسهم على القيام بذلك". "وهناك أشخاص لا يريدون أن يغفروا ولا يستطيعون إجبار أنفسهم على القيام بذلك. لا يمكنك إجبارهم على التسامح." وهناك أيضًا مجموعة ثالثة: أولئك الذين يريدون أن يغفروا ولكنهم لا يستطيعون. يقول دي بريجارد: "ما يبحث عنه الناس هو الراحة / العزاء الذي حققه الأشخاص الذين سامحوا".

إذا كان التسامح يتضمن عادة إعادة تقييم عاطفي لما حدث، فقد يكون من الممكن تحقيق نفس الراحة دون الاضطرار إلى المسامحة. وإليك كيف تفترض نظريته ذلك: حتى بدون المغفرة، قد يظل الشخص يشعر بالارتياح الذي يجلبه المغفرة إذا تم تعليمه تقنيات إعادة التقييم العاطفي للمشاعر السلبية التي تنشأ عندما يفكر في الخطأ.وقد تكون النتيجة النهائية قريبة من المغفرة. أحد الأمثلة على هذا النهج يمكن أن يكون التباعد الزمني. هذه هي استراتيجية إعادة التقييم التي تحث الناس على تخيل ما قد يشعرون به تجاه حدث ما في المستقبل (على سبيل المثال، بشكل أقل حدة)، وهو ما تشير الأبحاث إلى أنه يمكن أن يقلل من المشاعر السلبية في الوقت الحاضر.

يقول دي بريجارد: "أعتقد أن هناك جرائم لا تغتفر، وليس لدينا التزام أخلاقي بالتسامح معها". "ومع ذلك، يمكن البحث عن الآثار النفسية للتسامح." ومن خلال استراتيجيات إعادة التقييم الأخرى، لا يزال بإمكان بعض الأشخاص الذين لا يستطيعون أن ينسوا أو يغفروا ما حدث لهم أن يجدوا طريقهم إلى السلام.

***

.............................

الكاتبة: شايلا لاف/ Shayla Love  كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

الأشخاص الذين يتذكرون شيئًا سامحوه كانت لديهم أيضًا رغبة أقل في الانتقام

 

المقدمة: النسوية والذكورة تياران فكريان يتناولان العدالة الاجتماعية بين الرجل والمرأة ويهدفان إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، ومع ذلك، فإن السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات الإسلامية يختلف عن المجتمعات الأخرى، ما يجعل تحقيق المساواة بين الجنسين أمرًا صعبًا ومعقدًا.

تهدف الحركة النسوية في المجتمعات الإسلامية إلى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات، بما في ذلك الحقوق القانونية والتعليم والعمل والمشاركة السياسية، كما تهدف الحركة النسوية أيضًا إلى كسر القيود الاجتماعية والثقافية التي تحد من حرية المرأة وتمنعها من تحقيق إمكاناتها الكاملة.

ومن ناحية أخرى، تسعى الذكورة في الكثير من المجتمعات الإسلامية إلى حماية الهوية الذكورية والصور التقليدية للذكورة وتعارض التغييرات التي تهدف إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، قد يعتقد الرجال أن أي تغيير في توزيع السلطة والموارد يهدد هويتهم ويقلل من سلطتهم في المجتمع.

التحديات التي تواجه النسوية والذكورية في المجتمعات الإسلامية تواجه فكرة النسوية والذكورية في المجتمعات الإسلامية تحديات عديدة تعيق تحقيق أهدافهما، منها:

1- الموروث الثقافي والتقاليد الاجتماعية:

نشاهد في الجيل الاخير بالتحديد من نساء العراق تململ يبعث على الحيرة وانا لا اقصد التململ في حد ذاته،فهذا طبيعة تختلف من شخص الى آخر ولكن تحول غالبية المجتمع النسوي الى مجتمع بكائيات على الماضي البعيد، مع عدم وجود اسباب واقعية تستوجب ذلك، لذا وجب الوقوف عليها، والتعامل معها بحذر تام.

لو بحثت عن الاسباب سوف تلاقي حالات كثيرة جدا تستحق الوقفة، اما الاغلب تجد الاب كادح والأم كذلك، قد لا يملكون مقومات العيش الرغيد، لكنهم يدفعون ما يملكون من أجل  الركون الى موروثهم التراثي .

 انا ارى ان اهم سبب يدفع لهذا الحزن الدائم هو التشبث بالتاريخ التراثي المعمول من فقهاء القرن الثالث والرابع الهجريين، وما تلى ذلك من قرون تمتع فيها بعض فقهاء الدين من فسحة ثقافية وعلمية وديمقراطية فتحت مغاليق العقول ودفعت الى أفق أوسع جعلتهم يأخذون حريتهم في أبداء أراءهم الاجتهادية في مجتمعاتهم وتقريب السلاطين والحكام لهم .

يجب أن تعرف ان كمية المعلومات الوهمية وإظهار صورة نمطية لناس سادت ثم بادت كفيلة ان تصنع لك أفلام وهمية بعيدة كل البعد عن ارض الواقع، قد تكون اصعب مهامها هو التفاعل مع الأخرين من الذين يختلفون معك في الرأي .

 2- القبلية المقيتة:

تعتبر - القبلية المقيتة - من الظواهر الاجتماعية التي تعود جذورها إلى العصور القديمة، أذ كانت تلعب دوراً مهماً في تنظيم حياة المجتمعات القديمة، ومع تطور المجتمعات وتقدم الحضارة، بدأت القبلية تتلاشى تدريجياً، إلا أن بعض الثقافات والمجتمعات ما زالت تحتفظ بهذه الظاهرة. ا

ولقبلية تعتبر نظاماً اجتماعياً قديماً يعتمد على الانتماء العرقي والقبلي، ويميل إلى التمييز والتفرقة بين الأفراد حسب أصولهم وأنسابهم، وعادة ما تكون هذه القبائل تمتلك مفاهيم عنصرية تجعلها تعتبر نفسها أفضل من الآخرين.

تظهر القبلية المقيتة في بعض المجتمعات الحديثة بشكل ملحوظ، وتؤثر سلباً على التنمية والتقدم الاجتماعي، فإذا لم يتم التخلص من هذا النهج القديم، من الممكن أن تؤدي إلى تعزيز الانقسامات والصراعات الداخلية في المجتمع.. كما يحدث اليوم في العراق والاعتداءات المتكررة على حرمة البيوت ومؤسسات الدولة دون رادع قوي يذكر .

توجد عدة أسباب تجعل القبلية تظل موجودة في بعض المجتمعات، منها الاعتقادات الدينية والثقافية التي تربط الأفراد بموروثاتهم القديمة، بالإضافة إلى عوامل اقتصادية وسياسية قد تعمل على تعزيز هذا النظام.

تبين من خلال البحث أن القبلية المقيتة تعتبر ظاهرة تاريخية ملتصقة ببعض المجتمعات حتى اليوم، وتؤثر سلباً على التطور الاجتماعي والاقتصادي، ومن الضروري التعامل مع هذه القضية بجدية وإيجاد الحلول اللازمة للتخلص من هذا النهج الدموي ولكن بأسلوب حضاري متدرج الخطوات.

مثال واحد على السطحية الفكرية هو ان كثير من الناس يتوهم أنه يعيش في عالم وردي غير الذي تعيشه باقي الأسرة: فمسألة القبيلة وشتمها والانتقاص من هيبتها التي أقرها زعيمها الرمزي خط أحمر لا يجوز تجاوزه .

وقد تتوهم الجاهلة ان رجال قبيلتها سيدفنونها حيه اذا تكشفت وانحلت من اخلاقها وقيمها وبسبب انانيتها المخيفة وحماقتها وجهلها، وترى ان مساعدة القبيلة لوالدها او شقيقها في امور حياتيه كديون او فزعات فيه استنقاص من شأنهم وشأن قبيلتهم... بصراحةً نستأهل كـ مجتمع هذا الجحود! .

خلاصة القول: إن زمن الصحوة جعل الفتيات العراقيات أكثر ترابط واجماع في الكلمة، جعلهن يهتمن بالعلم والفلسفة والمنطق الذي نراه اليوم في تصرفاتهن، وما يقوله الرجال فيهن:

" النساء لديهم نصف عقل فقط، لذلك وجب عليك ايها الرجل ان تملأ نصفها الآخر ".

3 - نسب الطلاق:

الإحصائيات العربية تؤكد أن نسب الطلاق مرتفعة جدا بين حملة الشهادات العليا (بكالوريوس + ماجستير + دكتوراه) بينما تنخفض تلك النسبة بين حملة الشهادات الدنيا الكويت مصر الأردن رغم أن العلم السليم يجعل الحياة أفضل كما علمونا في المدارس لكن واقعنا يقول خلاف ذلك.

لأن العلم الذي تتلقاه المرأة العربية في الجامعات قد يحولها إلى نسوية مناكفة للرجل، ومن كان هذا حالها لن يستمر زواجها، لأن الزواج بهذا القالب سيكون بالنسبة لها حلبة مصارعه مع الزوج قد لا يكون فيها غال أو مغلوب، وتكون النتيجة التعادل السلبي للطرفين .

الموظفات أكثر طلاقا من العاطلات في السعودية 72 ألف مطلقة عام / 2016 كان سبب طلاقها العمل.

وهذه نتيجة حتمية " لاستقلال المرأة ماديا " فالزوجة التي لديها راتب شهري ربما لن تصبر على المسؤولية الأسرية، ولن تصبر على الزوج، وستجدها تطلب الطلاق عند أول مشكلة تحدث، لذلك أكبر مانع يمنع المرأة من الطلاق هو المال .. فإذا حصلت على راتب شهري يصبح الطلاق عندها كشربة ماء.

أيضا هناك دافع آخر وهو أن المرأة العاملة تكون قوية مؤثرة في عملها كلمتها مسموعة في العمل.. فهل تتوقع أنها ستطبخ لزوجها أو تعتني بأطفالها؟! هي أكبر من ذلك فهي طموحة تريد أن تكون ناشطة في المجتمع، وذات مسئوليات متعددة .

وقد سجّل العراق، خلال العام / 2023، قرابة 70 ألف حالة طلاق، لأسباب متعددة بينها الزواج المبكر والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها الزوجان، وفق بيانات مجلس القضاء الأعلى العراقي .

فيما سجل العراق قرابة "65802" حالة طلاق خلال 11 شهراً من العام/ 2022 وفق إحصائية خاصة .

القصد: أن الدراسة الجامعية وعمل المرأة كما هو عليه في عالمنا العربي اليوم أمسى مدمر للمجتمع وبحاجة إلى تعديل وضبط، فهذا الموضوع يحتاج إلى بحث وعناية، فهو واسع ولا يقتصر على حجاب المرأة والاختلاط بين الجنسين كما يصرح بذلك رجال الدين المتطرفين .

وربما ساهم ايضا في اختيار الزوج الصالح لها، وساهم كذلك في تصحيح قرارتها الخاطئة في مسار حياتها.. بعيداً عن مواقع التواصل الاجتماعي والمسلسلات التركية.

4- الزواج المبكر:

تعتبر مسألة الزواج من أهم القرارات التي يتخذها الإنسان في حياته، أذ يتعين عليه اختيار شريك حياة يساعده على بناء علاقة زوجية سعيدة ومستقرة، واحد من العوامل الأساسية التي يجب النظر إليها عند اتخاذ قرار الزواج هو السن المناسب للزواج.

في مجتمعات مختلفة يعتبر الزواج في سن مبكر هو الطريقة الطبيعية للبدء في الحياة الزوجية، بينما في مجتمعات أخرى يتم التأخير في الزواج لأسباب متعددة مثل الاستقرار المهني والمالي، والتعليم، والتطور النفسي.

أثارت قضية السن المناسب للزواج الكثير من التساؤلات والجدل في الآونة الأخيرة، بعض الناس يعتقدون أن الزواج في سن مبكر يؤدي إلى زيادة معدلات الطلاق، بينما يرى البعض الآخر أن تأخير الزواج يؤدي إلى انخفاض معدل الطلاق.

في دراسة نُشرَت في (مجلة التطور النفسي)، توصلت الباحثة الأمريكية (جنيفر لورانس) إلى أن السن المناسب للزواج يختلف من شخص لآخر ويعتمد على النضج النفسي والاجتماعي للفرد، وأشارت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يتزوجون في سن متأخرة عادة ما يكون لديهم استقرار مالي ومهني يساعدهم على بناء علاقة زوجية مستقرة.

وبحسب دراسة أخرى أجرتها جمعية التنمية السكانية الدولية في العام /2019، تبين أن الارتفاع في معدلات الطلاق يكون له علاقة بالزواج في سن مبكرة، خاصة عندما يكون الشخص لا يمتلك الاستقرار المالي والنضج النفسي اللازم.

إذاً، يمكن القول بأن السن المناسب للزواج هو السن الذي يكون فيه الشخص قادرًا على تحمل المسؤوليات الزوجية والعائلية، ويكون لديه الاستقرار المهني والمالي، والنضج النفسي لبناء علاقة زوجية ناجحة.

في فرنسا يتجادلون حول سن ممارسة الزنا بالتراضي وتريد الحكومة تحديده بسن 15 سنة فيعترض المدعي العام ويطالب بتحديده بسن 13 سنة.

5 - تعدد الزوجات:

من أكثر القضايا التي استُغِلَّت من قبل علمانيين استغلالاً بشعاً في مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئيَّة للطَعن في الشريعة الإسلاميَّة واتِّهامها بظلم المرأة، والانحياز الكامل للرَّجل – هي (قضيَّة تعدُّد الزوجات).

والذي يتابع ويرصد مستوى الهجوم على الشريعة في قضية تعدد الزوجات يظن أن الرّجل المسلم لا همَّ له في الحياة إلاَّ أن يجمع بين أربع زوجات، ويستمتع بهنَّ، وكأنَّ تعدُّد الزوجات هو ذروة سنام الإسلام، وأنَّ الرَّجل إن لم يُطَبِّقه قد انتقص من إيمانه ودينه بقدر تقصيره في تعدُّد الزوجات.

في الدول الغربية القانون لا يسمح بتعدد الزوجات و لكنه يسمح بعدد لا نهائي من العشيقات، ويسمع بجنس التراضي، و في بعض الدول يكون ممارسة الجنس بالتراضي وبعمر 13 سنه من حق الفتاه تمارس الجنس مع من تشاء.

في الولايات المتحدة الامريكية و كندا و البرازيل و الفلبين و الخ (طائفتي المورمون و الأميش) المسيحيتين تُمارس التعدد اللانهائي بالزوجات، بل يستطيع الرجل الزواج من أختين و قد عرضت احدى القنوات التلفزيونية الأمريكية لقاءات كثيرة معهم .

و أظهرت احدهم متزوج من 6 نساء كلهن شقيقات ! وفي إسرائيل نساء الحريديم يرتدون نقاب لا يستطيع أحد في السخرية منهم .

 6- إنجاب الاطفال:

 في الوقت الذي تُمارس فيه حكومات العالم الثالث الضغوطات على إنجاب الاطفال تقوم كل البلاد الغربية بحملات واسعه في جميع وسائل الاعلام، بل حتى في محطات المترو لإقناع الناس بالإنجاب.

 و كل الدول الغربية تمنح اموالا طائله للتشجيع على الإنجاب، بل ان بلدان مثل المانيا و الدول الإسكندنافية، تشجع على الهجرة وتعتبر الإنجاب اكبر مشروع ناجح و لا داعي للعمل أساسا، و في كندا الحكومة ملزمه بالإنفاق بلا حدود لمعالجه من يعانون من مشاكل طبيه في الإنجاب مهما كانت التكاليف.

وكل عام، يهاجر العديد من الأشخاص إلى كندا، وفي الواقع، وفقًا للتعداد السكاني لعام /2021، يبلغ نسبة الأشخاص الذين يهاجرون إلى كندا 23 بالمائة من السكان، وتشير التوقعات الديموغرافية حتى عام / 2041 إلى أن حوالي 50 بالمائة من السكان الكنديين سيكونون إما مهاجرين أو أبناء مهاجرين.

لا يوجد في العلم ولا الواقع شيء اسمه سن محددة للنضج... النضج حالة عقلية تصنعها التمارين و تجارب الحياة، واي انسان طبيعي تضطره الظروف إلى تحمل المسؤولية .. تتطور لديه قدرات النضج مثل تمارين الذكاء و تمارين العضلات .. تجارب الحياة و تحمل المسؤولية هي التمارين التي تصنع النضج.

وهذا الكلام لا يعني زوجوا أولادكم وبناتكم في الابتدائية ولكنه ردا على من يتهم الإسلام بقتل طفولة الفتيات بالزواج المبكر، بل علميا وطبيا الزواج المبكر أكثر صحة لكلٍ من الأم والجنين!.

أكثر من 200 ألف طفل تزوجوا في أمريكا خلال آخر 15 سنة بمعدل 13 ألف طفل يتزوجون سنويا، هذا مقال صحيفة الأندبندنت البريطانية الشهيرة، مع ملاحظة أن فيه فتيات في أمريكا يتزوجن وعمرهن 10 سنوات أو أقل.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

.......................

المصادر

- كتاب/ دراسة في المشاكل الأخلاقية والنفسية/ يحيى الموسوي اللاّري، تعريب محمد هادي اليوسفي/ الناشر مركز نشر الثقافة الإسلامية في العالم- قم/ ط 8، 2011.

- مجلة الدليل/ الرؤية الكونية بين العلم والدين/ سيد روح الله الموسوي/ مجلة فصلية محكمة تصدر عن مؤسسة الدليل التابعة للعتبة الحسينية المقدسة/ العدد الخامس عشر، السنة الرابعة، 2022.

- موقع السومرية/ بالأرقام: السومرية تنفرد بكشف إحصائيات حالات الطلاق في العراق خلال عام 2023/ 3 كانون الثاني، 2024.

https://www.alsumaria.tv/news/localnews.

- مركز باحثات/ ملخص كتاب: مفهوم النسوية .. دراسة نقدية في ضوء الأسلام / الباحثة: أمل بنت ناصر الخريف / 7 مايو 2023.

https://bahethat.com/knowledge.

قوله تعالى: "وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ التوبة".. الآية (74).

قارئي الكريم، هل الجحود حالة انسانية عامة ام ان هناك شعوب اكثر لؤما وجحودا؟؟

الكرم مناقض للجحود كصفة بشرية لان الجحود فيه نوع من البخل وعدم رد الجميل. ان خير جليس ما يجمعنا نحن البشر هو " الكتاب". نعم الكتاب مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية ومن طبيعة هذا الكتاب بخاصيته الحاتمية تيمنا بكنية كريم العرب حاتم الطائي متوفر في متناول الجميع. خاصة اذا كانوا (هؤلاء) من ابناء بلد الرافدين اللذين اشتهروا بقراءتهم امهات الكتب التي كانت تطبع في مطابع بيروت والكثير من الادب العالمي الذي قام الأدباء أللبنانين بترجمتها ناهيك عن كتب الادباء المصرين وطبعا كتب التراث والكتب الدينية لا ريب ان وجود شارع وسوق خاص لاقتناء الكتب في وسط العاصمة بغداد وتقام فيها النشاطات الثقافية تعتبرفخرا للعراقيين. هذا الشارع المسمى ب المتنبي تيمنا باسم الشاعر ابو الطيب المتنبي فصيح قوم العرب.

كنا نقرأ الكتاب ونعطيه لصديق وهو بدوره يعطيه لاخر وربما يختفي الكتاب من كثرة التداول او تراه يرقد في احدى الرفوف اذا تم مصادرته من قبل رجال الامن الجهلة. اتذكر ان والدتي رحمها الله قد اشعلت تنور الخبز حيث جمعت بعض من تلك الكتب الممنوعة لحرقها قبل ان يصادرها المخبرون وما اكثرهم في الدكتاتوريات اينما حكموا. هذه الصفة الحاتمية للكتاب والمعرفة قلما نجدها في "الأشياء" العينية وحتى في طبيعة وسلوك البشر. الأشياء تهدى ولكن العلم تهب مجانا لطالبه ودون اي مقابل وحتى شكر. فكم منا لم يقرء كتابا وقدمه مجانا لأصدقائه وربما قام بسرد محتواها او نصحهم بقرأته.

 لكن ربما وراء الهدية مقاصد اخرى والله اعلم ما في النفوس. ونحن نجوب شوارع مدن اوربا وخاصة في فترات الانتخابات البرلمانية نجد اكشاك (مكان يجلس فيه العروس والعروسة) لكننا هنا نعني دكاكين خشبية على الاكثر وصغيرة، لتلك الاحزاب يقدمون القهوة والعصائر ويوزعون الشكرات) الملبس (والمنشورات على المارة من الناخبين كدعاية انتخابية ولجلب الاصوات لحزبهم واقناع الناخب وتعريفه على البرنامج الانتخابي ووعود لحزبهم. الهدف من ذلك بسيط كي يتحول الناس الى مطلوبين (مديونين) ويحاولون اداء و رد تلك الخدمة واعادتها لاحقا على شكل اعطاء صوتهم و انتخاب ذلك الحزب. ومهما كانت تلك الهدية بسيطة الا انها تولد حالة نفسية عند البشر لاعادة الخدمة باحسن منها (رد الجميل) بعد ان يبدا في نفسهم عملية نمو شعورا بانهم كانهم اخذوا دينا (الشعور بالذنب) بدون مقابل فيردونها على صاحبه اجلا ام عاجلا. طبعا هذا جزء من الدعاية الانتخابية وهي نفسها التي تستخدمها الشركات المنتجة للمواد الغذائية والاستهلاكية حين يقدمون مجانا بضاعتهم للمستهلكين كنموذج. وبدا استخدام نفس الاسلوب في عراق ما بعد ٢٠٠٣ من قبل السياسيين وما المضايف و (الهريسة و الدليمية) ايام العاشوراه والاعياد الا احدى تلك الظواهر. وهي رغم عدم وجود قيمة مادية كبيرة في الخدمة المقدمة الا انها تؤثر بايجاب على راي الناخب. اما اذا كانت الهدية غالية ومبلغا كبيرا انذاك تسمى (رشوة) وهي دليل فساد وهذا ليس مبحثنا اليوم. المهم في الموضوع، قارئي الكريم هو الشعور الذي يولده تلك العملية في السلوك البشري دون وعي اي في الوعي الباطني وما يسمى الشعور بالذنب لاعادة الدين ورد الجميل.

الجدير بالذكر ان (الصورة اعلاه) لتوم وجيري مخالفة للواقع الذي رئيناه في الصر اع بين توم و جيري منذ ان قام جوزيف باربيرا برسم وابتكار شخصيتي الرسوم المتحركة الشهيرتين القط توم والفار جيري ومع العبقري المنتج ويليام هانا الذي كان شريكا له. بدأ الرجلان تعاونهما في عام 1937 مع شركة ميترو غولدوين ماير الشهيرة للانتاح السينمائي.

 لا يزال هذان العدوان والصديقان النقيضان معا لم يتمكنا من الجلوس حول طاولة و الحوار الهادئ والعيش المشترك والاستثناء الوحيد كما على ما يبدو هو هذه الصورة حين نراهما وهما يقرءان معا لكتاب. هذا الصراع الذي دام قرابة القرن من الزمان بين القط توم والفأر جيري، في محاولة القط بالإمساك بالفار وطبعا من اجل التهامه كوليمة غذاء او عشاء شهية وليأكله وبذلك ينهي وجوده المادي لكن جيري (الشيطان) يهرب دائماً ويراوغه ويقوم باستفزازه بحركات نسميها نحن البشر بالشيطانية ويقع توم دائماً في مآزق بعد اخر ليربح الفار جيري في نهاية المطاف و دوما ويحافظ على حياته. الجميل سوف لا يموت اي واحد منهم حتى بعد الف عام وعام اي هما خالدين ابد الدهر ويستمرون في شقاوتهم. ولم نرى الدماء تسيل من جيري ابدا فهما في النهاية اصدقاء لا يفترقان. في وسعنا الادعاء بان احد الطرفين هو يمثل السلوك الشرير والاخر هو الطيب رغم المراوغة.

 لكن جميع مغامراتهم المشتركة تبين شقاوة جيري وعنف توم الغاضب طبعا وهكذا هي في عالم السياسة من تناقضات قد تصل الى درجة تعاون العدوين التقليدين حين تلتقي مصالحهما المشتركة جريا على هدي المقولة) عدو عدوي، صديقي (والتي تطبق دوما في الأعراف الدبلوماسية اي سياسة الكيل بمكيالين. طبعا، كما بينت سابقا ان الفائدة من التعاون المشترك تقع في النهاية على الطرفين. اما الكتاب المشترك بينهم فهو المعرفة المجانية وقد يسدون النصيحة للاخرين بقراءة ذلك الكتاب وتلك نصيحة مجانية نستخدمها دوما ونابعة من خاصية المجانية للمعرفة. كم منا لم يقرء كتابا جيدا وأسدى نصيحة مجانية لصديقه ومعارفة لقراءة ذلك الكتاب.

الوفاء ليس من طباع جميع البشر ومن احسنت اليهم ربما ستراهم يوما اعدائك والحكايات كثيرة حول جحود البشر. وانكار الجميل. العراقيين كغيرهم من الشعوب قد ابتلوا بهذه الظاهرة ومن العجب ان تلتقي في دول المنافي العديد من الروايات التي لا يقبلها العقل السوي من جحود الاقرباء قبل الاصدقاء. لقد مر على العراق ضروف صعبة ابان ايام الحصار الذي دام ١٣ عاما تحمل فيه الشعب العراقي الظيم وراء مغامرات حاكم متهور غير مسؤول مصاب بجنون العظمة وبعث امبراطورية الاجداد برسالة خالدة . الذي حصل ان العديد من للعراقيين من هم في المنافي والمهجرين وخاصة في الغرب ساعدوا من ابتلوا في داخل الوطن ماديا ومعنويا جراء التزام اخلاقي ومساعدة الضعيف والمحتاج لكن وما عاد الامن والامان وتخلص الناس من الضيم وقصر اليد والحاجة بعد احتلال العراق وزوال الدكتاتورية، الا وتراهم جاحدون على من ساعدهم مما دعى الناس يقولون:  حسبي الله ونعم الوكيل.

طبعا التعميم خطا فادح ولا يشمل هذا التوجه الجميع. لا بد انه هناك سبب نفسي عند الضعيف في كراهيته لليد التي مد اليه في وقت الضيق. المهم الرابط الوحيد بين ما يفعله توم بجيري هو السلوك العدائي الذي لا ريب له عند البشر تفسير له وربما عند الحيوان يدخل ضمن الغرائز والله اعلم او الحاجة الى الاكل حين يجوع الحيوان فيلتهم من حوله ونادرا ما تكون الفريسة من بني جلدته. العديدين ممن يفترشون اليوم ارضا غير ارض وطنهم من المنفيين واللاجئين يعانون من تلك السلوكيات من قبل من ساعدوهم في وقت الضيق وهي اي سلوك انكار النعمة جحود حقيقي و بشع مرتبط بحالة اللؤم دون الكرم. قائلين مرددين:

" اتقي شر من أحسنت اليهم " لكننا دوما حين نطالب برد حقوقنا العادلة نلتقي الرفض والجحود بحقنا.

ليس فقط ها هنا الحقوق المادية اي قرض المال وحتى الحقوق الطبيعية الاخرى كما في الوفاء للعهد ورد الامانة والقول الطيب وعدم الإهمال وامور اخرى كثيرة ولصدق القائل "اتقي شر من أحسنت إليهم". الجاحد بالمعروف ها هنا يزعل كي يشعرك بالذنب اي انت هو المذنب لانك طلبت حق وخاصة اذا كان دينا ماديا اي اعادة القرض.

الزعل اداة استخدمه الجميع وبمهارة لانه وببساطة زعلان) الافندي (ولا يتحدث معك ولا يرد على رسائلك ومهاتفتك وبذلك يتهرب من دفع المال الذي قرضه وربما يقول في قريرته بانه سياتي عليه الزمن وينسى الدائن دينه او يرحل الى دار الحق وينتهي المطالبة وينطفئ الدين ويؤجل الى يوم الدين.

 و"حسبي الله ونعم الوكيل".

***

د. توفيق رفيق التونچي - الاندلس

٢٠٢٤

 

يعتقد الكثير بأن العلاقات المدرسية بين التلاميذ أمر بسيط وغير مهم أو هو مجرد حياة بسيطة بين الأطفال، لكن في الحقيقة هي غير ذلك تماما! فالطفل في هذه الفترة يحتاج إلى دعم كبير من كل الأطراف التي حوله بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المدرسة، تؤثر العلاقات بين التلاميذ على بناء شخصياتهم وكذلك تؤثر تأثيراً مباشراً على مستواهم الدراسي، فمن الطبيعي أن تكون هناك علاقة بين مستوى التلميذ الدراسي وعلاقته بالمدرسة!، وأُجريت الكثير من الدراسات حول هذا الموضوع فلو افترضنا أن تم وضع تلميذ مستواه العلمي متدنٍ مع مجموعة تلاميذ بمستوٍ علمي جيد سنجد بمرور الزمن أن التلميذ قد تحسن مستواه الدراسي نحو الأحسن . وهذا الأمر معروف في الأوساط المدرسية. لكن سنأخذ الموضوع اليوم من منظور آخر وهو التأثير النفسي للتلميذ الذي يعيش وسط مجموعة من التلاميذ المحبين له أو الذين ينظرون له بتدني ومدى تأثير ذلك عليه من ناحية تكوين الشخصية والمستوى الدراسي،  ولكادر المدرسة دوراً كبيراً وفاعلاً في هذا الخصوص من خلال تذليل الصعاب في علاقات التلاميذ بعضهم مع بعض فالكل مشمول من مدير المدرسة والمعلمين والموظفين إلى حارس المدرسة لأن ذلك يؤثر على التكوين الاجتماعي للتلاميذ بشكل عام . فالتلميذ يكتسب من زميله الكثير من القيم والتعابير والأفكار ربما أكثر من كسبها من معلميه، فوجب الاهتمام بهذا النوع من العلاقات ربما ليست فقط زملاء المدرسة وإنما زملاء الأماكن العامة والجيران وغيرها وكلما حاول الأهل جعل أبناءهم يتواصلون مع زملاء جيدين كلما كانت النتائج أفضل . وبعد أن تحدثنا عن علاقة الزملاء مع بعضهم البعض الآن لابد من الإشارة إلى علاقة التلاميذ مع معلميهم وهل لها دور في تنشئة التلميذ وتحسين مستواه الدراسي ؟ يقضي التلميذ أكثر من ست ساعات في المدرسة وحتى عند العودة إلى البيت فيبقى ذهنه متعلقاً في الأحداث التي حصلت معه في المدرسة وكذلك اهتمامه بالواجبات المدرسية أي أن الصلة بين الطرفين وثيقة جداً لذلك فالمدرسة لها  التأثير الأكبر في تنشئة الشخصية لدى التلاميذ وكلما كانت العلاقة مبينة على الاحترام والإخلاص والمودة كلما أحب التلميذ المدرسة والدراسة وبنيت شخصيته بشكل جيد بعيدة عن العقد النفسية التي تؤثر عليه ويصبح شخصا غير ناجح اجتماعياً،، ربما لعلاقة المعلم بالتلميذ أثر في نجاحه ووصلوه إلى مراتب عليا في العلم وربما يحدث العكس عندما يكون المعلم غير واعٍ لتصرفاته فيؤثر ذلك على مستواه الدراسي نحو الأسوأ أو حتى تسربه من المدرسة من الأساس .لذلك من الضروري الاهتمام باختيار المعلمين الجيدين الذين يتعاملون مع التلاميذ على أسس أخلاقية وعلمية وثقافية وكذلك من المهم أن يكون المعلم رحيماً وعادلاً ومحباً للخير ومتمكناً في إيصال المعلومات للتلاميذ . وكل ذلك يساهم في تكوين جيلٍ واعٍ ومحب للعلم والمعلم ذو شخصية فذة يساهم في بناء الوطن والمجتمع بأحسن صورة .

***

سراب سعدي

 

يعد الطلاق في العصر الرقمي موضوعا حظي باهتمام كبير في السنوات الأخيرة. مع ظهور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت حياتنا متشابكة بشكل متزايد مع العالم الرقمي. ومع ذلك، فإن تأثير هذه التطورات التكنولوجية على الطلاق واستقرار العلاقات لا يزال موضع نقاش. سوف يستكشف هذا المقال كيف يوفر العصر الرقمي الاستقرار ويزيد من عدم الاستقرار في حالات الطلاق.

إن إحدى الطرق التي يوفر بها العصر الرقمي الاستقرار في حالات الطلاق هي سهولة الاتصال. في الماضي، كان لدى الأزواج الذين يمرون بحالة طلاق خيارات محدودة للتواصل، وغالبا ما كانوا يعتمدون على الاجتماعات وجها لوجه أو المكالمات الهاتفية. ومع ذلك، مع ظهور البريد الإلكتروني والرسائل النصية ومكالمات الفيديو، أصبح التواصل بين الأطراف المطلقة أكثر كفاءة ويمكن الوصول إليه. وهذا يسمح بتواصل أكثر وضوحا وأسرع، مما يمكن أن يساهم في عملية طلاق أكثر استقرارا وودية.

هناك جانب آخر من الاستقرار في الطلاق الناجم عن العصر الرقمي هو القدرة على جمع الأدلة. في بعض الحالات، قد يشعر أحد الطرفين أو كليهما بالحاجة إلى جمع الأدلة لدعم قضيته. في الماضي، كانت هذه العملية أكثر صعوبة وتعتمد بشكل كبير على شهادات الشهود. في الوقت الحاضر، مع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح جمع الأدلة الرقمية أسهل. وهذا يمكن أن يوفر الاستقرار لإجراءات الطلاق من خلال تقديم دليل ملموس لدعم المطالبات أو الادعاءات.

ومن ناحية أخرى، أدى العصر الرقمي أيضا إلى تضخيم عدم الاستقرار في حالات الطلاق. أحد الأمثلة على ذلك هو ظهور منصات المواعدة عبر الإنترنت. عند الطلاق، قد يلجأ الأفراد إلى المواعدة عبر الإنترنت كوسيلة للتعامل مع الاضطراب العاطفي. ومع ذلك، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، لأنه قد يعقد عملية الطلاق ويحتمل أن يخلق المزيد من الصراع بين الأطراف المعنية.

بالإضافة إلى ذلك، أتاح العصر الرقمي وصولا غير مسبوق إلى المعلومات والأخبار المتعلقة بالزوج السابق. وتعتبر منصات التواصل الاجتماعي سلاحا ذا حدين في هذا الصدد. في حين أنها يمكن أن تكون وسيلة للبقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة، إلا أنها توفر أيضا تذكيرا دائما بالعلاقة السابقة. وهذا يمكن أن يعيق عملية الشفاء من العلاقة ويجعل من الصعب المضي قدما، وبالتالي إطالة أمد عدم الاستقرار الذي تعاني منه بعد الطلاق.

هناك عامل آخر يساهم في عدم استقرار حالات الطلاق في العصر الرقمي وهو انتشار التنمر عبر الإنترنت والتحرش عبر الإنترنت. في بعض الحالات، يمكن أن يصبح الطلاق قاسيا، وقد يلجأ أحد الطرفين إلى استخدام التكنولوجيا كأداة للمضايقة والترهيب. يمكن أن تسمح منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات المجهولة عبر الإنترنت بنشر معلومات كاذبة وإساءة الاستخدام والتهديدات. وهذا يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تحدث أثناء الطلاق، مما يجعل من الصعب على الأفراد العثور على السلام والانعتاق من قيود علاقة ما.

