قضايا

أولا: تبادل الأدوار الروحية بين الطفل والوالدين

إذا كان الأب محافظا على نسب ابنه الروحي فإن هذه العلاقة الروحية بين الأب والابن ستبقى مستمرة حتى بعد الوفاة، إذ الفائدة متبادلة بين الطرفين في تدعيم التواصل ونتائج النسب وتبعاته...

ويتجلى هذا الحكم من خلال نصوص قرآنية وحديثية مؤسسة لهذا المبدأ، أذكر من بينها قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ومسألة بناء الجدار والحكمة من ورائه كما في قوله تعالى: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزلهما فأراد ربك أن يستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا"1.

على عكس إفادة الأبوين الصالحين لولديهما فإن الولد الصالح هو بدوره قد يكون مضرا أو مفيدا لوالديه، كما نجد في نفس السورة صورة منه حيث يقول الله تعالى عن الغلام الذي قتله الخضر في حضرة موسى عليه السلام "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما "2. والأقرب رحما هو الذي يفيد والديه في الحياة وبعد الممات كما يدل عليه الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"3.

إذن، فالعلاقة بين الوالدية والمولودية مترابطة ومتواصلة إلى يوم القيامة، والمحدد لهذه الرابطة على الدوام هو النسب الذي كما سبق وبينا يتأسس على القاعدة الشرعية المحددة للزواج الصحيح وما في حكمه مما هو قابل شرعا لإعطاء النسب الشرعي للطفل.

ثانيا: الحقوق الروحية للطفل وضمان استرسالها

وإذا ما حوفظ على حقوق الطفل الروحية قبل ولادته فإنه سيحافظ عليه في الإسلام باستمرارية ذلك الرصيد عندها وبعدها، وذلك من باب ترسيخ الاسترسال الروحي التوحيدي في تكوين الطفل، كما تدل عليه الأحاديث المبينة لوعي الصحابة رضوان الله عليهم بهذا البعد الروحي في الحفاظ على هوية الطفل وارتباطه بأصوله الدينية ولاجتماعية الأسرية، أذكر بعض النماذج منها: ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت قباء فولدت بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغتها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له فبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا له فرحا شديدا لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم"وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليه وكان أكبر ولد أبي موسى"4.

فهذه الأحاديث وغيرها تبين لنا إجراءات جد مهمة في الحفاظ على صفاء نسب الطفل ونسبته الروحية وذلك للقيام بأعمال المباركة والدعاء والآذان والإقامة في أذنيه، وبالتالي اختيار الاسم المناسب له عند العقيقة على قاعدة روحية ومتناسبة مع طينته وفطرته، والتفاؤل به حتى تكون له آثار جيدة على سلوكه ومستقبله وارتباطه بأصالته.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يطبق هذا الحكم على الكبير وليس على الصغير فقط من باب اختيار الأسماء التي تمثل دعامة معنوية والتشبث بجذوره واستمراره وحسن تذكره كما يروي البخاري "باب اسم الحزن"عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما إسمك ؟قال: حزن. قال: فأنت سهل قال: لا أغير إسما سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعد"5. ويروي الإمام مالك بن أنس في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة عنده: من يحلب هذه؟فقام رجل فقال له: ما إسمك ؟فقال له: مرة. فقال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام رجل فقال له: ما اسمك؟قال: حرب، قال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام آخر فقال: ما اسمك ؟قال: يعيش، قال: احلب".

فاختيار الاسم عند المسلمين لم يكن عفويا أو اعتباطيا، وإنما هو مِؤسس على ضوابط روحية ومعنوية ذات بعد ديني عقدي، يؤسس للنسب في صورته الشرعية ويكفل الاستمرارية لتواصل الخلف مع السلف وتواصل الظاهر مع الباطن والعقيدة مع السلوك والجسد مع الروح والماضي مع الحاضر والتطلع للمستقبل، كما أن الاسم وحده لا يكفي لأن يطبع الشخص بمعناه، وإنما هناك التفاؤل بالمسمى ؛وهو الرجل الصالح الذي ينظر بنور الله تعالى المعبر عنه شرعا بالفراسة، فينطق بالاسم المناسب لواقع الطفل ومكانته الروحية والاجتماعية...

هذه كانت سنة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم ورثها المسلمون في اختيار أسماء أبنائهم على يد صلحاء الأمة من أولياء وعلماء قد يكونون من الأقرباء وغيرهم، إذ المهم في مراعاة هذا الأمر يكون هو مستوى الصلح والتفاؤل به حتى يتحقق المراد.

من هنا يطرح على مستوى عصرنا ضرورة مراجعة هذا السجل من الأسماء الذي أصبح يتناسل في مجتمعنا مع تطور أجهزة التواصل السمعي والمرئي بغير ضوابط لغوية أو تاريخية وبالدرجة الأولى روحية، حتى إننا بدأنا نسمع تسميات فاحشة وخسيسة لغة ومعنى قد يخجل الإنسان من سماعها أمام الملأ وتؤثر على الطفل في معنوياته أو أنها قد تسلبه هويته لأنها مستوردة من الغرب أو الشرق على حد سواء وهي تحمل معاني غير سليمة عقديا وأخلاقيا! أو أنها غير ذات معنى أصلا وليست لها أية نسبة أو اشتقاق لغوي يبشر بالخير أو تحقيق العصبية الإيجابية والتكاتف الاجتماعي الذي يوحي به الاسم من وجه ما.

***

الدكتور محمد بنيعيش - الفكر والحضارة

المملكة المغربية

.....................

1- سورة الكهف آية 81

2- سورة الكهف آية 79-80

3- رواه سلم

4- رواه البخاري في كتاب العقيقة

5- رواه البخاري في كتاب الأدب

 

الإسلام كدين في جوهره، تكمن مقاصد خيرة تدعوا الناس إلى المحبة والتسامح والعدل والمساواة وتعليم الإنسان والرقي به، وهو أيضاً دعوة إلى احترام الرأي الآخر وعدم التنطع والايمان بالحركة والتطور والتبدل، والإسلام دعوة لرفض الاستسلام والتمسك بالشك بما يراه الإنسان أو يعرض عليه للوصول إلى الحقيقة واطمئنان القلوب، وهو دعوة للتشاور بين الناس بما يخص قضاياهم المصيريّة الكبرى، كقضية الحكم واتخاذ الحرب والسلم، واتباع الطرق والأساليب الصحيحة التي ترتقي بهم. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكونوا خير أمّة أخرجت للناس.

لا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين ما يسمى إسلام المقاصد الذي أشرنا إلى طبيعته وجوهره أعلاه، وبين الإسلام السياسي، الذي تطالب بتطبيقه قوى سياسّية، غالباً ما تكون مؤدلجة وجهاديّة، هذا وقد  ظهر مصطلح (الإسلام السياسي) الذي يدعو إلى حاكميّة الله. في تاريخنا الحديث والمعاصر من قبل حركات سياسيّة دينّة تؤمن بأن الإسلام في تكوينه يُشكل نظاماً سياسيّاً للحكم، أي هو  عندها ليس ديانة أو عقيدة فحسب، وإنما هو تعبير عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي واجتماعي وثقافي، يدعوا إلى بناء الدولة والمجتمع معا وضبط آليّة حركتهما. ورغم ربط هذا المصطلح ببعض الأسماء بعينها مثل -حسن البنا- وتياره -الإخوان المسلمون- وبعض الجماعات والحركات التي تبنت المشروع ذاته كالحركة الوهابيّة والقاعدة وفصائلها كجبهة النصرة وداعش وغيرهما. وإن هذه القوى السياسيّة الجهاديّة الأيديولوجيّة راحت تتعامل في هذا السياق مع نصوص مقدسة من القرآن والحديث، تختارها وتقوم بتفسيرها وتأويلها في الغالب خارج السياق التاريخي للواقع المعيوش، أي هي لا تراعي خصوصيات أسباب النزول، وإنما تتعامل مع ظاهر النص على اعتباره عندها صالحاً لكل زمان ومكان، وهنا تقوم بليّ عنق الواقع وفقاً لأجندات سياسيّة ترمي من ورائها إعادة الحياة في المجتمعات الإسلاميّة وحتى غير الإسلاميّة باسم (الحاكميّة) عن طريق القوة والعنف إلى السراط المستقيم الذي رسمه الدين  وفقاً  لقيم وسلوكيات القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، بعد أن انحرف الناس عنها سياسيّاً واجتماعيّا واقتصاديّاَ وثقافيّاً. وبالتالي تمسكت هذه التيارات السياسيّة الجهاديّة في رفضها للمختلف، وتكفيره وزندقته وقتله عند الضرورة، وبالتالي لم يعد الزمن عندهم متحركاً، بل واقف لا يتحرك، واستخدام العقل سبّة يجب اقصائه والتمسك بالنقل، فالحديث الضعيف عندهم خير من الرأي على حد تعبير"ابن حنبل"، والتشريع بينت دلالاته النصوص المقدسة وشرحها  فقهاء هذه الأمّة وأسسوا قواعدها بمدارسهم الفقهيّة المعروفة وأغلقت أبوابه، وكل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة، فكل جديد يجب أن يتفق مع ما ورد في النص المقدس، وما أفتى به فقهاؤها، فالأصل في الأشياء لم يعد الإباحة، وإنما أصبح الحرام والمكروه عندهم هما الأصل.

أما إسلام السلاطين موضوع بحثنا هنا: فهو تيار إسلامي عُرف تاريخيّاً بالتيار (المدخلي)، أي التيار الذي يمثله مشايخ السلطان عبر مؤسسات الدولة، هذا ويشكل طرفا معادلته سلطة حاكمة مستبدة، ومشايخ سلطان في قلوبهم زيغ، عملا ويعملان معا على تفسير وتأويل وبالتالي فرض نصوص دينيّة من القرآن والحديث معاً، لها خصوص أسباب (نزولها) بالنسبة للنص القرآني، وأسباب (وضعها) بالنسبة للحديث، توظف لخدمة مصالح السلطان وحاشيته، وتبرير مفاسدهم واستمرارهم في السلطة، حتى لو تعدى هذا الحاكم وحاشيته حدود الله في الرعيّه، من اغتصاب لأموالهم العامة والخاصة، أو التعدي على أعراضهم وأبشارهم وتشريدهم وتجويعهم وغير ذلك. وهذا التيار استمر في وجوده منذ الخلافة الأمويّة إلى اليوم.

إسلام السلاطين والإتجار بالدين:

ما يلفت الانتباه هنا أن (السطات الحاكمة المستبدة) تدعي تدينها وحمايتها للدين أمام شعوبها، وذلك من خلال إيجاد مؤسسات دينيّة لها طابع رسمي، يقود ويشرف على نشاطها رجال دين باع أكثرهم ضميره ودينه لقاء منافع ماديّة ومعنويّة  لإرضاء السلطان والحفاظ على حكمه ومصالحه وتبرير مفاسده وتعديه على حقوق المواطنين التي يقرها الإسلام ذاته قبل أي شيء آخر. هذه الحقوق التي تمثل من حيث المبدأ، احترام جوهر الإنسان، هذا الجوهر القائم على عدالته ومساواته واحترام رأيه، وضرورة مشاركته في قيادة الدولة والمجتمع، والتأكيد على الشورى في أمور الناس وقضاياهم المصيريّة، وفي مقدمتها إدارة شؤون بلادهم، أو بتعبير آخر تطبيق كل ما يدل على مقاصد الدين الخيرة التي أشرنا إليها أعلاه، والتي همها احترام الإنسان والرفع من شأنه وتنمية حياته الماديّة والروحيّة معا. وفي الوقت الذي تدعي فيه هذه السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخها بأنها هي من يمثل الدين الصحيح، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع لإدارة شؤون الناس، نجدهم يخالفون الكثير من قيم الدين الخيرة التي أشرنا إليها، باذلين كل جهدهم في الدعوة إلى تبني الفضيلة من قبل الشعب قبل أي شيء آخر، وهي الفضيلة التي يريدونها هم، وعلى هذا الأساس سخروا لنشرها آلاف الدعاة والداعيات عبر دور العبادة وقنوات التلفاز والصحف والمجلات التي أقيمت لهذا الغرض بمعرفة سلطة الدولة. هذا في الوقت الذي نجد أن (الفضيلة المجردة) التي يدعون إليها في واد، وما يجري على الواقع المعيوش من سلوكيات في واد آخر. وهذا في الحقيقة  ما يوقعهم في تناقض بين ما يطرحونه من تبنٍ لقيم الفضيلة وممارستها في الواقع، وبين ممارستهم هم للرذيلة ونشر للفساد.

إن هذه الحكومات المستبدة في الواقع، هي أكثر من يقوم بالابتعاد عن الفضيلة وحقوق الله. ففي الوقت الذي تدعي فيه بأنها تعمل على تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الناس، نراها تتفرد في السلطة وتقصي المختلف عنها وتسجنه، وتركز السلطة الفعليّة والقابضة علي مفاصل الدولة الأساسيّة بيد عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو ثلة المستبد الحاكم، أو بيد حزب و(قائد ملهم) لا يأتيه الباطل أبداً، بينما يُبعد كما قلنا بقيّة الشعب عن إدارة شؤنهم السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وفي الوقت الذي يؤكدون فيه عبر الجوامع ووسائل الإعلام، بأن الفرد مسؤول عما كسبت يداه، تراهم لا يوفرن لهذا المواطن الوسائل الشرعيّة التي تكفل له تحقق الأمن والاستقرار ولقمة العيش وحريّة الرأي والعمل والمسكن، والأهم تخليصه من سلطة الخوف التي تحاصره بها عبر أجهزة أمنيّة في حياته اليوميّة المباشرة، لحديث له أو إبداء رأيٍ في قضايا تهم وطنه. هذا ويظل السؤال المشروع الذي يطرح نفسه هنا بقوة وهو: كيف تكون طبيعة العلاقات القائمة بين الناس عادلة، وهم يفتقدون إلى تطبيق التشريع الإسلامي الذي يحاكم السيد والمسود معا على ما يمارسونه من فساد؟. (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

عموماً نقول في هذا السياق: (إن السلطات الحاكمة المستبدة)، تريد من الناس أن يتمسكوا بالفضيلة، وأن يؤدوا لله (الغني عن العالمين) الفرائض، شاكرين وساجدين وصائمين وساكتين ممتثلين مستسلمين، إلى أن يموتوا ويدخلوا الجنة. وخلال كل هذه المرحلة الطويلة من تأدية الطقوس للوصول إلى العالم الآخر، لا يملك المواطن خلالها الكثير من حقوقه لضمان ما يريد فعله من أجل تحقيق أمنه وأمانه ولقمة عيشه ومصيره في واقعه المعيوش أو حتى في آخرته، طالما هو يعيش تحت رحمة هذه السلطات المستبدة، ومشايخ السلطان، من محترفي السياسة والدين.

حقيقة منذ قيام الدولة الشموليّة بقيادة السلطات المستبدة، ظل الحكم بيد القلة القليلة، وظل المواطن مجرد بيدق على رقعة شطرنج، يعيش ويموت بإرادة اللاعبين، مع ضمان من سيقوم بتشيعه من أهله وجيرانه وأصدقائه إلى مثواه الأخير، داعين له بحسن الختام وحسن الجوار في قبره خير من أهله، وأن تكون له في النهاية الجنة وحور العين وأنهار من الخمر والعسل واللبن.

لا شك أن الدين جاء أساساً لفك الحصار عن الإنسان نفسه من مستبديه ومن ظلمه وقهره وجوعه، والحد من سلطة الحاكم المستبد. وإن مسؤوليّة الإنسان عما كسبت يداه لا يمكن إقرارها إلا في مجتمع قائم على العدالة والمساوة والشورى، أي الاقتراع الحر، حيث يملك هنا كل إنسان مواطنيته وحقوقه وواجباته وفي مقدمتها حق اختيار من يحكمه. وإدارة شؤون البلاد والعباد وصياغة قوانين الدستور الذي يضبط شؤونهما، فبدون هذا المبدأ لا أحد يحتاج إلى شريعة من السماء لأن كل هذه القضايا قابلة للحل على أرض الواقع ومن قبل الناس أنفسهم بعقد اجتماعي يتفقون عليه.

إن الدين الذي تسوّق له السلطات المستبدة وينتحل لنفسه صفة القداسة بالذات، والذي لا يضمن العدل للأغلبيّة في نظام إداري مسيج ومحمي بدستور يقره الشعب، لا يستحق اسم دين، لأنه في الحقيقة غير قادر أصلاً على تجميع الناس حوله إلا بالوعد والوعيد، وهذه هي في الحقيقة مشكلة إسلام السلاطين منذ بدء الخلافة الأمويّة التي حولت الخلافة إلى ملك عضوض  إلى اليوم.

إن تبني الإسلام ديناً للناس من قبل السلطات المستبدة، دون الايمان بسلطة الأغلبيّة كما يقول (صادق النيهوم): (ليس ديناً، بل جثة دين فقدت حيويتها ومقاصدها الخيرة، أي هو ليس أكثر من مجرد توليفة من الوصايا التي تدعوا إلى الفضيلة ممثلة بالخير والإصلاح والعدل. بيد أنها وصايا من ورق مدفونة بين دفتي الكتب الصفراء لا تمتلك قوة القانون ولا تستطيع أن تفرض نفسها، إلا بقدر ما يسخرها الحاكم في خدمة أغراضه الخاصة ومصالحه واستمراريته في السلطة.) (1). لقد أفرط الحكام المستبدون في استغلال ظاهرة تسييس الدين وحتى أدلجته أشعريّاً أو صوفيّاً لمصلحتهم، من خلال تأسيس المؤسسات الدينيّة، وبناء آلاف الجوامع وعشرات معاهد وثانويات الدراسات الإسلاميّة وجامعاتها، ودور أخرى ذات طابع ديني تتعلق بتعليم القرآن وأحاديث الرسول وتفسيرها وعلومها وبالتالي توظيفها لمصلحة الحاكم. إن كل الذي تسعى إليه القوى الحاكمة المستبدة من تبني الإسلام هو المتاجرة به والعمل على خطى سلفنا في العصور الوسطى من منطلق (..إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف الآية 22)، وهي وصفة عمليّة كما يقول (الصادق النيهوم) أيضاً: (من شأنها أن تغلق باب الاجتهاد وحتى النقاش، وتضمن للرعيّة أربعة عشر قرناً أخرى من تقليد سلفنا الصالح، تقضيها في حماية رعاة هذه الرعيّة من الملوك والرؤساء والسلاطين ومشايخهم الذين نجحوا حتى الآن في أن يكفلوا لنا موقع الصدارة في التخلف بين أمم الأرض في مشرقها ومغربها، وبالتالي يظل معظم المواطنينَ يعيشون على الصدقات والهبات، وتظل الشعوب تعاني قساوة الحروب الأهليّة الطائفيّة منها والعرقيّة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، هذا إضافة لما يلقاه المواطنون من هزائم  تلو الهزائم على جميع الجبهات الصغيرة منها والكبيرة، و هم يرزحون تحت أسوأ أنظمة حكم قروسطيّة المبدأ والإدارة في العالم، الأمر الذي تبدو فيه الأمور هنا مضحكة ومبكية معاً،). (2). ص16

إن الإسلام الذي يسير تحت مظلة أنظمة الحكم المستبدة الشموليّة اليوم، يمثل في الحقيقة إسلام الفقر والجوع والتشرد والحرمان والفحشاء والمخدرات. أي الفساد بكل أشكاله.

من هنا نقول لمستبدي هذه الأمة: أتركوا الدين لا تتاجروا به، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾. (إبراهيم - 42). وكذلك فإن الشعوب المغلوبة على أمرها ليست بغافلة عما تعملون، فهم يراقبونكم بصمت، ويشاهدون فسادكم فوق الأرض، وهم لن يغفروا لكم إن سنحت لهم الفرصة، وهذا ما عبرت عنه ما سميت بثورات الربيع العربي، فكل المؤسسات الدينيّة والجوامع التي بنيتموها لادعاء إيمانكم أمام شعوبكم المستلبة الإرادة، تحولت إلى مراكز تحريض ضدكم من قبل ثورات الربيع العربي، وذلك من خلال دروس الداعيات والدعاة الذين وثقتم بهم ووظفتموهم لخدمة التبشير بإسلامكم، بينما كانوا في السر يعلمون الأطفال فكر الفرقة الناجية. لذلك لا تكونوا كالنعام، فالدين عقيدة وفطرة، وهو بالأساس ملاذ المحرومين من قهر ظلم الظالمين. فكل الثورات والاحتجاجات التي قامت في تاريخ الخلافة الإسلاميّة اتكأت على الدين، كثورة الزنج والخرميّة والقرمطيّة، والزيديّة وكل الحركات المهدويّة وغيرها الكثير. (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).( القصص - 5)، فعندما يبلغ البغيُ مداه، ويصل الشرُّ إلى منتهاه، لن يبقى في يد المستضعفين حيلةٌ لكبح ذلك، سوى الثورة على الظلمة المستبدين وفسادهم. من هنا نقول حيدوا الدين، فالدين لله والوطن للجميع، وليس هو للسلطان ومضادي السلطان من الأصوليين التكفيريين، لذلك أوجدوا مؤسسات دينيّة تحت سلطتكم لعمل الخير والإحسان والاشراف على أمور الأوقاف، واتركوا التعليم الديني ومناهجه وفضيلته التي تخدم الفرد والمجتمع والدولة، لمدارس الدولة الرسميّة، وكل من يخرج عن مقاصد الدين الأساسيّة ويحاول أدلجته وتسييسه يجب أن يحاسب من قبل الدولة وفق القانون الذي يقره الدستور. تمسكوا بالعلمانيّة التي تؤكد على العقل في معرفة الخطأ والصواب، وأن العقل سيد الأحكام، أما المواطنة فهي من يحقق الاستقرار والأمان لكل مكونات المجتمع إذا كنتم تريدون للفرد والمجتمع الاستقرار، وحتى برطكم بين العروبة والإسلام فأنتم تقصون غير المسلمين من مكونات الدولة والمجتمع، وتجعلوهم أقل شأناً من المسلمين، أي تجعلونهم يشعرون بأنهم رعايا لا مواطنين. أما ادعاؤكم بأنكم مع كل المكونات الدينيّة في أوطانكم، فالذي يتلقاه الأطفال في دروس الجوامع حول الفرقة الناجية وتكفير المختلف يقول غير ذلك، فهذه القوى الأصوليّة قامت بتدمير الكنائس ودور عبادة غير المسلمين، وسبوا نساءهم وباعوهم في ساحات النخاسة. مثلما كفروا المذاهب والفرق المختلفة في توجهاتهم الدينيّة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة.

...............................

الهوامش

1- الصادق النيهوم – إسلام ضد الإسلام – سلسلة كتب الناقد – رياض الريس للكتب والنشر- ط3 – عام 2000. ص14.

2- الصادق النيهوم المرجع نفسه. ص16

الضائقة النفسية التي نصنعها عند أخطائنا لها تأثيراتها الاجتماعية الخطيرة علينا

قصة كعب بن مالك نموذجاً

تفكر في موقف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وما حدث لهم من المقاطعة خمسين يوماً، حيث نزل بهم قرآنا يتلى ليوم الدين، قال الله تعالى {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.. (التوبة:118،119).

يقول كعب بن مالك أحد الذين تخلفوا عن الغزوة، " فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعاً من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك ؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة.

ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتبنا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي. بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول لي: الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك، قلت: هذا من البلاء أيضاً، فحرقت الرسالة، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي فقلت: الحقي بأهلك، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً. فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة، قال كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني.1]

ثم قال: فلبثنا [بعد ذلك] عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله ". قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ". قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: وأنزل الله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[2]

هذه دروس نتعلمها أن الذنوب والأخطاء التي نحن نحدثها ينتابنا خوف وجزع عند مواجهة الحقيقة والقائد الذي يسيطر على الموقف، وقد نستخدم مبررات كالكذب ونخلق الأعذار الواهية غير الصادقة حتى ننجو من عيوبنا الذي فعلناه ومع ذلك أصحاب المبادئ مهما زلت أنفسهم ووقعوا في في تقصيرهم يكون صدقهم سمة بارزة في شخصوهم، فلا يستطيعون التحايل والتملص بطريقة غير مهذبة من فعلتهم وما حدث منهم، فصدقهم ميزة أخلاقية ينظرون على أنها مناجاة وفرصة لعبور المنعطفات التي يسلكونها، وإن دفعوا فاتورة وعقاب ما قصروا به وفعلوه. فالاعتراف ميزة في صفاتهم وخصالهم مهما بلغ السيل الزبا، بالرغم من تقريعه ومعاتبته من أهله بأنه لم يقدم عذراً لغيابه عن المشاركة في الغزوة حتى يستغفر له الرسول عليه السلام وينتهي الموقف لصالحه، " فكان صادقاً بعيداً عن الكذب بالرغم من أن نفسه حدثته بذلك حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة " والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم اعتذر ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي"[3]، وبالرغم من ملامة الأقرباء على عدم تقديم الأعذار إلا أنه بقي صادقاً في قوله، وهذا بحد ذاته تحد وصمود على القيم والمبادئ الأخلاقية السمحاء التي نادى بها الأسلام، إلا أنه بقي على مبادئه وشفافيته ووضوحه لا يعرف التلاعب والتحايل في سلوكه وما بدر منه.

وبالرغم من أصحاب كعب (مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية) بقوا في منازلهم إلا أنه ظل يصلي في المسجد ويجوب الأسواق دون أن يكلمه أحد، وهذا بحد ذاته قوة ومنعة وحرص على أداء الشعائر والعبادات والتواصل مع من حوله من الناس المحيطين به. ناهيك عن استجابة كعب بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في فقم حتى يقضي الله فيك وأمره أن يعتزل زوجته، فهذه قمة الانضباط والالتزام بتعليمات القائد العظيم عليه الصلاة والسلام بالرغم من الموقف الذي أحدثه والنفسية والظروف التي لازمته في محنته.

وأن الأحداث التي نسلكها ونحدثها في واقع حياتنا لها تبعات نفسية واجتماعية ومجتمعية، تفرض نفسها علينا وتؤثر فينا وتحاصرنا وتقيد حركتنا ومسار حياتنا، فنقع تحت الضغوط والتوترات والمخاصمات والمقاطعات التي تجعلنا في هم وغم، فالضيق الذي نشعر به من التقصير الذي صنعناه والتبعات والإجراءات التي الذي يحدثها المجتمع من حولنا، فإذا كان هناك تخلف عن الغزوة وتكاسل دون مبرر أو عذر، " ورغم ما حدث من مقاطعة وحصار لمدة خمسين يوماً، فكان الـتأثير النفسي شديد والاجتماعي أشد من شعور المتخلفين عن الغزوة لمدة لست هينة، حتى قال كعب " قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض"، وهذا مؤشر مهم على أن الضيق الذي يحدث من علل وأمراض نفسية وجسدية يكون تأثير المجتمع المحيط أبلغ وأشد إيلاماً من وقع السيوف على المرء، يجعله في حيرة من أمره وفي وضع لا يحسد عليه. " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه)..( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها. فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق). (ضاقت عليهم أنفسهم) كأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم. (وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه، وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات. ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب.. ثم يجيء الفرج.. ( ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم ).[4]

وضِيقُ الأرْضِ: اسْتِعارَةٌ، أيْ حَتّى كانَتِ الأرْضُ كالضَّيِّقَةِ عَلَيْهِمْ، أيْ عِنْدَهم. وذَلِكَ التَّشْبِيهُ كِنايَةٌ عَنْ غَمِّهِمْ وتَنَكُّرِ المُسْلِمِينَ لَهم. فالمَعْنى أنَّهم تَخَيَّلُوا الأرْضَ في أعْيُنِهِمْ كالضَّيِّقَةِ، و(رَحُبَتْ) اتَّسَعَتْ، أيْ تَخَيَّلُوا الأرْضَ ضَيِّقَةً وهي الأرْضُ المَوْصُوفَةُ بِسِعَتِها المَعْرُوفَةِ.

وضِيقُ أنْفُسِهِمُ: اسْتِعارَةٌ لِلْغَمِّ والحَزَنِ لِأنَّ الغَمَّ يَكُونُ في النَّفْسِ بِمَنزِلَةِ الضِّيقِ. ولِذَلِكَ يُقالُ لِلْمَحْزُونِ: ضاقَ صَدْرُهُ، ولِلْمَسْرُورِ: شُرِحَ صَدْرُهُ.[5]

ومن التحديات والمعضلات التي تعرض لها كعب أن ملك غسان أراد أن يستغل الهموم والوضع النفسي والاجتماعي الذي حدث له، بإغرائه أن يلحق بهم وقال له تعال بنا نواسيك ومع ذلك لم يترك لنفسه فرصة للتفكير بالأمر رغم ضعفه وهمه والحالة التي مر بها، فقد مزق الرسالة ولم يستجب لها مهما كان الظرف أو الحال الذي مربه. ومع هذا الضنك والضيق والهم جاء الفرج بعد مرور فترة من الزمن وحرص بعضاً من الصحابة رضوان الله عليهم على البشارة والتهنئة له" عندما قال" سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله "."[6]. فأصحابه لم يستغلوا الموقف وينبذونه ويوصفونه بأوصاف لا تليق به، أو يخرجونه من دائرتهم، بل حرصوا على دعمه وتهنئه وبشارته بأن الله تاب عليه، وحرصوا على إبلاغه بذلك وهم فرحون به يباركون له ويعانقونه حباً وكرامة له. ولم ينسى موقف طلحة بن عبيد الله عندما صافحه وهنأه.

حرص كعب على تقديم هدية لمن بشره بأن الله تاب عليه بالرغم من أنه لم يملك غيرهم، بالفرحة والسعادة تكمن في التقرب إلى الله والحزن والضيق في العقوبة ألتي فرضت عليه نظراً لحبه لله عزوجل ومبته لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بالصدقة بكل ماله تقرباً لله عز وجل كتكفير للذنوب والمعاصي والآثام والعودة من جديد بنفسية متجردة من صفاتها السلبية والأخطاء التي حدثت معه إلى جادة الصواب والاستقامة"فقد اشار كعب رضي الله عنه " فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ص]، قال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه أحسن مما أبلاني اللّه تعالى، واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي. وأنزل اللّه: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين. [7]

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2024

....................

[1] https://www.islamweb.net/ar/article/17674

[2] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html

[3] https://www.islamweb.net/ar/article/17674

[4] https://quran-tafsir.net/qotb/sura9-aya118.html

[5] https://tafsir.app/ibn-aashoor/9/118

[6] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html

[7] https://quran-tafsir.net/qotb/sura9-aya118.html

بقلم: أنجيلا هاوبت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد ظهر أحد أيام الأسبوع الأخيرة، دخلت شوان تشاو إلى مكتب البريد قبل وقت قصير من إغلاقه. كان الرجل الذي ساعدها صبورًا بشكل لا يصدق وبذل قصارى جهده لمساعدتها في كومة من الطرود. لذا قبل أن تغادر، سلمته بطاقة مجاملة من تصميمها. وجاء في المقدمة: "إن استعدادك لبذل جهد إضافي لن يمر دون أن يلاحظه أحد أبدًا". ومن الجانب الآخر يُقرأ: "أنت تتلقى هذه الثناء لأن روعتك تستحق تحية كبيرة"، ومع ذلك، فهو تذكير بأن الكلمات الطيبة لديها القدرة على إضفاء البهجة على يوم شخص آخر أكثر مما يمكن أن نتوقعه، واقتراح لدفع ذلك للأمام. وتتذكر قائلة: "كانت لديه ابتسامة كبيرة على وجهه"

أشرفت تشاو، عالمة السلوك في جامعة ستانفورد، وهى الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة Flourish Science الناشئة، على بحث يشير إلى أننا نميل إلى التقليل من أهمية التأثير الإيجابي للمجاملات على أنفسنا وعلى المتلقي. ونتيجة لذلك، فإننا لا نعطي الكثير كما ينبغي. وتقول: "إن المجاملة هي واحدة من هذه الأفعال الصغيرة القوية التي تضيء يومك وتضيء يوم شخص آخر". "ولا تكلف شيئًا."

لماذا المجاملة مؤثرة جدا؟ تقول فانيسا بونز، عالمة النفس الاجتماعي وأستاذة السلوك التنظيمي في جامعة كورنيل، التي أجرت أبحاثًا عن المجاملات، إن أحد أهم الأشياء بالنسبة للإنسان هو الشعور بالتقدير والاحترام من قبل الآخرين، وأن يكون لينا شعور بالانتماء. وتقول: "إننا نتفهم دائمًا أي قصاصات من المعلومات التي نحصل عليها حول كيفية نظر الآخرين إلينا"، ولكن نادرًا ما نتلقى أيًا منها. "عندما نتلقى مجاملة، فإن ذلك يعطينا ردود الفعل التي نرغب بشدة في معرفتها حول ما يعتقده الآخرون عنا." وتضيف أن التعبير عن الإعجاب يوفر "بصيصًا من الأمل" الذي يُنظر إلينا بشكل إيجابي في بعض السمات، مثل العمل أو الموضة، مما ينشط مركز المكافأة في الدماغ ويعزز أرواحنا. وفقاً لبحث بونز، يشعر الناس "بتحسن كبير" بعد تقديم المديح وتلقيه، مقارنة بما كانوا يشعرون به من قبل.

ومع أخذ ذلك في الاعتبار، طلبنا من الخبراء مشاركة بعض مجاملاتهم المفضلة، ولماذا يتردد صداها.

1- "لقد تعاملت مع هذا الموقف بشكل جيد."

استخدمت بونز مؤخرًا مجاملتها المفضلة عندما رأت الخادم يمر بموقف صعب مع أحد العملاء في الحانة. وتقول: "أنا أحبها كثيرًا لأنك تستخدمها في اللحظات المشحونة التي يكون فيها الشخص الآخر غير متأكد في كثير من الأحيان مما إذا كان قد تعامل مع الموقف بشكل جيد . إنه يطمئن الشخص إلى ما فعله ويظهر له أن جهوده لنزع فتيل الموقف أو مساعدة شخص ما لم تمر دون أن يلاحظها أحد."

في المواقف التي تتطلب المجاملة، لا تتردد. انشروها بسخاء. يشعر الناس أحيانًا بالقلق من المبالغة في الإطراء وسيبدأون في الظهور بمظهر غير صادقين. وتقول بونز إن هذا القلق لا أساس له من الصحة. وتشير إلى أن "الحد الأدنى لعدد الإطراءات التي نعتقد أننا يجب أن نقدمها أقل مما يعتبره الناس مقبولاً". "لست بحاجة إلى أن تصاب بالجنون، ولكن من المحتمل أنك قد تمدح بشكل متكرر أكثر مما تعتقد." طالما أنك تقصد ما تقوله بصدق، بدلاً من اختلاق شيء ما على أمل تحقيق مكاسب شخصية، فاعتبر أن الإذن بالمجاملة قد تم منحه.

2- "أنت تجعل حتى اللحظات العادية تبدو غير عادية."

هذه المجاملة - وهي إحدى المفضلات لدى تشاو - تنجح بشكل جيد بين الشركاء الرومانسيين وأفراد الأسرة المقربين. وتقول: "إنها طريقة جميلة وعميقة لتسليط الضوء على كيف يحول وجودهم الحياة إلى شيء ذي معنى وجدير بالاهتمام، لى الرغم من الروتين الدنيوي والاعتيادي في حياتنا اليومية".

إذا كنت تخشى أن يبدو تقديم مجاملة كهذه أمرًا غريبًا، فأنت لست وحدك. يميل الناس إلى القلق المفرط بشأن كيفية تقديم المجاملة بكفاءة. نشعر بالضغط من أجل الأداء الجيد، كأننا إذا لم نتلفظ بكلماتنا الرقيقة بشكل مثالي، فسوف نتعرض للسخرية. تقول إيريكا بوثبي، عالمة النفس الاجتماعي في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، والمؤلفة المشاركة لبحث المديح الذي أجرته بونز، إن إحدى طرق التغلب على هذا الخوف هي القيام بالتمرين. تقول: "إذا كان ذلك يجعلك تشعر شخصيًا بأن المستوى قد انخفض بالنسبة لك لتعطي مجاملة إذا كتبتها، أو إذا كنت تتدرب على قولها بصوت عالٍ أو إعطاء قطتك الأليفة المجاملة أولاً، فافعل ذلك". إن جعل نفسك تشعر بالراحة – من خلال الإطراء أمام المرآة، إذا كان هذا هو ما يتطلبه الأمر – فهو أمر يستحق كل هذا الجهد.

3- "أنا معجب حقًا بقدرتك على العمل تحت الضغط."

الاحترام ضروري عند تقديم المجاملات. يمكن لمعظم النساء أن يتذكرن ما يسمى بـ "المجاملات" التي لم تصلهن - فكرن في التهكم والملاحظات الأخرى غير المرغوب فيها حول المظهر الجسدي. تقول بونز: "هذه ليست مجاملات حقًا لأنها لا تظهر الاحترام". قبل أن تقول شيئًا لطيفًا لشخص ما، تأكد من أنك تفعل ذلك بطريقة مدروسة ومناسبة. إذا كانت زميلتك قد انتهت للتو من تقديم عرض عمل مثير للإعجاب، على سبيل المثال، فلا تمدح مظهرها. وتوضح بونز أن القيام بذلك "لا يعني القول: "إننا نقدرك في سياق العمل هذا، حيث يعتبر العمل هو السمة المهمة". "إنها مثل، "محاولة جيدة، لكنك تبدو جميلًا أثناء القيام بذلك". ومن المهم أيضًا تجنب المجاملات غير المباشرة، والتي قد تبدو غير ضارة ولكنها في الواقع تحتوي على انتقادات أو إهانات مخفية - والتأكد من أن لغتك لا تقارن بشكل خفي بين شخصين.

4- "أنا أحب الطريقة التي تبرز بها أفضل ما في الناس."

كن دقيقا. التفاصيل يمكن أن ترفع الإطراء البسيط إلى إطراء رائع، لذا اجعلها انطلاقة أساسية لتسليط الضوء على صفات أو أفعال معينة. وتقول تشاو إنها تحب هذه الفكرة لأنها "تعترف برغبة الفرد وجهده وعقلية النمو في التعرف على الإمكانات الموجودة لدى الآخرين وتنميتها - غالبًا قبل أن يراها هؤلاء الأفراد في أنفسهم". "هذا ثناء كبير لأي شخص يسعى إلى إحداث تأثير إيجابي، مثل القائد أو المعلم."

على سبيل المثال، إذا شاهدت شخصًا ما يلقي خطابًا مقنعًا في أحد المؤتمرات، فأخبره عن الجزء الذي لفت انتباهك أكثر. بدلًا من قول "عمل جيد" بشكل عام، قل: "كان حديثك ملهمًا حقًا"، تقترح تشاو. "إذا كان بإمكانك أن تقول المزيد عن كيفية إلهامك للتفكير في شيء ما بطريقة جديدة، فهذا أفضل." يمكنك أيضًا تخصيص مجاملة، على سبيل المثال من خلال ملاحظة التقدم الذي أحرزه الشخص في مجال ما، الاعتراف بالأشياء التي عمل بجد عليها. - مثل إبطاء سرعته أو حذف كلمات الحشو من جمله - لإظهار أنك تقدر تقدمه وجهوده.

5- "يا لها من أقراط رائعة!"

لا تتردد في مجاملة الغرباء. في بحث بونز، طُلب من الطلاب في الحرم الجامعي أن يقتربوا من شخص غريب من نفس الجنس وأن يثنوا عليه - على سبيل المثال، على قميصه الجميل. قبل الخروج، طُلب من المشاركين في الدراسة تخمين مدى تأثير المجاملة على الشخص الآخر. وتبين أنهم قللوا من شأن التأثير الإيجابي، في حين بالغوا في تقدير مدى الإزعاج الذي قد يسببه إيقاف شخص غريب عشوائيًا. تقول بونز: "في جميع الظروف، يشعر الناس بتحسن أكثر من المتوقع" . من المرجح أن يشعر الغرباء بالاطراء أكثر من الحيرة. بالإضافة إلى ذلك، من يدري؟ يمكنك تكوين صداقات جديدة بالإضافة إلى إسعاد شخص ما.

6- "كان أداؤك رائعًا."

نادرًا ما يتعب الناس من تلقي المديح، لذلك إذا كنت مع صديق يفكر في تقديم مجاملة، فشجعه على القيام بذلك. يقول بوهنز: "إذا لم تكن أنت الشخص الذي يتعين عليه اكتشاف الصياغة الصحيحة والتحدث مع شخص غريب، فيمكنك أن ترى بشكل أكثر وضوحًا أن ذلك سيجعل الشخص يشعر بالارتياح". قل شيئًا مثل: "لقد استمتعت حقًا بحديث هذا الشخص، اذهب وأخبره كم كان رائعًا." وإذا اعترضوا قائلين إن المتحدث ربما سمع ذلك مليون مرة؟ ذكّرهم أنه قد يكون هناك زينة على الكعكة مرة أخرى.

7- وعندما تتلقى واحدة: قل "شكرًا".

يشعر الكثير منا بالحرج عند قبول المجاملات - فقد نحمر خجلاً، أو نتجنب التواصل البصري، أو نبدأ في الغمغمة بسبب الإحراج، أو حتى نستخف بأنفسنا. إذا كنت أنت هذا الشخص، تذكر مدى شعور الشخص الذي يمدحك بالرضا، وابتسم أثناء الرد،"، تقترح بوثبي أن تقول: شكرًا لك، هذا يعني الكثير. وتضيف أنه على الرغم من أنه قد يكون من الصعب التفكير خارج نفسك في الوقت الحالي، فاعتبر ذلك "فرصة لبناء أو تعزيز تواصلك مع الشخص الآخر". سيترك كل منكما الآخر وأنتما أكثر سعادة، وسيضفي الحيوية على بقية يومك.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: أنجيلا هاوبت/Angela Haupt: أنجيلا هاوبت هي محررة الصحة والعافية في TIME. إنها تغطي السعادة والطرق العملية للعيش بشكل جيد.

 

الثقافة، ما معناها، ما تعبيراتها وأي الحقول تشمل وهل إستقر الرأي عند تعريف محدد وثابت لها. هذه الأسئلة وغيرها سنحاول التوقف عندها قدر المستطاع ولتكون محور مقالنا هذا وكيف تم تناوله من قبل المختصين وذوي الشأن.

ففي الحديث عن هذا المفهوم الذي بين أيدينا، يمكننا القول بأن العديد من الأوساط المهتمة وذات الصلة، كانت قد خاضت فيه حتى إستُنفِذَ أمره وبلغ مداه وليستقر على ما وصلنا من صيغة وبما يحمل من دلالة. وعلى وفق ما ورد ومن أكثر المصادر رصانة وأظنها أصابت التقدير وغطَّت الى حد كبير هذا المفهوم وما يتصل به، فهو بمجمله وبحسب العديد من المواقع المعتمدة، قد حمل المعنى الآتي وَشَمِلَ: المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع ما. وإستنادا الى التوضيح الآنف، فسنشتق منه أحد أهم تجلياته وتعبيراته بل والذي سيشكل ركنا أساسيا منه وواحداً من أبرز مكوناته، وبما يتسق وطبيعة مقالنا والأهداف المرجوة منه، والحديث هنا عن مفهوم الأدب تحديدا ومن هو الأديب، ما طبيعة نشاطه وما هو منتجه وكيف يتم التعامل معه.

وإستنادا الى ما ذُكِرَ وعلى ما أجمع عليه الأولون وذوي العلاقة والإختصاص من قَبلِنا، فإن مفهوم الأدب وما سيقوم به ويقدمه، فسيتمثل في جملة من القضايا، منها وفي مقدمتها: إفراغ الأفكار والخواطر والتعبير عنها. كذلك هو مجموعة من النصوص الشعرية أو النثرية التي تُكتب بلغة من اللغات. وبذا سيشمل الأدب أشكالًا وألواناً متعددة ومتنوعة، ستأخذ منحى وميول الأديب نفسه وطبيعة أدواته التي سيستخدمها والتي ستختلف بكل تأكيد من شخص الى آخر، وهذا عائد الى عدة إعتبارات، من بينها الخلفية الأدبية والثقافية عموماً لكل منهم، كذلك مدى الخزين المعرفي الذي بين أياديهم، وأيضاً يرتبط بدرجة قدرتهم على توظيف ملكاتهم وبأسلوب يفي بالغرض ويصل غاياته. (الى هنا ينتهى الإقتباس والذي تعاملنا معه بتصرف).

وبذا سيعني الأدب وتلخيصًا لما فات: بأنه ممارسة الفعل الإبداعي وفي حقول عدة، والذي سيفضي في محصلته النهائية الى خلق أحد أشكال المتعة أو أكثر. كذلك سيدخل في باب تحسين الذائقة عند المتلقي وتجميلها، فضلاً عن دفع الأخير وإذا ما أحسن الصلة والتعامل مع النص المنتج وتفاعل معه بحماسة ورغبة ومارس كذلك رؤيته وبعين القارئ الناقد وبمستوى ما، ستجده بلا ريب وقد تحول الى أن يكون جزءاً وركناً أساسياً منه بل وحتى مكملاً له. هنا وفي لحظة كهذه سيجد الكاتب نفسه وقد إضطر الى أن يضع نصب عينيه قدرات المتلقي وأن يحسب له حسابا ومع أي عمل أدبي قادم، بل سَتُعَدٌ واحدة من قواعد النص وشروطه، وبذا سيتحول المتلقي الى ما درج على تسميته بالقارئ الضمني، حيث سيرافق الكاتب خلال سيرورة كتابته. كذلك فالمنتج الأدبي وبصرف النظر عن درجة إتقانه وإجادته، فسيُحدث لدى القارئ ما يمكن أن نطلق عليه بالإنعكاسات أو ردات الفعل، والتي ستختلف وتتفاوت بكل تأكيد بمستوياتها ونتائجها ودرجة إستقبالها بين هذا وذاك.

في كل الأحوال فما يسعى اليه الكاتب وليس أي كاتب وإنما المقصود هنا بالملتزم أو حامل الرؤيا، والذي يستهدفه من وراء صياغته لنصّه، هو محاولته بلوغ الآخر وصولا الى خلق حالة من التسامي والراحة النفسية لديه، فضلا عن أهداف أخرى قد تكون غير منظورة أو غير مُدركة، وهذا سيعتمد بالضرورة وبشكل أساسي على ملكات الكاتب نفسه وما يبتغيه وما رسم وخطط له. وتعليقاً على النقطة الأخيرة، فردات الفعل سوف لن تكون وبما لا يدع مجالاً للشك بمستوى واحد بين كاتب وآخر، فالأمر سيتوقف على قدرات كل منهم. كذلك ستكون للقوانين المعمول بها ودرجة الحريات المتاحة في بلده، تأثيرها أيضا على الكاتب وما ينتجه من نصٍّ..

ومما يُجدَرُ ذكره وتعليقا على ما ورد في الفقرة الأخيرة، فهناك من منتجي الأدب ممن سيجدون أنفسهم وقد إضطروا الى ممارسة نوع من التورية في كتاباتهم، هادفين (الإلتفاف) على ما ترصده عيون الرقيب وما يمكن أن يتسبب ذلك في إلحاق الأذى بهم وربما بعوائلهم وصولا الى الأقرباء منهم وحتى الدرجة الرابعة، وهذا ما حدث فعلاً وينطبق وبنسبة كبيرة على مثقفي وكتاب ما نسميه بالعالم الثالث بشكل خاص، المبتلين بأنظمة حكم ديكتاتورية، فضلاً عن بعض دول العالم الأخرى، على الرغم من قطع الأخيرة أشواطاً متقدمة على طريق التطور والتحضر وسنّها لقوانين تحفظ كرامة الأنسان وحقوقه الأساسية، والشواهد على ذلك كثيرة.

وعلى الجانب الآخر وإذا ما أردنا التوسع أكثر والأخذ ببعض النماذج والأمثلة الناجحة في بناء تجاربها، فلا بأس من الإلتفات الى ما حققته بعض دول أوربا وأخرى غيرها من نهضة شاملة، كانت قد طالت مختلف الأصعدة، من بينها ما هو حديث ساعتنا أي عالم الأدب والثقافة عموماً. فمنذ عقود ليست بالقليلة وهي في سيرورة وتطور مستمرين، ساعية الى توظيف رصيدها المعرفي والذي بلغ من الثرى والغنى مستوى لا يستهان به، بل لا يمكننا التقليل من شأنه ومن مدى تأثيره وما يشغله من مكانة في ثقافة شعوبها. كذلك في قطعه لأشواط بعيدة، على طريق تهيئة الأجواء والمناخات المريحة لللأجيال الجديدة القادمة وخاصة لفئة المثقفين منهم، لتفسح لها المجال رحبا، كي تمارس دورها المؤمل والمرتجى والذي ستحمله بفخر وزهو.

ولكي لا تبدو الصورة وردية ونذهب بعيداً في الوهم، وفي الحديث عن قطع هذه الدول لأشواط بعيدة على طريق نيل حقوقها الأساسية وبما يتصل منه بالشأن الثقافي تحديداً، فمثقفو أوربا وتجارب أخرى غيرها ممن تقع خارج القارة البيضاء، لم يكونوا ليصلوا أهدافهم والمتمثلة في ممارسة حرية التعبير وبتلك الخفة والإنسيابية والثقة، لو لم يسبق ذلك خوضهم لصراعات كانت قد إمتدت لعقود ليست بالقليلة، والتي بلغت في بعض مراحلها من الشدة والذروة ما إستوجب تقديمها خيرة مثقفيها ومفكريها نذورا وقرابين على هذا الطريق، بل حتى بلغت الحماقة بأصحاب السلطة أن رَموا معارضيها والمتنورين منهم ورعيلها الأول بتهمتي الإلحاد والخروج عن الملّة، وذلك على وفق ما أنبأتنا به الأخبار التي كنّا قد قرأناها وباتت منهلاً نستعين به في صراعاتنا مع الآخر أو إن شئت تسميته بالضد النوعي المتربص، الشديد الضلالة والذي لا زال معتكفاً في كهوف يثرب حتى اللحظة، ما إفك يلقي علينا خُطبه وبما يطيب له من الجهالة ومن عقم في الفكر والرؤى، كي نبقى نلهث خلفه.

وإذا ما أردنا التوقف وإلقاء نظرة سريعة والتحدث بالتالي عن شكل العلاقة التي تربط ذلك المثقف الملتزم بواقعه اليومي وما يتصل به من تطورات ومتغيرات، فستجدها قد بُنيت وجاءت كثمرة وإستحقاق طبيعي لنضالات تلك الفئة كما سبق القول، ولسعيها الدؤوب كذلك من أجل تحقيق إستقلاليتها وعلى قاعدة من الحرص والمسؤولية العالية. لذا بات من نافل القول أو على الأقل ما نتأمل منه: أن يكون زاهدا صادقا في  مواقفه، ثابتاً مستقرا في قناعاته.

وطالما نتحدث عن إستقلالية المثقف الأوربي عموما ومن يخوض في عالم الأدب بشكل خاص، ولما لهذه الميزة من أهمية في صياغة نصّه وما يقوم به من دور،  فلا بأس من التوقف عندها لنقول: نجاحه في بلوغ هذه الغاية أي الإستقلالية ، لم تفتح له الباب واسعا للمشاركة وبفعالية في رفد الثقافة الإنسانية فحسب وانما تحول الى جزءٍ فاعل وحيوي في رسم معالم وشكل الوسط الذي ينشط ويعيش فيه أيضاً. وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وفي الحديث عن الدول الرصينة التي تحترم تأريخها، فكان من بين تقاليدها وما درجت عليه ومن أسباب تفوقها، هي العودة الى فنانيها وأدباءها ومفكريها، والإستعانة بهم، من أجل المساهمة الجادة والفاعلة في رسم معالم سياساتها بشكل من الأشكال، إن كان ما يتصل بالحاضر منه أو بالمستقبل، بل وحتى ما متعلق منه بقراءة وتحليل إرثها وبالشكل الذي يساعدها على إمكانية وشكل توظيفه للقادم من الأيام. أمّا عن مساحة وحدود مشاركة هذه الفئة أي المثقفة، فهي لا تقتصر على مؤسسات دولها فحسب وانما تجاوزت لتصل مدياتها الى ما هو خارج الحدود، حتى تجدها وقد لعبت دورا ملحوظا ونشطا في العديد من الهيئات والمنظمات الانسانية العالمية ذات الصلة.

وعلى صعيد المواجهة والتصدي للوضع القائم الذي كانت تعاني منه تلك البلاد البعيدة، وإذا ما أردنا الإستشهاد ببعض الأسماء التي لعبت دورا لا يمكن التجاوز عليه أو تخطيه في هذا المجال، فهناك الكثير من الأمثلة الحية والقريبة. فمن بينها على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب المسرحي الجيكي فاتسلاف هافل، الحائز على جائزة (اراسوس) حيث تَقَلَّدَ رئاسة الدولة بعد الاطاحة بالنظام القائم آنذاك والذي كان يطلق عليه بصاحب القبضة الحديدية. فبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في رؤيته السياسية وانتماءه وخلفيته الأديولوجية، فقد سجَّل له التأريخ وبحروف ساطعة عناده وتصديه للسلطة الحاكمة، وعلى اثرها فقد صدر بحقه قرارا، غير قابل للإستئناف أو الطعن، يقضى بموجبه حكماً بالسجن ولبضعة سنين، بسبب إنتمائه السياسي المعارض للوضع القائم. نموذج كالذي أتينا على ذكره قد لا يروق للبعض، وهذا عائد على ما أظن الى إنحيازتنا المسبقة لأديولوجيات بعينها. وإذا كان لنا من إضافة وتعليق في هذه الصدد، فحدود منح الديمقراطية وسقفها كما نرى، لا تتوقف ولا ينبغي لها أن تقتصر على نوع  فكري أو حزب سياسي بعينه،  دون غيره.

وفي الحديث أيضاً عن هذه الفئة والتي سميناها بالمثقفة وهي تستحق لقب كهذا وبكل تقدير وإجلال، فقد شَكَّلت في بعض دول اوربا قوة ضغط وتأثير لا يقلان شأنا عن الأحزاب السياسية الحاكمة وكذلك عن دور معارضيها الرسميين في صياغة توجهات ومواقف الرأي العام، إن لم تكن لها الريادة في حركة الشارع، خاصة فيما يتعلق بالمطالبة بالحقوق المشروعة والعادلة لها، بل إمتدت نشاطاتها لتتبني حقوق الشعوب الأخرى المتطلعة والتواقة للحرية والدعوة الى تقرير مصيرها بنفسها وإقامة دولها المستقلة على أراضيها، لتكون في ذلك قد حققت تفوقاً في أداءها وفي بعض الحالات والمنعطفات التأريخية حتى على الدور الذي من المفترض ان تقوم به وتتصدى له المنظمات والاحزاب المعارضة الرسمية، وبكل إنتماءاتها وتشكيلاتها السياسية والفكرية.