يقدم العصر الرقمي أيضا تحديات جديدة فيما يتعلق بحضانة الأطفال وحقوق الزيارة. مع ظهور التكنولوجيا، أصبحت الزيارة الافتراضية ممكنة. وفي حين أن هذا يمكن أن يوفر للآباء الفرصة للحفاظ على الاتصال مع أطفالهم، إلا أنه يمكن أن يؤدي أيضا إلى خلق حالة من عدم الاستقرار. يمكن للزيارة الافتراضية أن تطمس حدود الوجود الجسدي والافتراضي، مما يجعل من الصعب على الأطفال التكيف مع التغييرات الناجمة عن الطلاق وإدخال شركاء جدد.

علاوة على ذلك، شهد العصر الرقمي زيادة في الآثار المالية أثناء حالات الطلاق. لقد سهلت الخدمات المصرفية عبر الإنترنت وأنظمة الدفع على الأفراد إخفاء الأصول أو الانخراط في الخداع المالي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار وعدم العدالة في عملية الطلاق، حيث قد يكتسب أحد الطرفين ميزة على الآخر من خلال هذه الوسائل.

كما أدى العصر الرقمي إلى ظهور ظاهرة "المطاردة الافتراضية". مع زيادة الوصول إلى المعلومات الشخصية والأنشطة عبر الإنترنت، قد يلجأ بعض الأفراد المطلقين إلى مراقبة تواجد شركائهم السابقين عبر الإنترنت. هذا التطفل على الخصوصية يمكن أن يساهم بشكل أكبر في عدم الاستقرار الذي يحدث أثناء الطلاق وبعده، لأنه يمنع الأفراد من المضي قدما أو إيجاد حل.

وأخيرا، يمكن أن يوفر انتشار مجتمعات الدعم عبر الإنترنت ومنصات العلاج الاستقرار وعدم الاستقرار أثناء الطلاق. من ناحية، يمكن لهذه الموارد عبر الإنترنت أن توفر مجتمعا داعما وإرشادات للأفراد الذين يمرون بمرحلة الطلاق. يمكنهم توفير شعور بالاستقرار من خلال ربط الأشخاص الذين لديهم تجارب مماثلة وتقديم منصة للدعم العاطفي. ومع ذلك، من ناحية أخرى، يمكنها أيضا تضخيم عدم الاستقرار من خلال تعزيز المواقف السلبية أو المتحيزة تجاه العلاقات، مما قد يعيق عملية الشفاء.

في الختام، يعد الطلاق في العصر الرقمي ظاهرة معقدة تظهر الاستقرار وعدم الاستقرار. في حين أن التقدم التكنولوجي قد أحدث تغييرات إيجابية، مثل سهولة الاتصال والوصول إلى المعلومات، إلا أنه أدى أيضا إلى تضخيم عدم الاستقرار من خلال عوامل مثل التحرش عبر الإنترنت والتمويل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في عام 1980 صدر كتاب للدكتور حسن حنفي "التراث والتجديد"، وكان هذا الكتاب بمثابة مقدمة لمشروعه النظري الفكري، وفي هذا يعلن حسن حنفي إلى أنه مشغول بالتراث الإسلامي  السني ويدعو إلى تجديده وذلك من خلال أحداث ثورة في فهمنا للتراث، والغاية عند حسن حنفي ليست التراث نفسه، بل الواقع الذي نعيشه نحن وتثويره، والطريق إلى تثوير الواقع هو تثوير التراث  من خلال إحداث نوع في فهمنا للتراث لأنه التراث ليس مجرد أفكار منفصلة عن حياتنا، وإنما التراث يعيش معنا، ونعيش به، ونحن نفكر بالطريقة التي يمليها علينا التراث، ونختار وفقًا لشروط التفضيل التي يمليها علينا التراث، ونتصور العالم كما رسمها لنا التراث، ومن ثم إذا أردنا تغيير واقعنا ينبغي قبل ذلك أن نغير تصوراتنا.

فالثورة الصناعية في البلاد النامية لم تحدث إلا بعد أن قامت ثورة ثانية، وهي الثورة المعرفية، ولذلك النهضة عند حسن حنفي تسبق التنمية، وأما التجديد لديه فيعني إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، وذلك لأنه إذا كان التراث يشكل واقعنا، فينبغي إذن أن نشكل التراث وفقًا لحاجتنا حتى لا يشكل واقعنا وفق احتياجات عصر آخر ولد فيه.

وهنا لا يقصد حسن حنفي أن التراث بكامله متهم، فهو يعتقد أن التراث في كل أمة هو مصدر من مصادر قوتها، والتراث العربي في يوم ما كان مصدر من مصادر قوة المسلمين، ولكن ما يصلح للأجداد قد لا يصلح للأحفاد .

وهنا نجد أن حسن حنفي يقدم نفسه كمفكر إسلامي، لا كمفكر عروبي، ويقول عن نفسه بأنه فقيه يريد أن يجدد للمسلمين دينهم، وهو يعترف بذلك في مقدمة كتابه " من العقيدة إلى الثورة،بالمجلد الأول ؛ ولا أنسى ما قاله لجورج طرابيشي عقب ندوة " العقلانية والعقلانية العربية " التي انعقدت في تونس في 1986: أيها الأخ جورج، أترى هذا الذي يكلمك ؟ إنه ليس حسن، بل حسنان . فهناك حسن حنفي الفيلسوف، وهناك حسن حنفي النبي . وما دمت قد عقدت العزم على الكتابة عن حسن حنفي، فرجائي عندك أن تدع حسن حنفي النبي جانبًا، وأن تكتب فقط عن حسن حنفي الفيلسوف .

في موقفه من التراث، كان حسن حنفي يعتقد أنه قد احتار موقفًا وسطًا بين موقفين متطرفين: الموقف الأول، وهو يرى أن التراث مكتف بذاته، وليس في الإمكان أحسن مما كان، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو موقف جمهرة الإسلاميين، وإن جزء منهم يرون أن التراث ليس خال تمامًا من العيوب، ولكن يعتقدون أن إصلاحه ممكن، والبناء عليه واجب .

ويعتبر حسن حنفي أن دعاة هذا الموقف متطرفون. والموقف الثاني: فهو يرى أن التراث لا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، بل إنه جزء من تاريخ التخلف، والارتباط به سبب من الاغتراب عن الواقع، ومن ثم نجد دعاة هذا الموقف يختارون الفكر الجديد القادم من أوروبا، وهو الفكر الأوروبي الغربي الحديث والذي يعتقد أنه مكتف بذاته أيضًا، وأصحاب هذا الموقف هم العلمانيون الواقعون خارج الدائرة الإسلامية .

ويعتقد حسن حنفي أن الموقف كلاهما على خطأ، فأصحاب الموقف الأول يتهمهم بالنفاق والعجز والنرجسية، بينما يصف أصحاب الموقف الثاني بقصور النظرة العلمية وتقليد الغرب، وبالازدواجية، ويرى حسن حنفي أن الصوب هو التوفيق بين التراث والتجديد والأخذ من القديم بما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمفاهيم القديم، وهو موقف كما قال " يستوعب مزايا الموقفين السابقين، وأن يتخلى عن عيوبهما".

ثم يتحدث حسن حنفي عن عيوب المحاولات السابقة التي حاولت تجديد التراث، سواء من داخله، أو من خارجه، والتجديد من خارج التراث هو تأتي بمنهج أوروبي حديث، وتقيس التراث عليه كما فعل " عبد الله العروي " مثلا .

والتجديد من داخل التراث يتم عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في التراث وقدرتها على تلبية حاجات العصر مثل إبراز فكرة الاتجاهات العقلانية عند العرب؛ وبالأخص المعتزلة، أو نظريات الإسلام في الشورى مثلًا، وكل هذه المحاولات عند حسن حنفي تتسم بالنظرة الجزئية، والمطلوب في نظره النظرة الكلية الشاملة كما فعل هو أو كما يظن أنه فعل. وما دام أن العلة في التراث هو جزء من تكويننا الذهني والنفسي، فينغي الذهاب كما يقول حسن حنفي إلى مركز هذا التراث لكي يبدأ التجديد من هناك، هنا نتساءل ما مركز هذا التراث ؟

ويجيبنا حسن حنفي فيقول: مركز التراث يتمثل في علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وأصول الدين يناقش مركز العقيدة، متمثلًا في الغيب وعلاقة الإنسان فيما وراء هذا الغيب من خلال معرفة الإيمان، والملائكة، والقضاء والقدر،...إلخ. أما أصول الفقه فيتعلق بمعرفة الأحكام من خلال الأدلة التفصيلية، أصول الفقه في نظر حسن حنفي نعبر عنه بالفقه الإسلامي، في حين أصول الدين نعبر عنه بالفكر الإسلامي.

وأصول الدين وأصول الفقه يمثلان فقط مجرد محور واحد من محاور مشروع حسن حنفي الفكري، حيث أن مشروع حسن حنفي يعمل على ثلاث محاور: التراث والتجديد، ونقد الحضارة الغربية الحديثة ويجسده كتابه في "مقدمة في علم الاستغراب"، وإعادة تفسير الواقع.

وفيما يخص المحور الأول من مشروع مقدمة في الاستغراب وهو التراث والتجديد قال " حسن حنفي" أن أصول الدين هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوراته عن العالم، وكذلك يمدهم ببوائق السلوك، وهو مثله كمثل الايديولوجيا السياسية، حيث يتصور " حسن حنفي"  أن المسلم يرى العالم والتاريخ والمستقبل بطريقة مغايرة عن غيره، وهي طبيعة الايديولوجيا، والعقيدة في امكانها أن تصنع ذلك، فمثلًا الماركسية تمثل أيديولوجيا من خلال النظر إليها على أنها نظرية في تفسير العالم، بحيث تدفع معتنقها لاتخاذ سلوك معين في الحياة ومن ثم فأصول الدين هو بمثابة أيديولوجيا سياسية للجمهور أو الشعوب، خاصة بعد أن فشلت الأيديولوجيا الألمانية عن تحقيق أهداف الجماهير .

والسؤال الآن: ما المطلوب من أصول الدين ليصبح أيديولوجيا ؟

ويجيبنا " حسن حنفي"  فيقول: أن أصول الدين عامل ثورة وتحرير للإنسان، وأصول الدين الآن نراه لا يخدم الإنسان المسلم لكونه مشغول بعالم الغيب، وكان من المفترض أن يركز على الواقع الذي يعيشه المسلم، ولذلك كان ينبغي على أصول الدين أن يتحول من كونه علم يبحث في الغبيات وأمور العقيدة إلى علم للصراع الاجتماعي، وكذلك كان ينبغي أن يكون من مهام أصول الفقه تشكيل جبهة إسلامية واحدة من دول أسي وأفريقيا ضد المخاطر الإسلامية التي تواجهه المسلمين، وأصول الدين لا يقل شأنا عن الماركسية التي استطاعت مع دول أوربية كثيرة في مظلة واحدة متمثلة في الاتحاد السوفيتي السابق وجزء كبير من دول أوروبا الشرقية في القرن المنصرم، فلماذا لا يقوم أصول الدين بنفس الدور ويجمع المسلمين تحت مظلة واحدة، وذلك من خلال اتحاد إسلامي أيا كان فيدراليا، أو كونفدرالي أو أي شكل من أشكال الخلافة الإسلامية.

بيد أن هذا في نظر " حسن حنفي"  لم يحدث، وذلك لكون أصول الدين قد شغلنا بأمور قضوية أخرى عن الواقع، ولهذا انتقد " حسن حنفي"  أصول الدين بضراوة باستثناء المعتزلة الذين طرحوا فكرة العدل في مقابل فكرة التوحيد عند الأشاعرة، و"حسن حنفي"  يؤثر فكرة العدل في مشروعه على فكرة التوحيد، ولهذا انتقد " حسن حنفي"  الأشاعرة لكونهم غلبوا التوحيد على العدل، مع أن العكس صحيح في نظره، لأن العدل هو القضية اللصيقة بالواقع، بينما التوحيد مفارق للواقع، بينما مهمة أصول الدين هو تغيير الواقع .

أما أصول الفقه فيحتل مرحلة ثانية بعد أصول الدين في مشروع " حسن حنفي" الفكري، وذلك لكونه قدم النقل على العقل، وخاصة مع الإمام الشافعي في مشروعة الأصولي القائم على أدلة أربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، القياس، وهي كلها نقلية وليست عقلية .

وهنا نجد " حسن حنفي" لا يقبل أي وصاية على العقل، لكونه يريد أن يبدأ الفقه من الواقع لا من النص، وهو دائما يعول على الواقع، وبسبب هذا المبدأ العقلاني عند " حسن حنفي" نجده يهاجم الفلسفة السنيوية ذات المنحى الإشراقي، حيث ينظر إليها أنها السبب في تأخرنا، وكان ينبغي في نظره أن تسود الفلسفة الرشدية، والتي نجحت في الغرب فأفرزت لديه فكرة العقلانية والتنوير، ولذلك كان يعتقد " حسن حنفي" أن ذروة العقلانية كانت متجسدة في فلسفة ابن رشد .

وبالعودة إلى موضوع التجديد في مشروع " حسن حنفي" الفكري، فنجده يرى أن التجديد يتم بثلاث طرق: تجديد اللغة، وتجديد المعنى، وتجديد الواقع، وأما تجديد اللغة كما يقول يتم باستعمال الألفاظ المتداولة بدلًا من الألفاظ التقليدية الموروثة، مثلا يمكن أن نستخدم كلمة أيديولوجيا بدلا من كلمة دين، وذلك لن اللفظ التقليدي لا يعبر بما فيه الكفاية عن المعنى الكامن فيه، ولا يشير بوضوح إلى المعنى المراد، بل إنه في بعض الأحيان يكون محملًا بدلالات سلبية، ولا يؤدي الوظيفة التواصلية المطلوبة منه، وأما تجديد المعنى فيتم بإعادة قراءة التراث بمنظور العصر، وأما تجديد الواقع فيتم من خلال تغيير الواقع الثقافي وإعطاء الأولوية للمعاملات على حساب العبادات، يوجد خلف كل تجديد من هذه الثلاثة، هناك كلام وملاحظات كثيرة يطول شرحها .

مما سبق يتبين لنا أن " حسن حنفي"  كان مفكرا مستوعبا للتراثي – الإسلامي والغربي معا، وكلامه هنا يشهد بذلك، كما أنه كان مفكرًا عضويًا مهتمًا بنهضة مجتمعه وهذه فضيلة أخرى تُحسب له، ولكنه برغم ذلك فهو كالمهندس الذي شيد بناءً ضخما، لكنه كان قليل الجدوى، على عكس آخرين مثل "فؤاد زكريا"، لكنه كثير الجدوى، صحيح أن الإضافات التي أضافها على مستوى النظرات الجزئية في كتبه لاشك في أنها كثيرة، وأما على المستوي الكلي بالنسبة للمشروع فهي محدودة .

ولعل هذا هو السبب الذي جعل جورج طرابيشي يؤلف عنه كتابا كاملا بعنوان " ازدواجية العقل " ويصفه بأنه يمثل أيقونه رقصة المتناقضات ووحدة الأضداد، حيث يقول طرابيشي:" أول ما يلفت النظر في كتابات حسن حنفي قدرة كاتبها شبه اللامحدود على مناقضة نفسه، فهو لا يضع قضية إلا لينفيها، ولا يبدي رأيا إلا ليقول عكسه، وهذا ما أباح لأحد نقاده أن يتطرف في القول إلى حد التجريح فيتساءل عما إذا كان في قدرة حسن حنفي أن يظل محتفظا بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع ؟

ولكن لندع جانبا النقد ضد مشروع حسن حنفي فالرجل له وما عليه، ويكفي أن مشروعه في التراث والتجديد حمل لنا هموم الإنسان فكرًا وواقعًا في العالم العربي، وهو يقاوم لإبداء الموقف الحضاري من التراث العربي الإسلامي، ومن التراث الغربي، ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية، والفكرية، والفلسفية، وفكره بلا شك يرقى إلى البناء النسقي المنظم بالمعنى الفلسفي، بحيث تحقق الفلسفة وجودها، ويحقق الفكر ذاته من خلال التقسيم المألوف لمباحث الفلسفة إلى ثلاثة: مبحث المعرفة، مبحث الوجود، مبحث القيم، وهو تقسيم يحفظ للمشروع انسجامه وأتساقه المنطقي وللفلسفة وجودها الفعلي وللفكر وحدته .. فتحية للدكتور حسن حنفي وهو الآن بين يدي الله، والذي بموته كشف عن وجود فراغ في المشاريع الفكرية الآن في مصرنا الحبيبة.

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

............................

المراجع:

1- حسن حنفي: التراث والتجديد .

2- فصول، حسن حنفي ومشروع تجديد التراث، يوتيوب،

3- بو بكر الجيلالي: مشروع التراث والتجديد عند حسن حنفي.

المقدمة: يعتبر موضوع مشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة (الراشدة والأمامية) أمرًا هامًا ومثيرًا للجدل في الوقت الحاضر، فمنذ فترة طويلة تحدثت العديد من الدول الإسلامية عن تحقيق العدالة والتنمية والازدهار من خلال تطبيق نظام إسلامي حقيقي يقوم على القيم والمبادئ الإسلامية.

ولكن يبقى السؤال الرئيسي هو.. كيف يمكن لهذه الدول تحويل هذه المشاريع إلى حقيقة على أرض الواقع؟ وهل يمكن أن تكون تلك الدول أكثر قدرة على تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي من خلال إقامة نظام إسلامي راشدي أو أمامي؟.

إن العديد من الباحثين والخبراء يرون أن إقامة - دول أسلامية - يمكن أن تكون حلاً للكثير من المشاكل التي تواجه الدول العربية والإسلامية في الوقت الحاضر، فنظام الحكم الإسلامي يقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي يضمنها الإسلام لجميع أفراد المجتمع، بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الإسلام نظامًا شاملاً يغطي كل جوانب حياة الإنسان، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

ومن المهم أيضاً أن نتحدث عن مشاريع الإسلمة في العصر الحديث، أذ تتطلب هذه المشاريع نهجًا متقدمًا واستراتيجيات واضحة لتطبيق القوانين الإسلامية في عصر التكنولوجيا والعولمة، وتعتبر الدولة الماليزية والدولة التركية من الأمثلة الجيدة على دمج القيم الإسلامية في أنظمتها القانونية والسياسية دون التخلي عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أولاً: المشروع السياسي الاسلامي

تعد المرجعية السياسية العنصر الأساسي الذي يحدد الاتجاهات السياسية والقرارات الحكومية في الدول العربية، فهي تمثل مرجعاً لتحديد الهوية الوطنية والقيم الثقافية والدينية التي يستند إليها المجتمع العربي.

وقد تتأثر المرجعية السياسية بعدة عوامل مثل التاريخ والثقافة والدين والاقتصاد والسياسة الخارجية، لذا يعد فهم المرجعية السياسية للعالم العربي أمراً بالغ الأهمية لفهم القرارات السياسية والمسار الذي تسلكه دول العالم العربي.

1- أصل المشروع السياسي الإسلامي:

يعود أصل المشروع السياسي الإسلامي إلى الفكر الإسلامي الذي يؤمن بأن الدين يجب أن يكون قاعدة للسلطة السياسية والشرعية، ويُعتبر الخليفة الراشد الثاني (عمر بن الخطاب 13- 23هـ) أول من وضع أسس التجربة الإسلامية للحكم السياسي، أذ تميزت فترة حكمه بالعدل والمساواة بين المواطنين.

يليه الخليفة الراشدي الرابع (علي بن أبي طالب 35- 40هـ) ثان من حارب من أجل الحكم الإسلامي الرشيد القائم على الشورى والعدالة الاجتماعية.

لقد عاصر الامام (علي بن ابي طالب) حركة الوحي الرسالي منذ بدايتها حتى انقطاع الوحي برحيل رسول الله (ص(، وكانت  له مواقفه المشرّقة والتي يُغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن مبادئ الاسلام الحنيف، وقد انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله القرآنية في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث والنبوي الشريف.

-2الأهداف الرئيسية للمشروع السياسي الإسلامي:

* تحقيق العدل الاجتماعي: أذ تعتبر العدالة وتوزيع الثروة بين جميع أفراد المجتمع من القيم الأساسية للإسلام.

* تطبيق الشريعة الإسلامية: يهدف المشروع السياسي الإسلامي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في تشريعات الدولة وتطبيقها على المواطنين.

* تعزيز الهوية الإسلامية: يعتبر المشروع السياسي الإسلامي وسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيزها في المجتمع.

3-التحديات التي تواجه المشروع السياسي الإسلامي:

* التنوع الثقافي: يعتبر التنوع الثقافي والعرقي في العالم الإسلامي تحدياً كبيراً أمام تحقيق المشروع السياسي الإسلامي بسبب اختلاف التفاهمات الثقافية والاجتماعية.

* التطرف الديني: يعد التطرف الديني أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المشروع السياسي الإسلامي، أذ يتسبب في تشويه صورة الإسلام وتحقيق أهداف سياسية بواسطة العنف.

* الديمقراطية وحقوق الإنسان: تعد مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان تحدياً لتحقيق المشروع السياسي الإسلامي.

ثانيا: جذور المرجعية السياسية

تعود جذور المرجعية السياسية في العالم العربي إلى العصور القديمة ، أذ كانت هناك ممالك ودول تستند إلى إيمان ديني قوي وتقاليد ثقافية مميزة، ومنها يمكن ذكر (الخلافة الراشدة 11- 41 هـ) التي كانت تمثل مرجعية سياسية ودينية للمسلمين في أوائل الإسلام، والتي أسقطها الخليفة الأموي (معاوية بن أبي سفيان41- 60هـ) من خلال جعله الحكم وراثي في الأسلام وليس بالشورى .. كما كانت هناك ممالك عربية مثل مملكة نجد ومملكة حضرموت وغيرها التي كانت تمثل مرجعية للأهالي.

1 - الدين كمرجعية سياسية:

تلعب الديانة دوراً هاماً في تحديد المرجعية السياسية للعالم العربي، أذ يعتبر الإسلام الدين الرئيسي لمعظم السكان في المنطقة، ومن هنا تنبثق العديد من التيارات الدينية التي تؤثر على القرارات السياسية، مثل التيار السني والتيار الشيعي والسلفية والإخوان المسلمين وغيرها، وقد شهدت الدول العربية تأثراً كبيراً من التيارات الدينية في تحديد السياسات الحكومية خصوصاً في مجالات القضاء والتعليم والسياسة الخارجية.

2- التحديات الاقتصادية والاجتماعية:

يعتبر الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية من العوامل المؤثرة في تشكيل المرجعية السياسية، فالفقر والبطالة والفساد يؤثران سلباً على الاستقرار السياسي ويؤديان إلى زيادة التطرف والانقسامات الاجتماعية .

وقد كان بوسع العالم العربي والإسلامي كذلك من استخدام الآلة الاقتصادية، مثل تصدير النفط في تعديل بعض المواقف الغربية المتطرفة عموما والأمريكية خصوصا تجاه العالم الإسلامي مثل الجنوح المتطرف إلى جانب إسرائيل في حربها الدائرة في غزة ولبنان واليمن الجنوبي وسوريا.

أن عملا واسعا يجري اليوم لإلحاق أسواق العالم الإسلامي ومصادر ثرواته الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية وهو أمر حاصل بالفعل ... الإمارات العربية المتحدة أنموذج.

ثالثاً: ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب

تعتبر ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب من أخطر المشاكل التي تواجه العالم في الوقت الحالي، فالانغلاق يعتبر توجهًا فكريًا واجتماعيًا يؤدي إلى الانعزال والتخلف والإفراد بالرأي ورفض التعايش مع الآخرين، بينما التكفير هو استخدام الدين كوسيلة لتبرير العنف والتطرف، والإرهاب هو استخدام العنف والتهديدات من أجل تحقيق أهداف سياسية أو دينية.

-1أسباب الانغلاق والتكفير والإرهاب:

* الفقر والعوز الاجتماعي.

* الجهل وضعف التعليم.

* تأثير السياسات القمعية والظلم.

* الانعزال الاجتماعي وضعف الروابط الاجتماعية.

* تأثير وسائل الإعلام والتضليل الفكري.

* استغلال الدين لأغراض سياسية وجماعية.

2- تأثير الانغلاق والتكفير والإرهاب على المجتمع:

* زيادة العنف والتطرف.

* انعدام الأمان والاستقرار.

*  فقدان الهوية والقيم.

*  تعزيز الفجوات الاجتماعية.

*  تعطيل التقدم والتطور الاقتصادي.

3- سبل مكافحة العنف والتطرف:

* تعزيز التعليم والتثقيف.

*  محاربة الفقر والعوز.

* تعزيز ثقافة الحوار والتعايش.

*  مكافحة التطرف الفكري وتقديم الرؤى الإيجابية.

* تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع.

رابعاً: الفتن الطائفية والفكر المقدس

الفتنة الطائفية والفكر المقدس هما من الظواهر السلبية التي تهدد السلم والاستقرار في المجتمعات، وتسبب في تفرق الناس وتعريضهم للانقسامات والصراعات الدامية، إن مكافحة هذه الفتن وتفكيك الفكر المقدس يعتبران تحديات كبيرة تواجه المجتمعات في العصر الحالي، وهنا تبرز أهمية القيام بأبحاث ودراسات تهدف إلى فهم هذه الظواهر وإيجاد السبل للتعامل معها بفعالية.

1- ماهية الفكر المقدس:

هناك مجتمعات عربية وإسلامية تقدس أشخاصاً معينين، وخاصة رجال الدين، ولا يخضع كلامهم لسلطة العقل، ولا يتطابق مع المنطق، وتتقبل عقولهم كل ما تسمع به بشكل أعمى، كم من الناس تعرضوا لمشاكل وكوارث لا حصر لها على يد حاكم مقدس ؟، وذلك ببساطة لأن هذا الحاكم قد تم تقديسه من قبل كثير من منهم... (صدام حسين المجيد) أنموذج .

العرب من أكثر الشعوب التي تنظر إلى بعض الأشخاص على أنهم مقدسون، خاصة أولئك الذين ارتبطوا بالدين في الماضي ويعتقدون أن معجزات وعجائب معينة قد جاءت إليهم.

هذه المشكلة خطيرة لأنها تعزز تطور التفكير الخرافي، لكن الأهم من ذلك أنها تمثل تقديسًا خطيرًا للأحياء، مما يمنح الجماهير السيطرة على مصيرها ويقودها إلى طريق الرجعية، لأنك يمكن أن تصبح ضحية من بعض الأفراد الذين يسيقونك تدريجياً الى التخلف وربما حتى الانقراض في المستقبل القريب!.

2- لماذا يتم اختيار الامامة عوضاً عن الخلافة ؟:

أن تبلور نظرية الإمامة في الإسلام كان مبنياً على إجابات مختلفة للأسئلة والشكوك والإشكاليات التي يطرحها علماء الشيعة، لأنهم أول من طرح هذه القضية، وهذه القضية لها تاريخ طويل.

- علماء المسلمين (غير الشيعة) اتبعوا نفس الأسلوب في حوارهم مع الشيعة، واستخدمت ردودهم مرارا وتكرارا نفس الكلمات والأسماء والمصطلحات التي يستخدمها الشيعة.

هذه الكلمات توضع على ألسنتهم وأقلامهم لمجرد الرد على الأفكار والمعتقدات التي يعتبرونها مثيرة للجدل أو غير مقبولة، يتعلق الأمر بشخصية الخليفة (أو الإمام) أو بشكل الرئاسة وشروطها ومرافقيها.

فمثلاً، الفصل بين هذا اللقب ومصطلح «الإمامة» لا ينشأ عن فراغ أو تحيز عند أهل السنة، ولكن باعتبار أنه لقب لغوي مجرد، فإن هذه التسمية (الإمام والإمامة) تؤدي نفس الغرض من الناحية اللغوية والقانونية، وتحقق الغرض المنشود من التحديد.

وإذا بدأنا بدراسة تاريخية للوضع السياسي للدولة الإسلامية في نشأتها الأولى وفهمنا موقف الأخرين منها (أو الموقف الذي عبرت عنه الإمامة)، فسنرى وجهة نظر مختلفة للطوائف التي شاركت فيها، وكم أثار زعماء الطوائف في الأيام الأولى مسألة الإمامة في المساجد والمجالس العامة، وتنافسوا في المرافعات الشفوية، ثم سجلوها فيما بعد ذلك بأسلوب جدلي يعتمد على الحجج والأدلة التي تؤيد وجهات النظر المختلفة، وقد انكشف ذلك لأحقاً بالصراعات السياسية التي أدت إلى المعارك المحتدمة بينهم ، وأدى كل ذلك فيما بعد إلى تشتت جهود الدولة ونشوء طوائف ودول سياسية مختلفة، كالأدارسة والفاطميين .

خامساً: تجارب عربية وأسلامية

1- الأسلام السعودي من التطرف الى الانفتاح:

في 10 أغسطس عام/ 1932م ، غير مؤسس المملكة العربية السعودية (عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود1875- 1953م) اسم "مملكة الحج النجدي والولايات التابعة لها" بعد هزيمة الشيخ عجلان وقتله ، وفتح معظم شبه الجزيرة العربية ، أذ تم تغييرها إلى " المملكة العربية السعودية".

وبعد عام من التغيير وقع عبد العزيز اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط مع - شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا -، وبدأت قصة الثروة الهائلة في المملكة .

ورافقت الثروات الهائلة المتدفقة من الأراضي السعودية رغبة في قيادة المنطقة وانتزاع القيادة من القاهرة التي بدأ دورها يتراجع بعد أزمات اقتصادية متتالية.

وأدى الارتفاع الكبير في أسعار النفط في السبعينيات من القرن العشرين وما بعده، إلى جانب هجرة ملايين الأشخاص للعمل في المملكة، إلى ظهور ثقافة "سعودية" في المنطقة ، من هنا بدأت "النسخة السعودية" من الإسلام السني في غزو البلدان العربية تدريجياً.

ولعل الهزيمة الكبرى التي منيت بها القاهرة، الزعيمة القديمة للمنطقة، هي أن الثقافة السعودية نجحت في اكتساح شوارع مصر، وهيمن الإسلام الوهابي/السلفي على المشهد، وكل ما عدا ذلك كان يخالف السنة النبوية.

وهكذا أصبحت "اللحية" "لحية"، و"صباح الخير" أصبحت "السلام عليكم"، وانتقلت الساعة إلى المعصم الأيمن تقليداً لرسول الله.

وبمرور الوقت، قطعت النسخة السعودية من الإسلام السني خطوات كبيرة في مجال الثقافة، أو ما يشير إليه البعض بـ"القوة الناعمة"، ودخل "العجمي" إلى الشارع، وبقيت أصوات عبد الباسط وعبد الصمد والمنشاوي والصديق، وجدت نفسها محاصرة في إذاعة القرآن الكريم فيما ملأت التلاوات السعودية أجواء المتاجر والسيارات ، أما الأخرون فقد منعوا الفن وحاولوا إخفاء الفنانات وفضلوا ما يسمى بالسينما الملتزمة.

وبهذه الطريقة، تمكنت النسخة السعودية من تثبيت حضورها وهيمنتها في الشوارع العربية لأكثر من ثلاثين عاماً، مدعومة بمليارات الدولارات التي أنفقت ببذخ لتحقيق هذا الهدف.

2- التغيير المطلوب: هل نحن أمام نسخة جديدة من الإسلام؟

]"معظم الأحاديث النبوية لم يثبت أنها قالها الرسول، لكن كثيراً يستعينون بها لإثبات وجهة نظرهم." – ولي العهد السعودي/ ورئيس مجلس الوزراء محمد بن سلمان بن عبد العزيز 1985م –[.

لقد ظلت (المملكة العربية السعودية) لعقود طويلة معقل للتطرف في العالم الإسلامي السني، بسبب أفكار الشيخ (محمد عبد الوهاب التميمي الحنبلي 1703- 1792م) المعروف بـ «الوهابية».

لكن اليوم يتغير ويظهر أمامنا ولي العهد السعودي، ويرى أن الشيخ (محمد عبد الوهاب) كان أولا وقبل كل شيء رجل سياسي وعسكري، والمشكلة الحقيقية هي أن معاصريه وحدهم يعرفون ذلك، في ذلك الوقت، كانوا يقرؤون أو يكتبون، أي أنهم كتبوا التاريخ من وجهة نظرهم الشخصية.

إذن، بكل بساطة، غيرت السعودية بوصلتها تماما، وقرر حكامها الفعليون أن معظم الأحاديث النبوية التي نسمعها من على المنابرهي أحاديث غير مثبتة وينبغي تجاهلها، فهي تنص بوضوح شديد على أن الشيخ محمد عبد الوهاب (النواة الرئيسية) للأفكار الوضعية المتطرفة.

ما يشترك فيه جميع المسلمين هو أنه لا توجد "نسخ" مختلفة من الإسلام، وبغض النظر عن المكان الذي تذهب إليه، فإن الإسلام هو نفسه، ويعتبر هذا كلامًا دقيقًا عند الحديث عن القرآن والفرائض، لكن الدين، أي دين، هو أوسع بكثير من عهود الكتاب المقدس ونصوصه.

نعم مبدأ التحرر من التفكير التقليدي يقوم على مشاركة الجميع في عملية التغيير، وما هي أفضل طريقة لنشر هذه القيم من خلال إظهار الناس كيف يمكن للاحترام والتسامح والحرية والانفتاح أن يحسن حياتهم.

المسلمون في الرياض يصلون مثل المسلمين في القاهرة، والناس في باكستان يصومون في نفس الوقت الذي يصوم فيه المسلمين في العراق، فهذه شعائر وواجبات، ولا خلاف ولا اختلاف في كيفية تنفيذها.

ومع ذلك، فإن الأوامر والنواهي الدينية المتعلقة بقضايا الحياة هي نقاط تمايز وغالبًا ما تختلف عبر الزمن والبلدان، مما يؤدي إلى ظهور نسخ مختلفة وحتى مختلفة من الإسلام في أماكن مختلفة.

3- التجربة الإيرانية باختصار:

إيران هي دولة تقع في غرب آسيا وتعتبر واحدة من الدول الإسلامية التي تمر بعدة تحديات سياسية واقتصادية في الوقت الحاضر، لقد شهدت إيران تطورا سياسيا هاما منذ الثورة الإيرانية في عام/ 1979 التي أطاحت بالحكم الملكي ،وأسس نظام جمهورية إسلامية جديدة.

ومع مرور الزمن، تغير العديد من الجوانب السياسية والاجتماعية في إيران، وتبنت الحكومة الإيرانية سياسات مختلفة في محاولة لتحسين الوضع الداخلي والخارجي للبلاد.

تأسست جمهورية إيران الإسلامية بزعامة (روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني1902- 1989م) ، ومنذ ذلك الحين، شهدت إيران تطورات سياسية هامة، بما في ذلك الحروب الإقليمية مع العراق 1980- 1988 والتطرف الديني والعقوبات الدولية.

في الوقت الحاضر، تتبنى الحكومة الإيرانية سياسات متعددة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. تشمل هذه السياسات التحكم في الاقتصاد الوطني، وتطوير الصناعات الوطنية، وتعزيز العلاقات الدولية.

وتواجه تحديات كبيرة ، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية، والتضخم المالي، والبطالة، ومن المهم أيضا النظر في التطلعات المستقبلية لإيران وكيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار السياسي.

ولعل في رسالة نادرة من المفكر والفيلسوف الإيراني (عبد الكريم سروش 1945) إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد (علي خامنئي)، وردود أفعال أتباعه عليها، ما يدل على أن الإمام الخميني أراد لأيران أن تكون "مصدر إشعاع " في المنطقة والعالم ، وهو يخوض كامل الصراع المستمر والمتصاعد مع جيرانه وقوى الاستكبار العالمي كما يسميها .