وفي ذات السياق ومن أبرز الاسماء في هذا المجال والتي لعبت دورا وتأثيرا مهمين وواضحين على الشارع الثقافي الاوربي في توجهاته وخياراته السياسية بل وحتى الفكرية، هو ما قام به الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، من خلال فلسفته الوجودية وإنعكاساتها على ذهنية أجيال متعاقبة من الشباب، حيث توقَّفَ طويلاً عند مفهومي الحرية والمسؤولية وكيفية الربط بينهما وتوظيفهما نحو تحقيق الأهداف السامية. وقد عدَّه الأعداء بل وأعترفوا بدوره وقبل الأصدقاء من الراصدين والمتابعين لطروحاته، بأنه أحد العقول اليسارية المدافعة عن حقوق الانسان في العالم. وبسبب من ذلك، فقد لاقى صدى إيجابياً واسعاً ليس من قِبَل الشارع الأوربي فحسب بل من شعوب العالم الأخرى ومن بينها الشارع العربي، خاصة بعد أن تُرجمت له الكثير من الأعمال، والتي  كان من أبرزها كتابه الموسوم بــ(عاصفة من السكر)، حيث تحدَّث فيه عن الثورة الكوبية. كذلك كتابه الآخر (عارنا في الجزائر) والذي كان محوره ما اقترفته من جرائم أيادي الاحتلال الفرنسي بحق ذلك البلد. وفي هذا المنحى سيلتقي صاحب الذكر وعلى ذات الخط والطروحات مع المفكر الفرنسي اندريه مالرو، المتبني هو الآخر لحقوق الشعوب المضطهدة، حيث شارك في تأسيس أولى الصحف المناوئة للإستعمار الفرنسي في المنطقة المسماة آنذاك بالهند الصينية، فضلا عن إصداره للعديد من الكتب، والتي لا تخرج في خطوطها العامة عن ذات السياق الذي أتينا عليه.

وإذ أردنا التوقف عند المزيد من الأمثلة فلا بأس هنا من التطرق الى تجربة المفكر الكبير روجيه غارودي، المنتمي لصفوف الحزب الشيوعي الفرنسي مبكرا، ليخوض مع أبناء جيله غمار التصدي للنازية الألمانية المحتلة لبلاده في أربعينات القرن الماضي. بعدها سيجري إعتقاله من قبل تلك القوات، ويُنقل على أثرها الى إحدى مدن الجزائر، يوم كانت خاضعة آنذاك لنير الإحتلال الفرنسي. من هناك حيث المنفي الإضطراري بدأت تتشكل لدى غارودي بدايات قراءة الأحداث بعين مغايرة. على أثرها وبعد أن غاص في تجارب الشرق وعرف عن قرب حقيقة أوضاعها وما تدعو اليه، راح غارودي متناولا الإسلام والقضية الفلسطينية برؤى تختلف عمّا قيل له. فشرع بعد ذلك في الكتابة عن الصهيونية وما أحدثته في الأراض المحتلة وشعبها من مآسي، كذلك أقدم على فضح وبأسلوب علمي وبأدلة تأريخية دامغة، حقيقة ما سمّي بالهلوكوست (المحرقة اليهودية) وما رافقها من ضجيج إعلامي ممنهج، واضح في أهدافه وغاياته، مما تسبب له في أن يوضع في عين العاصفة، حيث لم تتوقف الدولة العبرية عن شن أبشع الحملات بحقه، بهدف تشويه سمعته والتصدي لطروحاته. ومن بين ما خطَّته يدي غارودي كذلك والتي تستحق التوقف عندها لما لها من أهمية والتي جاءت كذلك منسجمة ومستجيبة لتحولاته الفكرية، مجموعة من الكتب المهمة جداُ، من بينها على سبيل المثال: (أميركا طليعة الإنحطاط). (الشيوعية ونهضة الثقافة الفرنسية). (فلسطين أرض الرسالات السماوية) وغيرها الكثير الكثير.

وأخيرا ولكي لا نبخس حق مثقفينا في التصدي لآلة القمع الوحشية التي تعرضوا لها في بلادنا، وعلى يد السلطات الديكتاتورية الحاكمة وعلى مختلف العهود، والتي أجبرت العشرات بل المئات منهم على إختيار المنفى ملاذا لهم، نقول ربما ستكون لنا عودة لطرح هذا الموضوع مستقبلاً.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

يأتي هذا السؤال في سياق ثقافي يعاني أزمة بنيوية حقيقية، ومتجذرة في أعماق الفعل الثقافي، بل في الممارسة الثقافية الحالية التي لم ترق إلى مستوى تطلعات بلد يسعى إلى إحداث تقدم وتطور في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ذلك أن لهذه الأزمة طابعا أخطبوطيا يجعل من إمكانية حلها عملا جبارا يستدعي مجهودا جماعيا، وليس عمل فرد أعزل لا يملك إلا الكلمة التي كانت سلاحه المعتاد في سبيل التغيير والتجديد. ففي هذا السياق المتأزم، تظهر أصوات من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية تطالب بكلمة المثقف بصدد ما يجري في بلده، وتنظر منه حلا سحريا سريعا لأزماتها المزمنة، ولعمري إن هذا ضرب من اليوتوبيا التي تمنع الأفراد، على اختلاف مستوياتهم ومنسوب وعيهم، من التفكير الجاد والمستمر في الأزمة، والعمل على تفكيكها وتبسيطها بغية وضع الإصبع على مكمن الداء ومصدره، ومن ثم، الإسهام في التغيير والتجديد المطلوبين من قبل مختلف الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين.

تمثل صورة المثقف أمامنا كلما توغلت الأزمة في حياتنا، وحاصرتنا مظاهرها وتجلياتها السلبية من كل ناحية، بيد أننا لم نتساءل، تساؤلا بريئا غير مؤدلج، عن أسباب صمت المثقف، وغيابه الطويل عن المشهد الثقافي العام.

يعلم من قرأ كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو "نظام التفاهة" أن هذه الأخيرة داء منتشر في كل المجالات والممارسات المختلفة، وأنها نظام مقصود ذو توجهات وأهداف مخطط لها. لعل هذا النظام الذي اكتسح المشهد العام، وجعل التافهين يحسمون المعركة على حد تعبير آلان دونو، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى فعالية المثقف، أي فعالية كلمته التي تعد سلاحا له؛ لأن بها يعبر عن تصوراته وأفكاره حول قضايا مجتمعه، وهي وسيلته لمخاطبة الفاعلين السياسيين والثقافيين، وبوصلته التي يوجه بها الرأي العام نحو الصالح العام، ويطلعه على حقيقة ما يجري حوله، ومن ثم تنبيهه إلى النتائج التي يمكن أن تترتب على التحديات والأزمات التي تواجهه، وتؤثر على مسيرته تقدمه الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

بم ستفيد الكلمة الأعزل إن لم تجد تربة خصبة ومناخا ملائما؟ من يسمع صوت المثقف في زمننا الراهن؟ ومن يحس صمته وغربته واغترابه عن مجتمعه؟ ألأن الأفراد قد طبعوا مع الوضع السقيم الذي يتجرعون ويلاته، أم أن ثمة خيبة أمل متبادلة بين المثقف وأفراد مجتمعه؟

يترتب عن السؤال الأخير القول إن هذه الخيبة متبادلة بالفعل؛ ذلك أن المثقف تلمّس اللا جدوى كلمته وعدم فعاليتها في الأذهان والأفهام، ومن ثم لاذ إلى مراقبة المشهد العام من بعيد، وليس من برج عاجٍ ما دام المثقف منشغلا، ولو من مسافة بعيدة، بما يجري داخل مجتمعه لأنه فرد من أفراده، ولعله ينتظر بصيص أمل يتراءى له في الأفق البعيد. أما عن الأفراد، فإنهم سايروا التوجهات التي تتهم المثقفين بالخيانة والتنصل من مهامهم تجاه مجتمعاتهم، وحكموا على المثقف، نتيجة تهمة الخيانة، بأن له أهدافا ومآرب شخصية تمنعه من قول كلمته التي تزعج المسؤولين والمهتمين بالشأن العام.

نميل إلى القول إن الأزمة الثقافية، وهي مربط الفرس في هذا المقال، أزمة بنيوية ومتجذرة في قلب الممارسة السياسية الثقافية، وفي صلب توجهاتها العامة؛ إذ إن أزمة الثقافة تتغذى من توجهات وأهداف جهات معينة، ما دامت قد توغلت في مفاصل المجالات الاجتماعية. فأن تجد التفاهة في التعليم، والإعلام، والسياسة، والمجتمع.. إلخ، فهذا يدل على كون الأزمة أكبر من فرد أعزل، أي من مثقف يرى نفسه شمعة احترقت بما فيه الكفاية حتى تضيء ليل مدلهما لكائنات مغتربة وشاردة أمام ما يجري حولها. لهذا، نرى أن صمت المثقف ليس دليلا على فشله واستسلامه، وليس فعلا ناتجا عن خيانة أو الحفاظ على مكانة اجتماعية وسياسية واعتبارية، وإنما يعزى الأمر إلى انتظار فرصة مناسبة تتيح الكلمة للأفراد الاجتماعيين وللمثقفين على حد سواء؛ لأن نهاية الأزمة الثقافية ترتبط، في جانب كبير منها، باختيار اجتماعي وثقافي يشترك فيها الطرفان المعنيان بالتغيير والتجديد.

يبدو أن كلامنا لا يعفي المثقف من دوره، كما أنه لا يبرئه مما يجري الآن، وإنما يهدف إلى إطلاع الجماهير على كونها معنية بأي تغيير ثقافي اجتماعي، وأن المسؤولية منقسمة بين المثقف وأفراد المجتمع، والتعاون على بناء فعل ثقافي جاد ومتين، يقصد إلى التغيير والتجديد الجذريين والمنتظرين. وهكذا، نقول إن للمثقف واجب الإنصات لهموم مجتمعه والتفاعل مع قضاياه، وإن على أفراد المجتمع تحمل مسؤولية تجويد الفعل والممارسة الثقافيين، ومناقشة تصورات المثقف واقتراحاته في ما يتعلق بسبل الإصلاح والتجديد.

يبقى السبيل الأساس لحل أي أزمة مجتمعية هو تقريب الشقة بين مختلف الفاعلين السياسيين والثقافيين والاجتماعيين؛ بهدف تحديد أهداف مشتركة تخدم الصالح العام، وليست إرضاء مبتذلا للخواطر والنزعات الأدلوجية المتضاربة؛ لأن هذا الإرضاء من شأنه أن يسهم في تمييع الفعل الثقافي، وجعل الفاعلين يتنصلون من مسؤولياتهم برميها على هذا الطرف أو ذاك بحسبانه سببا للنتائج الراهنة.

سنكون مسؤولين عن تقدم مجتمعنا وصون فعله الثقافي حينما نقر في أعماقنا أننا مسؤولون عن الأوضاع الحالية، ومساهمون في التطبيع معها بشكل أو بآخر.

***

محمد الورداشي

 

كان مفهوم عبادة الشخصية في السياسة العالمية ظاهرة متكررة عبر التاريخ، حيث يزرع الزعماء السياسيون صورة لأنفسهم كشخصيات أكبر من الحياة وتتمتع بهالة إلهية تقريبا. وغالباً ما تنطوي هذه الممارسة على تمجيد وتمجيد القائد، الذي يتم تصويره على أنه مصدر القوة والاستقرار في أوقات عدم اليقين. ويمكن رؤية عبادة الشخصية في أنظمة سياسية مختلفة، بدءا من الأنظمة الاستبدادية مثل كوريا الشمالية في عهد كيم جونغ أون، إلى ما سمي بالديمقراطيات مثل تركيا في عهد رجب طيب أردوغان. وفي هذه الحالات، استخدم القادة الدعاية والرقابة وإظهار الولاء علناً للحفاظ على صورتهم كشخصيات معصومة من الخطأ ولا غنى عنها. على سبيل المثال، تقدم وسائل الإعلام التابعة لكيم جونغ أون، التي تسيطر عليها الدولة، الزعيم المحبوب والموقر، في حين يتم إسكات المعارضة بسرعة. وبالمثل، عزز أردوغان سلطته من خلال تصوير نفسه كزعيم قوي وحاسم، وقمع أصوات المعارضة ومركزية السلطة تحت حكمه. سوف يستكشف هذا المقال تأثير عبادة الشخصية على السياسة العالمية، ويدرس آثارها على الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقات الدولية.

الأفكار الرئيسية:

- إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة يقوم فيها القادة السياسيون بتنمية صورة عامة أكبر من الحياة لكسب الدعم والإعجاب من أتباعهم.

- من أمثلة القادة الذين استغلوا عبادة الشخصية جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة.

- من الممكن أن يكون لعبادة الشخصية عواقب سلبية، مثل خنق المعارضة وتقويض الديمقراطية، كما رأينا في حالات مثل كوريا وروسيا والعديد من الدول الأفريقية والأسيوية.

- ومع ذلك، يمكن أيضا استخدام عبادة الشخصية لأغراض إيجابية، كما رأينا في حالة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذي كان قادرا على إلهام الأمة وإحداث تغيير إيجابي من خلال قيادته الكاريزمية.

- رغم أن عبادة الشخصية يمكن أن تكون أداة قوية يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم، فإنها تنطوي أيضا على مخاطر وينبغي التعامل معها بحذر من أجل الحفاظ على ديمقراطية سليمة.

- إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة يعمل فيها الزعماء السياسيون على تنمية صورة عامة أكبر من الحياة لكسب الدعم والعشق من أتباعهم.

التفاصيل:

إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة مدهشة كانت موجودة عبر التاريخ، حيث تُظهر قوة الصورة والكاريزما في تشكيل التصور العام وحشد الدعم من الأتباع. في هذه الظاهرة، يقوم القادة السياسيون بشكل استراتيجي بتنمية صورة عامة مبالغ فيها وأكبر من الحياة لخلق شعور بالإعجاب والعشق بين مؤيديهم. ومن خلال الحملات الإعلامية المصممة بدقة، والظهور العلني المنظم بعناية، وجو من الغموض، يسعى هؤلاء القادة إلى تصوير أنفسهم كشخصيات ملهمة تمتلك قدرات استثنائية وحكمة وجاذبية. ومن خلال تقديم أنفسهم على أنهم يجسدون آمال وأحلام ومُثُل أتباعهم، فإنهم يخلقون إحساسًا بالارتباط الشخصي والولاء الذي يتجاوز الولاء السياسي التقليدي. من أمثلة القادة الذين نجحوا في تنمية عبادة الشخصية شخصيات مثل أدولف هتلر، وجوزيف ستالين، وكيم جونغ أون. استخدم هؤلاء القادة الدعاية والرمزية والعروض الكبرى للقوة لإبراز هالة من المناعة والعصمة، وإسكات المعارضة بشكل فعال وتعزيز سلطتهم على دولهم. إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي أداة قوية يمكن استخدامها لتحقيق أهداف إيجابية وسلبية. وفي حين استخدمه بعض القادة لإلهام شعوبهم وتوحيدها في أوقات الأزمات، استخدمه آخرون للتلاعب بسكانهم والسيطرة عليهم من خلال الخوف والترهيب. إن فهم ديناميكيات عبادة الشخصية يمكن أن يسلط الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها للقادة السياسيين تشكيل التصور العام، والتلاعب بالعواطف، وحشد الدعم الثابت من أتباعهم. في الأقسام التالية، سوف نتعمق في أمثلة محددة لعبادة الشخصية في السياسة العالمية، وندرس الاستراتيجيات التي يستخدمها القادة لبناء والحفاظ على صورتهم العامة الأكبر من الحياة، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على مثل هذه الممارسات على الديمقراطية. الحوكمة والمساءلة. ومن خلال استكشاف دراسات الحالة هذه، يمكننا الحصول على فهم أفضل لكيفية استمرار عبادة الشخصية في تشكيل المشهد السياسي العالمي والتأثير على سلوك كل من القادة والأتباع على حد سواء.

ومن أمثلة القادة الذين استغلوا عبادة الشخصية جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة.

إن عبادة الشخصية هي ظاهرة سائدة عبر التاريخ، حيث يستخدم القادة جاذبيتهم ونفوذهم للتلاعب بالجماهير وتعزيز سلطتهم. ثلاثة أمثلة على القادة الذين نجحوا في استغلال عبادة الشخصية هم جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة. لقد خلق جوزيف ستالين، دكتاتور الاتحاد السوفييتي الذي لا يرحم، عبادة شخصية حول نفسه من خلال الدعاية والتلاعب الجماهيري. فبعد تصويره كزعيم قوي ومعصوم من الخطأ، كانت صورة ستالين حاضرة في كل مكان في الحياة السوفييتية، حيث كانت التماثيل والملصقات والشعارات التي تمجد قيادته. عملت عبادة شخصية ستالين على تعزيز حكمه الاستبدادي وقمع المعارضة، مما خلق مناخا من الخوف والطاعة بين الشعب السوفييتي. وعلى نحو مماثل، عمل كيم جونج أون، الزعيم الحالي لكوريا الشمالية، على زرع عبادة الشخصية حول نفسه من أجل الحفاظ على سيطرته على النظام القمعي. تم تصوير كيم جونغ أون على أنه شخصية شبيهة بالإله، ويعبده رعاياه ويتم تصويره على أنه زعيم خير يجسد مُثُل النظام. ومن خلال الدعاية ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، تم تصميم صورة كيم جونغ أون بعناية لإظهار القوة والسلطة، في حين قمع أي معارضة لحكمه. في الولايات المتحدة، استخدم دونالد ترامب عبادة الشخصية لجذب أنصاره ودفع نفسه إلى الرئاسة. وبفضل خطابه المنمق وشخصيته الأكبر من الحياة، استغل ترامب إحباطات العديد من الأميركيين وقدم نفسه باعتباره دخيلا شعبويا يتحدى المؤسسة. ومن خلال التجمعات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعلامات التجارية، تمكن ترامب من تنمية أتباعه المخلصين الذين احتشدوا وراء سياساته المثيرة للانقسام والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان. في الختام، كانت عبادة الشخصية أداة قوية استخدمها القادة عبر التاريخ للتلاعب بالجماهير والسيطرة عليها. وسواء كان ذلك من خلال الدعاية أو الإكراه أو الكاريزما، فقد استغل زعماء مثل ستالين وكيم جونج أون وترامب عبادة الشخصية لتعزيز سلطتهم وتشكيل المشهد السياسي في بلدانهم. وهذا بمثابة تذكير صارخ بمخاطر السلطة غير الخاضعة للرقابة وأهمية محاسبة القادة على أفعالهم.

ومع ذلك، يمكن أيضا استخدام عبادة الشخصية لأغراض إيجابية، كما رأينا في حالة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذي كان قادرا على إلهام الأمة وإحداث تغيير إيجابي من خلال قيادته الكاريزمية.

إن نيلسون مانديلا، الرجل الذي يحظى بالتبجيل في مختلف أنحاء العالم لقيادته الرائعة، يقف كمثال ساطع لكيفية تسخير عبادة الشخصية لتحقيق أغراض إيجابية. لقد ألهمت شخصية مانديلا الكاريزمية وتفانيه الذي لا يتزعزع في الحرب ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أمة وأدت في النهاية إلى تفكيك هذا النظام القمعي. كسجين سياسي لمدة 27 عاما، برز مانديلا كرمز للصمود والأمل لشعب جنوب أفريقيا. إن قدرته على البقاء ثابتا على معتقداته على الرغم من الصعوبات الهائلة، إلى جانب حضوره الكاريزمي وخطبه البليغة، جعلته محبوبا لدى الملايين حول العالم. لقد مكنته الكاريزما التي يتمتع بها مانديلا من التواصل مع الناس من جميع مناحي الحياة، وتجاوز الانقسامات العرقية وتوحيد أمة مزقتها عقود من الفصل العنصري. ومن خلال قيادته، جسد مانديلا قوة التسامح والمصالحة، وقاد جنوب أفريقيا من خلال التحول السلمي إلى الديمقراطية. لقد احتضن مضطهديه السابقين وسعى إلى بناء مجتمع قائم على المساواة والعدالة للجميع. امتد تأثير مانديلا إلى ما هو أبعد من رئاسته، تاركا إرثا دائما من السلام والوحدة في جنوب إفريقيا وكان بمثابة مصدر إلهام للقادة في جميع أنحاء العالم. وفي المجمل، فإن عبادة الشخصية، عندما تمارس بنزاهة وهدف، يمكن أن تكون قوة للتغيير الإيجابي في السياسة العالمية. إن القيادة التحويلية التي يتحلى بها نيلسون مانديلا هي بمثابة تذكير قوي بإمكانية القادة ذوي الكاريزما في إلهام الأمم وتوحيدها نحو مستقبل أكثر إشراقا.

رغم أن عبادة الشخصية يمكن أن تكون أداة قوية يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم، فإنها تنطوي أيضا على مخاطر وينبغي التعامل معها بحذر من أجل الحفاظ على ديمقراطية سليمة.

إن عبادة الشخصية سلاح ذو حدين في السياسة العالمية. وفي حين أنها يمكن أن تكون بلا شك أداة فعالة يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم وكسب الشعبية، إلا أنها تجلب معها مخاطر كامنة تهدد نسيج الديمقراطية ذاته. لقد أظهر لنا التاريخ مراراً وتكراراً كيف يمكن للتمجيد المفرط لفرد واحد أن يؤدي إلى تآكل المؤسسات والمبادئ الديمقراطية. فعندما يتم التبجيل للزعيم إلى أبعد الحدود، يتم إسكات الأصوات المعارضة، ويتم قمع المعارضة، وتضعف الضوابط والتوازنات. وهذا يمكن أن يمهد الطريق للاستبداد والفساد وتركيز السلطة في أيدي قلة من الناس. علاوة على ذلك، فإن عبادة الشخصية غالبا ما تصرف الانتباه بعيدا عن القضايا الجوهرية ونحو السمات السطحية للقائد. وهذا يمكن أن يعيق المناقشات السياسية الهادفة، ويعوق التحليل النقدي، ويمنع المساءلة. عندما يتم وضع القائد على قاعدة التمثال، يكون هناك ميل إلى التغاضي عن عيوبه وأوجه قصوره، مما يؤدي إلى شعور خطير بالعصمة من الخطأ. لذلك، من الضروري أن نتعامل مع عبادة الشخصية في السياسة العالمية بحذر. ورغم أن الكاريزما والسحر قد تكون أدوات فعالة لكسب الدعم، فلا ينبغي لها أن تطغى على قيم الشفافية والمساءلة والنزاهة. ولابد من مساءلة القادة عن أفعالهم، ولابد أن تخضع قراراتهم لتدقيق صارم، ولابد من موازنة سلطتهم من خلال مؤسسات ديمقراطية قوية. في نهاية المطاف، تتطلب الديمقراطية السليمة وجود مجال عام نابض بالحياة حيث يتم سماع أصوات متنوعة، ومناقشة الأفكار، ومحاسبة القادة. إن عبادة الشخصية، إذا تركت دون رادع، لديها القدرة على تقويض هذه المبادئ الأساسية وتقويض أسس الديمقراطية. وباعتبارنا مواطنين وأعضاء في المجتمع العالمي، تقع على عاتقنا مسؤولية جماعية أن نحترس من التملق المفرط للقادة وأن ندعم مبادئ الديمقراطية بيقظة وعزم. ومن خلال القيام بذلك فقط، يمكننا ضمان بقاء أنظمتنا السياسية مرنة وشاملة وممثلة حقا لإرادة الشعب.

لا تزال عبادة الشخصية تلعب دورا مهما في السياسة العالمية، حيث تشكل صورة القادة وتصورهم في نظر الجمهور وتؤثر على السياسات المحلية والدولية. ومن خلال تحليل أمثلة مثل أدولف هتلر، وجوزيف ستالين، وكيم جونغ أون، فمن الواضح أن التلاعب بالرأي العام من خلال بناء عبادة شخصية قوية يمكن أن يكون له عواقب بعيدة المدى. كمواطنين ومراقبين للسياسة العالمية، فمن الضروري أن نظل يقظين وننتقد القادة الذين يسعون إلى زرع عبادة الشخصية، كما أظهر لنا التاريخ المخاطر التي يمكن أن تنشأ عندما يتم ترقية القادة إلى مكانة شبه أسطورية. ومن خلال فهم ديناميكيات القوة المؤثرة في هذه المواقف، يصبح بوسعنا أن نعمل على تعزيز أنظمة حكم أكثر شفافية وخضوعا للمساءلة من أجل منع إساءة استخدام السلطة التي كثيرا ما تصاحب عبادة الشخصية في السياسة العالمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.......................

المراجع:

- Pohl, Rüdiger. The Stalin Cult: A Study in the Alchemy of Power. Yale University Press, 2012.

- Akcali, Pinar. “Cult of Personality and Turkish Party system.” Democratization, vol. 27, no. 7, 2020, pp. 1220- 1240.

- Smith, T. O. (2014). The Cult of Personality: How Personality Drives Leadership. Harvard Business Review Press.

- Tucker, R. (2018). Political Cult of Personality and Its Impact on International Relations. Cambridge University Press.

- Roberts, Adam. "The Cult of the Leader: A Manifestation of Totalitarianism?" Totalitarian Movements and Political Religions, vol. 11, no. 1, 2010, pp. 31- 46.

- Todorova, Maria. "Politics as a Performance: A Study of the Cult of Personality in Bulgarian Politics." East European Politics and Societies, vol. 34, no. 1, 2020, pp. 51- 67.

- Geller, Ellen. "Cult of Personality: How Donald Trump Uses It to Win Supporters." The Washington Post, 5 March 2018.

تُعتبر رواية "الحرب والسلم"، للأديب والفيلسوف الروسي ليو تولستوي (1828 - 1910)، الرواية الأكثر شهرة وانتشارًا، والتي شاهدنا فيلمًا مقتبسًا عنها في ستينيات القرن الماضي، من  بطولة أودري هيبورن و هنري فوندا، ومن إخراج فكتور كينغ، لكن آراءه بخصوص النبي محمد (ص)، لم تكن قد اشتهرت، إلّا في العقود الخمسة المنصرمة، وإن كان كتابه "حِكَم النبي محمد" قد نشر قبل ذلك بفترة طويلة، وترجمه سليم قبعين إلى اللغة العربية  في العام 1912 (مطبعة التقدم - مصر).

وكان مالك منصور، حفيد محمد عبده مفتي الديار المصرية وأحد أركان حركة الإصلاح الديني منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قد أشار إلى أن متحف تولستوي يحتوي على رسالتين متبادلتين بينهما، علمًا بأن تولستوي كان قد وجّه رسالةً إلى عبده أبدى فيها رغبته في تأليف كتاب عن النبي محمد (ص)، وطلب منه مساعدته في جمع الأحاديث الشريفة وتدقيقها، والتي تُعدّ من كَلِمْ النبي، لاعتقاده إن أحاديث النبي ومواعظه وحِكَمِه، هي ما يحتاجه بني البشر، بغضّ النظر عن دينهم وملّتهم، لأن الأنبياء هم ملك للبشرية جمعاء.

وقد شجّع الشيخ محمد عبده تولستوي على ذلك، دون النظر إلى أنه من دين آخر، وقال يكفي أن يكتب تولستوي، أديب روسيا، وأعظم كتابها عن النبي (ص). وبالفعل فقد جمع تولستوي في كتابه نحو 600 حديثًا من أحاديث الرسول الكريم، وضمّها في باقة ملوّنة ومتنوّعة، تُمثّل القيم الإنسانية السامية.

وكان تولستوي قد أبدى انبهاره بالنبي محمد (ص)، واعتبره من كبار المصلحين في التاريخ، الذين خدموا البشرية خدمةً جليلةً، ويكفيه شرفًا أنه هدى أمةً برمّتها إلى الحق، وجعلها تجنح إلى السلام وتجد طريقها إلى المدنية والتقدم.

ويعود سبب اهتمام تولستوي بالسيرة المعطرّة للرسول الكريم، هو انهمامه بقضايا الخير والشر والدين والأخلاق، وانفتاحه على الثقافات العالمية بحثًا عن القيم الإنسانية، حيث كان قد تعرّف على الأدب العربي، وأراد الاستزادة من الإسلام ورسالته الإنسانية لتعميق جوهر ثقافته، بالاطلاع على فلسفة النبي محمد ورؤيته الاجتماعية.

وكان قد قرأ  منذ وقت مبكّر حكايات "علاء الدين والمصباح السحري" و"ألف ليلة وليلة" و"علي بابا والأربعون حرامي" و"قمر الزمان بن الملك شهرمان"، وقد أشار إلى ما تركته الحكايتان الأخيرتان في نفسه من أثر كبير، وهو لم يبلغ الرابعة عشر من عمره، ولغرض إشباع رغبته بالتعرف على نفائس الأدب العربي، اتّجه لدراسة اللغتين العربية والتركية في كلية الدراسات الشرقية بجامعة قازان (كازان) الروسية (1844)، لكنه لم يستمر في الدراسة، التي لم تعجبه فيها طريقة التدريس العقيمة، كما قال.

لقد دافع تولستوي عن الإسلام وقيمه السمحاء، رادًّا على الاتهامات التي كانت توجّه إليه وإلى نبيّه، والتي كان يتم ترويجها من جانب "جمعيات المبشّرين"، ولذلك اتّجه إلى تأليف كتابه المذكور، وفي مقدمته ذات البُعد الإنساني كتب قائلًا: إن تعاليم الشريعة الإسلامية لا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية. وبهذا المعنى أراد تولستوي أن يؤكّد أن قيم الأديان مشتركة ومتقاربة، وأن رسالة النبي محمد (ص) هي امتداد لرسالة النبيين موسى وعيسى عليهما السلام، وهو ما يؤكّده القرآن الكريم.

كما اعترف تولستوي بمكارم أخلاق الصحابة وزهدهم وطهارة سيرتهم واستقامتهم ونزاهتهم، مشيرًا إلى أن من فضيلة المسلمين أن دينهم أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود، وكتب ذلك في مقدمته الجليلة عن حِكَم الرسول، وربما قصد بذلك صحيفة المدينة، التي سنّها الرسول بعد هجرته من مكّة إلى يثرب (المدينة المنورة).

وتُعتبر تلك بمثابة نواة لفكرة المواطنة في الدولة العصرية، وإن كانت بصورة جنينية، ومن أهم الحكم التي تأثر بها هي "لا يؤمن أحدكم حتى ليحب لأخيه ما يحب لنفسه"، بمعنى إيمانه بالمشترك الإنساني الجامع لبني البشر.

اتفق تولستوي ومحمد عبده أن الدين والإنسان يشكلان أساس الحياة، وأن قيمة الإنسان لا يمكن تقديرها بأي ثمن، ووظيفة الدين هي النهوض بالإنسان وعقله، كي يبني الحياة ويعيش بسلام.

وجاء في رسالة محمد عبده المؤرخة في 8 نيسان / أبريل 1904، أي قبل 6 سنوات على رحيل تولستوي 1910 ، مخاطبًا إياه: "أيها الحكيم الجليل، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكن لم نُحرم التعارف بروحك، فقد سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك آلفت بين نفوس العقلاء ونفسك...".

وردّ تولستوي عليه بخطاب رقيق قال فيه: أيها الصديق العزيز، إن خطابك أدخل في نفسي عظيم السرور، حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أصل ملّة غير الملّة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينك وديني سواء، وإن كانت المعتقدات مختلفة، وهي كثيرة، ولكن لا يوجد إلّا دين واحد هو الصحيح... وكلّما نزعت المعتقدات إلى البساطة وخلصت من الشوائب، اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعًا.

الرسالة الأخلاقية التي تمسّك بها تولستوي في أعماله الإبداعية، هي التي كانت وراء قناعاته بالمشترك الإنساني للأديان وفي بحثه عن السلام واللّاعنف والتسامح، بما فيها مراسلاته مع المهاتما غاندي، وهذه الرسالة هي التجسيد العملي لقول الرسول الكريم: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وحين سئل من أحب عباد الله إلى الله، قال: "أحسنهم خلقًا" و"خالق الناس بخلق حسن". ورُوي عن الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن، "أحسن الحُسن الخلق الحسن".

***

د. عبد الحسين شعبان

الحرية هي جوهر كيان الإنسان وماهيته وبدون الحرية يتقهقر الكيان الماهوي للإنسان في سلم الوجود الى رتبة الحيوان بل إلى أدنى من ذلك حيث يتحول إلى كائن شرير أناني تتحجر عاطفته وتتصحر روحه فيصير كائنا غريبا مغتربا.

وليس هناك دليل أوضح وأجلى من الإنسان المسجون سجنا طويلا. وليس هناك سجن أطول ولا أشد من سجن الممنوعات والمحرمات وما يرتبط بها من عادات وتقاليد وأعراف في وعينا الاجتماعي والسياسي حيث أرست نسقاً ثقافياً قهرياً من خلال عملها على تحويل المجتمع إلى سلطة رقابية صارمة تتدخل بأدق تفاصيل حياة الناس حيث لا خصوصية فيها للفردية والإبداع.

وعندما تٌطرد الحرية تأخذ معها وليدها الذي لايستطيع أن يعيش بدونها أنه الإبداع.

ومن سوء الحظ أن الإبداع في لغتنا يأتي متساوقا مع البدعة والبدعة في الدين- أي دين- ضلالة وكل ضلالة في النار. تماما مثلما كانت كلمة الهرطقة في الديانة المسيحية أيام محاكم التفتيش السوداء.

 لكن الكهنوت -في كل دين- لايعارضون الإبداع حتى النهاية بعد أن يثبت جدواه وتعم فائدته.

فالقساوسة والرهبان في المسيحية بعد أن عذبوا وأحرقوا المبدعين أذعنوا في النهاية للحقيقة والعلم.

ورجال الدين عندنا كذلك أعداء كل جديد وابداع فقد حرموا المدرسة وعارضوا تعليم المرأة ثم أصبحت بناتهم مدرسات ومهندسات وطبيبات وحرموا التلفزيون ثم دخل الى بيوتهم سرا ثم علنا وهكذا يحرمون ثم يذعنون لما حرموه!

مسيرة التحرر:

بأبسط تعريف للحرية نقول: هي قدرة الإنسان على الاختيار بين عدة بدائل متاحة بدون أرغام أو اكراه خارجي.

وبدون اكراه لايتعلق فعل الإرادة على رضا الغير أو رغباته ويصير (أريد) ولا (أريد) فعلا إراديا فرديا خالصا من أي تأثير.

وعلى الضد من هذا فإن العبودية هي العجز عن الاختيار أي تعليق الارادة الفردية على موافقة الغير السيد أو المالك أو المرجع.

ولو تأملنا قليلا في كفاح المتنورين من فلاسفة وعلماء ومفكرين لأمكن تلخيص كفاحهم بجملة واحدة هذه الجملة هي (توسيع مساحة الحرية أمام الإنسان ليرتقي بإنسانيته الى أسمى ممكن أخلاقي وأرقى منتج ابداعي).

معلوم أن التخلص من القيود والمعوقات التي يفرضها نظام العلاقات السياسية والدينية والاجتماعية الظالمة يجعل الإنسان  يبدع حياة تستحق أن تعاش لأن الهدف الحقيقي للحرية يتجلى أساسا في تحصيل المعرفة العلمية التي ترتقي بالإنسان إلى حياة أكثر رفاهية وسعادة.

ونحن ندرك أن الحرية حالها حال كل المفاهيم لها معاني مختلفة- بشرط الزمان والمكان- من فرد إلى آخر ومن مجتمع الى آخر ومن عصر الى آخر.

وعلى نفس النسق فإن تصور كل شخص لحريته الخاصة يختلف كثيرا عن تصوره لحرية الآخرين لا سيما أولئك الذين يخضعون واقعيا أو يمكن أن يخضعوا لسلطته.

ونجد أقرب مثال على هذا التفاوت في العلاقة بين الفئات التالية:

1- الآباء والابناء.

2- العلماء وطلبتهم.

3- الزعماء وأتباعهم.

في هذه الأمثلة الثلاث يؤمن الطرف الأقوى- الأب أو العالم أو الزعيم- بأن حقه في حرية أوسع قائم على معرفة أوسع أو ميزة أرفع أو نسب أشرف.

أي بمعنى آخر قدرة أفضل على ادارة الخيارات الاضافية التي تتيحها الحرية.

هذا التفاوت المدعى هو أصل فكرة السلطة السياسية والاجتماعية والدينية.

وأخطر هذه الزعامات هي الزعامات الدينية وخطرها يأتي من ادعائها بأنها تمثل الله وظله في الأرض فهم وكلاء الله المنتحبين.

بذلك توحد هذه الزعامات بين إرادتها البشرية القاصرة وإرادة الله الكاملة ولك أن تتصور هنا مدى التأثير السلبي على المجتمع لهذا التشبه بالإله.

مبرر الخضوع لرجال الدين:

عندما تسأل الفقيه عن حجة التقليد يجيبك:

حجته عقلية وهي حاجة رجوع الجاهل إلى العالم مع صعوبة وصول الجاهل لما وصل إليه العالم لتعذر ذلك من جهات عدة.

وعندما تسأله عن حجته النقلية يجيبك:

ذلك ما يمكن استفادته من كلام الإمام الصادق (ع):

(فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه)1.

بهذا التنميط يحشر العقل المقلد في بوتقة التبعية عندها يفقد الفرد التابع المبادرة في خلق قيمه وبالتالي سلوكه ثم ينسحب الأمر على المجتمع ككل فيفقد المجتمع جوهره الحقيقي كمجتمع إنساني قائم على الحرية والتنوع والفردانية حيث يتحول إلى قطيع مسلوب الإرادة لأن الفرد فيه مغيب في إيديولوجيا الحشد تماما وإرادته مشلولة معطلة فهو تابع مقلد لغيره لا رأي له ولا قرار.

وبهذا يكون عاجزا عن مواجهة كافة الصعوبات والتحديات التي تواجهة فوعيه زائف لأنه وعي مسلوب فهو لا يرى في التحديات التي يفرضها عليه الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي تحديات طبيعية ولذلك لا يستجيب استجابة عقلية لإيجاد حل ولايستخدم عقله ومهاراته وملكاته لمواجهة هذه التحديات ومحاولة تغييرها أو التغلب عليها بل سيضع كل هذا جانبا ويتجه لأقرب رجل دين يستشيره ويسأله أفعل أم لا أفعل!

وسيقف ممن ينتقد سلوكه هذا موقف العداوة والبغضاء فلا هو يعلم ولا يريد أن يتعلم.

أما إذا ترسخت سلطته السياسية القائمة على عقيدته فيعمد بكل قوة وقسوة إلى فرض حقيقته التي يراها “مطلقة” على الآخرين بالقوة لأنه يراهم ضالين قد حادوا عن طريق الهداية والإيمان الحق في نظره.

وهذا ما يشكل لدى الإنسان المؤمن تلك القناعة الثابتة بمفهوم الإصطفاء لأنه يعتقد أن الله اصطفاه من دون عباده لتنفيذ ارادته الأزلية.

بهذا المنهج يكون رجال الدين (الكهنوت) قد حولوه لأداة من أدوات فرض إرادتهم على المجتمع وينجحون في إقناعه بأن هذا التكليف هو من صميم الإيمان الذي لا يكتمل بدونه. هنا يتحول الإنسان المتدين المذعن لرجال الدين رقيبا على المجتمع وحارسا للعقيدة.

وهنا يبدأ صراع المذعنين مع مع من لا يرى رأيه حيث يصطدم المذعن برفعه راية الخلاف مع كل مختلف لأنه لا يدرك أن الإختلاف كمعطى  هو من صميم ماهية الإنسان ككائن حي.

فالبشر كلهم يسعون غريزيا نحو الإختلاف عن بعضهم البعض في عدة جوانب وهذا في حد ذاته رد فعل طبيعي على سلطة الدولة والمجتمع سواء كان ممثلا في العائلة أو القبيلة أو المدينة أو حتى البلد الذي يعيش فيه وأي محاولة لإلغاء هذا الحق في الإختلاف أو قمعه ومنعه وطرده من المشهد العام عادة ما تنتهي إلى مواجهات عنيفة وصدامات دموية قد تتطور بسرعة لتتحول لحروب وصراعات دامية ﻷن محاولة إلغاء حق الإختلاف هي قمع لحرية غريزية لدى البشر. وعادة ما تكون النتيجة المباشرة مجتمعات مفككة يقاتل بعضها بعضا في إطار حروب أهلية طائفية أو دولا فاشلة وعاجزة عن التطور والإرتقاء لما هو أفضل على كافة المستويات سواء كانت حضارية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية لكونها منشغلة بصراعات تافهة تبحث عن مواطن الإختلاف وتحاول قمعها عوض البحث عن نقاط الإلتقاء التي توحد المجتمع في إتجاه يعود بالنفع الإيجابي على أفراده وبالتالي فهي مجتمعات متحجرة لا تنتج شيئا ذا قيمة وتكتفي بإستهلاك ما ينتجه الآخرون. بينما تتقاتل لفرض رؤية طائفية بدائية غيبية على الجميع لأنها تؤمن ضمنيا بأن ما تريده الآلهة للبشر هو ما يصح بالضرورة وعلى الجميع الإمتثال له حتى بالقوة دون أن تأخذ بعين الإعتبار تلك الحقائق التي يفرضها واقع عالمي يتغير ويتطور بسرعة متزايدة كل يوم.

إن شخصا يدعي لنفسه الحق في التحكم بالآخرين لأنه يرى في نفسه أنه ظل الله في أرضه سوف يقود هذا المجتمع إلى الهلاك حتما.

من هذا نفهم إن كل دولة دينية تخشى من الحرية لما تتصوره فيها من زوال أو ضعف الضوابط الاجتماعية التي تحفظ القيم ومعايير السلوك الفردي التي تترجم في النهاية إلى خضوع سياسي يخدم أغراضهم السياسية. ولو لاحظتم فإن كثيرا من كتابات رجال الدين وخطبهم تتعمد المبالغة في التحذير من عواقب التحرر وتذكير القارئ والمستمع بأن الحرية قد جرت على العالم مفاسد اجتماعية واخلاقية.

بمعنى آخر ان الخوف من الحرية ومعارضتها كان ولا يزال يبرر على أساس الحاجة الى صيانة القيم الاخلاقية.

هذا الخوف ناشئ بطبيعة الحال عن حقيقة إن "الانضباط السلوكي" هو الذي يمثل الهم الأكبر للمجتمع المتدين ولو كان التقدم العلمي - اي الارتقاء الإنساني والحضاري- هو الهم الأكبر للمجتمع لكان الخوف من الحرية في المستوى الأدنى أو ربما كان منعدما.

ما ينبغي أن يقال في هذا الصدد هو إن حرمان المجتمع من الحرية لا يجعله فاضلا أو نظيفا بل يزرع فيه بذور النفاق. وتدل تجارب التاريخ المعاصر على إن الناس قد نجحوا في توفير بدائل لما منعوا منه.

القمع والمنع القسري دائما يجعل الحريات الفردية والثقافية والاجتماعية تمارس في السر وهي تشكل أسلوب حياة متكامل لشريحة غير صغيرة في المجتمعات التي تطبق قوانين دينية متشددة.

وقيام مجتمع سري ليس هو المشكلة الوحيدة التي تترتب على تحديد الحريات الفردية والعامة.

إن أخطر الآثار هو اغتراب الإنسان وينتج عن الأغتراب واقعة سايكولوجية معقدة ولها تداعيات خطيرة هي:

- الاستسلام السلبي: الاستسلام السلبي يخلق في نفس الفرد عزوفا شديدا عن المساهمة في أي عمل اجتماعي مشترك ذو نفع اجتماعي عام حتى في المستويات الدنيا بإستثناء الممارسات الطقوسية التي ينتجها التخلف الطائفي والتي تنمو تدريجيا عبر تراكم الأسطورة المؤسسة حتى تخرج بالكامل عن حيز المعقول.

وعندما ينتهي حشد حفلة اللامعقول يعود المغيبون إلى جحورهم يمارسون نفس رذائلهم التي اعتادوا عليها حيث يصير كل فرد جزيرة مستقلة ومنعزلة عن الآخر لا يشارك في الفعل الاجتماعي العام ويعيش حياة بلا معنى مغترب وغريب مثلما كل من حوله مغترب وغريب حياة سلبية بالكامل تلفها العزلة كالكفن.

تعد العزلة -زمانية ومكانية- من أخطر موانع تطور العقل الإنساني وهي من العوامل الموضوعية الذي أدت سابقا وتؤدي حاليا الى تحجر العقل وسجنه في نسق ادراكي متدني لا يتفاعل مع ما حوله بشكل إيجابي فيظل خارج التاريخ بهوية منغلقة والهوية الإنسانية حالها حال أي علاقة اجتماعية تاريخية تتحدد من خلال الشرط التاريخي الفاعل في صياغة تفاصيلها الحاضرة وتطورها.

وهناك أيضا عامل ذاتي كمانع من موانع تطور العقل الإنساني يكمن في النسق المعرفي للدين ذاته فالدين كفاعل معرفي يتخذ شكل تمثلات وتصورات بدائية ملتبسة تحيل معرفيا إلى متخيل وهمي يتخارج مع كل إدراك عقلي مبني على العلم والمنطق. فهو عالم ممكنات محض كل شيء فيه قابل لأن يكون وجودا لأن وجوداته وجودات بلا شروط منطقية ولا يخضع لأي قانون من قوانين الإدراك العقلي.

ويعتبر الدين أحد أهم المرتكزات الأساسية في تشكيل الهوية وإدامة وجودها في المجتمعات المتخلفة.

غير أن الدين هو ذاته - كمعطى تاريخي- يخضع إلى التغير والتغيير كلما أحدث الواقع التاريخي منعطفا على أساسه يتم تجاوز الأشكال التي يظهر هذا الدين من خلالها وهذا ما يجعل الهوية أيضا معطى يعاد بناؤه وفق خصوصيات المرحلة التاريخية ووفق أشكال تدخل الفاعل في تحديد معالم هذه الهوية والتي يكون لها أثر في أشكال وجود الإنسان وثقافته التي يتمثل العالم من خلالها.

هذان العاملان- العزلة ونسق الوهم- يؤكدان الفرضية العقلية التي تقول إن الفكر الإنساني وليد عوامل ومعطيات صاغها الوجود الإنساني. فالفكر الإنساني مرتبط وجوديا بتلك القوانين التي يحددها التاريخ ويفرضها على العقل الإنساني.

نستنتج من ذلك أنه ليس هناك خلود لفكرة معينة سواء كانت فكرة دينية أو اجتماعية فكل شيء يخضع لقانون التطور التاريخي وبناء على ذلك أيضا ليس هناك انتماء حقيقي لزمن مضى وانقضى فذلك الزمن حدث بشروط تاريخية وينتهي بشروط تاريخية ويظل الانتماء الحقيقي هو الانتماء لقانون التطور والترقي والتحول الجوهري في المضمون والوظيفة.

هذه هي محصلة الفهم النهائي لفلسفة التاريخ.

نعم جوهر خطاب الدين وشعاره (لا جديد تحت الشمس) فلحظة انبثاقه التاريخية هي نفسها لحظة نهاية التاريخ بالنسبة له ولذلك تجد المتدين مشدود إلى تلك اللحظة يريد استعادتها بكل ما يستطيع من قدرة وإلا يظل معذب الوجدان يشعر بالغربة ذاتا وموضوعا.

وعلى أساس هذا الفهم نستطيع أن نصف الدين (بالرجعية) كنسق مفهومي وفكري وهو في مواجهة دائمة مع التغير والتغيير.

كهنة الدين يدركون هذا الحكم العقلي ويعرفون إن المستقبل ليس في صالحهم لذلك لجؤوا الى تطوير دفاعات علها تنجيهم من النهاية المحتومة ومن هذه الدفاعات ما يسمى بالتأويل وهو في الأصل عبارة عن ترقيع لما ينخرق من أركان الدين به أرادوا التغطية على التناقصات الفاضحة والواضحة في متبنياتهم الفكرية.

الفكر الحر والحامل لروح التجدد قادر وبحسب طبيعة تكوينه والعوامل التي ولدته وهي المخزنة من التجربة البشرية الطويلة تاريخيا أن يفهم بصورة أكثر عمقا مشاكل عصره من عمق الرؤية ومن عدة زوايا ومسارات للواقع والبحث عن الإشكاليات التي تنتاب المجتمعات نتيجة استحقاقات التطور هذا بالطبع ليس قولا نظريا افتراضيا خاليا من حجة أو

أثر حقيقي ولكنه من صميم طبيعة الفكر المتحرر من العزلة الفكرية أو الانتماء لمحدد أخر غير العقل.

عندما يتحرر الإنسان من علاقة التبعية يصبح أكثر جرأة فيكتشف الأفق الممتد من حوله ويتعرف على مساحة أوسع من واقع جديد لم يألفها من قبل تحمل له الكثير من المعطيات الفكرية الجديدة وتساهم في جعله يتحرك بحرية أكبر تزداد في توسعها يوما بعد يوم.

عندها سيتضح له جملة من الحقائق منها:

1- أن الكون أكبر وأوسع وأعقد بكثير من تصوره وهو يعيش على كوكب صخري يعتبر ذرة غبار في مجرة التبانة.

2- أن الدين موروث اجتماعي وتنشئة أسرية فلم يختر أحد دينه بمحض عقله وإرادته.

3- أن الإختلاف قانون كوني وطبيعة إنسانية وعليه لا يجب الخلاف على الإختلاف.

4- أن الخير والشر محض أوصاف للعلاقة الإنسانية فليس هناك خير مطلق وليس هناك شر مطلق وهذه هي طبيعة فهم الإنسان للواقع.

5- أن العدالة الاجتماعية هي الهدف الأسمى لكل متنور للتقليل من اختلاف الاستعدادات وتقليصها إلى أقل قدر ممكن نحو عدالة إنسانية فاضلة.

أعتقد إن من المناسب القول ختاما أن حملة الفكر النير وكل من يسلك سلوكا إنسانيا مستنيرا عليهم أن يدركوا حقيقة مهمة للغاية هي:

أن أي فكر  مشروط بزمانه ومكانه -وإن كان صالحا- هو علامة لمرحلة تاريخية معينة أو محل تقدير وتفهم في فترة ما لكن ذلك ليس دليلا على بقائه فاعلا إلى الأبد لأن أي فكر مهما كان متينا محتاج لوقت لكي يكشف عن التفصيلات الصالحة منه للتطور ويختبر قدراته على المعايشة الزمنية لمرحلة ما كما أن هذه الفترة تمثل له فترة حضانة للفكر القادم الذي سيغير قواعده كما غير هو قواعد الفكر الذي سبقه وهذا هو مفهوم الديالكتيك.

***

سليم جواد الفهد

...............

1- الاحتجاج، ج2، ص263.

 

الصمت وجوه من وجوه الكلام، والتأمل وجوه من وجوه التفلسف، وبين الصمت والتأمل تنبثق الذات الواعية، المفكرة، المتسائلة بغية التنقيب والتفتيش  لتسبر أغوار المسكوت عنه الذي تلوكه الألسن وتكشف عن المحجوب، الخفي، المستتر للمفكر المبدع والفيلسوف المتأمل الذي يوجس خيفة هذا الصمت، حتى تنبلج أفكاره في فضاء الدرس الذي هو جواب على مشكلة فلسفية أو رأي من آراء الفلاسفة والأساتذة، فلا تقتصر أهمية التدريس الفلسفي إلا على المواصفات الايجابية التي تسعى إليها بيداغوجيا الكفاءات في منهاجنا التربوي الجزائري،المتمثل في تكوين مواطن له شخصية فاعلة تساهم في تنمية المجتمع الذي ينتمي إليه،ويكون فاعلا حقيقيا في تفاعله البناء مع محيطه المحلي والوطني، متفتحا على مكتسبات المجتمع الإنساني عامة.ولا شك أن الدرس الفلسفي أرضية خصبة لتكوين هذه الشخصية ونموها ونضجها ورسوخها، إذا تم استغلاله استغلالا تربويا، ففي طبيعة التدريس القائم على الدرس الفلسفي وفي خصائصه ومنطقه ما يبرز ذلك، علما أنه:

- الدرس التفكيري: يكسب المتعلم قدرات عقلية تمكنه من ممارسة أفعال السؤال والشك، الحجاج والنقد، البحث والتمحيص.هي أفعال تؤسس فكر التحليل والتركيب والتقويم والإبداع.

- الدرس التحديثي: يساهم في تطوير نوعية الثقافة المدرسية،لدى المتعلم ويفتح أمام تكوينه المعرفي مسلك وضرب التنوير العقلاني وهو جزء لا يتجزأ من كل حداثة منشودة،نتوخاها في التدريس.

- الدرس المنهجي النقدي: يجعل الذات واعية في التعامل مع قضايا العالم المعاصر الذي تتسارع ثقافته ومعلوماته وتتجه إلى الهيمنة على العقول والأفكار والمعتقد، إذن هناك علاقة تكامل وارتباط عضوي بين ما يميز تدريس الفلسفة في الجزائر، من جهة، وبين ما تستهدفه التربية التعليمية من جهة أخرى.

لكن كيف نحقق إستراتيجية ناجعة وفعالة في منظومتنا التربوية لإنجاح كفاءات التدريس الفلسفي في الثانوية العامة قاطبة؟ وكيف يتم كسر جليد الجمود والركود في المنهاج المغيب للدرس الممتع؟

لا يتجلى هذا إلا بالاعتماد على موارد أساسية، تعتبر القاعدة الصلبة المتينة في التدريس الناجح وهي:

المكون، الأستاذ، المنهاج.

المكون: إذا كان هذا هو المنتظر من أستاذ الفلسفة في الثانوية تحقيق كفاءة تدريس، يحق لنا أن نتساءل عن تكوين هذا الأستاذ.

هل التكوين الذي يخضع له أستاذ الفلسفة بهذه الشعبة بالمدرسة العليا للأساتذة والجامعة الجزائرية عبر المعمورة ملائم لما ننتظره من تدريس الفلسفة بالثانوية العامة؟

وهل يؤهله هذا التكوين بالشروط التي رسمتها بيداغوجيا الكفاءة في التدريس؟

ثم ما هي مواصفات هذا التكوين؟

من هنا تبرز ضرورة الاهتمام الجدي الفعال بالتكوين لكل مقبل على عملية التدريس،لأنه المعول عليه بالدرجة الأولى في الحفاظ على مكسب تدريس المادة،وتوسيع الفئات المستهدفة به وتعميميه هو العناية أولا بالأستاذ نظرا لخطورة المهمة وجسامتها فالشهادات الجامعية وحدها لا تؤهل لممارسة التدريس الممتع، فالمعول عليه في كل هذا تكوين المكون الذاتي المتجدد والمستمر،وغاية التكوين في جزئه الأكبر هو جعل المكون يشعر بثقل المسؤولية ونبلها وخطورتها.

إن هذا النوع من الوعي ثمين جدا،لأن الواعي بالشئ أفضل بكثير من الجاهل به، وهو الوعي الذي سيجعل المكون يراجع الأنا أو الذات باستمرار ويشك فيها « إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة والضلال»[1]، منتقدا إياها أولا باعتبارها محور العملية التعليمية التعلمية،بدل توجيه سهام النقد للأخر المتعلم أو الظروف الخارجية كما نجده عند بعض المدرسين، لهذا يجب الإقرار بأن هناك مشكلة في المكون، وإشكالية كبرى في التكوين كذلك، فالأول يغلب عليه الجانب النظري والتنظيرات السطحية،ويفتقر إلى العمق فلا بد من تكوين تربوي ديداكتيكي، يكسب المكون مؤهلات ومهارات وقدرات للقيام بهذه المهمة باعتبارها ممارسة واعية سليمة تربوية.والثاني يجب أن يخضع لمواصفات تتمثل في الحصول على مرونة معرفية وبيداغوجية وديداكتيكية باستعمال الآليات الضرورية وتحويلها إلى مادة دراسية ملائمة. وتتحدد ملامح النموذج الأمثل للتكوين، في المهارات الأساسية لإنجاز درس فلسفي بالمواصفات التربوية وفق بيداغوجيا الكفاءة في الثانوية « إن الفلسفة الأعلى، بالنسبة للغايات الجوهرية للطبيعة البشرية، ليس في وسعها أن تؤدي إلى أبعد مما تفعله القيادة الممنوحة للحس المشترك»[2]

الأستاذ: يحتل مكانة بارزة في العملية التعليمية التعلمية لما يقدمه من مجهود جبار في إنجاح الدرس الفلسفي، لكن كيف يدرس الأستاذ في الصف؟

كيف يقدم درسه الفلسفي ويمرر المنهاج ويطبق معلوماته وفق الإستراتيجية الجديدة؟

من الناحية البيداغوجية والتشريعية والمؤسساتية الأستاذ ملزم ببرنامج، وليس له هامش من الحرية للتصرف،ولكن الأستاذ هو أولا وقبل كل شئ حصيلة تكوين وبحث مما يحيلنا إلى سؤال التكوين في مدارسنا العليا وجامعتنا ومعهدنا،فنقول إن التكوين تم ضمن تلك الظروف الصعبة،لدى يجب الإقرار بالخلل الذي يعانيه الأستاذ،والمشكلة الكبرى لا يملك الأستاذ المقدرة على تحسين مستواه،ولا تمكنه المؤسسة الجامعية إلا من خلال تربصات وبحوث نعتبرها محدودة للغاية.وعلى مستوى التكوين الإضافي للأستاذ المتخرج بشهادة اللسانس من الجامعة، بالنسبة لمعاهد تكوين الأساتذة وتحسين مستواهم،لا يصبو إلى تطلعات هؤلاء وطموحاتهم،إذ يغلب عليه الطابع النظري لا التطبيقي،فمقياس علم النفس المراهق ،يبقى تدريسه في المعهد نظريا،لا نجد تشخيص للمشكلات الصفية التي يعاني منها الأستاذ، وكيف يعالجه؟

وما هي الحلول التشخيصية العلاجية للمشكلات الصفية؟

أما مقياس علوم التربية لا يرقى إلى الجانب التطبيقي الإجرائي،حيث يركز على النظريات التربوية القديمة في شقها النظري،ولا يقدم نظريات تربوية عملية تعلم الأستاذ كيف يربي التلميذ ؟كيف يتعامل مع المشاكل الصفية في حجرة الدرس؟

منهاج مادة الفلسفة: قد نتفق على أن الدرس الفلسفي عبارة عن لغة فلسفية تتميز ببعض المميزات الخاصة كالتجريد والدقة والمعنى الخاص للفيلسوف « ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير»[3]، وهي تحمل أفكار وأدلة وسياقات ثقافية مختلفة مما يحتم علينا طرح هذه الأسئلة:ما الهدف من تدريس الفلسفة اليوم؟ ماذا نريد من هدف التدريس؟ هل نريد إكساب التلاميذ مناهج في البحث النظري المجرد؟ هل نريد تدريب التلاميذ على التفلسف الذي يشغل الفكر والعقل ويكسب العقلانية والتعقل، ومهارات الحجاج المنطقي؟ وأي برنامج ومحتوى يلزم وضعه للدرس من أجل تحقيق ما نصبو إليه؟

الإجابة مع الفلسفة بغية نقد منهاج مادة الفلسفة بالأمس كان برنامج الفلسفة يُمتع التلميذ وُيسعد الأستاذ متسلسل في دروسه من فلسفة العمل إلى نظرية المعرفة،يخدم الإطار الفكري العام،أما اليوم نحن نعتقد أن البرنامج الحالي للفلسفة يفتقد إلى الإطار الفكري العام والوحدة النظرية والمنهجية للدروس.إننا نشعر عندما ننتقل من درس إلى درس ومن إشكالية إلى إشكالية،أننا ننتقل من فجوة إلى فجوة،ومن جزيرة إلى جزيرة دون أدوات ربط منهجية أو فكرية – فالفلسفة تناغم وانسجام حسب المدرسة الفيتاغورية- وهذا ما يجعل الوعي الفلسفي للتلميذ مشتتا بين كل دروس البرنامج السنوي.

لماذا مشكلة الحقيقة ومشكلة المعرفة موجودة في آخر البرنامج؟

ألا نعتقد أنها من الدروس الافتتاحية، لأن التلميذ بفضل هذه المشكلة يتعلم مصدر معارفه، وأهم التيارات الفلسفية المكونة للفكر الفلسفي منذ القديم إلى اليوم.ثم ما الفائدة من تدريس مشكلة العلوم البيولوجية بالمفاهيم الكلاسيكية، والوقوف على إشكالية الآلية والغائية في علم البيولوجيا، وإهمال المفاهيم الحداثية والمعاصرة في علوم الحياة والعلوم البيولوجية مثل الهندسة الوراثية والاستنساخ وأطفال الأنابيب.لماذا نزج بمحاور إنسانية فكرية روحية كالتصوف والذوق، رغم التباين الأيديولوجي والتكوين النفسي للتلميذ،مع هكذا مواضيع تحتاج إلى درجة من عملية الرشد الذهني.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

.....................

قائمة المراجع:

أبو حامد الغزالي: ميزان العمل، طبعة أولى 1964، دار المعارف مصر

جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، تعريب، أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، طبعة أولى 1997، بيروت.

رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، طبعة أولى سنة 2021، أدليس بلزمة للنشر والترجمة، باتنة، الجزائر.

هوامش

[1] أبو حامد الغزالي: ميزان العمل ، ص 204.

[2]  جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، ص 37

[3]  رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، ص: 31.

 

بقلم: ماندي أوكلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد ملأ برادلي جولدمان قميصًا كبيرًا الحجم طوال حياته البالغة. بصفته لاعب كمال أجسام، كان يعلم أن التدفق المستمر من البروتينات الخالية من الدهون والأوزان الثقيلة والمنشطات من شأنه أن ينمى عضلاته ويجعهلها اكثر بروزا .

لكن على مدى الأشهر الستة الماضية، شاهد جولدمان، مستشار اللياقة البدنية والتغذية في لوس أنجلوس، جسده المرفوع يلين ويتقلص. ويقول: "لقد أصبت بحالة من الكسور منذ بضعة أسابيع، واضطررت إلى شراء قميص بمقاس أصغر بالكامل". لقد جربه لزوجته بريتاني، وكان معلقًا على إطاره. يقول: "لقد هززت رأسي نوعًا ما". كان يعلم أنها رأت التغييرات أيضًا.

بدأ جولدمان، البالغ من العمر الآن 30 عامًا، بتناول المنشطات في عمر 18 عامًا. وقد سمع أنها يمكن أن تتداخل مع الخصوبة - حيث يمكن للستيرويدات إيقاف إنتاج الجسم الطبيعي لهرمون التستوستيرون - ولكن مثل العديد من الشباب، كان مهتمًا بعدم إنجاب الأطفال أكثر من اهتمامه بإنجابهم.. والآن يحاول هو وزوجته الحمل، وعلى الرغم من أنه تخلى عن المنشطات منذ عامين، إلا أنه يبدو أن الضرر قد حدث.

عندما أجرى تحليل السائل المنوي في شهر مارس الماضي، عاد عدد الحيوانات المنوية لديه إلى الصفر. يقول: " لقد كان الأمر مزلزلاً للأرض".

بدأ بتناول أدوية الخصوبة لمساعدة خصيتيه على التعافي. ولكن بعد مرور ثلاثة أشهر، لم يكن لديه أي حيوانات منوية. كان يحقن نفسه بهرمون التستوستيرون لأن جسده لم يعد قادرًا على إنتاجه بشكل طبيعي، لكن طبيبه أوصى بالتوقف لجعل أدوية الخصوبة أكثر فعالية. الآن يتزايد عدد الحيوانات المنوية لديه ببطء، لكن دافعه الجنسي قد ذبل، إلى جانب طاقته و30 رطلاً من العضلات. صار لديه دهون في أماكن لم تكن موجودة من قبل، بما في ذلك أنسجة الثدي. لقد أصبح مكتئبا.

على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، قام جولدمان بتقليل عدد الصور بدون قميص ونشر بدلاً من ذلك المزيد من الصور بأكمام طويلة. ولكن إلى جانب ثقته بزوجته، لم يشارك علنًا ما يحدث بالفعل. يقول: "لدي أكثر من 10000 شخص يتابعونني على إنستغرام، والذين لا يعرفون من أنا بحق الجحيم".

يُنظر دائمًا إلى العقم على أنه مشكلة تخص المرأة، وصحيح أن المرأة تتحمل العبء الأكبر منه. إنهن هن اللاتى في النهاية إما أن يحملن أو لا يحملن، وبغض النظر عن الشريك الذي يعاني من مشكلة الخصوبة، فإن جسد المرأة عادة ما يكون موقع العلاج. على سبيل المثال، يتطلب التخصيب في المختبر (IVF) في كثير من الأحيان عينة من الحيوانات المنوية من الرجال فقط، ولكنه يتطلب أكثر بكثير من شركائهم الإناث: حقن الهرمونات الاصطناعية، واختبارات الدم، والموجات فوق الصوتية.

ومع ذلك، فإن ما يصل إلى 50% من الحالات التي لا يتمكن فيها الأزواج من إنجاب الأطفال ترجع بطريقة أو بأخرى إلى الرجال. يتحدث المزيد من الرجال عن هذا الأمر الآن، لكنه لا يزال مدعاة للخجل أو العار، خاصة في الولايات المتحدة. الرجال غائبون إلى حد كبير عن الحديث العام حول العقم، وحتى أولئك الذين بحثوا عن الدعم يترددون في تعريفهم على أنهم شخص يعاني من العقم عند الذكور.

يقول جولدمان: "أشعر وكأنني رجل ذو مظهر ذكوري نمطي". "أنا موشوم. لدي عضلات. أمارس الرياضة. وأنا عقيم. كم عدد الرجال الآخرين الذين لديهم هذه الرجولة، وهذه العقلية، هم في مكاني أيضًا؟"

بعض الرجال، مثل جولدمان، يعرفون سبب إصابتهم بالعقم. أحد الأسباب الأكثر شيوعًا هو دوالي الخصية. في بعض الأحيان، تنمو الأوردة الموجودة في كيس الصفن بشكل كبير جدًا وتتشابك، مما قد يؤدي إلى ارتفاع حرارة الخصية وإضعاف وظيفة الحيوانات المنوية. ويمكن في كثير من الأحيان إصلاح هذا عن طريق الجراحة. ومن المعروف أيضًا أن بعض الأدوية، بما في ذلك المنشطات وأدوية تساقط الشعر، تؤثر على الخصوبة لدى الرجال، وكذلك السمنة وغيرها من المشكلات الطبية. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن العمر عامل مساهم آخر، حيث أن جودة الحيوانات المنوية، وليس فقط جودة البويضات، تقل كفاءة مع مرور الوقت.

لكن العديد من حالات العقم عند الرجال تكون مجهولة السبب، مما يعني أن سببها يظل لغزا بالنسبة للأطباء. قد يكون للوراثة أو العوامل الصحية الأخرى دور في ذلك، أو قد يكون لشيء بيئي. النظام الغذائي، والكحول، وتلوث الهواء، والإجهاد، والمبيدات الحشرية، والمركبات الموجودة في البلاستيك،حتى ارتداء الملابس الداخلية الضيقة بدلا من البوكسرات الواسعة . لقد أشارت الأبحاث إلى تورط كل هذه العناصر في التدهور المحتمل للخصوبة، ويحاول العلماء معرفة ما هو الأكثر أهمية. يبدو أن الأمر أصبح أكثر إلحاحا. وجد تحليل للدراسات لعام 2017، نُشر في مجلة التكاثر البشرى الحديثة ، أنه بين الرجال الذين يعيشون في الدول الغربية، انخفض عدد الحيوانات المنوية بأكثر من 50٪ في أقل من 40 عامًا.

خلال السنوات الثلاث التي قضاها الدكتور جيمس كاشانيان في ممارسة طب المسالك البولية في كلية طب وايل كورنيل في مدينة نيويورك، لاحظ تحولًا في كيفية تعامل الرجال مع هذه القضية. اعتاد الأزواج على افتراض أن المشكلة تكمن في المرأة، فيلجأون إلى التلقيح الاصطناعي والتلقيح داخل الرحم (IUI) - حيث يتم إدخال الحيوانات المنوية مباشرة في الرحم - قبل استكشاف المشكلات مع الرجل. ويقول: "الآن، أصبح الأطباء والمرضى والأزواج أكثر وعياً بهذا العامل الذكوري، ويتطلعون للحصول على إجابات عاجلة".

ومع ذلك، بعد أن يغادر الرجال عيادة الطبيب، غالبًا ما يواجهون مشاعر قاسية: الشعور بالذنب، لأن شريكتهم لا تستطيع أن تنجب طفلهم البيولوجي، وما يجب أن تمر به للقيام بذلك؛ العار، لعدم القدرة على أداء العمل الفذ الأساسي للتكاثر؛ الوحدة، لأنهم يشعرون أنهم الوحيدون في هذه الحالة.

تقول إسمي حنّا، الباحثة في العقم عند الذكور في جامعة دي مونتفورت في إنجلترا: "كانت هناك فكرة تاريخياً مفادها أن الرجال لا ينزعجون من العقم أو الإنجاب أو الأطفال، وهذا غير صحيح". في استطلاع عام 2017، سألت حنا وفريقها  من الباحثين 41 رجلاً عن مدى تأثير العقم على حياتهم؛ قال 93% أن ذلك كان له تأثير سلبي على صحتهم واحترامهم لذاتهم. استمرت نفس المواضيع في الظهور: شعر الرجال بالاكتئاب والوحدة والقلق بشأن مستقبل بدون أطفال - وحتى الانتحار. ومع ذلك فإن ما يقرب من 40% منهم لم يطلبوا الدعم.

العقم أمر خاص بالنسبة لكثير من النساء أيضا. لكن لدى النساء خيارات للعثور على مجتمع يمكن أن يرتبط بما يمررن به، بما في ذلك مجموعات الدعم، ومنتديات المناقشة عبر الإنترنت، ومجموعات الفيسبوك. على الرغم من أن 12% من الرجال الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و44 عامًا يعانون من العقم، إلا أن هناك مجموعات قليلة - شخصيًا أو عبر الإنترنت - مخصصة لعقم الرجال. تضاعف حجم إحدى المجموعات الأكثر شعبية على فيسبوك المخصصة للرجال فقط، وهي Mens Fertility Support، في عام 2017. ومع ذلك، لا يزال عدد أعضائها أقل من 1000 عضو.

ومن بين هؤلاء أندي هانسن، وهو تقني أشعة سينية يبلغ من العمر 33 عامًا ويعيش خارج سانت لويس. في عام 2015، علم أنه يعاني من انخفاض عدد الحيوانات المنوية بسبب دوالي الخصية. ارتفعت أعداده بعد الجراحة، ولكن بعد خمس سنوات من المحاولة، وخمس جولات من التلقيح الصناعي والتلقيح الاصطناعي، وإجهاضين، ظل هو وزوجته بدون أطفال. ويقول إن "اللوم" تحول ذهابًا وإيابًا. "كلانا يعرف ما يعنيه أن تكون في هذه النهاية."

لقد حضرا مناسبة في عيادتهما على أمل مقابلة الأزواج في وضعهما، ولكن كما يتذكر هانسن، كان هناك عدد قليل من الرجال، إن وجدوا. لقد جرب مجموعة فيسبوك للعقم تضم أكثر من 20000 عضو. ويقول: "لم يكن هناك رجال، ربما واحد أو اثنان".

وأخيرا، وجد دعم الخصوبة للرجال، والذي من خلاله يستطيع هو والرجال الآخرون تقديم النصح لبعضهم البعض والمواساة. يقول هانسن: "إن إيقافه أمر مرهق". ومع ذلك، فقد تم إدراك أن معظم أعضاء المجموعة يقيمون في المملكة المتحدة. يقول هانسن: "في أمريكا، "يميل الرجل إلى الشعور بأنه يجب أن يكون الصخرة".

تقول ليبرتي بارنز، عالمة الاجتماع الطبي ومؤلفة كتاب "تصور الذكورة: العقم والطب والهوية" الصادر عام 2014: "إن الكثير من الرجولة في أمريكا تدور حول كونك قويًا ومستقلًا وقادرًا مثل الرجال الآخرين" "إذا لم تتمكن من حمل زوجتك، فلا يمكنك إلا أن تقارن نفسك بالرجال الآخرين وتشعر بالنقص".

لكن الأفكار حول الذكورة يمكن أن تكون مرنة بشكل مدهش في مواجهة العقم، كما تقول بارنز. فمن أجل إنجازكتابها، أجرت مقابلات مع 24 زوجًا أمريكيًا، مرة بعد تشخيص إصابة الرجال بالعقم، ومرة أخرى بعد عامين تقريبًا. تقول بارنز: "يمكنك أن ترى أنهم كانوا يعملون بجد لمحاولة معالجة تجربتهم وإعادة تعريف معنى الرجولة بالنسبة لهم". أكد الرجال على دورهم كزوج صالح أو استعدادهم ليكونوا أبًا صالحًا. بالنسبة للكثيرين، كونك رجلاً يعني الخضوع لجميع أنواع إجراءات الخصوبة - مهما كانت مؤلمة - "لتثبت لزوجتك أنني قوي، وأنني شجاع، وأنني على استعداد للقيام بكل ما يتطلبه الأمر".

تجنب جولدمان الانضمام إلى مجموعة فيسبوك لمدة شهر بعد أن أخبرته زوجته بذلك. يقول: "لم أكن على استعداد لمشاركة ما مررت به مع مجموعة من الأشخاص العشوائيين". ومع ذلك، فقد رضخ في النهاية. عندما قرأت له منشورًا لرجل دفعه صراعه مع العقم إلى التفكير في الانتحار، عند ذلك انهار جولدمان باكيا. يقول: "هذا ما يمر به الكثير من الرجال ويبقون أفواههم مغلقة".

تعتقد فيليس زيلكويتز، مديرة الأبحاث في الطب النفسي في المستشفى اليهودي العام في مونتريال، أن المجموعات عبر الإنترنت تحمل الكثير من الأمل لأنها تعمل على تطبيع تجربة العزلة. وتقول إنه من الصعب على الرجال التحدث عن هذه القضايا، "لأنهم غير متناغمين مع أقرانهم - فمعظم الأشخاص الذين يعرفونهم ينجبون أطفالًا، وهم ليسوا كذلك". وتقوم الآن هي وفريقها باختبار تطبيق قاموا بتطويره، يسمى العقم / Infotility، والذي يقدم للرجال خطوات يجب اتخاذها لتحسين خصوبتهم بالإضافة إلى لوحة رسائل.

نشر جولدمان ذات مرة على مجموعة الفيسبوك الخاصة؛ علاوة على ذلك، فهو لا يتحدث علانية عن عقمه على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن في الآونة الأخيرة خطرت له فكرة إنشاء سلسلة على اليوتيوب حول تجربته. قال: "لا يجعلك الحديث عن ذلك ناعمًا". "هذا لا يجعلك أقل من رجل." إذا كان بإمكانه إخبار رجل آخر بأنه ليس وحيدًا، "فإن رواية قصتي والتعرض للخطر أمر يستحق ذلك بالتأكيد".

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: ماندي أوكلاند/ Mandy Oaklander تكتب ماندي أوكلاند وتحرر الأخبار الصحية لمجلة TIME.

رابط المقال على مجلة تايم:

https://time.com/5492615/male-infertility-taboo-society-shame/

تعد قضيّة (أنسنة التراث) من القضايا المهمة والتي تحاول أن تجسد في التراث صفة "الإنسانية"، باعتباره نتاجًا بشريًا وجهدًا إنسانيًا، ينزع عنه صفة "العصمة" التي اكتسبها العقل الإسلامي بتفاعله مع الوحي الإلهي، وقد هدف هذا البحث إلى بيان أبرز الجهود الفكرية الإسلامية المعاصرة في أنسنة التراث.

وعندما نغوص في فكر حسن حنفي فنجده انه قد تمكن من رسم مساحته الخاصة في خارطة الفكر الحداثي العربي، وتميز مشروعه الفكري بتنوع موضوعاته وغزارة انتاجه، وكذلك المزاوجة بين ما هو فكري وما هو سياسي . وحسن حنفي على خلاف المفكرين الذين دعوا إلى القطع مع التراث للوصول إلى الحداثة، إذ رأى أن التراث الديني بعد اخضاعه لعمليات التفكيك والتركيب صالح ليكون أساسا لفكر أيديولوجي يحمل مشروعا سياسيا تغييريا، وهذا الربط بين الفكر والسياسي نجده في مجمل مشروع حسن حنفي، فاستكانة الشعب ورضاه بما يمن به الحاكم كحالة سياسية – اجتماعية، تميز النظم الشمولية،تأسس فكريا حين تم تقديم الإيمان على المعرفة، وجعل هذا الإيمان فوق النقد والتمحيص؛ أي أن تغيير الواقع السياسي لا يتم دون تفكيك الأسس الفكرية المُشكلة لهذا الواقع وإعادة بناءها من جديد.

تُرى هل نحن بحاجة لإعادة قراءة التراث؟، وكيف؟، وهل التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة؟، وكيف تتم إعادة بناء التراث بالنظر في علم أصول الدين وبناء نظرية معرفية جديدة داخله؟ وهل التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية عند حسن حنفي؟

التراث في نظر حسن حنفي ليس قيمة فى ذاته إلا بقدر ما يعطى من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره؛ فهو ليس متحفًا للأفكار نفخر بها وننظر إليها بإعجاب، ونقف أمامها فى انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل، وموجِّه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية؛ فالتصنيع والإصلاح الزراعي قد يتحطمان؛ لأن الإنسان وهو العامل والفلاح، لم تتم إعادة بنائه ووضعه في العالم، وظل متخلفًا عن مظاهر التقدم، فالثورة الصناعية والزراعية في البلاد النامية لا تتم إلا بعد القيام بثورة إنسانية سابقة عليها وشرط لها؛ لذلك تعثر العمل السياسي في البلاد النامية وفشلت الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه.

ومن جهة أخرة فقد كان لنشأة حسن حنفي في ظل نظام جمال عبد الناصر، ثم احتكاكه بالفلسفة الأوروبية أثر بلا شك على مشروعه الفكري، حيث أراد أن يُعمل أدوات الفكر الحديث في التراث الإسلامي للخروج بفهم جديد يناسب العصر ومهمات التحرر والاستقلال والتحديث التي حاولت الدول العربية أن تتصدى لعا، وكان حسن حنفي من المفكرين الذين أمنوا بقدرة مجتمعاتنا على النهوض استنادا على تراثها، لا بالقطع معه، فحاول التأسيس للاهوت تحرير إسلامي، وبناء ما اعتبره يسارا إسلاميا حاصا في كتابه " من العقيدة إلى الثورة"، وجاء ذلك في ظل صعود الإسلام السياسي اليميني إن صح التعبير، خاصة أن حسن حنفي يقول :" إن للإسلام وجها سياسيا آخر وإنه يتسع لآثار التحرر والحداثة.

وحسن حنفي يوصف دائما في بداية عهده الفلسفي بأنه فقيه قديم، وإن كان معاصرا فإنه يستمد من الفقه القديم، حيث درس الفقه الإسلامي من داخله، ومن خلال أصول لغوية متينة، وقد جمع ما بين اللغة والشريعة والفلسفة، شأته شأن أغلبية الأزاهرة وأبناء المؤسسات الدينية الذين يتعلمون في الكتاتيب .

وعندما انتقل إلى أوروبا للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون أستوقفه كثير من المفكرين في الغرب، وتأثر بهم، ونقل ذلك في كتاباته بشكل يستوحي منهم ما وجده مثريا ليكمل ثقافة التراث في وقته وإعطائه نوع من المحاولة التوفيقية وليس التلفيقية بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي .

وهنا أقول بأن أفضل ما تميز به حسن حنفي هو أنه قارب التراث بعقل فلسفي، وهو قد استند إلى ثلاث مرتكزات ثالوثية إن صح التعبير : التراث، والإرث الغربي، والواقع، حيث يلجأ إلى إعادة بناء التراث بما يناسب ضرورات الواقع وحاجاته، والتعامل مع الإرث الغربي تعاملا نقديا لا مجرد نقل وترجمة وتلقي، وإنما إعادة إنتاجه وإرجاعه إلى أصوله، بحيث يكون لنا الوقل الأخير لنا في دلالة هذا الإرث، ولكن لا يتم ذلك إلا من خلال إطار نظري للواقع، حيث نجد أن فلسفة حسن حنفي ترتكز علي بناء نظرية للواقع، ففي رأيه أننا لا نتلقى التراث ونستدعيه بطريقة فوضوية فلا نتلقاه كما هو وبأي طريقة كانت، أو نتلقنه أو نردده بطريقة الحفظ والتلقين، لأن هذا التراث قد أُنتج في زمنا تاريخي، وهنا نكتشف أن حسن حنفي اهتمامه بالتراث جاء من هم واقعي؛ وذلك من خلال بناء نظرية للتعامل مع الواقع والاستجابة لحاجاته وضروراته، بحيث أننا حسب اعتقاده أخذنا من الفكر الغربي فلا نأخذه بحيث أن نتغرب، وإذا تعاملنا مع التراث لا نستطيع أن نتعامل بلغة القطيعة معه، وذلك لكونه جزء من تكويننا الثقافي، وجزء من بنيتنا الشعورية .

ولكن أين تكمن مشكلة التراث ومعوقاته في نظر حسن حنفي؟

تكمن في نظر حنفي في المسبقات ذات الطبيعة اللاهوتية التي تتمحور حول الذات الإلهية والصفات الإلهية، وهذا النوع من التفكير في نظر حنفي يحدث نوع من الاستلاب للشخصية الإنسانية، وهنا نجد حسن حنفي يريد أن ينقل التراث بأن يكون الإنسان هو محور قراءة هذا التراث، أي أن يكون الإنسان محور فهم التراث والنصوص الدينية، فالعقل الفلسفي تكمن اهمية في نظر حسن حنفي بأنه الآلة الوحيدة التي تستطيع أن تتعمق في فهم النص، لأن العقل الفقهي مشكلته الأساسية أنه عقل نصي ؛ أي يبقي في دائرة الدلالة اللفظية للنص، ولا يستطيع ان يخرج من هذه الدائرة، والوحيد الذي يستطيع أن يأخذنا إلى المساحات العميقة والخصبة في النص هو العقل الفلسفي والذي كما قال حسن حنفي هو الوحيد الذي يستطيع أن يسبر أغوار النص حتى النصوص المقدسة.

ولذلك نجد عند حنفي ثلاث مرتكزات مرجعية غربية استند إليها في أنسنة التراث، وهم : أسبينوزا، وفيورباخ، وهوسرل، وذلك على النحو التالي :

1- اسبينوزا: أول من كسر في نظر حسن حنفي المنظومة الدينية وكسر هيبتها في المجال المسيحي – اليهودي، فقد جعل النص ألو من فتح علوم الدين، أي أن تكون العلوم الدينية مادة علم ودراسة وبحث وتحليل وتفسير، كما أرجع الله إلى العالم، وا، الله لا يوجد خارج العالم .

2- فيورباخ: فلسفة فيورباخ، على علاتها، تكمن أهميتها الأساسية والكبرى في أن «الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع إلى خير الإنسان بالذات»، ما يعني أن فيورباخ وضع المبدأ الأنثروبولوجي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولهذا نجد أنه عندما قال بالاغتراب هو لم يقل أن الإنسان قد اغترب عن الله، بل قال أن الله هو الذي اغترب عن الإنسان، أي أن فكرة الله تم اغترابها عن الإنسان، والأساس عن الله حسب كلام فيورباخ أنها فكرة إنسانية، ولكن جاء اللاهوت وجعل منها حقيقة أنطولوجية وجودية قائمة مستقلة، فاستقلت عن الإنسان وانفصلت عنه، فكانت فلسفة فيورباخ تريد أن تُؤسن الله بطريقة أو بأخري، فهي تريد أن ترفع الإغتراب بين الإنسان والله، وان يعود الله إلى الإنسان لا أن يعود الله إلى الإنسان.

3- هوسرل: هو مؤسس الفينومينولوجيا التي تهتم بدراسة ظواهر الوعي، حيث تكمن مهمة الفينومينولوجيا حسب هوسرل في "الفحص عن ماهية المعرفة فحصا من شأنه أن يفض المُشكلات التي يختزنها التضيق بين المعرفة والمعنى المعرفي وموضوع المعرفة. من هذه المُشكلات ما يختص بإيضاح معنى الماهية الذي للموضوع المعروف أو الذي للموضوع بعامة سواء بسواء". وبعبارة أخرى، فالفينومينولوجيا تضطلع بمهمة فهم جميع الموضوعات القصدية المُرتبطة بأفعال الذات.

وهنا لم يقف حنفي عند قراءة سبينوزا فحسب، بل قام باستدعائه محاولا إسقاط المادة التي عمل عليها، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على نفس المنهج، أي إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، هو التراث الإسلامي، وكان سبينوزا نفسه يودّ تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى.

أما عن أثر فيورباخ علي حنفي، فقد رأينا أن حنفي يريد أن يؤنسن التراث على طريقة فيورباخ ويجعل الإنسان هو محور التأمل ومحور التفكير ومحور النشاط والسلوك في كل العلوم المتعددة في المجال الإسلامي، ومن ثم إذا أردنا أن نصل إلى الله فلا نصله إلا من خلال الإنسان، ومن ثم فإن حنفي أردا أن يعيد إنتاج التراث الذي أنتج في القرن الرابع والخامس الهجري ووصل ذروته على قاعدة كلامية، غيبية، إلى الإنسان حيث البقاء، إلى الحياة، والوجود، والابداع الإنساني.

ومن جهة أخرى يُشكل مشروع الدكتور حنفي أحد أهم تطبيقات المنهج الفينومينولوجي في فكرنا العربي المُعاصر، ويتضح هذا المنهج لديه في تناوله للعلمين الأساسيين: علم أصول الفقه، وعلم أصول الدين خصوصا، وعلوم اللغة والتاريخ، والحكمة، والكلام، والتصوف، وعلوم الحديث، وعلوم السيرة عموما. وينتمي هذا التطبيق إلى فينومينولوجيا الدين وإلى فينومينولوجيا الوعي التاريخي التي ينظر إليها على أنها فينومينولوجيا الحضارات المُقارنة. لقد تناول حسن حنفى علم أصول الفقه في الجزء الأول من رسالته للدكتوراه مناهج التفسير: دراسة في علم أصول الفقه سنة 1965م، وتناول علم أصول الدين في كتابه “من العقيدة إلى الثورة: محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين” سنة 1988م. ومنه إلى إعادة ترتيب العلاقة مع التراث بالشكل الذي يجعله حيا فينا وبنا ومعنا، كيف لا وهو المُفكر المُعاصر الذي كرس كل حياته في الدراسة والبحث عن أصناف المناهج والطرائق، مُرتبا للمعارف، ومُصنفا للأنساق، ومبوبا للمذاهب عبر تاريخ الفلسفة كله؛ قديمه وحديثه ومُعاصره. لقد استفاد حسن حنفي حقا من صيرورة التفكير دروسا ذات قيمة بالغة الأهمية. يظهر هذا في مشروعه من خلال عودته إلى التاريخ، وتتبع المراحل الكبرى التي يمر منها الفكر الإنساني، ليكشف لنا عن حقيقة مفادها أن الخاصية المُميزة للفكر البشري هي خاصية التجدد.

وهذا التجدد يرتبط بثلاثة عناصر أساسية :

1-الموقف من التراث القديم (ألأنا).

2- الموقف من التراث الغربي (الآخر).

3- نظرية التفسير (بناء العلاقة بين الأنا والآخر).

إن التراث والتجديد إذن هو صلب المشروع الفلسفي والحضاري عند حنفي، وهو مشروع ذو جبهتين : الجبهة الداخلية، والجبهة الخارجية، جبهة الأنا وجبهة الآخر، مشروع يسعى إلى ترميم صورة الأنا كما ورثناها من حطام الماضي السحيق بكل سلبياته وإيجابياته، وبناء صورة جديدة للآخر في إطار نسبيته وتاريخيته وشرطه المنتجة له... وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي

.....................

المراجع:

1- حسن حنفي.. نحو إعادة بناء التراث/ يتفكرون.. يوتيوب.

2-احمد إبراهيم: مفهوم التراث والتجديد فى كتب المفكر الراحل حسن حنفى، اليوم السابع المصرية، الخميس، 21 أكتوبر 2021 04:50 م.

3- فهد عبد القادر عبد الله الهتار: أنسنة التراث وأثرها على الفكر الإسلامي المعاصر، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث.

قلما يجري الحديث في وسائل إعلامنا وأروقة جامعاتنا ومراكز أبحاثنا عن مفهوم (الجدارة السياسية) وما ينطوي عليه من قضايا تتعلق بأساليب (الحوكمة) وممارسات (الحكم الرشيد)، وخصوصا"لجهة ما ينبغي أن يتحلى به ويكون عليه الزعماء السياسيين في بلدان العالم الثالث ومنها أقطار عالمنا العربي، بالمقارنة مع تجارب وممارسات بلدان العالم الأوروبي - الغربي حيث يجري هناك طرح وتداول المفاهيم الجديدة والمصطلحات الحديثة على نحو منتج وفاعل، لتكون في متناول المعنيين بشؤون الدولة والمجتمع للاستعانة بها على رصد ومتابعة حراك الواقع مثلما تشخيص ومحايثة ديناميات المجتمع.

ذلك لأن معظم مصادر وعينا السياسي – ناهيك عن أنماط وعينا الاجتماعي الأخرى - لا تنبع من تضاريس واقعنا الملموسة، كما لا تتبلور على أساس مخاضات تجاربنا المعاشة بحيث تجسّد قيم مجتمعاتنا وتحمل وشم هوياتنا، وإنما تأتينا ناجزة وجاهزة بطرق ملتوية أحسن (تعليبها) وأساليب أحكم (تزويقها)، بعد أن تكون قد فقدت – في بيئتها الأصلية – بريقها المعرفي وزخمها التحليلي، هذا ان لم تكن تجاوزت مبررات وجودها المكاني وجدوى حضورها الزماني. وذلك عبر قنوات ومسارات جرى إعدادها على نحو يجعل منها أدوات لتشويش الأفكار وبلبلة العقول، بدلا" من كونها عوامل لبناء الإنسان وارتقاء الأوطان. ولهذا تجد – على سبيل المثال لا الحصر– أننا لا نفتأ نلهج بفضائل (الديمقراطية) على مستوى (التنظير)، في الوقت الذي ان اغلبنا يناقضها ويدحضها على مستوى (الممارسة). كما إننا نبدو مهووسين بمحاسن (العلمانية) على مستوى (الإشهار)، في الوقت الذي يميل معظمنا لمشايعة مظاهر التدين على مستوى (الإضمار). هذا في حين نهيم حبا"ب(الليبرالية) على صعيد الخطاب إلاّ أن معظمنا يمارس (الدكتاتورية) على صعيد الواقع، الأمر الذي لا نزال معه نحصد عنفا"في السياسة، وتخلفا"في الاقتصاد، وتعصبا" في الدين، وتطرفا"في الاجتماع، وتأزما"في الوعي، والتباسا"في التاريخ، وتقهقرا"في الحضارة.    

وإذا ما وقع الاستثناء وحصل إدخال بعض من تلك المفاهيم والمصطلحات الى سوق التداول السياسي والتعاطي الفكري ضمن واقعنا الاجتماعي المأزوم على الدوام، لأغراض وصف الظواهر وتحليل المعطيات وصياغة الفرضيات واستخلاص الاستنتاجات، فإنها سرعان ما تختفي فجأة كما ظهرت فجأة دون أن تخلف بصمة أو تترك أثرا" يمكن الرجوع إليه والاستعانة به عند الحاجة. بحيث ان وقوع حدث ما أو حصول طارئ معين غالبا"ما يضعنا أمام مآزق جهلنا بالأسباب وحيرتنا بالدوافع المسؤولة عن حدوث تلك المفاجئات المربكة، للحد الذي يشعرنا بعجز قدرتنا كليا" على إيجاد التفسيرات المناسبة وتقديم الحلول المعقولة. 

والحال، كيف يفهم أصحاب العلاقة (الحاكم والمحكوم) معنى الجدارة السياسية التي يحتكمون إليها أثناء تعاطيهم مع الواقع، وما هي الشروط والمواصفات التي يعتمدونها لتضمين المعاني وإسباغ الدلالات المراد تعميمها اجتماعيا" وتوطينها سيكولوجيا". إذ بالرغم من تباين وجهات النظر بين الأول والثاني لجهة التعاطي مع هذه الخاصية السلوكية، إلاّ أن النتيجة أو الحصيلة النهائية واحدة في كلا الحالتين. وهكذا، فمعنى الجدارة السياسية من وجهة نظر (الحاكم) لا تعدو أن تكون سوى القدرة على (استغفال) وعي الغالبية العظمى من جماهير العامة التي وضعتها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في موضع التوق والاشتياق لمن سيكون لها بمثابة (منقذ / مخلص) لمعاناتها ومكابداتها، حتى ولو كان على حساب حقوقها المهدورة وحرياتها المنتهكة. هذا بالإضافة الى إتقانه فن (التلاعب) بميولها الإيديولوجية و(التحكم) باهتماماتها السيكولوجية، التي عادة ما يتحرك بندولها وفقا"لإيقاع العواطف المجيشة والغرائز المستثارة.

وفيما يتصل بوجهة نظر (المحكوم) حيال معنى الجدارة السياسية وما تنطوي عليه من دلالات سلوكية وأخلاقية، فهي لا تكاد تتخطى عتبة الفهم الذي يتمحور حول ضرورة تحلي شخصية (الحاكم) بالخاصية البطريركية (الأبوية) حتى ولو كان جاهلا"في الأمور السياسية، وامتلاك الهيبة (الإقطاعية) حتى ولو كان ظالما"في القضايا الاجتماعية، وحيازة الصفات (الكارزمية) حتى ولو كان أميا"في الشؤون الاقتصادية. بحيث يتولد لديه جراء ذلك شعور طاغ ان من يتولى سوس قياده، ويمتلك زمامه أموره، ويحدد خيارات مصيره، هو الوحيد القادر على انتشاله من وهاد عجزه الإرادي المزمنة، وشفائه من عقد خصائه المتوطنة، هذا بصرف النظر عما إذا كان (سلطانا") طاغيا"، أو (ملكا") مستبدا"، أو (زعيما") دكتانورا"، أو (حاكما") شموليا"..     

*** 

ثامر عباس

 

 

إن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد، وذلك كل معصية جمعت وجوهاً من المفسدة، وكانت عاقبتها فساداً في الأرض، واقتضاباً على طمأنينة المسلمين «فمثل هذه المعاصي لا يكفى فيها الترهيب بعذاب الآخرة، بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام»، حتى ينزجر العاصي، ويطمئن المطيع، وتتحقق العدالة في الأرض، ويأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله؛ فإنه يسود فيها من الأمن والاستقرار وطيب العيش ما لا ينكره منكر، ولكن بقدر ما تشددت الشريعة الإسلامية على تطبيق الحدود تقويماً للسلوك، وصونا للأعراض، وحماية للمجتمع من التصدع والانهيار، حرصت على التضييق من توقيع هذه العقوبات، فالحد لا يثبت عند قيام الشبهة، وليس مجرد التهمة أو حتى الاقتناع الكامل بالجريمة موجباً للحد ما لم يثبت ذلك بالطرق الشرعية، ومما يؤيد ذلك ويقويه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في شأن امرأة شاعت عنها قالة السوء، وانتشرت هذه القالة عنها، وعن سوء أخلاقها وفجورها من غير حياء ولا خجل: «لو كُنْتُ رَاجِماً أحداً بغَيْرِ بَيّنةِ لرجَمْتُ فُلاَنَةَ، فَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا الرِيبةُ فِى مَنْطِقَها، وَهَيْئتِهَا، وَمَنْ يدْخُلُ عَلَيْهَا». ومن خلال هذا النص يتضح لنا أن الشريعة الإسلامية لا تتصيد للناس التهم، ولا تلتمس أوهن الأسباب لتجعل من العقوبة سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، يهدد المذنب والبرئ على حد سواء، كل ذلك ليس من الشريعة في شيء، لأن الشريعة مبناها وأساسها قائم على العدل والرحمة، والإحسان والستر الى جميع الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كل الشواهد والأمثلة تؤكد أنه كان يلتمس الستر على المجرم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر واقعة ماعز التي رواها البخاري في صحيحه، وذلك حينما حرض بعض الناس ماعزاً على الإقرار، فذهب وأقرّ أمام الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يحمله على الرجوع في إقراره، بالتعريض، فقال له: «لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت»، ولما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من صحة إقراره، أخذ يسأل أهله إن كان به جنون أو أية علة تدرأ عنه الحد، ولما علم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالذي حرض ماعز على الإقرار ويدعى هزّال عاتبه وقال له: «يا هزّال لو سترته بردائك لكان خيراً لك»، ويروى أن ماعزاً مرّ على عمر رضى الله عنه فقال له الفاروق: «أأخبرت أحداً قبلي، قال لا، قال فاذهب فاستتر بستر الله تعالى، وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون، ولا يغيرون، والله تعالى يغير، ولا يعير، فتب إلى الله، ولا تخبر به أحداً»، فذهب إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقال له مثل ما قال عمر، ثم ذهب بعدها إلى الرجل الذي لامه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما جاءت شراحة الهمدانية معترفة بالزنا للكرار علي رضى الله عنه قال لها: «لعله وقع عليك وأنت نائمة، لعله استكرهك، لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه»، وما كان عليٌّ يقصد من هذه الأسئلة إلا ما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعل هذا الخبر مع ما سبقه يدل على أن التضييق في تطبيق الحدود أمر محبب في الإسلام، كما يرى بعض الفقهاء «أنه يستحب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع عن الإقرار إذا لم يكن ثمة دليل إلا الإقرار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن المقر أن يعدل عن إقراره، ولو لم يكن للعدول أثره في درء الحد لما أوحى به عليه الصلاة والسلام للمقر، أما كيف يدرأ العدول الحد، فذلك أن الإقرار هو الدليل الوحيد في القضية، والعدول عن الإقرار شبهة في عدم صحة الإقرار، والحدود تدرأ بالشبهات»، ولعل الحكمة من درء الحدود بالشبهات هي: تضييق دائرة الحدود لشدتها، ولكن لا انعدامها كلية، «بل تبقى في المواضع القليلة التي تجب فيها، وتثبت فمجرد وجودها قائمة للتطبيق في كل وقت وحين يكفي لتكون رادعاً للمجرمين قصد حماية الفضائل، وصيانة المجتمع من الفساد، وبذلك تؤدي مقاصدها المنشودة من غير إرهاق أو عناء كثير».

***

د. الطيب النقر

 

بقلم: جاياتري ثيادمادون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عمري 11 عامًا عندما سمعت مصطلح النسوية لأول مرة. "هؤلاء النسويات اللعينات!" إنهم ببساطة يلفتن الانتباه إلى قضايا غير ذات صلة. كان جدي، رفيقي الدائم بعد المدرسة، منزعجًا مما اعتبره آفة المجتمع الحديث. لم يكن لدي أي فكرة عما هي النسوية. لكن إذا كان جدي يعتقد أن هذه آفة اللحظة، فلا يمكن أن يكون الأمر كذلك. لقد عشقته كثيرًا حتى أنني أعتقد عن بعد أنه قد يكون مخطئًا.

وبعد أيام قليلة، كنت في صف الفنون في المدرسة. بصرف النظر عن التدريب البدني، كانت الفنون هي الموضوع الآخر الذي فشلت فيه فشلاً ذريعًا. لم يكن لدي أي استعداد لذلك. ومع ذلك، كنت أعشق أستاذة الفنون، مريدولا سيدتي.

دخلت الفصل وهي تبتسم، وهي تحمل نفسها النحيلة في ساري مدسوس عند الخصر، في مشية واسعة ولكن مائلة. حتى عندما كان العمل الفني الذي قدمته سيئًا، وجدت شيئًا ملموسًا فيه. لقد كانت سرعة البديهة وذكية ولطيفة. وكان طيبتها كرائحة الياسمين وسط مزراب الطغيان المتفشي بين المعلمين الهنود.

لقد عشقتها وكنت سأفعل أي شيء لإثارة إعجابها. لم أستطع أن أبهرها بفني؛ ليس بعد المحاولات البائسة لرش شجرة وانتهى بها الأمر مثل المصاصة. بدلا من ذلك، حاولت يدي في البراعة. بعد كل شيء، حتى عندما كنت في الحادية عشرة من عمري، كنت روحًا عجوزًا؛ على الرغم من أن المصطلح الأفضل قد يكون مبكرًا.

***

"هؤلاء النسويات! إنهم فقط يثيرن قضايا لا تستحق الاهتمام. قمت بلا مبالاة بنشر تعليقي المدروس بعناية عند الدردشة معها بعد الفصل. أدارت صديقتي جينسي، التي كانت تقف بجانبي، عينيها في ارتباك، مما زاد من غروري.

"اين سمعت ذلك؟" تحول صوت أستاذتي فجأة إلى الجدية دون أن تغضب. لم يكن هذا الرد الذي كنت أتوقعه. لم أكن أتوقع أي شيء أقل من نظرة إعجاب تقول: "انظر كم هي متقدمة في عمرها".

"عزيزتي، أنت لم تصبحي أنثى بعد. مازلتما فتاتين صغيرتين ولا تستطيعان فهم معنى أن تكوني أنثى، أو ما تفعله الحركة النسوية. لا تتعجلى في النمو."

وبعد هذا ابتعدت.

لذلك، عندما سألني زميلي السابق، فريد، عما يعنيه أن تكوني أنثى في منظمة ذات أغلبية من الذكور، خطرت سيدتي العزيزة مريدولا داخل رأسي.

***

لقد تواصل فريد وطلب المساعدة ليصبح حليفًا ذكرًا.

في أوقات الحرب هذه، كلمة حليف تعطيني مذاقًا معدنيًا. فهل هكذا أصبح القتال من أجل العدالة، حرب بيننا وبينهم تحتاج إلى حلفاء وأعداء؟

وجدت إحدى الدراسات التي أجراها علماء الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا أن الناس كانوا أكثر تقبلا لرسائل المساواة بين الجنسين عندما ألقاها الذكور مقارنة بالإناث. إذن، هل نخوض حرباً بالوكالة؟ أو ربما هذا هو المنقذ الذكر الذي يحمي الفتاة في محنتها؟

إن سخريتي غير مبررة. وهذا يعتبر عدم احترام لفضوله عندما يتعلق الأمر بالتعرف على حياة الآخرين. لكن ما أثار غضبي هو تسجيله في برنامج تدريبي أدى إلى تنشئة حلفاء ذكور.

أردت أن أقول: فريد، أنت كذلك بالفعل. لا تدعهم يفسدون الأمر، لكنني لم أفعل ذلك.

إنه رجل جيد حقا. إنه يساعد الناس لأن هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به، وليس لأنه تعلم في التدريب أن هذه هي الطريقة الصحيحة للتصرف. وكنت قلقة من أن التدريب سيجعله مجرد إنسان آلي يعتمد على قائمة المراجعة ويشعر بالقلق بشأن الصواب السياسي بدلاً من الأصالة.

لكنني لم أرغب في إطفاء حماسته، لذلك وافقت على مساعدته.

***

"كيف يبدو الأمر عندما تكونين أنثى في منظمة ذات أغلبية من الذكور؟ هل هناك أي تجارب معينة مررت بها في مكان العمل بسبب جنسك؟ هل هناك أي شيء في تجربتك تتمنين أن يفهمه الآخرون بشكل أفضل؟"

لقد كان هذا سؤالاً بمليون دولار، وليس لأنني أملك المال الكافي.

في العقد الأخير من مسيرتي المهنية في الشركة، كنت الأنثى الوحيدة في معظم فرقي. وأصبح ذلك أكثر وضوحًا عندما تسلقت السلم إلى أسفل بطن الإدارة الوسطى. مكالمات الفيديو التي أجريتها بعد الوباء، والتي ناقشت المبادرات الإستراتيجية، أو التوظيف، أو الترقيات، أو أي موضوعات مملة أخرى، كانت تحمل في الغالب وجوهًا ذكورية.

وعلى الرغم من ذلك، لم يكن هناك الكثير من الحوادث التي تم فيها تجاهلي بسبب جنسي. لم يكن بإمكاني التفكير في خسارة فرصة أو تجاهل الترقية لأنني أنثى.

ومع ذلك، فإن بعض المجموعات جعلت من الصعب التحدث.

"هل تقصدين أنه من الصعب التحدث عندما تكون المجموعة في الغالب من الذكور؟" استطعت أن أرى من سؤال فريد كيف أن التدريب منحه بالفعل رؤية عالمية قطبية.

كان من الصعب التحدث عندما سيطر الأشخاص الصاخبون على الاجتماع. هل كان الأمر صعبًا لأنني امرأة؟ أم لأنني كنت انطوائية وقد تنتفخ عروقي من مكتب الطابق الخامس عشر بعد تبادل الحديث بصوت عالٍ؟

الحقيقة هي أن صوت شخص ما بصوت عالٍ ومتهور جعل الأمر صعبًا على البقية. لم يكونوا جميعهم أغبياء.لقد أحبوا سماع أصواتهم فقط. وجاءوا من جميع الأجناس. وكانت الطريقة الوحيدة لإعطاء مساحة لجميع الموجودين في الغرفة هي التحكم فى إدارة الاجتماع، وتجنب المقاطعات، والحد من قدرة الفرد على السيطرة على المناقشة.

ربما لا أكون على علم بالتمييز، لأنني فاتني الكثير من الدورات التدريبية للتوعية بالنوع الاجتماعي. ربما يساعدني أنني شخص حرفي، غير قادرة على القراءة بين السطور أو سماع التعالي في صوت الشخص.

ومع ذلك، كان هناك هذا مرة واحدة.

لقد كنت في مكالمة مع مديري حيث كان يعطيني بطاقة الأداء لهذا العام؛ مراجعة الأداء السنوية. لقد كنت من أفضل اللاعبين في ذلك العام، كما كنت في السنوات التي سبقت ذلك. لكن مديري ذكر كيف كان أدائي في ذلك العام متقلبًا؛ لقد تحطمت على مستوى منخفض لبضعة أشهر قبل أن أعود مرة أخرى. كان يعتقد أن هذا أمر غير عادي بالنسبة لي.

"حسنًا، نعم، كان الأمر غير عادي للغاية. لقد مررت بسنة مضطربة، وكانت هناك أوقات فكرت في الاستقالة فيها."

"لماذا؟ هل هو بسبب تلك الحادثة؟ اعتقدت أنني اعتنيت بالأمر. فهل كان هناك آخرون بعد ذلك؟"

لقد كانت سنة مضطربة. كنت أقود مشروعًا غامضًا ومتطورًا باستمرار مع العديد من أصحاب المصلحة ذوي الرأي القوي، والعديد منهم كان لديهم غرور بحجم الحيتان الزرقاء. لم يحبوا أن يتم تحديهم أو استجوابهم. كان التوصل إلى توافق في الآراء بشأن أي موضوع مهمة ضخمة. لذلك كان النموذج التشغيلي للفريق هو الاسترضاء. وبدلاً من تحديهم علناً، كان من الأسهل ببساطة الإطراء والإقناع.

لم أستطع أن أحمل نفسي على القيام بذلك. كنت أؤمن بمناقشة موضوع ما على أساس مزاياه. ولم يكن للمناظر أهمية كبيرة. لذلك واصلت طرح الأسئلة وتحدي الآراء.

في مثل هذه المناسبة، أضاف ريتشارد كرانيوم، أحد موظفي الشركة، قيادتي إلى موضوع البريد، وأجاب على السؤال التالي: "اقض بعض الوقت وتعلم كيفية القيام بعملك مثل الآخرين"

مع سياق الخلفية وتصعيده للموقف بإضافة قيادتي، شعرت وكأن أحدهم يبصق في وجهي. حاول مديري نزع فتيل الموقف الذي ضاعف فيه RiCra من إهاناته.

في البداية، شعرت وكأن شخصًا ما ركلني في الفخذ. لم أستطع أن أفهم كيف يمكن لشخص ما أن يكون وقحًا جدًا مع شخص آخر. شعرت وكأنني كنت ألهث من أجل التنفس، وبدأت في البكاء دون حسيب ولا رقيب في المرحاض. وبعد جولة من الدموع، بدأت أسأل نفسي. هل فعلت شيئًا رديئًا وقاسيا؟

عندما زال الارتباك العقلي، أدركت فجأة أنه لم يتعرض للإهانة أي شخص آخر في فريقي المكون من الذكور مطلقًا. لقد أساء إليّ فقط. لم تكن هناك طريقتان حيال ذلك.

بمجرد أن اكتسبت ما يكفي من العقل، تواصلت مع مديري وأخبرته أن البريد الإلكتروني السام التالي من هذا الرجل سيذهب إلى رئيس الموارد البشرية. "تمكن" مديري من إدارة الموقف، وبعد ذلك أصبح الرجل السام مثل العسل على عجلات.

ومع ذلك، خلال الفترة المتبقية من العام، لم أشعر أبدًا بالراحة عند إجراء مكالمة بمفردي مع ذلك الرجل. لقد طلبت دائمًا من أحد زملائي الموثوق بهم الانضمام معي. حتى في الاجتماعات مع عشرات الحضور، لم أشعر أبدًا بالراحة في التحدث إذا كان هذا الرجل موجودًا.

كنت خائفة من إهانة مماثلة. كنت خائفًا من أن أُجر إلى المستنقع وإجبر على المشاركة في قتال الخنازير معه. لقد ابتعدت عن الأضواء، وقمت بعملي في الظل ولم ألفت الانتباه إلى نفسي أبدًا.

عندما سألني مديري عن الموجة، سألته إذا كان يفهم ما يعنيه أن تكون امرأة عازبة في مؤسسة كبيرة بعد مثل هذا الحادث. ومن السهل استبعاد مثل هذه الحوادث باعتبارها حوادث معزولة. ومع ذلك، فإنه غالبا ما يكون الموت بآلاف الجروح.

لقد أثار مديري كابوس العلاقات العامة. ومع ذلك، لم يعتذر RiCra أبدًا عن سلوكه. ولم يقل كلمة واحدة غير صحيحة سياسيا. على حد علمي، كان سيكمل كل التدريبات الإلزامية التي تقدمها الشركة لمكافحة التحرش. ومع ذلك، فقد فشلت في غرس ميل طبيعي لديه لمراعاة الآخرين واستيعابهم.

لذا، اسمحوا لي أن أنغمس في سخريتي. لم أر بعد نتيجة مثمرة لمثل هذه الدورات التدريبية. وبصراحة، شعرت بالسوء عندما طلبت من مديري الأبيض الذكر أن ينقذني. لذا، لا، لست بحاجة إلى حلفاء من الذكور. ما أحتاجه هو وجود بشر متفهمين لأتقاسم معهم هذا الكوكب.

***

غالبًا ما يمزح والدي قائلًا إنه إذا طلب مني تقديم نفسي إلى أحد سكان المريخ، فسأقول أولاً إنني أنثى ثم إنسان. وحتى مع ذلك، فأنا لا أعتبر نفسي نسوية.

أنا لا أحب التسميات بجميع أنواعها؛ الجنس، والجنسية، والعرق، والدين، والطائفة، والتوجه الجنسي، وصاحب العمل، والقائمة تطول. أجد التسميات مفيدة فقط لمزيد من تقسيم الناس. ومن هذا المنطلق، أنا أيضًا لا أحب مصطلح "الحليف الذكر". في عالم ثنائي الجنس، فإن وجود حليف ذكر للنسويات أمر منطقي. ماذا عن عالم يتسم بالمرونة بين الجنسين مثل العالم الذي نتجه نحوه؟

ومن خلال التدريب على دمج النوع الاجتماعي، قمنا بتوعية المجتمع بأن التشهير بالرجل هو خطيئة كبرى. فهل يجوز للرجل أن يعلن لرجل آخر من ثقافة مختلفة كما هو الحال مع الآسيويين في الغرب؟

أنا لا أحب ولا أكره أي شخص بسبب حادث ولادته. ومع ذلك، يجب معارضة الظلم ضد أي شخص. إذا كان الظلم في مكان العمل هو في الغالب ضد جنس معين، فيجب معالجة ذلك أيضًا.