في الوقت نفسه  تعرض للتشهير والعزلة بسبب "تصدير الثورة "التي نجح نوع ما في تشكيل ما يسمى "محور المقاومة" في العراق واليمن ولبنان وسوريا.

وكان سروش يؤمن بألوهية الوحي والنبي، وأن فهم الناس لمعنى الوحي يتطور مع الزمان والمكان، وهو ما طبقه الإمام الخميني أيضاً في نظرية الاجتهاد، ويرى أن هذا التغيير، في أي زمان وفي أي مكان، يرتبط بظهور آراء قيمة وقوية ، لقد غادر سروش إيران بعد معركة مع المتشددين هناك والذين يرفضون فكرة الاعتدال.

سادساً: الاستنتاجات

تناولت هذه الدراسة موضوعا مهما وحساسا يتعلق بمشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة، وتحليلا لظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب التي رافقت هذه المشاريع.

إن العالم العربي شهد في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية هامة، ولعل من أبرز هذه التحولات تقدم الإسلاميين في العديد من البلدان العربية ومحاولاتهم أسلمة الأنظمة وإقامة دولة الخلافة، وفي هذا السياق، ظهرت ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب التي أثرت على الأمن والاستقرار في المنطقة.

وتختلف مشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة من بلد لآخر ومن جماعة إسلامية لأخرى، ولكن الهدف المشترك هو إقامة نظام إسلامي يعتمد على الشريعة الإسلامية ويحقق عدالة اجتماعية ويضمن حقوق الإنسان.

وبعض الجماعات الإسلامية تستخدم وسائل سياسية وديمقراطية لتحقيق أهدافها، في حين تلجأ بعض الجماعات الأخرى إلى العنف والتطرف لتحقيق أهدافها.

ولكن ظاهرة الانغلاق قادت الى انعزال الفكر الإسلامي عن البيئة الثقافية والحضارية المحيطة به، وتقديم أفكار متشددة ومتطرفة تنكر الآخر وترفض العقلانية والتنوع، وولدة ظاهرة التكفير من الانغلاق الفكري، أذ يعتبر المتشددين المختلفين عنهم في الفكر أو الديانة كافرين ويروجون للكراهية والعنف ضدهم، وتندرج تنظيمات الإرهاب الإسلامية تحت هذه الفكرة، أذ يعتقد أعضاؤها أن استخدام العنف والإرهاب هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافهم.

ولعلّ أبرز الأسئلة التي لا تزال تحاصر العقل العربي مهما اختلفت توجهاته وحكوماته، هو سؤال العجز الذي يتردّد بهيئة: هل الشعوب العربية عاجزة أم متخاذلة ؟وجوهر هذا التساؤل ينبع من الصورة التي زُرعت خلال العقد الأخير عن «حراك» الشارع العربي والمعروفة بـ«الربيع العربي»، بحيث تظهّر للمشاهد العربي، والفلسطيني خصوصاً، مشهد خروج «الشعوب» العربية بمختلف أشكال المواجهة لتحقيق ما ادعّى حينها بأنّه كرامتها وحقوقها.

في الواقع، لا يمكن فهم حالة «الشلل» التي أصابت الجزء الأكبر من الأمة العربية دون مراجعة حقيقية للظروف الموضوعية التي سبقت لحظة الامتحان التاريخي، فالإنسان العربي فجر السابع من أكتوبر 2010 لم يولد من العدم، بل هو نتاجٌ لمنظومةٍ إعلاميّة- ثقافية - سياسية شكّلت وعيه للذات والعالم ولأدوات الممكن والمستحيل، في إطار اجتماعي يعرّف بخصائص محدّدة يمكننا أن نسمّيه اختصاراً «إنسان الربيع العربي».

وكما قال الأستاذ ماجد الغرباوي في كتابه (مدارات عقائدية ساخنة).. ] على الجميع تدارك الناس الطيبين، ضحايا العقل الجمعي المضلل ليعودوا الى رشدهم، فقد أستنزف الخطاب الطائفي جهودهم وأموالهم ووعيهم[.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

..............................

المصادر:

* الجندري، محمد. (2018). "الإسلاميون وتحديات المرحلة الانتقالية في العالم العربي".

* كتيب/ الأمة الواحدة.. والموقف من الفتنة الطائفية/ أية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي/ مجمع أهل البيت(ع) – العراق.

* قناة العالم/ علي أمام المتقين ورمز العدالة الإنسانية / 20 أبريل، نيسان/ 2016.

https://www.alalam.ir/news/.

* موقع رصيف22/ هل يشهد العالم العربي ظهور نسخة جديدة من الأسلام/ ماجد عاطف/ 12 أغسطس، أب/ 2023.

https://raseef22.net/article/1094469.

* موقع كتابات/ الاختلاف في الاتجاهات الفكرية / عبد الله بدر إسكندر/ 6 يوليو، تموز/ 2015. https://kitabat.com/author/2091/page/6.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).. سورة القارعة

الفقير والغني تواجدا جنب الى جنب عبر العصور والأزمان منذ الخليقة الاولى. الصراع الإنساني وعبر العصور بين الفلاح والصياد في بلاد الرافدين احد تلك المظاهر. عودة الى أسطورة الخلق الاول وصراع الاخوان هابيل و قابيل احد اهم الروايات الإنسانية متمثلا بالصراع بين الغني والفقير..

ليس من الصدفة ان يكون هناك في كافة المجتمعات الإنسانية تدرج في الحالة  الاقتصادية بين ابنائها متراوح بين الفقر، ذوى الدخل المحدود، الغني والأثرياء وفي عصرنا الحالي الثراء الفاحش. وجود البشر من الفقير والغني معا في المجتمعات الإنسانية و في كافة ألاطوار التاريخية التي مرت فيها البشرية، حالة طبيعية. الثروة بصورة عامة ياتي عادة عن طريق الوراثة. ومن ثم يكون لثروة الغني سببا و مسببا، ما يطلق عليه بالعامية  ب(البخت) اي  الحظ و القدر يلعب دوره في هذه المسالة كذلك. هناك ثروة تأتي صاجبها عن طريق مواهب الفرد  (الفهلوة) العلمية الفنية و السياسية. اما الدراسة والاجتهاد ليس بالضرورة ان تكون مصدر للثراء وربما فقط ليكفي ما يحصله المرء من وظيفته لرزقه اليومي اي ذو الدخل المحدود. الاستثناء يؤكد القاعدة. لكن هناك ثراء اخر ليس في الحسبان اي تشتري ورق يانصيب وتغدو بتلك الورقة ثريا في يوم وليلة او تدخل اول حانة للقمار وتفوز بالجائزة الكبرى. اما الثراء الغير شرعي فكثير هي دروبه من الغش والتحايل والنصب والسرقة وامور كثيرة ونشاطات غير شرعية يصل بصاحبه الى الثراء واحيانا الثراء الفاحش.

الأذكياء اقل ثراء من الأغبياء كذلك وربما احدهم ذو قابلية فكرية وذكاء محدود يصبح لاعبا رياضيا ثريا. اما الثراء القادم مع النشاطات السرية من بيع الأسلحة وتجارة البشر بكافة انواعه وتجارة المخدرات وبيع اسرار الدولة والخيانة في الحروب والوشاية وامور اخرى كثيرة قد تصل بصاحبه الى الثراء السريع.

بالنسبة لنا نحن المسلمين نؤمن بان الله سبحانه وتعالي هو وحده عز وجل من يوزع الأرزاق بين البشر . بعيدا عن اي تحيز في الموضوع نرى بان الغرب والدول الكبرى هي الغنية على اقل في يومنا هذا. الثراء الفاحش للسياسيين لم يساعدهم في الخلاص من نهاياتهم المأساوية والجدير بالذكر ان ورثه هؤلاء من الأبناء والأحفاد لا يتمتعون ويتهنون بتلك الثروات وتصيبهم ما يسمى ب (لعنة الفراعنة) اجلا ام اجلا. لان "فرخ البط عوام" كما يقول المثل المصري ليس  بصيح بين ابناء العلماء فهم ليس بالضرورة يصبحون علماء بعد موت أبيهم لانه وببساطة العلم والمعرفة لا يمكن توريثه.  الا ان عند رجال الدين تكون الوراثة في العائلة على اساس الانتماء والنسب وليس العلم. هذا يشمل جميع السياسين وابنائهم وأقربائهم ممن اصبحوا اثرياء بين يوم وليلة بعد عام 2003 وودعوا بثرواتهم في بنوك تصورا بانهم في مأمن من اللصوص وتقلبات الاقتصاد والأيادي التي تتلاعب في الاقتصاد العالمي من اسهم وسندات تهبط وترتفع وبنوك تخسر الملاين وحتى يعلنون إفلاسهم. بالنسبة للبنوك هناك معلومة مهمة اذا سرق أي مصرف (بنك) في أي مكان في العالم فلا يقوم مديروها  بإبلاغ الشرطة لكي لا يخسروا ثقة عملائهم والمودعين لديهم وحتى الجهات و الشخصيات السياسية ورجال عالم المال والأعمال وتجار الحروب والسياسيين  والشركات التي  يتعاونون معهم والعديدون  من امثالهم. لكن القدر لهم بالمرصاد وسيعلمون اي منقلب سينقلبون ولو بعد حين.

لم تتمكن كافة الأفكار السياسية والأنظمة التي بنيت على تلك الافكار ان تزيل تلك الفوارق الاقتصادية بين مواطنيها. قال أستاذي الذي كان حميما في حديثه وصادقا وهو يحاورنا حول النظريات الاقتصادية ونحن كطلبة دكتوراه جالسون حول الطاولة الكبيرة في مكتبه وننظر الى شاشة التلفزيون الذي كان توا قد بدا البث فيه ابيض اسود  بخطاب من ميخائيل گورباچوف وهو يعلن عن إصلاحاته المسماة) برستويكا. (قال الاستاذ ان ٧٥ من السنوات لم تكفي لنجاح تجربة مجتمع المساواة والعدل. نحن درسنا طلابنا في الجامعة خلال تلك السنوات ان الرأسمالية في حالة ازمة كبيرة و لا محال ستنتهي والية الى الانهيار وهي في ذلك تعيش مخاض نهايتها وايامها الاخيرة ليخرج لنا گورباجوف بان في واقع الحال ان النظام الاشتراكي هو في ازمة و في طريقها الى الزوال.  نعم لم يمر الكثير من الزمن على ذلك الخطاب ليبدا دولة اشتراكية بعد اخرى تنهار وتتساقط كقطع الدومينو . تلك الانظمة الحديدية مع الحلف العسكري واعني حلف وارشو ويتحول حتى الحزب الشيوعي الى مجرد حزب صغير  لا يؤيده ٩٩%  بل مجرد نسبة ضئيلة من الشيوعيون أنفسهم  بعد ان ترك المنافقين والمنتفعين الحزب. . العديد من رجال الأنظمة السابقة تحولوا الى تجار راسما لين كبار بثروات خيالية. للتاريخ حصل هذا طبعا لحزب النظام البعثي عشية احتلال العراق كذلك ولم يبق من يؤمن بتلك الأفكار ويخرج بنتائج ٩٩،% من اصوات الناخبين لرئيس هانه اقرب المقربين وكي لا ننسى كان هذا الرئيس يعتبر انتماءه للحزب وظيفة يؤمن قوت عيشه. لان خلال سنوات حكمه كان كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا فعليا للحزب. هذا يذكرني بما أجاب به الرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف نظيره المصري جمال عبد الناصر عن عدد العراقيين المنتمين الى حزبه.

 طبعا هناك محاولات لإعادة الساعة الى الوراء والعودة على الأقل بالنسبة للجناح السوري للحزب و النشط في العراق لكونها طبعا تدور في نفس الروح الطائفية الإيرانية او الخط الإيراني مرور من لبنان، سوريا، العراق، البحرين واليمن وصولا الى باكستان وافغانستان. تمعن فقط جيدا في ما أصاب المنطقة بأسرها من ويلات بعد انهيار ايران الشاهنشائي والى يومنا هذا.

اما في العراق فنرى اليوم صراع من نوع اخر وان  الحوزة  النجفية هي تاريخيا عاصمة التشيع في العالم وليست القم او أي مدينة اخرى حسب (مؤتمر النجف الاشرف).  وان بني هاشم و ال البيت رضوان الله عليهم لم يكونوا الاعربا حتى لو غير البعض لون عمامتهم البيضاء الى السوداء الهاشمية الموسوية.

الرسالة المحمدية السماوية عالمية كدعوة للإيمان بوحدانية الخالق ولكن عالميتها في الإيمان ويبقى الأشراف من ال البيت هم من تم اختيارهم من قبل البارئ لحمل راية الرسالة المحمدية ونشرها في العالم.  الجدير بالذكر ان المال والثروة كانتا وستبقيان لب جميع الصراعات والحروب ان كان على المستوى الشخصي بين الأفراد او الاحزاب  والدول وهناك حتى صراع قاري بين الفقر والغناء الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي للكوكب الأرضي في الليل أفضل دليل على تلك التناقضات. دول إفريقيا وبعض دول قارة آسيا تنام في ظلام دامس بينما نرى أماكن اخرى كقارة اوربا والولايات المتحدة واليابان ومناطق اخرى "منورة" كما يقول المصريون. كما ان تلك الدول أنظمتها بصورة عامة غير ديمقراطية وتحكمها الدكتاتوريات العسكرية وهي سابحة في الظلام. الديمقراطية واحترام التعددية والراي المخالف الاخر هو الطريق للتطور وفي كافة العصور والازمان.

هذه اللوحة نراه سياسيا كذلك وأعيد القول وكما نرى ان تلك الدول السابحة في بحر من الظلام لا تزال أنظمتها غير ديمقراطية احادية ويعبث العسكر المغامرين في مقدراتها .  التعددية واحترام الرئ المقابل والمجتمعات التعددية المدنية المفتوحة طريق نجاة البشرية وزوال الدكتاتوريات وسيبقى البشر من الأغنياء والفقراء يعيشون جنبا الى جنب دون اي صراع على لقمة العيش ابد الآبدين.

***

د. توفيق رفيق التونجي - الأندلس

٢٠٢٤

 

إن الإنسان عبر تاريخ علاقته مع الطبيعة والمجتمع، استطاع أن يطور في وجوديّه المادي والفكري معاً، فكلما تطورت وسائل إنتاجه مثلاً، تطور الإنتاج نفسه، ورافق تطور هذا الإنتاج تطور بالضرورة في العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما يتجلى التطور في الإنسان الفرد نفسه، أي في نفسيته وأخلاقه وقيمه ونظرته إلى الحياة ومهاراته الشخصيّة واهتماماته وميوله وسلوكياته وغير ذلك. هذا ويعتبر التطور الأهم في حياة الإنسان قد حدث برأيي مع قيام الثورة الصناعيّة أولاً، ومع الثورة المعلوماتية الفضائيّة ثانياً، فعندما حقق الإنسان هذه الثورة بجهوده العضليّة والفكريّة المتراكمة تاريخيّاً، استطاع في الحقيقة أن يحقق بعمله هذا، تغييراً جوهريّاً في معطيات وآليّة عمل العالم الإنساني بكل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وذلك بسبب ارتباط الكثير من مؤسسات الحياة بهذه الثورة ومعطياتها، ممثلة بالحاسوب والنت والفيس والخلوي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المرتبطة بهذه الثورة بكل مفرداتها، التي أصبحت حاجات أساسيّة وضروريّة في حياة الإنسان بشكل عام.

إن هذه التكنولوجيا على سبيل المثال راحت تبرمج كل نشاط الإنسان من الهاتف الجوال الفردي، وصولاً إلى أجهزة المؤسسات التي يعمل بها، وهذا البرمجة ذاتها نالت سلوكيات وتفكير الإنسان أيضا كما أشرنا أعلاه، أي أن الإنسان ذاته تبرمج عقله ونفسيته ونشاطه بما يتفق وآليّة عملها ذاتها.

بيد أن مسألة التطور هذه بكل أطرفها وآليّة عملها، راح يتحكم بها تاريخيّا من سيطر على مَلْكِيّةِ هذه التكنولوجيا، وهي الطبقة الرأسماليّة عبر تاريخها، منذ أن كانت طبقة تقدميّة ناضلت من أجل حريّة الإنسان وكرامته وعدالته ضد نظام استبداد الملك والنبلاء والكنيسة، وصولاً إلى المرحلة التي تحولت فيها إلى طبقة رأسماليّة متوحشة في ظل النظام العالمي الجديد، الذي  تخلت فيه عن كل قيمها ومبادئها التي قاتلت ومفكروها من فلاسفة عصر التنوير من أجلها في القرن الثامن عشر، ليظل السوق الحر وقيمه ومبادئه، هو المشروع الأول والأخير في اهتماماتها. هذه السوق التي راحت تعمل من خلالها على تسليع الإنسان نفسه وتنميطه بما يتفق ومصالحها الأنانيّة الضيقة.

كيف حققت الطبقة الرأسماليّة المتوحشة نمذجة الإنسان وتذريره؟

عندما قامت الحركة الشارتيّة العماليّة (١٨٣٨-١٨٥٠) في بريطانيا، وكومونة باريس (1871) في فرنسة من قبل الطبقة العماليّة، التي راحت تعاني من ظلم الطبقة الرأسمالية لها وهي التي وقفت معها ضد نظام الاقطاع ممثلاً كما قلنا بالملك والنبلاء والكنيسة، أخذت الطبقة الرأسماليّة وبكل ما تمتلك من قوى ماديّة ومعنويّة تعمل على تغرب وتجهيل الطبقة العاملة والمستهلكة معاً عن التفكير في أسباب معاناتهم وقهرهم وغربتهم وتشيئهم، حتى لا يفكر بالقيام بأي ثورة ضد النظام الرأسمالي وطبقته المالكة. وعلى هذا الأساس سخرت الكثير من الفلاسفة والمفكرين للعمل من أجل تحقيق هذه المهمة من جهة، ومن جهة أخرى تشويه الفكر التقدمي الذي تبنته الطبقة العماليّة بعد أن أصبح لها مفكروها وأحزابها. وعلى هذا الأساس جاءت قيم ما بعد الحداثة، التي مثلها ورسم خرائطها ممثلو اقتصاد السوق الرأسماليّة المتوحشة، ممثلاً بحوامله الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، حيث  راحت هذه الحوامل تشتغل وبكل قدرة ودراية، وبما امتلكته من وسائل التأثير على المتلقي، إن كان امتلاكها للمال وتسخيره في كل ما يساهم في تحقيق أهدافها، كاستخدام وسائل الإعلام الموجه، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو شراء وتسخير الكتاب والمفكرين والأدباء والفنانين، أو استخدام السلطات التي أصبحت بيدهم وفي مقدمتها سلطة الدولة وقانونها وقضائها وعسكرها، لفرض منطق ونمط الاستهلاك أولاً، أي الاستهلاك المنتزع من صلته العضويّه بالمجتمع، على اعتباره استهلاكاً من أجل الاستهلاك، وليس استهلاكاً يهدف إلى تأمين حاجات المجتمع الماديّة والروحيّة، بقدر ما همه في ظل عصر الرأسماليّة المتوحشة تحقيق الربح المفتوح على المطلق، والمستعد أن يعلق المشانق لكل من لا يستطيع الاستهلاك، كما راحت الطبقة الرأسماليّة ذاتها تعمل عبر وسائلها ثانياً، على تذرير الإنسان وتشيئه وتنميطه، من خلال إبعاد تفكيره عن أي كتلة اجتماعيّة تحيط به أو نشأ فيها، وفي مقدمتها الأسرة والدولة، بل ومجتمعه الذي ينشط فيه، والنظر إلى نفسه وقدراته الذاتيّة فقط من أجل تحقيق ذاته. وبناءً على هذا التوجه ها هي  "مارغريت تاتشر" عندما كانت رئيسة للحكومة البريطانيّة في ثمانينيات القرن الماضي تدعوا (الفرد) قائلة: (لا تنظر إلى فوقك أو تحتك أو إلى جانبيك، بل أنظر إلى داخلك، إلى أعماقك، حيث يكمن دهاؤك وقوتك وإرادتك والأدوات كلها اللازمة لتقدم الحياة. لن يوجد بعد اليوم قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحونك من المسؤوليّة المتعلقة بتبعات أفعالك.. هناك أفراد فقط يحيطون بك كباراً وصغاراً عليك ان تتعلم منهم وفقاً لمهاراتك وقدراتك الذاتيّة، وأنت وحدك من يتحمل نتائج ثقته بأعماله وما تختاره في هذه الحياة. إنه "مجتمع الأفراد").(1).

إن الهويّة بشكل عام تتحول وفق هذا التوجه هنا من (قيمة وجوديّة) إلى (مهمة). أي لم تعد انتماءً وتضحية وارتباطاً بالمجتمع والوطن، بل تحولت إلى وسيلة تشكل فرديّة أعضائه، والأعضاء يشكلون مجتمع التفرد وموقفهم من أعمالهم في هذا المجتمع.

هذا ونجد كاتبا وعالم اجتماع بريطاني يراقب عن كثب ما يجري في ظل النظام العالمي الجديد، وهو"أوليرش بيك"  واصفاً المجتمع الصناعي في مقال له بعنوان (فناء المجتمع الصناعي) قائلاً: (يصدر عن القواعد الاجتماعيّة في أفولها (أنا) عدوانيّة مرعوبة عارية تبحث عن الحب والمساعدة. وفي بحثها عن نفسها وعن تئام اجتماعيّ حنون تتوه بسهولة في غابة الذات.. ومن يفتش في غابة الذات لم يعد بمقدوره أن يدرك أن هذا الانعزال ... هذا الحبس الانفرادي للأنا، هو حكم جماعي أيضاً.) (2) .

إن الفرد الحقيقيّ أصبح في مجتمع النظام العاملي الجديد، أو عالم ما بعد الحداثة، هو الذي لا يلوم أحداً على ما يعانيّه من بؤس  وشقاء، ولا يبحث عن أسباب فشله إلا في كسله وبلادته، ولا يبحث عن حل إلا في الجد والاجتهاد. أي بالاعتماد على ذاته، لأنه لن يتوقع أن يساعده أحد، ولكنه يستطيع أن يتعلم - هذا إذا استطاع أن يتعلم في شريعة الغاب هذه، من تجارب الاخرين، دون أن ينتظر مساعدتهم. إنه عالم (قلع شوكاتك بيدك) كما يقول المثل العربي. وهنا يأتي الفرق بين المواطن والفرد:

التفريد المطلق للفرد وفقدانه جوهره الإنساني:

في ندوة عقدت مؤخرا في أحد الدول الأوربيّة تناولت مسألة عالم ما بعد الحداثة وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع ليس في أوربا فحسب، بل والعالم الذي قد طاله النظام العالمي الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، ومهندسة خرائط هذا النظام حاضراً ومستقبلاً. ونظراً لخطورة وأهميّة ما طرحته هذه الندوة من قضايا تهم مصير الإنسان، عملت على تلخيص أبرز ما جاء في أحد المداخلات الجادة التي تناولت طبيعة وآليّة النظام العالمي الجديد.

تعتبر الهندسة الوراثيّة اليوم، وتكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونيّة في الإنسان، أو التعامل مع الذكاء الاصطناعي، أو ما يسمى تكنولوجيا (النانو)، أو (علم التحكم الذاتي، من أهم القضايا التي يشتغل عليها قادة النظام العالمي الجديد، وعلينا أن نميز هنا بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان ذو الاحتياجات الخاصة ليعيش حياة طبيعيّة، وبين هذه التكنولوجيّا التي تهدف إلى تحويلنا كليّاً إلى ريبورتات بشريّة. إن الإنسان الذي سيتجاوز (البيولوجيا) التي أعطته إياها الطبيعة أو جبل عليها، وبعد الوصول إلى مرحلة التفرد المنمذج، لن يكون هناك أي فرق بين الإنسان والآلة، أو بين الواقع والواقع الافتراضي.

إن من المهم أن نفهم مشروع ما بعد الإنسان، كونه مرحلة انتقاليّة ما بين الإنسان وما بعد الإنسان، فالهدف النهائي هو التخلص تماماً من الإنسان كما نعرفه اليوم، وحينما نعرف السبب الرئيس وراء هذا التوجه وهو (العبث البيولوجي)، والانحراف الاجتماعي، وتذرير المجتمع، وفردنة الإنسان ونمذجته، من خلال الإعداد التربوي والبث الإعلامي الموجه لتحقيق هذا الإنسان ذي البعد الواحد كما يصفه "هربرت ماركوز" ولكل ما تعرض ولم يزل يتعرض  له خلال عشرات السنين يأتي تحضيراً لتقبله حياة ما بعد الإنسان لاحقاً،. فالأمر يتطلب الكثير من الإساءة الجسديّة والنفسيّة والأخلاقيّة لإرغام كائنات ذكيّة مثلنا تتقبل الانقراض، أو التحول الجنسي.

إن أغلب إن لم نقل كل الأحداث في النصف الثاني من القرن الماضي كانت مصممة من أجل تقريبنا لقبول هذا الواقع الفاسد. فسواء تقبلت هذا الأمر أم لا، فنحن نعيش داخل منظومة فائقة التحكم.

نعم.. وعينا بالواقع قد تم التخطيط له، وتسييره وتنفيذه بعناية تامة من أجل التحكم فينا وأخذنا إلى أية جهة يرغبون بها، وهذه الوجهة هي (ما بعد الإنسان). ولتحقيق ذلك كان عليهم العمل على:

أولاً: زعزعة ثقة الإنسان بنفسه وتجريده من إنسانيته، وزرع اليأس في نفسيته عبر كل الوسائل الماديّة والمعنويّة المتاحة.

ثانياً: تحطيم نواة العائلة من خلال تربية أفرادها عبر مؤسسات الدولة التربويّة والإعلاميّة والثقافيّة، كالتربيّة التي تقوم على تشجيع الاجهاض، والمثلية والتحول الجنسي، وتحييد القضاء، والايمان بالله والروحانيات.

ثالثاً: تشجيع الناس للعيش في المدن الكبيرة، بعيداً عن الأرياف والطبيعة، وتسميم الغذاء من خلال الصناعات الغذائية المعلبة، وتسميم حتى المياه والهواء، ونشر الأمراض بين أفراد المجتمع. أي العمل على تطبيق النظرية المالتوسيّة الجديدة.

رابعاً: نشر مواقع التواصل الاجتماعي بدل التواصل والتفاعل الحقيقين المباشرين بين الأفراد، ومن ثم تقديم كل ما يحرك أهواء وغرائز الناس، كالإباحيّة الجنسيّة والمثليّة والتحول الجنسي، والأكثر اهتماماً عندهم هو دفع الناس لممارسة الجنس بعيداً عن أية سلطة قانونيّة أو أخلاقيّة حتى ولو كانت  ممارسته مع الحيوانات.

خامساً: صنع الأزمات الماليّة والزيادات المستمرة بالضرائب ورفع الأسعار وخلق الأزمات المعيشيّة، وصنع الحروب، وتشجيع الهجرة الجماعيّة، ونشر القلق والاكتئاب والمخدرات والكحول، والخوف الدائم من الناس والمستقبل، وانعدام الأخلاق كدين جديد.

هذا ويمكن المواصلة بدون توقف في شرح كيف يتم التأثير في إبعاد الإنسان عن إنسانيته، من خلال نشر وتعميم وتجسيد أي شيء يبعد الإنسان عن مصادر قوته وأمانه واستقراره، أو تحقيق أي هدف إيجابي في هذه الحياة، أو أي معنى للحياة. والهدف الأكثر أهميّة عندهم هو إيجاد مجتمع ضعيف في وحدته وأخلاقه واتصالاته وصحته وعلمه أو معرفته الايجابيّة عن نفسه وعن واقعه ومن يتحكم به.

إذاً إن الهدف هو صنع جيل كامل من الكائنات البشريّة الهجينة أو المهجنة. فالذكورة هنا يجب أن تبقى محط هجوم نفسي وأخلاقي وثقافي وبيولوجي، ودفع هذا الإنسان المراد نمذجته وتهجينه باتجاه الرياضة والترفيه والتخنيث من خلال رجال يميلون إلى تقليد النساء في مظاهرهنَ، وكذلك تعليم الأطفال في المدارس بأن الجنس (ذكر وأنثى) هو خيار يمكن تحقيقه بالتحول الجنسي.

إن كل ما جئنا عليه هنا ليس حركة طبيعيّة، بل وجدت بأوامر فوقيّة ليس لها أي دخل بحريّة الإنسان في التعبير عن جنسه، أو حقوقه المدنيّة، بل هي أجندة مدروسة وبعناية شديدة ذات بعد شرير وفاسد لتغريبنا وتُصالنا إلى مرحلة ما بعد الإنسان، وجعلنا نتساءل عن أهم شيء في هويّة الإنسان هو جنسنا البشري.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

............................

الحداثة السائلة، "زيجمونت باومان" – ترجمة حجاج أبو حبر- مكتبة بغداة- الشبكة العربيّة للبحاث والنشر- 2016. ص7و8.

1-  الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص75.

2- الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص85

أبدأ من حيث انتهى أستاذنا د.محمد الرميحي، حين قال إنه «لا يمكن الاحتفاظ بالتفاحة وأكلها في الوقت نفسه». وقد سألت نفسي وأنا أقرأ مقاله البديع (البيان، 19 فبراير - شباط): هل هناك حقاً من يريد الاحتفاظ بأي شيء وأكله في الوقت نفسه؟ والحق أن المسألة لم تخطر على بالي ولا تخيَّلتها، قبل هذا اليوم. لكنّ الرميحي يعتقد أن الذين يريدون الانضمام إلى قطار الحداثة، ويريدون –في الوقت نفسه- الاحتفاظ بهوياتهم القديمة، هم من هذا النوع. والسبب واضح: التقاليد والحداثة ليستا مجرد أوصاف نُطلقها على نمط المعيشة، ولا هي وظائف نضيفها إلى هذا النمط أو ذاك، كي يعمل بطريقة محددة. بل هي أنساق متعارضة، أو «بارادايم» حسب التعريف الذي اقترحه المفكر الأميركي المعاصر توماس كون. البارادايم نمط من العيش متفرد، إذا وُجد في مكان فهو يزاحم أي نمط آخر، حتى يُلغيَه أو يتلاشى أمامه، فكأنَّه يحتذي سيرة الشاعر الشهير أبي فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسُّطَ عندنَا

لنا الصدرُ دونَ العالمين أو القبرُ

حسب التصوير السابق، فإنَّ الحداثة ليست مجرد تنويع على نمط معيشة قائم، ولا هي منظومة وظائف أكثر تطوراً، تضيفها على النمط القديم، مثلما تُغيِّر بطارية السيارة مثلاً أو عجلاتها أو حتى محركها، بأخرى أحدث وأفضل أداءً. إنَّ وجود الحداثة يعني –بالضرورة– زوالَ التقاليد. لا يمكنك رؤية العناصر التي تشكّل نمطَ العيش الحديث، إلا إذا زالت نظائرها التقليدية. إنه كرسيٌّ واحد، يحتله واحد من النمطين، إما التقليد وإما الحداثة.

لكن ما علاقة هذا التعارض بأكل التفاح أو الاحتفاظ به؟

يقول الرميحي إنَّ شريحة واسعة من قومنا تريد الحداثة، لكنَّها في الوقت نفسه خائفة من هجر التقاليد. فهم مقتنعون تماماً بضرورة الانتقال إلى الحداثة، بل إن كثيراً منهم يعيشون في ظلها، بل ربما شاركوا في بناء أركانها، لكنَّهم –في موازاة ذلك– يشعرون بالقلق من احتمال خسارتهم ما اعتادوه في عصر التقاليد. ولهذا فإنَّ مشاركتهم في الحياة الحديثة أقربُ إلى أن تكون وظيفية براغماتية، بينما تبقى نفوسُهم مغروسة في بستان التقاليد، لا تستطيع مغادرته.

يمكن للإنسان أن يعيش على هذا النحو عمره كله: يمارس قناعاته التقليدية الخالصة في وقته الشخصي، بينما يلتزم متطلباتِ العيش الحديث في وقت الدراسة أو العمل. وكان المرحوم د.سعد الدين إبراهيم قد لاحظ منذ وقت مبكر أنَّ الرغبة في الحفاظ على ما يعتقد الناس أنَّه مظهر ديني قد تَحوَّل إلى نوع من الحياة المزدوجة: نسق حداثي في الصباح (وقت العمل) ونسق تقليدي في المساء (الوقت الاجتماعي). لا نتحدَّث هنا عن اللباس أو السلوكيات التي لها طابع شكليّ تظاهريّ، بل عن تلك التي تنمّ عن قناعات عميقة في نفس الإنسان، قناعة بقيم الحداثة أو التقاليد. وقد لاحظ د.سعد الدين محاولات حثيثة من جانب الطبقات الوسطى الحديثة، لإنشاء نوعٍ من تبادل أدوار بين النسقين، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الأعراف والتقاليد الموروثة، لكنَّهم في الوقت نفسه يتخلّون عن مصادر الإنتاج وأساليب العيش المرتبطة بتلك الأعراف.

وأشار د.الرميحي في مقاله آنف الذكر، إلى أنَّ كثيراً من العرب يستشهدون بقول من قال إن الصين واليابان حافظتا على تقاليدهما الثقافية والاجتماعية، في الوقت الذي ذهبتا بعيداً في تحديث المجتمع والاقتصاد، أي إنَّهما –خلافاً لرأي الرميحي– أكلتا التفاحة واحتفظتا بها في الوقت نفسه. لكنَّه يؤكد أنَّ هذا القولَ ليس سوى محاولة لتبرير الوقوف عند أطلال الماضي. فيابان اليوم مثل صين اليوم، تختلف عن ماضيها اختلاف الليل عن النهار.

المزاوجة بين التقاليد والحداثة مستحيلة في رأي الرميحي، وهي محاولة عبثية في رأي د.سعد الدين، وهذا رأيي أيضاً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

طُرحت موضوعة التَّقدم في المؤتمر الدوليّ الثاني للفلسفة، الذي عُقد بعنوان «الفلسفة ورهان التقدم النّظريّ والاجتماعيّ»- جامعة محمَّد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة، خلال يومي 6 و7 فبراير 2024، أشار أحد المتحدثين إلى عدم وجود مصطلح «التّقدم» في التّراث، ووجدتُها بداهة كبداهة عدم وجود اسم التلفزيون أو الإنترنيت مثلاً قبل القرن العشرين، وهذا شامل لكلّ الأمم والثقافات، لم تكن هنالك انقلابات حادة، كالثورة الصناعية مثلاً، كي تأخذ مفردة التّقدم معناها المتعارف عليه اليوم، ويعني الازدهار والرقي، قياساً بالماضي، والكلام ليس لي. أجده لأديب لُبنانيّ، وربّما كان الأقدم: «مِن الثّابت أنّ الانقلابات السّريعة، التي نشأت على أثر الحركات الصّناعيّة والاقتصادية، وما تبعها مِن عقائد سياسيّة واجتماعيّة، قد فتحت أبواباً كانت مقفلة مِن قبل، ووضعت على بساط البحث، تحت أنظار رجال الحكم والفِكر» (نسيم يزبك، التّقدم والثّقافة، مجلة الأديب 1/10/1943).

كان صوت الماضي صاخباً، وكأنه هو «التّقدم»، لكثرة الانكسارات، والقول يروى ليونس بن مسيرة الزَّاهد(ت: 132هجرية) «ما لنا لا يأتي علينا زمانٌ إلا بكينا منه، ولا ولَّى زمانٌ إلا بكينا عليه» (الزَّمخشري، ربيع الأبرار).

هذا، وفي عصرنا يأتي مَن يؤيد الزّاهد: «وقائلةٍ أما لك مِن جديدٍ/ أقول لها القديمُ هو الجديدُ» (الجواهري، قصيدة «أفتيان الخليج» 1979). مع أنّ التطلع إلى الأمام، في الشّأن الثّقافيّ، وما يُعرف بالحداثة، كان موجوداً، دون الإشارة إليه بالتّقدم، فما طلبه، على سبيل المثال، أبو نواس (ت: 195هجرية)، كان تقدماً، عندما انتقد الانكسار أمام الماضي: «قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَسْ»، فهذا تقدم غير مسبوق، وعندما يكتشف إخوان الصّفا (القرن الرَّابع الهجريّ)، الدَّورة الدَّموية الصُّغرى، فهذا تقدم.

سمى إخوان الصَّفا الرّئة «بيت الرّيح»، وقالوا عن مرور الدّم عبرها: «ويصل إلى الرّئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب، ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ من القلب إلى العروق الضّوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذّي يسمى النّبض، ويخرج من القلب إلى الرّئة الهواء المحترق» (الرِّسالة الثامنة من الجسميات). ثم جاء بعدهم بثلاثمئة عام الطّبيب ابن النّفيس عليّ بن المحرم (ت: 687هجرية)، وشاعت له، بينما في التّراث الإسلاميّ لإخوان الصّفا، ومن مادة الرّسالة نفهم أنَّ كاتبها كان طبيباً.

طرح الأولون مصطلح التّقدم، لكنهم أشاروا إليه بالزّمن، فقال أبو القاسم الزَّجاجيّ (ت: 377ه) معرفاً التّقدم: «اعلم أنَّ أسبق الأفعال في التقدم للفعل المستقبل، لأنَّ الشَّيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق للوجود، فهو في التقدم منتظر، ثم يصير في الحال ثم ماضياً، فيخبر عنه بالمضي، فأسبق الأفعال في المرتبة المستقبل، ثم فعل الحال، ثم الماضي» (الإيضاح في عِلم النَّحو). فاللفظ موجود «التّقدم»، ويعطي المعنى المراد نفسه، لكنّه لا يُعبر عن معنى التّطور، وإن كان اللفظ الأخير نفسه، يستخدم للأحسن والأسوأ، عندما يُقال تطورت الحرب، أو المرض، ويشار إلى ذلك أيضاً بالتّقدم.

صحيح، أنّ الثورة الصّناعية سرعت بالتّقدم، حتى صار يحدث يوميّاً، لكن ليس معنى هذا أنّ الماضي، قبلها، كان ساكناً لا حراك فيه، إذا كان ذلك كذلك لظلت الكتابة على الجلود حتى آتت الثورة الصّناعية ثمارها، وكأنَّ الورق لم يُخترع مِن قَبل، ولا ندري بماذا نفسر ظهور الشِّراع، وما لعبه مِن دور في التّجارة، والعجلة ودورها في النّقل، عند العراقيين القدماء، هل هي غير موجودة لأنهم لم يعرفوا لفظ «تقدم» بمعناه «الازدهار والرُّقي» في لغتهم؟! فصاحبنا، الذي نفى وجود التَّقدم، كأنه أنكرها لفظاً ومعنىً، مع أنَّ الاثنين موجودان في التّراث الإسلاميّ، مِن تعبير لفظ «التّقدم»، وكذلك الحال بالنسبة لنقيضه «التَّأخر»، مع اختلاف دلالتهما بين زمانين.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

المقدمة: يعتبر الإسلام من الديانات الكبرى في العالم، وهو يتضمن جوانب دينية وتاريخية وقانونية وثقافية تميزه عن غيره من الديانات الأخرى، وعلى مر العصور، تطورت تيارات وتوجهات مختلفة داخل الإسلام، منها الإسلام التقليدي والإسلام التراثي والإسلام العلماني والإسلام السياسي.

والعولمة والحروب القائمة تعتبران من أكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم، وتؤثران بشكل كبير على التنوع الثقافي والديني في المجتمعات حول العالم. ومن بين الأديان التي تأثر بالعولمة والحروب هو الإسلام، أذ يثار تساؤل كبير حول مدى توحد الإسلام بوجه عام، أو هل هناك إسلام واحد أم إسلامات متعددة ؟.

وبالرغم من أن العلماء كانوا حراس الشريعة والمتحدثين باسم الدين، لم يعرف الإسلام السني فكرة المرجعية الواحدة المعروفة في الكنيسة الكاثوليكية أو التي تطورت لدى المسلمين الشيعة الإثني عشرية منذ نهاية القرن الثامن عشر.

أولاً: الإسلام التقليدي

تعتبر العقلية الدينية التقليدية من العوامل المهمة التي تؤثر على واقع المجتمعات المختلفة، وتلعب دوراً حيوياً في تحديد السلوكيات والقيم الاجتماعية للأفراد، في العراق مثلاً، يشهد المجتمع تداعيات كبيرة نتيجة لتأثير العقل الديني التقليدي الذي يحاصر الأفراد ويؤثر على تطورهم وتقدمهم الاجتماعي والثقافي.

أغلب الذين تصدوا للحديث باسم الإسلام في القرن العشرين من كتاب وقادة رأي عام وزعماء قوى إسلامية سياسية، لم يكونوا علماء بالمعنى الحرفي.

 كان تقي الدين النبهاني أزهرياً، كما تلقى حسن البنا وأبو الأعلى المودودي تعليماً إسلامياً أساسياً، أثروه فيما بعد بالجهد الشخصي، ولكن أغلب قيادات الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الإسلامية ناهيك عن عشرات الجماعات الصغيرة الجديدة، لم يكونوا من العلماء.

وفي الغالب المسلمون التقليديون متأثرين بالإسلاميين المتطرفين، لكنهم على الرغم من جهلهم بالكثير من الأمور الدينية، لا يتورعون بالدفاع بشراسة عن معتقداتهم والطقوس المختلفة كالصيام والطواف والسعي ورمي الجمرات والاستناد إلى معلومات اجتهادية، لإثبات الفوائد الصحية للصيام مثلا أو لتبرئة الإسلام من تهمة احتقار المرأة وهضمه لحقوقها،أو لنفي علاقة الحركات الجهادية بالإسلام.

وإن الاعتراف النوعي والهام جدا للداعية السعودي الشيخ (عائض القرني 1959) والذي قدمه من خلال اعتذاره للشعب السعودي عن "الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين"، هي في الحقيقة تجسيد لنهج الأصالة والمعاصرة في الإسلام من حيث وسطيته وسماحته وتيسيره وانفتاحه ورفضه للتقوقع على نفسه والانغلاق على مجموعة رؤى وأفكار محددة واعتبارها هي الاساس.

أتفهم أن مرد هذه المحاولات الحثيثة هو رغبة المسلمين التقليديين التوفيق بين الشعائر الدينية والعلم والعقل والترويج لما يعتقدون بأسلوب عصري، كما يفعل أرباب فكرة الإعجاز العلمي القرآني في مساعيهم لتحويل القرآن إلى كتاب علمي، ونسبة الاكتشافات العلمية إليه مسيئين بذلك إلى القرآن من حيث لا يشعرون.

ومما لاحظت من خلال نقاشاتي المتواصلة على مواقع التواصل الاجتماعي في المواضيع الدينية المثيرة للجدل، أو في كل انتقاد يوجه للتدين الشكلي أو سب الصحابة أو ما يتعلق بالشعائر والطقوس، هو أنهم يتسرعون في المهاجمة والسب والشتم واتهام الأخرين بالكفر والألحاد.

لذلك، يعد هذا الموضوع محور اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين الذين يسعون إلى فهم السبب وراء تلك التداعيات وتأثيرها على عموم المجتمع.

1- تعريف تداعيات العقل الديني- التقليدي:

تعني تداعيات العقل الديني- التقليدي الآثار المترتبة عن اعتماد الأفراد على المفاهيم والقيم الدينية التقليدية في اتخاذ القرارات وتوجيه سلوكياتهم، وتنسب تلك التداعيات إلى تقديس النصوص الدينية وتطبيقها على نحو حرفي دون تفكير نقدي أو تحليل للسياق الاجتماعي والثقافي السائد.

2- تأثيرات العقل الديني- التقليدي في الواقع المعاصر:

* الانقسام الطائفي: تعتبر العقلية الدينية التقليدية أحد العوامل الرئيسية وراء الانقسامات الطائفية المستشرية في بعض المجتمعات الإسلامية، فهذه العقلية تعزز التمييز بين الأديان وتثير الصراعات والتناحرات الدينية بين الطوائف المختلفة.

* قمع الحريات الفردية: يغلب في المجتمعات التي تسيطر عليها العقلية الدينية التقليدية تقييد الحريات الفردية وتقديم النصوص الدينية كسلطة مطلقة دون إعطاء مساحة للتفكير الحر والاختلاف في الآراء.

* تأثيرها على السياسة: قد يكون للعقلية الدينية التقليدية تأثير كبير على عملية صنع القرارات السياسية وعلى سير العمل السياسي بشكل عام، كما نراه اليوم في العراق.

ثانياً: الإسلام التراثي:

يعتبر الإسلام التراثي من التيارات المحافظة داخل الإسلام، ويتميز بالتمسك بالتقاليد الدينية والثقافية التي انتقلت من جيل إلى آخر، ويعتبر الإسلام التراثي القوانين الشرعية والفقه والسنة النبوية والتفاسير القرآنية والتراث الثقافي جزءاً لا يتجزأ من الدين الإسلامي، كما وتُّعتبر السلطة الدينية هامة في هذا التيار، أذ يعتمد الأتباع على العلماء والمشايخ في فهم الدين وتطبيقاته.

وهكذا نرى مثلا أن عالم الدين اللبناني السيد (محمد حسين فضل الله 1935- 2010) أكد وجوب اتصاف المرجع "بالرشد الفقهي والرشد الاجتماعي والرشد السياسي والرشد الحركي مع الاستقامة الأخلاقية والقوة الروحية".

في حين نجد أن السيد (علي السيستاني) وهو المرجع الشيعي الأكثر تقليدا بين الشيعة - في كافة أنحاء العالم- قد احتفظ فعلا "بالرشد الفقهي.. مع الاستقامة الأخلاقية والقوة الروحية"، لكنه لم يوافق على ممارسة أي نوع من "الرشد السياسي او الرشد الحركي" في مواجهة نظام صدام حسين أو النظام القائم في العراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين عام/ 2003.

أضف الى ذلك السيد (كمال الحيدري1956)، وهو مرجع شيعي عراقي وفيلسوف معاصر مقيم الآن بمدينة قم الإيرانية، وهو من أعلام حركة إصلاح التراث الإسلامي اشتهر بمناظراته العقائدية مع المذاهب والفرق الأخرى عبر برامجه التلفزيونية، يتعرض دوماً للمضايقات والنقد من قبل الكثرين.

وهناك الكثير من الناس يقلدون كبار رجال الدين ممن وصلوا الى الأعلمية، وتعتبر رسائلهم الدينية وطروحاتهم الفكرية مقدسة عندهم والخروج عنها هو خروج عن القرآن والسنة النبوية، ونتيجة لهذ التقليد الأعمى تولدت عندنا زيارات مليونيه لأضرحة أئمة ال البيت في العراق وأيران وسوريا وكذلك السعودية، التي قد لا تسمح بزيارة مقبرة البقيع إلا في أوقات محددة، مع منع النساء من دخولها.

1- الزيارات المليونية:

السؤال الذي يتقصى عن جواب هو: لماذا يعد الشيعة – الإمامية زيارة الأربعين الحسينية باعتبارها زيارة مقدسة وواجبة المقام ؟ ولماذا يولون الاهتمام بالسير مشياً على الأقدام والنذورات ومراسيم الحداد والعزاء؟.

الإجابة تندرج في الحكايات الشيعية - الروائية التي تحكي زيارة عائلة الإمام الحسين (ع) لقبره في ذلك اليوم، أثناء عودتهم من الشام، إذ كانت السيدات من بينهم سبايا، والرجال مكبلين من خلال قوة مسلحة مرافقة لهم.

"وفقًا لرواية أخرى، زار جابر بن عبد الله الأنصاري، الصحابي للنبي محمد (ص)، كربلاء وزار قبر الإمام الشهيد بعد مرور أربعين يوماً على استشهاده، ويُعتبر (جابر بن عبد الله الأنصاري) أحد الصحابة الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية، وهو معروف بحفظه وتعدده في الحديث، ومن بين رواياته الشهيرة "حديث اللوح" الذي ذكر فيه الرسول أسماء "أئمة الشيعة." قبل ولادتهم.

يقول المؤرخ العراقي الكبير/ علي النشمي 1956: يوجد قبر في منطقة الدورة ببغداد لحاخام يهودي اسمه اسحاق.. جاء شخص منافق ووضع قطعة قماش خضراء على القبر وكتب عليه الامام (اسحاق أبن الامام الكاظم) وصار مزاراً شيعياً !.

2- الطقوس المتوارثة:

تعد الطقوس الدينية التقليدية وسيلة للتعبير الاجتماعي والروحي للمجتمعات في العالم العربي والإسلامي منذ بزوغ الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، أذ تساهم في توحيد الانتماء الاجتماعي وبناء العلاقات القوية بين أفراد المجتمع ونشر قيم الخير والمحبة والتواصل.

بالإضافة إلى ذلك، تساعد في استيعاب العبر والدروس التي تحتاج إلى فهمها وتوضيحها بعيداً عن الخطابيات الفارغة.

والمقدسات جزء من تاريخنا العربي – الإسلامي، لكن انشغال الناس الدائم بتك المقدسات على طوال السنة سوف يؤدي الى عدم الاهتمام بالعلم والحضارة الحديثة، سوف نبقى نعيش بالخدر الدائم وبعدها نندثر ونموت كشعب حي صاحب أقدم الحضارات ومهبط الأنبياء.

 وللأسف الشديد، يتم رؤية بعض التبذير والمبالغة في تلك الطقوس من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تقديم وجبات ضخمة من اللحوم للضيوف، أذ يتم تنظيم المأدبات الكبيرة للزوار في العراق بمئات الملايين من الدولارات مجاناً، دون أن نعرف من هم المنظمون الفعليون لهذه الولائم.

وعلى الرغم من أن معظم سكان مدينتي / محافظة ميسان ينتمون إلى ذوي الدخل المنخفض أو الخريجين الباحثين عن وظائف حكومية، إلا أن العديد من متظاهريهم تعرضوا للقتل والاغتيالات الغامضة أو للإصابات العنيفة من قبل قوات مكافحة الشغب، وهم يعيشون في مجتمع يعاني من انتشار البطالة والتسول والفساد الواسع، وضعف الخدمات المقدمة لهم.

واليوم معظم نساء مدينتي مشغولة بـ ( الملاية) التي تجمع النساء في البيوت من أجل البكاء والعويل وترديد القصائد الحماسية التي تذم الامويين من أولهم الى أخرهم، والاول والثاني والثالث.. بعدها تقبض أجرها والاجر على قدر المشقة بالدولار الامريكي أذا كان صوتها شجي وجسمها ممشوق القوام.

وما إن حلت وسائل الاتصال الحديثة، حتى ازدحمت شاشات التلفزة ومواقع الإنترنت بدعاة جدد من كل الخلفيات والمستويات يشرحون للملايين المتعطشة شؤون دينهم، وفق اجتهاداتهم الشخصية التي لا تخلوا أحياناً من الخرافات والتطرف المقيت.

ثالثاً: الإسلام العلماني

يعتبر الإسلام العلماني التيار الذي يرى أن الدين يجب أن يكون منفصلاً عن الدولة والسياسة والقانون، ويعتمد هذا التيار على المنطق والعلم ويروج لفصل الدين عن السياسة وتجديد أفكار الدين لتتناسب مع التقدم العلمي والثقافي الحديث.

وكان أحد أسباب صعود المحدثين الجدد في الساحة الإسلامية كان بالتأكيد الفراغ المتسع الذي تركه تقلص وضعف مؤسسة العلماء التقليدية، والقوة المتسعة للدولة الحديثة، وسعيها إلى السيطرة على ما تبقى من مؤسسة العلماء.

لقد تأثر العديد من البلدان الإسلامية بالتيار العلماني الذي تبنى مبادئ الفصل بين الدين والدولة والقانون، وأدى هذا التأثير إلى الصراعات والاضطرابات في البلدان التي تسعى لتحقيق التوازن بين الدين والدولة والعلم، وعلى جانب آخر، يظل الإسلام التراثي حاضراً بشكل قوي في البلدان التي تحتفظ بالتقاليد الإسلامية وتسعى للحفاظ عليها.

يذهب المفكر الجزائري( محمد أركون 1928 -2010 ) إلى أنّ المُجتمع الإسلامي عرف العلمانية قبل المعتزلة عندما استولى الخليفة الأموي (معاوية بن أبى سفيان41-60هـ) على السلطة السياسية، ونصّب نفسه خليفة أو "أميرًا للمؤمنين".

واليوم علمانية تركيا بزعامة (رجب طيب أردوغان 1954م ) شكلا أخر من أشكال العلمانية الأسلامية، فهو ينادي بها بكل خطاباته منذ تعيينه رئيسا للوزراء في عام/ 2014، ألا وهي - العلمانية المحايدة - أذ تنظر إلى الدين على أنه أحد الحريات التي يتمتع بها الإنسان، وترى هذه العلمانية أنه من حق الإنسان أن لا يعتنق أي دين أو يعتنق أي مذهب، فيترك الناس أحرارا في اختيار الدين.

 ولكن لا شأن لذلك الدين في الدولة، أي يكون ذلك على نهج الأنظمة التي تتبنى العلمانية في العصور الحالية كما هو موجود في دول أوروبا أو أمريكا، أذ أن حرية التدين ومظاهرها الشخصية هي من أحد ما تقدسه الأنظمة الرأسمالية.

لقد قام - أردوغان - بالسماح بلبس الحجاب، ودعم بناء المساجد، وأن في هذه العلمانية لخطر أكبر من علمانية أول رئيس لتركيا (مصطفى كمال أتوترك1881- 1938)، أذ أن علمانية مصطفى كمال يدرك خطرها كل مسلم لأنها معادية علنيا لكل مظاهر الدين، أما علمانية أردوغان فقد يفتن بها المسلم لما لها من مظاهر إسلاميه على الفرد بسبب حرية التدين.

رابعاً: الإسلام السياسي

يعد الأسلام السياسي من الظواهر السياسية التي تحظى بشعبية كبيرة، وتقوم على فكرة أن الدين الإسلامي لا يقتصر فقط على الجانب الروحي والعبادي، بل يشمل أيضاً الجانب السياسي والاجتماعي، ومن هنا يعتبر الأسلام السياسي أحد التيارات الدينية التي تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بكافة أصولها في حكم الدولة، وكما قال المرشد الاعلى للثورة الاسلامية في ايران (علي الخامنئي 1939)..  (عدم البراءة من المشركين يلوث طهر البشرية ونقاء فطرتها، فالبراءة هي من اجل سمو الحركة الانسانية).

- أصول الأسلام السياسي:

تعتبر الشريعة الإسلامية الأساس الذي يستند إليه الأسلام السياسي، وهي تشمل مجموعة من القوانين والتوجيهات التي تنظم حياة المسلمين في كافة المجالات، وتعتبر الشريعة مقياساً للعدل والمساواة بين الناس، وتحدد الحقوق والواجبات التي يجب على المسلمين الالتزام بها.

- تاريخ الإسلام السياسي:

يعود تاريخ الأسلام السياسي إلى بداية الدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين، أذ كانت الشريعة تطبق بكل صرامة والقضاء مستقلاً عن الحاكم، ومع مرور الزمن، تغيرت الظروف وتبدلت الأنظمة السياسية، وانقسمت الدولة الإسلامية إلى عدة دول وإمارات صغيرة، مما أدى إلى ضعف الأسلام السياسي ودخوله في أزمة حادة.

- تجدد الإسلام السياسي:

مع بداية القرن العشرين، بدأت حركات الإصلاح الإسلامية في التنامي، وتجدد دعوات الأسلام السياسي، وظهرت جماعات إسلامية تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية، وباتت تشكل تحديات كبيرة للأنظمة السياسية القائمة.

- أستلام الإسلام السياسي للسلطات:

منذ الثمانينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، تمكنت بعض الحركات الإسلامية من الوصول للسلطة أو المشاركة في الحكم بشكل مباشر، مما أدى إلى تحقيق أهدافها السياسية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفق أفكار الطائفة الناجية، كما هو الأن في أيران، أو حكم السلف الصالح كما في أفغانستان.

أضف الى ذلك، محاولة) التحالف الإسلامي الكردستاني في العراق) لها ميزة تجعلها مميزة في  أداء الجهد السياسي الاسلامي، اعتبارا لمقدار الرشادة والوعي والاتقان، والاخذ بأسباب العصر وأساسيات الفترة الانسانية التي استلزمت ان يتحول الانسان فهماً ووعياً مع تغيرات العصر، التكنولوجية والتكنلوجية والثقافية، والتحول الى العولمة الثقافية التي جاءت بها ثورة الاتصالات والمعلومات.

وفي الطرف الأخر نجد هزيمة - التيار الجهادي - الأكثر غلوا وتطرفا والممتد من الجزائر إلى دولة الخلافة التي نادت بها القاعدة وداعش،  والذي وجد نفسه في حالة حصار سد عليه كل المنافذ على مدى عدة عقود قادمة.

خامساً: التجديد بالمذاهب الإسلامية مهمة ثقافية

منذ نهايات القرن التاسع عشر، ولد في مؤسسة العلماء المسلمين تيار إصلاحي بالغ التأثير، كان الإصلاحيون علماء على درجة عالية من المسؤولية حاولوا الاستجابة لتيارات التحديث والمحافظة على مرجعية الإسلام والشريعة.

وأمام عجز العلماء التقليديين عن الصمود أمام العاصفة التحديثية، شن الإصلاحيون هجوماً حاداً على الميراث الإسلامي التقليدي ورجالاته، وقد استلهم الإصلاحيون من أمثال محمد عبده، ورشيد رضا، وصديق حسن خان، وجمال الدين القاسمي، وطاهر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس، ومحمود شكري الألوسي، وعلال الفاسي، لفهم الميراث السلفي في شكل جديد ومعقد، ومن هنا عرفوا باسم السلفيين الجدد.

لذا يعتبر التجديد بالمذاهب الإسلامية مهمة ثقافية تتماشى مع روح العصر وتطلعات الجماهير بالدرجة الأولى لأنه يسهم في تحديث الفكر الديني والثقافي، ويسهم أيضا في التواصل مع العالم الغربي ودمج القيم الإسلامية مع القيم الحديثة.

ويعتبر التجديد في الدين الإسلامي محاولة لتحقيق التوافق بين القيم الدينية والثقافية والاجتماعية الحديثة، مما يسهم في بناء مجتمعات متقدمة ومتطورة.. وتكمن أهمية التجديد بالمذاهب الإسلامية بالاتي:

1- تعزيز الهوية الإسلامية: من خلال التجديد في المذاهب الإسلامية، يمكن تعزيز الهوية الإسلامية لدى المسلمين وتعزيز الشعور بالانتماء إلى الدين والمجتمع الإسلامي.

2- مواكبة التطورات الحديثة: يعتبر التجديد بالمذاهب الإسلامية وسيلة لمواكبة التطورات الحديثة في مجالات العلم والتكنولوجيا والثقافة، مما يسهم في تحديث المجتمع الإسلامي وإثراء حياتهم الدينية.

3- تحقيق التقريب الديني: يعمل التجديد بالمذاهب الإسلامية على تحقيق التقريب بين العقائد والمذاهب الإسلامية المختلفة، وبين الإسلام والأديان الأخرى، مما يساهم في تعزيز السلم والتعايش بين الشعوب.

4- تطوير المجتمعات: يساهم التجديد بالمذاهب الإسلامية في تطوير المجتمعات الإسلامية وتعزيز الاقتصاد والتعليم والصحة والبيئة، مما يعزز التنمية المستدامة.

5- محاربة التطرف والتشدد: يساهم التجديد بالمذاهب الإسلامية في محاربة التطرف والتشدد الديني عن طريق تبني نهج معتدل ومتسامح ومواكبة التحديات الحديثة.

وهناك وصف دقيق ومُبهر للحياة الدنيا من الأديب الروسي (فيودور دوستويفسكي1821-1881).

(لعلني سأموت عما قريب، حينها لن يتذكرني أحد ولن يقف عند قبري أي إنسان، سيقول بعض من كان يعرفني: كان شهماً طيباً، وسيقول البعض الآخر: كان وغداً حقيراً.

سوف تُطوى صفحتي من سجل الحياة ولن يبقى هناك أي أثر يدل على مجيئي، وستكون الحياة من بعدي كسابق عهدها لن يتغير فيها شيء، وستبقى الشمس تشرق كل صباح وتغيب كل مساء، الشيء الوحيد الذي تغير هو عدم وجودي).

سادساً: النتائج والتوصيات

أولًا: النتائج:

لاشك ان دين الاسلام هو الرسالة الخاتمة الى قيام الساعة، وهو اكثر دين في سرعة انتشاره على صعيد العالم.. والغالبية من المسلمين يتبعون دين الاسلام مثلما اُّنزل.. اما من شذ عنهم فلا اعتبار لهم.. العبرة باتباع الحق ولو خالف معتنق الاباء والاجداد.

لقد مرت فرق تفرقت عن الدين الحق واندثر الكثير منها، والان يعود اليه من الفرق الاخرى من عقل وابتغى الحق.. فالقران كلام بين واضح في اغلبه، وفي امور تفسر من قبل العلماء بالقران نفسه واخرى بالسنة النبوية المتفق عليها.

نعم إن تجديد الخطاب الديني أصبح ضرورة لكل عصر، ولكن ليس بالطرق القتالية، وإنما بالطرق الحضارية الصافية النقية من شوائب الماضي، والدعوات المشبوهة من المتطرفين.

ثانيًا: التوصيات:

1-  تكثيف جهود علماء الدين العقلاء في بيان الموقف من دعوات التكفير المخالفة للإسلام، من خلال إقامة الندوات، واللقاءات المتتالية  لبيان زيف هذه الدعوات الضالة.

2-  تفريغ بعض الباحثين لدراسة الأفكار المتطرفة، وخلق دراسة نقدية مبنية على أصول متينة من أجل أن يكونوا سدًّا أمام نشر الأفكار المنحرفة، والعمل على إنشاء مراكز ومعاهد تُعني بدراسة الفكر الإسلامي المعتدل، ووضع النظريَّات والرؤى الإسلامية المستقلة من جميع المتغيرات في الواقع العربي والإسلامي والعالمي.

3- تصحيح المسار الإعلامي للدعوة الإسلامية، بأنْ لا يتصدر للإعلام إلا من كان مؤهلًا لمواجهة الجمهور ثقافياً، فمن تصدَّر في غير محله كان وسيلة يمتطيها أصحاب الفكر الهدَّام للإساءة للإسلام.

4- عدم إبراز دور الحِقب التاريخية الإسلامية السابقة بصورتها السوداء للناس، وبيان كيف كان تمسكهم بدينهم وسيلة النهوض بين الأمم وليس العكس.

5-  نشر الثقافة الإسلامية الواعية في المراحل الدراسية الأساسية والعليا، كي يتكون لدى الجيل مناعة فكرية من الأفكار التخريبية.

6- إنشاء وسائل مرئية ومسموعة تعني بدراسة وعرض الرؤية الإسلامية الصحيحة من القضايا المستجدة، لتسدَّ الفراغ الفكري الذي يستغله أصحاب الفكر المنحرف.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

.....................

المصادر:

- علي بنيامين، "العقل الديني التقليدي: ما بين التقديس والتحسيس"، المجلة العراقية للعلوم الاجتماعية/ لورنس هار.

- كتاب / مشروع الفكر الاسلامي في القرآن/ علي الخامنئي / ترجمة محمد علي اذرشب / مؤسسة صهبا 2017 – مشهد،ص 260.

- كتاب/ النظم الإسلامية / حسين علي الساعدي/ الناشر دار الهدى للطباعة والنشر، 2017، ط1/ مطبعة الثقلين – النجف الأشرف.

- موقع الحرة/ رسالة الى المسلمين التقليديين/ منصور الحاج/ 29 أغسطس/ 2018.

- موقع الجزيرة/ كيف تحولت تركيا من العثمانية الى العلمانية؟ / د. فوزي أبو خليل/ 28 أيلول / 2018.

 

تُعد عضوية أيّ مجمع علمي ركيزة أساسية لنجاحه، ولذلك يُنتخب كأعضاء فيه نخبة من العلماء الذين أثروا المعرفة الإنسانية بمساهماتهم البارزة. ويعتبر المجمع العلمي مستودعا لأعلى المواهب العلمية المتاحة في الدولة ويتم دعمها واستشارتها بشكل عام في جميع الأمور المتعلقة بالتعليم والتربية والبحث والتطوير العلمي والتكنولوجي.

منذ فترة طويلة، أبديت اهتماماً كبيراً بإصلاح المجمع العلمي العراقي، وشاركت في تقديم الاستشارة لتعديل قانونه، وكتبت العديد من المقالات حول هذا الموضوع، بهدف أن يصبح المجمع ممثلاً حقيقياً لنخبة العلماء العراقيين، ولم يتوقف اهتمامي بالمجمع وبما يتعلق بعملية اختيار أعضائه ليومنا هذا.

ولقد علمت مؤخراً أن مجلس الوزراء شكل لجنة لإعادة النظر في القائمة القصيرة التي تضم المرشحين للعضوية، ولتقديم اقتراحاتها بشأن تشكيلة المجمع بأكمله. واستناداعلى ما اقترحته وكتبته سابقاً حول خصائص وأهداف وواجبات الأكاديميات أو المجامع العلمية الدولية، وحول التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي، وحول السبل التي تساعد على رفع مستواه كمرجعية علمية موثوقة، وامتدادا لها سأحاول في هذا المقال التركيز على شروط العضوية في المجمع كما أرى أنها مناسبة للعراق، متوخيا منها ان تكون مرجعا مفيدا للجنة في اختيارها للاعضاء.

ملاحظات حول القانون الحالي

يواجه القانون الحالي للمجمع بعض التحديات التي تُعيق قدرته على مواكبة التطورات العالمية مع ان هذا لا ينفي أهمية ودور المجمع في تعزيز العلم والثقافة في العراق، ونذكر منها:

1. عدم التوافق مع المعايير العالمية: لا يتماشى القانون الحالي كثيرا مع صيغ المجامع العلمية العالمية، مما يُعيق مشاركة المجمع في المحافل الدولية بشكل فعال. هناك نقص في الاستقلالية والحيادية للمجمع العلمي العراقي، حيث يرتبط إدارياً ومالياً بمجلس الوزراء، ويعين رئيسه وأعضائه بمرسوم جمهوري. هذا قد يؤثر على حرية البحث والتعبير والنقد العلمي، ويقيّد الفرص للتعاون مع المجامع الأخرى التي تتمتع بمزيد من الاستقلالية، حيث يركز القانون على اللغات والتراث والعلوم الإنسانية والاجتماعية، دون الاهتمام اللائق بالعلوم الطبيعية والتطبيقية والتقنية. هذا قد يحد من قدرة المجمع على مواكبة التطورات العلمية الحديثة والمساهمة في حل المشكلات الوطنية والعالمية.

2. التركيز على الوظائف الإدارية: يهتم القانون الحالي بالجانب الإداري أكثر من الجوهر العلمي، مما يُفقد المجمع دوره كمرجعية علمية شرفية. فمن  الملاحظ أن القانون الحالي يحدد تشكيلاته ومهامه بشكل مفصل ومعقد، وينظم العديد من الأمور الإدارية والمالية والخدمية والتنظيمية. وهذا قد يشير إلى تركيز المجمع على الوظائف الإدارية على حساب الوظائف العلمية والتي لا تختلف ولا تزيد عن مهمات جامعة او كلية، وقد يعكس عدم وجود رؤية واضحة ومتكاملة لأهدافه ومهامه العلمية. مثلاً، ينص القانون على أن المجمع يتولى تحقيق أهدافه بالوسائل المنصوص عليها في المادة (3) منه، ولكنه لا يحدد ما هي هذه الوسائل بشكل محدد ومنهجي، ويترك ذلك لتقرير هيئة الرئاسة والهيئة العامة. هذا قد يؤدي إلى عدم وجود استراتيجية علمية موحدة ومتسقة للمجمع، وقد يفتح المجال للتأثيرات السياسية والشخصية على اتخاذ القرارات العلمية. وبالتالي، قد يفقد المجمع دوره كمرجعية علمية شرفية، وقد ينحصر عمله في الجوانب الإدارية والتشريفية، دون أن يسهم بشكل فعال في تطوير ونشر المعرفة العلمية والثقافية في العراق والعالم.

3. غياب التخصصية: لا يُركز القانون على تنوع تخصصات الأعضاء، مما يُعيق قدرة المجمع على تغطية جميع مجالات المعرفة. ولا يعكس تقسيم التخصصات التنوع العلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم، ولا يشمل العديد من التخصصات الحديثة والمهمة في مجالات العلوم الطبيعية والطب والهندسة والطاقة والبيئة والفنون والإعلام والاجتماع… إلخ.

الهدف من إعادة النظر في العضوية

إعادة النظر في شروط العضوية في المجمع العلمي العراقي له هدف رئيسي وهو تطوير دور المجمع وتعزيز مكانته في المجتمع العلمي المحلي والدولي. من خلال هذه الخطوة ، يسعى المجمع إلى أن يصبح مركزاً يحفز الابتكار ويؤثر على صياغة القرار في مختلف حقول المعرفة والتكنولوجيا ، بما يخدم مصالح العراق ويحقق تنميته المستدامة. كما يهدف المجمع إلى تنشيط العلوم والآداب في العراق، وزيادة فرص حصوله على أفضل الخبرات العلمية عالميا، وتحويله إلى مركز يلهم العلماء ويثير رغبتهم في الاكتشافات العلمية.

مقترحات لإعادة النظر في العضوية

من بين المقترحات التي تم طرحها لإعادة النظر في عضوية المجمع العلمي العراقي، تبرز في المقدمة المقترحات التالية:

1. الاستعانة بعلماء من أكاديمية العلوم الأمريكية والجمعية الملكية البريطانية والمجامع العلمية العربية للاستفادة من خبراتهم ورؤاهم.

2. التركيز على الجوهر العلمي الشرفي والتقديري لعضوية المجمع ، بحيث تكون مرتبطة بالمساهمة الفعلية في تطوير العلوم والمعرفة.

3. تحديد شروط صارمة للعضوية تُركز على عدة معايير، منها: الإنجازات العلمية والخبرة العملية والسمعة العلمية والنشاطات العلمية والمساهمات في خدمة المجتمع والنزاهة والقابلية الفكرية والقدرة على تقديم خدمات للمجتمع العراقي وعلى تمثيله في المحافل الدولية.

4. تحديد عدد الأعضاء بما يتناسب مع احتياجات العراق وطموحاته في التقدم العلمي والتنمية المستدامة.

5. تنوع تخصصات الأعضاء ليشمل جميع مجالات المعرفة وخصوصا العلمية والهندسية والطبية، التي تعتبر أساسية لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

6. تحديد آلية شفافة لاختيار الأعضاء، تضمن العدالة والنزاهة والمساءلة وحق الاعتراض.

7. توفير الدعم المالي للمجمع لتمكينه من أداء مهامه وتحقيق أهدافه.