ومع ذلك، فإن هذه التدريبات، التي تقسم الأشخاص إلى فئات عامة يحتاجون إلى المساعدة وإجراءات تشغيل موحدة للتعامل معهم، هي مثل صب محلول السكر في الخلايا السرطانية.

التدريب المسمى بإزالة العنصر البشري من هذه التجارب. فهو يفشل في تفسير كيفية تأثر الناس بهذه التجارب على المدى القصير والطويل. وبدلا من ذلك، ما نحتاج إليه هو خلق بيئة مفتوحة وآمنة تشجع الناس على مناقشة المواضيع الحساسة بشكل مفتوح. ما نحتاجه هو المزيد من التعليم والوعي.

لا يمكن صياغة مثل هذه الأشياء ونشرها على نطاق واسع. وبدلا من ذلك، يحدث التغيير فقط في خطوات صغيرة ولا يمكن أن يحدث بالكامل من أعلى إلى أسفل.

***

أحد المبادئ الرئيسية للطاوية هو وو وي أو العمل السهل الذي يتسم بالمرونة ولكنه قوي مثل المياه المتدفقة. إنه ذلك الشعور العفوي برعاية طفل مريض؛ ليس لأنه يجب على المرء أن يفعل ذلك، ولكن لأن هذا ما يفعلونه بشكل طبيعي.

كما يقول لاوزي في داودجينغ،

عندما ضاع الطريق كانت هناك فضيلة.

وعندما ضاعت الفضيلة كان هناك الخير.

عندما ضاع الخير كان هناك حق.

عندما ضاع الحق كانت هناك الطقوس.

الطقوس هي تآكل الولاء والجدارة بالثقة

ونذير الفوضى .

أراد فريد أن يكون حليفًا ذكرًا. لكنه كان كذلك بالفعل.

والحقيقة هي أن كونك حليفًا يعني أن تكون شخصًا جيدًا ومحترمًا. شخص يمكنه النظر حول الغرفة ورؤية الشخص الذي يكافح من أجل التحدث. شخص يمكنه أن يفهم كيف تم تشكيل كل واحد منا من خلال خلفياتنا الاجتماعية والثقافية والمعيارية المتعلقة بالجنسين، واتخاذ خطوة أخرى نحو فهم الآخر.

أن تكون جيدًا يجب أن يكون عملاً طبيعيًا. لا ينبغي أن يكون ذلك لأنه صحيح سياسيا.

لا أريد "حلفاء ذكور" يخوضون معاركي نيابة عني. لا أريد أن "يحميني" شخص ما وكأنني فتاة صغيرة. أفضّل أن يكون لدي أصدقاء في العمل يرونني بالكامل، ويستمعون إلي، ويشجعونني، ويقدمون لي علبة كلينيكس عندما أحضر بعينين محتقنتين بالدم.

(تمت)

***

.....................

المؤلفة: جاياتري ثيادمادون/Gayathri Thiyyadimadom  كاتبة من الهند فضولية دائمًا وساخرة إلى الأبد تحب القراءة والكتابة والسفر.

تحديد مفاهيم

الهشاشة النفسية (Psychological Fragility)

تعني سمة او صفة في شخصية الفرد تتضمن: عدم كفاءة الذات، الأنجراح النفسي بسهولة، عدم ثبات المشاعر، لوم الذات، الشعور بعدم الراحة، سرعة الأنفعال، والميل الى طغيان المشاعر الصعبة على صاحبها بسهولة.

ولها مرادف آخر هو الهشاشة الأنفعالية (Emotional Fragility)

وتعني وقوع الفرد بسهولة تحت سيطرة المشاعر الصعبة، وعدم قدرته على التعامل مع الانفعالات الشديدة التي تحصل له في المواقف الحياتية الصعبة، وتضخيم ما يحصل له من مواقف او ضغوط، فنقد خفيف يوجه له يتحول عنده الى كارثة، ولحظات من القلق تتحول عنده الى يوم من التوتر والفزع، فضلا عن تغيرات سريعة في المزاج.

نظام التفاهة

مصطلح مستعار من الفيلسوف الكندي (د. آلان دونو) يتضمن فكرة اننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام ادى، تدريجيا، الى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة.

تنويه:

يتحدث هذا المقال عن اكثر من مليار شاب ومراهق في بلدان تحكمها انظمة تافهة بضمنها الدول العربية، وينبّه الى ان العالم مقبل على ظهور بشر يختلف فكريا وسلوكيا واجتماعيا واخلاقيا ودينيا وسياسيا عن كل عصور تاريخ البشرية، وينذر بخطر ان يتحول الانسان في جوهره الى كائن غير بشري.. والأخطر ان انظمة التفاهة الحاكمة والناس بشكل عام غير مدركين لهذا الخطر، لأن همّ الحكّام هو البقاء في السلطة وكنز المزيد من الثروة، ولأن الناس منشغلة بتدبير حياتهم اليومية.

التحليل

تساؤلات عن جيل هش

هل صار جيل الالفينات (المراهقون والشباب) مدللا مقارنة بجيل 1950 وما قبله؟

وهل صار يميل نحو تضخيم مشاكله الحياتية (الألم مثلا) التي كانت الاجيال السابقة تعتبرها عادية؟ وهل نحن امام جيل هش لا يقوى على تحمل اعباء حياته الخاصة وليست له القدرة على تحمل مسؤولية أسرة ولا تحمل دوره في تطوير مجتمعه؟ وهل صار لا يحمل رسالة انسانية ولا قضية وطنية يمكن ان يضّحي بحياته من اجلها كما كان يفعل اجداده؟.

في كتابهما (تدليل العقل الأمريكي 2018) شخّص جريج لوكانيوف واستاذ علم النفس جوناثان هايدت احدى نتائج الهشاشة النفسية لدى جيل الالفينات بقولهما ان شباب وفتيات هذا اليوم يضخّمون اية مشكلة في حياتهم لدرجة تصويرها بانها كارثة وجودية اصطلحا على تسميتها بـ(Pain Catastrophizing).

وما يفعله هذا التضخيم في جيل الالفينات الهش ان وقوع احدهم في مشكلة تجعله يؤمن ان ما حدث له هو اكبر من قدرته على التحمّل، وانه حين يلتقيك يصف لك المشكلة بمفردات مبالغ فيها وبأوصاف سلبية لا وجود لها الا في مخيلته، وانها اكبر من طاقته مع انها تعدّ عادية جدا لدينا نحن الكبار حين كنا بعمره.

وما يفعله هذا التضخيم فيه انه يجعله يعيش كابوسا من الشعور بالتحطم الروحي والانهاك النفسي لا سبيل للخروج منها، ويحس بالضياع وفقدان القدرة على المقاومة والاستسلام للألم بسبب هذه المشكلة.

ويورد الكاتب الدكتور اسماعيل عرفة امثلة واقعية على ذلك نلتقط منها مثالين، الأول: شكت طالبة بكلية الطب برسالة وجهتها لطبيب نفسي (ارجوك ساعدني، انا غبية جدا، لا اعرف كيف اتكلم مع ناس، وردودي احيانا سخيفة، لكني صافية من داخلي والله.. انا 22 سنة وفي كلية الطب). وكان رد الاستشاري النفسي (هذه مجرد تهيؤات، ودعك من جلد الذات، ستعلمك الحياة مع الزمن كيف تتعاملين مع المواقف).

والثاني:سؤال موجه لرجل دين (يا شيخ، عمري 21 سنة وأرى الدنيا كلها مظلمة وخانقة، وغير قادر على العيش.. انا تعبت، ونفسيتي متدمرة، وأرى كل شيء سوادا. انا قريب من ربنا الله، لكني اشعر اني محتاج لامرأة تكون معي، لكن صعب الزواج والظروف صعبة). ويعلق الدكتور عرفة بأن المشكلة هنا ليست في احتياجه للزواج، فهو مطلب فطري وضروري، وانما المشكلة في تعطيله لكل شيء في حياته فقط بسبب احتياجه للزواج.

ان مثل هذه الحالات النفسية تحصل في كلّ، الاجيال لكنها صارت شائعة في جيل الالفينات، بحيث يصورها وكأنها نهاية العالم بالنسبة له. والملاحظ ان هذه المشاكل تأتي من شباب وفتيات تجاوزوا عمر العشرين.. ما يعني انهم تجاوزوا مرحلة المراهقة وانتقلوا الى مرحلة النضج.

مراهقون.. في العشرينيات!

يتفق علماء النفس وعلوم الحياة على ان مرحلة المراهقة تبدأ بعمر 14 سنة وتنتهي بعمر 18 او 19 سنة. ويخبرنا علماء اميركيون وبريطانيون وكنديون بأن فترة المراهقة تمتد في الجيل الحالي الى منتصف العشرينيات! ما يعني ان الشاب او الفتاة يكون في عشرينيات عمره مراهقا في مشاعره، وفي تعامله مع مشاكله الحياتية اليومية وضغوطها النفسية، وفي علاقاته مع الاخرين ومع الجنس الاخر..

ما يعني ان طالب او خريج الجامعة في جيل الهشاشة النفسي هذا يساوي في مشاعره وفهمه للحياة والناس أيام كان والداه طلبة اعدادية!

وتساءل العلماء الاجانب المعنيون بهذا الشأن عن سبب استمرار مرحلة المراهقة طوال هذه المدة، ولماذا تأخر نضجهم النفسي والفكري ونموهم العقلي وتفاعلهم الاجتماعي الى تسمية هذا الجيل بجيل رقائق الثلج Generation Snowflake

لأن رقائق الثلج هشة جدا وسريعة الانكسار، لا تتحمل اي ضغط، ويعني سيكولوجيا انه هش نفسيا.. يتحطم شعوريا عند اول ضغط حياتي يواجهه، وانه يشعر بالضعف في مواجهة صعوبات الحياة، ولا يعرف كيف يسيطر ويتغلب عليها، ويصل نفسيا الى ان يلعب دور الضحية.

وتوصل علماء آخرون الى ان جيل الهشاشة هذا يطغي عليه شعور قوي بالتفرّد والتميز والريادة، وانه صاحب استحقاق.. يريد من الاخرين معاملة راقية له، وحفاوة بالغة، وولاءا خالصا لافكاره. بل ان عددا من المراقبين توصلوا الى ان هذا الجيل يرفض ان يكبر! بمعنى انه يرفض ان يتولى مسئوليات مرحلة الرشد، ويظل طفلا في تعامله مع متطلبات الحياة، وينهار عند اول مواجهة حقيقية مع مشكلة حياتية اطلق عليها الكاتب دان كيلي في كتابه Men Who Have Never Grown Up متلازمة (بيتر بان) اشارة الى عدم رغبة جيل الشباب في النضج، وتصرفهم بشكل غير مسئول امام واجباتهم الحياتية، ورغبتهم الدائمة في التهرّب من اي ضغط حياتي ما يجعلهم اطفالا كبارا في المجتمع.

الأنترنت.. سبب

لا يعنينا هنا تاريخ الأنترنت يوم قررت وزارة الدفاع الأمريكية انشاء شبكة اتصالات لأغراض امنية عام 1969، يديرها جيل الكبار، وكيف بدأت تقديم خدماتها للناس بدءا من عام 1985 لتصبح اكبر شبكة في تاريخ البشرية، فما يهمنا هو سوء استخدام الأنترنت وما احدثته من هشاشة نفسية في جيل الألفينات.. نوجز اخطرها في ادمان الأطفال على العاب الفديو الذي اعتبره الأطباء مرضا نفسيا حقيقيا، ولها خطر اجتماعي هو ان هذه الألعاب تصبح وسيلة تواصل بين الأطفال بدلاً من التواصل بين الناس في عالم الواقع، فضلا عن انخفاض مستواهم الدراسي بسببها.

ولأول مرة في تاريخ البشرية يجري التشهير والتفضيح لجيل الألفينات(اطفال، مراهقون، شباب) يصل في دقائق الى الملايين يؤدي الى العزلة والأكتئاب والأغتراب والأنتحار. وقد شاعت هذه الظاهرة في اميركا وحظيت باهتمام السينما الأمريكية فانتجت فلما دراميا عنها

بعنوان Disconnect نبه الأمريكيين الى العلاقات والاتجاهات التي تم تدميرها بسبب اساءة استخدام الأنترنت.

وظهر ما يعرف بالمخدرات الرقمية – الألكترونية.. نغمات موسيقية صاخبة يتم تحميلها على مشغل الأغاني المدمجة المختلفة ويبدأ المراهق والشاب يستمع إليها في غرفة خافتة الإضاءة عبر سماعات خاصة للإذن في حالة استرخاء بعد تأثير ذبذبات النغمات على الدماغ نتيجة التفاعلات الكيميائية والعصبية فيشعر بحالة نشوة التخدير مثل الذي يتعاطي المخدرات الحقيقية.

واسهمت الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (فيسبوك، تويتر، انستغرام...)بان جعلت من كثير من تافهي مشاهير السوشيل ميديا والفاششينستات يظهرون لنا بمظهر (النجاح) الذي حققوه فعلا وفقا لمعياري المال والتفاهة، لا كما كانت معايير الأجيال السابقة القائمة على العمل الجاد وحسن الخلق والعلم والثقافة والفن.. ما يؤكد صحة مقولتنا بأن جيل الألفينات مصاب بالهشاشة النفسية.

نظم التفاهة

تسهم نظم التفاهة في تعزيز الهشاشة النفسية لدي جيل الانترنت، حيث يشكل العمل السياسي بما ينطوي عليه من سلطة وخطاب ومال وجماهير.. المساحة الخصبة لازدهار نظام التفاهة كما يؤكد (الان دونو) صاحب كتاب نظام التفاهة، الذي يضيف بأن التافهين لا يجلسون خاملين، بل هم يؤمنون بانهم يعرفون كيف يعملون بجهد.. ويصل الى القول بان التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الاغفاء بدلا من التفكير، والنظر الى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، والى ما هو مقيت وكأنه ضروري.. وتحيلنا في النهاية الى اغبياء، ليؤكد صحة مقولتنا بأن انظمة التفاهة عززت الهشاشة النفسية لدى شباب هذا الجيل..

واذا ما ادركنا ان هذا الجيل هو الذي سيحدد مستقبل الوطن، فأن المسئولية الوطنية والأخلاقية والأجتماعية تدعونا الى ان نتدارك ذلك بمقترح لجريدة المدى تبادر فيه الى عقد ندوة علمية يشارك فيها علماء النفس والاجتماع والمفكرون ورجال الدين والصحفيون والأعلاميون وممثلون عن الحكومة والبرلمان لوضع استراتيجية تضمن احتواء ظاهرة الهشاشة النفسية لدى جيل يشكل ثلثي المجتمع وعليه يتوقف مستقبل اغنى بلد بالمنطقة واول بلد في تاريخ الحضارات في العالم.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

وجدل الحضور الديداكتيكي بين الأستاذ والتلميذ

يحتل التدريس مكانا مهما في كل المجتمعات،لأنه عملية رئيسية في تعليم وتعلم الجيل،وإذا كان لاختيار محتوى الدرس هذه الأهمية التي لا ينكرها أحد، فهذا لا يعني أن اختيارها وحده كاف لإعطاء هذه المادة مكانتها لدى التلاميذ، وتحفيزهم على حضور حصصها، لأن الحافز الحقيقي يكمن في كيفية إدارة القسم وتقديم الإشكاليات الفلسفية، فتقديم الدرس الفلسفي في ثانوياتنا يعاني جمودا ينفر التلاميذ من الإقبال عليه، ولهذا يتطلب الأمر الاهتمام بطريقة تقديم الدرس الفلسفي، والحديث عن طريقة تقديم الدرس الفلسفي، يقودنا للحديث عن جدل الحضور الديداكتيكي بين الأستاذ والتلميذ ضمن بيداغوجيا الكفاءة الفلسفية في المرحلة الثانوية، فالتلميذ عنصر مشارك في بناء التعليمية، وفي رحلة البحث عن بناء التعليمية نثير التساؤل الآتي: لماذا تعلم الفلسفة في المدارس لتلاميذنا؟ ما هو التواصل الأمثل في تحقيق الحضور الديداكتكي للتلميذ في صناعة الدرس الفلسفي؟

إذا كانت التعليمية ثابتة على مستوى مادة من مواد التعليم،فإنها ليست كذلك على مستوى مادة الفلسفة، فمحاولة فك شفرات الحضور الديداكتيكي بين الأستاذ والتلميذ، يجعلنا نقدم رؤيا تحليلية نقدية من زاوية بيداغوجية ديداكتكية للعلاقة التي ينسجها الثنائي- تلميذ، أستاذ – في درس فلسفي من جهة، ثم ربط ذلك بالحياة المدرسية أو بالفضاء المؤسسي الذي في ظل نظامه العام تشتغل العلاقات التربوية التي تنتج الإشكالات التربوية والأسئلة التواصلية التي تكشف عن واقع تربوي مؤسسي قد يعيق أو ييسر مهام درس الفلسفة كدرس نوعي يقتضي لغة التفكيك والنقد ومساءلة المسلمات والرأي ويروم تأسيس ثقافة الحوار والمناظرة والنقد والشك والمساءلة لكل الظواهر والأحداث التي تدخل في نطاق مسلمات ثابتة في النظام المعرفي العام وفي ثقافة التلميذ الخاصة؛ لا ندعي في هذا المقال الإلمام بكل تفاصيل العلاقات التربوية بين أستاذ الفلسفة والتلميذ والحياة المدرسية بل نود فقط وضع الأسئلة ورسم معالم الإشكالات الكبرى التي تؤسس نظريا لهذه العلاقات وتجعلها بالتالي جزء من انشغالات المهتمين بالجوانب البيداغوجية والمؤسسية لدرس الفلسفة بشكل خاص وللمعرفة التعلمية بشكل عام .

جدل الحضور الديداكتيكي بين الأستاذ والتلميذ

إن عملية فهم ما يحدث بين أستاذ الفلسفة وتلميذه من تبادل للخبرات والمشاعر وتوزيع الأدوار بشكل اعتباطي أحيانا، وحضور الاستفهام والحيرة والإسقاطات بينهما كضرورة سيكولوجية تحددها آلية التماهي والبحث عن الهوية في ارتباط مع مطالب السن والنمو ورهان الأنا الأعلى، يجعل من فضاء القسم نموذجا مصغرا لتجربة اجتماعية تختصر تقنيا ، صراعا اجتماعيا بخلفية تاريخية ثقيلة وبتداخل القوى المؤثرة في الحقل الثقافي ونظام القيم الذي في ظله تشتغل الفلسفة كخطاب له إستراتيجية وجدانية يروم من خلالها ترسيخ قيم كونية دون مصادمة القيم الأصلية التي تؤطر أخلاقيا فضاء المدرسة الجزائرية ككل .إنها لعبة خلخلة المعادلات الفكرية التي تطوقها أقاويل وتأويلات ليس من اليسير لدرس الفلسفة تجنب مساءلتها.

القسم النهائي في ثانويتنا إذن هو عبارة عن مساحة اصطناعية تمت هندستها للنهوض بمهام إعادة إنتاج السيرورة الثقافية وأنماطها الاجتماعية. فهناك من جهة الأستاذ كحامل لمشروع التنوير العقلاني عبر وسائط بيداغوجية ومرتكزات ديداكتيكية من كتب مدرسية وتمارين ومادة معرفية وصيغ للتقويم ، وهناك من جهة ثانية ذلك الجاهز الذي يحتكر ملكات الفعل العقلي والعاطفي والسلوكي عند التلميذ « بحيث تنطبع فيه الإحساسات المختلفة لتشكل الأفكار عبر عمليات التفاعل مع البيئة ».  بينهما قد يحصل الحوار وهذه حالة الأستاذ الذي يلم أكثر بأبجديات الأداء البيداغوجي الذي يفترض النضج الوجداني والاتزان الأخلاقي، وقد يقع النفور والتباعد وهذا مسار آخر سلبي يؤسس له الأستاذ المتمركز حول ذاته وصوته والذي لا يلتفت إلا نادرا إلى ما يصنعه بالتلميذ وبالأصداء التي يخلفها موقعه النرجسي، المتعالي هذا على صعيد الحياة المدرسية ككل؛ الأستاذ العاشق لنموذجه والمنفرد ببناء حلمه من خلال درس الفلسفة لا يعمل سوى على تفقير الجانب الإنساني في هذا الدرس، واتهام الأطراف التي من المفترض أن يسمح لها بالنمو والتكاثر والتشكل على ضوء ما يفترضه الخطاب الفلسفي من معاملة ندية مع الآخر، لكي يصبح هو ذلك القول الذي يقود شخص التلميذ والمدرسين وشركاء العملية التعليمية ككل نحو اكتشاف الماهية الحقيقية للتفلسف وبعده الأخلاقي الذي يعادي كل مصادرة لحرية الرأي والتفكير؛ الأستاذ الذي ينصهر في هوية فردية مغلقة يحرم القسم من كونية الفلسفة ويدفع التلميذ بعيدا عن مملكة العقل ومشتقاته المنطقية والمعرفية، كما يحكم على الحياة المدرسية بأن تستمر في نبذ درس الفلسفة وعدم الالتفات إلى حضوره المؤسسي وبالتالي إلى إنتاج نموذج سلوكي مدرسي بقيم السائد وتحت إشراف العادة والآراء العامة التي لا تقدر على التفكير في المدرسة من زاوية كونها رافعة للتغيير وحاضنة للتجديد وقادرة على إنتاج التصورات والمبادئ التي بإمكانها توجيه الفعل التربوي نحو آفاق أكثر كونية وأكثر إنسانية، الحياة المدرسية التي يغيب فيها صدى درس الفلسفة وشخصية المدرس وإشعاعه الثقافي هي حياة مدرسية قاصرة وفاقدة القدرة على السير بإيقاعات مضبوطة نحو تحقيق مشروع مؤسسة يحضر فيه التلميذ كفاعل أساسي في التعلم والبحث والإنتاج وتدبير مجال الفصل والوقت الفائض بلغة الإستراتيجية الثقافية والمردودية السلوكية التي تتمظهر في قيم التعاون والتشارك واحتضان المدرسة كفضاء شخصي وطبعه بسمات الذات وجعله يسير في اتجاه الحرية البيداغوجية بدل سقوطه في حضن تدبير سلطوي يقضي على كل الرهانات.

لكن هل أساتذة الفلسفة اليوم لازالوا يمارسون الحلم كآلية دفاعية ضد إكراهات المؤسسة ومطالبها؟ أم أن الحلم كسفر في أفق منحرف عن الواقع لم يعد يراود سوى نسبة ضئيلة من مدرسي هذه المادة، وغالبا هي الفئة التي لها ارتباطات نوعية بالخطاب الفلسفي وبالقضايا العمومية التي تتقاطع لغتها مع درس الفلسفة لكي تمنحه راهنية قوية وحضور جلي في حقل الفعل الاجتماعي والسياسي.

الأستاذ الحالم بالدرس الفلسفي

الأستاذ الحالم هو نموذج بيداغوجي لمدرس يرغب في تجاوز المطالب الآنية لدرسه وذلك لأنه مفتون دوما بالبحث عن المسارب التي تجعله يتمكن من تعقب وعورة الواقع وتحويلها إلى ذلك الممكن النظري والقابل للتمثل من لدن رواد الخطاب الفلسفي والاجتماعي عموما . يلتزم هذا المدرس بأخلاقية مثالية ورغبة قوية في جعل الدرس عبارة عن تبشير بمثال ما وإخبار عن حقيقة مشاكسة سيتم تحريرها من أسر السلطة التي لا ترغب في قول الحقيقة « الوجود مشاركة المعاني بمقدار وأن الموجودات لا توجد ولا تكون إلا على قدر المشاركة ».

بهذا المعنى ينخرط المعلم الحالم في تبني سيكولوجية المراهق التي تميل نحو النزعات النبوية والمغامرات التي تقتضي قتالية واستعداد نفسي للتضحية من أجل مبدأ مطلق؛ الأستاذ الحالم هو عدو لسلطة الواقع وصديق الاستعارات والمجازات التي تدمج المتخيل في البرهان الفلسفي وتضع الوجدان كقاعدة للتفلسف ونقد نظام الأشياء. يعمل هذا النموذج على تكريس نمط من التواصل مع التلاميذ يسيطر فيه التوظيف البيداغوجي لدرس الفلسفة للتصدي لما هو كائن في محيط التلميذ أو على مستوى ما يمتلكه من معارف وخبرات وثقافة اجتماعية ، ويحدث هذا في إطار البحث عن الأفق أو الخلاص الذي تقدمه فلسفة الفلاسفة كما تترجمها فلسفة المدرس الحالم على شاكلة فلسفة كانط الألماني « ويتمثل إنجاز كانط أيضا في أنه استحضر بحق الروح النقدية للقرن الثامن عشر، وهي روح التنوير...تلك هي روح الشك الراديكالي والتأمل الذاتي والتي تتطلب من كل فعل إنساني أن يقدم أدلة براءته قبل أن يمثل أمام محكمة العقل».

درس الفلسفة كما ينجزه المدرس الحالم يقود لمملكات مفترضة تؤسسها الحرية والعدالة والسلم والأمومة كرابط وجداني بين أعضائها، وهذا ما يجعل الحالم يميل نحو تأنيث وجدان التلاميذ من خلال تعويذهم على نبذ وهجر التنافس والصراع والذكاء الاجتماعي والمكر ولغة الواقع التي تنتصر على العقل الممتلئ بالنماذج الصورية؛ درس من هذا الطراز لن يكون قادرا على التشابك مع السائد والاجتهاد في تفكيك آلياته بمنطق التحليل والتقويض والنقد الصارم بل قد يتحول إلى ممارسة صوفية بلغة الفلسفة.

هناك من ينتقد هذا النموذج ويعتبره من مسببات القلق والعدوان لدى مراهق ينتظر من أستاذه عنفًا في محاكمة الواقع والسلطة ولطفًا في السفر على صعيد المفهوم وعودة لفهم ما يجري على الأرض بلسان العلوم الاجتماعية التي يوفرها بالضرورة البيداغوجية درس الفلسفة؛ في هذا الاختيار أي في الاستعانة بالحلم للتخلص من عنف الواقع وصرامة العقل قد نجد وضعيات من نمط "دعه يعمل"، وهذا النوع كما يرى نقاد هذا النموذج ينجم عنه وداخل مجموعة الفصل ردود فعل عدوانية مادام عدم تفرغ المدرس لقسمه يدرك كعدوان من لدن التلاميذ. إن هذا النمط من الأساتذة قد بدأ يتوارى عن المشاهدة في الفصول الدراسية وذلك مع تواري النماذج الاجتماعية وتلاشي الأحلام بالمجتمعات العادلة والمدن الفاضلة، كما بدأ يظهر في صورة الغريب عن الواقع الراهن لما يحمله من علامات البؤس الفكري والانحسار السيكولوجي في مرحلة الحلم والاستهام.

أستاذ اليوم هو نتاج لمسار دراسي مغاير ولوضعية اجتماعية وثقافية مختلفة كما أنه غرف من منظومات مرجعية فكرية أخرى وتربى في حضن تراجعات عن أطروحات وصعود خطابات جديدة هيمنت على الحقل الجامعي وساهمت في إعادة النظر في سؤال القيم والأخلاق والعلاقة بالذات وبالتاريخ وبالهوية على ضوء الإصلاحات التي عرفتها الجامعة الجزائرية والمؤسسة التربوية عموما . إنه باحث عن الذات في خضم هذه التحولات الكبرى وطنيا وكونيا ، وفاقدا لنقط الارتكاز التي تدعم رهانات الدرس الفلسفي الذي يروم بناء الشروط النفسية والعقلية والمعرفية لتحقيق المواطنة في دولة الحق والقانون التي هي الإطار التاريخي والسياق الجديد لدرس الفلسفة في صيغته المنهجية الجديدة.

لقد خلق الإصلاح التربوي إذن الشروط الموضوعية لكي يتبخر الأستاذ "القائد"، "والمربي الكاريزمي"، ليترك مكانه لمدرس جديد تقتضيه ضرورات المدرسة كمؤسسة من مهامها الأساسية توفير المعدات اللازمة لكي يتمكن التلميذ من تعلم التفكير والنقد والاستنتاج والتحليل والملاحظة والقراءة الفلسفية الواعية وكل الكفاءات الأساسية والتي هي المبرر لشرعية المدرسة والتربية على العموم، أنه أستاذ يثري حضورا فلسفيا، يتجاوز النظرة الاستعلائية والتعامل العمودي الذي قد ينتهجه الأستاذ إزاء تلاميذه، معتبرا إياهم مجرد متعلمين يتلقون جملة من المعارف يحفظونها عن ظهر قلب؛ هذا الحضور للتلميذ باعتباره شخص متميز وكلي،محدد انفعاليا واجتماعيا وثقافيا وبذلك يصبح كل تلميذ بالفصل نموذجا خاصا، يتطلب تعاملا ينسجم وخصوصيته الفارقية وهذا ليس في درس الفلسفة فحسب بل في جميع المواد، تلميذ يبحث عن غير المألوف في خطاب غير مألوف وفي حضرة أستاذ له حق التميز عن العام باعتباره يملك سلطة التنظير للاختلاف ونقد النمطية والخوف من الغموض .

خلال عملية التواصل يظل التلميذ ينتظر أن يستجيب أستاذه لهذه الخصوصيات الجاهزة والتي تذكي فيه روح المغامرة الفكرية والاندفاع لطرق الأسئلة التي لا يسمح له بطرحها في واقعه الاجتماعي أو في المواد الدراسية الأخرى،لكن في درس الفلسفة ينبني التواصل الحقيقي مع التلاميذ على قوة الطرح وصدق المشاعر واستعداد الأستاذ للعمل والخدمة غير المشروطة لصالح الحاجيات التي سيعبر عنها تلاميذه وهم يحاولون شق طريقهم في متاهات الفكر الفلسفي وإيقاظ روح المغامرة والمقامرة على متعة الدرس، وعليه لَمُعلم فلسفة واحد وأستاذ مبدع في حجرة القسم يهتم بالتأسيس المتين لشق التلاميذ طريق التفلسف خير من أكبر تلقين وحفظ للفلسفة.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.....................

قائمة والمراجع:

1- نظريات التعلم، عماد عبد الرحيم الزغول،دار الشروق للنشر والتوزيع، طبعة أولى، سنة 2010.

2- مقالات في الدرس الفلسفي، مدني صالح، ابن النديم للنشر والتوزيع، طبعة أولى، سنة 2016.

3- كانط فيلسوف النقد، ألن و. وود، ترجمة بدوي عبد الفتاح، أفاق للنشر والتوزيع، طبعة أولى، سنة 2014.

تعتمد فكرة التأطير الدلالي للتوصيفات السوسيو-سياسية على ما تقدمّه اللسانيات من بناءٍ تركيبي للولوج إلى الحقل السياسي العام، لتتخذَ منه تنظيراً وممارسة وأفعال منجزة من دون الالتفات إلى الجذر التوصيفي الذي تمّ ترحيله من حقل اللسانيات إلى الفضاء العام المرتبط بالسياسة والتوصيفات الاجتماعية على نحو وثيق . تقوم اللسانيات بالنسبة للعلوم الاجتماعية بدور الواهب العام، من هنا، يمثّل هذا التداخل – فيما أرى - بين اللساني والمعرفي مدخلاً لإعادة توصيف الشيعة لذاتهم واختيار توصيف هوياتي مُحدّد تترسخ عن طريقه معالم الصورة المستقبلية لما يريده الشيعة وما يصبون إليه من أهداف وغايات. اجترحت لحظة 2003 مساراً حراً أتاح بزوغ أسئلة وجب على الذات الشيعية أن تواجهها بعد عقودٍ من الكبت والقهر وفرض الصمت المريع، يقعْ في مقدمتها كيفيّة التوصيف الجماعاتي الذي تحمله الذات الشيعية وتؤمن به، تتيح اللسانيات وتراكيبها الدلالية ثلاثة توصيفات للوقوف على الفهم الذي يتغيأ الشيعة في العراق أن يكون معبّرا عنهم وهي على النحو التالي:

1- الشيعة العراقيون.

2- الشيعة في العراق.

 3- العراقيون الشيعة .

يختزن التوصيف الأول إعلاء المذهبي على الوطني، مع استدعاء ذاكرة انقسامية على شكل موجات متتابعة بوصفها الدافعية الأكثر تأثيراً في مجمل السياسات والخيارات التي يتبنّاها الشيعة، وهو توصيفٌ يقوم أساساً على مبدأ التنافي والتعريف بالنقيض الديني، ومع صراع الإثنيّات والتمزق الذي يلفّ المنطقة برمتها، أتاح هذا التوصيف تخفيف ضغط الانتماء الوطني لصالح الهوية الفرعية التي شهدت محاولة للمحوِ بلا هوادة، ليتحول المذهبي بمنظوره الضيق المسار الوحيد الذي يحمي الشيعة فضلاً عن كونه وظيفة يتمكن الشيعة من خلاله تقديم أنفسهم مكونا أبويا لبقية المكونات بسبب الغالبية الديموغرافية بما تختزنه (الأبوية) من حمولات دلالية في التاريخ العربي والاسلامي على طول الخط. ولعلّ التأثير الأكثر حضوراً يتمثل في علاقة المتن التي تربطهم بالشيعة غير العراقيين والهامش الذي يربطهم بغير الشيعة في العراق .

أما التوصيف الثاني (الشيعة في العراق) فيستضمر دلالياً النظر إلى الشيعة كجسدٍ واحد في كل البلدان، مما يستدعي تهميش المكان لصالح التوصيف الهوياتي، ليتحول الوطن من متن المواطنة الى هامشٍ للمكان، وتتكئ الهوية آنذاك على سرديات جماعية تُعلي من شأن العقيدة بوصفها ضديدة للوطنية ومنافية لها، ساعد على ذلك فشل الاندماج الوطني في العراق وتصاعد سياسة المحاور التي أخفت طموحاتها السياسية في دول الإقليم تحت عباءة المذهب والطائفة من قبل جميع الدول المتصارعة، ويصبح جذر التعريف للشيعة في العراق هو بروز السردية التاريخية بكل حمولاتها الانقسامية وتعدد تأويلاتها على حساب المتحقق الفعلي في عوالم الهويات الوطنية ومحاولة تجذيرها في ضوء واقع ملتهب.

أطلقت لحظة ما بعد 2003 الإشكالية الكبرى المتمثلة في البناء التركيبي – الدلالي الثالث: (العراقيون الشيعة)، هذه الإشكالية التي طرحت نفسها بشكلٍ ضاغط على طبيعة العلاقة بين العراقيين الشيعة وسائر الجماعات الشيعية في العالم، فقد كان هناك توقٌ شديد لأن  يجترح العراقيون الشيعة نموذجهم الخاص بوصفه نموذجاً يُحتذى من قبل دول الإقليم وما تضمّه من هويات فرعية وديموغرافيات متعددة، سواء على صعيد العلاقة مع إيران أو مع الدول العربية، مع فرصة تاريخية لشيعة العراق لاختيار توصيفهم الهوياتي والوطني بكونهم جزءاً مِنْ أو جزءاً في، وهذا التوصيف يُعلي من شأن الوطني على المذهبي، ويجعل التسابق لتقديم المثال الشيعي مقدّماً على الذاكرة الانقسامية التي تُهيمن على العراق وعلى المنطقة برمتها، ليجري التناغم بين الوطني والمذهبي وفق ضوابط ذاتية محدّدة غير قابلة لقبليات المصادرة والنفي، مع إمكان وجود طموحٍ رائد ينظر إلى الشيعة بوصفهم رهاناً لبناء دولة وطنية في ضوء الولادات المتعسرة التي هيمنت على العراق منذ نشوء العراق الحديث بوصفه دولة وطنية ضمن فضاءات التعريف السائدة، غير أنّ الشيعة في العراق حتى هذه اللحظة لم يختاروا التوصيف التركيبي- الدلالي الذي يسيرون عليه، فمازالوا غارقين في دوّامة البحث عن توصيفٍ لذاتهم في عالمٍ يتسارع من حولهم، ومن غير أنْ ينتظر أحدا.

****

د. مؤيد عبد صوينت

 

رؤى نظرية

بقلم: جاكوب دي هان وكليمنس سيرمان

ترجمة: هاشم نعمة

***

ما دفعني لترجمة هذه الرؤى النظرية هو أنها تلامس الوضع في العراق على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي خصوصا بعد عام 2003، حيث تتحدث الحكومات المتعاقبة منذ عشرين سنة عن التنمية والاستثمار، ولكنها تخلق في الوقت نفسه بيئة طاردة للتنمية والاستثمار الداخلي فما بالك بالاستثمار الخارجي، نتيجة عدم وضوح سياستها التنموية وتبني نهج المحاصصة الطائفية - الإثنية المولد للفساد المالي والإداري والمعيق الأكبر للتنمية بأبعادها الشاملة.

1- الديمقراطية:

طُرحت العديد من وجهات النظر بشأن العلاقة بين الحريات الديمقراطية والنمو الاقتصادي. فبعد سيروي وإنكيليس نحن نصف المواقف النظرية المختلفة مثل رؤى "الصراع"، و"التوافق" و "الشك" على النحو الآتي.

الشيء الأساسي بالنسبة إلى رؤية الصراع هو الادعاء بأن النمو الاقتصادي يُعاق من قبل المؤسسات الديمقراطية للدولة. بكلمات أخرى، تعد الديمقراطية والنمو الاقتصادي ذات اهتمامات متضاربة. وعلى حد تعبير بهاجواتي: "يطرح الاقتصاد السياسي للتنمية اختيارا قاسيا بين التطوير السريع (الذاتي) والعملية الديمقراطية". من وجهة النظر هذه، يتطلب النمو الاقتصادي السريع نظاما سلطويا يقمع الحقوق المدنية والسياسية الأساسية. إن الحجج التي تم طرحها لدعم وجهة النظر هذه  تتلخص بالآتي:

يجادل هنتنغتون أن المؤسسات السياسية في البلدان النامية تكون ضعيفة وهشة. أضف إلى ذلك، الضغط الهائل على الحكومة التي أنشأها نظام ديمقراطي وتضخم مصادر عدم الاستقرار الحالية. وبسبب توفر قدر أكبر من القنوات التي من خلالها يمكن لمجموعات الضغط أن تعبر عن مطالبها، وبسبب أن السياسيين يجب أن يلبوا هذه المطالب للبقاء في السلطة، لذلك يذهب الجدل الى أن النظام الديمقراطي يصبح بسرعة مثقلا بالأعباء. إضافة إلى ذلك، أن كثيرا من المجتمعات النامية محاصرة بالصراعات الداخلية الناتجة من عدم التجانس المناطقي والديني والإثني والطبقي والتي سوف تظهر إلى العلن في الديمقراطيات. النظم السلطوية هي أكثر قدرة على كبح المعارضة والصراع التخريبي.

ليست الحجة الأولى موجهة حقا ضد الحريات الديمقراطية، لكنها مجرد دعوة إلى الاستقرار السياسي. في الواقع، هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن عدم الاستقرار السياسي قد يُعيق النمو الاقتصادي. فقط إذا كان من الممكن إثبات أن الدول الديمقراطية هي أكثر عدم استقرار من الناحية السياسية. ليست الحجج الأخرى ضد الديمقراطية هي بالضرورة قاطعة. أولا، قد يُجبر الطغاة أيضا على اتباع سياسات انتهازية إذا كان بقاؤهم في المنصب مهددا. ثانيا، لا تكون النظم السلطوية متجانسة. في حين أن الارتباط الواضح للنمو الاقتصادي المرتفع بنظم سلطوية قد اقترح من تجربة عدد من النظم غير الديمقراطية "تكنوقراطية" (مثل كوريا الجنوبية وتايوان)، من الواضح أن هناك الكثير من الأمثلة المعاكسة مثل "كلبتوقراطية"* و| أو نظم سلطوية غير كفوءة قاد حكمها إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. ثالثا، يمكن أن يعني الاستبداد الحكم التعسفي والتدخل غير المبرر، مما قد يعوق النمو الاقتصادي. أخيرا، من الملاحظ في ما يتعلق بالحجة الأخيرة، قد يتم الرد عليها، بأن الدولة القوية والدولة السلطوية لا تكون بالضرورة الشيء نفسه.

لا يتوقف بعض مؤيدي رؤية التوافق عند مجرد مناقشة رؤى أتباع منظور الصراع، ولكن على العكس من ذلك يجادلون بأن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة والمنصفة. ومن وجهة نظرهم، أن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات المدنية والحقوق السياسية تولد ظروفا أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي. وتكون التعددية الاقتصادية ضرورية للنمو الاقتصادي، وتكون التعددية السياسية شديدة الأهمية لبقاء التعددية الاقتصادية وقابلية نموها. على الرغم من أن (بعض) أنصار وجهة نظر التوافق يدركون بأن الحكم الاستبدادي يمكن أن يُحدث في بعض الحالات معدلا أعلى للنمو الاقتصادي في المدى القصير، لكن يُنظر إلى الحكم الديمقراطي على أنه أكثر ملاءمة للنمو المستدام والمنصف على المدى البعيد.

أخيرا، يشك المؤلفون الذين يشتركون في ما يمكن تسميته بالرؤية المتشككة، في وجود أي علاقة نظامية بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. وبكلمات أخرى، أن السياسة وحدها لا تهم كثيرا. الأهم من ذلك، ربما، نوع السياسات المتبعة والترتيبات المؤسسية مثل طبيعة النظام السياسي الحزبي (حزبين إزاء التعددية الحزبية) والاستقرار السياسي الذي قد لا يكون مرتبطا بمسألة الديمقراطية في حد ذاتها.

2- عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب:

حديثا، جرى إثراء الأدب الاقتصادي بدراسات فحصت التأثيرات السلبية لعدم الاستقرار السياسي على النمو الاقتصادي. هناك العديد من التفسيرات النظرية التي تفترض وجود علاقة سلبية بين عدم الاستقرار السياسي ونمو الناتج الوطني. ويمكن تقسيم هذه النظريات أساسا إلى مجموعتين رئيستين: تسمى الأولى برؤية "السياسات المعاكسة"، وتتميز الثانية ببـرهان "الاضطرابات الاجتماعية".

يتمثل الجانب المركزي في دراسات المجموعة الأولى في الادعاء بأن سياسات اقتصادية معينة يمكن أن تضر النمو الاقتصادي. وفي ما يتعلق بأصل السياسات المعاكسة هذه، يمكن تمييز مدرستين فكريتين. تشدد المدرسة الأولى على الأفق الزمني للسياسيين ودرجة الاستقطاب في المجتمع (رؤية قصر النظر والاستقطاب)، بينما تركز المدرسة الأخرى على الخلافات داخل الحكومة (ضعف المنهاج الحكومي).

وفقا للدراسات القائمة على "رؤية قصر النظر والاستقطاب" يكون السياسيون على استعداد لتعزيز السياسات التي تخدم مصالحهم أو مصالح مؤيديهم، والتي قد تكون أقل فائدة لرفاهية مواطنيهم. وتعتمد أرجحية هذه السياسات السلبية على الأفق الزمني للسياسيين ودرجة الاستقطاب في المجتمع. ويمكن ذكر العديد من الأمثلة.

عرض أليسينا وتابيليني نموذجا من حزبين مفاده أن عدم اليقين بشأن السياسات المالية للحكومات العمالية والرأسمالية المتعاقبة يؤدي إلى هروب رأس المال الخاص مما يقلل من الاستثمار المحلي، وبالتالي النمو الاقتصادي في البلدان النامية.  ويؤدي عدم اليقين هذا إلى تصاعد أرجحية تغيير الحكومات ودرجة عالية من الاستقطاب بين الأحزاب السياسية.

بصورة مماثلة، عرض أليسينا وتابيليني في نموذج الحزبين ما يتعلق بقرارات الموازنة الحكومية، حيث يكون مستوى عجز الميزانية مرتفعا في حالة سرعة تغير الحكومة وفي المجتمعات شديدة الاستقطاب. وفي نموذج مماثل بشأن الدَّين العام، عرض بيرسون وسيفنسون كيف أن الحكومة المحافظة التي تفضل تقليل الإنفاق العام لكن تعرف أنه من المحتمل أن يتم استبدالها من قبل حكومة عمالية مع أولويات مختلفة، سوف تزيد من الاقتراض العام، وبالتالي الحد من مساحة المناورة لخليفتها. وقد أشار بلانشارد وفيشر الى أن التخفيضات الضريبية خلال إدارة ريغن في الثمانينيات كانت أيضا مدفوعة من قبل هذه الاعتبارات. مهما كان السبب، قد يؤدي العجز المرتفع والدائم إلى إعاقة النمو الاقتصادي.  كما أشار فيشر، من المحتمل أن يكون عجز الميزانية المرتفع مرتبطا بشكل سلبي مع التراكم الرأسمالي، وبالتالي النمو الاقتصادي، لسببين؛ الأول هو المزاحمة. والثاني هو أنه، مثل معدل التضخم، يشير العجز إلى أن الحكومة تفقد السيطرة على اجراءاتها. في الواقع، ذكر ايسترلي وريبيلو أن هناك علاقة متينة بين فائض الميزانية الحكومي والاستثمار الخاص والنمو الاقتصادي.

قد تعود جذور مستويات التضخم المرتفعة أيضًا إلى عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب. فقد قال إدواردز وتابيليني: "ليس هناك شك في أن السلطات الأرجنتينية، على سبيل المثال، لديها فكرة واضحة عن عواقب تسريع نمو الائتمان المحلي على التضخم وميزان المدفوعات وهروب رأس المال وهلم جرا. فهم ما زالوا يعرفون هذه العواقب واختاروا المضي قدما. لماذا؟" يعتمد جوابهم على نموذج الشهرة العائد إلى بيرسون وتابيليني وكما يأتي: أولا، تواجه الحكومات في المجتمعات المستقطبة صعوبات كبيرة في تخفيض التضخم من خلال زيادة مكافحته المقرون بسمعتها. ثانيا، سيكون التضخم أعلى عندما يكون احتمال إعادة انتخاب الحكومة الحالية قليلا. لماذا ينتهج السياسي بعد كل ذلك سياسات مؤلمة إذا كانت فرصة جني الثمار ضئيلة؟ على نفس المنال، عرض كوكيرمان وإدواردز وتابيليني أن كثرة تكرار تغير الحكومة مقرونا بالاستقطاب السياسي لهما تأثير سلبي على فعالية الحكومة في رفع الضرائب. وجادل هؤلاء الكتّاب أن إصلاح النظام الضريبي غير الفعال يحتاج إلى الوقت والجهد. سوف لا تحاول الحكومة الحالية تنفيذ هذا الإصلاح إذا هي تعرف بأن منافسيها السياسيين سيستفيدون من تحسن جمع الضرائب في المستقبل القريب. ومع ذلك، تعتمد الحكومة بشدة على "ضريبة التضخم" لتمويل نفقاتها. وفيما إذا تكون المستويات العالية للتضخم ضارة بالنمو الاقتصادي، هذا الأمر ليس مؤكدا في المرحلة الحالية من النقاش. لكن ما زال فيشر يجال بقوة بأن النمو الاقتصادي يرتبط بعلاقة سلبية مع التضخم.

المدرسة الثانية، تؤيد ما يعرف في الأدب بفرضية "الحكومة الضعيفة"، إذ تختلف عن المدرسة الأولى بناحيتين؛ الأولى، تركز هذه الدراسات على التأثير السلبي للصراعات داخل الحكومة بدلا من التركيز على العواقب السلبية للصراع السياسي بين الحكومات المتعاقبة. الثانية، تعتبر معرفة الترتيب المؤسسي للتمثيل الانتخابي أساسية في تفسير جزء من السلوك السلبي للسياسيين. ويجادل بوبر أن النظام الانتخابي التمثيلي النسبي يقود إلى حكومات ضعيفة هي أكثر عرضة لتقديم التنازلات أمام الضغط السياسي لجماعات المصالح الخاصة. وهو يجادل بأن هذا النظام يُمَّكن العديد من الأحزاب الصغيرة أو جماعات المصالح من أن تتمثل في البرلمان، حيث "يمكنها أن تمارس تأثيرا كبيرا - وحاسمًا في كثير من الأحيان - بصورة غير مناسبة على تشكيل الحكومة واستقالتها وهكذا على كل قراراتها". وجادل روبيني وساكس أن ارتفاع عدد الأحزاب المؤتلفة في الحكومة يجعل المفاوضات على نحو متزايد أكثر صعوبة للتوصل إلى قرارات سياسية، وسينتج هذا سياسات تكون بشكل متزايد دون المستوى الأمثل. علاوة على ذلك، يذهب الجدل، الى أن هذه السياسات ستواجه مخاطر أكبر لتكون دون المستوى الأمثل في فترة الصعوبات الاقتصادية. وفقا لروبيني وساكس، يمكن أن يفسر هذا لماذا استغرق الأمر من معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي لديها حكومات ائتلافية متعددة الأحزاب وقتا أطول بكثير لتقليل عجز الميزانية الحكومية في الثمانينيات مقارنة بالبلدان ذات أغلبية الحزب الواحد أو الحكومة الرئاسية.

الحجر الأساس في رؤية "الاضطرابات الاجتماعية" هو الادعاء أن النمو الاقتصادي يتأثر سلبا نتيجة الاضطرابات الاجتماعية - السياسية. ويشير الجدل النظري في هذه الدراسات إلى أن الاضطرابات الاجتماعية - السياسية تخلق حالة من عدم اليقين والتي يفترض أن يكون تأثيرها سلبيا على النمو الاقتصادي المستدام. وفي أوقات الحروب الأهلية والثورات والانقلابات العنيفة يمكن للمرء أن يتوقع خسارة الممتلكات. علاوة على ذلك، من المحتمل أن يكون هناك نزوح سكاني. وفي مناقشة كواسي فوسو لتأثيرات الانقلابات العسكرية في أفريقيا جنوب الصحراء، ذكر: "من المعتاد أيضا أن تتولى حكومة جديدة السلطة من خلال الوسائل القسرية لإخضاع أعضاء النظام القديم أو حتى أولئك المرتبطين به عن بُعد، للتحقيق باسم القضاء على الفساد، أو مصادرة الكثير من ممتلكاتهم أو سجنهم لفترة وجيزة أو ربما إعدامهم. وبالتالي، فإن غياب سيادة القانون والحريات وحماية الممتلكات الخاصة والتبادل السوقي من المرجح أن تصاحب عدم الاستقرار السياسي". وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه عند انتهاء الحرب الأهلية و/ أو الملاحقات القضائية، ستكون هناك حاجة إلى الوقت لبناء الثقة في الحكومة بحيث لن تتكرر أشكال مماثلة من الانتهاكات في المستقبل. ومع ذلك، فإن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الأقل عنفا مثل الإضرابات وأعمال الشغب والمظاهرات السياسية يتم تنفيذها للإضرار بأداء النمو، لأنها تخلق حالة من عدم اليقين. وعلى الرغم من أن الأدب المتعلق بالاضطرابات الاجتماعية-السياسية اجمع على الادعاء بأن الاضطرابات يكون لها تأثير سلبي، لكن لا توجد نظرية متفق عليها تشرح لماذا وكيف يقلل عدم اليقين من اتجاهات الإنتاج الوطني.

يناقش كواسي فوسو بأن الاضطرابات الاجتماعية وانتهاكات "الحقوق المدنية" تجعل الناس ومعظمهم من المثقفين يقررون مغادرة البلد، مما يتسبب في حدوث ما يسمى "نزيف الأدمغة". وتجدر الإشارة إلى أنه وفقا لنظرية النمو الكلاسيكية الجديدة القياسية (المعيارية) سيكون لهذا الأمر تأثير مهم على النمو فقط إذا غادر عدد كبير من العمال أو نزحوا داخل البلد. ومع هذا، وفقا لنظرية النمو الجديدة فإن أعدادا قليلة ولكنها ذات نوعية مهمة، فقد يكون لنزيف الأدمغة تأثيرات سلبية مهمة على النمو.

لا يزال يركز معظم الأدب المتعلق بعواقب الاضطرابات الاجتماعية - السياسية على التأثيرات السلبية في تكوين رأس المال. يجادل بارو بأن الزيادة في تعزيز حقوق الملكية، من وجهة نظر المستثمرين، تبدو مثل تخفيض معدلات الضرائب الهامشية. إذ يؤدي هذا التخفيض في معدلات الضرائب الهامشية إلى زيادة في معدلات النمو والتوفير. وبطريقة مماثلة، يجادل فينيريس وجوبتا بأن عدم اليقين بشأن الحق في التمتع بالدخل المستقبلي المتأتي من الادخار يقلل الحافز لدى الجمهور لادخار الدخل الحالي. وبالتالي، فإن الاضطرابات الاجتماعية - السياسية التي تزيد من عدم اليقين بشأن حقوق الملكية المستقبلية لديها تأثير سلبي على الادخار ومن ثم الاستثمار.

وفقا لنظريات تمويل الشركات المعيارية المتعلقة بالاستثمار، فإن مزيدا من عدم اليقين بشأن صافي العائدات المستقبلية، الذي ينتج في هذه الحالة من الاضطرابات الاجتماعية، يجعل المستثمرين يطلبون عائدات أعلى على استثماراتهم. وإذا افترض المرء في الوقت الحالي أن العدد الإجمالي لفرص الاستثمار سيكون ثابتا مع مرور الوقت، فإن الطلب على عائدات أعلى يعني ضمنا عددا أقل من المشاريع الاستثمارية المجدية اقتصاديا. في الواقع، يذكر شنايدر وفراي بأن الاضطرابات السياسية تقلل بشكل كبير من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وتكون التأثيرات السلبية للاضطرابات الاجتماعية على الاستثمار مهمة، بسبب أن الارتباط بين النمو والاستثمار هو على الأرجح أقوى علاقة ارتباط تم اكتشافها في أدبيات النمو التجريبية. يقول بلومستروم وليبسي وزجان: "يمكن أن يتفق بشكل عام الاقتصاديون والمؤرخون الاقتصاديون على افتراض أنه على المدى البعيد، لا يحدث نمو اقتصادي سريع دون استثمارات كبيرة في رأس المال الثابت". ويقود مباشرة الافتراض القائل إن الاضطرابات الاجتماعية-السياسية تكون ضارة بالنسبة إلى الاستثمار، إلى الافتراض بأن ذلك يكون أيضا ضارا بالنسبة إلى النمو.

مع ذلك، قد لا يزال يجري التقليل من شأن تأثير الاضطرابات الاجتماعية - السياسية على الاستثمار ومن ثم على النمو، من قبل الأدبيات المعيارية. وفقا لبينديك وسوليمانو يكون الاستثمار الكلي حساسا جدا لحالة عدم اليقين، بسبب عدم تناسق رد فعل الاستثمار على الصدمات. ويجادل هؤلاء الكتّاب أن الصدمة الإيجابية يتبعها دخول شركات جديدة إلى السوق، ومشاركة الأرباح بين جميع الشركات، ولكن في الصدمات السلبية تعاني فقط الشركات القائمة. وبالنظر إلى أن الاستثمار في الغالب لا رجوع فيه، ينبغي للمرء أن يستنتج أن دخول السوق يكون فقط مجديا اقتصاديا عندما تكون العائدات المتوقعة إيجابية. وعلى المستوى الإجمالي، من شأن ذلك أن يؤدي إلى حساسية عالية للغاية للاستثمار في ما يتعلق بحالة عدم اليقين، يتضمن ذلك عدم اليقين الناشئ من الاضطرابات الاجتماعية - السياسية.