اخيرا، تعتبر إعادة النظر في شروط عضوية المجمع العلمي العراقي عملية ضرورية لجعله مُؤسسة علمية فعّالة تُساهم في نهضة العراق العلمية وتُعزز مكانته على الساحة الدولية. وبما يضمن تحقيق رؤية واضحة ومتكاملة للمجمع العلمي العراقي كمؤسسة علمية شرفية وفعالة ومؤثرة، للعضوية دور حيوي في تحقيق هذه الرؤية، فهي تمثل النخبة العلمية والثقافية في العراق، وتساهم في إثراء المعرفة والابتكار والتنمية في مختلف المجالات، وتعزز التواصل والتعاون مع المجامع العلمية العالمية، وتشارك في صياغة السياسات العامة المتعلقة بالشؤون العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ولذلك، فإن اختيار العضوية يجب أن يكون على أساس المعايير العلمية والأخلاقية والمهنية العالية، وأن يعكس التنوع والتخصصية والتميز في مختلف التخصصات العلمية والتقنية والإنسانية والاجتماعية.

***

ا. د. محمد الربيعي

مع تزايد الخطاب المناهض للمسلمين في الغرب، أصبح المزيد من الأوروبيين ينظرون إلى المسلمين على أنهم أقل من البشر. فيما يعترف العديد من الأميركيين عن طيب خاطر بأنهم يعتقدون أن المجموعات الأخرى من الناس "أقل تطوراً".

يمكن التفكير في علم النفس البشري كسلسلة من البرامج العقلية المتداخلة. يقوم أحد البرامج بتعريف الوجوه كأفراد نتعرف عليهم. والأخر هو الذاكرة العاملة، التي تسمح لنا بإجراء حسابات سريعة في رؤوسنا. تم ترميز هذه البرامج بواسطة التطور وتساعدنا على البقاء على قيد الحياة كل يوم. إنها مصادر براعتنا وتعاطفنا، وكل ما نحن عليه. هذه البرامج العقلية - المحفورة فينا جميعاً - هي أيضاً مصادر الرعب والألم.

تدور أبحاث "نور كتيلي" Nour Kteily أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة نورث وسترن Northwestern University "حول فهم واحد من أحلك البرامج العقلية وأقدمها وأكثرها إزعاجاً والمشفرة في عقولنا: التجريد من الإنسانية، والقدرة على رؤية إخواننا من الرجال والنساء على أنهم أقل من البشر. إن علماء النفس ليسوا غرباء على هذا الموضوع. لكن العرف السائد هي أن أغلب الناس ليسوا على استعداد للاعتراف بالتحيز ضد الآخرين.

ابتكر كتيلي وزملاؤه طريقة جديدة لقياس مستويات التجريد الصارخ من الإنسانية للمجموعات الأخرى. تم عرض صورة على المشاركين - وهم عادة مجموعات من الأميركيين البيض - لسلف الإنسان وهو يتعلم ببطء كيفية الوقوف على قدمين ويصبح إنسانا كاملا. ثم يُطلب منهم تقييم أعضاء المجموعات المختلفة - مثل المسلمين والأمريكيين والسويديين - بناءً على مدى تطورهم على مقياس من 0 إلى 100.

كثير من الناس في هذه الدراسات يمنحون أعضاء المجموعات الأخرى درجة كاملة، 100، بشرية بالكامل. لكن كثيرين آخرين يعطون درجات أدنى مما يجعلهم أقرب إلى الحيوانات. يقول كتيلي "لدينا هذه القدرة المذهلة على التعاون، هذا ما يجعلنا بشراً في نواحٍ عديدة. ومع ذلك، لدينا هذه القدرة على تجريد الآخرين".

ويفتح هذا الاستنتاج "صندوق باندورا" من الاكتشافات حول الموجة الجديدة من التعصب تجاه المسلمين والمهاجرين في الغرب وأمريكا، وما يمكن أن تجلبه.

يقول "نيك هاسلام" Nick Haslam عالم النفس البريطاني والخبير الرائد حالياً في العالم في هذا الموضوع: "لا يحدث التجريد من الإنسانية في زمن الحرب فقط. إنه يحدث هنا الآن، وفي كل يوم، يقع الأشخاص الطيبون الذين لا يعتبرون أنفسهم متعصبين متحيزين فريسة لها".

قياس التجريد من الإنسانية مع "صعود" الأمم

في سلسلة من سبع دراسات، استخدم كتيلي وزملاؤه "آدم وايتز" Adam Waytz الأستاذ المساعد في الإدارة والمنظمات، و"إميل برونو" Emile Bruneau من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology، و"سارة كوتريل" Sarah Cotterill من جامعة هارفارد Harvard University، مخطط "صعود الإنسان" Ascent of Man الشهير. لتحديد استعداد المشاركين لتجريد الآخرين من إنسانيتهم بشكل صارخ. يعود تاريخ الرسم التخطيطي، الذي تم تغييره وحتى السخرية منه على مر السنين، إلى رسم توضيحي للكتب التي نشرتها الشركة الأمريكية "الحياة الزمنية" Time-Life من ستينيات القرن الماضي. تُظهر اللوحة خمس شخصيات في صورة ظلّية تم تصويرها على أنها في مراحل مختلفة من التطور - من كائن منحني رباعي الأرجل في أقصى اليسار، يتطور ليصبح إنسان منتصب القامة في أقصى اليمين.

في دراستهم، طلب الباحثون من المشاركين ترتيب المجموعات المختلفة التي تقع على طيف قياس الجدول التطوري.

يقول كتيلي: "إنه بالتأكيد مقياس استفزازي" لكننا أردنا تصوير عملية التجريد من الإنسانية بأكثر العبارات الصارخة والواضحة قدر الإمكان. أردنا التأكد من عدم وجود طريقتين بشأن ما يحدث هنا.

شملت الدراسة الأولى 201 أمريكياً تم تجنيدهم من خلال شركة Amazon Mechanical Turk. عُرض على هؤلاء المشاركين مخطط صعود الإنسان على جهاز الحاسوب يضم ثلاث عشرة جنسية، أو مجموعة عرقية، ودينية مختلفة مدرجة أدناه، وطُلب منهم الإشارة إلى "مدى التطور الذي يعتبرونه العضو العادي في كل مجموعة".

قام المشاركون بذلك عن طريق تحريك شريط التمرير الموجود بجوار كل مجموعة إلى أي نقطة على مقياس صعود الإنسان. وقام الباحثون بتحويل الإجابات إلى ترتيب رقمي من 0 إلى 100، حيث تمثل 100 أعلى نقطة في التطور، وهي الصورة الظّلية المقابلة للإنسان "الكامل".

في النتيجة، احتل الأوروبيون والأمريكيون المركزين الأول والثاني برصيد 91.9 و91.5 على التوالي. وكانت ست مجموعات أخرى على بعد نقطتين من ذلك، وبالتالي لا يمكن تمييزها إحصائيا عن الأمريكيين: السويسريين، واليابانيين، والفرنسيين، والأستراليين، والنمساويين، والأيسلنديين. وسجلت خمس مجموعات درجات أقل بشكل ملحوظ: الصينيون (88.4)، والكوريون الجنوبيون (86.9)، والمهاجرون المكسيكيون (83.7)، والعرب (80.9)، والمسلمون (77.6).

يقول كتيلي: "هذه التصورات متطرفة، ولا تقتصر على الهامش، حيث يكون التأثير لشخص أو لشخصان. يوجد أعداد كبيرة جداً من الناس على استعداد لتجريد المجموعات الأخرى من إنسانيتها"

دراسة أخرى

لعب التوقيت خارج المختبر دوراً رئيسياً في دراسة أخرى. كان المؤلفون يجمعون بيانات حول تجريد الأمريكيين من إنسانيتهم للعرب باستخدام ميكانيكال تورك من أمازون Amazon’s Mechanical Turk  لبعض الوقت. ـ هو موقع ويب للتعهد الجماعي يمكن للشركات من خلاله توظيف عمال موجودين عن بعد لأداء مهام منفصلة عند الطلب وهو مملوك لشركة أمازون.

لذلك، عندما وقعت بعض الأحداث الإرهابية في الولايات المتحدة عام 2013 أتاح ذلك للباحثين الفرصة لجمع بيانات جديدة بسرعة لإجراء دراسة قبل وبعد والسؤال: كيف أثرت التفجيرات على هذه التصورات؟

وفي أعقاب تفجيرات بوسطن، تناقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع أن الإخوة الذين نفذوا التفجيرات كانوا مسلمين. ولأن المؤلفين لم يكن لديهم سوى بيانات حول تجريد العرب من إنسانيتهم (وليس المسلمين) قبل الهجمات، فقد ركزوا مقارنتهم على العرب. وكما لاحظ الباحثون في ورقتهم، على الرغم من أنه ليس كل العرب مسلمين وليس كل المسلمين عرباً، إلا أن الفئتان ترتبطان ارتباطاً وثيقاً في الولايات المتحدة ويتم التعامل معهما في كثير من الأحيان على أنهما قابلان للتبادل.

وبالنظر إلى هذه البيانات، قرر الباحثون إجراء دراسة مماثلة بعد التفجير مباشرة، ووجدوا ارتفاعًا في تجريد العرب من إنسانيتهم على يد الأمريكيين. قبل شهرين من الهجمات، صنف المشاركون العرب في مرتبة أدنى بنحو 10 نقاط من الأميركيين على مقياس صعود الإنسان. وبعد التفجير مباشرة، وجد الباحثون أن العرب حصلوا على مرتبة أقل بنحو 16 نقطة من الأميركيين. ومع ذلك، بعد ستة أشهر، عاد تجريد الأمريكيين من إنسانيتهم للعرب إلى مستوى ما قبل الهجوم تقريباً. من المؤكد أن الارتفاع المؤقت في التجريد من الإنسانية يشير إلى وجود علاقة سببية بين التفجيرات والمواقف تجاه العرب - على الرغم من أن الباحثين استطلعوا مجموعات مختلفة من الناس قبل الهجوم وبعده، ولا يمكن تحديد ذلك بشكل قاطع.

ويبدو أيضاً أن تجريد العرب من إنسانيتهم يتنبأ بمستوى دعم المشاركين لسياسات عامة محددة تجاه العرب. في أعقاب التفجيرات الماراثونية مباشرة، كان أولئك الذين جردوا العرب من إنسانيتهم إلى حد كبير أقل ميلاً إلى حد كبير إلى دعم الهجرة العربية وأكثر ميلاً إلى دعم ضربات الطائرات بدون طيار في الشرق الأوسط. كما ارتبط الدعم العام لـ "مكافحة الإرهاب العسكري" - تدابير مثل التعذيب واستهداف المدنيين والمقاتلين في المعركة - بالتجريد من الإنسانية، إلى جانب الرغبة في الانتقام. وقد تم قياس هذا الأخير من خلال دعم منشور على تويتر يؤكد أن "المسلمين قصفوا بوسطن. نحن ككوكب بحاجة إلى محوهم من هذا العالم. كل واحد منهم"

من هو الأكثر عرضة للتجريد من الإنسانية؟

ووجد الباحثون أيضاً ارتباطات مثيرة للاهتمام بين رغبة المشاركين في تجريد الآخرين من إنسانيتهم وأنواع شخصياتهم. ولتحقيق ذلك، طُلب من المشاركين إجراء اختبارات تقييم الشخصية المستخدمة على نطاق واسع.

وجدت الدراسات وجود علاقة قوية بين فعل تجريد الآخرين من إنسانيتهم و"توجه الهيمنة الاجتماعية" Social dominance orientation (SDO)، وهو ما يعكس اعتقاد الشخص بالفكرة الهرمية القائلة بأن بعض المجموعات متفوقة بطبيعتها على الآخرين. كان الارتباط الأقوى بين التجريد من الإنسانية والنوع الأكثر عدوانية من SDO، والمعروف باسم SDO-Dominance، مما يشير إلى أن التجريد الصارخ من الإنسانية هو وسيلة علنية لتحقيق رغبات بعض الأفراد في إبقاء مجموعات معينة في أسفل التسلسل الهرمي الاجتماعي.

ووجد الباحثون أيضاً ارتباطاً كبيراً ـ ولكنه أقل وضوحاً ـ بين التجريد من الإنسانية والاستبداد اليميني، والذي يتم تحديده من خلال الاحترام القوي لشخصيات السلطة والتقاليد الراسخة، فضلاً عن الحماس لمعاقبة منتهكي القواعد وأولئك الذين يرفضون الامتثال.

يرى وايتز أحد المشرفين على الدراسة أنه "من الصعب القول بأن ما نقيسه هنا ليس المواقف حول ما إذا كان شخص ما أقل من الإنسان". وتشكل نتائج هذا المشروع تذكيراً عاجلاً بأن التمييز الحقيقي لا يزال قائماً ويساهم في العنف السياسي. على سبيل المثال قيام مشجعي كرة القدم في أوروبا برمي الموز على اللاعبين السود أحياناً. يقول وايتز: "كمواطنين عالميين، يجب أن نشعر بالقلق".

يقول كتيلي: "يمثل هذا دعوة للعمل. لا أستطيع أن أقول إن هناك صلة مباشرة بين ما ندرسه وما سيحدث في عالم الأعمال غدا، ولكن بصرف النظر عن الاهتمام الاجتماعي الأوسع، إلى الحد الذي نحن نعلم أن الحرب وعدم الاستقرار يؤثران سلباً على الأسواق العالمية، ولا يبشر بالخير إذا تزايدت هذه التصورات".

التجريد من الإنسانية هو ثغرة عقلية تسمح لنا بإيذاء الآخرين

منذ آلاف السنين، كان البشر يشعرون بألم من القلق عندما يرون صورة ظلّية لقبيلة أجنبية تسير فوق التل. لا يزال لدينا هذا القلق داخلنا اليوم. تقول "سوزان فيسك" Susan Fiske عالمة نفس في جامعة برينستون وخبيرة بارزة في التحيز، إن "ردود فعل الناس التلقائية والمرتجلة تجاه الآخرين الذين يختلفون عنهم بشكل كبير تكون في كثير من الأحيان سلبية". وينطبق هذا بشكل خاص عندما نتعرض لهم بشكل سريع وبأقل قدر ممكن، كما نفعل اليوم عبر وسائل الإعلام. هذه الشرائح الرقيقة تنشط الصراع بيننا، وتُفعل المشفر في أذهاننا منذ فجر البشرية.

لو نظرنا إلى بعض الأحداث الأكثر مأساوية في تاريخ البشرية، سنجد كلمات وصوراً جردت الناس من سماتهم الإنسانية الأساسية. في الحقبة النازية، صور فيلم اليهودي الأبدي اليهود على أنهم فئران. وأثناء الإبادة الجماعية في رواندا، أطلق المسؤولون من الهوتو على التوتسي وصف "الصراصير" التي يجب إزالتها. وفي الحرب على غزة شبه بعض القادة الإسرائيليون الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية".

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أراد علماء النفس أن يفهموا كيف حدثت الإبادة الجماعية. وحصلنا على تجربة الصدمات الكهربائية سيئة السمعة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي الأمريكي الشهير "ستانلي ميلجرام" Stanley Milgram الذي اشتهر بتجاربه المثيرة للجدل حول الطاعة التي أجراها في ستينيات القرن الماضي في جامعة ييل University of Yale. وأظهرت مدى سرعة استسلام الناس للسلطة. وكانت هناك أيضاً "تجربة السجن" التي أجراها عالم النفس الأمريكي "فيليب زيمباردو" Philip Zimbardo الذي اشتهر بتجربته في سجن ستانفورد  Stanfordعام 1971، كان هدف زيمباردو من دراسة سجن ستانفورد هو تقييم التأثير النفسي على الطالب (المُعين عشوائياً) عندما يصبح سجيناً أو حارساً للسجن. والتي تعرضت لاحقاً لانتقادات شديدة لأسباب أخلاقية وعلمية. وأظهرت مدى سهولة قيام الأشخاص في مناصب السلطة بإساءة معاملة الآخرين.

 في جامعة ستانفورد  University of Stanford، أظهر "ألبرت باندورا" Albert Bandura أنه عندما يسمع المشاركون أحد المجربين يسمي موضوعاً آخر في الدراسة "حيوانًا"، فمن المرجح أن يعطوا هذا الموضوع صدمة مؤلمة. إذا كنت تعتقد أن القتل والتعذيب من المحرمات على مستوى العالم، فإن تجريد "الآخر" من إنسانيته يمثل ثغرة نفسية يمكن أن تبررهما.

ومن هذه التجارب، وتلك التي تلتها، أصبح من الواضح أنه "من السهل للغاية رفض قدرة شخص ما على رؤية شخص آخر بإنسانيته الكاملة"، كما يقول "آدم وايتز" Adam Waytz عالم النفس في جامعة نورث وسترن الذي يدرس كيفية تفكير الناس في العقول وتعاونهم مع زميله كتيلي. حتى الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 5 سنوات يرون العالم من منظور "نحن" مقابل "هم".

فقد أجريت تجربة حديثة على مجموعة من الأطفال بعمر خمس سنوات وأظهرت لهم سلسلة من صور الوجوه. الصور كانت لبشر يتم التلاعب بها رقمياً لتبدو مثل الدمى البلاستيكية، أو في مكان ما بينهما. وعندما قيل للأطفال إنهم ينظرون إلى أشخاص من أرض أجنبية، انخفض عدد الصور التي اعتبروها بشرية.

درست سوزان فيسك في جامعة برينستون Princeton university كيف يتم التمييز بشكل موحد ضد المهاجرين واللاجئين في جميع أنحاء العالم. لقد أجرت بحثًا في علم الأعصاب يظهر أنه عندما نجرد الآخرين من إنسانيتهم، فإن مناطق دماغنا المرتبطة بالاشمئزاز يتم تشغيلها وتتوقف المناطق المرتبطة بالتعاطف. وتقول إن الأمر الصادم في النتائج التي توصلت إليها كتيلي من تجربة "صعود الإنسان" هو أن "الناس على استعداد للاعتراف بأن لديهم مقاييس نسبية للإنسانية في رؤوسهم".

باستخدام أداة "صعود الإنسان"، وجد كتيلي ومعاونوه "إميل برونو" Emile Bruneau، و"آدم وايتز" Adam Waytz، و"سارة كوتريل" Sarah Cotterill أنه في المتوسط، يصنف الأمريكيون العرقيون الأمريكيين الآخرين على أنهم متطورون للغاية، بمتوسط درجات في التسعينيات. لكن ما يثير القلق هو أن كثيرين صنفوا المسلمين والمهاجرين المكسيكيين والعرب على أنهم أقل تطوراً.

يقول كتيلي: "عادةً ما نرى درجات تتراوح في المتوسط بين 75 و76 درجة بالنسبة للمسلمين". وهو ما أعتقد أنه كبير على نطاق متطرف للغاية. قام حوالي ربع المشاركين في الدراسة بتقييم المسلمين بدرجة 60 أو أقل. وهذا يدل على أن تصور "الآخر" يشبه قرصاً في أذهاننا يمكن تشغيله. سيكون هذا مثيراً للقلق بدرجة كافية، حول قدرة التجريد من الإنسانية على جعل العالم مكاناً أكثر عدائية. بالرغم من تمتع المشاركون في الدراسة بخيار تصنيف كل مجموعة على أنها 100 مثالية في الاستطلاع، إلا أن الكثيرون لا يفعلون ذلك.

يرتبط التجريد من الإنسانية بدعم سياسات مثل "حظر المسلمين"

في الأشهر التي تلت انتخاب دونالد ترامب رئيساً، أصبح من الشائع بشكل صادم أن يقوم الأمريكيون بتجريد المسلمين والمهاجرين المكسيكيين من إنسانيتهم بشكل صارخ - ثم استخدام العنف ضدهم. لقد بلغت جرائم الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة أعلى مستوياتها منذ عام 2001. في سبعينيات القرن الماضي، توقع عالم النفس الكندي "ألبرت باندورا" Albert Bandura أن التجريد من الإنسانية يؤدي إلى زيادة العدوان. واليوم، يجد كتيلي وزملاؤه شيئاً مشابهاً: إن الاستعداد للتجريد من الإنسانية على مقياس "صعود الإنسان" ينبئ بمواقف عدوانية تجاه العالم الإسلامي.

من المرجح أن يلوم الأشخاص الذين يجردون من إنسانيتهم المسلمين ككل على تصرفات عدد قليل من الجناة. وهم أكثر ميلاً إلى دعم السياسات التي تقيّد هجرة العرب إلى الغرب. إن الأشخاص الذين يجردون المجموعات ذات المكانة المتدنية أو المهمشة من إنسانيتهم يسجلون درجات أعلى في مقياس يسمى "توجه الهيمنة الاجتماعية"، وهذا يعني أنهم يفضلون عدم المساواة بين المجموعات في المجتمع، ويؤيدون سيطرة بعض المجموعات على مجموعات أخرى.

ويستمر الأمر: الأشخاص الذين يجردون الإنسانية من الأرجح أن يتفقوا مع عبارات مثل: "المسلمون هم سرطان محتمل لأمريكا وأوروبا"، و"الهجمات الإرهابية تثبت ذلك: المسلمون يشكلون تهديداً للناس في هذه البلدان".

في إحدى الدراسات، كان التجريد الصارخ من الإنسانيتة للمسلمين والمهاجرين المكسيكيين مرتبطا بقوة بدعم ترامب - حتى عند مقارنته بدعم المرشحين الجمهوريين الآخرين. وخلص كتيلي وبرونو إلى أن البيانات تتوافق مع فكرة أن الدعم لبعض المرشحين الجمهوريين (وترامب على وجه الخصوص) لا يأتي من خطابهم اللاإنساني، ولكن جزئياً بسببه.

يمكن لسياسات التجريد من الإنسانية أن تؤدي إلى بدء دورة من الانتقام والعداء

خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الجمهوري، قام كتيلي وبرونو باستطلاع آراء 200 مسلم في الولايات المتحدة، وطلبا منهم الرد على عبارات مثل، "دونالد ترامب يرى الأشخاص من خلفيات إسلامية على أنهم أقل من البشر"، ودونالد ترامب يفكر في الأشخاص من المسلمين "الخلفية تشبه الحيوانات."

في المتوسط، شعر المسلمون في العينة "بأنهم مكروهون بشدة ومجردون من إنسانيتهم من قبل كل من ترامب والأميركيين غير المسلمين على نطاق أوسع". على مقياس من 1 إلى 7، حيث تشير 1 إلى أن المسلمين لم يشعروا بالتجريد من إنسانيتهم على الإطلاق، و7 تعني أنهم شعروا بذلك بشكل مكثف، كان متوسط المجموعة 5.66، وهو ما يتجاوز علامة المنتصف بكثير. (تم العثور على نتائج مماثلة في دراسة متزامنة أجريت على الأمريكيين اللاتينيين).

لم يكن هذا الاستطلاع مصمماً ليكون ممثلاً على المستوى الوطني لجميع المسلمين الذين يعيشون في أمريكا. بدلا من ذلك، تم تصميمه لمعرفة ما يحدث داخل عقل شخص يشعر بأنه مجرد من إنسانيته.

يشرح إميل برونو قائلاً: "كانت العواقب وخيمة". كلما شعر المسلمون بتجريد ترامب من إنسانيتهم، كلما جردوا ترامب من إنسانيته. وكلما شعروا بالتجريد من إنسانيتهم، قل احتمال قولهم إنهم سيبلغون عن أنشطة مشبوهة في مجتمعاتهم.

ويتنبأ البحث بحلقة مفرغة. إن سياسة ترامب وخطابه يثيران الخوف ويجردان الأمريكيين المسلمين من إنسانيتهم. وهذا يثير رد فعل أكثر عنفاً من بعض الأفراد في المجتمع المسلم. ترامب يرد. وفجأة أصبحت أمريكا بأكملها مكاناً أكثر عدائية وأقل أماناً للجميع، هذا ما خلص إليه الباحثون في ورقة بحثية نُشرت مؤخراً في مجلة Personality and Social Psychology Bulletin.

يضيف برونو "نريد أن نكون حذرين في القول إن أي رد فعل عنيف قد نتوقعه لا يقتصر على الأقليات. في الواقع، أظهرت بعض أعمالنا السابقة أن الأمريكيين أيضاً، الذين يعتقدون أن المسلمين قد جردوهم من إنسانيتهم، هم أكثر عرضة لتجريد المسلمين من إنسانيتهم. نحن نفكر في أن هذا يعمل في كلا الاتجاهين."

يقول بن "هيرزيج" Ben Herzig عالم النفس السريري في منطقة بوسطن والمتخصص في علاج الأشخاص من المجتمع الإسلامي، إن بعض مرضاه يستجيبون بالانسحاب. "عندما يتم تجريد أفراد مجموعة مهمشة من إنسانيتهم، فإنهم يميلون للتراجع إلى دوائر مألوفة حيث يعرفون أنه سيتم قبولهم من قبل أشخاص مثلهم".

كيف يمكن كسر هذه الدورة؟

جزء من السبب الذي يجعل بعض الغربيين يجردون المسلمين من إنسانيتهم هو أنهم يعتقدون أن المسلمين يجردوهم من إنسانيتهم. لكن هذا الافتراض خاطئ.

في كتاب  "داليا مجاهد" Dalia Mogahed مديرة الأبحاث في معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم مع الأكاديمي الأمريكي وأستاذ دراسات الشرق الأوسط  في جامعة جورج تاون في واشنطن Georgetown University "جون إسبوزيتو" John L. Esposito وصدر عام 2008 بعنوان "من يتحدث باسم الإسلام؟ ما الذي يفكر فيه مليار مسلم حقاً" Who Speaks for Islam?: What a Billion Muslims Really Think تعرض مجاهد بيانات من 50 ألف مقابلة مع مسلمين حول العالم. وتجد أن العالم الإسلامي يكن إعجاباً كبيراً بالقيم الأمريكية. "ليس الأمر أن المسلمين لديهم آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة. لا يفعلون ذلك. لكنهم في الواقع يحبون حريتنا ويعجبون بها".

في إحدى الدراسات، أنشأ كتيلي وبرونو مقالاً مزيفاً في موقع "بوسطن غلوب" Boston Globe سلط الضوء على بحث مجاهد. عندما قرأ المشاركون، ومعظمهم من البيض، أن المسلمين معجبون بالفعل بالأمريكيين، فإنهم لم يجردوهم من إنسانيتهم بنفس القدر على مقياس الصعود. هذا التدخل أيضاً بسيط بشكل ملحوظ. لكنه فعال في تخفيض نسبة التجرد. إذا اقتبست نقطة واحدة من هذا المقال، فاجعلها كما يلي: المسلمون لا يحتقرون أمريكا. في نواح كثيرة، فإنهم معجبون بها. كما أنه يساعد في جعل الأميركيين البيض يفكرون في نفاقهم.

 في دراسة قيد المراجعة، وجد برونو أنه عندما يتم طرح أسئلة على الأشخاص البيض مثل: "هل جميع المسيحيين مسؤولون عن تصرفات الكنيسة المعمدانية ويستبورو؟" Westboro Baptist Church وهي كنيسة معمدانية بدائية أمريكية تشارك في خطاب الكراهية ضد الملحدين واليهود والمسلمين والمتحولين جنسياً والطوائف المسيحية الأخرى.

عند طرح هذا السؤال على بعض الأمريكيين البيض، يبدأ بعضهم يرى حماقة إلقاء اللوم على جميع المسلمين في عمل إرهابي واحد. يشرح برونو قائلاً: "إن النفاق غير واعٍ تماماً بالنسبة للناس". (الهدف ليس وصف الناس بالمنافقين، بل جعلهم يدركون ذلك من تلقاء أنفسهم).

بشكل عام، قال جميع الخبراء الذين تحدثت إليهم إن الطريقة الأولى لمكافحة التجريد من الإنسانية هي أيضاً بشكل محبط، واحدة من أصعب الطرق من حيث الإنجاز: ببساطة التعرف على أشخاص مختلفين عنا.

إنه أمر صعب لأن لدينا العديد من الفرص – عبر الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي – للحصول على شريحة رقيقة من التعرض لمجموعات غير مألوفة والتي تنشط برنامج "نحن ضدهم" في أدمغتنا. ولدينا فرص قليلة جدًا للقيام بالعمل الشاق المتمثل في اختراق تلك الانطباعات الأولى والتعرف على الروح البشرية في الداخل.

يقول كتيلي: "أنا لا أتفق مع فكرة أن المجتمعات المتعددة الثقافات يجب أن تكون برميل بارود". مثلما لدينا القدرة العقلية على تجريد الإنسان من إنسانيته، فإننا مجهزون بالبرامج العقلية التي تبني الثقة والتفاهم. الأمر متروك لنا لتشغيلها.

إن التجريد الصارخ من الإنسانية تجاه مجموعات معينة، والاعتقاد بأن مجموعات معينة من الناس أقل إنسانية من الآخرين  لا يزال قائماً\ن وهو أمر حقيقي ومنتشر على نطاق واسع، يثير للقلق ويحتاج إلى دراسة ومزيد من البحث. ويتطلب منا أن نسأل: كيف يمكننا تجاوز هذه التصورات المزعجة للغاية وتحسين المواقف والسلوكيات بين المجموعات البشرية؟

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

Étienne De la Boétie (1530 – 1563)

إحدى أوائل لوائح الإتهام ضد الحكم المطلق

نص: بيار روبار Pierre Ropert

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

تعد "مقالة في العبودية المختارة " إحدى أهم النصوص في الفلسفة السياسية، إنها تطرح تساؤلا بسيطا: لماذا نختار أن نطيع؟ عودة على نشوء كتاب لا يزال موضوع الساعة بعد خمسة قرون من نشره." لماذا نطيع؟ " هذا سؤال طرحه إيتيان دو لابواسي، لتكن مصمما على أن لا تخضع أبدا وستكون حرا ". في القرن السادس عشر، هذه الكلمات بدو لابواسي تضع الأسس لسؤال ظل منذ ذلك الحين يطارد حقل الفلسفة السياسية: لماذا نطيع؟ فإذا كان عدد المحاولات les essais والمؤلفات les ouvrages التي حاولت الإجابة على هذا السؤال عديدة، فإن "مقالة في العبودية المختارة " لإتيان دي لابواسي الصادرة سنة 1576 م يعد مرجعا لا غنى عنه في الفلسفة السياسية المتصلة بهذا الموضوع. في القرن السادس عشر مثل هذا الخطاب لا يبدو واضحا وإن كان دو لابواسي قد نجا من الرقابة، فلأنه كان حريصا على عدم توجيه نقد مباشر إلى النظام الملكي ولا يحيل من خلال الأمثلة المضروبة إلا إلى الفترة القديمة la période Antique. ، " مقالة في العبودية المختارة " يشتمل على لائحة إتهام حقيقية ضد الحكم المطلق، تطرح علاقات الهيمنة: شرعية السلطة الممارسة على السكان ومدى مقبولية هذا الخضوع للسلطة. الكتاب يفاجئك بجودته بآعتبار أن صاحبه شاب ولد في الفاتح من نوفمبر سنة 1530 بسارلات Sarlat في البيريقور le Périgord وقد نشأ في عائلة من القضاة، فإتيان لا بواسي ألف كتابه الأهم وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره ة قد زاول دراسة الحقوق في أورليون Orléans التي كانت معقلا للبروتستانتية الناشئة حيث تلتقي هناك النخبة المثقفة للمملكة وللولايات المجاورة.

1 – عمل مستوحى من القمع:

ما الذي يدفع شابا من البورجوازية الأورليانية orléanaise ليكتب نصا يعيد النظر في السلطة السياسية؟ " مقالة في العبودية المختارة " كتب على الأرجح حوالي سنة 1548 حسب ما قاله طالب الدكتوراه في الفلسفة السياسية، دافيد ميونيخ David Munnich في الحصة الإذاعية " ثلاثاء الكتاب " في مارس سنة 2010.إنها لحظة ثورة الضرائب la revolte des Gabelles في ألجنوب الغربي لفرنسا في غويان Guyenne والتي كانت ثورة عنيفة قام بها الفلاحون ضد سلطة مركزية كانت بصدد هيكلة نفسها. في تلك الفترة حاول الملك فرانسوا الأول توحيد الضريبة وهي أداء ملكي على الملح، إلا أن مناطق المستنقعات المالحة ومن ضمنها الغويان la Guyenne (التي تغطي الجنوب الغربي لفرنسا وعاصمتها بوردو Bordeaux ) تثور، فما يقارب العشرين ألف رجل ينضمون إلى ثورة الملح التي تم قمعها بشكل دموي سنة 1542 من قبل آن دي مونتمورنسي Anne de Montmorency . قبل هذا بقليل عرفت أوروبا فترة ثورية أخرى أشد عنفا وهي حرب الفلاحين في فرنسا وفي ألمانيا سنة 1525.يوضح دافيد ميونيخ أنه في النهاية كان القرن السادس عشر مضطربا وهو على الأرجح ما أثر في لابواسي أثناء كتابته لمؤلفه.

2- " إنه الشعب الذي يستعبد نفسه " إنقلاب في علاقات الهيمنة.

إن نص دي لا بواسي إنتشر أولا " في الخفاء سرا " في الدوائر الثقافية على إعتبار أنه تمرين أسلوبي أو " مقالا تحليليا لشاب " وهو ما جعله غير مسيء وبالتالي السماح له بالإنتشار. في القرن السادس عشر يأخذ هذا النص النقيض المطلق للتمثل الكلاسيكي للسلطة من خلال قلب مفاهيم الهيمنة والإستعباد،حيث يعتبر،تقليديا، أن الطاغية يسعى للسيطرة على الشعب وإستعباده. فحسب دي لابواسي إن المواطنين، في الواقع، هم من يتخلون عن سلطتهم ويسمحون له بأن يسيطر عليهم ويحرمون أنفسهم من حريتهم ليعطوها إلى الطغاة. " إنه الشعب الذي يستبعد نفسه والذي يقطع حنجرته ويختار أن يكون قنا أو أن يكون حرا ويتخلى عن حريته ويفضل نير الطاغية في حين أنه بإمكانه العيش في ظل قوانين جيدة وتحت حماية الدولة / الدول، لكنه يختار أن يعيش في ظل إنعدام الإنصاف القمع والظلم فقط لإرضاء الطاغية.إنه الشعب الذي يقبل هذا الشر أو بالأحرى يطلبه." "هذا المؤلف مخالف تماما لجميع الأطروحات الكلاسيكية للفلسفة السياسية " كما يؤكد ذلك دافيد مونيخ. لا بواسي هو أول من قام بهذا الإنعكاس cette inversion بطريقة قوية جدا، والذي كانت له نتائج خطيرة جدا لأن ذلك مثلا يعني ببساطة أنه في نهاية المطاف لكي تتحرر، لا حاجة لك للتمرد،يكفيك أن تمتنع عن العمل لأنك عندما تكون نشطا تحرم نفسك من حريتك،ولكي تسترجع حريتك يكفي أن تتوقف عن الرضوخ." إنكم تضعفون أنفسكم حتى يكون [السيد] هو الأقوى، ويمسككم بقسوة شديدة باللجام الأقصر.و يكيل لكم من الإهانات التي لا تتحملها الحيوانات نفسها لو شعرت بها. بإمكانكم أن تتحرروا إذا حاولتم ذلك مجرد محاولة، تكفيكم فقط الإرادة. لتصمموا فقط على عدم الخضوع وستكونون أحرارا. لا أطلب منكم أن تطيحوا به، أن تقوضوا حكمه، فقط أن تتوقفوا على دعمه. وسترون أنه [السيد] مثل عملاق عظيم تحطمت قاعدته وذابت تحت ثقله فآنكسر. " إيتيان دي لا بواسي.

3 – " لأنه كان هو، لأنه كنت أنا " لا معنى لدي لا بواسي بدون مونتانيي Montaigne (1533- 1592)

تبقى " مقالة في العبودية المختارة " الأثر الكبير لدي لابواسي ويكاد يكون ذلك هو الوحيد، لولا أنه يبدو أننا عرفنا له نصا آخر هو " مذكرات بشأن مرسوم جانفي 1562 " إضافة إلى السونوتات les sonnets التي ظلت سرية. إن قائمة مؤلفاته بقيت محدودة لأنه توفي وهو شاب سنة 1563 عن عمر ناهز الثانية والثلاثين عاما، ربما كان ضحية مرض السل. فإذا كنا نعرف الكثير اليوم عن مسيرته، فهذا بفضل صداقة متينة أقيمت مع شخصية كبيرة في تاريخ الأدب الفرنسي: مونتانيي Montaigne. لقد إلتقى الرجلان عندما كان كل منهما قاضيا حوالي عام 1557 وقد تولدت عن هذا اللقاء صداقة عميقة أشاد بها مونتانيي مطولا في في مقالاته ses Essais . يقول الكاتب جون ميشال دو لاكومت Jean- Michel Delacompte في برنامج " ثلاثاء الكاتب ": " أعتقد أنه لولا لم يتحدث مونتانيي عن ديلابواسي لن يتحدث عنه أحد اليوم." وأن مؤلفاته وخاصة أثره الرئيسي " مقالة في العبودية المختارة "،فمن المحتمل أن تظل غير معترف بها، إن لم نقل غير معروفة [...] فوفاة دي لابواسي كان الشرط نفسه لكتابة المقالات les Essais . في إحتفائه بصداقته مع دي لابواسي خصص أفضل جزء من الكتاب الأول، الفصل 28 – " عن الصداقة " والذي يقع في منتصف الكتاب وهو فصل مشهور جدا. يقول مونتانيي: " في الصداقة التي أتحدث عنها، تختلط صداقتنا وتمزج فيما بينها بمزيج كوني لدرجة أنه تختفي الخيوط التي نسجتها فلا نجد لها أثرا. فإذا ما ضغط علي لأقول لم أحببته؟ أشعر أنه لا يمكن التعبير عن هذا إلا من خلال الإجابة التالية: " لأنه كان هو، كنت أنا " المقالات les Essais . كان مونتاني يعتقد أن هذه المقالات هي في الأصل المكان المناسب للعمل الرائع لصديقه العظيم، كما كتب ذلك من كان مكلفا بآستقبال أو بتلقي تحفة chef-d'œuvre صديقه الكبير: النص ذائع الصيت " مقالة في العبودية المختارة " ولكن مونتانيي وقع في عجلة من أمره....منذ سنوات تعرض البروتستانت في فرنسا إلى مزيد من الإنتهاكات التي بلغت ذروتها عام 1572 بمذبحة سانت بارتليمي Saint- Barthélemy . إن تحدي السلطة الملكية أصبح حيويا بشكل متزايد وأساسا من قبل المنارشوماك (مجموعة مناهضة للملك وللنظام الملكي ).les monarchomaques، وهم الكتاب البروستنتانيون الذين شككوا في مفهوم الملكية المطلقة وأدانوا الطغاة.منذ سنوات 1550، مازال مؤلف دي لابواسي مسمترا في الإنتشار تحت العباءة خفية ووجد له جمهورا هنا،ففي سنة 1574 نشر لأول مرة بطريقة مبتورة ومجهولة في صحيفة كالفينية un journal calviniste ثم مكتملا تحت إسم الكونترن "....contr'un " بعد ثلاث سنوات. منذ ذلك الحين لا يمكن لمقالات مونتانيي أن تكون علبة جواهر.l'écrin التي تخيل أنه وضع فيها نص " مقالة في العبودية المختارة ". لقد أصبح من المستحيل عليه نشر نص صديقه دون المخاطرة بأن يتم إعتباره أحد المساندين للبروتستينية. إنه بلا شك من أجل ذلك، يؤكد مونتانيي أن دي لابواسي قد كتب كتابه في سن الثامنة عشرة، أو في سن السادسة عشرة، (في حين هناك عديد المؤشرات تتركنا نعتقد أن دي لابواسي كتبه بعد ذلك بسنوات ) ثم حاول التقليل من أهمية النص بالتأكيد على أنه قد عولج في طفولة لابواسي بآعتباره تمرينا فقط وموضوعا مألوفا ومربكا، حسب المؤرخ يوان فينيست كورتاز قادرا Juan Vincente Cortes- Cuadra بالنسبة إلى مونتانيي يتعلق الأمر بإخراج " المقالة " من حالة كونها رسالة نقد جدلية ضد الحكم الملكي وفصلها عن السياق الذي نشرت فيه وتم له ذلك ببعض النجاح فقد ظلت منسية ولم تذكر إلا بشكل متقطع على إمتداد عقود.

4 – في إستمرار راهنية الأثر:

علينا إنتظار مجيء الثورة الفرنسية حتى يخرج عمل دي لا بواسي من متاهة النسيان دون أن يكون ملهما للكاتب جون بول مارات Jean- Jean-Paul Marat في كتابه " سلاسل العبودية Les chaînes de l'esclavage "  سنة 1774. في القرن التاسع عشر أعيد إكتشاف مقالة النقد un pamphlet  لدي لا بواسي آكتسبت سريعا مكانة العمل الفلسفي بفضل إعادة نشرها سنة 1835 من قبل الكاهن والفيلسوف فيليستي دو لامني Félicité de la Mennais. منذ ذلك الحين، سيفرض مفهوم " العبودية المختارة " بآعتباره أحد التساؤلات المركزية للفلسفة السياسية التي ستلهم العديد من الفلاسفة: بيرغسون Bergson، سيمون ويل Simone weil، فليكس جاتري Félix Guattari وحتى جيل دولوز Gilles Deleuze على وجه الخصوص، إهتموا جميعهم بفكر كاتب القرن السادس عشر. ضمنيا يعد دي لا بواسي واحدا من أوائل المنظرين للإغتراب وأصبح، للمفارقة، بالنسبة إلى ممثل النظام العام، مثقفا ومبشرا بالفوضوية والعصيان المدني. بعد أكثر من أربعمائة وخمسين عاما من كتابته لمؤلفه، مازالت الأسئلة التي طرحها دي لابواسي، مستمرة، بطريقة غريبة، ومن مواضيع الساعة. يعتقد البعض أن المجتمع الرأسمالي لا يمكنه الإشتغال دون آليات الهيمنة التي تمت المحافظة عليها بفضل التواطئ النشيط للمهيمن عليهم." نص مقالة في العبودية المختارة يأخذنا إلى عدة مسارات، كلها في النهاية طرق مسدودة يؤكد ذلك دافيد مونيخ، ليقودنا إلى هذا اللغز وهو أن نقول: لماذا لا تتمرد الأغلبية؟.

***

......................

 * نشر هذا النص في مجلة" فرنسا الثقافية France culture " بتاريخ 04 أفريل 2022، قسم الفلسفة.

إذا رأى ماركس أن تاريخ تطور المجتمعات البشرية هو رد مباشر على الظرف الاقتصادي، يؤكد الجيل التالي من الماركسيين (وعلى وجه الخصوص الألمان، وفي المقدمة مدرسة فرانكفورت وما تشعب منها) أن البنية الفوقية تؤثر أيضا بشكل جدلي على البنية التحتية. ولذلك أي حرب على الأرض تقود لحرب اقتصادية أيضا. بمعنى أن التضخم والورم الاقتصادي ليس هو السبب فقط ولكن يمكن أن يكون نتيجة.

ولنضرب أمثلة من الواقع السوري.

بعد انفتاح عام 2000 على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية اندلعت حرب للتحكم بمقاليد السلطة. وأدت لبث الذعر بين رجال الأعمال فأسرعوا بتهريب أموالهم إلى عدة دوائر منها تركيا والخليج العربي والصين. بمعنى أنها دوائر قريبة من ميدان المعركة أو صديقة للنظام ومتحالفة معه. وهذا يؤكد السيناريو الحقيقي لتدفق رؤوس الأموال وما ترتب على ذلك من نهضة عمرانية، ثم تنشيط للسوق والسباق على التأثير بالقرار السياسي.

وبعد أعوام عشرة من الرخاء والسباحة في بحيرة الرفاهية والاستجمام، عاد السوريون لاقتصاد الطوارئ الذي اختنقوا به ثلاث مرات. بعد انقلاب عام 1966.  ثم بعد اضطرابات عام 1979، وأخيرا مع بوادر الحرب الأهلية وتبعاتها.

ولكن هذا لم يفت بعزيمة عجلة الإنتاج السورية. وأصبحت معلومة تفكيك المعامل وتهريبها إلى تركيا مسألة معروفة. وبدأنا بشراء السلع السورية بالدولار، فقط لأن المضيف تركي بينما الحديد (أدوات الإنتاج ورؤوس الأموال واليد العاملة سورية ووطنية مائة بالمائة). وتوسع ذلك أيضا ليشمل القطاع الثقافي، فقد هاجرت أكثر من نصف دور النشر لتطبع من تركيا أو الشارقة أو ألمانيا.

وكذلك هو شأن البضاعة الصينية. وبالأخص النوع الجيد والمكفول. فهو من إنتاج رؤوس أموال سورية مهاجرة.

ويسمي كريس جايلز (باحث من لندن) ذلك باسم اقتصاد الضغط العالي (ويعتقد أنه أحد اختراعات بايدن ليحد من توسع ظاهرة ترامب). ولكن في الحالة السورية هو نتيجة ذعر وخوف رجال الأعمال من السياسة  والاقتصاد الموجه الذي تحتكره الدولة (تحت عدة مسميات). فالتجارة الحرة تتبع عدة خدع للسيطرة على وجدان المستهلك، لأهداف مالية مباشرة وأهداف سياسية مؤجلة. ومثلها التجارة المقيدة (الاقتصاد الليبرالي الجديد) يتبنى مجموعة من الإجراءات ليضمن لنفسه شيئين اثنين: الغطاء الجماهيري - فلا حاكم بلا محكوم. وليحمي هيكلية النظام - أيضا تتعدد الأسماء من نقابة إلى اتحاد إلى مؤسسة أو دولة ويبقى المسمى نفسه.

وأدناه مقال مقتبس من جريدة الاتحاد الإماراتية عن مشاكل التجارة الحرة. وهو ترجمة لخبر موسع نشرته النيويورك تايمز وتؤكد فيه أن لا أحد بمأمن من اندلاع ثورات محلية قد تعزل الأطراف عن المركز - في الذهن مشكلة ولاية تكساس مع الجدار العازل، وانفجار قطاع غزة بعد سنوات من الحكم الذاتي، وقبل ذلك أزمة إقليم بيافرا في نيجيريا (اقرأ عنه مذكرات ومقالات شيماماندا نغوزي أديشي).

***

صالح الرزوق

...........................

نص مقال النيويورك تايمز

لحظة حصاد محصول القطن، داخل أحد الحقول بولاية «كارولينا الشمالية».. مشهد يذكر الأميركيين بما آل إليه قطاع النسيج في بلادهم، المرتبط بمحصول القطن. الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي أثرت بقوة على قطاع النسيج الأميركي، على سبيل المثال، أدت اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، إلى إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات القادمة من كندا والمكسيك، وبدأت شركات كبرى متخصصة في قطاع النسيج نقل مصانعها من الولايات المتحدة إلى المكسيك، ما أثر سلباً على الإنتاج المحلي، وتفاقمت حالة قطاع النسيج الأميركي بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، حيث توجه تجار التجزئة إلى الصين وغيرها من الدول الآسيوية بغرض الاستفادة من العمالة الرخيصة. وحسب تقرير نشرته «نيويورك تايمز» فإن معدل التوظيف بصناعة الملابس في الولايات المتحدة الأميركية قد انخفض منذ عام 1994 بنسبة 65%. ويبدو أن شركات النسيج الأميركية التي صمدت هي في الغالب مملوكة لبعض العائلات، أو بالأحرى شركات قطاع خاص، وتقوم باستمرار بتوجيه الأموال إلى أعمالها لدفع ثمن المعدات الجديدة الباهظة الثمن والأتمتة لتظل قادرة على المنافسة. وينتج العديد منها سلعًا للجيش الأميركي، الأمر الذي يتطلب أن تكون بعض الملابس أميركية الصنع. وبلغة الأرقام، تشير الجمعية الأميركية للملابس والأحذية إلى أن 2.9% فقط من الملابس المبيعة داخل الولايات المتحدة في عام 2022، تم تصنيعها محلياً.

 

  والجنة والنار.. رمزيات..  دين في وطن؟

اهدموا الأسيجة التي بناها الفقهاء باسم المقدس دون حجج وبراهين، المنسوبة لصاحب الكتاب المنزل.. وتحدوا نظريات العمامة الخائبة في تقدير مقادير الزمن.. فلا تصدقوا حاكما اراد من السياسة مكسباً وطنيا للأخرين، وهو يعضكم بالدين.. فهم والله لا يعتقدون في جنة ولا نار، ولا حساب ولا حسيب.. ولا مهدي منتظر، ولا خضر يحضر،ولا مسيح يقين.. بل همهم قتل العقل لاماتة القانون الذي به تفرض على الناس الاستقامة وحكم العدل والقانون.. ومن حكم العدل وصل.. هكذا قالها حمورابي صاحب القانون الأزل.. وهكذا قالها الامام موسى بن جعفر الصادق لهارون الرشيد.. ومن كتب الماكنا كارتا البريطنية الخالدة الأول.. وقالها جفرسن كاتب الدستور والقانون الامريكي.. وغيرهم.. كثير.. أما نحن فالى الوراء در.

 أخترع الفقهاء المسلمون كذبة التاريخ حينما فسروا فلسفة الحياة والموت في العصر العباسي في النص المقدس وحولوه الى حقيقة اعتقادية عند المسلمين ورغبوا وأخافوا الناس بالجنة والنارلينعموا بالعيش الاخروي الرغيد،وعالم أخرللاشرار يعاقبون فيه على نارٍ وقودها الناس والحجارة وما هي الااساطير سومرية من ارض دلمون،وما عقيدة الموت والحياة سوى تصورات دينية فرعونية حولوها الى موازين للعدل الديني في الكون،وفي المسيحية كانت الابدية.. وكلمة جنة كان يرمز اليها بكلمة (يارو)،والنار بكلمة (سج).

وفي العصر العباسي الأول "132-232 للهجرة" خلدوا سلطة الخليفة المنصور العباسي الذي قال: "انما اناسلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده أطيعوني ما اطعتم الله"ليصبح الخليفة الحاكم الباقي بامر الله.. حتى ترسخت خلافته في الاذهان لتصبح عقيدة حينما حولها البويهيون والسلاجقة "334-447 للهجرة" الى قوانين فآماتوا فلسفة الدين...ثم اضافوا للآية الكريمة "اطيعوا الله والرسول.. آلوا الأمر منكم" وكلمة آلوا ليست من ولي بل عامة الناس وضعوها في المقدس ونادوا :" ان الاموات سوف يحاسبون غداً ان لم يطيعوا ولي الأمر الحاكم بأمر الله".. تحذيرا للعامة من السكوت على الخطأ واللاقانون لتصبح الدولة والسلطة ملكاً لهم دون قانون.. وضافوا اليها الجنة ومغرياتها من الرفاهية والجنس وتدمير حقوق المرأة،والنار وما فيها من عذابات السعير.. وما هما الا رموزا لا حقيقة لتخدير الانسان في العقيدة.. فأنشأوا لنا عقيدة أتكالية الدعاء والوهم ،حين ربطوا الحقوق والواجبات بأمر ولي الأمر.. حتى أصبحنا بمرور الزمن خارج التاريخ ولا زلنا.. نعتقد بولي الفقيه والمهدي المنتظر ليملأ الأرض عدلا ولا ندري اصحابه اليوم هم الحاكمون ولماذا لا يعدلون...

ونحن نسأل هل عاد واحد من الاموات منذ ملايين السنين لنراه بأعيننا في حياة الأدميين حياً في وطن "الحجة بالدليل كما قالها علي(ع) أمير المؤمنين ".. وهل شاهدنا ميتا يحاسب ويعذب في القبور والغيب لا يعلمه الا رب العالمين.. (لوكنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء،الأعراف188)...كم هو التحدي منه ومن الفقهاء على الله والدين والناس معاً.من هنا بدأت نكبة العرب والمسلمين حين حرفت مبادىء الدين القويم صاحب الوصايا العشر (151-153 سورة الانعام) الى تخريف.وكل من آمن بهم من المغفلين.. دون اعتراض من الاخرين لورودها بنص مقدس مكين كما يدعون باطلاً دون برهان حي او دليل...

الادبيات الاسلامية منذ البداية طرحت الاسلام عقيدة وسلوكا دون ان تدخل في العمق الفلسفي للعقيدة الاسلامية عندما أستبعدت التأويل العلمي واحلت محله التفسيرالفقهي الناقص المترادف لغةً وتثبيتاً في المعنى.. من غير المؤهلين له ممن سموا أنفسهم بالفقهاء الدينيين.. الذين جاءؤا بعصرٍ لم تكن فيه التسميات الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات لغوية ثابتة فأحلوا المترادفات اللغوية على انها ذات معنى واحد.. لتهذيب النفوس الدنيوية وليست للتهديد والوعيد بنار حامية يتلاقها الميت في البعيد.. واخافوه بعذابات القبر الكاذب الرجيم.ونحن نسأل من منهم دخل القبر وشاهد التعذيب..؟

نحن نقول ان هذه المسلمات بحاجة الى اعادة نظر وفق القانون، لانها عبارات فارغة من محتواها الواقعي ولم تصل الى حل المعضلات الاساسية للفكر الاسلامي التقليدي الذي أوقعنا بنظريات الخطأ والوهم.. مثل القضاء والقدر، والحق والعدل، وتفسير التاريخ دون معرفة فلسفة النص في التآويل.. لذا لم ينتج عن هذا المعتقد فكرا اسلاميا معاصرا يحل مقومات المعاصرة الحديثة شكلا ومضمونا.. فظل الفكر الاسلامي يعاني من اشكاليات تاويل النص لغير صالح الانسان المسلم حتى ادخلوه في الجهالات.. ولا زلنا نعاني التخلف واستغلال الدين تساندهم حكومات السلطة المنتفعة من تجميد العقل.. دون الأخرين..

واليوم تظهر لنا موضة جديدة وهي الأدعية والمزارات والصلوات على النبي في الخالي والبطال، ودعاء يوم الجمعة وما فيه من تخريفات حتى اقعدت الناس عن الهمة والتفكير حين أدخلوها في اليانصيبات والفزورات ومهازل المتقولين "من المرتدين "، ونسوا ان الصلاة في القلوب وليست في مظهرية المتقولين من الخونة والمارقين.الذي أستساغوا أكل الحقوق والتعامل مع الاخرالأجنبي اللامعتقد بدين ضد الشعوب وقتل المناضلين من العلماء والمفكرين اصحاب الحقوق.. ونقل اموال الوطن ووظائفه باسماء أبنائهم والمقربين من اجل التخريب.. لاما هكذا يستحق الرسول ودينه القويم.. التشويه وما جاءت هذه الهجمة المتخلفة الا كرد فعل لحركة نقد الاديان التي عرت المتدينيين من خرافاتهم الذين يغرون الناس بالمال وسلطة القتلة والمجرمين.

الدولة الاسلامية منذ بدايتها عام 11 للهجرة وحتى سقوطها عام656 للهجرة.لم تعرف القانون وسلطة التشريع ومن يخالفها يعتبر مرتدا على الدين مصيره السيف ولاغير.. بل اعتمدت سلطة القبيلة والقوة بلا قانون.. والفتوحات الباطلة ضد البلدان الاخرى بحجة نشر الدين بالقوة والقرآن يقول "لكم دينكم ولي دين" حتى ظلت الشعوب تكره العرب والاسلام كراهية التحريم ، وتقف شعوب بلاد ماوراء النهروالسند وايران في المقدمة، لذا سقطت تلقائيا ولم تنفعها ابدا،الاحاديث المزورة والاقوال الموضوعة لأنها ظلت بلا قانون يحمي الحق للمواطنين.. وهكذا سيسقط كل من يستبعد الحق والعدل والقانون.

بمجيء البويهيين عام 334 للهجرة ومن بعدهم السلجووقيين عام 447 للهجرة.. دخل الاسلام في معترك الوهم التام حين تحولت العقيدة الى مذاهب متناحرة من الفقهاء المتقولين. ومن خلال هذه المستويات ظهر لنا منهج الازدواجية بين السياسة والدين، وبين السلطان والفقيه، متمثلا في التعارض والتقارب بين الاثنين كما نرى عند الكليني 329 للهجرة " في المذاهب في كتابه الكافي المنتحل للأحاديث،وعند الماوردي 450 للهجرة صاحب المذهب المشجع على الاستبداد المتمثل بأهل (الحل والعقد) اذ لا يجوز لغير اتباعة من استلام السلطة دون رأي العامة.وما جر ذلك من انقسام المسلمين حتى أفرغ الدين من محتواه ونقله الى تخريف.. وحين الاعتراض قالوا:"وما تشاؤون الا ان يشاء الله" وكأنهم خلفائه دون الناس في الحقوق.

وتوالت نظريات الاختلاف وشق الصفوف بين المسلمين علناً عند الشيخ المفيد431 للهجرة والشيخ الطوسي (460 للهجرة) من جهة.. وبين الغزالي (505 للهجرة) وابن تيمية من جهة اخرى.. في شرعية الحكم حين ركز المفيد والطوسي على الفكر الامامي الاثنا عشري بينما يركز الفكر الاخر على الضرورات تبيح المحظورات ولا يجوز فصل الدين عن الدولة لانه يعني الفوضى.. وهنا ظهر التحدي بين الرأيين الفقهيين تحديا علميا وفكريا للمذاهب المخترعة منهما، والمقالة والمدرسة التي يجب اتباعها.. فضاع المسلم بين الاراء وتمزقت الوحدة الاسلامية واصبح الوفاق بين العقيدتين اساسيا ساق مجتمع المذاهب الباطلة الى ظهور تيارات الارجاء، والحكم العضوض وما تشاؤون الا ان يشاء الله حكما مبهما دون سند شرعي في التطبيق، حتى اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.فأستبد الضعف في المسلمين واصبحوا لايتمتعون بثقة المذهب المخترع منهم والدين معاً.. فكانت النهاية كما نراها اليوم.

فكيف نستطيع استعادة العلاقة بين السياسة والدين شرعا وتطبيقاً.. وهو يحمل الكثير من التعقيدات الفكرية والفقهية والسياسية التي اصبحت عقيدة عند الأكثرية من المسلمين تساندها سلطة المال والقوة ضد غالبية المسلمين.. لا يمكننا توضيح الصورة المبهمة والمظلمة بين الرأيين الا بتقديم منهج تاريخي علمي حديث لدراسة انماط العلاقة كما في التجربة الصفوية والتجربة العثمانية المتضادة فيما بينهما حين ثبتوا الدين بعقيدتين لا تلتقيان في المبادىء وقيم الدين أبداً.. هذه التجارب التي وضعت سدا عاليا وقويا بين الفكر العلمي،والرأي الفقهي الناقص في التطبيق.

لا نريد ان نوجه سهام الاتهامات المقصودة لأحد لكننا نقول وبكل تأكيد ان الحوزات الفقهية والازهروالزيتونة وفقهاء السلطة ومرجعيات الدين والمنهج الدراسي.. كلهم ساهموا بنكبة العرب الدينية حين حولوا المنهج الصحيح الى مناهج التخريف.. ويقف التفسير القرآني القديم والاقلام التي تلهج به ليل نهار خلف هؤلاء هي التي حولتنا الى كارثة التخلف الحديث.سنكتب آية واحدة أقرأها ايها القارىء ستجد قصدهم في التحريف من اجل السلطة لا الدين.

يؤمن المسلمون ان الدين عند الله هو الاسلام.. ولم تتعدد سوى الشرائع عبر الازمان.اذن لماذا الاختلاف بين الاديان وفي الدين الواحد دون بيان.. الم يكن ذلك مقصودا من السلطة والتابعين لها من الكهان.يقول الحق: وشرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا أليك وما وصينا به أبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتنى اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب،الشورى 13.

كفاية تغليف بالباطل الفقهي المقيت.. نحن بحاجة الى نشاط الاذهان من عقالها،وبداية التفكير في شئون الكون والانسان على اساس من الفكرغير المقيد،والعقل المتعطش الى المعرفة ايضا،على اساس من البحث العلمي لتفسير النص الذي هو اصل كل كشف صحيح.والابتعاد عما دعا الية فقهاؤنا دون تمييز من ان دراسة النص يجب ان لا تخرج عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير وحديث وفقه ولغة، وما الى ذلك ،ظناً منهم ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك هو مضيعة للوقت وصرف الانسان عن عبادة الله.. كل هذه الامور هي التي ادت الى الاستبداد السياسي حين وظف رجل الدين في خدمة السلطة فغاب النقد الحقيقي لواقع التغيير.

ان كل ما يطبع من مدارس الدين من التفسير وعلوم الفقه ومدارس الدين اليوم ومرجعياته الجالسة على الحصير... هو سبب نكبة المسلمين.

هنا العلة في تخلفنا الحضاري عن الأخرين.

***

د. عبد الجبار العبيدي

(والذينَ يَصلون ماأمرَ الله بهِ أن يُوصل ويَخشون ربّهم وَيخافون سوء العذاب) الرعد21

يُعرف الخوف على إنه اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف وهو إجهاد القلب بانتظار ماهو مكروه، وهو عاطفة إنسانية طبيعية وقوية وتأتي كاستجابة حيوية عاطفية عالية وكرد فعل لأمر ما استدعى وجود خطر أو تهديد.

والخوف موضوع البحث هو الخوف من الله الذي يحمل المؤمن على ترك المعاصي، فهو خوف مقترن بحب، فمثلا أنا أحب والدي وأخافُ من زعلهِ، لذا فهذا الخوف يجعلني أبتعد عن كل مامن شأنه أن يُغضب أبي، وهو الحال نفسه فأنا أحب الله وأخاف من غضبه هذا الخوف الذي يجعلني أبتعد عن كل مايُغضبه جلّ وعلا، فهو إذن خوف مقترن بحب وليس خوفا لاجل الخوف، فهذا النوع من الخوف لاتؤدي فلسفته إلى أنجاز بل هو خوف لاطائل منه سوى إقناع المرء لنفسه بإنّه أدى فريضة معينة ليجتنب العقاب وهذا مانسميه بلغتنا الدارجة (إسقاط فرض) .

وقد ورد الخوف بالقرآن الكريم في عدة مواضع وجاء بمعانٍ مختلفة فهناك جملة من الالفاظ تدل على حالة نفسية تعتري الانسان جرّاء سلوك إيجابي أو سلبي، ومن يتبحّر في كلام الله يجد إن الخوف قد ورد بمعناه اللغوي وألفاظه التي تدل كل واحدة منه على حالة معينة، وإن كان بينها قاسما مشتركا إلا إنها تحمل بعض الفروق الدلالية التي يقتضيها السياق القرآني، ونحن في بحثنا هذا إنما أردنا تسليط الضوء على بعض معاني الخوف كما جاءت في القران الكريم، ولعل أبرزها لفظ الخوف بذاته، ولفظ الخشيّة، فاللفظان ليسا مترادفين بل كل لفظ إختص بمعنىً مستقل وسنتناوله بشئ من التفصيل:

أولا (الخوف): وهو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده (الأمن) كما إن الرجاء توقع محبوب عن أمارة مظنونة ومعلومة قال تعالى (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) الاسراء57

ففي هذه الاية ورد الخوف كرجاء لبلوغ الرحمة وهذا الخوف إنما يقوّم به الله من شذَّ وابتعد عن السراط، فهو تخويف للحث على التحرز، قال تعالى (ذلك يخوّف الله به عباده) الزمر 16

فالخوف إذن لفظ واسع الطيف يحتمل الكثير من المعاني والدلالات التي بعضها يأخذ صفته المجازية فيما يأخذ البعض الاخر صفته الوضعية، وتحت بند الخوف تأتي عدة معان وإن ضمنت المعنى نفسه لكنها أخذت مناح شتى مثل:

- الحذر: وهو احتراز عن مخيف، يقال حذر وحذرا وحذرته وحذار: أي: إحذر وهذا اللفظ ورد في القرآن في سبعة عشر موضعا جاء أكثرها بصيغة الفعل كقوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) عمران 28

- الرعب: وهو الانقطاع من امتلاء الخوف، فيقال رعبته رعبا فهو رعب وهو شدة الخوف والفزع، وقد ورد هذا اللفظ في خمسة مواضع كقوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) آل عمران 151.

- الرهبة: يقال رهبت الشئ رهبا ورهبة وهي مخافة مع تحرز واظطراب ، وقد ورد هذا اللفظ في ثمانية مواضع منها خمسة بصيغة الاسم وثلاثة بصيغة الفعل كقوله تعالى (هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) الأعراف 154

- الروع: ويقال أصابه الروع (القلب) ورعته وروعته، وريع فلان أي فزع والاروع الذي يروع بحسنه كأنه يفزع، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بقوله تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) 74

- الفرق: وهو الفزع وشدة الخوف، فيقال فرق فلان إذا جزع واشتد خوفه، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الفعل وذلك بقوله سبحانه بوصف المنافقين (ولكنهم قوم يفرقون) أي يخافون التوبة 56

- الفزع: وهو انقباض ونفار يعتري الانسان من الشئ المخيف، وهو من جنس الجزع، والفزع مفاجأة الخوف عن حدزأو هجوم أو عارة أو ماشابه ذلك، وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه وقد ورد في القران الكريم في ستة مواضع (لايحزنهم الفزع الأكبر) الأنبياء 103

- الهلع: وهذا اللفظ أسوء واشد من الجزع، ولم يرد إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى (إن الانسان خلق هلوعا) المعارج19

- الوجل: وهو استشعار الخوف والتهيّب منه، فيقال وجل يوجل وجلا أي خاف وفزع كقوله تعالى (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الحج 35

- الوجف: وهو الاضطراب، ووجف القلب أي حفق ووجف فلان أي سقط من الخوف فهو واجف، وقد ورد هذا اللفظ في القران إالا مرة واحدة (قلوب يومئذ واجفة) النازعات 8

- الرهبة: وهي انصباب الى وجهة الهرب، وقد تكون هناك علاقة بين الرهب والهرب فصاحبها يهرب لتوقع العقوبة، ومن علامتها حركة القلب انقباضا وانبساطا (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) الأعراف 116

وبعد أن تعرفنا الى الفاظ ومعاني الخوف نأتي اللى لفظ آخر وهو موضوع البحث (الخشية) فما هي الخشيّة؟

إن المعنى الوضعي ل (خشي) هو الخوف فالخشية هي الخوف الذي يشوبه تعظيم وعلم ومعرفة ولذلك خصّ به الله العلماء والعارفين (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فالانسان لايتخلّق بالخشية إلا إذا كان عالما، فالعالم يعلم جيدا قدرات الله سبحانه وتعالى في إدارة الكون، وتفرده بالوحدانية دليل عرفان وامتنان المؤمن حقّا، ولذا نجد أغلب العلماء يتحلون بالايمان والخشية لان الثمرة من العلم الحق هي خشية الله جل وعلا والاقرار بربوبيته، وترتبط الخشية في الكثير من السياقات القرآنية بالتذكر والاعتبار باعتبارها أجمل ميزات الانسان، والتذكير نوعان:

 1- تذكير بمالم يُعرف تفصيله، بل جاء بالفطرة فقد فطر الله الناس على حب الخير ونبذ الشر، فمن جميل التذكير أن يذكرالخير في المأمور به وينهى عن الشر (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55

2- تذكير بما هو معلوم، لكن انسحبت عليه الغفلة والذهول فاستوجب التذكير والتكرار ليرسخ في العقول (فذكّر إن نفعت الذكرى سيذّكّر من يخشى ويتجنبها الاشقى) الاعلى9

وهذاالنوع من التذكير إنما يخصّ به الله من اعتمر قلبه بالايمان وحب الله فاستوجب المتابعة من الله جلّ وعلا بذاته ليذكره من خلال آياته القرانية الكريمة، أمامن ليس لديه أدنى استعداد لقبول التذكير، فهذا لاتنفع الذكرى معه، فمثله كمثل الأرض البور التي لاتُحسن الانبات!

إن التبحر في البيان القرآني يأخذنا إلى آفاقا أكثر رحابة وأغنى معنى وأدق تفصيلا، و لابد لكل منا أن يتفقه في الدين ليعرف مايحلّ له ومايحرّم، إن كان أكلا، شربا، لبسا، تصرفا، معاملة أو اعتقادا، وقد روي عن نبي الله عيسى بن مريم صلاة الله عليه وتسليمه إنّه امتدح أمة محمد فقال (علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء) فلم يقل من العبادة أنبياء لكثرة التهجّد، بل قال من الفقه وهذا مانحتاج إليه بالضبط التفقه بالدين (ليتَفقَهوا في الدّين وليُنذروا قَومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يَحذرونَ) التوبة 122

وإذا تأملنا الآية القرآنية الرائعة (ولمن خافَ مقام ربهِ جنتان)

وقد تعددت الروايات في سبب نزولها، لكن مايهمنا في البحث هو التفسير، فلماذا ذُكر الخوف وليس الخشيّة في هذه الاية الكريمة؟

والحقيقة فبما أن الخشيّة تخص العارفين والراسخين بالعلم، فالخوف هنا جاء ليشمل العامة من الناس العارف وغير العارف، وهذا المفهوم الشمولي للخوف إنما يخص عموم الناس، والخوف إذا عظم واشتد أوجب على الخائف إداء الفرائض، والالتزام بتعاليم الله، وترك المعاصي، والمسارعة الى كل خير ولهذا يكون الفوز والمكافأة جنتان، ومن يدعي إن الافراط بالخوف يأخذ إتجاها آخرا فقد كذب وهذا النوع من الاعتقاد سنده ضعيف وباطنه أوضح من ظاهره وهو التشكيك المغرض والضلالة المبينة والخوف من مقام الله يكون على نوعين:

أولا: الخوف الاعتقادي وهو الخوف الذي قصدته الاية (ولمن خاف مقام ربّه جنتان) فهو خوف التعظيم لله تعالى، والخوف من الوقوف والقيام بين يديه سبحانه جلّ وعلا وهذا ماتجسد في لفظ (مقام) والذي يأتي من القيام بين يدي الله جلّ وعلا، ويسمى هذا الخوف (خوف السرّ) لانه يمثل حالة الاختلاء بين العبد وربّه، وهو الخوف الذي يجعل العبد أوابا إلى الله عند وقوع الشدائد (وزكريّا إذ نادى ربّه رب لاتذرني فردا وأنتَ خير الوارثين) الانبياء89

وتحتمل كلمة (مقام) معنين إثنين في الاية الكريمة:

أولهما يتمثل بمقام الله سبحانه وتعالى في نفس المؤمن ودرجة إيمانه

وثانيهما: يتمثل بمقام المؤمن بين يدي الله جلّ وعلا يوم القيامة عند الحساب وكلا المعنيين يضفي نورانية على الاخر.

ثانيا: خوف الوعيد وهو الخوف من عقاب الله يوم القيامة، قال تعالى (ويخافون يوما كان شرّه مستطيرا) الانسان 7وهو أعظم أنواع الخوف واقواها تهيبا .

وكلا الخوفين يتجسدان في قول الله جلّ وعلا (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) ابراهيم14 فهذان النوعان من الخوف محمودين إذا لم يؤديا إلى القنوط واليأس، لان هذا الخوف دافعا للإنسان للعمل الصالح وجهاد النفس والابتعاد عن نواهي الله، قال تعالى (وأما من خاف مقام ربّهِ ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى) النازعات 40فشرط خوف الله كما بينتها هذه الايات الكريمة هو مخالفة هوى النفس ليكون المصيربعد ذلك جنة المأوى.