* كلبتوقراطية، مصطلح يوناني يقصد به الحكومة التي يستخدم قادتها الفاسدون السلطة السياسية لمصادرة ثروة الناس والأراضي التي يحكمونها، عادة عن طريق اختلاس الأموال الحكومية أو اختلاسها على حساب أوسع السكان. وتعني الثيفوقراطية حرفيا حكم السرقة وهو مصطلح يستخدم بشكل مرادف للكلبتوقراطية. وتتمثل إحدى سمات السرقة الاجتماعية والاقتصادية السياسية في أنه لا يوجد في كثير من الأحيان إعلان عام يشرح أو يعتذر عن الاختلاس، ولا يجري توجيه أي تهم أو عقوبات قانونية ضد الجناة. (المترجم) عن  Kleptocracy – Wikipedia

***

..........................

الترجمة عن كتاب:

Jakob de Haan and Clemens Siermann, The Impact of Democracy and Political Instability on Economic Growth: a Review (Holland: University of Groningen, 1994).

أبو حامد الغزالي البحر المغدق والمغرق

(شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر)... أبو بكر بن العربي

***

فرش اشكالي

الفكرة الباطلة لا يمكن ان تحارب الا بفكرة صحيحة وواضحة وظلام الجهل لا ينكشف الا بانبلاج فجر نور العلم وسوءة الظلم لا تستتر الا بثوب العدل وأصح الأفكار هو بناء دولة الحق والعدل التي تأخذ بعلوم السماء والارض " فالحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ "هذه الحكمة أدركها أبو حامد الغزالي فربط في مشروعه النقدي التنويري التحرري بين سلطة الحاكم وسلطان الدين فالدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. حفزه تكليف الخليفة المستظهر بالله على الرد على الباطنية ومعتقداتهم الفاسدة التي كان يتغذى منها الفساد السياسي في دولة الخلافة. لاسيما عقيدة الولاء المطلق للولي سواء القائم بأمور الدين او الدنيا. لقد تتبع بالبحث والتقصي اراء فلاسفة اليونان والإسلام وفهم مقاصدهم واثبت بالحجة والبيان مرتكزا على المنطق كمعيار وميزان  تهافت أفكارهم لاسيما الفلسفة المشائية.طلب العلم فطلبه العلم وانتخبه لمهمة احياء علوم الدين في عصر اطفئ فيه العوام بجهلهم والمبتدعة بمكرهم انوار الشريعة ومشكاة الحكمة وسراجها المنير واحرق فيه الساسة بظلمهم  واستبدادهم كتب المنطق والفلسفة عصر عجز فيه الكثير من الفقهاء عن المطالبة بدولة العدل واسكتهم الخوف والجلوس الى موائد السلطان عن قول حقيقة ان العدل اساس الملك فأفتى بعضهم بان الفلسفة شر وانها  جهالات وأكثرها لا يفيد الا تشكيكا ورأيا ركيكا  وانه من تمنطق تزندق، ثقافة أسست لنشر الجهل وتقديسه بين العوام  في عصر الفتن والمحن عصر ارتقى فيه  الغزالي من شواهد  الحس الى منطق العقل ومن الشك الى اليقين ومن التفسير الى التأويل  وانتهى الى  الارتماء في احضان القلب طالبا الخلاص رحلة طويلة وشاقة  كشفت عن محنته في ظاهرها وباطنها.

ولكن لماذا الحديث عن محنة الغزالي اليوم؟ وهل استطاع الغزالي أن يخرج من بطون الفلاسفة بعد أن دخل فيها؟ وهل يمكن القول ان الغزالي كما يقول محمد ثابت الفندي فيلسوف ديني؟ وهل كان لأزمات الطفولة والترسبات النفسية تأثير في انقلابه الروحي وميله الى التصوف؟ وكيف نفهم علاقة الغزالي بالسياسة؟

لاشك ان  إعادة استحضار شخصية الغزالي في القرن الواحد والعشرين هي محاولة جادة  للتفكير في الزوايا المظلمة والمسكوت عنها في شخصيته وفلسفته، فالغزالي عاش في عصر الفتن والمحن عصر التكالب على السلطة السياسية عصر الاغتيالات والاستبداد والخوف وكان عليه ان يختار فاختار الحرية، لقد كان الغزالي بحق غزالا غزل ثوب الحقيقة بخيوط الشك فحولها الى يقين كان طوسي المولد وطاووسا يمشي فوق الأرض و الطاووس هو رمز الكرامة والجمال والحياة الخالدة وقدرته الى ابصار الحقيقة اسطورة تكرر ذكرها في الفلكلور الصيني والمسيحي وسكنت روح الغزالي  ولاعجب في ذلك فقد كانت طوس مدينة العلماء والادباء. لقد كان قدر الغزالي ان يعيش ألم اليتم صغيرا وألم الشك وغربة العقل طوال حياته وشخصيته التي تبدو للبعض مفهومة وواضحة هي في حقيقتها اشد تعقيدا فذو العقل يشقى في النعيم بعقله لذلك كان لزاما الحفر والنبش في زواياها الخفية لنستمد من فلسفته قبسا من نور نهتدي به في عصر اليتم السياسي والثقافي.

الغزالي مفرد بصيغة الجمع

الغزالي مفرد بصيغة الجمع ورجل بعدة رجال بل هو أمة فهو الفقيه والاصولي الموسوعي المجدد وهو المتكلم والفيلسوف والصوفي الذي استند الى شواهد العقل واستدلالات المنطق في بيان قصور الفلسفة على بلوغ الحقيقة التي أبصرها بأنوار القلب فللقلب أمور لا يدركها العقل. اذا نظرت اليه في طفولته وشبابه رأيت فيه الطفل اليتيم والشاب المتعطش لإدراك الحقائق بفطرته و التلميذ الذي تفوق على استاذه الجويني طلب العلم في صغره بنية مواجهة قسوة الحياة واكراهات الدنيا في بعدها المادي فطلبه العلم لإحياء الدين والدنيا فكان بحق حجة الاسلام وهناك في طوس في قرية غزالة ابصر النور عام 450 هجري الموافق ل 1058 ميلادي  في بيت  له بالمغمور ولا المذكور عند العامة من الناس فأبوه كان غزالا للصوف ورجلا شريفا عفيفا يأكل هو واسرته من عمل يديه  ورغم عوزه وضيق الحال وقلة المال الا انه كان يؤثر العلماء  على نفسه وعياله ويهب الى مساعدة ومجالسة  من تعلق قلبه بهم وهم رجال الصوفية هناك على بابهم دعي الله ان يهبه قلبا صافيا وولدا من صلبه يفقه الناس في امور دينهم ودنياهم فرزقه الله بأحمد ومحمد وسخر له صديقا بعد وفاته  اوفى بما أتؤمن عليه وغرس في نفس الطفلين  حب القران وحسن الاصغاء لمجالس الذكر فشحن روحهما بالرغبة المتقدة و الارادة القوية للسير في طريق العلم وكان ذكاء أحمد وقوة ذاكرته وسرعة بديهته وخياله الخصب وصفاء قلبه ونقاء سريرته وجمال خلقه وحسن خلقه مسببات  لارتقاء الشاب في مسالك العلماء والصالحين وزاده الله بسطة في العلم ونورا على نور و هنالك في نيسابور كان اللقاء مع استاذه الاشعري المعتقد المتكلم بلسان الحال والمقال  الفقيه العلامة الجويني الذي ادرك بفراسته نبوغ تلميذه فغرس فيه حب الدين فكان الغزالي اشعريا قلبا وقالبا لازم دروسه في المدرسة النظامية وتحول الى مدرس فيه لاحقا وفي بغداد هنالك ذاع صيته فجمع بين خير الدنيا والدين  حيث كانت له حاشية وحشم واقترب من مجالس السلطان وتقاطع مع رجال السياسة وسرعان ما احترق بنارها وهنا بدأت محنته.

تأثير العوامل الخارجية والداخلية في محنة الغزالي

محنة الغزالي لا يمكن فهمها الا من خلال عواملها ومسببتها الداخلية والخارجية والمقصود بالعوامل الخارجية المحيط الثقافي والساسي والاجتماعي آنذاك في القرن الخامس الهجري وقد تحدثنا عن بعض ملامحه في محنة ابن النحوي لقد كان الصراع على اشدته حول من يتولى مقاليد الحكم في دولة الإسلام المترامية الاطراف في ظل سلطة ضعيفة مثلها الخلافة العباسي لاسيما مع تزايد النفوذ التركي في جيش الخلافة وقد اشار سابقا الفارابي الى خطورة هذا الامر بعد ما اباح قادة العسكر لأنفسهم اقتطاع الاراضي وفرض المكوس ضعف الخلافة العباسية قابله تزايد قوة واطماع الدولة السلجوقية في انتزاع لقب خليفة المسلمين بداية من تزويج بنت السلطان السلجوقي ملك شاه من الخليفة العباسي ووصولا الى اطماع بركاروق ورغبة الحسن بن الصباح امير قلعقة ألموت او ما يسمى عش العقاب وزعيم فرقة الحشاشين والذي لقب نفسه بالامام صاحب مفتاح الجنة في الانتصار لشهواته ونشر الفكر الإسماعيلي النزاري  وعلى مستوى العقائد كان الصراع مستمرا ومتجددا بين الشيعة والسنة بمختلف فروعهما رغم تراجع سلطة المعتزلة وبروز فرقة الاشاعرة لم تقف الفلسفة في القرن الخامس الهجري عند الخاصة، بل امتدت إلى العامة لانتشار المذاهب الكبرى وتعارضها، فكان هناك رافضة وحنابلة، شيعة وأهل سنة، معتزلة وأشاعرة، فلاسفة وعلماء. ويكفى أن نشير إلى بعض وجوه معبرة، ففى هذا القرن عاش أبو عبدالله البغدادي الشيعي (413 هـ)، والقاضى عبد الجبار شيخ المعتزلة (415 هـ)، وأبو على ابن سينا شيخ الفلاسفة (428 هـ)، وابن الهيثم الرياضي والطبيعي المشهور (430 هـ)، وابن حزم حجة الأندلس (456 هـ)، وأبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ)، والجوينى (478هـ) من كبار الأشاعرة، والحسن بن صباح (485 هـ) زعيم الباطنية ولم يكن الوضع السياسي مستقرا  في بلاد المغرب فالصراع بين الدولة الحمادية والمرابطية لم يتوقف والهجمات الصليبية حولت الاندلس الى دويلات فسقطت طليطلة ودخل جيش المرابطين الى الاندلس ثم. اسقطت دعوى ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي دولة المرابطين لتظهر على المشهد السياس دولة الموحدين ولم يكن الغزالي بمعزل عن هذا التوتر فقد اقحم نفسه فساهم في تحطيم دولة وبناء دولة اخرى اما على الصعيد الثقافي فيمكن القول ان الغزالي وجد نفسه في بيئة ثقافية مزدهرة بامتياز سواء تعلق الامر بالثقافة العلمية فقد وجد امامه تراثا علميا ضخما في الرياضيات والطب وعلم الفلك....وكانت شخصيات  ابن الهيثم وابن سينا وعمر الخيام وابن عربي ....معروفة ومؤثرة في المشهد الثقافي بل كانت قريبة من عصره مشهد سيطرة عليه الفقهاء الذين افتى بعضاهم بحرف كتاب الاحياء مما ولد في نفس الغزالي حزنا هما وارث في قلبه مرضا تجلت من خلاله محنته. اما العوامل الداخلية فلها علاقة بشخصية الغزالي الذي كان صادقا مع نفسه إضافة الى رقة قلبه ورجاحة عقله وقد امتثل القول المأثور حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا وكان بطبعه متمكنا من النقد ميلا الى الشك وهو القائل في ميزان العمل: (إن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر: ومن لم يبصر بقى في العمى، والحيرة والضلال، ولا خلاص للإنسان إلا في الاستقلال، وتمثل بهذا البيت:

خذ ما تراه، ودع شيئاً سمعت به**** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

مرض الغزالي بين الذهان والكنظ أو الغنظ

يقول عبد الرحمن بدوي:" فمنذ أن بدأ يقرأ كتب الفلسفة، ونحن نفترض أن ذلك كان في حدود سنة 484هجري  وهو فى الرابعة والثلاثين، تغير مجرى تفكيره وحدثت له بعد ذلك  أزمة روحية كان من نتائجها أن شك في اعتقاداته الموروثة. وهذا الشك كان أول دافع له إلى النظر العقلى الحر" ومرض الغزالي والذي تسبب في محنته هو مرض نفسي بالأساس صنفه البعض ضمن دائرة امراض الذهان و شعوره بالمرض دام ستة أشهر، من رجب إلى ذي القعدة من سنة 488 هـ حيث  لسانه اعتقل عن الكلام و فقد شهوة الطعام وفي أوائل هذا المرض، أو فى الأحوال الخفيفة منه، تضعف الذاكرة ويتشتت الفكر، ويفقد المريض لذة الاهتمام بأمور الدنيا إذ لا يرى لها قيمة لأنها تكون عنده، في حالته تلك، أموراً عارضة زائلة. ثم هو يأبى بذل الجهد ويتخوف من حمل التبعة. ويرافق ذلك كله حال من الحزن ومن الشقاء البادى ؛ ثم تلح على المريض ذكريات الماضى وتتجسم له الأخطاء اليسيرة، وتتبدى له أحواله الحاضرة كثيرة السوء فيقنط من كل تحسن آني أو مقبل ويستولى عليه قلق شديد. ويكون المريض في هذه الحاله بطىء التفكير ثم يعجز عن معالجة الموضوعات جملة، بينما يستمر تأمله في أحواله الشخصية ناشطاً فتتوارد عليه الخواطر المؤلمة بلا انقطاع، ثم إنه يجبن عن الجزم في الأمور التي تعرض له. وكذلك يقل كلام المريض وتندر مخاطبته للآخرين، ولكنه يظل في العادة ميالا إلى سرد حكاية حاله بالتفصيل على الآخرين. وترى المريض تنتابه الأفكار السود لكثرة ما يحاسب نفسه على ضعف طبيعته البشرية.

وقد وصف حالته في كتابه المنقذ من الضلال قائلا:" فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعى الآخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لسانى، حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً، تطييباً لقلوب المختلفة إلى، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقدة في اللسان، حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لى ثريد، ولا تنهضم لى لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم فى العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج. ثم لما أحسست بعجزى، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء، الذي لا حيلة له، فأجابى الذى يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي، الإعراض عن الجاه، والمال، والأولاد، والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج. إلى مكة وأنا أريد فى نفسى سفر الشام، حذار أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب في المقام بالشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على  عزمی ألا أعاودها أبداً.-1-

ويتضح من النبش والحفر في كتب الذين تحدثوا عن الغزالي  أنه أقام مختلياً بالشام قريباً من سنتين؛ ولكن هذه المراجع لا تبين  كم أقام في بيت المقدس، ولا كم أقام في الحجاز، ولا كم أقام في طوس بعد العودة إليها، ولكنه أجمل كل ذلك وقدره بعشر سنوات، غير أنه في موضع آخر  يقدر هذه المدة بإحدى عشرة سنة. وقد وصف هذه الرحلة في كتابه المنقذ من الضلال:"  ففارقت بغداد ثم دخلت الشام، وأقمت بها قريباً من سنتين ؛ لا شغل لى إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ؛ أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسى.. ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأقفل بابها على نفسي ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز.ثم جذبني الهم ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضاً، حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر، وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لى الحال إلا في أوقات متفرقة،لكني مع ذلك لا أقطع طمعى فيها فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها ودمت على ذلك مقدار عشر سنين  "

عبقرية الغزالي

لقد كان الغزالى نموذجاً للمثقف الملتزم رغم التجارب النفسية والفكرية التي عاناها. وتكفي العودة الى كتابه المنقذ من الضلال للوقوف على محطاتها ومستوياتها. و آخر لفظ فاه الإمام الغزالي به كما يروى ابن كثير لما سأله بعض اتباعه أن يوصيه هو قوله: (عليك بالإخلاص،، ولم يزل يكررها حتى مات)

عالج أمهات القضايا الفلسفية التي شغلت كبار المفكرين والفلاسفة من قبله ومن بعده ووقف منها موقفاً نقديا مجدداً. لقد تأمل طبيعة المعرفة الإنسانية وأدرك نسبية قدرة الحواس والعقل في الوصول إلى الحقيقة وتحليله  لفكرتى الزمان والمكان يقترب كثيرا من نظرة كانط الفلسفية  فقد ربط بينهما في تلازم والحضور قائلا: « كما ان البعد المكاني تابع للجسم، فالبعد الزماني تابع للحركة، فإنه امتداد الحركة، كما ان ذاك امتداد اقطار الجسم فلا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى « قبل و بعد، وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الاضافة الى فوق وتحت » ومعنى ذلك ان الزمان والمكان هما علاقة بين الاجسام، أو بالأحرى هما علاقة بين تصوراتنا. وهما صورتان قبلیتان سابقتان للتجربة نستعين بها على إدراك العالم الخارجي. على ان أهم مسألة فلسفية تعرض لها الغزالي هي مشكلة السببية. فهو يقول: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً، وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا ؛ بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات احدهما متضمن لاثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس على ضرورة وجود احدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الآخر ؛ مثل: الري، والشرب، والشيع، والأكل، والشفاء، وشرب الدواء وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب، والنجوم،، والصناعات، والحرف. وان اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه: « وإلى جانب القضايا الفلسفية الكبرى بحث كثيراً من الاعتبارات المنطقية والنفسية والتربوية والخلقية والاجتماعية وحسن الخلق عنده يعود الى اكتمال الحكمة واعتدال الشهوة  وكونها للعقل والشرع مطيعة  وكتبه المتعددة الكثيرة ينبوع ثري للباحث عن وجهات النظر هذه فى تاريخ الفكر الإنساني هذا الشك المنهجي الذي دعا إليه الغزالى إنما كان ثمرة مطالعاته لكتب الفلسفة. وبلغ هذا الشك أوجه حوالى سنة 484 هـ. هنالك أحس بأنه لن يستطيع المضى في هذا الشك، لأن طبيعته تميل إلى اليقين، ولأنه بعد دفاعه المجيد عن الإسلام السني ضد الباطنية بكتابيه و (المستظهرى) و (حجة الحق): حتى أصبح حجة الإسلام، قد صار لزاماً عليه أن يؤدى دوره الجديد الذي. أحس بأنه دوره ورسالته، أعنى الدفاع عن الإسلام، لا دفاع المتكلم أو الفقيه، بل دفاع المشارك في الفلسفة ثم  اتجه إلى البحث عن ملكة أخرى للمعرفة غير العقل الذي عليه اعتمد الفلاسفة فكان ذلك سبباً لتهافتهم، وأخيراً وجد هذه الملكة في الكشف والذوق عند الصوفية، مما كان سبباً في بدء مرحلة ثالثة وأخيرة في حياته ابتداء من سنة 488 هـ، هى مرحلة التصوف.

احراق كتاب الاحياء

مع تولي علي بن يوسف بن تاشفين مقاليد الحكم خلفاً لأبيه، لم تستمر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الغزالي ورأس دولة المرابطين، وكان سبب التوتر كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين"، والذي بلغ من الصيت والشهرة مبلغاً عظيماً، حتى تناسخه العامة والخاصة.-2-

وصل كتاب "الإحياء" إلى الأندلس والمغرب سنة 503 هـ، وفي ذلك العهد، كان الفقهاء في دولة المرابطين قد تبوأوا مكانة رفيعة، وساهموا في رسم الإطار السياسي للدولة، وكانوا شركاء في أمور الإدارة والحرب والحكم، الأمر الذي أهّلهم لتصدر الهرم الاجتماعي في المجتمع الأندلسي والمغربي، وتجاوزوا مرتبة المرجع والمستشار التشريعي ليصبحوا كما عبّر المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي: "أمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، فانصرفت وجوه الناس إليهم وكثرت أموالهم واتسعت مكاسبهم".

اشتد الجدل بين مؤيد ومعارض لكتاب الغزالي، وقامت من أجله معارك استمرت أيضاً بعد موت الغزالي. كان المعارضين الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً، فشنوا حملة شعواء على "الإحياء" بسبب ما أبداه الغزالي من تذمر للفقهاء وانتقاصه منهم، إذ فضل تسميتهم بعلماء الدنيا، كما عدّ مرتبة الفقيه أقل من مرتبة المتصوف، إضافة إلى اتهامه الفقهاء بالاهتمام بفروع الشريعة دون الأصول، وأيضاً ما حواه الكتاب من أحاديث ضعيفة وموضوعة، وكذلك انتصار كاتبه لآراء المتكلمين من مذهب الأشاعرة. ولذلك، اعتبر فقهاء المرابطين أن الكتاب يحمل أفكاراً دخيلة على منهجهم ومجتمعهم الذي كان "سلفي العقيدة"، فقد كان المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، فأهل المغرب والأندلس مالكية الأصول والفروع، ومالكية في العقائد والحكم والعبادات، حسب ما يوضح محمد المنتصر، في دراسته عن الغزالي والمغرب.

يعدّ المؤرخ ابن القطان حادث إحراق كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" سبباً لسقوط دولة المرابطين، إذ علّق على هذا الحادث بالقول: "كان إحراق هؤلاء الجهلة لهذا الكتاب العظيم الذي ما ألف مثله سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم على يد هذا الأمير العزيز القائم بالحق"

ويأتي القاضي أبي القاسم بن حمدين كواحد من أهم الفقهاء في بلاد المغرب والأندلس ممَّن تصدّوا لكتاب "الإحياء"، فما إنْ وقع الكتاب بيده، وقرأه حتى ثارت ثائرته، ورفع الأمر إلى علي بن يوسف بن تاشفين، ومن المعروف أن دولة المرابطين دولة فقهاء، نشأت ابتداءً على أساس دعوة الفقيه عبد الله بن ياسين، وبالتالي كان الأمير لا يخرج عن رأيهم في الأحكام وسياسية الدولة. وحين اجتمع ابن تاشفين مع الفقهاء، اقنعوه بوجوب حرق كتاب "الإحياء"، وأفتوه بأنه لا تجوز قراءته بحال، ومع كون معارضة البعض للحرق، مثل الفقيه أبو الفضل النحوي، والذي قال لهم: "وددت أني لم أنظر في عمري غير كتاب الإحياء"، إلا أن المعارضين كانوا أقلية، وبالتالي غلب ابن حمدين ومَن رأى رأيه، وأثاروا معهم العامة وطلبة العلم، فما كان لعلي بن تاشفين إلا أن يستجيب لرأي الأكثرية.

وكتب علي بن تاشفين إلى أقطار مملكته بمنع تداول كتاب "الإحياء"، ومصادرة كل النسخ التي بيعت، والتفتيش عنه في المكتبات العامة والخاصة، وأخذ الأيمان المغلظة من الناس بأنهم لا يملكون نسخاً منه. وبعد أن جمعت نسخ الكتاب، أمر علي بن تاشفين بقرار رسمي وبفتوى فقيه قرطبة ابن حمدين، بأن توضع في صحون مساجد الأندلس والمغرب، ليصب الزيت عليها، ثم توقد فيها النيران، فتحرق على مرأى أعيان الناس وعامتهم. ويروي ابن القطان المراكشي، في كتابه "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، أن هذا الحادث وقع في أول عام 503 هـ.

وتوالى بعدها إحراق كتاب "الإحياء" في سائر بلاد الأندلس والمغرب، وإنزال أشد العقوبات بمَن وُجد عنده نسخة منه، من سفك دمه والاستيلاء على ماله، واشتد الأمر بذلك، بحسب الرواية التي أوردها المؤرخ عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب". كما أن حملة الحرب على كتاب "الإحياء" لم تقتصر على عهد الأمير علي بن يوسف، بل امتدت كذلك إلي ابنه تاشفين بن علي، والذي بعث برسالة إلى أهل بلنسية، جاء فيها: "ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على مَن يتهم بكتمانها"، بحسب ما أورده محمد عبد الله عنان في كتابه عن عصر المرابطين والموحدين. وجدير بالملاحظة أن معارضة كتاب "الإحياء" لم تقتصر على المرابطين وأهل المغرب فقط.

هل تهجم الغزالي على الفلسفة المشائية يخرجه من دائرة الفلسفة؟

يجيب محمد ثابت الفندي على هذا التساؤل بان الغزالي فيلسوف من أكثر من جهة:

فمن جهة أولى كان الباعث الأساسي لكتاباته الغزيرة التي شن في بعضها حروباً في جبهات متعددة كجهات الفقهاء والباطنية والفلاسفة والمتكلمين وبسط في بعضها الآخر وجهات نظره التى ارتضاها ودافع عنها، كان ذلك الباعث الأساسي مشكلة فلسفية من الدرجة الأولى في النوع وفى الأهمية ألا وهي مشكلة اليقين الذى لا يتزعزع والذى يميز المعرفة الحقة. لقد تطلع الغزالي دائماً إلى اليقين الذي لا يقبل الشك فيما وراء كل الحقائق التي قدمتها إليه علوم عصره. وهذا ما صاغه الغزالى فى (المنقذ من الضلال » في عبارة تذكرنا بالقاعدة الأولى من قواعد المنهج عند الفيلسوف رينيه ديكارت فيقول الغزالي: (إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور). أما الوجه الثاني الذي يجعل من الغزالي فيلسوفاً فهو أن الحقيقة التي تتميز بذلك اليقين إنما هي عنده الحقيقة الصوفية، دون غيرها من أنواع الحقائق: إنه قبل بذلك معياراً للحقيقة كما قبل الفلاسفة عبر القرون معايير أخرى  أما الوجه الثالث الذى يجعل منه فيلسوفاً للدين الإسلامي بالذات فهو الموضوعات التي تناولها الغزالي والآراء التي أبداها بشأنها إنما هي من صميم ما يسمى عند الفلاسفة  بفلسفة الدين. يقول فرجيليوس فيرم Vergilius Ferm في تعريف فلسفة الدين: (إن فلسفة الدين بحث في موضوع الدين من الناحية الفلسفية.. ومن مسائلها طبيعة الدين ووظيفته وقيمته)

ويضيف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الواقع أن موقف الغزالى من الفلسفة يدعو إلى كثير من التساؤل: أفيلسوف هو حقاً ؟ وإن كان فما فلسفته؟ وما أثرها؟ ولم حمل على الفلاسفة كل هذه الحملة؟.

وعندى أنه كان لا بد له أن يتفلسف، وأن يتفلسف في عمق وسعة. كان لا بد أن يتفلسف لأن الفلسفة في عهده كانت جزءاً من الثقافة الكاملة، فلا يستكمل الدارس ثقافته إلا إن ألم بقسط منها ؛ ذلك لأنه أضحى للمسلمين فلسفة يسرت مواردها، وتعددت كتبها. وإذا كانوا قد عنوا بالنقل عن غيرهم خلال القرنين الثانى والثالث الهجري، فإنهم بدءوا منذ القرن الرابع يفلسفون بأنفسهم ولأنفسهم، وكونوا مدرسة فلسفية على رأسها الفارابي وابن سينا. وكان لا بد للغزالى أن يتفلسف أيضاً، لأنه شغف بالدراسات الكلامية في سن مبكرة، وتتلمذ لإمام الحرمين نحو ثمان سنوات، وهو شيخ الأشاعرة في عصره. وقد سبق للمعتزلة أن فلسفوا علم الكلام، وأضحى في أيديهم أول فلسفة إلهية فى الإسلام.  ويضيف عبد الرحمن بدوي وهكذا نرى الغزالى قد تأثر في هذه الموضوعات الثلاثة على الأقل بالفلسفة اليونانية تأثراً ظاهراً قوياً فى المرحلة الأخيرة من حياته، تلك المرحلة التي بدأت في سنة 488 هجري وفيها أظهر انصرافه عن الفلسفة وكفره بالفلاسفة: والواقع أنه يقى - رغم كل ما بذله في بطون الفلاسفة ولم يقدر أن يخرج منها كما قال أبو بكر ابن العربي وما تظاهر به من طعن في الفلسفة، لم يكن يقصد به الطعن إلا في الظاهر، ابتغاء التقريب بينها وبين الدين حتى يستطيع أن يجعل الفلسفة مقبولة في رحاب الدين السني.

***

علي عمرون - أستاذ مادة الفلسفة

.....................

الهوامش

1- كتاب المنقذ من الضلال.

2- انظر مقال من دعم غزوهم ممالك الأندلس إلى الدعاء عليهم... علاقة أبو حامد الغزالي بالمرابطين.

3- مهرجان الغزالي في دمشق مارس 1961 اعمال ملتقى الذكرى المئوية لميلاد أبو حامد الغزالي.

رغم ان مصطلح "انسانوية" humanism (1) لم يُطبق على الفلسفة والنظام العقائدي حتى عصر النهضة الاوربية، لكن اولئك الانسانويين الأوائل كانوا يستلهمون من الافكار والمواقف التي اكتشفوها في المخطوطات المنسية لليونان القديمة. هذه الانسانوية اليونانية يمكن تحديدها بعدد من الخصائص المشتركة: انها كانت مادية في كونها تسعى لتوضيحات للأحداث في العالم الطبيعي، انها قيّمت التحقيق الحر في كونها ارادت ان تفتح امكانات جديدة للتأمل، وقيّمت الانسانية في كونها وضعت الكائن البشري في صدارة الاهتمامات الاخلاقية والاجتماعية.

أول انسانوي

يمكن اعتبار  الفيلسوف والمعلم اليوناني بروتوغاروس اول "انسانوي" عاش حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. عرض بروتوغاروس خاصيتين هامتين بقيتا أساسيتين للانسانية الى اليوم.

اولا، هو يبدو جعل الانسانوية نقطة البدء للقيم والاعتبارات عندما طرح عبارته الشهيرة "الانسان مقياس كل شيء". بكلمة اخرى،عندما نؤسس معاييرنا لا يجب ان ننظر الى الالهة وانما الى انفسنا.

ثانيا، بروتوغوراس كان مشككا جدا في الاديان التقليدية والآلهة لدرجة اُتهم بالمعصية ونُفي من اثينا. طبقا لديوجين لنرتيوس ان بروتوغوراس ادّعى : بانه "فيما يتعلق بالالهة، انا ليست لدي وسيلة لمعرفة ان كانت موجودة ام غير موجودة. ذلك بسبب العقبات التي تمنع المعرفة والمتمثلة في كل من غموض السؤال وقصر حياة الانسان". هذه المشاعر الراديكالية كانت قبل 2500 سنة، وربما لاتزال حتى اليوم.

بروتوغوراس هو أقدم فيلسوف امتلكنا سجل عنه، هو بالتأكيد ليس الأول منْ كانت لديه هذه الافكار ومحاولة تعليمها للاخرين. وهو ايضا لم يكن الأخير: رغم مصيره المؤسف بايدي السلطات الاثنية، كان هناك فلاسفة اخرون في نفس العصر اتبعوا نفس الخط الفكري الانسانوي.

هم حاولوا تحليل عمل العالم من منظور مادي بدلا من افعال اعتباطية للالهة. هذه المنهجية المادية ذاتها كانت طُبقت ايضا على ظروف الانسان عندما سعوا لفهم افضل للجماليات والسياسة والاخلاق وغيرها. لم يعد هناك اطمئنان لفكرة ان المعايير والقيم في هذه المجالات من الحياة تنحدر الينا ببساطة من الاجيال السابقة او من الالهة، وانما هم سعوا لفهمها وتقييمها وتقرير الى أي درجة يمكن تبريرها.

انسانويون يونانيون آخرون

سقراط الشخصية الأبرز في حوارات افلاطون انتقد بالتفصيل المواقف والحجج التقليدية، كاشفا ضعفها وعارضا خيارا آخرا مستقلا. ارسطو حاول تدوين المعايير ليست تلك الخاصة بالمنطق والتفكير وانما ايضا في العلوم والفن. ديموقريطس جادل لأجل تفسير مادي خالص للطبيعة، مدعيا ان كل شيء في الكون مركب من جسيمات ضئيلة وهذه هي الواقع الحقيقي وليس العالم الروحاني الكامن وراء حياتنا الحالية.

إبيقور تبنّى هذا المنظور المادي حول الطبيعة واستعمله ليطور فيما بعد نظامه الخاص في الاخلاق، مجادلا ان التمتع بهذا العالم المادي الحالي هو أعلى خير اخلاقي يكافح نحوه الفرد. طبقا لإبيقور، لا وجود هناك لآلهة يمكن ان ندعوها او تتدخل في حياتنا، ما لدينا في الوقت الحاضر هو كل ما يجب ان يهمنا. بالطبع، الانسانوية اليونانية لا تنحصر فقط في تأملات بعض الفلاسفة. انها جرى التعبير عنها ايضا في السياسة والفن. فمثلا، الخطاب الجنائزي الشهير لبيركلس عام 431 قبل الميلاد كاحتفال باولئك الذين ماتوا اثناء حرب البيلوبونيس لم يرد فيه أي ذكر للالهة او للارواح بعد الموت. هو أكّد على ان اولئك الذين قُتلوا انما لأجل اثينا وسيعيشون في ذاكرة مواطنيها.

المسرحي اليوناني يوربيدس Euripides انتقد ليس فقط التقاليد الاثنية، وانما ايضا الدين اليوناني وطبيعة الآلهة التي لعبت الدور الكبير في حياة العديد من الناس. سوفكليس، كاتب مسرحي آخر أكّد على أهمية الانسانية وروعة الخلق الانساني. هؤلاء ليسوا الاّ عدد قليل من فلاسفة اليونان والفنانين والسياسيين الذين لم تجسد افكارهم وافعالهم فقط ابتعادا عن الخرافات وخوارق الطبيعة  وانما ايضا أثاروا تحديا لأنظمة السلطة الدينية في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) يختلف مصطلح انسانوية عن مفردة انسانية humanity، حيث ان الانسانوية فلسفة عقلانية وعقيدة تركز على مصالح وقيم الانسان. انها ترفض ما فوق الطبيعة وتؤكد على كرامة الفرد وامكانية الادراك الذاتي من خلال العقل.اما الانسانية فهي تشير الى العرق الانساني وتضم كل شخص يعيش على هذه الارض.

إذا نحن بحثنا عن تجسيد حقيقى كامل مُكمّل لكلمة (اليقين) كما تجسّدت فى الواقع الإسلامى الفعلى فخيرُ من يجسّدها حقيقةً وفعلاً هو الإمام على رضوان الله عليه.

لقد ملأ الإسلام قلبه فإذا الدين الذى ينتمى إليه يملك عليه أقطاره بالكليّة، فلا يفكر فى غيره ولا تُنازع العقائد السابقة قلبه فى شيء، بل الإسلام وكفى على شِرْعة الحُب والجهاد والتبتل وليس قبله ولا بعده دين سابق ولا عقيدة متقدّمة.

قلبُ الإمام الذى ملأه الدين الجديد يقيناً أمتلأ كذلك بالحب والعزم والجهاد والتبتل، فكان قلباً فى التّوجُّه للملأ الأعلى خالصاً بكل ما تحمله كلمة الإخلاص من معنى، فكما كان اليقين يشمله ويحتويه فعلاً فكذلك كان الإخلاص النقى عن شوائب الكدورة، الصافى عن أخلاط الشرك وبقايا الزندقة يضمّه ويشمله ويستقر فيه، ويشكّل مع اليقين والحب والجهاد والتبتل شخصية ممتازة فى الخصائص العليا مُثلى فى السجايا الظاهرة والباطنة.

ولم يكن الدين الجديد يعرف قط أصدق إسلاماً من عليّ، ولا أعمق نفاذاً فيه. كان عليّ مع كل صفات الصدق والخير والإخلاص واليقين التى تجسّدت فيه وتكاملت، عابداً يشتهى العبادة كأنها رياضة تريحه وليست أمراً مفروضاً عليه، وتلك أسمى مراقي الجهاد، فبين التصوف والمجاهدة، عُرى وثيقة لا تنفصم أبداً، فلا يكون جهادٌ فى ميادين الحياة الشريفة إلا وقد بذرت فيه بذور التصوف، وقد كان الإمام على يُرى فى كهولته وكأنما جبهته ثُفْنة بعير من إدمان السجود، ومثل هذا كان ظاهر جداً فى الحسين وفى السّجّاد، إذ أُطلق عليه أبو الثُفنات.

العبادة الشديدة والتبَتّل العميق هما شيمة أهل البيت بغير مُنَازَع، وكذلك العلم والفقه، وهى خصائص علويّة بامتياز؛ فلم يكن أقدر من على فى صدر الإسلام علماً وفقهاً، ولم يكن أفضل منه عبادة وتبتلاً وعملاً، يكفى أن يقال أن فتاواه كانت مرجعاً للخلفاء والصحابة فى عهود أبى بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له فيها رأىٌ وجيهٌ يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء.

ولم تكن مسائل العبادة والتبتل بأقل من مسائل العلم والفقه وهما أشهر ما اشتهر فيها بالحجة الدامغة والرأى السديد. ولكن العبادة أمر باطن بين العبد وخالقه، ولا رقيب فيه على المرء سوى ضميره، وليس عليه من سلطان سوى ما تقرّر لدينا سلفاً من يقين الإيمان، ولا إيمان مع فراغ الضمير من فحوى اليقين، ولا يقين مع فقدان الدين القيم وفقدان اليقين منه.

أمّا العلم فشواهد وقرائن وأدلة وافية، براهين وأحكام غير أنها ظهرت لدى الإمام لمّا أن استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة، فكان على التحقيق أبو علم الكلام فى الإسلام كما ذكرنا فيما تقدَّم من مقالات؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة.

ومعلوم من طريق الأسانيد المتصلة أن واصل بن عطاء كبير المتكلمين، تلميذ أبى هاشم بن عبدالله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ على رضى الله عنه.

وأمّا الأشعريّة؛ فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن أبى الحسن علي بن أبى بشر الأشعرى، وهو تلميذ أبى علي الجبائى، وأبو علي الجبائى أحد مشايخ المعتزلة الذين علّمهم واصل بن عطاء.

أمّا الفقه، فإمامه الأكبر أبوحنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة عن عكرمة، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس، وقرأ عبدالله بن عباس عن عمّه على بن أبى طالب، وهكذا ينتهى أمر الفقه وعلم الكلام، كما انتهى أمر التصوف، إلى علي رضوان الله عليه؛ الأمر الذى يتأكد فيه أن جذور العلوم الإسلاميّة الأصيلة ترتد إلى الإمام علي وتتأسس على استنباطاته وأذواقه.

 وعندى أن هذا هو المضمون الدينى الإسلامى ولا ريب، يعتمد الثقافة الذاتية الخاصّة خصوصية القرآن نفسه وخصوصية التعاليم النبويّة الشريفة المنزّهة عن الكذب والمُجرّدة عن التلفيق.

ولن تقوم للمسلمين قائمة ما لم يمتثلوا طريق الأوائل ويتحرّوا مسالكهم فى الفهم والتحقيق ويرتقوا مراقيهم فى المعرفة والإنصاف بعيداً عن الدعوات الممجوجة التافهة التى جهّلتهم بثوابتهم وقدحت فى قيمهم الروحيّة والفكريّة، ولا تزال. (وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي ابراهيم

نعيش الان فرحة عيد الفطر المبارك.. ومع مباركتنا لمن صام رمضان طعاما وشرابا وقلبا ولسانا ، نشير الى ان العيد هو اجمل مناسبة للتسامح بمعناه الديني والاجتماعي.. ذلك ان المفهوم الشعبي يعتبر التسامح ضعفا او خوفا او قلة حيلة او مذلة او مهانة او تنازلا عن حقوق ، فيما الأسلام يعتبره فعلا نابعا من صفاء القلوب وما غلب عليها من الحب والعطف والرحمة والحنان، وسلوكا  صادرا عن قوة ارادة وعزيمة صادقة في الانتصار على النفس والذات بكل ايجابية بعيدا عن السلبيات وما يصاحبها من من غضب وقسوة وعدوانية، وانه خلق عظيم وافضل من الاخذ بالحق والانتصار للنفس لقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين).

وسيكولوجيا، ستندهشون حين تدركون ان التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغتسلها من اوساخها ، وان من لا يقدم عليه يسكنه اليأس و يتعفن من الداخل بنقيضه.. الكراهية. ولهذا فأن الأمم المتحدة اعتمدت التسامح مبدءا انسانيا وحددت يوما دوليا (16 تشرين الثاني) لتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب. والمفارقة أن الدين الاسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بالف وخمسمئة عاما في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في ايذاء الاخرين لأي سبب حدث في الماضي، وان نفتح اعيننا لرؤية مزايا الناس بدلا من ان نحكم عليهم ونحاكمهم او ندين احدا منهم. وكان النبي الكريم قد ضرب اروع مثلا وانبل موقفا في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه.. من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن.. مع ان ابا سفيان كان من الدّ اعدائه.

والتّسامح.. الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية، وله أهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات.. ولهذا فانه يعدّ ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة.

والتسامح يقوم على مسلمات فلسفية بخصوص الطبيعة البشرية، اولها: لا يوجد انسان معدوم الخير، وثانيها: لا يوجد انسان لا يخطأ، وثالثها: ان الانسان مجبول على الحب.. ما يعني ان من يسيء لغيره قد يعيش ظروفاّ صعبةّ أدّت به الى أن يسيء لمن حوله، لكنّه لايجد من يعذره ويتسامح عن زلّته.

وما لا يدركه كثيرون ان التسامح لا يعني فقط ان نسامح آخرين على اخطاء ارتكبوها بحقنا، بل يعني ايضا ان نسامح انفسنا على اخطاء ارتكبناها بحقها وان نخلّصها من اللوم والاحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصل احيانا الى تحقير الذات.

وسيكولوجيا.. يعني التسامح ايقاظ مشاعر الرّحمة، والتّعاطف، والحنان، الموجودة اصلا في قلبك، وازاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من اساء اليك. ويعني فسلجيا.. ان الجهاز العصبي للانسان يكون في حالة التسامح.. مرتاحا، لأن الدماغ يكون مرتاحا جدا في حالات الحب فيما يكون مشوشا متوترا (مخبوصا) في حالات الكراهية.

اعرف ان بينكم من يقول: كيف يمكن أن اسامح من أخطأ بحقي او تجاوز عليّ؟. واعرف ان بين العراقيين من هو (أنفه) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما اسامحه) و(هو شنو حتى اسامحه). لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحا نفسيا ان بادرت انت وكيف سيكون ممتنا لك من اساء اليك.. لشكرتنا وفعلت!

***

د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

دراما واقع اجتماعي تحكي سيكولوجية المجتمع المقهور والانسان القاهر معا في حلقات طيلة ايام رمضان ترتبط بقصص من البيئة الواقعية التي تطبعت بالوان مختلفة من السلوكيات المكتسبة الدخيلة والبعيدة عن البيئة الاجتماعية الاصيلة وبصراع دائم في العائلة والمجتمع بين الخير والشر. ففي رمضان هذا العام شاهد العراقيون مجموعة من الاعمال الفنية الدرامية تحكي آلام الكثير من العراقين ومعاناتهم مع من حولهم فكانت اعمال فنية طرحت الظلمات التي أجبرافراد المجتمع على دخولها وهم صنعوها.. فمسلسلات عالم الست وهيبة ومسلسل خان الذهب ومسلسل روح ومسلسل قصة ومسلسل الساتر الغربي ومسلسل عسل مسموم.. كلها أعمال فنية رائعة في موضوعيتها الواقعية ذات دراما ناجحة ركزت على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المجتمع العراقي وهي ذات تأثير نفسي واجتماعي ايجابي على المتلقي ولعل أهمها خلق بيئة درامية للسلبيات التي غزت بيئة المجتمع العراقي بعد الاحتلال بطرح الظواهر والسلوكيات الغير سوية كالعنف المجتمعي وظاهرة المخدرات الدخيلة على المجتمع العراقي بعد الاحتلال ولم تغب عنها الشواذ السلوكية في المؤسسات بصورة عامة وحتى الامنية وكانت الدراما العراقية في هذا العام بمثابة تشخيص للواقع وكذالك الشواذ المجتمعية والسلبيات الغير سوية في السلوكيات الفردية التي شملت جميع جوانب الحياة في الاسرة والمدرسة والجامعات وفي مجالات العمل وبعضها كانت توثيق للاحداث التي مر بها العراق قبل وبعد الاحتلال كشخصية مهيدي في عالم الست وهيبة ودوره وانتقالاته قبل الاحتلال كشرير ومجرم وانتقاله بعد الاحتلال الى المخدرات والاغتيالات وكانت الاعمال الفنية ذات موضوعية هادفة ومقبولة عند المتلقي العراقي لانها عكست واقع الحال ولم تغب عنها معالجات الشواذ السلوكية فالعلاج الدرامي للمجتمع المصدوم يتيح لافراد المجتمع استكشاف السلوكيات السلبية وطرح القصص الخيالية المكبوته.. واظهرت الابحاث النفسية ان العلاج بالفن يقلل من القلق والاكتئاب ويزيد من فهم الذات وتحسين جودة الحياة وهو يقلل من الافكار السلبية في الوسط الاجتماعي ويعززالاهداف الشخصية والثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية والوضائف المعرفية.. وفنون الدراما هي مزيج من العلاج النفسي للشواذ السلوكية عند المنكوبين بصدمات الحياة .. فالدراما كعملية ابداعية وجدت اساسا لاستكشاف الذات وفهمها وتقبلها وتقويم شخصية الافراد ومن ثم المعالجة مع التطور الذاتي باعتبار العمل الابداعي في العلاج الدرامي وسيلة لاعادة خوض الصراع الداخلي بثبات التعبير والتخيل النفسي والمشاركة الفعالة والاتصال بين العقل والجسد وبهذا يمكن مساعدة الصراع الذاتي للمصابين بالاكتاب والقلق والشواذ السلوكية وامراض اخرى ويمكن اجراء العلاج بالفن في كافة الاعمار بحيث لا يتطلب مهارات .. فالدراما العراقية لهذا العام في رمضان كانت واقعية وموضوعية الطرح في دراما ايجابية ناجحة ذات تاثير نفسي واجتماعي في طرحها كما شاهدنا.. فالدراما ليست مجرد لغة حوارية وشعاراتيه رنانة مباشرة وشخصيات سطحية تطرح السلبيات بلا معالجة لها فالصورة تركت لغتها المؤثرة في حبكة الأحداث والأبعاد التي تنمي الشخصيات في البناء الدرامي. اما ماظهر اتفق مع من يقول في الاوساط الاكاديمية والبحثية والثقافية هو تحسن ملحوظ للمستوى الفني للدراما العراقيه لان الضغوطات والبيئة السلوكية في المجتمع والتي يعيشها العراقيين في هذا الزمن اثرت على الفن وصناعة الدراما التي عاشت عصرها الذهبي في نهاية الالفية الثانية وفي بداية الالفية الثالثه دمرتها حرب الاحتتلال فأنتجت اعمال سلبية كما دمرالعراق بأكمله لأن تأثير الاحداث على الفن الدرامي في العراق ليس مرتبط بالتدميروالانهيار الاقتصادي فقط فالمشكلة ليس مرتبطة بالانتاج الغزير ولا على الصعيد اللوجستي ولاعلى صعيد التمويل فالتدمير والعشوائية شمل جميع نواحي الحياة العراقية وتاثيراتها النفسية لم تاخذ شيئ من الاهتمام في الدراما وفي المدن التي لم تصل اليها كاميرات التلفزيون نتيجة الطائفية والعنف الا في هذه السنة ومسلسل الساتر الغربي الذي صورت احداثة في مدينة حديثة فكسرهذا الطوق وساهم باعادة البريق والنجاح للدراما العراقية اما بالنسبة للانتاج فهو قد تحسن بدوره وكثرت مصادر التمويل بفضل كثرة التمويلات الاجنبيه الداعمة ولا ننسى نجوم الدراما التلفزيونية وميولهم السياسي ورغم انقسامهم الى فئات اتاح الفرصة امام الكثير من النجوم المخضرمين ان ينافسهم عدد ليس بقليل من الموهوبين الجدد والتواجد في ادوار مميزة وهذا الامر كان له الاثر الواضح على صعيد الاداء بعد ان شهدت الدراما العراقية تطورا ملحوظا في اداء نجومها رغم أثرالحرب السيئ والسلبي الذي إنعكس سلبا على المجتمع..

***

د. قاسم محمد الياسري

لماذا ننتقد الخلط بين الدين - الإيمان والهوية... أليس يقال دائماً إن الإسلام دين وهوية، أو دين ووطن، أو دين فوق الوطن؟

حسناً. هذه أقوال شائعة، يظنها أكثر الناس بدهية. ولذا لا يتوقفون عندها متسائلين أو مجادلين. في حقيقة الأمر فإن موقع الهوية في التكوين الذهني لأي فرد، وانعكاسها على سلوكه، مسألة قابلة للنقاش وليست مسلّمة مغلقة. وأنا من القائلين بتعالي الدين على الانتماءات الاجتماعية والقومية، فلا يصنَّف على أنه هوية اجتماعية، ولا يزاحم الهويات الأخرى التي يتبناها الإنسان في مسار حياته.

في أوقات سابقة، كنت أتأمل في قول شائع أيضاً فحواه أنه إذا كان ثمة عيب، فهو في المسلمين وليس في الإسلام. ويقال عادةً حين يجري الجدل في سلوكيات بعض المسلمين، فتُنسب إلى الدين الحنيف، نظير الأعمال التي تشير إلى ميول عنيفة أو تمييزية، وكذا الدعاوى التي تبرر الابتعاد عن سبل التقدم العلمي والتقني. كما يستذكر بعضنا قول الشيخ محمد عبده بعد عودته من باريس في 1881م، وخلاصته أنه رأى هناك إسلاماً بلا مسلمين، ورأى عكسه في مصر. وقال مثل هذا الشيخ عائض القرني، الواعظ السعودي المعروف، بعد رحلته الباريسية سنة 2008 ونشره في هذه الصحيفة.

هذه الأقوال وأمثالها، تشير إلى مسألة يقبلها غالبية الناس فيما أظن، وهي أن هناك فاصلة بين الصورة المثالية للدين وبين الممارسات اليومية لأتباعه، فاصلة تضيق حيناً وتتسع أحياناً.

وأميل إلى الاعتقاد بأن هذا أمر طبيعي في العلاقة بين أي جماعة بشرية والمنهاج الآيديولوجي الذي تتبناه، سواء كان ربانياً أو بشرياً. وفيما يخص الإسلام، فإن قولنا بصلاحيته لمختلف الأزمان والأمكنة، يعني على وجه الدقة أن تطبيقه في أي مجتمع أو زمان، سيكون –بالضرورة- مختلفاً عن التصور المثالي، أو مفارقاً لواقع الحياة. ولولا هذا ما ظهرت حاجة إلى الاجتهاد والتجديد. كل فكرة جديدة، أو لِنَقُلْ -على سبيل التحفظ– غالبية الأفكار الجديدة، هي في الأصل سؤال لم يجد جوابه في المنظومات الفكرية والسلوكية السائدة، مما دفع بعض الأشخاص لإعمال فكرهم بحثاً عن جواب. وهكذا كل جديد، في كل حقل، من الدين إلى العلم والتكنولوجيا والأدب، وغيره.

هذه أمور أحسبها محل اتفاق بين جميع المسلمين. مع ذلك فإن دعاة الإصلاح والتنوير، بل كل صاحب رأي جديد، يواجه عنتاً إذا أعلن رأيه. ولعلنا نذكر رد الفعل الخشن الذي قوبلت به دعوة الشيخ صالح المغامسي، الفقيه السعودي المعروف، حين تحدث في رمضان من العام الماضي، عن فتح باب الاجتهاد ولو أدى لقيام مذاهب جديدة.

قصة المغامسي، وقصص كثيرة مثلها، تكشف عن أن رد الفعل الخشن على دعوات التجديد، لم تنبعث من خوف على الإسلام بصفته ديناً قائماً بذاته، بل هي في الغالب نوع من الدفاع عن الذات، أي عن الهوية الاجتماعية التي تلبس رداء الدين. نعرف هذا لأن الذين يعارضون الدعوات الجديدة، لا يقولون إن الدين يمنع الاجتهاد، بل يقولون: ماذا ترك السابقون للاحقين؟ وكيف نتخلى عمّا ورثناه وألفناه؟

لا يدعي معارضو الرأي الجديد أن الكلام في الدين ممنوع، لأن الأسلاف قد فعلوا. لكنهم ينكرون على القادمين الجدد مخالفة الأسلاف، لأنهم جزء من نظام اجتماعي - ثقافي مستقر.

للمناسبة، فإن هذا الموقف الخشن تجاه الآراء الجديدة، ليس حكراً على مذهب بعينه، بل هو المسلك السائد في جميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، وقد تبعتها في هذا الطريق الأحزاب والجماعات التي تدّعي أنها قامت على أساس ديني.

ويهمني هنا تأكيد أن نقد الهوية والنظام الاجتماعي الذي يتصف بالإسلام لا يساوي نقد الدين. كما أن نقده أو نقد الدين ليس مُضرّاً بأيٍّ منهما، بل هو ضروري لتجديد الفكرة الدينية.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: كريستوفر هاملتون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

النشوة هي متعة تحولنا نحو موضوع الاهتمام ونحو الذات، مما يؤدي إلى الشعور بالحرية.

في أحد أيام الأسبوع الماضي، استيقظت بعد أن نمت جيدًا. كان اليوم بأكمله حرًا، مما أعطاني إحساسًا بأن وقته يمتد أمامي إلى ما لا نهاية. كان الجو باردًا في الخارج، لكن شمس الشتاء الشديدة تدفقت عبر نوافذ غرفة النوم عندما فتحت الستائر. كانت لدي، لأسباب خفية، أو ربما بدون سبب على الإطلاق، فثمة حاجة ملحة إلى  الاستماع إلى بعض الموسيقى وهكذا، بعد أن أعددت لنفسي قليلا من القهوة، قمت بعزف خماسية البيانو لشومان في E-flat Major، Op 44. وبعد ذلك، ولرغبتي في شيء أقل حماسة، استمعت إلى قصيدة ديبوسي "مقدمة بعد منتصف الغابة"، والتي قادتني بعد ذلك إلى قصيدة مالارميه "بعد منتصف الغابة" (1876)، التي ألهمتني. قطعة ديبوسي. تعتمد القصيدة، مثل الكثير من أعمال مالارميه، بشكل كبير على الأصوات واللمسة والطعم في الفم للغة الفرنسية، وتثير إحساسًا عميقًا بالشهوانية - الشهوانية التي تمثل أيضًا الموضوع الرئيسي للقصيدة. قضيت ساعات طويلة في ذلك اليوم أتأمل قصيدة مالارميه، وسمحت للكلمات، قدر استطاعتي، بالتسرب إلى داخلي - وكان هذا هو الإحساس الذي كان ينتابني حقًا، كما لو كانت الكلمات تدخل إلى لحمي.

أود أن أصف الساعات التي قضيتها ذلك الصباح بأنها لحظات من النشوة. كانت تدور حول المشاركة في بعض الأعمال الفنية الرائعة، لكنني بالتأكيد لا أريد أن أدعي أنه في تلك المشاركة فقط يمكننا تجربة لحظات من النشوة. هناك العديد من الطرق التي يمكننا من خلالها القيام بذلك، والعديد منها يتعلق بالاهتمام بالأشياء الصغيرة في الحياة، مثل، على سبيل المثال، ضوء الشتاء الرائع الذي دخل عبر نوافذي في ذلك الصباح المعني، والذي كان بلا شك جزء من شعوري حينها. ولا شك أن هناك طرقًا عديدة لفهم فكرة الاختطاف، كما هو الحال في أي تجربة إنسانية معقدة. ولكن، كما أود أن أفهم، على الأقل كنقطة انطلاق للتأمل، فإن النشوة هي نوع خاص من المتعة أو البهجة التي تحولنا في اتجاهين في نفس الوقت: نحو موضوع الاهتمام، الذي نحن فيه. مستوعبًا بالكامل، وتجاه الذات في حالة وعي متزايدة. ومع هذا يأتي الشعور بالحرية أو التحرر.

والمثال الرئيسي على ذلك هو نوع الهجر الذي يمكن أن نختبره في الحب الجنسي، وهو أعمق متعنا: في ممارسة الجنس، ينغمس المرء بالكامل في الشخص الآخر، ويضيع في متعة وإثارة الوجود معه؛ ومع ذلك، في الوقت نفسه، يكون المرء واعيًا تمامًا لنفسه باعتباره مبتهجًا بهذا، وأنه يختبر كل هذا. في روايته الرائعة جي (1972)، يوضح جون بيرجر هذا الأمر بشكل جميل عندما يكتب عن جي وهو يمارس الحب مع بياتريس:

اختلافها عنه يشبه المرآة. فكل ما يلاحظه أو يسكنه فيها، يزيد وعيه بنفسه، دون أن يصرف انتباهه عنها.

ربما يكون هذا المزيج الاستثنائي من الاهتمام بالآخر هو أيضًا الاهتمام بالنفس الذي يساعدنا على فهم الاستغراق الغريب الذي نشعر به في الجنس. ولهذا السبب، كما كتب بيرجر أيضًا، "القصيدة الوحيدة التي يجب كتابتها عن الجنس هي - هنا، هنا، هنا، هنا - الآن".

إن الشعور بالنشوة الذي شعرت به في ذلك الصباح مع موسيقى وكلمات مالارميه، على الرغم من أنه قد يبدو بعيدًا جدًا عن التجربة الجنسية - وهو كذلك بالطبع في كثير من النواحي - يتميز مع ذلك بنفس الإحساس بالتوجه بالكامل نحو الجنس. لقد كنت ضائعًا في الموسيقى والشعر، واستحوذت على انتباهي بالكامل، بالإضافة إلى شعور متزايد بنفسي وأنا أختبر هذا، وكأنني أستمتع بالأصوات. وكما اقترحت، فإن الأمر الحاسم في تجارب النشوة هذه هو الشعور بالحرية أو التحرر: في مثل هذه اللحظات، نتحرر من متاعب الذات، من قلقها وهمومها،وجرحها وضعفها، وحماقتها - والتي هي مجرد نسختنا الخاصة من حماقة البشر المؤلمة والتي لا حدود لها. نشعر أيضًا بالتحرر مما أسمته فيرجينيا وولف "صوف القطن" للحياة - الأنشطة المبتذلة التي تمتلئ بها معظم الحياة. لحظات النشوة هي ما اعتبرته وولف "لحظات الوجود"، لحظات تضيء وجودنا اليومي المسطح إلى حد كبير وتطلقنا إلى نوع من الامتلاء.

وولف على حق بالطبع. إن معظم حياة هؤلاء المحظوظين منا الذين يعيشون في أجزاء من العالم حيث نتمتع باستقرار سياسي واجتماعي أساسي - وهو أمر نادر ثمين في الشؤون الإنسانية - مليئة بأشياء مثل هذه، على حد تعبير وولف:

يمشي المرء، ويأكل، ويرى الأشياء، ويتعامل مع ما يجب القيام به؛ المكنسة الكهربائية المكسورة؛ طلب العشاء؛ كتابة الأوامر إلى مابل؛ يغسل؛ يطهو العشاء؛ التجليد.

وفي أحسن الأحوال، ننسى ببساطة هذه الإجراءات العملية المملة؛ وفي أسوأ الأحوال، يتركوننا متوترين، ويسحقوننا. إحدى المفارقات المثبطة للهمم في حالتنا البرجوازية المعاصرة، و"مجتمعنا المُدار"، كما قال تيودور أدورنو، هي أن حياتنا خالية من المعنى في كثير من النواحي، وتفتقر إلى أي نوع من المصير أو التلخيص القيمي. هذه هي مشكلة الذات الحديثة المحبطة، التي تم تجريدها إلى حد كبير من كل سمو وتم بناؤها بمصطلحات طبيعية، على الأقل بالنسبة لأولئك منا الذين لم يعد بإمكانهم الإيمان بوعود الأديان القديمة.

ومن ثم، من وجهة نظري، فإن المشاكل التي تواجهها المجتمعات الغربية مع أشكال الإدمان التي لا نهاية لها والتي تحت تصرفنا - من المخدرات والمواد الإباحية إلى الإنترنت والهواتف الذكية وتلفزيون الواقع التي تعكس لنا تفاهةنا - ونحن نمضي قدمًا البحث عن التحرر في لحظات النشوة من تسطيح حياتنا.

وليس من قبيل الصدفة أن تكون صورة المنزل المحترق بمثابة مجاز لحالة طوارئ مناخية. ونحن جميعًا في الداخل: معظمنا في العالم الغربي يهدأ ويسيطر ويستغرق في ألعابه واللهو.. واحدة من هؤلاء هي وولف بالتأكيد، التي امتلكت نوعًا من الرؤية الصوفية المبهجة لوحدة كل الأشياء وراء المظاهر المحلية، والتي تم التعبير عنها في العديد من رواياتها - ربما بشكل خاص "الأمواج" (1931) - والتي يمكن أن نتعلم منها النظر. مرة أخرى إلى العالم بعيون جديدة.

أفكر هنا أيضًا في المشاة، والمشعوذ، والنشال، والساحر، وراكب الدراجة الهوائية الأحادية العجلة، والنجار، وراكب الخيل، والكاتب فيليب بيتي، الذي اشتهر بمسيرته على الأسلاك العالية بين برجي مركز التجارة العالمي في 7 أغسطس 1974.فى مقابلة  من أجل الفيلم الوثائقي (رجل على سلك   2008)، قال بيتي:

بالنسبة لي، من السهل جدًا أن نعيش الحياة على حافة الحياة. عليك أن تمارس التمرد. أن ترفض إلزام نفسك بالقواعد. أن ترفض نجاحك. أن ترفض تكرار نفسك. أن ننظر إلى كل يوم، وكل عام، وكل فكرة على أنها تحدي حقيقي. ومن ثم ستعيش حياتك على حبل مشدود.

يوضح لنا بيتي كيف يمكن ربط النشوة بالخطر، في حالته، بالخطر الشديد: فهو يجعل من هذا الخطر بهجة وبهجة النشوة. لكن النقطة هنا ليست بالطبع أن هذا هو ما ينبغي لنا أن نفعله، على الرغم من أننا نستطيع أن نفعله. يمكن أن تكون النشوة هادئة وتأملية، كما في تجربتي ذلك الصباح، وكذلك في تجارب مثل تجربة بيتي. لا يتعلق الأمر بمحاولة تقليد بيتي. لا يتعلق الأمر بمحاولة تقليد بيتي. يتعلق الأمر أكثر بمحاولة التقاط بعض روح النشوة التي يعيشها بيتي في حياتنا، مما يترك مجالًا للحظات من النشوة، وربما التحول قليلاً من الداخل والعيش أكثر بهذه الروح.

لذلك ربما تكون هناك بعض المساعدة من الخارج بعد كل شيء. هذه هي الطريقة التي أحب أن أفكر بها، على أي حال: فهو يوقظنا لشيء أفضل في أنفسنا، والانفتاح على نشوة الحياة. وفي هذا، فهو متحد مع آخرين – وولف، ولكن أيضًا مع فريدريك نيتشه، وألبرت كامو، ودي إتش لورانس، وجورج أورويل وآخرين. كتب لورانس في نهاية العالم (1931): "يجب أن نرقص بنشوة لأننا يجب أن نكون أحياء في الجسد، وجزءًا من الكون الحي المتجسد". وبروح مماثلة، كتب أورويل، متحدثًا عن شكسبير، في عام 1947:

لم يكن شكسبير فيلسوفًا أو عالمًا، لكنه كان يتمتع بالفضول، وكان يحب سطح الأرض وعملية الحياة - والتي... ليست نفس الشيء مثل الرغبة في قضاء وقت ممتع والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.

كان أورويل رجلاً مختلفًا تمامًا عن لورنس، لكنهما كانا يشتركان في حب "سطح الأرض وعملية الحياة". إنهما يقدمان لنا، من خلال طرق مختلفة، إحساسًا بالنشوة التي يمكن أن نجدها ببساطة في كوننا على قيد الحياة، فقط إذا تمكنا من فتح أنفسنا لها.

هناك في هؤلاء الأفراد، وكثيرون غيرهم بلا شك، انفتاح على قوة وطاقة الحياة التي تعتبر مثالية ومبهجة. هذا ليس لأنهم كانوا دائمًا في حالة نشوة؛ ومن الواضح أنه سيكون من السخافة افتراض ذلك، كما نرى من حياتهم. على أية حال، فإن البقاء في مثل هذه الحالة بشكل دائم، حتى لو افترضنا أن ذلك ممكنًا، سيكون بالتأكيد أمرًا مرهقًا ومُضعفًا تمامًا: هنا، كما في أي مكان آخر، نحتاج إلى التنوع في الحياة.. بل بالأحرى يعيشون حياتهم بروح النشوة. حياتهم ملونة تمامًا بمثل هذه الفكرة. ومهما كان الأمر، سيكون من الخطأ أن ننظر إلى هؤلاء المفكرين ثم نتابع لحظات البهجة. مثلما أن السعي وراء السعادة من المرجح أن يجعلها تهرب من بين أيدينا، كذلك الأمر نفسه ينطبق على النشوة. النقطة المهمة هي الانفتاح على الإمكانيات ذات الصلة.لا شك أن هذا إلى حد كبير مسألة تنمية نوع معين من الحساسية.

أما نيتشه، الذي تحدث عن نفسه مثل الديناميت والذي يرتبط اسمه عمومًا بروح "التفلسف بالمطرقة"، فقد أولى في الواقع اهتمامًا كبيرًا بما أسماه "الأشياء الصغيرة": لحظات الحياة اليومية. يمكنها أن تجعل الحياة بالنسبة لنا مصدر فرح – أو واديًا من الدموع. ويوصي بأن نبدأ كل يوم بسؤال أنفسنا عما يمكننا القيام به لجعل اليوم مقبولًا، ويقترح أن هذا يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعاملنا مع الأشياء الصغيرة في الحياة وتنظيمها - ماذا ومتى نأكل ونشرب، ومتى نرتاح، ماذا تقرأ ومتى تمشي وما إلى ذلك.إنه ينصحنا بأن نبطئ، ونلاحظ الأشياء، وننتبه. وهو بالتأكيد على حق في أن معظمنا يندفع في الحياة ويفتقد النشوة اللطيفة التي يمكن أن تأتي من هذا الاهتمام بالعالم ولأنفسنا. البشر بشكل عام سيئون للغاية في رؤية ما هو جيد لهم بوضوح والتصرف وفقًا لذلك. ربما لست أفضل من أي شخص آخر في القيام بذلك، لكني أسمع صوت نيتشه وصوت الآخرين الذين ذكرتهم وغيرهم الكثير - ميشيل دي مونتين، على سبيل المثال - يشدني بلطف إلى أفكاري ومشاعري الأفضل. إنهم يذكروننا بمصادر البهجة في الحياة، وإمكاناتها المبهجة.

***

...............................

المؤلف: كريستوفر هاملتون/ Christopher Hamilton: أستاذ الفلسفة في كلية كينجز كوليدج في لندن، المملكة المتحدة. درس أيضًا الفلسفة والأدب في جامعة بون بألمانيا. أكمل لاحقًا PGCE وعمل لمدة أربع سنوات كمدرس في المدرسة الثانوية. انضم إلى كينغز في عام 2003. وفي عام 2007، كان باحثًا مقيمًا في جامعة سالزبورج، النمسا، وفي عام 2013 كان أستاذًا زائرًا في جامعة ترينت، إيطاليا.أحدث مؤلفات كريستوفر هاملتون:  "الفلسفة والسيرة الذاتية: تأملات في الحقيقة ومعرفة الذات ومعرفة الآخرين" (بالجريف ماكميلان، 2021).

 

في الأيام الماضية قامت الدنيا ولم تعقد ضد الدكتور علي جمعة " – مفتي الديار المصرية السابق، في برنامج له على قناة cbc  المصرية، بعنوان " نور الدين"، وهو يقدمه إجابة على سؤال لطفلة تسأل :" ليه المسلمين بس إلا يدخلوا الجنة ؟، فأجاب الرجل قائلا:" دي معلومة مغلوطة"،  ثم استدل من الآية (62) من سورة البقرة والتي تقول :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، وعقب ذكره للآية وجدنا الدكتور جمعة،لم يفصل ولم يسهب ولم يتكلم بعد ذلك؛ ثم فاجئنا بعد أيام يطرح سؤال أخذ يلقى نقاشا وجدلا على مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، وهو " هل لله عز وجل أن يأتي يوم القيامة ويلغي النار"، فأجاب الدكتور جمعة : "نعم، ويكون هناك جنة فقط!".

وهنا أخذ يتساءل ناقضيه وناقديه على مواقع التواصل الاجتماعي هم يصرخون : هل هذا الكلام يصح أم أنه كان واجبا على الدكتور علي جمعة أن يضبطه بتوضيحات وأمور ؟، وهل لجأ فضيلة المفتي إلى نصوص محكمة ومتشابهة؟، وهل له فتوى سابقة  علي ما ذكره و على ما قاله؟

لم يكتف هؤلاء بذلك، بل رأوا أن هذا الموضوع الذي طرحه  الدكتور جمعة لا يدركه العامة، ومن ثم فالمشكلة تتمثل في طرح الدكتور جمعة للموضوع من أساسه، خاصة وأن علماء الكلام في نظرهم ناقشوا قضية : هل يجب على الله إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ؟، فقالوا : لا، لأن الله أوجب على نفسه ذلك، فحرم وجعله على نفسه محرما وعلى البشرية، فالله عز وجل ليس ظالما ولا يرضي بالظلم ولا يرضى لعباده الكفر، ومن ثم، فإن قضية أن يطرح الدكتور جمعة على نفسه سؤالا كهذا على أطفال وشباب لم يستوعبوا المعنى الفلسفي المطلوب أو الذي يجب أن تتم مناقشته في المسألة، اللهم إلا من كونه من باب عنوان سُيٌأخذ ويًضاف لما سبق من قبل !

وهنا أتعجب من هؤلاء، وأتساءل : ألم تُطرح من ذي قبل عند علماء الكلام قضية فناء النار؟،  ألم يقل ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح)عندما ذكر الأقوال في فناء النار وعدمه، وأشار إلى أن ابن تيمية قد حكى بعض هذه الأقوال، والتي منها القول بفناء النار، ففي كتابيه (حادي الأرواح) (وشفاء العليل) مال ابن القيم إلى القول بفناء النار، وإن كان قد توقف عنها في كتابه (الصواعق المرسلة) .

وهنا صار هذا الموضوع محل نقاش من قبل فقهاء كثيرين حيث يتساءلون : هل سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد؟، وهل يعني أن النار ستفنى؟، وهل القول بفناء النار نوع من الفكر؟، وهل فعلا النار ستفنى؟

وهناك فريقان أجاب على الأسئلة، كلا بوجهة نظر مختلفة عن الأخرى، وذلك على النحو التالي:

الفريق الأول : ويؤكد فكرة خلود النار والجنة، ودللوا على ذلك بأن هناك هناك نصوص شرعية دلت صراحة على خلود النار أو خلود أهلها فيها، والتي تبلغ (37) آية من القرآن الكريم، وهذا بخلاف الآيات التي في معنى الخلود أو تفيده؛ كقوله تعالى: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ [البقرة: 86] وغيرها من الآيات الكريمة كثير في هذا المعنى جدًا، كما أن الآيات الدالة على خلود أهل الجنة بلغت نحو أربعين آية.

وهذا الفرق قد شدد على هذه الكثرة من الآيات المثبتة لبقاء النار وخلود أهلها فيها؛ لأن هذا الحد البالغ من الكثرة ما يمنع من احتمال التأويل، ويوجب القطع بذلك، كما أن الآيات الدالة على البعث الجسماني لكثرتها يمتنع تأويلها كما يرى أنصار هذا الفريق؛ كذلك شدد هذا الفريق على ما ورد في السنة ما يدل على خلود الكفار في النار وذلك من خلال ما ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما.

وأما الفريق الثاني وهو عكس ذلك تماما، فهو يرى أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار، وعدِّه من البدع، كما زعم، فالمسألة خلافية،  علاوة على أن الذين قالوا بفنائها، استدلوا بأدلة سمعية وعقلية، نذكر منها مثلا:

1- أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون.

2- أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد.

3- أن النار تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه.

4- أن الفناء يكون لحركات أهل النار، لا للنار، فيصير أهل النار جماداً، لا يحسون بألم وهذا قول المعتزلة.

5- أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وهؤلاء يقولون بفناء النار فقط.

6-  أن الله - تعالى - يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاءً أبدياً لا انقضاء له.

7- أن القائلين بفناء النار استدلوا بما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم : ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها"

هذا هو رأي الفريق الثاني، وفي اعتقادي أن القائلين بفناء النار، قد استدلوا بمنطق العقل على وجهة نظرهم، وهذا المنطق يؤكد على فرضية أن النار سجن لمعاقبة المذنبين على ذنوبهم، فمنهم من يمكث فيها يوما، ومنهم من يمكث فيها شهرا،ومنهم من يمكث فيها سنوات، ثم يدخل الجنة حتى لا يبقى فيها إلا المخلدون، والخلود يتوقف على إرادة الله وقدرته، فإذا ما صدر مرسوم بالعفو من الله بإعلاق النار ودخول جميع أصحاب والنحل  للجنة، فمن يستطيع أن يوقف هذا القرار، أليس في الدنيا تصدر أحكام بالسجن المؤبد مدى الحياة، ثم يأتي رئيس الجمهورية ويصدر قرار بالعفو، فلماذا نلزم على الله ألا يفعل ذلك، ألم يقال عن الله عز وجل بأن رحمته سبقت غضبه، فلماذا يستكثرون على الله ذلك... وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

على مدى آلاف السنين الماضية، كان تاريخ العالم مدفوعاً بقوى أربع حضارات مهيمنة: الصينية، والهندية، والعربية، والأوروبية. وبينما طورت هذه الحضارات الأربع هوياتها الخاصة وشرائع الأعمال المقدسة، كان هناك على مر التاريخ قدر كبير من التلقيح المتبادل بين الحضارات الأربع. ونذكر مثالاً واحداً فقط من أمثلة متعددة: كان العالم العربي المسلم، ابن رشد (1126-1198)، المولود في قرطبة، وهو عالم في الفلسفة الأرسطية، ويُعرف على نطاق واسع بأنه الأب المؤسس للفكر العلماني في أوروبا.

تطورت الحضارات الأربع وتوسعت من خلال مزيج من التجارة والاستكشاف والحرب والغزو والأيديولوجية (الدين). وكانت الحضارة العربية هي الأخيرة من الناحية التاريخية. نشأت من زمن النبي محمد” ﷺ " (570-632) وتجميع القرآن الكريم، مدفوعاً بمفهوم الأمة – مجتمع جميع المسلمين الذين يوحدهم الدين وليس العشيرة أو العرق. وفي القرون التالية توسعت الأمة عبر معظم جنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط، وشمال وشرق أفريقيا، وعبر آسيا الوسطى وصولاً إلى الهند، عبر المحيط الهندي، عبر بحر الصين الجنوبي، لتصل إلى ما يسمى اليوم إندونيسيا.

بدأ صعود أوروبا مع "عصر الاكتشافات" في أواخر القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث أتاحت التقنيات البحرية الجديدة ورسم الخرائط وانتشار المطبعة للإمبراطوريات الأوروبية المنقولة بحراً غزو "العالم الجديد". مع الثورات الزراعية والعلمية والتجارية والصناعية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حدثت، منذ أوائل القرن التاسع عشر، أصبح شمال غرب أوروبا يهيمن على العالم. وفي حين كانت حصة أوروبا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1700 تبلغ 20%، فإنها بحلول عام 1900 تضاعفت إلى أكثر من 40%.

لقد تحطم التوازن الاقتصادي والسياسي والعلمي والعسكري والثقافي والنفسي الذي كان قائماً بين الحضارات الأربع لعدة قرون في ضوء صعود أوروبا الذي لا يرحم على ما يبدو، وفي ضوء تحول الأوروبيين، على حد تعبير عنوان العمل الذي كتبه الراحل المؤرخ فيكتور كيرنان، "أسياد الجنس البشري" (1969). يشير الصينيون إلى الفترة التي تلت حرب الأفيون الأولى (1839) إلى التحرير (1949) باسم "قرن الإذلال". لقد تعرض جميع غير الأوروبيين للإذلال.

العصر العالمي الجديد

لقد حدثت عدة اتجاهات تحويلية رئيسية في العقود الأخيرة. أحدها كان انحدار أوروبا. الإمبراطوريات الأوروبية لم تعد موجودة. ومن 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1870، أصبح بحلول عام 2010 أقل من 20%، وهو نفس المستوى تقريباً الذي كان عليه في عام 1700. وسوف تستمر أوروبا في الانحدار ديموغرافياً واقتصادياً وجيوسياسياً. إن "القرن الأوروبي (التاسع عشر)" هو تاريخ، في حين يعلن النقاد ظهور "القرن الآسيوي (الحادي والعشرين)".

هذا التصوير مضلل. وفي حين أصبح شرق آسيا، والصين على وجه الخصوص، القاطرة الرئيسية للنمو العالمي وتقوم مؤسساتها بتوسيع نطاقها العالمي بشكل متزايد، شهدت منطقة جنوب آسيا، والهند على وجه الخصوص، بعض التحولات الواعدة، في جزء كبير من وسط وغرب آسيا، بما في ذلك معظم آسيا. يعيش العالم العربي حالة من الركود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والجيوسياسي المضطرب.

واليوم انتهى الإذلال في شرق وجنوب آسيا. وبوسع المرء أن يفتخر بكونه صينياً أو هندياً، ليس فقط بسبب أمجاد الماضي، بل بسبب إنجازات اليوم والتوقعات بتحقيق المزيد من التقدم في الغد. في المقابل، يمكن للعربي أن ينعم بأمجاد الماضي، لكنه لا يستطيع أن يستمد أي شعور بالفخر من ظروف الحاضر؛ وتبدو آفاق المستقبل، كما تبدو الأمور في عام 2024 قاتمة.

تفاقم الإحباط بشدة بسبب الحروب التي شُنت ضد العالم العربي، وخاصة بعد غزو العراق عام 2003. لكن جذور فشل العالم العربي في الارتقاء إلى مستوى التحديات والفرص التي يتيحها العصر العالمي الجديد بطريقة ديناميكية كما هي الحال في شرق وأجزاء من جنوب آسيا تسبق هذه الأحداث. ويمكن العثور عليها في جزء كبير منها إلى الحالة الاجتماعية والسياسية المتعفنة في الشرق الأوسط الموبوءة بالاستبداد والفوضى والعلاقة المضطربة، وغير العقلانية في بعض الأحيان، مع الغرب. لا توجد أمة عربية يستطيع العربي أن يعتبرها قدوة له بكل فخر. حتى دول الخليج، على الرغم من ثرواتها، لا يمكن اعتبارها قدوة لأسباب عديدة.

اليوم، يمكن رؤية عولمة الشركات والأفراد في شرق وجنوب آسيا في مجالات متعددة: الأعمال التجارية، والخدمات المصرفية، والأكاديمية، والفنون، والإعلام، وما إلى ذلك. ولم تعد هذه الأجزاء من العالم تعاني من "هجرة الأدمغة" الحادة. هناك قدر كبير من الحركة عبر القارات. إن الفيتناميين الذين عانوا من الإرهاب والإذلال على أيدي الغرب (الفرنسي والأمريكي) أصبحوا الآن مندمجين بشكل جيد في الرأسمالية العالمية. وقد عاد العديد من ركاب القوارب السابقين إلى فيتنام كرجال أعمال (على الرغم من حرصهم على الاحتفاظ بجوازات سفرهم الغربية). ويعيش ما يقدر بنحو 2.75 مليون فيتنامي في أجزاء مختلفة من الغرب. لقد أدى التأثير الواضح للاندماج في العولمة إلى ظهور ما أطلق عليه "نظرية الدومينو العكسية" في جنوب شرق آسيا. وتظهر ميانمار (بعد فيتنام ولاوس وكمبوديا) كمشارك جديد. وتظل كوريا الشمالية هي الحالة المتطرفة.

وفقاً للمقولة الشهيرة لتشارلز داروين القائلة بأن البقاء ليس للأقوى ولا بالضرورة الأكثر ذكاءً، بل الأكثر استجابة للتغيير، تنشأ الدراما العربية بطرق عديدة من عدم رغبتها في التكيف مع التغيير، وعدم رغبتها في التعامل مع التغيير. العصر العالمي الجديد، في تناقض صارخ مع المجتمعات في شرق آسيا. وكما قال الاقتصادي اليساري الراحل جوان روبنسون مازحا: إن الأسوأ بكثير من أن يتم استغلالك من قبل الرأسمالية العالمية هو أن تتجاهلك الرأسمالية العالمية. وبعيداً عن النفط، فإن العالم العربي لا يكاد يظهر على خريطة الأعمال العالمية؛ عدد قليل جداً من الشركات العربية تشارك في سلاسل القيمة العالمية.

يبدو أن إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، تمر بتحول اقتصادي واجتماعي وسياسي إيجابي. من المؤكد أن العالم العربي سيتعلم الكثير من التحول نحو العولمة في جنوب شرق آسيا. ولكن في نهاية المطاف، لا بد أن يأتي الإصلاح من العرب أنفسهم تحت قيادة عربية. فقد تتوفر منارة صغيرة من الضوء. إصلاحات جذرية على جميع المستويات - المجتمع والتعليم والثقافة والسياسة والحكم والاقتصاد والعلوم - داخليا واحتضان الفرص التي توفرها العولمة.

العصور الوسطى

كان العالم الإسلامي قبل ألف عام مليئاً بالأفكار التي تشمل العلوم والثقافة والاقتصاد. كان "بيت الحكمة" القلب النابض، حيث ترجم العلماء النصوص الأجنبية الكلاسيكية إلى اللغة العربية، وقيل إنه تم ببناء أكبر مجموعة من المعرفة في العالم. لقد ازدهرت علوم الجبر والفلك والطب والكيمياء في عصر يُوصف أحياناً بالرومانسية في الغرب باعتباره "العصر الذهبي".

بدأ العصر الإسلامي عام 622. وفي نهاية المطاف، غزت الجيوش الإسلامية شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد ما بين النهرين، ونجحت في تهجير الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية من المنطقة في غضون بضعة عقود. وفي غضون قرن من الزمان، وصل الإسلام إلى منطقة البرتغال الحالية في الغرب وآسيا الوسطى في الشرق. امتد العصر الذهبي الإسلامي (ما بين 786 و1258 تقريباً) خلال فترة الخلافة العباسية (750-1258)، مع هياكل سياسية مستقرة وتجارة مزدهرة. تُرجمت الأعمال الدينية والثقافية الرئيسية للإمبراطورية الإسلامية إلى العربية وأحيانًا الفارسية. ورثت الثقافة الإسلامية التأثيرات اليونانية، والهندية، والآشورية، والفارسية. وتشكلت حضارة مشتركة جديدة على أساس الإسلام. وتلا ذلك عصر من الثقافة العالية والابتكار، مع نمو سريع في عدد السكان والمدن. جلبت الثورة الزراعية العربية في الريف المزيد من المحاصيل وتحسين التكنولوجيا الزراعية، وخاصة الري. وقد دعم هذا العدد الأكبر من السكان ومكن الثقافة من الازدهار. منذ القرن التاسع فصاعداً، قام علماء مثل الكندي بترجمة المعرفة الهندية والآشورية والساسانية (الفارسية) واليونانية، بما في ذلك أعمال أرسطو، إلى اللغة العربية. وقد دعمت هذه الترجمات التقدم الذي أحرزه العلماء في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في وقت سادت فيه العقيدة المسيحية في أوروبا بالعصور الوسطى، التي تقول بأن العالم قد تطور وفقاً لخطة إلهية محددة سلفاً.

العهد العباسي

في العهد العباسي (750 إلى 1258)، تم تشجيع التعلم في الإسلام في كل مجال من مجالات المعرفة، وسافر العلماء من كل لون ومذهب إلى دمشق وبغداد للدراسة والعمل. وفي هذه الأوقات المتسامحة، شجع قادة الإسلام التعلم واستخدام العقل لفهم الطبيعة. اعتنق الخلفاء العباسيون الأوائل - وأبرزهم المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، الذين حكموا من 754 إلى 833 - العلم كسياسة محددة للدولة، إيذانا ببدء عصر ذهبي للحضارة العربية الإسلامية. تلا ذلك حركة متحمسة لترجمة ودراسة الكتب القديمة وتطوير المعرفة الجديدة على نطاق غير مسبوق. حقق العلماء العرب والمسلمون إنجازات في كل مجال من مجالات العلوم: الرياضيات، وعلم الفلك، والطب، والبصريات، والفلسفة. لقد أرست أعمال الرازي والخوارزمي المبدعة في القرنين التاسع والعاشر الأساس للطب السريري الحديث والرياضيات، وسرعان ما انتقل هذا التعطش للمعرفة إلى أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية، وسرعان ما تنافست الأندلس مع بغداد باعتبارها المركز الثقافي للعرب والمسلمين.

عصر النهضة

تم وضع أسس الفكر العلمي الإسلامي قبل وقت طويل من ترجمة المصادر اليونانية رسمياً إلى اللغة العربية في القرن التاسع. وبالاعتماد على رواية المؤرخ الفكري ابن الناديم في القرن العاشر والتي تجاهلها معظم العلماء المعاصرين، يذكر المفكر "جورج صليبا" في كتابه " العلوم الإسلامية وصناعة النهضة الأوروبية" أن الترجمات المبكرة من المصادر الفارسية واليونانية بشكل رئيسي والتي تحدد الأفكار العلمية الأولية لاستخدام الإدارات الحكومية كانت الدافع للتطوير. للتقاليد العلمية الإسلامية. ويجادل كذلك بوجود علاقة عضوية بين الفكر العلمي الإسلامي الذي تطور في القرون اللاحقة والعلوم التي ظهرت إلى الوجود في أوروبا خلال عصر النهضة.

إن أهم مفكرين إسلاميين ألهما رواد عصر النهضة هما ابن سينا (980 إلى 1037) وخاصة (كتاب الشفاء) وهو موسوعة علمية وفلسفية. يناقش ابن سينا فيه العقل ووجوده، والعلاقة بين العقل والجسد، والإحساس، والإدراك، وما إلى ذلك.

والثاني هو الفيلسوف ابن رشد (1126 إلى 1198)، الذي أعادت كتاباته وتعليقاته إلى أوروبا في العصور الوسطى النهج الأرسطي في دراسة الطبيعة عن طريق الملاحظة والاستدلال. ساعد ابن رشد على فتح طرق جديدة للتفكير من خلال محاولة التغلب على التناقضات بين الفلسفة الأرسطية والدين الموحى به، من خلال التمييز بين نظامين منفصلين للحقيقة - مجموعة علمية من الحقائق مبنية على العقل وهيئة دينية الحقائق المبنية على الوحي.

ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، تقدم النموذج العلمي لإنتاج المعرفة بلا هوادة في جميع أنحاء أوروبا. وفي الوقت نفسه، بدأت الحضارة العربية الإسلامية وإسهاماتها في العلم والمعرفة في تراجعها الطويل مع ابن خلدون (1332 إلى 1395) الذي أسس في “مقدمته” المبادئ الأساسية لعلم الاجتماع الحديث، وكان آخر أبرز العرب.

تراجع العلوم في العالم العربي

مع تقدم العصور الوسطى، بدأت الحضارة العربية في النفاد. بعد القرن الثاني عشر، كان لدى أوروبا علماء علميون أكثر أهمية من العالم العربي، كما أشار مؤرخ جامعة هارفارد جورج سارتون في كتابه مقدمة لتاريخ العلوم (1927-1948). بعد القرن الرابع عشر، شهد العالم العربي عدداً قليلاً جداً من الابتكارات في المجالات التي كان يهيمن عليها سابقاً، مثل البصريات والطب؛ ومن الآن فصاعدا، لم تكن ابتكاراتها في معظمها في عالم الميتافيزيقا أو العلوم، ولكنها كانت اختراعات عملية أضيق مثل اللقاحات. يقول برنارد لويس في كتابه الإسلام والغرب (1993): "لقد مر عصر النهضة والإصلاح، وحتى الثورة العلمية وعصر التنوير، دون أن يلاحظها أحد في العالم الإسلامي".

فالحضارة التي أنتجت المدن والمكتبات والمراصد وانفتحت على العالم، تراجعت الآن وأصبحت منغلقة ومستاءة، وعنيفة، ومعادية للخطاب، والابتكار.

وفي الوقت الراهن، لا يتناسب الإنتاج العلمي للعرب مع قدراتهم البشرية والاقتصادية. بالمقاييس المقارنة يشكل العرب 5% من سكان العالم، لكنهم ينشرون 1.1% فقط من كتبه، ومساهماتهم في براءات الاختراع لا تكاد تذكر. وبأخذ البحوث الطبية الحيوية كمثال، تنتج الدول العربية حاليا أقل من 1% من الاستشهادات في العالم وتساهم بأقل من 0.5% من الأوراق البحثية التي تظهر في 200 مجلة طبية رائدة. يقدر الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في الدول العربية بنحو 0.15 % من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 1.4%. يعد نقص التمويل، وضعف الدعم المؤسسي، والتكامل الهزيل داخل المجتمع العلمي. وفيما يبدو وكأنه نكتة سيئة عن العلوم في العالم العربي فإننا نتفوق في ثلاثة مجالات علمية فقط: تحلية المياه، والصيد بالصقور، وتكاثر الإبل.

 من بين الأسباب العديدة التي ذكرها المحللون لتفسير الوضع الحالي العلوم في الدول العربية. كما أن هناك عوامل أكثر عمومية، مثل الحروب والصراعات والعقوبات السياسية والاقتصادية الدولية.

ولا شك أن هذه عوامل مهمة، ولكنها لا تشمل الجذور الأكثر جوهرية للوضع الحالي للعلوم في العالم العربي. على سبيل المثال، فإن البلدان التي تتمتع بفترات طويلة نسبيا من الاستقرار والرخاء مثل دول الخليج لا تكون أفضل حالاً من حيث البحوث الطبية الحيوية، وخاصة عندما يؤخذ في الاعتبار العدد الكبير من العلماء الأجانب العاملين هناك. من ناحية أخرى، فإن دول مثل المغرب وفلسطين ومصر والأردن والعراق وهي دول ليست ثرية، تكون أفضل حالاً من الدول العربية الأخرى عندما يتم موازنة إنتاجها العلمي مقابل ناتجها المحلي الإجمالي. حيث يستحوذ المغرب على سبيل المثال على أكثر من نصف الأبحاث والدراسات التي تصدر سنوياً عن الدول المغاربية، خاصة في العلوم الإنسانية. وهذا يشير إلى أن عوامل متعددة تلعب أدواراً حاسمة في تقييم العلوم في المجتمعات العربية.

السيطرة الناعمة

فقد أدى انتشار وتوسع تكنولوجيات المعلومات إلى غزو لا يرحم للثقافة الغربية في كل مجالات الحياة تقريباً. ومع القنوات الفضائية، والإنترنت، والاتصالات الإلكترونية، تسللت أنماط الحياة والأزياء والسلوك والقيم الغربية إلى البيوت العربية دون أي وسيلة حقيقية للسيطرة على هذا التدفق.

يمكن للثقافة "المتلقية" أن تنظر إلى التأثير الثقافي باعتباره تهديدًا لهويتها الثقافية أو إثراء لها. لذلك يبدو من المفيد التمييز بين الإمبريالية الثقافية باعتبارها موقفاً (إيجابياً أو سلبياً) للتفوق، وموقف ثقافة أو مجموعة تسعى إلى استكمال إنتاجها الثقافي، الذي يعتبر ناقصاً جزئيًا، بمنتجات مستوردة.

يمكن أن تمثل المنتجات أو الخدمات المستوردة نفسها أو ترتبط بقيم معينة (مثل النزعة الاستهلاكية). ووفقاً لإحدى الحجج، فإن الثقافة "المتلقية" لا تدرك بالضرورة هذا الارتباط، ولكنها بدلاً من ذلك تمتص الثقافة الأجنبية بشكل سلبي من خلال استخدام السلع والخدمات الأجنبية. نظراً لطبيعتها المخفية إلى حد ما، ولكنها قوية جداً، وصف بعض الخبراء هذه الفكرة الافتراضية بأنها "الإمبريالية المبتذلة". على سبيل المثال، يقال إنه في حين أن "الشركات الأمريكية متهمة بالرغبة في السيطرة على 95% من المستهلكين في العالم"، فإن "الإمبريالية الثقافية تنطوي على أكثر بكثير من مجرد سلع استهلاكية بسيطة؛ فهي تنطوي على نشر المبادئ الأمريكية مثل الحرية والديمقراطية". وهي عملية "قد تبدو جذابة" ولكنها تخفي حقيقة مخيفة: العديد من الثقافات حول العالم تختفي بسبب التأثير الساحق للشركات والثقافة الأمريكية.

يعتقد البعض أن الاقتصاد المعولم حديثاً في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين قد سهّل هذه العملية من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات الجديدة. وهذا النوع من الإمبريالية الثقافية مستمد مما يسمى "القوة الناعمة". توسع نظرية الاستعمار الإلكتروني القضية لتشمل القضايا الثقافية العالمية وتأثير تكتلات الوسائط المتعددة الكبرى، بدءًا من باراماونت Paramount، ووارنر ميديا  WarnerMedia، وإيه تي آند تي AT&T ، وديزني Disney، ونيوز كورب News Corp ، إلى جوجل Google ، ومايكروسوفت Microsoft ، مع التركيز على القوة المهيمنة لهذه الشركات المتحدة بشكل أساسي كونها عمالقة الاتصالات في العالم.

صناعة العلوم العربية

يحتاج العالم العربي الذي يموج بالاضطرابات السياسية، بصورة ماسة إلى ثورة جديدة لإصلاح ثقافتي التعليم والبحث. ركزت صحوة الشعوب العربية في السنوات القليلة الماضية، على البعد السياسي للتغيير المجتمعي بهدف القيام بعملية التحول الديمقراطي، فإن هذه العملية لا تنتهي عند هذا الحد بالرغم من كونها جلبت تغييرات سياسية، إلا أن هناك حاجة إلى ثورة جديدة لتحويل ثقافة التعلم. إن فشل التعليم العربي هو سبب أساسي مهم وراء استياء الشباب في المنطقة وله عواقب ثقافية واقتصادية وسياسية خطيرة.

إن مكانة العالم العربي في العلوم والتعليم غير مقبولة. إن مساهمتها في البحث العلمي الدولي ضئيلة، ولا تصنف الجامعات العربية بانتظام بين أفضل 500 مؤسسة في العالم. ومن اللافت للنظر أن ما بين 25% إلى 40% من السكان العرب الذين يبلغ عددهم حوالي 400 مليون نسمة ما زالوا أميين، في حين أصبحت مهارات البالغين في العصر الرقمي محددة الآن من حيث القراءة والكتابة، والحساب، وحل المشكلات.

في العديد الدول العربية، يحصل مئات الآلاف من الطلاب على تعليم جامعي لا يتوافق مع العالم الحديث. وفي السوق العالمية، لا توجد منتجات تكنولوجية "صنع في الجزيرة العربية".

من التبسيط للغاية أن نعزو سبباً واحداً، مثل التمييز الزائف بين الإيمان والعقل. من وجهة نظر وراثية، فإن العرب لا يختلفون عن أي عرق آخر؛ ولا يوجد احتكار جغرافي للاستخبارات. ومن الواضح أن العرب والمسلمين في إسبانيا وشمال أفريقيا والجزيرة العربية كانوا في قمة الحضارة عندما كانت أوروبا المسيحية في العصور المظلمة.

إن أسباب هذا النقص في المسعى والإنجاز لا تعد ولا تحصى. بما في ذلك الاستعمار والفساد والقصور الدستوري الذي يقيد حرية الإنسان وحرية الفكر. ولعقود من الزمن، أدى استخدام الدين في السياسة، واستخدام السياسة في الدين، إلى حجب الأهداف الوطنية وتحويل الانتباه عن القضايا الحقيقية التي تواجه الدول العربية.

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة ليس ما الخطأ الذي حدث، بل ما الذي يمكن فعله الآن؟ يجب أن تحدث تغييرات ثورية، وليس تغييرات تدريجية، في التعليم والفكر العلمي، مع ثلاثة مكونات أساسية للتقدم.

الأول: هو بناء الموارد البشرية من خلال استعادة محو الأمية، وضمان المشاركة النشطة للمرأة في المجتمع، وإصلاح التعليم.

ثانياً: هناك حاجة إلى إصلاح الدستور الوطني للسماح بحرية الفكر؛ وتبسيط وترشيد البيروقراطية؛ لتطوير أنظمة قائمة على الجدارة وإنشاء مدونة قانونية موثوقة وقابلة للتنفيذ.

ثالثاً: يجب أن يضمن الدستور وبشكل ملموس أكثر، أن تكون ميزانية البحث والتطوير أعلى من 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

وفي هذه الرؤية، يحتل رأس المال البشري أهمية قصوى. يحتاج العالم العربي إلى تنشئة جيل جديد من المهنيين القادرين على التفكير النقدي والإبداعي، جيل يتمتع بالمعرفة المعاصرة بالعلوم والتكنولوجيا، والتخصصات الناشئة الجديدة في العلوم الفيزيائية والطبية والاجتماعية. ومن شأن هذا المجمع من المعرفة أن يساعد في تحديد وتقديم الحلول للمشاكل الأساسية التي تواجه المجتمع. يمكن أن يحقق البحث في الطاقات البديلة أو الموارد المائية أو تصميم الأدوية العديد من الفوائد الاجتماعية والمكافآت من النمو الاقتصادي للبلاد والمشاركة في السوق العالمية.

يجب البدء بالتغييرات من جذور نظام التعليم الذي يعتمد على التعلم عن ظهر قلب مع التركيز على الكمية بدلاً من جودة المعلومات المقدمة للطلاب. وينبغي الاستعاضة عن ذلك بنظام قائم على الجدارة مصمم لتشجيع التفكير الحر والإبداعي، مع اكتساب الخبرات العملية.

كما يحتاج مشهد التمويل والاعتراف في مجال البحوث إلى الإصلاح. لقد ثبت أن التقليد المتبع اليوم والذي يقضي باستخدام عدد المنشورات لتحديد المرشحين للترقية الأكاديمية ليس له قيمة تذكر، ويجب استبداله بإطار لتحديد المساهمات الأصلية والمبتكرة. وأخيراً لا بد من إقامة صلة قوية بين القطاعين الأكاديمي والصناعي لتعظيم الفوائد المتبادلة المحتملة من البحوث الأساسية والمصالح الصناعية، على الصعيدين العالمي والمحلي.

إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة من دون الاعتراف الحكومي الحقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية. لذلك تتحمل الحكومات العربية المسؤولية الأساسية في إنشاء ورعاية مراكز الأبحاث ومعاهد العلوم والتقنيات الحديثة. إن العلوم والتكنولوجيا يتمثل دورها الأساسي في جذب الطلاب الموهوبين وتقديم مناهج أكاديمية فريدة من نوعها في مجالات العلوم والهندسة المتطورة. والمعاهد البحثية المزودة بعلماء من الطراز العالمي الذين يعطون الأولوية للبحث في المشاكل الوطنية الأساسية. وتمثل المعاهد المجهزة بأحدث المعدات مجموعة واسعة من المجالات متعددة التخصصات، بما في ذلك تكنولوجيا النانو، والهندسة البيئية، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الفضاء والاتصالات، وعلوم المواد، والعلوم الطبية الحيوية، وفيزياء الأرض والكون. وضرورة توفر جهات مسؤولة عن تحويل مخرجات البحوث إلى التطبيقات الصناعية. وهي مصممة لإنشاء حاضنات وشركات فرعية، مع حماية الملكية الفكرية، ولجذب الشركات الدولية الكبرى لتشجيع مناخ صحي للتبادل بين البحوث والصناعة.

إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة دون اعتراف حكومي حقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية والسياسات التي توفر التمويل المتناسب للبحوث الأساسية وإصلاح البيروقراطية الصارمة التي تحبط التقدم. ومن خلال القيام بذلك، سوف تستعيد الدول العربية الثقة للمنافسة في العلوم الدولية والاقتصاد المعولم اليوم.

***

حسن العاصي

باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في الدنمرك

ما كادت تمضي ساعات معدودات على انطلاق عملية طوفان الأقصى حَتَّى هرع أرباب الكيان الصَّهيونيّ الغاصب وحُماته الغربيَّون إليه مذعورين حاملين معهم كل جرعات الدَّعم اللازمة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والمعنويَّة، معزَّزةً بآلاتهم العسكريَّة الجبارة من أساطيل وحاملات طائرات، مهدِّدين متوعِّدين بالويل والثُّبور وعظائم الأمور كُلَّ من تُخَوِّله نَفْسُهُ المسَّ بالصَّنم المقدَّس والإله المُبَجَّل والطُّفل المعجزة المدلَّل.

 بَيْدَ أنَّ حملة التَّعاطف مع إسرائيل لم تقتصر فقط على الرَّئيس الأمريكيّ جو بايدن وأذنابه التَّابعين من القادة السِّياسيَّين الأوروبيَّين من أمثال المستشار الألمانيّ أولاف شولتس والرَّئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطانيّ ريشي سوناك وغيرهم، بل اتَّسعت مروحتها لتشمل ثُلَّةً من المفكرين والأكاديميَّين يتصدَّرها الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس داعية الفكر التَّواصليّ بِمَعِيَّةِ كُلٍّ من نيكول ديتلهوف رئيسة قسم العلاقات الدَّوْليَّة ونظريات النِّظام العالميّ، وراينر فورست أستاذ النَّظريَّة السِّياسيَّة والفلسفة، وكلاوس غونتر أستاذ النَّظريَّة القانونيَّة والقانون الجنائيّ وقانون الإجراءات الجنائيَّة.

وخشية التَّخلُّف عن الرَّكْبِ والشُّعور بالذَّنْبِ، ولتحاشي "تأنيب الضَّمير" وغضب الرَّبِ سارع هؤلاء إلى تجديد البيعة والولاء وتقديم واجب المواساة والعزاء بالمصاب الأليم لإسرائيل عسى أنْ "يلهمها اللَّهُ" الصَّبْرَ والسُّلْوَانَ، ويغفر لهم ولأبائهم النَّازيَّين والإمبرياليَّين ما تقدَّم وتأخَّر من خطايا وجرائم ارتكبوها ضد الإنسانيَّة جمعاء. وعلى هذا الطَّريق بادر مركز أبحاث "الأوامر المعياريَّة" التَّابع لجامعة غوته في فرانكفورت بتاريخ 13 نوفمبر 2023 إلى نَشْرِ رسالتهم الموسومة ب"مبادىء التَّضامن. بيان".

إنَّ أوَّلَ ما يلاحظه القارئ في هذه الرِّسالة الملتوية النَّسج والمتهافتة النَّهج هو انحيازها المسبق وتأييدها االمطلق للكيان الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ الغاصب ودفاعها المستميت عنه. وإلى جانب ما يعلنه مؤلفو هذه الرِّسالة عن إدانتهم "المجزرة الَّتِي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل المصحوبة بِالنِّيَّة الصَّريحة على إبادة الحياة اليهوديَّة بشكل عام"(1)، وما يبوحون به من حرص أحاديّ فائق على وجود إسرائيل، ومن محاباة رخيصة لها ولليهود عمومًا؛ فقد انطوى موقفهم على جملة كثيفة من الآراء المنكوسة والأحكام المعكوسة والايحاءات المُضْمَرَة الخبيثة، أهَمُّها:

 أ- اجتزاء عملية طوفان الأقصى من سياقها التَّاريخيّ والتَّشديد على أعراض الدَّاء لا على الاحتلال الَّذِي هو أصل العلَّة والبلاء متناسين أنَّ هذه الحرب بدأها الصَّهاينة وبرعاية مباشرة من الدُّوَلِ الكولونياليَّة منذ ما يزيد على الخمسة وسبعين عامًا. إذ فاتهم أنَّ الحرب والعدوان إنَّمَا يبدؤهما الطَّرف الَّذِي يعمل، عن سابق إصرار وتصميم، على خلق أسبابهما وتهيئة مقدماتهما، ويسدُّ، في الوقت عينه، جميع الطُّرق المؤدية إلى السَّلام العادل، لا ذاك الطَّرف الَّذِي يناضل من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأراضيه المغتصَبة المنهوبة؛

 ب- عمدت الرِّسالة إلى القفز بخفة بهلوانيَّة مدهشة فوق الوقائع التَّاريخيَّة وقلب الحقائق رأسًا على عقب بحيث استحال السَّببُ نتيجًة، والجلَّادُ  ضحيًة، والوحش الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ حملاً وديعًا، وعدوانه المتواصل والممنهج "ردًّا دفاعيًّا مُبَرَّرًا من حيث المبدأ..."(2)؛

 ج- تعمَّد هابرماس وأتباعه المُقَلِّدين طمس روح المسألة وجذور المشكلة، وحرف الصِّراع عن موضعه وحقيقته بإضفاء طابع دينيّ عليه ليبدو كأنَّه عدوانٌ حماسويٌّ (إسلاميّ ضمنيًّا) ضد اليهود عامًّة؛

 د- التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات على ما يتجلَّى ذلك في مماهاة السَّاميَّة باليهوديَّة  والصَّهيونيَّة-الإسرائيليَّة وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم والألفاظ واحدة، علمًا أنَّها ليست متطابقة أو متكافئة لا من حيث المضمون ولا من حيث الماصدق. وليس هذا التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات سوى تشويش أو تعمية إيديولوجيَّة يُراد منها تأبيد وجود إسرائيل وتحصينها تحصينًا شاملاً ضد المساءلة والمحاسبة. ولا يخفى، في المناسَبة، كم وافق هذا الخلط المخادع- وما يزال- يوافق هوى محاكم التَّفتيش الصَّهيونيَّة في سعيها الدؤوب إلى ملاحقة ومحاكمة كل من يجرؤ على نقد الممارسات الإسرائيليَّة   وإيديولوجيَّتها العنصريَّة المتطرفة، وعلى الدِّفاع عن حقِّ الفلسطينين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة بِتُهَمٍ أربع جاهزة، وهي: الإرهاب، ومعاداة السَّاميَّة، والعداء لليهود، والتَّحريض على الكراهية؛