ولعل من أسباب الخوف من الله مايلي:

- الخوف من عذاب القب

- الخوف من الناروأهوال يوم القيامة

- الخوف من سكرات الموت

- الخوف من الحرمان من الجنّة

- الخوف من ظلم الانسان لاخيه الانسان

- الخوف من التقصير في ‘داء العبادات

- الخوف من الانجرار وراء ملذات الدنيا

- الخوف من الانشغال عن عبادة الله

- الخوف من زوال النعم

- الخوف من نكث العهود

- الخوف من الموت قبل التوبة

ولذا فإن الخوف من الله بمفهومه العام والخاص إنما يجعل الانسان محددا في تصرفاته وسلوكياته عارفا حدوده الدينية والدنيوية، فتتهذب جوارحه ويستكين قلبه، ويفارقه الحقد والحسد والرياء والنفاق من خلال استيعابه لعاقبة الأمور، ويظهر الخوف من الله جليا في كل جوارح الانسان مثل

- اللسان، بابتعاده عن الكذب والسب واللعن والنميمة.

- القلب، بتطهيره من البغضاء والعداوة والشر والحقد والحسد والكراهية

- الاكل، من خلال اختياره للحلال الطيب

- البصر، من خلال غض البصر وعدم النظر الى ماحرم الله.

- الاقدام، من خلال إختيار الطريق الصحيح وعدم المضي في المعاصي وهذا يدخل تحت بند جهاد النفس، فالعاصي تسوقه قدماه الى المعصية سوقا وكأنما سُلبت إرادته.

اليدين، وهي الابتعاد عن المال الحرام، كأكل مال اليتيم، ومال الغصب، والربا، والمال المسروق، والرشوة، والاختلاس، والسحت بكل أنواعه.

وهكذا نصل الى حقيقة مفادها إن الخوف والخشية من الله من أجمل الفضائل لأن رأس الحكمة مخافة الله، وهي من أجمل منازل القلب المفعم بالايمان والرضا، والخوف المحمود هو ماحل بين الانسان ومحارم الله فالخوف والخشيّة من الفضائل والاثار الإيجابية التي تأتي أ’كلها مرتين مرة بالاستقامة الدنيوية والأخرى بالسعادة الأبدية في رياض الجنان (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 112

***

مريم لطفي الالوسي

 

المقدمة: يعد العراق من البلدان التي تتميز بتعدد ثقافاتها وتشابك مكوناتها السياسية والدينية والعشائرية، وتعود هذه المكونات إلى عدة قرون من التاريخ، إذ تمتزج فيها القوى السياسية والدينية والاجتماعية لتشكل صورة معقدة للغاية، وتلعب المرجعيات الثلاث دورًا رئيسيًا في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، وتتأثر بدورها بتفاعلات داخلية وخارجية متعددة.

وتعتبر المرجعيات الثلاث في العراق، أي السياسية والدينية والعشائرية، من العوامل الأساسية التي تؤثر على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، فهذه المرجعيات تمتلك تأثيرًا كبيرًا في صنع القرارات السياسية وتنظيم المجتمعات والعلاقات الاجتماعية في العراق.

هدف البحث:

يهدف هذا البحث إلى دراسة تاريخ المرجعيات الثلاث في العراق، بدءًا من نشأتها وتطورها وحتى أيامنا هذه، ولو بشكل مختصر، مع التركيز على أثرها في الشأن السياسي والاجتماعي في البلاد.

كما تهدف هذه الورقة إلى دراسة تلك المرجعيات المؤثرة، وتحليل دور كل منها وتأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، مع ذكر استخدام المصادر لتقديم دلائل تدعم الأفكار المطروحة ولتوجيه القارئ نحو دراسات أخرى متعلقة بهذا الموضوع المعقد.

الجزء الأول: المرجعيات السياسية

من المعروف للجميع أن سياسة العراق الحالية تجري في إطار جمهورية برلمانية ديمقراطية فيدرالية ممثلة لكافة قوميات وديانات وطوائف العراق من خلال نظام التعددية الحزبية، أذ تمارس السلطة التنفيذية من قبل رئيس الوزراء لمجلس الوزراء (الشيعي) بصفته رئيس الحكومة، فضلا عن رئيس جمهورية العراق (كردي)، وتناط السلطة التشريعية في مجلس النواب العراقي، ورئيسه (سني).

إذ تلعب المرجعيات السياسية دورًا هامًا في الحياة السياسية في العراق، فهذه المرجعيات تتمثل في الأحزاب السياسية والتي تسعى للحصول على السلطة وتشكيل الحكومة الاتحادية من خلال الانتخابات البرلمانية التي تجري كل أربع سنوات.

 ويشهد العراق منذ سقوط نظام (صدام حسين المجيد 1937- 2006) في أبريل، نيسان/عام 2003 تشكيلًا متعددًا للأحزاب السياسية وتنافسًا شديدًا بينهم، ومن أبرز المرجعيات السياسية في العراق يمكن ذكر كتلة العراقية والتيار الصدري سابقاً، والإطار التنسيقي، تحالف تقدم، تحالف عزم، حركة امتداد، التحالف الكردي (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) حالياً.

وهناك مجالس المحافظات في العراق التي تعد بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، ولهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين الاتحادية التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات.

وتمتد الدورة الانتخابية لمجالس المحافظات العراقية لمدة أربع سنوات تبدأ مع أول جلسة لها، وفقا لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصادر عام /2008.

ويتكون مجلس المحافظة الواحد من عشرة أعضاء، يضاف إليه مقعد واحد لكل مائتي ألف نسمة لما زاد على مليون نسمة، وفقا لآخر إحصائية سكانية تم وضع من خلالها سجل الناخبين، على ألا يزيد إجمالي الأعضاء على35عضواً.

كما أن هناك فروعا أخرى تسمى (مجالس الأقضية) التابعة لكل محافظة، إذ تجرى انتخابات مجالس الأقضية في مرحلة ثانية خلال ستة أشهر من تاريخ إجراء انتخابات مجالس المحافظات.

الجزء الثاني: المرجعيات الدينية

-1 المرجعية الدينية الشيعية:

مصطلح يطلق على القيادة الدينية عند الشيعة الجعفرية - الإمامية / الاثنا عشرية في زمن غيبة الإمام الثاني عشر(المهدي المنتظر)، والمرجع هو عالم مجتهد يتولى أمور المؤمنين ويتصدى لرعاية مصالحهم الدينية والدنيوية كالقضاء وإقامة الحدود وغيرها نيابة عن الإمام المعصوم في زمن الغيبة الكبرى، ولا يتصدى لهذا المقام إلا من قضى عمره في خدمة العلم حتى نال المراتب العالية منه، وقطع شوطا طويلا في الساحات المعرفية المختلفة.

يعتقد الشيعة أن المرجعية في عصر الغيبة الكبرى تكون للفقهاء ولا يجوز لأحد غيرهم تولي ذلك.. بمعني أن على الشيعة مراجعة الفقهاء في المسائل الدينية والقضاء وإقامة الحدود وغير ذلك.

وعوداً على حالة التغيير بعد عام / 2003م، وما فرضه الظروف على المرجعية الدينية من مسؤوليات كبيرة، منها مراقبة العملية السياسية والعمل على رعاية النسيج العراقي، وهذا تطلب توازناً كبيراً في النظر إلى ذلك، إذ ان المسؤولية تحولت إلى قضية قلق من ردات الفعل الانتقامية، والحذر من استغلال صمت وصبر الأكثرية، فتحملت المرجعية ثقل المسؤولية وبدأت بتوجيه التوصيات المستمرة لرعاية العملية الديمقراطية التي ترعى جميع المكونات، بدءاً من إقامة دولة مدنية تُّحفظ فيها الحقوق من خلال الصندوق الانتخابي إلى عملية المحافظة على القرار المشترك وعدم تهميش الأخرين .

وعندما سُئل سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني عن شكل نظام الحكم أجاب: (النظام الذي يعتمد مبدأ الشورى والتعددية واحترام حقوق جميع المواطنين)، وأجاب في مورد اخر: (شكل العراق الجديد يحدده الشعب العراقي بجميع قومياته ومذاهبه والية ذلك هي الانتخابات الحرة المباشرة) .

2- المرجعية الدينية السنية:

لم تكن هي المرة الأولى التي يتم فيها محاولة إنشاء مرجعية دينية سنية في العراق، كانت أحدث تلك المحاولات في عشرينيات القرن العشرين، حينما حاول الإنكليز جمع أتباع السنة في العراق تحت قيادة (عبد الرحمن النقيب1841- 1927) رئيس المجلس التّأسيسيّ الملكيّ العراقيّ ورئيس أوّل حكومة عراقيّة في العصر الحديث ونقيب أشراف بغداد.

تواصلت تلك المحاولات في الفترات السياسية التالية، أذ استمرت الجهات الحاكمة في البحث عن شخص قريب منها لتكليفه بهذه المهمة، قد يكون السبب وراء ذلك هو أن هذه الفئة غير مهتمة بمسألة السلطة الدينية، أذ يعتبرون النصوص الدينية المنزلة والسنة النبوية كافية لفهم تعاليم الدين الإسلامي .

بالإضافة إلى ذلك، لم يكن لإنشاء مرجعية دينية لأهل السنة من قبل السلطات موافقة الغالبية العامة، نظرًا لعدم وجود حاجز نفسي أو شرعي بينهم وبين السلطات الحاكمة، وكانوا يرون أن الدولة العراقية ليست دولة دينية، وبالتالي فإن السلطات غير مرتبطة بهذه الفئة أو تلك.

على العكس من الشيعة الذين منعوا حكم مرجعيتهم الدينية من المشاركة في السلطة، إلا إذا تولوا الحكم ووجدوا قائداً شيعياُ.. لذا، كان موقف جمهورهم وعلمائهم معارضًا تمامًا لأي رجل دين يقترب من السلطة، حتى لو كان مدعومًا من السلطة نفسها، فهم يستبعدونه ويحاربونه ويطيحون به دينيًا واجتماعيًا، بالإضافة إلى أن اختيار مرجعيتهم الدينية يتم وفقًا لضوابط محددة.

بعد العام / 2003، حدث تغير كبير في الوضع السياسي في العراق، سواء لأتباع السنة أو الشيعة، لقد ظهر العنصر الطائفي بشكل حاسم في الحياة السياسية والاجتماعية، إذا كان لديك مرجعية دينية، فأنت مهم، رغم أن زعامات القبائل أصبحت معروفة لدى السنة أكثر من أي وقت مضى، وحاولت دمج العمل السياسي مع الزعامة القبلية.

 إلا أن العمل السياسي في العراق بعد هذه الفترة أصبح مطلوبًا أن يكون معتمدًا من الناحية الدينية، لكي يحصل على قبول من الجانب الآخر، نظرًا لتعدد المجتمعات والمكونات الموجودة، وليس وجود مجتمع واحد.

مع استمرار الفشل في تشكيل سلطة دينية للسنة بنفس طريقة الشيعة الدينية، أصبحت هناك العديد من الهيئات والشخصيات السنية التي تدعي أنها السلطة الدينية، مثل (المجمع الفقهي العراقي) و(دار الإفتاء لأهل السنة والجماعة)، و(جماعة علماء العراق)، و(دار الإفتاء في العراق) .

 أختار البعض من هؤلاء أن يكونوا تابعين لرئيس الوزراء العراقي الأسبق، مثل (الشيخ مهدي الصميدعي) و(خالد الملا)، اللذين لم تكن لديهم أي مشكلة في تأييد العملية السياسية ودعم كل خطوة تؤدي الى الوحدة الوطنية وللم الشمل العراقي، ويعتقد أن (عبد اللطيف هميم)، الذي تم منحه هذا المنصب سابقًا، قد حاز على استحسان السلطات والثناء عليها، كذلك عبد الغفار العباسي السلفي المعتدل والذي تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة، وأخيرا مشعان الخزرجي.

وتشكل تلك المرجعيات الدينية جزءًا هامًا من الهوية والتشكيل السياسي في العراق، فالعراق يعتبر مرجعية كبيرة للطائفة الشيعية الجعفرية، تعمل على توجيه المؤمنين وحماية حقوقهم، كما يتواجد في العراق أيضًا مرجعيات دينية سنية تمثل طائفة الإسلام السني، وتقوم بممارسة الأنشطة الدينية والقانونية وتلعب دورًا هامًا في توجيه المجتمع السني في العراق.

3- المرجعيات الدينية الأخرى:

تحتل المسيحية المرتبة الثانية في العراق بعد الإسلام من حيث عدد معتنقيها، وتليها ديانات أخرى مثل الصابئة والشبك واليزيدية والكاكائية والبهائية والشيخية والزرادشتية، ووفقًا للدستور العراقي، تعتبر المسيحية دينًا معترفًا به وهناك 14 طائفة مسيحية معترف بها ويسمح لها بممارسة شعائرها في العراق.

ويعبر المسيحيون العراقيون هم أقدم طائفة مسيحية في العالم، وغالبيتهم من الآشوريين الشرقيين الناطقين باللغة الآرامية، وهناك أيضًا أعداد صغيرة من المسيحيين الأرمن والتركمان والأكراد والعرب، يعيش هؤلاء اليوم بشكل رئيسي في المدن والمناطق الآشورية مثل بغداد والموصل والبصرة وأربيل ودهوك ودهوك وزاخو وكركوك وسهل نينوى في الشمال.

ويتلخص عمل تلك المرجعيات بالاتي:

- تعزيز الحوار والتفاهم: المرجعيات الدينية تقوم بتعزيز الحوار والتفاهم المعرفي والثقافي بينها، من خلال تنظيم المنتديات الحوارية والندوات التي تجمع بين الأئمة والعلماء من مختلف المرجعيات الدينية لمناقشة القضايا المشتركة وبناء الثقة وتعزيز التعاون المشترك.

- التصدي للتطرف: يجب على المرجعيات الدينية أن تبتعد عن التأثير السياسي والمساهمة في نشر الفكر المتطرف والتطرف الديني، ويُفضل أن يلتزم المرجعيات بتوجيهات الدين الحنيف والتعاليم الوسطية التي تدعو للسلام والتسامح وتجنب العنف الديني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تدريب المشايخ والعلماء على القضايا المصيرية ومواكبة المستجدات العالمية.

- نشر ثقافة الوسطية والتسامح: يجب على المرجعيات الدينية أن تعزز ثقافة الوسطية والتسامح ونشرها بين الناس، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق توفير الخطب والمحاضرات التوعوية والتثقيفية التي تعزز التلاحم والوحدة والتآخي .

الجزء الثالث: المرجعيات العشائرية

واجه المجتمع العراقي تراكمات من التراث التقليدي تتنوع في أشكالها ما بين الأسرية والقبلية والعشائرية والطائفية والعرقية، وقد أثرت هذه التراكمات في أنماط الحياة والسلوك المجتمعي في البلاد على مدار سنوات عديدة على الرغم من جهود المجتمع المدني والثقافي في تحويل تمسك الشعب بفكرة الدولة بدلاً من الانتماء العشائري خلال مئة عام من تاريخ العراق الحديث.

واقع القبائل التي أصبحت بديلاً عن الدولة هو نتاج تحكم قوى غير مؤسسية في البلاد، وقد تشكل ظاهرة يصفها الباحث العراقي الدكتور (سلمان رشيد محمد لهلالي) بـ "ظاهرة التمركز الإثني والمذهبي والقبلي" والتي تتمثل في امتلاك الأشخاص الميل لتفضيل جماعتهم على باقي الجماعات دون سبب منطقي أو موضوعي، وبمعنى آخر، فإن الأفراد ينظرون باستعلاء ودونية إلى الجماعات والقبائل التي تتناقض معهم، معتبرين قيمها وتاريخها ورموزها وأنماط حياتها نمطًا من البدائية والتخلف والسذاجة.

في العراق، تعتبر القبائل وتفرعاتها العشائرية من أهم القوى التقليدية التي تعيق مشروع تحديث الدولة، أذ تحاول الطبقة الحاكمة المكونة من المثقفين والمفكرين التنويريين، والسياسيين المثقفين، والحركات الفكرية، وقوى المجتمع المدني، والأحزاب، فرض نموذج حديث للدولة.

ويوافق العديد من الباحثين العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية والعشائرية، على أن الطبقات الحاكمة في بداية تأسيس النظام الملكي وحتى العهد الجمهوري الأول (1921 -1963) تجاوزت خصوصية المجتمع العراقي وتحكمه، الذي كان يعتمد على القيم العشائرية والنسبية والمناطقية.

فقد سعت هذه الطبقات إلى تحديث الدولة وتمكينها على أساس التنظيم المؤسسي، على غرار المجتمعات الغربية التي لا تولي اهتمامًا للعشيرة والقبيلة، وبذلك، فإنها تحقق تمثيل حكومي أو تبدأ بالمشاركة في الحكم.

ويشير البعض إلى تجربة (مجلس الأعيان) في العهد الملكي السابق(1921-1958)، أذ تم إنشاء هيئة تمثيلية رمزية للمجتمع العشائري بناءً على طلب من البريطانيين الذين كانت لديهم وكيل سام على السلطة الملكية.

وحتى ثورة يوليو (تموز) 1958، وهي المرحلة التي شهدت نشأة العراق الحديث وانتقال السلطة من العثمانيين إلى العراقيين بدعم من بريطانيا، واكتشاف ثروات النفط، ونمو الدولة وتطور مؤسساتها.، ثم تلاها الفترة الجمهورية التي شهدت تصاعد الصراع على السلطة وظهور ظاهرة الانقلابات العسكرية والاغتيالات التي شاركت فيها الأحزاب القومية والعشائر على حد سواء.

أن العشائرية كانت مسيطرة على المجتمع العراقي في بداية القرن العشرين، أذ كان أكثر من 70 في المئة من السكان هم أبناء الريف وعشائرهم، بينما كانت نسبة سكان المدن لا تتجاوز بين20 و25 في المئة، ولا توجد فئة واحدة لأداره الدولة أو حزب واحد أو قائد ضرورة من أبناء المدن في ذلك الوقت.. وقد ظهر ذلك لأحقاً حينما سيطر أبن قرية العوجة / صدام حسين على دفة الحكم في بغداد مع أبناء عمومته عام/ 1980، وازاح رفاقه من الساحة السياسية، فأصبح العراق تديره القرية مرة أخرى .

وقبل ذلك كانت الجالية اليهودية أكبر جالية في بغداد مقارنة بالشيعة والسنة والمسيحيين. وقد كانت المدينة في عهد الدولة العثمانية تحتمي بالدولة وتحميها من سطوة العشائر المتنفذة، ولكن مع وصول البريطانيين، تحول دور المدينة إلى قاعدة رئيسية للحكومة البريطانية، وكان العديد من أبناء المدن هم الذين يشغلون المناصب الحكومية في بغداد والحكومة المؤقتة، بينما لم تكن للعشائر دور كبير في ذلك الوقت.

الجزء الرابع: الفقه المقدس

يتوجب علينا أن نفهم أزمة الفقه المقدس الموروث والتفسير الذي أصبح يشكل عبئًا علينا، وكذلك على العالم الإسلامي بأكمله، لأن البعض منه أصبح غير مناسب لثقافتنا وظروفنا الحالية.

 وتبدأ أزمة الفقه الإسلامي من خلل في المنهج، أذ ارتكب بعض الفقهاء خطأً عندما فهموا السنة النبوية على أنها مجرد حديث نبوي فقط، ففتحوا لنا الباب لنسلك فيه وأعطونا مفتاح الاجتهاد لكي نتحرك ضمن حدود وزمان بدايات الدعوة الإسلامية، بعيداً عن الظروف الموضوعية التي نعيشها.

ومن المعروف أن التشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله، وأعطانا الله هذه الحدود لنعمل ضمنها، إذا أردنا الخروج من هذه المشكلة، يجب أن نتفاعل بشكل جديد مع طروحات القرآن والسنة النبوية باستخدام معرفتنا الحالية.

ويجب أن نفهم بأنفسنا ولا نحتاج إلى أشخاص يفهمون عنا، وأي محاولة لتطبيق الفقه وأحكام الشريعة على أساس أن الإسلام هو مجرد موروث من كتب الفقه والتفسير وأن حدود الله تشريع ثابت، فإن هذا الاعتقاد فوضى وخداع وضياع للوقت والجهد.

وهذا الاعتقاد يعطي الانطباع أن الإسلام لا يناسب كل زمان ومكان، والاستمرار في هذا الاعتقاد سيؤدي إلى ضياع الأشخاص الذين يتبنونه على المدى القريب أو البعيد، لأن الحياة لا تنتظر أحد ولا تتعاطف مع أحد.

الإسلام هو دين عالمي يناسب كل زمان ومكان بغض النظر عن آراء الناس وجهلهم، إنه يصلح بمفهومه الحقيقي وليس بمفهومهم الخاطئ. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" وأن أكثر الفقهاء لا يفهمون، وأغلب رجال الدين لا يدركون.

وبعد عصور تجنب الفقهاء ذكر كل ما تعلق بذاك الوقت تجنباً للفتنة بين المسلمين فسقطت حقبة نفسية بأكملها في ضمير التاريخ تاركة حزناً عظيماً مبهم القسمات لا يحتمل أحد التفكير بفتح الباب له خوف الغرق.

وبعد زمن مضى، تجنب العلماء ذكر كل ما يتعلق بتلك الحقبة، حتى لا تحدث فتنة بين المسلمين، تقطعت نفسية تلك الفترة من ذاكرة التاريخ، وتركت حزناً كبيراً وغامض الأطوار لا يمكن أن يتحمل أحد فتح النقاش فيه خوفاً من الغرق في المشاكل.

وكانت هناك تحفظات في التحدث بين الناس عن علي والحسين وآل البيت الأطهار، حتى يتجنبوا اتهام الناس بالتشيع، أو اتهامات بإثارة الانقسام والفتنة وغير ذلك من الجوانب، ولنكن أذكياءً ونترك القرن الرابع والخامس الهجريين وشأنهما ونعيش الآن في سلام دائم آمنين .

وكما قال المفكر الروسي (لينين 1870- 1924 م) قولته المشهورة: "المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثر قدرة على تبريرها".

الجزء الخامس: الاستنتاجات

تعتبر المرجعيات الثلاث /السياسية والدينية والعشائرية / أحد العوامل المؤثرة في حياة المجتمع العراقي، فالعراق يتمتع بتنوع ثقافي وديني وعرقي، وتاريخه مليء بالصراعات والانقسامات السياسية التي أثرت على تشكيل الهوية العراقية والقوى الحاكمة في البلاد.

وفهم دور المرجعيات الثلاث في الحياة السياسية العراقية يساهم في فهم ديناميكية القوى وأطراف النزاعات في البلاد، وتُعتبر المرجعيات الدينية في العراق واحدة من أهم القوى التي تؤثر في السياسة العراقية والقرارات الحكومية.

 فهناك حاجة لاستخلاص استنتاجات مطلوبة من هذه المرجعيات بغية تعزيز الوحدة والاستقرار في العراق، وتعتبر هي عناصر أساسية في بناء وتشكيل الهوية العراقية، وتمثل مكونات مترابطة ومتلازمة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للعراق.

والدين الاسلامي ليس ديناً وراثياً تتناوبه قبيلة قريش الإسلامية عائلة بعد عائلة الى يوم الدين كما جرى أرض الواقع من (عام 11 هـ تاريخ أستلام الخليفة أبو بكر الصديق- رض - الحكم / حتى عام 656 هـ تاريخ سقوط الخلافة العباسية في بغداد) .

ولو افترضنا أن هولاكو لم يزحف على بغداد وصالح الخليفة العباسي المستعصم بالله (640-656هـ) هـ لأستمر حكم بني العباس الى عصرنا الحاضر، ولشاهدنا من خلال القنوات الفضائية الخليفة العباسي يتجول في مولات بغداد وخرسان ومرو وبيده موبايل i.ph 15.

والنقطة المهمة التي يجب أن نشير لها، هو ان الآيات القرآنية "ثابتة المحتوى ومتغيرة في تأويلها مع الزمن عبر الاجيال"، ولذلك ان الرسول الأكرم محمد (ص) لم يؤوله لأنه لا يعلم ما في الغيب، قال "ما يعلم تأويله الاّ الله"، وان النقطة الاخرى يجب ان نميّز بين الانتاج البشري وآيات رسالة السماء، اي بين الانتاج الفقهي والآيات القرآنية.

اذاً المشكلة في هؤلاء الذين يسمون انفسهم رجال دين هم الذين يرفضون كل شيء علمي وعقلي يتطابق مع رسالة السماء.

انهم يعتمدون على "النقل" بدلاً عن "العقل" ولذلك نحن نراوح في مكاننا وسنبقى على هذا المنوال الى يوم الدين إلاّ اذا حدثت معجزة.!! .

والمعجزة التي ينتظرها المسلمون هي ظهور (المخلص) القادم من السماء أي ظهور الإمام المنتظر الذي يملْ الأرض عدلا وقسطا بعد أن ملئت ظلماً وجورا.. كما يثقف عليها الكثيرون .

وكما قال الباحث والمفكر العراقي الأستاذ (ماجد الغرباوي 1954) في كتابه (مدارات عقائدية ساخنة) .. (إن انتظار الأنسان لمن يخلصه تعبيرأخرعن عجزه وضعفه، وتكاد القناعة بالمخلص لدى بعض الناس أقوى من أي قناعة أخرى).

 أن المذاهب الإسلامية قبل عصر (الإمام جعفر الصادق) وبعده كانت أكثر من مائة وخمسين مذهباُ سنياً يقابله نفس العدد أو يزيد شيعياً، ولكنها أضمحلت وتقلصت الى ما هو عليه نتيجة ضغط الحكام وأهوائهم ومصالح الدولة الحاكمة، حتى أصبح عدد مذاهب المسلمين الموجودة في الوقت الحالي والتي لها انتشار واسع في المجتمع الإسلامي سبعة مذاهب كبرى فقط، منها خمسة مذاهب سنية واثنتان شيعية، وسوف نقوم باستعراض أسماء هذه المذاهب على النحو الاتي:

المذهب المالكي: وسمي بهذا الاسم نسبة الى مالك بن انس.

المذهب الحنفي: نسبة إلى ابو حنيفة النعمان.

المذهب الشافعي: نسبة إلى محمد بن إدريس الشافعي.

المذهب الحنبلي: نسبة لأحمد بن حنبل.

المذهب الظاهري: نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي.

المذهب الجعفري: نسبة الى الإمام جعفر الصادق.

المذهب الزيدي: نسبة الى زيد بن علي .

وأنا أتساءل متى تتوحد هذه المذاهب وتندمج مع بعضها البعض، لتكون مذهب أسلامي واحد أساسه القرآن والسنة النبوية المعتبرة والذكاء الاصطناعي، بعيداً عن طروحات الموتى/ الترمذي وأبن ماجه والبخاري ومسلم والكليني والصدوق والطوسي والمفيد وغيرهم من منظري ومحدثي الدين.

حتى نتخلص من شرور أفكار المؤرخ البريطاني، صاحب - نظرية تفتيت العالم العربي والإسلامي - (برنارد لويس 1916- 2018) القائل: (إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضرهم....ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية).

***

شاكر عبد موسى/ العراق

...........................

المصادر

- كتاب/ مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني / ماجد الغرباوي وطارق الكناني/ أصدار: مؤسسة المثقف العربي، سدني- أستراليا / نشر وتوزيع دار أمل الجديدة، دمشق- سوريا، الطبعة الثانية.

- ابن القيم الجوزيّة – كتاب/ الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة – تحقيق محمد جميل غازي- مكتبة المدني – 1977- ص 17.

- د. عدنان عويّد، كاتب وباحث من سوريّة/ الإرهاصات الأولية للمشروع السياسي في الخلافة الإسلاميّة/ صحيفة المثقف الصادرة في سدني/ أستراليا 27 نيسان 2023. https://www.almothaqaf.com/inde.

- صحيفة القدس العربي/ تشكيل مرجعية للسنة في العراق.. محاولات فاشلة/ د. مثنى عبد الله، 18 يوليو، تموز/

 2016. https://www.alquds.co.uk/writers/%D9%85.

- موقع ويكي شيعة/ المرجعية الدينية

/https://ar.wikishia.net/view/.

Independent*عربية/ قصة نفوز العشائر ونظام الحكم في العراق/ صباح ناهي/ 6 مارس، أذار/ 2023.

https://www.independentarabia.com/.

- موقع الحرة/ قبل أسبوع من الانتخابات .. ماذا تعرف عن مجالس المحافظات في العراق/ 12 ديسمبر كانون الأول/ 2023.

https://www.alhurra.com/iraq/2023/12/12.

- موقع الحوار المتمدن/ الطقوس الحسينية والهوية الشيعية في العراق/ د. سلمان رشيد محمد الهلالي/ العدد 7027، 22 أيلول/ 2021.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?a.

 

إنَّ من أهمّ الخصائص التي ينبغي أن يتميّز بها المثقّف عن غيره، أنّه كائنٌ مُتَمرّدٌ على السُّلطات في أغلبِ الأحيان، وهذه الخاصيّة متأتية من كونه يمتلك هوساً نقديّاً كبيراً يجبره دائماً إلى أن يكون توّاقاً إلى بلوغ الحقّيقة من جهة، ومن جهةٍ أخرى النّظرة الإزدرائيّة التي ينظر من خلالها أصحاب السُّلطة إلى المثقّف في أغلب الأحيان، ومن هنا فلا يُمكن له - أيّ المثقّف - الانصياع أو الانحياز لغير سلطة المعرفة والإصلاح والتّغيير نحو الأفضل.

فهل هناك نهاية لهذه القطيعة الجدليّة وردم هذه الهوّة بین المثقّف والسُّلطة، وإمكانيّة البحث عن منطقة اشتغال مشتركة؟ وكيف يتأتّى ذلك؟

فالمثقّف يعتبر نفسه مجبولاً على الانفلات من كلّ قيود السُّلطة وسلوكيّاتها ومناطق فاعليّتها، معتقداً أنّ الحِسّ النّقديّ الذي ينماز به لا يسمح له مُطلقاُ بالمواءمة والتّحالف معها. والسُّلطات من جانبها تستشعر فوقيّة كبيرة - ومقيتة - وهي تتناول الشّأن الثّقافيّ، تجبرها على عدم الظّهور إلّا بصورة السّلطان الذي ينبغي أن ينصاع الجميع لأوامره ويؤدّي فروض الولاء والطّاعة أمام هيبته وسطوته، وأنّ محاولة تجسير العلاقة مع المثقّف قد تُفَسّر على أنّها شكلٌ من أشكال التّنازل والانهزام!!

وتأسيساً على ما تقدَّم، ينبغي الخلوص إلى منطقةٍ وسطی تجمع الطّرفين وتحثّهم على العمل المشترك، من أجل تحقيق الكثير من الغايات النّبيلة، وذلك من خلال إصغاء السُّلطات إلى صوت المثقّف والاكتراث بمشاريعه وتطلّعاته، فضلاً عن التّركيز على أهمّيّة حضوره النّقديّ بعيداً عن ممارسات الاحتواء والالتفاف البغيضة، التي تُمارسها بعض الجهات وهي تستهدف تجيير المثقّف وأدلجته، بل وتسييره للعمل في مناطقٍ محدّدة سلفاً بما يتوافق مع مصالحها.

لذا، فمن الضّروريّ جداً أن ينتبه المثقّف إلى أهمّيّة احتفاظه بميّزاته النّقديّة المُتمرّدة أثناء تعاطيه مع السُّلطة، وهذا ما يُحتّمهُ عليه الضّابط الأخلاقيّ والثّقافيّ. ومن الضّروريّ أيضاً أن تعمل السّلطة جاهدة على أن يحتفظ المثقّف بكلّ خصائصه ومَلَكاته ونَزَعاته، وأن تدرك جيّداً بأنَّ الحاجة إلى المثقّف لا تستقيم في حالة تجريده من نزعة النّقد والتّمرُّد، لأنّها محور الأداء والعطاء فيه.

وكذلك لا بدّ أن يُدرك المثقّف بأنّ من أهمّ مصاديق الفكر، أو لنقل تَمَثّلاته، هو أنّه من أهمّ الفنون التي تُسهم في صناعة العقل، وهنا سيكون المُفَكّر ممن يَتَحكّمون بالمصائر، شَريطة أن لا يُمارس التّفكير نيابةً عن الآخرين ولا يؤمن بذلك أبداً..

بمعنى آخر، عليه عدم الإيمان بأنّ النّاس مُجرّد أدوات استهلاكيّة لأفكاره أو للأفكار التي يطرحها عليهم بُغية التّرويج لها، ويجب على المُفكّر الخروج من عُقدة التّعالي على النّاس، وأن يزرع الثّقة فيهم، ولا بدّ أن يؤمن ويُدرك بأنّهم ليسوا الأتباع الذين عليهم السّمع والطّاعة دائماً، وأنّ مَن يودّ أن يكون مُفكّراً بين النّاس، عليه أن يهبهم القدرة ليس فقط على تقبُّل أفكاره وتداولها، بل لا بدّ أن يسمح لهم بالتمرُّد عليها، فضلاً عن مناقشتها وتصويبها، وكذلك من يسعى لتحرير النّاس فكريّاً، عليه أن يؤمن بضرورة أنّهم قد يكونوا يوماً ما، ندّاً له ولأفكاره.

***

علاء البغدادي - باحثٌ وكاتبٌ عراقيّ

ثمة مؤشرات واضحة تشيرُ إلى إن إنشاء المجموعات سببه الخوف، مثل إنشاء المدن، والإتحادات غير بعيدٍ عن إنشاء الأحزاب والمنظمات، وربما الأُسر، وحتى الصداقات.

الخوف من الوحدة والمجهول، وهرباً منهما إلى دفء القطيع، والركون إلى الآخر أياً كان، ليستمر الوجود.

مواجهة القدر مستقلين هي درجة من درجات النضج الروحي، لم نتحصل عليها بعد، نحن لازلنا نحبو، لازلنا أطفالاً، تكسرنا عواطفنا الهشة، تكسرنا الطبيعة بتقلباتها الجبارة من عواصف وزلازل، وتغيراتها العادية من رياح وأمطار، تكسرنا أجسادنا برقتها أمام أي مرضٍ تافه، لذا نقترب من بعضنا ونشيد حضارتنا التي تؤمننا من الخارج الغاشم والوحشيّ.

لم تعد التجمعات تتشكّل بدافع الحصول على الأمان النفسي فحسب، لأنها ما عادت فطرية ساذجة، عاطفية بدائية، مع تعقد الحياة أخذت التجمعات منحىً جديداً يتسم بالتماثل، قومي، عرقي، ديني، قبائلي، مذهبي، ثقافي….

أقف قليلا هنا عند التجمعات الثقافية، الواقعية منها والألكترونية، حيث تم تشكيل العشرات منها، وشهدت إنضمام عدد هائل من الكتاب والأدباء، من أصحاب المواهب ومن أنصاف الموهوبين وحتى من عديمي الموهبة. لكن ما المشكلة؟ هل يثقلون كاهل الدولة براتب شهري مثلاً؟

لماذا لاندعهم يحاولون جعل العالم مكاناً أفضل برؤاهم العميقة أحياناً، والساذجة أحياناً أخرى، هكذا يقول البعض، رداً على القول بترهل التجمعات الثقافية على حساب إنتاج المعنى، وإحداث التغيير المطلوب على المستويين الثقافي والإجتماعي، لكن إجابةً من هذا النوع تبدو متهافتة أمام ما يتم توقعه من التجمعات الثقافية، لاسيما وهي بهذا الحجم، وإذا أخذنا بنظر الإعتبار الإقبال الكبير على الإنضمام لاتحاد الأدباء، فضلا عن تجمعات أخرى، فما هو المنتظر من هذا العدد الكبير من الشعراء والقصاصين والكتاب ضمن تجمع واحد، غير عقد الجلسات وإقامة المهرجانات، وهل تعد الجلسات والمهرجانات غاية بذاتها؟

إن نظرة سريعة على الجلسات التي تُعقد هنا وهناك تعطينا انطباعاً واضحا عن قلة الأعداد التي تحضر، ناهيك عن متوسط الأعمار الذي يشير بوضوح إلى أن أعمار الحاضرين غالباً بين٤٥-٧٥، أما المهرجانات فيمكن ملاحظة بوضوح تلك الفوضى المصاحبة لها من انتقادات ولغط حول توجيه الدعوات، وأمور أخرى تؤثر على رصانة المهرجان وتحقيق جدواه.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال وهو ماذا على الإتحادات الأدبية والثقافية أن تفعل لكي نحصل في الجلسة على حاضرين يشغلون نصف عدد المقاعد على الأقل بمتوسط أعمار من ٢٥- ٧٥، وكم من جهد ومهنية نحتاج كي تكون مهرجاناتنا فاعلة مؤثرة، دون أن يكون همُّ الأديب الوحيد وشغله الشاغل هو توجيه دعوة إلى فلان دون فلان، ثم إلى أي حد نحن قادرون على غرس ثقافة التفكير بالتجمعات الثقافية كمؤسسة هدفها إنتاج معنى وصناعة وعي؟

إنها تحديات كبيرة تواجه المؤسسة الثقافية برمتها، كوزارة واتحاد أدباء، وتجمعات أخرى تمتد على طول البلاد وعرضها.

برأيي أن الخطوة الأولى في صناعة الوعي، وتحفيز الشباب على القراءة ومتابعة الحركة النقدية، وبالتالي حضور الجلسات، وإبداء الرأي، والتفاعل مع المنتج الأدبي يتم أولاً عبر التنسيق بين وزارتي الثقافة والتربية، حيث سيكون على الوزارتين وضع خطة سنوية لتكثيف النشاطات التي تشجع الأطفال والناشئة على القراءة، مسابقات، دروس تدريبية، رحلات، مبادرات جديدة، وأفكار مثل استحداث فكرة الطفل القارئ، ولابأس بالإفادة من الممارسات المشابهة في الدول المجاورة أو البلاد الغربية التي عُرف عنها اهتمامها بخلق جو ثقافي مجتمعي عام.

إن الترهل في المؤسسة الثقافية من حيث عدد الأعضاء، يقابله ضعف عام في لإقبال على القراءة، وتدنٍ في الذائقة، ففي حين يتم إصدار عشرات الهويات لأعضاء جدد، لتكون صفة الأديب رسمية، يتراجع في الوقت ذاته محتوى المؤسسة بمعناه الأعمق والأشمل، لكن هل هي دعوة لتقليص الأعداد، عبر تعقيد عملية القبول؟ بالطبع لا، لكن ماذا لو لم تكن هناك صفة رسمية للأديب؟ هل سيظل قادراً على مواصلة الإبداع، وإحداث فارق؟ أظن نعم.

في بغداد وحدها عشرات التجمعات الثقافية، وهي بمثابة قناديل تضيء ما أفرزه تاريخ بغداد المتخم بالقهر  والحروب من عتمة، لكن هذه التجمعات، وعلى رأسها الإتحاد العام في خطرٍ داهم من أن تتحول إلى دوائر رسمية يفتك بها الروتين، روتين الجلسات والمهرجانات الخالية من المعنى، والبعيدة عن الهدف الرئيس في بناء الإنسان ثقافياً وإنسانياً.

***

تماضر كريم – أديبة وكاتبة عراقية

 

كنتُ سألتُ (ذا القُروح)، في اللقاء السابق، سؤالًا لُغويًّا، لأُخفِّف عنه وطأة المعمعة الجدليَّة في تاريخ الأديان: أنقول: «كما تَدين تُدان»؟ أم «كما تُدين تُدان»؟ فانتهرني كعادته، وأرجأني إلى هذا اللقاء. ثمَّ قال، بعد أن حكَّ رأسه وأُذنيه:

- العَرَب نطقوا الكلمة بفتح التاء.

- وكأنَّ المعنى كما يكون دِينك؟

- تقريبًا. والدِّين هنا بمعنى الفعل السُّلوكي. وهذا أبلغ. كأنَّ السلوك قد أصبح دِينًا. هذا وجه. أو قل: إنَّه بمعنى الجزاء، ومنه يوم الدِّين، أي الجزاء. ولعبارة «تُدين»، من أدان، وجهٌ أيضًا. أي كما تُدين الآخَرين وتشجب فعلهم وتستنكر- كعادة العَرَب- سيُدينونك ويشجبونك ويستنكرون عليك، والبادئ أظلم. أو هو تعبيرٌ مجازيٌّ من أدان بمعنى: أقرض، أو باع بالدَّين. فما تسمعه من بعض الناطقين المعاصرين، حين يقولون: «كما تُدين»، ليس بغلطٍ لُغويٍّ، كما اعتدنا على تسفيههم وتخطيئهم، لكنه غلطٌ معنوي، أي أنهم لم يصيبوا التعبير البليغ، المتعلِّق بالدِّين. ثُمَّ إنَّ هذا مَثَلٌ قديم، والأمثال تُروَى كما وردت ولا تُغيَّر، وإنْ كان فيها خطأٌ لُغوي. قال (ابن منظور)(1):

«وفي المَـثَل: كما تَدِينُ تُدانُ، أي كما تُجازِي تُجازَى، أي تُجازَى بفِعلكَ وبحَسَبِ ما عَمِلْتَ. وقيل: كما تَفْعَلُ يُفْعَلُ بِكَ. قال (خُوَيْلِدُ بنُ نَوْفَل الكِلابيُّ) (للحارثِ بن أبي شَمِر الغَسَّانيِّ)، وكان اغتصبَه ابنتَه:

يا أيُّهـا المَـلِكُ المَخُوفُ، أَما تَرَى ::: لَيْلًا وصُــبْحًا كيــفَ يَخْتَلِفــانِ؟

هل تَستطيعُ الشَّمْسَ أَنْ تَأْتِي بها ::: لَيْلًا؟ وهـل لَــكَ بالمَلِيْـكَ يَـدانِ؟

يــا حارِ، أَيْقِـنْ أَنَّ مُلْكَكَ زائلٌ ::: واعْلَــمْ بـأنَّ كمـا تَـدِيْنُ تُـدانِ!(2)

أي تُجْزَى بما تَفْعَل، ودانَه دَيْنًا أي جازاه. وقولُه تعالى: ﴿إنَّا لمَدِيْنُوْنَ﴾، أي مَجْزِيُّونَ مُحاسَبُون، ومِنْهُ الدَّيَّان في صِفَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. وفي حديثِ سلمان: إنَّ اللهَ ليَدينُ للجَمَّاءِ من ذاتِ القَرْن، أي يَقْتَصُّ ويَجْزِي. والدِّينُ: الجَزاء. وفي حديث ابن عمرو: «لا تَسُبُّوا السُّلطان؛ فإنْ كان لا بُدَّ فقُولوا: اللُّهم دِنْهم كما يَدينونا»، أي اجزِهم بما يُعاملونا به. والدِّين الحِساب، ومنه قوله تعالى: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾، وقيل: معناهُ مالِكِ يوم الجَزاء. وقوله تعالى: ﴿ذلك الدِّينُ القَيِّمُ﴾، أي ذلك الحِساب الصَّحيح والعَدَد المُستوِي(3). والدِّين: الطاعة. وقد دِنْتُه ودِنْتُ له، أي: أطعتُه...».

- حَسْبُك.. حَسْبُك! لنَعُد إلى محور حديثنا، يا (ذا القُروح)!

- سَم، طال عمرك! وبالفعل ليس الأوان بأوان المناكشات اللُّغويَّة، ونحن نشهد انهيار المنظومات الدِّينية والأخلاقيَّة في العالم.

- صدقت.. كنَّا بالأمس نقشعر أبدانًا حين نسمع بأن ثمَّة على هذا الكوكب أكلة لحوم بَشَر، وها نحن هؤلاء نكتشف، في عامي 2023 و2024 بخاصة، أنَّ الأنظمة الغربيَّة برُمَّتها- مع وكيلها الطفيلي المحتل المختل في الشرق الأوسط- يأكلون لحوم البَشر نيئةً ويمتصُّون دماءهم، بعد انتهاك أبسط حقوقهم، لا أقول الإنسانيَّة، بل الحيوانيَّة!

- إنَّها قِشرة الحضارة، كما وصفتُها في لقاء سابق، ودِيدان الشياطين تنخر ثمار الشجرة الملعونة.  وهذا لا ينفصل عمَّا كنتُ أصفه، على مستوى الخطاب الأيديولوجي، من ذلك الجهاد المقدَّس، وإنْ بالمغالطات والافتراءات، وكما تَدين تُدان. مغالطاتٌ تتجاوز (المغالطة المكارثيَّة) المشهورة- الذاهبة إلى أنَّ البريء متَّهمٌ حتى تثبت براءته- إلى الذهاب إلى أنَّ البريء متَّهمٌ أصلًا وفصلًا، ولا بُدَّ أن تُثبَت تهمته، بعد اللُّتيَّا واللَّتيَّا والَّتي. حتى لتصل إلى درجة التماس الطُّعون من خلال القول- وبكل ثقة الحمقى- إن (محمَّدًا، عليه الصلاة والسَّلام) كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها! مع أن العَرَبيَّة كانت لُغة الأُمِّ لديه، وفرقٌ بين (لُغة الأُم Mother Language)، و(اللُّغة الأُم)!

- كيف؟

- لُغة الأُم: هي اللُّغة التي تربَّى عليها الطفل، وتلقَّاها من أُمِّه. على حين أن (اللُّغة الأُم): هي اللُّغة الأصليَّة، أو القوميَّة، وللإنسان لُغات أخرى ثانويَّة، وذلك كالعَرَبيَّة الفصحى في العصر الحديث، التي إنَّما يتعلَّمها العَرَبيُّ تعلُّمًا؛ فهي لغته الأُم، أمَّا لُغة أُمِّه، فالدارجة العامِّيَّة. ويقع الخلط بين هذين المصطلحَين في الثقافة العَرَبيَّة.

- ومَن ذا قال: إن محمَّدًا كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها؟

- تلك مهزلةٌ معاصرةٌ كبرى، حين جعل يتصدَّى (قُدس أبوهم/ زكريا بطرس)، في متلفزاته- بوصفه النموذج المعاصر على هذا التيَّار الآخذ بسياسة: خير وسيلةٍ للدفاع الهجوم، وليبرهن على أقواله- بحُجَّةٍ قويَّةٍ جِدًّا، هي كما يقول: «أخطاء في الكلمات الأجنبيَّة التي أُدخِلَت في القرآن»! وهو يقصد هنا- وإنْ في عِيٍّ تعبيريٍّ- وجود كلمات أعجميَّة في «القرآن». ليصيح: «إزَّاي يِتآل عنه إنَّه بلسانٍ عربيٍّ مُبين؟! إزاااااااي؟!» ولسان حال قداسته: «يا انهار اسوح! دا محمَّد مش بس طلع ما يعرفش نحو سيبويه، دا طلع مش عَرَبي أصلًا!» وقداسته، كما يُظهِر نفسه بهذا اللفِّ والدَّوَران، لا يعرف شيئًا اسمه لغات ساميَّة، ذات أصلٍ واحد، أو لغات غير ساميَّة، كان في العَرَبيَّة منها من المعرَّب ما هو معروف لدَى صغار الطلبة في هذا الموضوع- هذا على فرض أن العَرَبيَّة هي المقترِضة لتلك الألفاظ من غيرها لا المُقْرِضة- وفوق هذا وذاك هو لا يفقه أنَّ عروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها تنزَّلت على العَرَب هكذا من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة.

- ليس صاحبك بِدعًا في مثل هذا.

- أدري أنَّ ثمَّة تيارين متطرِّفين في هذا السياق، تيَّارًا يُحِبُّ نفي علاقة العَرَبيَّة بغيرها، ولاسيما حين يتعلَّق الأمر بـ«القرآن»؛ لأنَّه يفهم أنَّ الآية التي تشير إلى أنَّه بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ تقتضي أنَّه بلسان العَرَب الذي لا علاقة له بألسنة البَشر الأخرى. وهذا فهمٌ ساذج، وجاهلٌ باللُّغات، وإنَّما تعني الآية أنه جاء بلسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه، ولسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه لسانٌ بَشريٌّ، أثَّر وتأثَّر، وهو سلالةٌ تطوُّريةٌ من لُغاتٍ أقدم. والتيَّار الآخَر: شغوفٌ في المقابل بعزو المفردات إلى أصولٍ غير عَرَبيَّة، لأتفه شبه. إلى درجة أنَّ أحدهم، مثلًا، طلع على الناس ليدَّعي أن كلمة «أُمنيَّة» القرآنيَّة غير عَرَبيَّة، استعملها «القرآن» لأوَّل مرَّة!

- يا سلام!

- كأنَّه لم يسمع الشاعر الجاهلي (الحارث بن حِلِّزة)(4) يقول:

إِذْ تَـمَنَّونَهُمْ غُرورًا فَساقَتْـ ::: ـهُمْ إِلَيكُمْ أُمْنِيَّةٌ أَشْراءُ

و(الفِنْد الزِّمَّاني)(5) يقول كذلك:

قَد تَـمَنَّتْ تَغلِبٌ أُمْنِيَةً ::: فهْيَ مِنها حيثُ بَيضاتُ الأَنُوْقِ

كما رَكِبَ ذلك المدَّعي أَتانًا أخرى، ذات مرَّة، زاعمًا أنَّ مادة «زخرف» في «القرآن» من أصولٍ أجنبيَّة مستوردة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. على حين يصفعه (طَرَفةُ بن العَبْد)(6) ببيته:

أَتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ ::: كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ

فاستعملها فعلًا، مشتقًّا. عِلمًا بأنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرهم، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم به لعدم عثوره على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحُمْقَى والمغفَّلين؟! وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَربيَّة من اللُّغات- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه. لأنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) لسان العَرَب، (دين).

(2) زعموا أنَّ الشاعر يقول هنا «تُدانُ»؛ فيُقْوِي! وهذا مستحيل. فإنْ كان من خطأ ففي مخالفة القاعدة النحويَّة، التي قُنِّنت بعد الإسلام. أمَّا أن يخطئ الشاعر في أنغام قوافيه، فوهمٌ قديم، لا يُعقَل، وإنْ كان الشاعر أصمَّ أو مجنونًا أو كليهما! لكنَّ العَرَب قبل الإسلام لم يكونوا يَدينون بقواعد (الخليل) و(سيبويه)، هكذا ضربة لازب. وهو ما لم يُرِد القدماء أن يعترفوا به.

(3) بسبب الياء المِصْريَّة، التي يُصِرُّ أصحابها على كتابتها ألفًا مقصورة غير منقوطة (كالياء الفارسيَّة)، فقد وردت عبارة (ابن منظور) في طبعة (دار المعارف بالقاهرة)- المنعوتة بأنها «طبعة جديدة محقَّقة ومشكولة شكلًا كاملًا»- هكذا: «العَدَد المُستوَى»، بألف مقصورة، أُكِّدت هويَّتها بفتحةٍ على الواو قبلها! والصواب: «العَدَد المُستوِي»، بالياء. وهو ما وردَ في طبعة (دار صادر ببيروت). وكم في الطِّباعة المِصْريَّة من أخطاء، وتلبيس على القارئ، حتى في معجمات اللُّغة المحقَّقة، بسبب هذا الاستمرار المتوارث في كتابة حرفين هجائيَّين برسمٍ واحد، دون سائر العَرَب!

(4) (1991)، ديوان الحارث بن حِلِّزة، تحقيق: أميل بديع يعقوب، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 31/ 48.

(5) (1962)، الزمخشري، المستقصَى في أمثال العَرَب، عناية: محمَّد عبدالمعيد خان، (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 1: 25.

ولم يُدرجه (حاتم الضامن) في (شِعر الفِنْد الزِّمَّاني)، الذي جمعَه. وهو من القصيدة ذات المطلع:

لَيْـسَ يُغْنِــي القَــوْلُ إِلَّا لِامْـرِئٍ ::: صــادِقٍ بِـالْقَوْلِ يَوْمًـا أَو مُطِيـقِ

(6) (2000). ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.

في الديوان: «منازلهُ»، بضم الهاء. والصواب ما أثبتناه.

دراسة في الواقع الشيعي المعاصر

توطئة: الخرافة هي تصور غير منطقي أو تقاليدي يؤمن به الأفراد أو الجماعات، ويعتقد لا صحة له علميةً أو واقعيةً، وقد تكون مرتبطة بمعتقدات دينية أو ثقافية أو سياسية، وتقوم الخرافات في العادة على التكرار العقلي والتحجج بالتقاليد والمعتقدات القديمة.

يعتبر الواقع الشيعي المعاصر أحد الواقعين الكبيرين في العالم الإسلامي، ويتسم بمجموعة من الخرافات والتصورات اللا عقلية والتقاليد غير المدعومة بالأدلة الواضحة والمنطقية، ومن المهم دراسة هذا الواقع الشيعي المعاصر وفهم الخرافات المتجذرة فيه وتأثيرها على المجتمع والفرد.

وما يهمنا كذلكً هو الكيانات الشيعية الحاكمة، فهذه الكتل والكيانات هي ما ترفع عناوين الدين، وتحتمي بشعار الإسلام، وتتحرك في المجال الاجتماعي والوسط السياسي بمظهرها الشيعي، الأمر الذي يجعل من أفعالها في المجال أكثر ضرراً وأمضى تأثيراً، لأنه إفساد الشكل النوعي للإسلام والإسلاميين وللشيعة والتشيع، أي أن الضرر يلحق الغالبية المضطهد من الشعب العراقي عبر قرون الدهر نتيجة لـ فساد القلائل منها، مثلما أنه يمس في الحال الفكرة الإسلامية برموزها التاريخيين وروادها الحركيين وتضحياتها الكبرى.

نقطة البداية

تاريخ الشيعة يعود إلى القرون الأولى بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بدأت الخلافة الإسلامية بين  الشيعة ومناوئيهم، ومنذ ذلك الحين، وقع الشيعة في أزمة طويلة وصعبة تخللتها محن ومآسي عدة ولذلك، فإن الشيعة باتوا يعيشون في ظروف قاسية وظلم مستمر على يد السلطات الحاكمة.

حتى أن الخرافة أصبحت تشكل جزءًا كبيرًا من حياتهم، أذ تمتلك الطوائف الشيعية عددًا كبيرًا من الشعائر والتقاليد التي تبدو غريبة على الأخرين، فكانت محل سخرية واستهزاء من قِبَل البعض، وقد استغل أعدائهم هذه الخرافات لإظهار الشيعة على أنهم طائفة ضالة وغير صالحة للحكم والإدارة، مما جعلهم يعيشون في حالة من الاقتصاد السياسي والاجتماعي.

ومع مرور الوقت، بدأ الشيعة في العمل على تطوير وتحسين أوضاعهم، فقد دخلوا في مرحلة الوعي والبحث والعلم، وتعلموا كيفية التفاعل والتأثير في البيئة المحيطة بهم.

 تمتد أهمية هذا التحول إلى مجموعة من الأسباب:

1 - التعليم والعلم: قام الشيعة بالاستفادة من التعليم غير المتاح لهم في العصور القديمة، حيث بدأ الشيعة في تأسيس مراكز تعليمية وجامعات ومدارس لنشر المعرفة بين أفرادهم،  وتطور الشيعة في أنحاء العالم العربي والإسلامي، مثل إيران ولبنان وباكستان والبحرين والعراق وأذربيجان، ودعم هؤلاء المشروعات التعليمية بالأموال والجهود.

 2- السياسة والمشاركة: بدأ الشيعة في المشاركة السياسية وتطوير نمط القيادة الشيعية، مما أدى ذلك إلى تحسين الحكم الشيعي وتقديم خدمات أفضل لأتباعهم، فقد شجع الشيعة على الاندماج في الحياة السياسية للدول التي يعيشون فيها والتأثير في صنع القرار، كما نرى ذلك في أيران والعراق.

3- الاقتصاد والتجارة: عمل الشيعة على تعزيز الاقتصاد في مناطقهم من خلال خطط التنمية الوطنية وتشجيع البناء والاستثمار في بلدانهم رغم الحصارات المفروضة عليهم من قبل أمريكا وحلفائها في المنطقة العربية، وإشعالهم الحروب في العراق واليمن ولبنان وسوريا.

أولاً: التعريف بالخرافات وصلتها بالماضي

الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر قد تشمل مجموعة متنوعة من المعتقدات غير المثبتة علمياً، والتي قد تكون مأخوذة من تفسيرات تاريخية أو تقاليد، من الأمثلة على ذلك قد تكون القصص والتفاصيل الخرافية التي تتعلق بشخصيات دينية أو وقائع تاريخية، والتي لا يمكن التحقق من صحتها بشكل علمي، وقد تشمل الخرافات أيضًا الاعتقادات الخارقة للطبيعة أو الأحداث التي لا تمت للواقع بصلة.

أما مسألة الصلة بالماضي ” فلا تبحث من زاوية الرفض أو القبول، بل من زاوية فهم هذه الصلة ووجهة النظر في تحديد طبيعة هذه الصلة، وتحديد ما نتصل به وما لا نتصل به “.

أن تجاوز الموروث لا يعني نبذه وقطع كل الصلات معه، إنما يعني تجاوز القيم والمواقف التي نشأت في خضم ظروف تاريخية معينة للتعبير عن تلك الأوضاع التي أنشأتها، ونظرا لتغير هذه الأوضاع الثقافية والإنسانية وزوال الظروف التي أدت إليها، يلزم تغيير هذه المواقف والأشكال لأنه لم يعد بإمكانها استيعاب ما استحدث من مفاهيم وقيم .

من هذا المنظور ندعو إلى رفض الجانب التقليدي في التراث وتحطيم المقدس فيه، والإفادة منه بقدر ما يلقي الأضواء على عتمة الحاضر.

فالإعجاب بالقديم لا ينطلق من عظمة الموروث وغناه لأنه قديم وبالي، ولأن عظمة العمل الفني لا تأتي من قدمه أو حداثته، بل من إبداعيته، وقد يكون النتاج الحديث أشمل وأهم بالضرورة من القديم لأنه يستوعبه ويقربه إلينا “تحت ضوء  من الحداثة ” ولأن الظروف الراهنة تصافح كل العصور والأزمنة، من هنا لا يصبح الدين خاضعا للتراث بل التراث هو الذي يخضع للدين .

ثانياً: أمثلة على الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر

الواقع الشيعي المعاصر يشمل مجموعة واسعة من الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تميز المجتمعات الشيعية حول العالم، حيث يتميز الواقع الشيعي بتنوعه الثقافي والفكري، وتعدد الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية داخله.

ويتمتع الشيعة بنسبة كبيرة من المؤمنين في العراق وإيران ولبنان وباكستان وأذربيجان وبعض الدول الأخرى، ويُعتبر الاهتمام بالشؤون الدينية والممارسات الشيعية والتنظيمات الشيعية من أبرز السمات في الواقع المعاصر.

أضف لذلك الواقع الشيعي المعاصر يتسم أيضًا بتنوع الحركات السياسية الشيعية، أذ تشارك بعض هذه الحركات في الحياة السياسية وتتمتع بتأثير وجودة في الساحة السياسية المحلية والإقليمية.

من جانب أخر، يتميز الواقع الشيعي المعاصر بالتركيز على التعليم والثقافة، حيث يوجد عدد كبير من المؤسسات التعليمية والثقافية الشيعية التي تسعى إلى نشر المعرفة والثقافة بين المجتمعات الشيعية.

مع ذلك، يجب ملاحظة أن هذه القراءة هي نظرة عامة وقد تختلف الواقعيات الفردية والمحلية داخل الواقع الشيعي المعاصر.. رغم التوعية التي يمارسها بعض رجال الدين المتنورين أمثال السيد كمال الحيدري وبعض المؤسسات الدينية في العراق وأيران ولبنان، إلا انه هناك مجموعة كبيرة من الخرافات المنتشرة في المجتمعات الشيعية ومنها:

- الخرافات المتعلقة بالأئمة والمعصومين.

- الخرافات المتعلقة بالطقوس والشعائر.

- الخرافات المتعلقة بالتوقعات والتنبؤات المستقبلية.

ثالثاً: أسباب الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر

هناك عدة أسباب لانتشار الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر، ومن بينها:

1. النقص في المعرفة والتثقيف: قد يكون بعض الناس غير ملمين بالمعلومات العلمية والمنطقية، مما يجعلهم عرضة لتصديق الأفكار الخاطئة والخرافات، ففي عالم اليوم السريع الخُطى، نقع في الحيرة والضياع أمام ازدحام المهمات والمسؤوليات والمعلومات، لذا فإن تصفية الذهن هي وسيلتنا لمواكبة عجلة الحياة السريعة وإيجاد السلام الداخلي والفكر العلمي.

2. الحاجة للتفسير: في بعض الحالات، يكون للناس حاجة قوية لتفسير الظواهر الغامضة أو الأحداث التي يصعب عليهم فهمها، قد يلجأ البعض إلى الخرافات كوسيلة لتوفير تفسيرات سهلة ومفهومة، وخاصة مفهوم المنقذ الغائب عن العيون .

3. العوامل النفسية: تلعب العوامل النفسية دورًا كبيرًا في اعتماد الناس على الخرافات، فقد يبحث البعض عن الأمان والاطمئنان والتفاؤل من خلال تصديق الخرافات والأساطير.

4. الانتشار السريع للمعلومات: في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن للخرافات أن تنتشر بسرعة كبيرة وأن تصبح متاحة لجميع الناس، قد يكون من الصعب على البعض تمييز الحقائق من الأكاذيب في هذا السياق، ومن خلال صغار رجال الدين وبالمناسبات الشخصية والدينية .

5. الاحتياجات النفسية والروحية: بعض الخرافات تلبي احتياجات نفسية وروحية للأفراد، مثل الأمل والإيمان والاستقرار العاطفي، قد يجد البعض الراحة والقوة في تصديق هذه الخرافات، لذلك أتجه البعض من قليلي الدراية الى السحرة والمشعوذين للتخلص من مشاكل الأنجاب مثلا، أو طرد الجن من البيوت، والحصول على الشفاء من الأمراض، لأن هذا المشعوذ درس كتب طب الأمام علي وطب جعفر الصادق وطب الكاظم وطب الرضا وطب الصادقين، وأخرها كتاب (الغذاء والدواء عند أهل البيت) حسب ما يرجون لها.

 أن العقل الشيعي عموماً مقيد بالنص التراثي.. لذلك في أي سؤال يعود إلى ألف وأربعمائة عام مضت يسأل أشخاص ماتوا، أو يسأل رجل دين حصل على الأعلمية.. بينما القرآن الكريم نص قابل للفهم حسب القاعدة المعرفية وليس نص جامد، كما جاء في سورة العنكبوت (سيروا في الأرض وانظروا كيف بدأ الخلق) نص تفهمه حسب الأدوات المعرفية لزمانك لا لزمان من سبقك... لذلك الرسول الأعظم(ص) لم يفسر القرآن الكريم قط... بل تدبره حسب قاعدة زمانه المعرفية، وحسب الإدراك المعرفي للناس في زمانه.

مع ذلك، يجب أن نؤكد على أهمية التثقيف والبحث عن الحقائق العلمية والموثوقة قبل تصديق أي خرافة، من خلال:

- تحليل الأسباب الاجتماعية والثقافية التي تدعم الخرافات.

- التأثير الإعلامي والسياسي على تشكيل الخرافات.

رابعاً: آثار الخرافات على المجتمع

تأثير الخرافات على المجتمع الشيعي المعاصر يمكن أن يكون سلبيًا في بعض الحالات، فمن الممكن أن تؤدي الخرافات إلى تعزيز الجهل وعدم التقدم، وتعطيل العقلانية والتفكير النقدي، وقد تؤثر الخرافات أيضًا على المشاركة السياسية واتخاذ القرارات الصحيحة بناءً على الحقائق والمعرفة.

 ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن بعض الخرافات يمكن أن تكون ذات سلبية ثقافية وتاريخية بالنسبة لبعض المجتمعات، لذا، من المهم أن نشجع على التعليم والتوعية للتخلص من التأثيرات السلبية للخرافات وتعزيز العقلانية والتفكير النقدي في المجتمع المعاصر.. والتي يمكن تداركها من خلال:

- تحليل تأثير الخرافات على الثقافة والتطور الاجتماعي.

- تأثير الخرافات على العقلية الفردية والحياة الشخصية.

- ضرورة توعية المجتمع وتثقيفه بالمنهج العلمي والمنطقي.

- دور القادة الدينية والفكرية في إصلاح الواقع الشيعي المعاصر.

وقد يعمدُ أهل الخرافة في كل زمن ومكان وبجميع الطوائف إلى تجهيلِ الناس بكراماتٍ مصطنعة وأكاذيب مخترعة، بحيث لو واجهها العقلاء لأخرجوهم عن الدين لأنهم أضفوا عليها لباس القداسة وألصقوها بأهل البيت حتى لا يجرؤ أحد على المواجهة.

 كما قال الإمام الرابع للشيعة الجعفرية- الإمامية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب /الملقب بزين العابدين: "إنا بلينا بشيعةٍ لا يتعلمون بعلومنا ولا يلجؤون الى ركنٍ وثيق".

 وقوله: "ما برح حبكم لنا حتى أصبح علينا عاراً لقد بغضتمونا إلى الناس بما قلتموه فينا".

إن أمة تنتشر فيها الخرافة والبدع كانتشار النار في الهشيم ليست جديرة بحمل أمانة الإسلام و لواء أهل البيت بل هي أمة الخنوع وتعطيل العقول وتقديس الخرافة وتعظيم الجنون .

خامساً: الاستنتاجات

يجب أن ندرك أن الخرافات المتجذرة في الواقع الشيعي المعاصر تؤثر سلبًا على عموم المجتمع والأفراد، وتعيق التطور والتقدم، لذلك المشروع الشيعي التنويري .

أذن كيف تحولت الخرافة إلى واقع معاش حتى يومنا هذا؟!

الخرافة عادة ما تحولت إلى واقع نتيجة لعدة عوامل، منها:

1 - تكرار الروايات والقصص: عندما تروى قصص معينة بشكل متكرر، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تأصيلها في الوعي الجمعي وتحويلها إلى جزء من التاريخ أو الثقافة الشعبية، وبمرور الزمن تتحول الى أسطورة مقدسة يضاف اليها قوة اللاهية جبارة، وتصبح مقبولة من قبل الجميع لتكرارها عبر السنين ولكن بنغمات حزينة جديدة قابلة للاجتهاد والإضافة مثل رواية مقتل الإمام الحسين(ع).. والتي تؤدى كل عام بنغمة جديدة.. حتى وصلت الى مرحلة التمثيل في الساحات العامة وأزقة الشوارع.. كذلك ( ركضة أطويرج) التي انتشرت في جميع المدن العراقية الشيعية رغم أنها كانت مختصرة على قضاء طويرج في مدينة كربلاء.

2- تأثير السلطة: في بعض الأحيان، يمكن للسلطات الدينية أو السياسية دفع الناس إلى قبول معتقدات معينة كواقع، سواء بالقوة أو بالضغط الاجتماعي، ومن خلال الدعم اللوجستي المقدم من قبل بعض مسئولي الدولة أثناء الزيارات المليونية لأضرحة ال البيت الأطهار في العراق من ماء ووقود ومواد غذائية .

 3- النقص وعدم اليقين: في حالات من عدم اليقين أو النقص، يمكن للأفراد أو المجتمعات أن يتجهوا إلى الخرافات كوسيلة للتغلب على القلق والخوف من المستقبل.. ومن خلال أشغال الشعب بشعائره الدينية طوال السنة ودفعه بهذا الاتجاه لغرض التخلص من مطالبه المشروعة، لذلك تتعمد الدولة أحياناً الى دعم أصحاب المواكب الحسينية معنوياً ومادياً من خلال رجالاتها المتنفذين أصحاب السلطة والمال، تحت شعار (كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء).

وهذا يتم من خلال تقسيم المجتمع الى مجموعات منضوية تحت أمرة شخص واحد أو مجموعة أشخاص (مواكب) يكون من السهل السيطرة عليهم وتوجيهم وفق أرادات معينة وأجندة شخصية وحزبية، وبالتالي الاستفادة منها في الانتخابات المحلية والبرلمانية باعتبار الشخص الداعم لهم (حسيني) المبدأ والاعتقاد الفكري.

4 -الاضطهاد الدائم: لقد تعرضوا للقتل على مدى قرون طويلة، وكان السلاطين يوصون أولياء العهد من ورائهم، أن الحكم لا يدوم إلا بقتلهم وتهجيرهم في بقاع الأرض الواسعة، كونهم امتداد تاريخي ليعسوب الدين وسيد الشهداء، و لديهم شعارات لو عرفتم معانيها فلن يدوم لكم بعد اليوم عرش ولا صولجان، فحيلوا بينهم وبين معانيها، ولا توقفوا القتل فيهم أبدا.. لذا أتخذوا من قصيدة ( يحسين بضمائرنا) سمفونية دائمة التواصل مع تاريخهم السري والعلني، القديم والمعاش .

لقد أجمع السلاطين على مر العصور، إن أرض ما بين النهرين موطنهم الأقوى، ففيها الأضرحة المقدسة، ومنبع علمهم، منها يجددون قوتهم، يظهر بين عقد وآخر رجل يوحد صفوفهم، ينفخ فيهم القوة، يشدّهم للشعارات، يفك معانيها، فيوشكون أن يمسكوا الأمور بثورة أو انتفاضة، فإنْ ظهر فيهم أحد من هؤلاء فاقتلوه غيلة أو اصلبوه على خشبة، ليدوم لكم الملك.

وكما قال الأديب والناقد المصري الدكتور (طه حسين 1889- 1973) .. ] في الغرب لا يوجد مقدس سوى الانسان وعند المسلمين كل شيء مقدس ما عدا الانسان].

***

شاكر عبد موسى/ العراق

....................

المصادر

- كتاب /الرسالة الذهبية المعروفة بـ (طب الإمام الرضا ع) / تحقيق محمد مهدي نجف / منشورات مكتبة الإمام الحكيم العامة – النجف.

- كتاب / الخرافات عند الشيعة / أبو عبد الله هاني المصري/ مكتبة سلسبيل- القاهرة 2008.

- كتاب/ خرافات الشيعة في عاشوراء/ الشيخ الدكتور محمد سعيد رسلان/ أغسطس، أب/2021.

- مجلة البيان / المشروع الشيعي .. كيف تحولت الخرافة الى واقع؟/ د. عبد العزيز التركي/ العدد 341، 14 أكتوبر، تشرين الأول/ 2015.

https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=467.

- معهد أبرار معاصر طهران/ قراءة في كتاب الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن/ محمد علي السعيدي/ 13 أوغسطس، أب/ 2022.

https://tisri.org/?id=kg7hk8ln.

- موقع أوراق/ قوة الخرافة في الواقع الشيعي/ سليم الحسني

/ 6 أب 2016. https://www.marefa.org.

- موقع ألوان / أدونيس والموقف من التراث / د. فاطمة عدلي/ 14 نوفمبر، تشرين الثاني/ 2023.alwanne.com .

في المثقف اليوم