 ه- ثَمَّة آفة قاتلة مُرَكَّبة تسري في أوصال الرِّسالة كلها. وتتمثل هذه الآفة في ازدواجيَّة المعايير (سياسة الكيل بمكيالين)، والافتقار إلى التَّماسك المنطقيّ وإلى أبسط مقومات تسويغ الأحكام الَّتِي تطْلِقَها لكأنها تأمرنا أمرًا عسكريًّا  بوجوب التَّسليم والالتزام بها من دون الإشارة إلى أسُسِها والإبانة عن أسبابها. ومن نافلة القول إنَّه ليس يُعَوَّل على كُلِّ ما لا يُعَلَّل. ففي هذه الرِّسالة لم يشرح لنا هابرماس وصحبه، مثلاً، لماذا أفعال إسرائيل مبرَّرة ومغفورة، وأفعال خصمائها مدانة ومرذولة؟ ولماذا لا ينبغي أنْ تكون مبادئ التَّضامن معها تحديدًا موضع  جدال؟ علمًا أنَّ الأساس الَّذِي ينهض عليه وجودها ويسوِّغه يثير ألف سؤال وسؤال ومحطُّ خلاف وسجال حَتَّى في بعض الأوساط اليهوديَّة. ولم يفسِّروا لنا كذلك كيف ولماذا "تنحرف، حسب زعمهم، معايير الحُكْمِ تمامًا عن الصِّراط المستقيم وتَضِلُّ عن الطَّريق القويم عندما تُعْزَى نِيَّات الإبادة الجماعيَّة إلى التَّصرُّفات الإسرائيليَّة"(3). إنَّ السُّؤال الَّذِي يقفز ههنا إلى الذِّهن فورًا هو: هل هناك معايير حكم ومبادئ عقليَّة وأخلاقيَّة خاصَّة بتقييم نِيَّات وأفعال اليهود والإسرائيليين تميِّزهم من العالَمين وتُفَضِّلهم عليهم؟ الإجابة عن هذا السُّؤال هي طبعًا بالنَّفي، لأنَّ الكلام على معايير ومبادئ أخلاقيَّة أساسيَّة هو كلام على ما يتجاوز الفروق العِرْقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة بين البشر، ويدخلنا في صميم ما هو إنسانيّ عام وذو أهَمِّيَّة عامَّة بالنسبة إليهم. فالمبادئ الأخلاقيَّة مُلْزِمة للجميع وموجَّهة بالتَّساوي إلى كل شخص فعليّ وممكن من غير استثناء. إضافة إلى ذلك، وإذ يُسْقِط هؤلاء قَبْليًّا عن إسرائيل تهمة الإبادة الجماعيَّة نِيًّة وفعلاً، جملًة وتفصيلا، فإنَّهم لا يمنحونها، زورًا وبهتانًا، صكَّ براءة وغفران عمَّا تَقَدَّم وما تأخَّر من مسلسل مجازرها الهيستيريَّة فحسب، بل يرتكبون أيضًا أغلوطة تحويل علاقة ممكنة واقعيًّا وجائزة منطقيًّا إلى علاقة مُمْتَنَعة عمليًّا ونظريًّا بحيث يبدو ربط التَّصرُّفات الإسرائيليَّة بدافع الإبادة الجماعيَّة ليس محالاً من النَّاحية الواقعيَّة فحسب، بل مُمْتَنَعٌ منطقيًّا أيضًا. لكن وكما هو معلوم، فإنَّ إثبات ارتكاب أو عدم ارتكاب إبادة هو أمرٌ تقرِّره، في المقام الأوَّل، الوقائع والأحداث لا مزاعم هذا المفكر أو ذاك ولا حَتَّى قوانين المنطق. وإذا كان ممكنًا لبعض البشر ارتكاب المجازر فلا شيء يبرِّر استبعاد احتمال توافر النِيَّة الجرميَّة الإباديَّة خلف التَّصرُّفات الإسرائيليَّة اللَّهم إلاَّ إنْ أدرَجَت الثُّلَّةُ الهابرماسيَّة الإسرائيليَّين في عداد أولياء اللَّه الصَّالحين والمعصومين، الأمر الَّذِي يعني أنَّ  حمل نِيَّة الإبادة الجماعيَّة على أفعالهم يُشَكِّل تناقضًا بالتَّعريف. وما هذا وذاك إلاَّ وَهْمٌ وهراء. لكن وبالعودة إلى الواقع، فإنَّ الأدِلَّة تشير إلى العكس تمامًا ممَّا تدَّعيه هذه الثُّلَّة. فلا تَمُرُّ دقيقة إلاَّ وتمطرنا وسائل الإعلام بوابل كثيف وشلَّال غزير ممَّا لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على بال وخيال بشر من مشاهد حية لمآسٍ قَلَّ نظيرها في تاريخ البشريَّة. إنَّ أفعالاً من مثل التَّهجير القسريّ والحصار المزمن لشعب يعيش واقعيًّا تحت الاحتلال وفي معسكرات اعتقال، ومن مثل الإعدامات الميدانيَّة والقتل والجرح لعشرات الألوف من نسائه وأطفاله ورجاله، والتَّدمير الكُلِّيّ لمستشفياته ومدارسه ودور عبادته ومنازله، والتَّجويع والحرمان التَّام من الماء والغذاء والكهرباء والدَّواء - هي أفعالٌ تُشَكِّلُ، منفردة ومجتمعة، أمثلة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة المكتملة العناصر والمواصفات. وبالاتِّفاق مع هذا يمكن القول إنَّه ولما كانت طبيعة الأفعال الإسرائيليَّة ضد الفلسطينين لا تختلف جوهريًّا عن الأفعال النَّازيَّة ضد اليهود كان من غير الجائز أنْ نطلق عليهما حكمين متضادين أخلاقيًّا. فمن الإجحاف والعبث بمكان أنْ ندين الثَّانية ونقبِّحها وألا ندين الأولى ونجرِّمها، وبالعكس. فالمسألة الأساسيَّة هنا هي أنَّ أفعالاً كهذه، بحكم طبيعتها، لا يمكن أنْ تكون حسنة وواجبة أخلاقيًّا. فاختلاف هُوِيَّة فاعلها والآمر بها وآليات تنفيذها لا يُغَيِّر شيئًا من طبيعتها، أيْ كونها أفعالاً من نوع معيَّن لا من نوع آخر. فالسرقة سرقة أيًّا يكن السَّارق والمسروق، والقتل قتل أيًّا يكن القاتل والمقتول، وكذلك، على المقلب الآخر، العِشْقُ عِشْقٌ أيًّا يكن العاشق والمعشوق. وطبقًا لهذه الرُّؤية يمكن القول إنَّه إذا كان اليهود هُمْ أحد ضحايا المحرقة النَّازيَّة، فإنَّ الفلسطينين هُمْ ضحايا هولوكوست مركَّب ومضاعَف ومزدوج: الفاشيّ-الألمانيّ؛ والصَّهيونيّ-الإسرائيليّ. وَمَثَلُ الَّذِي يبرئ إسرائيل من دمِّ الفلسطينين ومن تُهْمَةِ التَّطهير العُرْقيّ والإبادة الجماعيَّة في حقهم كَمَثَلِ الَّذِي يبرئ النَّازيَّة من المذابح الَّتِي ارتكبتها ضد الإنسانيَّة، لأنَّ الصَّهيونيَّة والنَّازيَّة صنوان ووجهان لعملة لاأخلاقيَّة واحدة. وفي الحقيقة، ما هُمَا إلاَّ صورتان في مرآة واحدة، وصورة في مرآتين. وكل واحدة منهما تتمرأى في الأُخرى. إذ إنَّ لوثة جنون العظَمة والتَّفَوُّق لدى الطَّرفين هي نفسها، وأفعالهما واحدة، وجوهرهما واحد، والادِّعاء بنقاء الأصل واصطفاء العُرْقِ واحد وإنْ اختلف اسْمُ الفاعل واسْمُ الضَّحية ومسرح الجريمة وزمانها. وكما أنَّ التَّطهُّر من نجاسةٍ لا يكون بنجاسةٍ من نوعها، والاغتسال من جنابة لا يصح بجنابة أقذر منها، فكذلك لا شرعيَّة للتبرؤ من الإثم النَّازيّ بمباركة انتقام دمويّ مَرَضيّ صهيونيّ-إسرائيليّ آخر أفظع وأشنع منه، بخاصَّةٍ، أنَّه يثأر لنفسه من شعب لا يَمُتُّ بأيِّ صلة نسب إلى الرَّايخ الثَّالث لا من قريب ولا من بعيد. وبلغت  ازدواجيَّة المعايير على يد هابرماس ذروة اللامعقوليَّة عندما أخذ يجاهر ويُلحُّ- متذرِّعًا ب"الرُّوح الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة الموجَّهة نحو الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيَّة- على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة حمايًة خاصَّة في ضوء الجرائم الجماعيَّة إبَّان الحقبة النَّازيَّة"(4) في حين أنَّه لم ينبس ببنت شفة عن حقِّ الفلسطينين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة. ولنا هنا أنْ نسأل هابرماس ونتساءل بدورنا أيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة هي هذه الَّتِي تمالئ وتناصر كيانًا عنصريًّا لاديمقراطيًّا غاصبًا يضع إرادته فوق إرادة الشَّرعيَّة الدَّوْليَّة ضاربًا بعرض الحائط قراراتها ومواثيقها، ويضطهد الفلسطينين ويُذِلُّ كرامتهم الإنسانيَّة؟!!! ثُمَّ ماذا يبقى من معاني الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة إذا كانت "ثقافتها السِّياسيَّة تَعِدُّ الحياة اليهوديَّة وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيَّين  يستحقان حمايًة خاصَّة"(5)، وتستنفد استغراقيًّا حقيقة الرُّوح الدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة  في هذين العنصرين؟!!! فالكلام على عناصر مركزيَّة تستحق حمايًة خاصَّة في هذا السِّياق يفترض، بالضَّرورة، وجود عناصر ثانويَّة وهامشيَّة هي أقَلَّ أهمِّيًّة واستحقاقًا وجدارة بمزيَّة الحماية من غيرها. ولا شكَّ في أنَّ ثقافًة سياسيَّة كهذه تخالف وتقوِّض، على نحوٍ صارخ، جملة من أُسُسِ النِّظام الدِّيمقراطيّ، أوَّلها مبدأ ضرورة حياد الدَّولة الدِّيمقراطيَّة إزاء مختلف الأعراق والدِّيانات؛ ثانيها مبدأ المساواة في الحقوق؛ ثالثها عدم جواز قوننة الدَّولة الدِّيمقراطيَّة لأيِّ مادةٍ تقود، عمليًّا، إلى ترجيح حقِّ جماعة معيَّنة، أكانت عِرْقيًّة أم دينيًّة أم سياسيًّة، في الوجود والحياة على الحقِّ نفسه لسائر الجماعات. بالطَّبع، إنَّ حقَّ اليهود في الحياة وليس فقط في الحياة، بل في الحياة الحُرَّة الآمنة والكريمة هو حقُّ لا يمارى فيه ما دام هذا الحقُّ لا يتعارض مع إعطاء حقٍّ مماثل لكل من عداهم. بَيْدَ أنَّ مغالاة هابرماس في التَّشديد على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة عنايًة خاصَّة لا تَنِمُّ عن مَيلٍ معادٍ للرُّوح الدِّيمقراطيَّة فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع قوله الصَّائب: "إنَّ الحقوق الأساسيَّة في الحُرِّيَّة والسَّلامة الجسديَّة وكذلك في الحماية من التَّشهير العنصريّ هي حقوق غير قابلة للتَّجزئة وتنطبق على الجميع بالتَّساوي"(6). ويعني القول الأخير أنَّ الحقوق الأساسيَّة المذكورة ليست امتيازًا وشأنًا خاصًّا باليهود أكثر منها شأنًا خاصًّا بالبوذيين أو المسلمين أو المسيحيَّين أو الوثنيين أو غيرهم. إنَّها بهذا تصبح شأنًا وحقًّا إنسانيًّا عامًّا، ومن ثُمَّ، لا يُعْقَل أنْ تكون من امتيازات أيِّ دين من الأديان أو أُمَّة من الأُمَمِ. بعبارة أُخرى، لا مهرب لهابرماس من مواجهة مأزق منطقيّ حاد يُلْزِمَهُ باختيار واحد من بديلين متعارضين كلاهما غير مرغوب فيه، حَتَّى من وجهة نظره. البديل الأوَّل هو التَّمسُّك بالحماية (المعاملة، الرِّعاية، العناية) الخاصَّة لإسرائيل واليهود وعندئذ لا يعود ثَمَّةَ معنىً أو قيمةٌ للكلام على حقوق أساسيَّة متساوية لجميع البشر لا امتياز حصريًّا فيها لأُمَّةٍ أو لِمِلَّةٍ على غيرها. والبديل الثَّاني هو التَّمسُّك بمنطق المبادئ الأخلاقيَّة والدِّيمقراطيَّة فيبطل عندئذ مبرِّر المطالبة بامتياز حقِّ الحماية الخاصَّة. إضافة إلى ذلك، ينطوي موقف هابرماس على أغلوطة لا تخفى على عاقل. وتكمن الأغلوطة في هذا الموقف في أنَّه يعطي عامِلَ الانتماء إلى عِرْقٍ ودِينٍ معيَّنين أهمِّيًّة في تحديد كيفيَّة تعاملنا مع البشر إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أيْ يمنح أهمِّيًّة لما لا أهمِّيَّة له على الإطلاق بالنسبة إلى المسألة الأخيرة. فلا علاقة ضروريَّة بين اختلاف السِّمَاتِ الجسمانيَّة كلون البشرة ولون العيون وشكلها ونوع الشَّعر،  والتَّمييز في المعاملة الأخلاقيَّة. زد على ذلك، لا دليل على الرَّبط بين السِّمَاتِ العِرْقيَّة أو الجسمانيَّة والخصال الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة مشتقة من الأولى. كما أنَّ اختلاف المعتقدات الدِّينيَّة أو الفلسفيَّة أو العلميَّة، بدوره، لا يُعقل أنْ يُشَكِّلَ أساسًا لأيِّ اختلاف في المعاملة الأخلاقيَّة. وعلى المستوى الشَّخصيّ لا أعرف استدلالاً علميًّا يمكن لِحَدِّهِ الأوسط ومحمولات مقدِّماته أنْ يدعما دعمًا كافيًا الاستنتاج أو الحكم القائل بوجوب منح اليهود وإسرائيل أو غيرهما حمايًة خاصًّة استثنائيَّة مُطْلَقَة. وعليه، أرى أنَّه ليس في جعبة هابرماس الإيديولوجيَّة الرَّثَّة ما "يُسَوِّقُ" به إعطاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة مزايا تفضيليَّة سوى اجترار وتكرار مقيت لأُسطورة شعب اللَّه المختار التَّوراتيَّة. وإذا كانت المحرقة الَّتِي تَعَرَّضَ لها اليهود إبَّان الحقبة النَّازيَّة هي المسوِّغ الرَّئيس لوجوب إيلائهم حماية خاصَّة، فأليس من باب أولى أنْ يَنْعَمَّ الفلسطينيون بمثل هذا الامتياز في ضوء المجازر الَّتِي ترتكبها إسرائيل وأعوانها المتصهينين في حقِّهم؟!!! وماذا عن الأقوام والشُّعوب الأُخرى الَّتِي تعرضت عبر التَّاريخ للإبادة والمجازر الجماعيَّة؟ ألا تستحق معاملة خاصَّة مشابهة لتلك الَّتِي لإسرائيل واليهود، يا تُرَى؟!!! لا شَكَّ في أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تضع هابرماس وكل من يدور في فلكه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إمَّا أنْ ينفوا حقائق تاريخيَّة معروفة للقاصي والدَّاني وهذا منتهى الجهل والتَّجاهل أو أنَّ شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة الَّتِي يتبجَّحون بها ليست إلاَّ قناعًا جاذبًا وتَغَنِّيًا كاذبًا تتوارى خلفهما إرادة القُوَّةِ ونوازع العنصريَّة والإرهاب. والحال أنَّ رائد الفكر التَّواصليّ والدِّيمقراطيَّة التَّداوليَّة وأخلاقيات الخطاب لم يُحْسِن برسالته التَّضامنيَّة مع إسرائيل سوى انتهاك ما يُنَظِّر له ويدعو إليه. ولا أظنني أُجانب الصَّواب إنْ قلت إنَّ ثَمَّةَ قاسمًا مشتركًا وجوهريًّا يجمع بين بيان هابرماس وتصريح وزير الدِّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت الَّذِي عَدَّ الفلسطينين حيوانات متوحِّشة في هيئة بشريَّة. صحيح أنَّ هذه العبارة الأخيرة غابت عن بيان هابرماس إلاَّ أنًّ معناها حضر فيه بِقُوَّةٍ من خلال إصراره الوقح على نفي نِيَّة الإبادة الجماعيَّة عن إسرائيل بغية تأكيد تمدُّنها  وسويَّتها مقابل همجيَّة الفلسطينين وتوحُّشهم، ومن خلال اللُّغة الَّتِي يتحدَّث بها عن عملية طوفان الأقصى والنُّعوت الَّتِي يطلقها على منفِّذيها. فهو ينحى باللائمة عليهم ويصفهم بأردأ النُّعوت من مثل "الوحشيَّة الفائقة" extreme atrocity و"مجزرة حماس" Hamas massacre، في حين أنَّه يعفي إسرائيل كليًّا من المسؤوليَّة مكتفيًا بوصف ممارساتها الإجراميَّة ب"أفعال إسرائيل" Israel's actions أو "ردة فعل إسرائيل" Israel's response من دون أدنى إشارة إلى طبيعة هذه الأفعال ونوعها ومشروعيَّتها ونتائجها. ولا يحتاج واحدنا إلى كبير عناء ليدرك مدى افتقار ازدواجيَّة المعايير إلى المصداقيَّة وتعارضها مع المبادئ والقواعد الأخلاقيَّة الأساسيَّة من مثل القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق في صيغتَيها السَّالبة والموجبة (ما لا تحبه في الآخر لا تفعله أنت نفسك) و(عامِل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به)، ومبدأ قابلية الكوننة (ينبغي معاملة جميع الحالات المتماثلة في السِّمات الأساسيَّة بالتَّساوي، وأنَّ أيَّ اختلاف في المعاملة ينبغي أنْ يعكس اختلافًا نوعيًّا ملحوظًا بين الحالات الَّتِي تُعَامَل على نحوٍ مختلف). فازدواجيَّة المعايير تُشَكِّل تناقضًا في الإرادة وتهافتًا في الفكر. وهذا التَّناقض يَنِمُّ، كما نبَّهَنا كانط، عن انتهاك فاضح للواجب الأخلاقيّ ولكُلِّية قانونه. بعبارة أُخرى، تقتضي المبدئيَّة والمصداقيَّة اتِّساق الإرادة وإلاَّ فإنَّ المسافة الفاصلة بين ازدواجيَّة المعايير والعدميَّة الأخلاقيَّة قصيرة جِدًّا. وينبغي لمن يدَّعي محاربة الإرهاب والاستبداد والعنصريَّة ألا يكون منطقه ومسلماته وممارساته هي عين ما يستبعده وينفيه. وفي ضوء كل ما سبق عبثًا يحاول المرء العثور على "مبادئ التَّضامن" في هذه الرِّسالة الملئ بركام هائل من التَّضامن اللامبدئيّ غير المُبَرَّر بأيِّ وجه حقٍّ.

***

د. علي صغير

...........................

1-https://www.normativeorders.net/2023/grundsatze-der-solidaritat

2- المصدر نفسه.

3- المصدر نفسه.

4- المصدر نفسه.

5- المصدر نفسه.

6- المصدر نفسه.

عرفت الدكتور "زكي الميلاد" منذ كان يجيئ لمكتبة الإسكندرية مرارا وتكرارا، مرة رأيته مع أستاذنا الدكتور " محمد عمارة "، ومرة " مع صديقي الدكتور " عصمت نصار"، واعتقد أن الدكتور الميلاد ليس في حاجة مني إلى أسلط الأضواء عليه، بل ربما هو يعاني منها، إذ يشغل الرجل مساحة من الثقافة الفلسفية المعاصرة بما يقدمه من كتب ومقالات مهمة، واعتقد أن سؤال زكي الميلاد الأساسي كان عن "النهضة"، وهي تمثل النقطة المحورية التي دارات حولها سائر أعماله الفكرية، وهو ليس فقط باحثا عنها، وإنما مشاركا فيها، وذلك حين استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة ، وذلك في كتابه" عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، الصادر عام 2016م، حيث يرى زكي  الميلاد أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح، حيث يقول: ”تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها.

كذلك من القناعات المشتركة في نظر زكي الميلاد أن الإصلاح الفكري هو العنصر الجوهري لنهضة الأمة، وانه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كل تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا رأينا أن موضوع تجديد الفكر الإسلامي عند زكي الميلاد يعد أحد هذه الإسهامات.

لقد اهتم زكي الميلاد بإشكالية "التجديد" وذلك في كتابه " الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد "، حيث أدرك الميلاد أن المجتمعات الإنسانية تتقادم بمرور الزمن، ولذلك عمد زكي الميلاد إلى النظر للتجديد على أنه مشروعاً بذاته، ويحتاج إلى جهد علمي؛ هذا يرى الميلاد ضرورة توضيح أن التجديد في الفكر الإسلامي لا في الدين الإسـلامي الـذي لا يجـوز فيـه الزيـادة ولا الـنقص ولا التغييـر أو التبـديل ولا النسـخ أو التعطيـل ومـا شـابه ذلك، وأن المراد بالتجديد هو إصـلاح موقفنـا مـن الـدين.

وهـذا مـا دفـع زكي الميلاد إلى تأكيد ضرورة أن نبـرز فـي هـذا الوقـت نبـوغ الفكـر الإسـلامي وعبقريته الحضارية الفذة، إذ ما علمنا أننا على أعتاب دورة تاريخية جديدة يشــهدها العــالم اليــوم، حيــث التحــولات الكبــرى، والتقــدم الســريع علــى المستويات كافة، والتطورات تتلاحق بشكل مذهل مـن أصـغر الأمـور إلـى  أكبرها، حتى بات من الصعب السيطرة عليها من جهة.

وبعد أن حدد زكي الميلاد مفهوم التجديد فـي الفكـر الإسـلامي ينتقـل إلـى تحديد الآلية التي يتم بوسـاطتها التجديـد، وهـذه الآليـة تتمثـل فـي المـنهج المتبع في عملية تجديد الفكر الإسلامي. ويرى زكي الميلاد أن حركات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي نوعان: حركات فكرية دعوية منها الشيخ محمد رشيد رضا، وحركات منهجية منها حركة الإمام " الشاطبي"، والفارق بينهما في النوع الثاني هو محور الحركة، أما في الأول فإن الدعوة والإصلاح هما محور الحركة.

أما في كتاب " التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي"، فقد ذهب زكي الميلاد إلى أن الفكر الشيعي في كل دوراته التاريخية كانت له ابداعات وتجديدات في مختلف الثقافة والعلوم، لكنه في ذات الوقت أثار بعض الإشكالات التاريخية والمنهجية والسياسية التي اعترضت هذا الفكر، أهمها اختزال الفكر الإسلامي في مدرسة واحدة هي المدرسة السنية، ومحاولة إقصاء الفكر الشيعي عن واقع الحياة الفكرية والاجتماعية عن طريق دراسات تحوي مغالطات تاريخية أو عقائدية .

وأما فيما يخص ضوابط التجديد فقد حصرها زكي الميلاد في خمسة: عدم تجاوز النص بالتأويل أو التعطيل، وعدم الإخلال بالقواعد المنهجية للتجديد، والتزام المنهج الإسلامي، ومراعاة الثوابت والمتغيرات .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهو كما يرى زكي  الميلاد أن البحث في التجديد يؤدي إلى البحث في التنوير، وهنا رأيناه في دراسة له بعنوان " الإسلام والمدنية حوارات حول الفكر الإسلامي قضاياه ومسائله وإشكالياته "، أن الأسئلة الكبرى التـي تتعلـق بالتنوير، كأسـئلة الديمقراطيـة والحريـة والـدين والمـرأة سـتظل حاضرة في ساحتنا الفكرية بوصفها اختباراً للمعرفة، ومقياسـ اً للتطـور، لكـن الإجابة عنها يفترض أن تكون على الأرض وفي الميدان والتجربة لا مجـرد نظريات على الورق فقط ؛ ففيما يتعلق بالديمقراطية يرى الميلاد أن الفكر الإسلامي في طريقه إلى التصالح مع الديمقراطية، وأن المهـم لـيس وصـول الإسلاميين إلى السلطة بل المهم وصوله إليها عبر صناديق الانتخاب، معتقدا أن التحولات التي حدثت فـي عالمنـا العربـي خرجـت مـن رحـم الشـعوب المقهورة.

أما فيما يتعلق بواقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، فيـرى زكي المـيلاد في كتابه " تجديد التفكير الديني  في مسألة المرأة"، أن واقع المرأة قد تغير واختلف بصورة كبيـرة إذ أصـبحت المـرأة اليـوم أكثـر وعياً بذاتها، وبنظرها إلى مستقبلها، وبدأت تبحث لنفسها عن فـرص التقـدم في المجالات العامة، ولم تعد تقنع بالأدوار التقليدية والضيقة والمحـدودة، أو بتلك الوصايا الشديدة والشاملة من الرجل، بعد أن اكتسبت تعليمـاً جيـداً وتدريباً وخبرة وثقافة عالية.

أما في ما يتعلق برؤية الميلاد للدين فإنه يرى  في كتابه " الإسلام والحداثة من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية"، أن الدين واجه تحديات كبيرة، جعلته أمام طريقين طريـق التحـدي والبقـاء وطريق التهميش والعزلة فقد واجه الدين في العصر القديم تحدي الفلسـفة، وواجه في العصر الوسيط تحدي العلم، وواجه في العصـر الحـديث تحـدي الحداثــة، وواجــه فــي العصــر الحــالي تحــدي العولمــة واســتطاع أن يثبــت فاعليته، وغيرها من التحديات الكبرى.

لم يكتف زكي الميلاد بذلك، بل رأيناه يسعى جاهدا إلى تأكيد قيمة الثقافة والإعلاء مـن شـأنها، وإعطاؤهـا درجـة عاليـة مـن الأولوية، والاستلهام منها والتخلق بها، واعتمادها منظوراً في التحليل والنقـد والاستشـراف، فالثقافـة هـي تلـك الطاقـة والقـوة والـروح التـي تبعـث علـى التجـدد والتقـدم والنهـوض، مـع التركيـز علـى الجـوهر الإسـلامي للثقافـة، والاهتمام بأبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية.

نتيجة لذلك جاءت محاولة زكي الميلاد اقتراح مفهوم المثقف الـديني، فـي كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر)، الصادر عـام ٢٠٠٠م، الـذي حـاول فيه أن يلفت النظر إلى هذا المفهوم من خلال تحريكه في المجـال الفكـري والثقـافي، فـي سـعيه للاقتـراب مـن مفهـوم المثقـف الـديني، الـذي يجعـل مرجعيته الفكرية من داخل الحضارة الإسلامية.

وهنا يحاول زكي الميلاد طرح مفهوم إسلامي حول " المثقف الديني"، حيث يريد أن يؤسس للمثقف الديني علـى وفـق هـذه الرؤيـة، ويحاول إيجاد تمايز أو مفارقة بين المثقف الديني والمثقف الغربـي، فيـرى أن الأول مثقف ديني بطبعه ويتخذ من الدين مرجعية فكرية له، ومـن أمثلـة هذا المثقف الكندي والفارابي وغيرهم، ممـن لهـم رأيهـم المسـتقل المعبـر عن مرجعيتهم الفكرية، أما الثاني فهو على العكس من الأول، فهو غير دينـي بطبعه، ولا صلة لـه بالـدين.

أما في كتابه" الإسلام وحقوق الإنسان.. تطور الفكر الإسلامي المعاصر من التأصيل إلى التقنـين ؛ فقد حاول الميلاد أن يتتبـع تطـور فكـرة حقـوق الإنسان في ساحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر، كاشـفاً عـن طبيعـة المواقـف والأفكار، وعـن طبيعـة المسـارات والاتجاهـات، وأنمـاط تطورهـا، وصـور تعاملها مع هذه الفكرة، نقـداً وتحلـيلاً، وتأصـيلاً وتقنينـاً .

وفـي هـذا الاطـار جرى حديث الميلاد عن بواعث تجدد الاهتمام بفكرة حقوق الإنسان التـي تـأخر الاهتمـام بهـا فـي سـاحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر إلـى ثمانينيـات القـرن العشرين، وامتد هذا الحديث إلى التطور الـذي قطعـه الفكـر الإسـلامي فـي التحول والانتقال من التأصيل الفقهي والشرعي، إلى التقنين في صورة صـيغ ولوائح قانونية وتشريعية.. وللحديث بقية، حيث يكون موضوعنا المقبل عن إشكالية الحداثة لديه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، بمصر.

............................

المراجع:

1- زكي الميلاد: كتاباته المشار إليها في المتن.

2- مصطفي خليل خضر: إشكالية التجديد في الفكر السياسي المعاصر " زكي الميلاد" نموذجا، مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة، 2018.

3- حليمة بو كروشه: الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، دار الصفوة، بيروت ـ 1994.

(إن الإيمان والحب يخلقان الناس، لكن السيف ومئة رغبة نهمة تخلق الدولة!!)... نیتشه، هكذا تكلم زرادشت

انها الكلمة

جاء في قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي ان (الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاعاً شامخات يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نبيٍ وبغي، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية إن الكلمة مسؤولية) وبالعودة الى متن هذا النص المختصر والنظر مدلولات الفاظه مع ضرورة تجاوز سياقه التاريخي  يمكن الجزم  دون تردد ان تاريخ الرجال العظماء بقطع النظر عن الانتماء العرقي والديني  يمكن التماسه في تلك الكلمات الخالدة  التي حررت النفوس المستعبدة من عقال الجهل والذل والخوف وزلزلت بصدقها  اركان دولة الظلم في مشارق الأرض ومغاربها قديمها وحديثها ولكن يجب ان نتفق أيضا نتفق أيضا على ان هذه الكلمات التي اختزلت حياة هؤلاء العظماء كانت في نفس الوقت سبب محنهم  سواء تعلق الامر  بالفلاسفة أو العلماء والشعراء و محنة العلامة الفقيه المتكلم الشاعر الصوفي أبو الفضل ابن النحوي والذي ولد سنة 513هجري هي بلا شك حلقة بارزة في تاريخ النبل البشري فهي محنة المؤمن المبتلى في عقيدته والمثقف الملتزم الثائر المنتصر للحق الذي تذوق الحقيقة  بقلبه وجرؤ على استخدام عقله وأدرك بنور الله ان العقل حق والشريعة حق والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له،محنته بدأت عندما عاين  واقع الظلم ببصره وادرك ضرورة قيام دولة الحق والعدل بنور الوحي ومنطق العقل   فانكشفت له انوار الحقيقة بعين بصيرته.

وبين ظلم الولي وحسرة المظلوم أمسى ابن النحوي في محنته غريبا بين من لَهُ دِينٌ بِلَا أَدَبِ وَمَنْ لَهُ أَدَبُ عارٍ مِنَ الدِّينِ. واشتدت محنه حينما حاصره بعض الفقهاء و ساسة عصره الذين صادروا الحق في التفكير والصقوا بكل مجتهد وثائر تهمة التكفير في مغرب القرن الخامس الهجري،ضيق عليه الكثير من المنتفعين من جهل العوام وأصحاب المال وجلساء موائد السلطان  فعاش أبو الفضل غريبا غربة الجسد والروح ومات ودفن غريبا غربة الوطن .

في مسببات المحنة ومستوياتها

يوسف بن محمد بن يوسف أبو الفضل المعروف بابن النحوي التوزري الحمادي، أصله من توزر وهي احدى مدن الجنوب التونسي ومسقط الشاعر ابي القاسم الشابي بها تلقى تعليمه الأول على يد والده ثم على يد  شيخه اللخمي والمازري وغيرهما من علماء وفقهاء القيروان عرف بكثرة اسفاره وعشقه للحرية كان صاحب إرادة قوية وطموح وفراسة  عاش بتلمسان مدة وزار المغرب فدخل سجلماسة وفاس ووجد فيهما من أهل الحكم مقاومة لآرائه الكلامية فرحل إلى قلعة بني حماد بالمغرب الأوسط، وعاصر الدولة الحمادية بالقلعة وبجاية والزيرية بالمهدية والمرابطية بمراكز مراكش، دخل سجلماسة وأقرأ بها الأصلين: علم الكلام  وأصول الفقه فتضايق منه احد اعيان  البلاد من ذوي الجاه والمال وهو ابن بسام فأمر بإخراجه من المسجد، ثم انتقل إلى فاس وانتصب بها للإقراء والتعليم فضايقه ابن دبوس وهنا تجلت محنته  فرجع الى قلعة بني حماد وأخذ نفسه فيها بالتقشف وليس الخشن من الصوف وأقام بها إلى أن توفي .

بالمسجد الجامع داخل اسوار قلعة بني حماد والذي تمد جدرانه الى مسافة 7 كلم تقريبا كان يدرس ابن النحوي،وداخل ساحة المسجد لايزال بالإمكان رؤية مكان المحراب والمنبر ولاتزال  مئذنته واقفة بشموخ  وهناك بالقرب من قصر المنار مكتبته واسفل القلعة بقرية الفضل مسجده وضريحه درس الفقه وعلم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم الكلام وكان على دراية بالفلسفة والمنطق واذا كان الفقه غايته معرفة النفس مالها وماعليها وكان علم أصول الفقه يرمي الى بيان مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فان علم الكلام هو علم يدافع عن العقائد الايمانية بالادلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في العقائد . رسالته التعليمية تجسدت قولا وفعلا في قلعة بني حماد وامتدت الى أماكن أخرى .

وبناء قلعة أميرية بجانب المدينة الشعبية كما يشير الى ذلك صاحب كتاب دراسات في العصر الوسيط في الجزائر والغرب الإسلامي الدكتور علاوة عمارة هي ظاهرة عامة في التاريخ العمراني والتي نجد بعض مراحلها في نموذج مدينة قلعة بني حماد. فبعد مرحلة أولى اتسمت ببناء دار بني الإمارة بجانب الجامع الأعظم، نجد أنّ أهم المدن الإسلامية عرفت ما نسميه بظاهرة عسكرة المدينة من خلال بناء "قصبة" في أعلى المدينة الشعبية مخصصة للأمير وحاشيته، ويتجلى هذا بالنسبة لمدينة القلعة في البناءات الواقعة في سفح الجبل مباشرة، والتي نجد فيها خصوصا قصر الملك وقصر الكوكب الذي ما زالت بعض أجزائه السفلية قائمة. وفي المرحلة الثانية المتممة لنموذج المدينة العسكرية نجد بأن النخب العسكرية التي شکلت کیانات سياسية، بربرية في بلاد المغرب أو تركية في بلاد المشرق، عملت على بناء قلعة عسكرية متصلة بمحيط المدينة مهمتها حماية البلاط من خطر تمرد الرعية، تكون مقرا لإدارة الحكم. ويتجلى لنا هذا بوضوح في قلعة تقربوست بجانب مدينة القلعة، وبحي المنظرة بالنسبة لبجاية، وفي بلاد المشرق نجد خصوصا قلعة الجبل المطلة على مدينة القاهرة. وقد تمركزت جهود العلماء التعليمية والإنتاجية في قلعة بني حماد وبجاية بإستقطابهما لـ 120 شخصية علمية من مجموع 243 الذين عرفتهم الجزائر الحمادية. بالرغم من سابقة القلعة التاريخية والسياسية واستقطابها لاكثر من 50 شخصية، الا ان  بجاية سرعان ما تمكنت من تحقيق تقدمها العلمي بفضل استقطابها لأكثر من 74 شخصية علمية، ويرجع هذا إلى استقرار بلاط الإمارة الحمادية بها وإلى تشجيع الأمير العزيز بالله (498-1105/515-1121) للإنتاج المعرفي. بعد بجاية،والقلعة تحتل وارجلان المرتبة الثالثة من حيث الأهمية من خلال حضور أكثر من 18 شخصية علمية كلها إباضية، على اعتبار أنّ هذه المدينة بواحاتها قد أصبحت المعقل الرئيسي للمجموعات الإباضية الوهبية.

وهكذا يمكن القول ان محنة ابن النحوي لم تكن وليدة تعصب اعيان سلجماسة من امثال ابن بسام او قاضي فاس ابن دبوس او حرق كتاب احياء علوم الدين لابي حامد الغزالي وانما هي امتداد لمحنة امة مزقتها الفتن والصراع بين الامراء حول امتلاك السلطة والمنفرجة كقصيدة خالدة مثلا  لم تكن تستهدف في متنها ونغمها،ظاهرها وباطنها الخلاص الفردي لكاتبها وناظم ابياتها بل هي ابعد من ذلك إنها ترجمان ازمة ضمير تم تخديره، وانسان خلق للعبادة بأوسع معانيها امسى في عطالة فكرية وحضارية .والايمان بانفراج الازمة بعد اشتدادها  يعني الايمان بسنن الله في خلقه. فالأزمة كما كان يقول جمال الدين الافغاني:" تلد الهمة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك"

وفي اعتقادي ان هذه الازمة التي امتحن بها ابن النحوي لها مستويات:

أولا: هي ازمة تعكس التوتر بين المثقف الملتزم بقضايا امته والحاكم المستبد فالأول عاشق للحرية يواجه السلطة السياسية بثبات وحكمة الانبياء يزاوج في معركته بين سلاح الكلمة ورهبة الصمت و الثاني ظالم مستبد يشيع الخوف ويشتغل على كسر ارادة الحياة لدى شعبه وهنا نفهم ان كثرة اسفار ابن النحوي هي تحرر من قيود المكان وجور السلطان وجهل العوام وتتجلى قدسية الحرية في اسراء الروح ومعارجها نحو ما يحيي الروح، ومن سجن الجسد الى عوالم النفس الخفية من خلال قول كلمة الحق نثرا وشعرا وامثالها سلوكا .

ثانيا: هي ازمة فكرية تعكس مخاوف بعض الفقهاء من فقد المكاسب المادية وقربهم من حاشية السلطان وهذا الامتياز المادي والمعنوي مشروط بقدرتهم على سحر العوام بخطاب الولاء المطلق لولي الامر والتركيز على رغبات الناس اللاشعورية ومخاوفهم من خلال خطاب الوعد والوعيد.

ثالثا: هي ازمة لها علاقة برسالة الولي الصالح فالعالم الرباني الزاهد في الدنيا والذي اقترب من مقام التقوى هو على الدوام لسان [حال] المظلومين وناطقهم المفوض، ومنذر العلماء والمنبه لضمائر الملوك..وحزنه والمه مرتبط بمدى تحقيق هذه الغاية ..زمن هنا، كان الزهد في ما يمتلكه السلطان من مال وجاه يجعل المتصوف أكثر قوة في مواجهته وأعلى قدرة في التمرد عليه لذا كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة، خياراً استراتيجياً لمعظم المتصوفة.

رابعا: هي ازمة روحية المتصوفة أشد الناس شعوراً بغربة الإسلام، بعكس معظم الفقهاء الذين كانوا يمضون في ركاب السلطة، وكان أول أدواره «الزهد» ثورة ضد كل من سلطة الدولة وسلطة رجال الدين وسلطة المال، باحتكامه إلى الضمير الإنساني. وقد يخيل للبعض أن السلطة والتصوف خصمان لا يلتقيان، فالسلطة عملية اجتماعية حركية، فيما التصوف، بزعمهم تجربة انكفائية، تنأى عن الحياة وشواغلها وعن السياسة وتوابعها بصفة خاصة. لكن مثل هذا الادعاء قد يصدق على التصوف الفردي أو على الزهد في جانبه السلبي، أما التصوف الإسلامي فقد كان منذ البدء بمثابة رد فعل على الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية، ومنحى معارضة ضد السلطات الزمنية القائمة بكل أنواعها. التساؤلات التي تطرح نفسها، وبشدة هنا، هي: هل لدى المتصوفة السلطة أم لا؟ وما حدود ما ينسب إليهم من أو مفهوم عن كانت السلطات الأخرى، على أساسها ووفق إملاءاتها تعمل على استمالتهم أو اضطهادهم، فيما كانوا يخوضون غمار هذا الصراع استناداً إلى موقعهم من موازين القوى السياسية والاجتماعية والدينية في المجتمع؟

ثنائية السلطة والعقل

يجب ان ننبه هنا انه لايمكن باي حال من الأحوال ربط مفهوم السلطة بالسلطة السياسية او هيمنة الدولة فهناك دائما اشكال مختلفة للسلطة بداية من سلطة العادات و التقاليد مرورا  بسلطة المال و السلطة الابوية ووصولا الى  سلطة الاعلام والسلطة الدين  وغيرها من الاشكال الأخرى  لذلك نجد ميشال  فوكو يعتبر الدولة جزءا من السلطة وليست كل السلطة وبالنسبة لمحنة ابن النحوي سنتحدث عن سلطة الدولة في اطارها التاريخي القرن الخامس الهجري وكيف تم توظيف الدين في دولة المرابطين والسلاجقة وحتى الحماديين لخدمة السلطة وحمايتها والدفاع عنهاوهنا نلمس بعض القواسم المشتركة ومنها اشتغال السلطة في هذه الدول على ضمان  (الاستقرار والاستمرار في السلطة والرغبة في الإخضاع وضمان الولاء، ودفع المعارضين وإزاحتهم عن الساحة وإقصاء المناوئين والخارجين على طاعة السلطة، والحفاظ على أمنها ومصالحها والسعي في تحقيق أهدافها الخفية والمعلنة.. الخ). وهذا ما اكد عليه صاحب كتاب ولاة و أولياء السلطة و المتصوّفة في إسلام العصر الوسيط للدكتور محمد حلمي عبد الوهاب وكتخريج لكتابه أشار الى نقاط مهمة نوردها على النحو التالي :

1- في اعتقادي- وهذا الكلام للكاتب-  يصلح التصوف قاعدة لمشروع سياسي، أو على الأقل أن يشكل إطاراً عاماً لمشروع سياسي ناجع، إذ يُنتج التصوف من ناحية، قيماً ذات مدلولات سياسية بينة، يأخذ بعضها معنى سياسياً محضاً، أو ينطوي في جانبه الفلسفي واللغوي العام على جوانب تمس ظاهرة السلطة، كمقومات الإمامة في الولاية الصوفية وعناصرها الرئيسة : العصمة - الشفاعة ـ الكرامة. كما يؤسس التصوف لقيم أخلاقية - سياسية، مثل التسامح والانفتاح والانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط آخذين بالاعتبار أن التصوف ينتج ما يطلق عليه علماء النفس والاجتماع مبدأ الثناقيمية» أي قيماً متعارضة أو متضادة، فاللغة الصوفية على سبيل المثال تُعلي في رمزيتها استغلاقها على الأفهام من قيم التمسك والتعاون ووحدة الهدف والمصير والانتماء للجماعة داخل مجتمع المتصوفة.

2- في قراءتنا لموقف المتصوفة من السلطة بدا واضحاً أن الاتجاه لدى المتصوفة تمثل في معارضة السلطة على تنوعها، فالزهد في ما يمتلكه السلطان من مال وجاه يجعل المتصوف أكثر قوة في مواجهته وأعلى قدرة في التمرد عليه لذا كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة، خياراً استراتيجياً لمعظم المتصوفة.

3- يقودنا هذا إلى حقيقة مفادها أن اهتمام المتصوفة بالسياسة لم يكن اهتماماً سياسياً أو تاريخياً فحسب، كما خُيّل للبعض، وإنما كان، إضافة إلى ذلك، اهتماماً صوفياً، ينبع من مقام «التقوى»، ويدور حول معاني العظة والاعتبار بالمعنى الصوفي، ففي الوقت الذي تلهج فيه العامة بحديث ساستها بغية «الحظوة»، يولع المتصوفة أيضاً بحديث الأمراء والجبابرة، ليقفوا على تصاريف قدرة الله فيهم. ينبع اهتمامهم من إيمانهم بمسؤولية الإنسان اتجاه مجتمعه ووطنه وامته.

4- بديهي أن يعارض المتصوف واقع الظلم الذي يتكشف له بعين بصيرته، وأن يلتزم الحق والعدل والصدق، فهم أهل الحق يتوقون إلى معانقة الحق وسيلة للخلاص من الواقع المرفوض، إذ يرون السلطة في أيدي من لا يفقه شيئاً غير التلذذ بامتيازاتها، بينما يريدونها سلطة مثقف، يحس في ذاته بما يزيد على المطالب الخسيسة للحكام مثالاً للقطب الذي يرى بنور الله ويتصرف وفق إرادته. وحقيقة القول، إن اتخاذ المتصوفة مقاطعة السلطة مبدأ لا يعني عدم اهتمامهم بشؤون الخلق، وإنما على العكس من ذلك، يعد موقفهم هذا امتداداً لموقف بعض الصحابة والتابعين الذين اعتزلوا الساحة السياسية، معلنين رفضهم القاطع الدخول في سجالات سياسية ذات صبغة دينية،

5- يرفض المتصوف سلطة الدين التي وظفت في خدمة السلاطين جاهداً، ويسعى عن السلطة السياسية بارتفاعه المحايد عن هوى المتصارعين على السلطة، وبخاصة بعدما بدا لهم واضحاً أن الأمة ماضية في طريقها إلى التضحية بالشريعة لصالح السياسة، ومن ثم كان موقف المتصوفة شديداً تجاه فقهاء السلطة الذين تحالفوا مع ممثلي السلطة السياسية، مؤسسين لأقوى أنواع التسلط والقهر والاستبداد، حيث لم تتوقف أولوية السياسي على الديني والحال هذه ـ على جانب دون آخر وإنما تشمل كل الحقول التي تمارس فيها السلطة،فعلها فمن تبنّي منهج تصفية الخصوم وقمع المعارضين والمناوئين باسم الدين، إلى تبرير الاستعانة بالأعداء في مجابهة الثورات الداخلية، إلى إزاحة الأنداد داخل محيط الأسرة الحاكمة... إلخ، في كل الأحوال كان واقع ممارسة السلطة المستغلة للدين هو مصدر الداء.

ومن ناحية أخرى يتجاوز خطر الممارسة الصوفية نطاق المريد ليشمل

6-  أشد ما تخشاه السلطة السياسية هو التأييد الجماهيري الذي يحظى به فقيه أو ولي أو أي ممثل لسلطة دينية على الأخص وفكرية عامة، فبإمكان من يستحوذ على هذا التأييد أن يحوله إلى ثورة لا تبقي ولا تذر، وبخاصة في الأوقات التي تكون فيها تلك الجماهير مصابة بحالة من الاحتقان السياسي رافضة السلطة وسياستها، وبدلاً أن من خليفة يوصي لوصيه قائلاً الله الله في الناس، نجد بعض الوصايا تحذر: العامة العامة!

وكأنها وباء.

7- تنظر السلطة، كل سلطة، إلى الناس عموماً بوصفهم أدوات، أو عقبة،

أو عبئاً : أما الناس الأدوات، فهم مادة بتصرف سلطات مثلث الحصار والهدر والغبن، يتم التلاعب بهم وبمصيرهم لخدمة سطوة السلطة وتوطيد أركانها، أو تأزيل وجودها في صراعها مع السلطات الأخرى [كتوظيف الفقهاء قديماً والمثقفين حديثا)

وأما الناس العقبة ومصدر التهديد فهم الخصوم الذين يشككون في شرعية المستبد [ كالمتصوفة والعلماء المستقلين والمعارضين السياسيين ] . . .

وأما الناس العبء فهم تلك الشرائح الزائدة عن الحاجة . . . إنها تلك الكتلة البشرية المكررة والتي لا لزوم لها [ ممن تسميهم السلطة، كل سلطة، العوام - الغوغاء - الرعاع .

وتكشف رسائل المأمون المتعلقة بمحنة خلق القرآن عن تصور السلطة

للرعية المحكومة أو العوام، يقول في واحدة منها: «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة[!!]، ممن لا نظر له ولا روية (...) أهل جهالة بالله (...) وقصور لضعف آرائهم ونقص عقولهم

***

علي عمرون - أستاذ مادة الفلسفة

......................

الهوامش

* هو محمد بن علي بن عمر بن محمد، أبو عبد الله التميمي المازري، عرف بالإمام الفقيه المالكي، ولد في عام 453هـ في مدينة المهدية في تونس، برع هذا الفقيه في العديد من العلوم منها؛ الأدب والطب والرياضيات، وبات يعرف بأحد أشهر فقهاء عصره في حفظ الأحاديث وشرحها، كما عرف بعلمه الغزير وورعه وتواضعه

02* جاءت وفاة الإمام المازري في يوم 8 من ربيع الأول عام 530هـ، الموافق 12 تشرين الأول لعام 1141م، عن عمر ناهز الثالثة والثمانين، قضاها هذا العالم الجليل في العلم والعمل، وكانت الوفاة في مدينة المهدية، في عهد الحسن بن علي بن يحيى بن تميم المعز، وقد كان لموت الإمام المازري أثراً عظيما لدى نفوس الناس حيث حزن عليه الجميع.

03*  يوسف بن محمد بن يوسف المعروف بابن النحوي (513هـ/1119م):

ومن اثار ابن النحوي :

التذكرة في علوم الدين، قال عنه الغبريني: "هو كتاب،حسن طالعته وكررت النظر فيه فرأيته من أجل الموضوعات في هذا الفن.

2- النبراس في الرد على منكر القياس، قال عنه الغبريني: "هو كتاب مليح على ما أخبرت عنه ولم أره، وأنا شديد الحرص عليه".

3- له كتاب في علم التذكير: "التفكير فيما تشتمل عليه السور والآيات من المبادئ والغيايات"، قال عنه الغبريني: هو كتاب جليل سلك فيه مسلك أبي حامد في كتاب الأحياء، وبه سمي أبي حامد الصغير .

السعي المفرط للمثالية والكمال كان معاناتي لفترة ليست بالقصيرة للحد الذي منعني من رؤية أياً من المزايا والنعم التي امتلكتها يوماً لإعتقادي دوماً أنه في مكانٍ ما.. في ظروف أخرى.. يوجد المزيد. مزيداً من النجاح، مزيداً من السعادة، مزيداً من الجمال، مزيداً من الحياة.

قضيت أجمل سنوات عمري في الجحيم، في جهنم لاتكتفي ولا تمتليء كلما غذيتها بالإنجازات صرخت بي "هل من مزيد؟". غير مدركة في ذلك العمر المبكر لحقيقة أن جميع ماكان حولي يدفعني كانثى إلى ذلك الإزدراء وأن الشعور بالأقلية والنقص أمام معايير الجمال ومعايير النجاح عبارة عن مؤامرة ممنهجه أوجدتها قوى خفية شديدة المكر والخبث لتسليع الجمال وإعطاؤه أكبر من قيمته الفعلية لضخ الأرباح لشركات التجميل وإنعاش الإقتصاد بطرق ملتوية.

إختلاف معايير الجمال لكل عصر لها بعد تاريخي غرائزي يعود لبداية الحضارة حينما أدرك الرجل أن لجسد المرأة أغراض أخرى غير الوظائف الرئيسية التي خلقت فطرياً لأجلها للتكاثر والإنجاب وبواعث أخرى للمتعة ثم بدأت تلك الحاجة تكبر بالتدريج حتى وصلت إلى مانشهده اليوم من هوس وإضطراب جماعي.

تقول الكاتبة والناشطة في حقوق المرأة فترة التسعينات "نعومي وولف" في كتاب خرافة الجمال :" كيف تستخدم معايير الجمال ضد المرأة، ومع تصاعد القوة الإقتصادية والإجتماعية للمرأة زاد الضغط عليها لتلتزم بمعايير غير واقعية للجمال البدني.

نشأة نموذج الجمال الحالي كأداة للسيطرة على المرأة

قبل الثورة الصناعية، كانت القيمة الاجتماعية للمرأة تقاس على أساس ما تؤديه من أعمال في الإطار المنزلي. وتشكلت حياة المرأة آنذاك حول عدد من السمات مثل القدرة على العمل، والقوة البدنية، ودرجة الخصوبة، وليس الجمال البدني.

لكن مع حركة التصنيع، تزايدت مستويات الحرية والحقوق التي حصلت عليها واضطر النظام الرأسمالي للبحث عن أسلوب أدق وأكثر خداعًا يُطيح بما اكتسبته المرأة من حريات ويخفّض من نطاق قوتها.

وتفتّق ذهن هذا النظام الأبوي عن نموذج للجمال غير واقعي، أسمته المؤلفة “خرافة الجمال”، والتي تحتفظ بالمرأة سجينة بين أسوارها، وفي حالة تنافسٍ مدمّر مع نفسها، ومع الأخريات من النساء. ونظرًا لأن مواصفات هذا النموذج تتغير وتتباين من فترة لأخرى، فإنّ هوية المرأة المنصاعة لهذه الخرافة تظلّ في حالة من الهشاشة والضعف، وفي حاجة دائمة لتعزيزٍ وتأييد من الخارج بدلاً من استخلاصه من رضاها عن ذاتها.

وتدعي هذه الخرافة أنّ هناك موصفات لا يمكن تحديدها بدقة تسمى “الجمال النسائي”، والتي يجب على المرأة أن تبذل قصارى جهودها للتحلي بها، ومتابعة تطوراتها وصرعاتها والحفاظ عليها. وعزز من هذه الخرافة بعض وجهات النظر التي ترى أن الجمال صفة بدونها تصبح المرأة دون قيمة. وكم رأينا من نساء يحتللن قمة تخصصاتهنّ المهنية يتعرّضنَ لضغوط شديدة لتبدين في صورة جميلة طبقًا لهذه المعايير غير الواقعية".

الكاتبة سلطت الضوء على ثورة الجمال فترة التسعينات وما قبلها فكيف بما يحدث الآن من الضغط الإعلامي والإعلاني ومنصات التواصل الإجتماعي بترسيخ مفهوم الجمال البدني كقيمة أساسية ووحيدة للمرأة التي تتحكم بمستقبلها بشكل كامل، نعم أصبح الجمال غاية وتحقيق للنجاح المالي والوظيفي لنأخذ على سبيل المثال مسابقات ملكات الجمال ما ان تحصل إحداهن على اللقب حتى تنهال عليها العروض العالمية من شركات التجميل والأزياء والإنتاج السينمائي للحصول على أدوار رئيسية في المسلسلات والأفلام حتى إن لم تملك أدنى مقومات الفن او الذكاء والإبداع يكفي فقط أن تكون جميله لتحصل على كل ماسعت إليه أي انثى أخرى وعملت جاهدة للحصول إليه، والأمر ينطبق كذلك في الوظائف وتقريبا معظم المجالات.

قبل عدة أيام وقعت عيني على مقطع فيديو على إحدى منصات التواصل الإجتماعي بإستخدام فلتر للوجه صمم بناءً على وجه فنانه مشهورة والتشوه الذي عانت منه جراء عمليات التجميل، صدمت من شراسة التنمر واللإنسانية وغياب الوازع الأخلاقي خلف الأسماء المستعارة للإستهزاء بهذه الأنثى والتحجيم الكامل لفنها وانجازاتها الجميلة حتى بالرغم من تصريحاتها بالأزمه النفسية التي مرت بها من تلك التعليقات لم تجد من يرحمها، فهناك حسابات تديرها للأسف إناث يعززن هذا الإستعراض النرجسي التافه ضد بعضهن والتنمر على كل من ظهرت لها تجعيده تحت عينها او حبه في وجهها او شعرة بيضاء واحدة في رأسها والتبجح على الآخرين بالفوقية وفرض معايير الجمال والأناقه وأسلوب الحياة الباذخ وبالمقابل التقديس المفرط لمن يملكن هذه المواصفات بدل من تعزيز ثقة المرأة بنفسها وتذكيرها بقيمتها الذاتية بعيداً عن الهوس التافهه.

أتكلم هنا بمنتهى الشفافية والصدق محاولة تذكير غيري بقيمتهن الحقيقية وإنقاذ مايمكن إنقاذه من الثقة بالنفس وراحة البال التي أخيراً شعرت بها  حينما وضعت معاييري الخاصة للجمال والنجاح والقوة بعيداً عن الخضوع تحت سيطرة التفاهه والموضة بعد جهد كبير في الوعي والقراءة والتأمل وتحليل الوعي الجمعي.

إفعلي عزيزتي ماتريدين .. فأنتِ جميلة دائماً كما أنتِ

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

......................

مرجع:

The Beauty Myth، Naomi Wolf "an American feminist author"

يقول أَحدُ المشتغلينَ باللاهوتِ: "النفسُ الداخِلِيَّةُ الحقيقيَّةُ ليست هي الأنا، بل الأنا هو صورةٌ عن هذه النفس الداخلِيَّةِ". وأنا أُضيفُ لِما قالَهُ بِأنَّ الأنا هو صورة مُشَوَّهَةٌ مُتَضَخِمَةٌ عن هذه النفس.

القُرآنُ الكَريمُ تحدَّثَ عن ثلاثِةِ أنواعٍ من الانفس، وفي الحقيقةِ، أنَّ القُرآنَ الكريمَ تَحَدَثَ عن نفسٍ واحدةٍ تعرضُ عليها عوارضُ ثلاثةٌ.

1- النَّفسُ الأمّارةُ بالسوء: وهي النَّفسُ التي تأمُرُ صاحبَها بالسوء والمعصِيَةِ، يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى عن هذه النفسِ:(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).يوسف: الآية:(53).

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41) . "النازعات:الآية:40-41" . والنفس التي تميل للشهوات وتحتاجُ الى ارادةٍ صلبَةٍ لكبحِ جماحِها، هي النَّفسُ الأمّارَةُ بالسوء. وكذلك قولُهُ تعالى:

(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ). البقرة: الاية:(87).

والنفسُ الأمّارةُ بالسوء هي التي تسير مع هواها ولاتقبلُ أَيَّ أمرٍ يخالفُ هواها.

2- النفس المُطْمَئِنَّة: وهي النفس التي وصلت الى حالةَ الرضا والاطمئنان يقول اللهُ تعالى:

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)الفجر: الاية:.(27)- (28) . وهناك نفسٌ اخرى هي:

3- النَّفسُ اللّوامَةُ: وهي التي تلومُ صاحبها على الشنيعِ من افعاله، يقول الله تعالى:(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).القيامة:الآيَة: (2) .

وظيفةُ النَّفسُ الداخِليَّةُ

النَّفسُ الداخِلِيَّةُ الحقيقيَّةُ التي وصفها بهذا الوصف هذا الباحثُ اللاهوتيُّ المُشارُ اليهِ في أولِ المقال، هي النفسُ التي تقودُ صاحبَها الى الحَقِ جلَّ جَلالُهُ يقول الله تعالى:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).فصلت:الآية: (53).

الآياتُ الأنفسيَّةُ كما هي الآياتُ الآفاقِيَّةُ تقود الانسانَ الى الله تعالى " حتى يتبيّنَ لهم أنَّهُ الحق"، والنفس الداخِلِيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ تكتشفُ الصواب، ففي قصة ابراهيم الخليل وتحطيمه للاصنام، وقوله لهم ( بل فعلهُ كبيرُهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون)، هنا الله تعالى يقول:

(فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ). الانبياء:الآيَة: (64).

وكذلك هذه النفس الداخليَّةُ تستيقن الحق أي تصل الى حالة اليقين، كما في قولهِ تعالى:

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).النمل:الآيَة:(14).

ولعالم النفس النمساوي صاحب مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد تقسيم ثلاثي في تحليلِهِ للشخصيَّةِ الانسانية هي:

1- الهُوَ (id): وهي التي تُعَبِّرُ عن الجانبِ البيولوجي للشخصِيَّةِ، والذي يمَثِّلُ الى الشهواتِ والغرائزِ والميولِ الهابِطَةِ.

2- الأنا(ego): وهي الحالةُ التي تتوسطُ بينَ الهُو والأنا العليا، ويعتبرها فرويد واقعيَّةً تتعاملُ مع الوقائعِ.

3-الأنا العليا(super ego): وهي النقيض للهو، وهي مثاليَّةٌ تهتَمُّ بالمثل العليا والأخلاق والقِيَم.

الأنا في القرآنِ الكَريم

تحدَّثَ القرآنُ الكريمُ عن هذهِ الظاهرةِ المَرَضِيَّةِ في الشَّخصِيَّةِ وهي تَضَخُمُ الشَّخصِيَّةِ وَانتِفاخُها . تحدث القرآنُ الكريم عن قِصَّةِ يُوسُفَ وكيفَ أَنَّ اخوتَهُ ارادوا قتلَهُ واخيراً صارَ قرارُهم النهائي أن يُلقُوهُ في غيابت الجُب. هذهِ هي الانا

المُشتقة من الأنانِيَّة، والتي تكمن فيها كلُّ الرذائلِ الأخلاقِيَّةِ . يقول الله تعالى:

(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).يوسف: الآية: (9).

وكذلك الأنا المتضخمة المريضة هي التي اوحت الى قابيل بقتل اخيه هابيل، يقول الله تعالى:

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). المائدة:الآية: (30).

ابليس والأنا

ابليس الذي رفض السجود لآدمَ استكباراً وعُلُواً، رفض السجود لآدمَ ولم يطع الأمرَ الآلهي لانَّ الانا والغطرسةَ ملأت كيانَهُ ؛لأنَّهُ كانَ عابِداً ولم يكنْ عبداً حسب تعبير العلاّمَة الشيخ حسن زاده آملي رحمه الله تعالى. يقول الله تعالى:(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). الأعراف: الآية: (12).

وهذا هو حالُ فرعون الذي تضخمت الأنا عنده فاحتقر موسى عليه السلام بقوله:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).الزخرف:الآية: (52) .

وتجاوز فرعونُ كلَّ الحدود بدعواه الالوهية، يقولُ الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ). القصص: الآية:(38). وكذلك ادَّعى فرعونُ الربوبيَّةَ بقول الله على لسانه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ). النازعات:الىية:(24).

وقارون الذي عَزَّى ماعنده من ثروةٍ هائلَةٍ الى مايمتلكهُ من عبقرياتٍ ومواهب ونسيَ رَبَّهُ الذي اعطاه الرزق وخلق له عقلَهُ وملكاته، الانا اذا تجاوزت حدودها تنسى الله تعالى . يقولُ اللهُ تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ).القصص:الآية:(78).

وهناك انموذجات كثيرةٌ قَدَمَها القُرآنُ الكريمُ للذين اهلكتهم اناهم وانانيتهم كصاحب الجنتين والامثلةُ كثيرةٌ في كتاب الله تعالى.

تبين لنا من خلال هذه الجولة الفوارق بين النفس الداخلية وبين الانا الذي هو صورة مشوهة ومضخمة لهذه النفس، ومن هذه الفوارِقُ أيضاً هو كون النفس ينساها صاحبُها، أَمّا الأنا فلاينساها ؛ لأنَّها حاضرةق عنده . طل هذه الشواهدُ تثبتُ بشكلٍ لاشكَ فيه أَنَّهما متغايران.

***

زعيم الخيرالله

"كانت قصة حرب طروادة (1184 - 1194 ق.م) أسطورة في كتاب ديني يوناني ألفه هوميروس بين القرنين التاسع والثامن ق.م، وحين اكتشف الآثاري الألماني هانريش شليمان سنة 1870م مدينة طروادة تحولت إلى حقيقة تأريخية، فهل يمكن أن يحدث ذلك لقصة موسى وفرعون وغيرها من القصص التوراتية التي تكرر بعضها في الكتب الدينية الأخرى كالأناجيل الأربعة والقرآن الكريم مستقبلا؟"

هذه هي الخلاصة التي توصلت إليها الدكتورة منى حجاج أستاذة التأريخ اليوناني والروماني في جامعة الإسكندرية بمصر ورئيسة جمعية الآثار فيها، فهي لا ترى ما يمنع من حدوث ذلك، وعلى حدوثه إنما تعلق قرار اعتبار قصة موسى وفرعون في مصر القديمة حدثاً تأريخياً أما الآن فهي قصة في كتاب ديني هدفه الهداية كما تقول وليس التأرخة طالما عدمنا وجود الأدلة المادية الملموسة التي تؤكدها.

كان للسيدة حجاج لقاء فيديوي مع مدون وصانع محتوى هو أشرف عزت الذي يعرِّف نفسه على صفحته على مواقع التواصل بـ "المؤلف والطبيب والمخرج السينمائي". ورغم نفوري غالبا من الفيديوات التي يتكاثر صناعُها غير المتخصصين والعابثين والمصابين بحُبِّ الظهور والشهرة "الطشة" هذه الأيام، ولكني أجد أحيانا في بعضها لقاءات مفيدة مع باحثين وأساتذة جامعيين متخصصين مفيدين يعرفون عمَّ يتحدثون بطريقة منهجية علمية متواضعة تفيد المشاهد والقارئ.

شاهدت مؤخرا تسجيلي فيديو؛ الأول وسأحدثكم عنه الآن والآخر في مناسبة أخرى. وسأنقل بعض تفاصيله وأعلق عليها بلغة الإعلامي الذي يعرض المعلومة ويحللها في سياقها لا بلغة الباحث المتخصص عارض العلم المنهجي ومُنشئ المفاهيم والنظريات فلست باحثاً أكاديمياً متخصصاً في الآثار والإناسة:

اللقاء إذن كان مع د. منى حجاج وفيه ذكرت المعلومة التالية بخصوص كلمة "فرعون" ومشتقاتها وقدمت مقاربة ذكية وعملية ولكنها توفيقية رغبوية أيضا لقضية شديدة الحساسية هي عن التناقض بين الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل والقرآن من جهة وبين كتب علوم التأريخ والآثار الحديثة. هذه المقاربة العملية التي تنأى عن لغة التكفير وشطر الباحثين في المشهد العلمي إلى فريقين واحد مؤمن والأخر ملحد - على طريقة نظرية الفسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، لابن لادن - وليس إلى آراء ونظريات وفرضيات مختلفة ومتخالفة أحياناً، تقبل التصويب والتخطئة. ولكنها مقاربة قد لا تحل التناقض أو بين السرديتين الدينية والآثارية العلمية وفي الأقل تطرحها من منظار تحليلي هادئ ورصين ينأى عن التكفير الديني للخطاب الآثاري العلمي وحملته أو التسفيه العلماني المتطرف للطرح الديني والمدافعين عنه:

تقول السيدة حجاج: "كان الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وإلى الآن نسميهم كذلك، ولكن في الواقع لم يكن هذا اسم الفراعنة الحقيقي في مصر قديما.

فالمؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو وهو مؤرخ موثوق لدى الباحثين المحدثين عاش في مصر لفترة وتجول فيها، وكتابه عن مصر يكاد يكون وصفا حقيقيا لمصر في زمنه "بعد سنوات قليلة من انتهاء العصر البطلمي" ولكنه لم يستعمل كلمة فرعون بمعنى ملك في عصر الأسرات بل كان يستعمل عبارة "الملوك الأقدمون" فقط.

 * أما المؤرخ مانيثو أو مانيثون فكان كاهنا مصريا من العهد البطلمي في القرن الثالث ق.م، وكان مؤرخا مهما جدا ولم يستعمل كلمة فرعون أيضا. وهذا المؤرخ يعتبر المصدر الثالث للتأريخ المصري برمته بعد البرديات أولا، واللوحات الحجرية ثانيا. وكان مانيثو يستعمل أسماء الملوك وألقابهم الملكية وهي عدة أنواع وليس منها كلمة فرعون أو عبارة "بر عا".

* كيف ولدت كلمة فرعون: كانت كلمة بازيليوس اليونانية تعني الملك في العصر البطلمي في مصر. وقبل البطالمة، أي في عصر الأسرات كانت كلمة فرعو أو برعا أو فرعا تعني الملك. وكان الشعب المصري في العهد البطلمي مؤلفا من أجناس مختلفة والأساس هو المصريون بلغتهم المصرية القديمة والإغريق بلغتهم اليونانية. الملوك كانوا أغريق يونانيين ولكنهم كانوا يأخذون بأزياء (الشعر المستعار والتنورة الملكية) وعادات وتقاليد المصريين القدماء. فكان المواطن المصري يسمي الملك اختصارا برعو / القصر الكبير" أما إذا كان المواطن يونانياً فيسميه بازيليوس. ثم أصبح الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وما يزال هذا الاسم موجودا الى الآن. ولكن في الواقع هذا لم يكن اسم الملك المصري قديما.

* نعلم أيضا أن الملك المصري القديم كان له ثلاثة ألقاب ملكية. فحين يتوج الملك المصري يطلق عليه أولا اللقب الحوري. وهو لقب ديني مقدس نسبة إلى الإله حورس الإله الأكبر إله الخير والعدل الذي انتصر على الشر. اللقب الثاني هو اللقب النبتي بنسبة إلى الإلهتين السيدتين (نخبت ووجدت) اللتين تمثلان شمال مصر وجنوبها. أما اللقب الثالث وهو اللقب الرسمي الأكبر ولقب التتويج فهو "نسيو بيتي" وهو اللقب الشائع للملك والذي يجمع بين شمال مصر وجنوبها أيضا.

* أما في الكتابة الرسمية في دواوين الدولة فيشار إلى الملك بألقابه الثلاثة ولكن في التفاصيل، وحين يجري ذكر الملك يقال اختصارا "القصر الحاكم" بلفظ (بر عا) فعل كذا أو كذا. واستمر ذلك حتى عصر الدولة الحديثة في عصر تحتموس الثالث في الأسرة 18 فهو عهده تحولت دلالة عبارة "بر عا / القصر الحاكم" من الدلالة على البيت الحاكم إلى الدلالة على شخص الملك نفسه. وتحولت العبارة "بر عا" إلى برعو" ثم تحولت في اليونانية إلى (برعون) بإضافة نون الأسماء العلمية في اليونانية. وفي العبرية خلطوا بين الباء والفاء فقالوا فرعون (الباء المثلثة أي البابلية قريبة جدا من الفاء وهناك كلمات كثيرة تكتب بالباء البابلية وتلفظ بالفاء. ع. ل).

* المحاوِر د. أشرف عزت: المؤرخ الملقب بأبي التأريخ هيرودوتس من القرن الخامس ق.م زار مصر وكتب عنها والتقى بالمصريين من كل الفئات ولم يكن المصريون يشيرون إلى ملوكهم بكلمة فرعون.

-د. منى حجاج: وهذا صحيح لم يكونوا يشيرون إلى الملك بكلمة فرعون بل كانت هذه العبارة تستعمل للاختصار فقط في الكتابات الرسمية.

* د. أشرف عزت: تاريخ مانيثون المؤرخ المصري كتب في فترة قريبة من إنجاز الترجمة السبعينية للتوراة في العهد البطلمي فلماذا لم نجد أي ذكر في كتاب مانيثون لموسى والفرعون، وقصة بني إسرائيل في مصر هل هناك خلل في الترجمات؟

- د. منى حجاج: أولا تاريخ مانيثون أسبق من ترجمة التوراة، ولكن ليس بزمن طويل. ومع ذلك لا يمكننا أن نطلق أحكاما كهذه حول الترجمات ووصفها بالمرتبكة أو أن خطأ متعمدا قد ارتكب. إنما التوراة كتاب ديني الهدف منه الهداية وليس كتاباً في التأريخ. وهذه القصص التي وردت في الترجمة السبعينية للتوراة وردت في القرآن الكريم كقصة سيدنا موسى كما وردت في العهد القديم والعهد الجديد "الإنجيل" فهل يمكن أن نعتمد على القصص الديني كمصادر تأريخية؟ هنا علينا ان نترك كل شيء في مجاله ومساره فليس لدينا أدلة ووثائق على الثلاثة.

وتواصل د. حجاج كلامها فتقول: تجنبا للحساسية التي يثيرها موضوع المقابلة بين التوراة وعلم الآثار التوراتي وأعطي مثالا يوضح رأيي في الموضوع: الشاعر اليوناني الأعظم هوميروس ألف الإلياذة والأوديسة وفيهما تحدث عن حرب طروادة وعن وقوف الآلهة إلى جانب البشر وعن حروب طويلة وزوال دول وقيام أخرى وقد اعتبر كل ذلك أساطير. وكان كتاب الإلياذة كتابا مقدسا لدى الإغريق طوال عدة قرون وظلت قصص طروادة مجرد أساطير لدى الباحثين والمؤرخين إلى أن جاء علم الآثار الألماني هانريش شليمان (1822 – 1890م) وكان مؤمنا بأن الأمر يتعلق بحقائق وليس بأساطير وظل ينقب ويبحث إلى أن عثر على بقايا مدينة طروادة وفيها بقايا الحروب. هنا تحولت الأسطورة في كتاب اعتبر كتابا دينيا إلى حقيقة تأريخية. إلى أن يحدث ذلك بالنسبة لقصة فرعون وموسى أنا مستعدة اعتبرها حدث تأريخي.

أعتقد أن هذا الحل الذي تقدمه د. حجاج للتناقض الظاهر بين الخطابين الديني المقدس والمدافعين عنه والخطاب الاخر العلمي الآثاري الإناسي هو حل توفيقي كما قلت وهو يؤجل حسم في الموضوع لا يمكن الحسم فيه بالطرق التقليدية السريعة والباترة وربما أثار هذا الحل احتجاج أهل الخطاب الديني لأنهم سيتهمونه بالتهاون مع الملحدين والمشككين بالخطاب المقدس من جهة، واحتجاج أهل الخطاب العلمي الآثاري والإناسي الحديث لأنه حل تلفيقي ورغبوي من وجهة نظرهم، ولكننا يمكن أن نرى خلف هذين الاحتجاجين شيئا من الإيجابية في هذا الحل وما يمكن ان نسميه الموضوعية التاريخية فحادثة تحول طروادة من حقل الأسطورة الدينية إلى الحقيقة التأريخية هي حادثة حقيقية يمكن ان تتكرر ولا يمكن الجزم باستحالة تكرارها خصوصا وأن ما تم الكشف عنه من آثار قديمة في فلسطين ومصر والعراق وعموم بلاد الرافدين هو أقل من ربع الآثار الموجودة فعلا كما يقول الخبراء والمتخصصون. ثم أنه حل يخفف على الباحثين في هذه الحقول من أجواء التشنج والتعادي السياسي والتكفيري ويضفي الكثير من التوازن والرصانة والهدوء على الأبحاث التي يقدمها أهل الخطابين المذكورين.

***

علاء اللامي

............................

* فيديو لقاء مع د. منى حجاج:

https://www.youtube.com/watch?v=fE6O8uKe9IE&ab_channel=AshrafEzzat

في عصر مفعم بالتحديات والتغيرات السريعة، (وصعوبة منع الانفتاح الحاصل تقنيًا عن الأبناء)، باتت التربية الذاتية ضرورة مُلحة لاستمرارية التطور في الجوانب الثلاثة: الفردي والأخلاقي والمهني. وفي قلب هذه العملية، يكون الرقيب الداخلي حارسًا وموجهًا للذات. فما هي آلية تفعيل الرقيب الداخلي ودوره في تعزيز التربية الذاتية؟

الرقيب الداخلي هو ذلك الصوت الذي ينبع من أعماق الوجدان، ويسعى لتقويم السلوكيات والقرارات بمنظور نقدي بنّاء. يتشكل هذا الرقيب من خلال عملية تعلم مستمرة، ترتكز على القيم والمبادئ الشخصية، ويعد بمثابة بوصلة أخلاقية ترشد الفرد إلى السلوك الإيجابي.

حاول جاك لاكان المحلل النفساني الفرنسي الوقوف على عمق النفس البشرية واضِعًا نظريات فرويد نقطةَ انطلاق ومن ثم تطويرها، فتناول في نظريته فكرة  مفادها "أن اللاوعي مبنيٌّ بما هو لغة". فتعمل الرقابة الذاتية في هذا السياق من خلال اللغة والرموز، حيث الرغبات والأفكار التي لا يمكن أن يُعبر عنها بشكل مباشر بسبب القيود الاجتماعية أو الخوف من العقاب تجد طريقها إلى الوعي من خلال أشكال مشفرة ومحرفة.

فيمكن أن تظهر الرغبات المكبوتة في شكل أحلام أو زلات لسان، أو أعراض نفسية، وهي تمثل الطرق التي يحاول من خلالها اللاوعي التحايل على الرقابة الذاتية.

حينما بلورها لاكان في معنى واحد هو (اللاوعي) والذي عرفه بأنه ” الكلام المتجاوز للفرد،..أي غير المتاح له حتى يعيد وصل ما انقطع من حديث الوعي ..ذلك الفصل من تأريخي(أو تاريخي؟) الشخصي الذي يتكون من صفحات خالية أو أكاذيب: إنه الفصل الذي حذفته الرقابة…الفجوة التي ينفذ منها العصاب لإعادة تحقيق التناغم مع عناصر الواقع ….المتعذر تحديده (1)“.

على سبيل المثال، قد يكون لدى الشخص رغبات أو مشاعر لا يريد أو لا يستطيع التعبير عنها بوضوح لأسباب متنوعة. هذه الرغبات لا تختفي فحسب، بل يمكن بدلاً من ذلك أن تظهر بطرق غير مباشرة مثل النكات، الزلات اللسانية، أو الأعمال الإبداعية. لاكان يسمي هذه العملية "البنية السيميائية لللاوعي".

لاكان يرى أن الرقابة الذاتية لا تنتج من القواعد الاجتماعية الواعية فحسب، بل أيضًا من قوانين اللاوعي نفسه، والتي تعمل وفقًا لمبادئ مثل الاستبعاد والإحلال. كما أن هذه القوانين تجعل الرغبة الحقيقية للشخص غير قابلة للوصول بشكل مباشر حتى للفرد نفسه.

بمعنى آخر، لاكان يرى أن الرقابة الذاتية ليست فقط نتيجة للضغوط الخارجية، ولكنها أيضًا جزء من التشغيل الداخلي للاوعي.

في نظريته يتمثل اللاوعي بما يشبه اللغة، وهو يعمل وفقًا لقواعد وبنى مشابهة لتلك الخاصة باللغة.

فتكون الرقابة الذاتية، في هذا السياق، هي عملية يتم من خلالها تحريف أو كبت الرغبات والأفكار غير المقبولة وفقًا لمعايير الأنا الأعلى والمعايير الاجتماعية.

إن استخدام لاكان مصطلح "الميكانيزمات الدفاعية" إنما هو إشارة إلى الطرق التي يحمي بها الفرد نفسه

من الصراعات النفسية والرغبات غير المقبولة. وتشمل هذه الميكانيزمات الكبت والإنكار والانفصال... إلخ، والتي تُعَدُّ طرقًا يحاول بها الفرد أن يحافظ على تماسكه النفسي. كما يتحدث أيضًا عن "الأخر" بوصفه عاملًا مهمًا في عملية الرقابة الذاتية، حيث إن الأخر يمثل القوانين والمعايير الاجتماعية التي يتم تداخلها مع القواعد اللاوعية. بمعنى آخر، الرقابة الذاتية تتأثر بالتوقعات الاجتماعية وبالهياكل اللاوعية للفرد.

لذلك، يمكن القول بأن فكرة لاكان عن الرقابة الذاتية تنطوي على تفاعل معقد بين اللاوعي واللغة والهياكل الاجتماعية، وهي تعكس كيف يمكن أن تُكبت الرغبات وتُحرّف بطرق متنوعة وغير مباشرة.

وبما أن التربية الذاتية هي فعل تطوير الذات بشكل مستقل ومستمر عبر الاعتماد على الموارد الداخلية. يأتي دور الرقيب الداخلي ليكون الداعم الأساسي في هذه العملية من خلال مراقبة الذات وتقويم الأفعال، فيسهم الرقيب الداخلي في تشكيل موقف نقدي يفتح المجال للتحسين والتطوير المستمرين.

ما هي التحديات الي تسهم في تفعيل الرقيب الداخلي؟

 تُعدُّ التربية الذاتية إحدى الركائز الأساسية لتطور قدرة الإنسان في التكيف مع مختلف الظروف الحياتية. والرقيب الداخلي جزء لا يتجزأ من هذه العملية، حيث يعمل محفزًا وموجهًا للسلوك الفردي. وحتى يتم  استخدام فكرة الرقيب الداخلي، يجب زراعة الرقابة الذاتية في نفس الطفل كهدف من الأهداف الرئيسية للتربية النفسية الفعالة، كون الرقابة الذاتية تساعد هذا الطفل على تطوير الوعي بالذات والتحكم في الانفعالات واتخاذ القرارات المسؤولة عبر بعض الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها لتعزيز الرقابة الذاتية لديه، مثل:

-القدوة الحسنة: فالأطفال يميلون إلى تقليد السلوكيات التي يرونها.

-تعليم مهارات التعرف إلى العواطف: الطفل ممكن أن يشعر بشيء ما دون أن يتمكن من معرفة المسمى المناسب له بشكل صحيح؛ فهو حجر الزاوية للتحكم في العواطف وتنظيمها.

-تمكين الطفل من اتخاذ القرارات و مناقشة الخيارات وعواقبها للإسهام في تطوير التفكير النقدي والرقابة الذاتية.

-تعزيز الصبر من خلال ألعاب وأنشطة تتطلب الانتظار وتأجيل الإشباع، يمكّن تعليم الطفل قيمة الصبر والانتظار للحصول على المكافآت.

-إعطاء المسؤولية من خلال تكليف الطفل بمهام ومسؤوليات مناسبة لعمره ليتعزز شعوره بالاستقلالية ويساعده على تطبيق الرقابة الذاتية في تنفيذها.

-الثناء على السلوك الإيجابي؛ فالاعتراف بالسلوك الإيجابي يعزز تكراره.

-كيفية تحديد المشكلات وإيجاد حلول مبتكرة لها؛ لزرع مهارات التفكير النقدي والتحكم في الردود الانفعالية.

-تعليم تقنيات بسيطة للاسترخاء مثل التنفس العميق، العد للعشرة، أو التأمل لمساعدته على التحكم في انفعالاته.

-اللعب التفاعلي لتعليمه مهارة تتطلب التناوب ومشاركة الأدوار فيكتسب الطفل الصبر واحترام دور الآخرين.

-التواصل الفعال فعندما نتحدث مع الطفل بشكل منتظم حول مشاعره وأفكاره، ونستمع إلى ما يقوله بانتباه واحترام. هذا يعزز الثقة بالنفس والتعبير الصحي عن الذات.

-تعليم التفهم والتسامح مع الأخطاء الذاتية وأخطاء الآخرين وأن التعلم من الأخطاء جزء من النمو الشخصي.

من المهم أن تكون هذه الأساليب متسقة ومستمرة في التطبيق، وأن يشعر الطفل بالدعم والحب خلال هذه العملية. فإن تطوير الرقابة الذاتية ليس عملية تحدث بين عشية وضحاها بل هي رحلة تربوية مستمرة.

***

ريما آل كلزلي

...........................

* جاك لاكان، اللغة…الخيالي و الرمزي، إشراف: مصطفى المسناوي، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2006م، ص11

 

كانت لديّ فكرة وما زالت تجرى عندى مجرى البديهة وهى أن أسس العلوم الإسلامية المعتبرة ترتد إلى الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه، وكنت اعتبر هذه الفكرة هى المضمون الدينى الإسلامى على الحقيقة بعيداً عن المؤثرات الخارجية، فإذا كانت العلوم الإسلامية تأثرت فى التطور بالفلسفات الخارجة عن الإسلام إبّان حركة الترجمة بين أبناء الأمم التى كانت تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام ولا سيما السريان، سواء كانت مصادر يونانية أو فارسية أو غيرها من المصادر؛ فإنّ مصدر هذه العلوم فى الحضارة الإسلامية ومنشأها يرتد إلى الإمام علىّ تحقيقاً لا استشرافاً.

وهذا هو المضمون الذى يعول عليه ولا يعول على شيء سواه.

ففى كتاب نهج البلاغة فيض لا يجارى من آيات التوحيد وتأمل الحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد ظهرت قبل ترجمة الآراء والمصطلحات والمذاهب الإغريقية إلى العالم الإسلامى، ومن يلتمس كشف هذا المضمون الدينى لمنشأ العلوم الإسلاميّة مجردة عن المصادر الخارجية ما عليه سوى الاطلاع على نهج البلاغة كيما يتبيّن له الفارق الأصيل بين ثقافة وثقافة، أو بين حضارة قائمة على القرآن الكريم ومؤسسة عليه وبين حضارات سابقة أو لاحقة لا تمت إليه بصلة ولا بنسب.

استنبط الإمام علىّ الأصول الأولى لعلم النحو ولم يكن لأحد أوفر سهماً فى إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواترت الأخبار أن أبا الأسود الدؤلى شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب إذ ذاك فقال له : اكتب ما أملي عليك ثم أملاه أصولاً منها : إنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشىء ليس بظاهر ولا بمضمر.

وإنّما يتفاوت العلماء فى معرفة ما ليس بظاهر ولا بمضمر، يعنى اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبى الأسود : أنحى هذا النحو يا أبا الأسود؛ فعرف العلم باسم النحو من يومها.

فالذى استنبط الأصول الأولى لعلم النحو كما استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة والتصوف هو الإمام، وإن لم يكن أول من كتب الرسائل وألقى العظات وأطال الخطب على المنابر فى الأمة الإسلامية، لكنه بلا شك كان هو أول من ظهرت فى أسلوبه آثار دراسة القرآن الكريم والاستفادة فى الإنشاء من قدوته وسياقه. فتأتى له أن يأخذ بسليقته الأدبية من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة ومن أنماط التفكير الجديد الذى ابتدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية.

قيل لابن عباس: أين علمك من عمّك؟.. فقال: كنسبة قطرة من المطر  إلى البحر المحيط. فمن الصحيح إذن أن يقال إنّ علياً هو أبو علم الكلام فى الإسلام لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه.

ومن الصحيح كذلك أن يُقال إنّ علياً هو المؤسس الحقيقى للتصوف فى الإسلام. قال ابن الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التّصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن فى جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرّح بذلك الشبليّ والجنيد وسريّ السقطي وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التى هى شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسنادٍ متصل إليه عليه السلام». ولعلّ لهذه الخرقة دلالة باطنة تذهب بالإشارة إلى الكساء الخيبريّ وترمز إليه.

حقيقةً إنّ العلوم الروحيّة والذوقيّة فى الإسلام ترتد إلى الإمام عليّ وأبناء فاطمة الزهراء. والعلوم العقلية فى الإسلام ترجع إلى ابنه محمد ابن الحنفية مؤسس المكتب، وقد صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إذ قال: «أنا مدينة العلم وعليُّ بابها».

(وللحديث بقيّة).

***

د. مجدي إبراهيم

استهداف الماضي هو استكشاف للحاضر واستشراف للمستقبل

غالبا"ما نستهجن محاولات التحيين للماضي وعمليات الاستدعاء للتاريخ من لدن قسم من الكتاب والباحثين في الشؤون الاجتماعية والإنسانية، من منطلق كونها تسعى لتوظيف موروث الأول واستثمار سرديات الثاني لمآرب سياسية ومكاسب اقتصادية، غالبا"ما تقف خلفها وتحتمي تحت ظلها جهات حزبية متسلطة وتيارات إيديولوجية مهيمنة. ولعل هناك من يعترض علينا بسؤال مشروع مفاده ؛ ما الداعي الى النبش فيما مضى من أحداث وما العبرة في استدعاء فيما أدبر من وقائع ؟!، لاسيما وأن كل عمليات النبش والاستدعاء كان مردودها – في الغالب الأعم - عبارة عن نكأ للجروح وإثارة للضغائن. هذا في حين ان جل مجتمعات العالم المعاصر تمكنت من طي صفحات ماضيها وغادرت حصون عصبياتها، لتيمم وجهها صوب معطيات الحاضر وما يزخر به من حراك وتحول وتطور من جهة، وتتطلع باتجاه توقعات المستقبل وما يضمره من نذر مقلقة، أو يبشر به من آمال عراض.

والحقيقة التي لابد من الإقرار بها والتعاطي معها هي ؛ انه ليس كل عملية استحضار للموروث التاريخي واستدعاء للمخزون المخيالي، تتضمن بالضرورة مقاصد تجييش (العصبيات) المتباغظة واستنفار (الكراهيات) المتقابلة التي غصّت بإحداثها الدامية ووقائعها المدمرة صفحات التاريخ القديم والحديث، لا بل وحتى المعاصر. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار رأي فيلسوف التاريخ (هايدن وايت) الذي مضمونه ان (التاريخ ليس ما وقع ماضيا"، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه الى المستقبل. فنصوص التاريخ المدون لم تقل كل ما مضى، إذ ما زال هناك مغيب ومسكوت عنه كثير في بطون التاريخ). فان الأمر، والحالة هذه، لا يتطلب إسدال الستار على وقائع الماضي والتعتيم على أحداث التاريخ، كما لو أنها مخلفات أسطورية وبقايا خرافية عفى عليها الزمن، أو اللجوء الى عمليات الحذف والإضافة بما يدعم مواقفنا السياسية ويسوغ مصالحنا الاقتصادية ويعزز تصوراتنا الإيديولوجية. بقدر ما يتطلب استدعاء تلك الأحداث والوقائع لاستجلاء الحقائق المطموسة واستخلاص العبر المهملة، بعد أن يتم العمل على تفكيك عقدها ونقد مضامينها. 

وهنا لابد من التنويه، بان المجتمعات التي تماثل المجتمع العراقي من حيث تعدد الخلفيات التاريخية وتباين المرجعيات الدينية وتنوع الأصوليات الثقافية لجماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية، لا تفتقر نخبها من السعي الدائم والمستمر لاستدعاء مواريث ماضيها واسترجاع أحداث تاريخها، لا بل أنها قد تتفنن في إيجاد الأساليب والوسائل التي من خلالها تستطيع تحقيق ذلك الاستدعاء والاسترجاع على نحو يكاد أن يكون مرضيا"(نوستالجيا") في بعض الأحيان. ولكن لننتبه الى حقيقة أن تلك المساعي والمحاولات تنطوي – في غالبيتها العظمى - على مقاصد (تعبوية) (وتحريضية) تتميز بطابعها العاطفي والشعبوي، بحيث تفضي الى خلق حالة من الهياج السيكولوجي لدى (جمهور) أغلبه مستلب ومستقطب سمته الأساسية الافتقار الى الوعي التاريخي، تسهل السيطرة على إرادته والتلاعب بخياراته والتضحية بمصالحه والاستهانة بدوره، وهو الأمر الذي يضاعف الأزمات ويعمق الاحتقانات ويؤجج الكراهيات.

والحال، لكي تكون عمليات الاسترجاع للماضي والاستدعاء للتاريخ ذات جدوى ومردود ايجابي، ليس فقط على صعيد حاضر المجتمع بمختلف مكوناته الاجتماعية وتكويناته الثقافية فحسب، وإنما على صعيد ما يضمره المستقبل من وعود مبشرة بالنسبة لتطور أجياله كذلك. فانه لابد لهكذا عمليات استرجاعية من التسلح بمنهجيات (النقد) الموضوعي وأساليب (التحليل) العقلاني لكل ما يمت بصلة لترسبات ذلك الماضي وتمثلات ذلك التاريخ، بحيث لا يستحيل مسعى الاستهداف للموروث الى مجرد تصيد للأخطاء وتأشير للانحرافات التي أفرزتها التجارب والممارسات هنا أو هناك، والتي غالبا"ما تفضي – في حال القراءات الاسقطاية والتصورات النمطية - الى تحويل (النقد) المرجو للواقع الى (جلد) للذات كما هي الحالة السائدة.   

  ***

ثامر عباس

يظل الخطاب الديني الذي بدأه الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ أكثر من أربعين عاما مثيرا للاهتمام والمتابعة، بسبب من تميّزه وغزارته وروحه الإنساني المتسامح، وحرارة اللغة التي يجري التعبيرُ بها عنه. وقد شدّني، كما شدّ الكثيرين من الذين تابعوا هذا الخطاب وكتبوا عنه، إعجابي بالرجل، وليس فقط بجِدة هذا الخطاب واختلافه، لأنه يجسّد في خلقه الرفيع وسلوكه العملي أنموذجا للشخصية العراقية المثقفة، والمتحررة من الإلزامات التقليدية التي تميل برجل الدين عادةً نحو هذا الطرف أو ذاك. فنحن هنا أمام رجل دين عراقي آخر، يمتلك خطابا قادرا على اجتياز الحواجز الموضوعة في طريق كل الناس الذين يمارسون حياتهم في مجتمعات إسلامية ما يفتأ رجل الدين فيها يحتكر سلطة المعرفة الدينية والفقهية والتشريعية التي تحدد ما هو محلل، وما هو محرم في سلوك "المكلفين" من أتباعه في هذا المذهب أو ذاك. ومن النادر الوقوف بين ركام هذه الخطابات القديمة والمعاصرة، الشفوية والمكتوبة، على هذا النوع الذي يجعل الدين في خدمة الإنسان، بصرف النظر عن مذهبه ولونه وعرقه، ولا يجعل الإنسان خادمًا لهذا الدين وأصحابه.

عبد الجبار الرفاعي يجعل من نفسه مكمّلا ووريثًا لسلسلة من المفكرين ورجال الدين الذين أنجبتهم أو احتضنتهم الحوزةُ النجفية في عهود مختلفة من عصرنا الحديث مثل محسن الأمين، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد جواد البلاغي، ومحمد رضا المظفر، ومحمد تقي الحكيم، ومحمد باقر الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، وغيرهم ممن أشار إليهم الرفاعي نفسه لتميّزِهم ومحاولتهم الخروجَ بفكرهم واجتهاداتهم عن الخط التقليدي الذي يحضر في خطابه النقل أكثر من العقل.

وهو إذ يتفق مع رجال الدين هؤلاء، الذين يخرجون على "خطاب تبجيل كلّ شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره استيعابا نقديا، والجرأة في نقد بعض المقولات والآراء، وعملهم في البحث عن آفاق لقراءة النص وتفسيره في سياق الواقع ومعطياته واستفهاماته، ومحاولتهم الكشف عن شيء مما هو نسبي في ميراث المتكلمين والفقهاء"، لا يخفي معرفته بأن بعضَ محاولاتهم تلك لم تغادر المناهجَ التقليدية الموروثة بشكل كامل، فيما نجح هو في فعل ذلك، وحاول منذ البدء أن يجعل من خطابه الديني مختلفا، يمدُّ به إلى شريحة أوسع من الناس، كما لو كان  جسرا  يعبُرُ من خلاله نحو أولئك الفقراء مثله في حياته المبكرة، التي تشكلت فيها بوادرُ وعيه الديني ويقظته الروحية الأولى. يستنهض الغنى الكامنَ في نفوسهم، ويحرّك بلغته البسيطة المؤثرة ما ينطوون عليه من عوالم خير داخلية لا حدود لثرائها واستعداداتها الفطرية التي وُجِد الدينُ في الأصل لإرواء ظمئها الأنطولوجي، وتوفير كرامتها، وتخليصها من الاغتراب الميتافيزيقي الملازم لحياتها، وغير ذلك مما يرافق حياتنا جميعًا من قلق وارتباك وجودي ظاهر أو مضمر.

وهو يقول إن أكثر من سبقوه على هذا الطريق كانوا غيرَ قادرين على توظيف مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديث في فهم الدين ونقد التراث، وما هو مستتر من نظم إنتاج المعنى الكامن فيه.

وعلى الرغم من أننا لا نكتفي في هذا الكتاب، كما سيرى القارئ، بعرض ما نظنّ أنه يمثل المفاصل الأساسية في خطاب الدكتور الرفاعي، ونحاول أن نقدم له قراءةً نقدية فاحصة، نعتقد أن لا جدوى من الاكتفاء بعرض جوانب من فكر الرجل من دونها، فإننا ندرك أيضًا أن التناول العقلي أو المنطقي المجرد لهذا الخطاب الموزّع على عدد كبير جدا من الكتب والمباحث، قد لا يتمثل بشكل صحيح روحَ هذا الخطاب، وربما يسيءُ إلى صورته العامة التي تشيع فيها فيها روحُ التسامح والمحبة، وتحيل مجملُ المباحث الكلامية الجديدة فيه إلى رؤية عرفانية صريحة أو مقنعة غير قابلة في نفسها لأي مقاربة نقدية لا تراعي طبيعتها الأخلاقية والروحية، أو المشاعر الوجودية الخاصة لأصحابها. وهي،كما سنرى، مطروحةٌ ضمن تجربة ورؤية واعية ومركبة، ومسلحة بمعرفة تراثية وعصرية تكرهُ الخضوعَ لآليات المناهج الفلسفية والمنطقية التي لا تفصل بين الديني والدنيوي، أو بين المقدس وغير المقدس في موضوعات محددة تقتضي وجوبَ التسليم بنوع من العلاقة الخاصة والاستثنائية بين البشري والإلهي الذي يجسْده الوحيُ النبوي، وقدسيةُ النص القرآني، وما يتصل بذلك من أمور إشكالية يتمّ بحثها باستمرار في كتابات الدكتور الرفاعي، كالعلاقة بين الدين والأيديولوجيا، أو بينه وبين الدولة، والطريقة التي يجري فيها (تحيين) النصوص القرآنية على الطريقة الهرمنيوطيقية التي جرت عند الغربيين للكتاب المقدس منذ زمن طويل. وأسفرت عن نتائج حاسمة في علاقة المجتمعات الغربية بديانتها المسيحية، التي جعلت من عبارة السيد المسيح في إنجيل مرقص التي تقول "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" معيارًا ومثالًا للعلاقة المزدوجة بين الديني والدنيوي. وهي، كما نعرف، عبارة تمَّت مناقلتُها من سياقها التاريخي الخاص بسؤال بعض اليهود للسيد المسيح عن جواز دفع الجزية لقيصر، لتكون إجابتُه عليها دليلًا على هذه العلاقة التي لا يجب أن يتدخل فيها الإلهي المقدس في الدنيوي الخاص بمجريات الحياة المدنية، مثلما لا يتدخل الدنيوي في حياة المقدس ذي الطبيعة الروحية المختلفة. في حين ما زالت هذه العلاقة الخاصة ببناء الدولة والسلطة السياسية الحديثة في مجتمعاتنا الإسلامية مختلطة غامضة، على ما أصابها من عدوى التأثر بالنظام السياسي الغربي خلال العهد الاستعماري لبلادنا أو بعده. حيث ينفصل القول النظري فيها عن الواقع العملي، وتكتسب فيه عبارة السيد المسيح السابقة معنى آخر قد يكون فيه "ما لله وما لقيصر لله وحده" في إطار الرؤية الدينية المتسلطة، و"ما لقيصر وما لله كليهما لقيصر وحده" في إطار الرؤية الدنيوية المنفلتة. وكل ذلك يحدث في إطار ما نقرؤه ونشهده من مفارقات وغرائب مرافقة لتكوين الدولة وأمثلتها الواقعية التي يمتلئ بها تاريخنا الإسلامي القديم والحديث.

وفي الوقت الذي لا يجري فيه الاعتراض عندنا على وجود عنوان (الإسلام دين الدولة) من الناحية الدستورية، لا نجد أحدا يبالي بغياب هذا الإسلام أو عدم حضوره، ولو بروحه الأخلاقي والتربوي في مفاصل هذه الدولة. وهو ما يشير إلى جانب من بنية الانفصام العميقة القائمة بين النظرية والواقع لدى نخبِنا الدينية وأحزابها السياسية بشكل خاص، ومجتمعنا العربي الإسلامي بشكل عام.

الدعوة إلى "أنسنة الإسلاميات، لا أسلمة الإنسانيات"، التي أطلقها الدكتور الرفاعي تظل شعارًا لدى المتنورين القلّة من رجال الدين في هذه الدولة، ولكنه شعار غيرُ قابلٍ للاشتغال لدى آخرين غيرهم، ما زالوا يتدخلون في حكم هذه الدولة ويعبثون بمصالح الناس فيها تحت عناوين وشعارات إسلامية وديمقراطية مضلّلة.

وما ينطوي عليه خطابُ الدكتور الرفاعي في هذا الشأن من شفافية وغنى دلالي، وما يوفره لقارئه من عناصر اتزان عقلية ونفسية، هو الذي يحفّزنا على جعل بعضِ جوانبه موضعَ نقاش واستفهام من أجل تعميقه وإثارة الأسئلة المعترضة أو المحفّرة للحوار والنقاش حوله. وصاحبُ هذا الخطاب لا يضيق بالأسئلة، ويقول إنه لا يملك، مثل أصحاب التدين السياسي، إجاباتٍ جاهزة تتكرر فيها الشعارات التي لا معنى لها، ولا قيمة.

ومنطلقُنا في كلِّ ذلك يظل هو الإيمان المشترك بالدين عنصرًا لا غنى عنه في حياة كل إنسان، وبالحق سبحانه وتعالى خالقًا ومدبرًا لهذا الكون، لا ينتج من المواقف والآراء الفكرية التي تتبع القول برفعه من دواخلنا غيرُ أن يصبح كلُّ شيء مباحًا في هذا العالم، كما كان ديستويفسكي يقول.

وكوني أديبًا أو ناقدًا غيرَ متخصص بالشأن الديني لا يكفي للقول بأني أتدخل هنا فيما لا يعنيني، بل ربما يمنحني، على العكس من ذلك، ميزةَ رؤية هذا الخطاب من زاوية أخرى قد لا تتوفر بنفس القدر والدرجة لمتلقي هذا الخطاب من علماء دين ومتخصصين. فالمنهج ونظرية المعرفة الخاصة بنظم التفكير في إطرها العامة ليست حكرا على رجال دين ومثقفين دون غيرهم، لاسيما في خطاب يتعدى الأساليب التقليدية، ويحاول أن يستخدم المناهج العلمية والفلسفية في مقاربة موضوعاته الدينية. إضافةً إلى وجود علاقة خاصة بيني وبين الدكتور الرفاعي قد لا يعرفها غيري وغيرُه، تدفعني إلى إعارة مزيد من الاهتمام لما يكتبه ويقوله دون خوف من التجاوز على النظرة الموضوعية المحايدة. فهذا الرجل الذي هو أستاذ ومعلم في هذا الشأن للكثيرين في العراق وخارجه على نحو مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك المتكلم نفسه، كان في يوم ما تلميذا من تلاميذي!

نعم، تلميذ من التلاميذ الكثر الذين لا أعرفهم، ولا يعرفونني أحيانا إلا في وقت متأخر تقود إليه أحيانًا نوعٌ من الصدفة المحض. وليس غريبًا في تاريخ العلم أن يصبح الطالبُ أستاذا لأستاذه في هذا الجانب أو ذاك من العلم. وهو شيء أتشرف به ولا أنكره، لأن قراءتي المتأخرة لعبد الجبار الرفاعي واطلاعي على سيرته الذاتية قد أضافت لي الكثير، وعلمتني درسا آخر من الدروس الأخلاقية والتربوية الجديرة بالتقدير والاعتبار، يقدمها رجلُ دين عرفاني ومثقف استثنائي في واقعنا العراقي والعربي المعاصر. وأنا لا أتردد من الاعتراف بذلك وتقديم الشكر والعرفان بالجميل لصاحبه. فضلًا عن أن تلك التلمذة لم تكن تزيد في الواقع على الصورة الرسمية والشكلية التي لا علاقة خاصة فيها بين التلميذ وأستاذه، حينما كنت أنا وإياه في ثانوية قلعة سكر بمحافظة ذي قار التي انتقل إليها عبدالجبار الرفاعي بعد إكماله الابتدائية في مدرسة القرية القريبة من قضاء الرفاعي نهايةَ الستينات من القرن الماضي، فيما كنتُ قد بدأتُ حياتي الوظيفية مدرسًا للغة العربية، ثم مديرًا لهذه الثانوية الكبيرة خلال الأعوام ١٩٦٧و١٩٧٠ نفسها، ثم في مدينتي ومسقط رأسي (الشطرة) التي أصبحتُ مديرًا لمتوسطتها في نفس السنة التي انتقل عبد الجبار الرفاعي هو الآخر إلى المدينة، التي ألّفت مرحلة تكوينيّة بالغة الأهمية في حياته الفكرية واتجاهه الديني اللاحق، كما في حياتي واتجاهي الأدبي السابق واللاحق. وقد عمدت إلى وضع نص القصيدة التي نشرتها بمجلة الآداب اللبنانية عام ١٩٧٠ أثناء وجودي في مدينة قلعة سكر لأشير إلى أني كنت أنا الآخر مشغولًا منذ ذلك الوقت الذي مضى عليه الآن أكثرُ من نصف قرن بالبحث عن طريق مناسب للإيمان والمعرفة.

كلُّ هذا ونحن لم نلتق ولَم نتعرف على بعضنا بشكل مباشر بعد، مع أن ما قرأناه فيما بعد من سيرة بعضنا البعض في كتب متبادلة كان بالنسبة إليّ على الأقل صادمًا، أحيانًا، فيما يتصل بالظروف المتشابهة لمعاناتنا المشتركة، شأنَ الكثيرين من أمثالنا من أبناء الجنوب العراقي الفقراء؛ وما يواجهونه من ضيق وعَنَتٍ لا يغطي مع ذلك على طموحاتهم الأدبية والفكرية ورغبتهم في الخروج إلى عالَم أوسع من الحياة والفكر، على ما هنالك من اختلافات فردية طبيعية في الأهداف والتطلعات والظروف الشخصية والعائلية المرافقة.

وحين أجرينا أولَ اتصال بالتلفون بيننا بعد سنين طويلة من ذلك التاريخ البعيد، الذي لم نلتق فيه حتى الآن وجها لوجه، لم ينكر الدكتور الرفاعي أن صوتي مألوفٌ بالنسبة إليه، ويكاد أن يعرفه من نبرته كما قال لي. في حين أشعرُ أنني حين أكتب عنه الآن فإنني اكتبُ عن جانب غائب أو مفقود في حياتي نفسِها.

وقد كان لخالي المرحوم عطا القزاز مدرس العربية المعروف في الكرخ أؤخرَ القرن الماضي وبداية القرن الحالي، دخلٌ في هذا التعارف المتأخر الذي حدث بيني وبين الدكتور الرفاعي. فقد أُولعَ هذا الرجل في سنواته الأخيرة بفكر الدكتور الرفاعي الديني على نحو استثنائي، وجعل من قراءة البحوث التي تنشرها مجلته (قضايا إسلامية معاصرة) وكتاباته رفيقا ملازما له خلال قعوده الطويل في بيته، على نحو عجيب تحول فيه من حال إلى حال. وقد كان التبدّل الذي طرأ على حياته وفكره الذي انتقل فيه من يساري ماركسي إلى متدين مؤمن بسبب من تلك القراءات مثيرًا للحيرة والتساؤل بالنسبة إليّ ولكل من يعرف الأستاذ عطا من أفراد عائلته وأصدقائه. وقد أخبرني الدكتور عبد الجبار فيما بعد أنه كان يبعث بكتبه بيد المهندس فراس ابن المرحوم عطا المقعد في بيته في الإسكان غربي بغداد، بعد أن نقل له تحيات أبيه وشغفه بقراءة كتاباته. وينقل إليّ الدكتور عبد الجبار متأثرا كيف أن المرحوم عطا كان يعبر له عن امتنانه وشكره في كل مرة يتصل فيها به عن طريق الهاتف قائلا له: "إنك أنقذتني، وجعلتني أعثر ُعلى نفسي، وعلى المعنى الذي كنتُ أبحث عنه لحياتي".

وأنا أروي هذه الحادثة الصغيرة التي يظهر من خلالها مدى التأثير الذي مارسه فكرُ الدكتور عبد الجبار الرفاعي الديني الجديد على الكثير من الناس الذين يعرفهم أو لا يعرفهم، لأبيّنَ، كما ذكرت، جانبًا من السبب الشخصي الذي عزّز فيّ الرغبة والفضول للتعرف على الرجل وفكره، ثم الكتابة عنه وأنا في مقامي البعيد في كندا.

وقد سبق للناقد العراقي المعروف الدكتور عبد الله إبراهيم أن التقى قبلي بالدكتور عبد الجبار، وكتب عن تأثيره فيه، على ما بينهما من اختلاف، مقالا في جريدة الصباح وصف فيه ما رآه في شخصية الرفاعي من نبل ونقاء وتواضع وطيبة، وكيف أن تعليم الدكتور عبد الله الدنيوي الحديث لم يمنعه من أن يخصه الدكتور الرفاعي باهتمامة وتكوين علاقة خاصة معه. بعد أن كان كما يقول شديدَ النفور من ذلك النمط من رجال الذين تخمّرت كتلتها في الأروقة المعتمة، وعلى نحو لا يختلف كثيرا عما كنتُ اشعر به، أنا الآخر، إزاءَ بعض رجال الدين قبل أن أتبيّن حقيقة عديدين منهم من خلال هذا الرجل الذي تتلمذ إليهم وعاش بين ظهرانيهم وخرج عن منهج الكثيرين منهم. فللرّفاعي، كما يقول الدكتور عبد الله "شيوخٌ معمّرون، أثقلت رؤوسهم العمائمُ السّود والبيض، وأطالوا المقام في الظّلال، وتلقّف عنهم أصول الفقه، وعلم الكلام، والعقائد، فضلاً عمّا كان يتلقّاه طلبة علوم الدّين عن شيوخهم من دروس المنطق الصّوري، والنّحو القديم، والبلاغة المدرسيّة، بوصفها من الوسائل الضروريّة لمقاربة العلوم الدّينيّة، كما انحدر إليهم ذلك من شِعاب الماضي، فالمرجّح أن يكون قد أوغل في كلّ ذلك حتّى حاز درجة الدكتوراه فيه، وأحسب أنّه تآلف مع تلك الأجواء بفعل المعاشرة، ودوام التعلّم، والتّعليم، والمدارسة، مدّة طويلة، قبل أن ينأى بنفسه عن ذلك". (د عبد الله إبراهيم، جريدة الصباح، ٢٩/١١/٢٠٢٣)

والدكتور الرفاعي يشير في أحد كتبه إشارةً دالة إلى أن أكثر الباحثين ممن يمتلكون خبرةً بمناهج القراءة الجديدة عندنا في العراق يهربون من توظيفها في قراءة النص الديني، وغالبا ما يوظفونها في قراءة النص الأدبي والأعمال الفنية والإبداعية المختلفة الأخرى.

وتلك حقيقة من حقائق الثقافة العراقية التي يغلب عليها الطابعُ الأدبي والشعري أكثرَ من الطابع الفكري والعقلاني. وعبارة محمود درويش التي تقول "كن عراقيًا لتكون شاعرًا"، لا ينبغي أن تُقرأ وفق جانبها الإيجابي الجميل فقط، بل هناك جانب سلبي لا يجب إغفاله، هو أننا، نحن العراقيين، كثيرا ما نفكر ونتصرف بطريقة شعرية لا تراعي الضرورات الواقعية.

وربما كان واحدٌ من نتائج غياب الكتابات الفلسفية والاجتماعية الفاعلة في المجال الديني في وسطنا الثقافي العراقي قد دفع عديدا من الكتاب والأدباء إلى تولّي زمامِ المبادرة، ومحاولة تناول يوميات الواقع العراقي، وما فيه من إشكالات فكرية واجتماعية ونفسية، وما خلّفته الحروب الخارجية والداخلية في هذا الواقع على الذات العراقية الجريحة من ندوب غير قابلة للشفاء بسهولة.

وهذه الكتابات غيرُ معنية في جملتها بوجود الدين والروح الإيماني، أو عدم وجودهما فيما تكتب. فالمهم والأكثر إلحاحا في سنوات الجمر والجبهات الملتهبة هو وجود البشر أحياء، وتوفر حاجاتهم الأساسية، وليس كيفية ما سيكونون عليه من ماهية في هذا الوجود. والتقى المفاجئُ والعودة إلى الله يمثّل نوعا من ردة الفعل والخوف من المصير المجهول أحيانا أكثر من الإيمان المتولد عن قناعة وتأمل بالموضوع الديني، الذي ما فتئ الدكتور الرفاعي يكافح من أجل البحث عنه والتأكيد عليه ونشره ممزوجا بهذه المسحة الخفيفة من التصوف العرفاني أو ما يقع في دائرته.

وما يضيفه الدكتور الرفاعي إلى عبارته السابقة من تفسير لانصراف الباحثين عن استخدام أدواتهم المنهجية في الكتابة عن الأمور الدينية، يتمثّل في انهم "يبحثون عن ملاذ يحتمون فيه من غضب أنصار التراث" قد لا يكون صحيحًا قدْرَ صحةِ اختلاف التوجهات الناتجة عن نوع التعليم والمواد المقدمة في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية العراقية التي كان نقلُ المناهج الأدبية التراثية والغربية الحديثة الخاصة بالنقد الأدبي والفني يزيد على ما سواه من برامج ومواد دينية وفلسفية متوفرة. ولم تكن الحوزة الدينية الشيعية في النجف الأشرف، كالأزهر الشريف في مصر، منفتحةً على تعليم ديني ودنيوي يغطي كامل التراب الوطني ويصنع كوادر دينية مثقفة بثقافة دينية وعصرية متوازنة. وقد خرّجت النجف وبقيةُ مدن الجنوب العراقي الشيعية أعدادًا من الشيوعيين أو المنتمين للفكر اليساري الماركسي أكثرَ مما خرجت من رجال دين ومتدينين.

ولذلك فإن الموقف الذي عبّر عنه الدكتور عبد الله إبراهيم في هذا المقال يعبّر بالفعل عن موقف الغالبية العظمى من هؤلاء الأدباء والكتاب العراقيين من ذوي التعليم العام والثقافة الأدبية والنقدية الحديثة، التي يغلب عليها طابعُ الفكر اليساري الذي لا يميل، ولا نقول يعادي، إلى صورة رجل الدين التقليدي كما عرفها هؤلاء الأدباء في تعليمهم المدرسي وحياتهم الثقافية العامة.

وعنوان كتابنا هذا الذي يجمع بين (التصوف العرفاني) و (علم الكلام الجديد) في إطار واحد، ناتجٌ عن طبيعة التركيب أو المزج الذي حاول الدكتور الرفاعي نفسُه إدخاله على مجمل مدونته والفكرية والكلامية التي لم يكتفِ فيها برفض أغلب ما رآه فيها من تراث الفقهاء والمتكلمين القدماء، وإنما أراد أن يضفي عليها مسحةً أخلاقية وروحية متمثلة في ما يسميه تصوف العرفان والعرفاء. وسنكرّس الكلام في الفصل الأول من الكتاب للجانب الفقهي والكلامي وفلسفة الدكتور الرفاعي في النظر إليهما، فيما سيجري تناولُ الجانب العرفاني التصوفي في كل فصل من فصول الكتاب الأربعة، نظرا لحضوره الكثيف في كل منظومة الدكتور الرفاعي الدينية، التي لا شك عندنا في أن التصوف في صورته العرفانية الموجودة في كلّ كتب الدكتور تقريبًا، هو حصيلة شخصية ونتاجٌ لتجربة فردية، وتأثر بقراءات رجال دين وعرفاء آخرين حسب تسميته، مثل محي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، والعلامة الإيراني محمد حسين الطبطبائي (١٩٠٤ – ١٩٨١)، الذي منحه الدكتورُ الرفاعي على صعيد الدراسة والتدريس قدرًا من الاهتمام لم يمنحه لآخر سواه من المفسرين والفلاسفة والعرفاء المعاصرين. ولعلّ التشابه الذي وجده الدكتور الرفاعي بين حياة هذا الرجل (الإلهي) وبين حياته نفسها أن يكون ملهما ومعينا له على فهمه، والارتباط الصميم بفكره وآرائه الكلامية ومواقفه الصوفية أو العرفانية. فقد عاش الطباطبائي رحمه الله بين تبريز والنجف وقم، مثلما عاش الرفاعي نفسه، في رحلة معاكسة، بين مدينة الرفاعي والنجف وقم، حياةَ نضال وكفاح لا شبيه لها في قسوتها وقدرتها على معاندة الظروف الاجتماعية والسياسة المحيطة. ولكن ذلك لم يثنه، كما لم يثنِ تلميذه العراقي عن موصلة الدراسة والتحصيل العلمي الذي أنتج هذا القدر من الوعي والإحاطة بالمعارف الدينية والفلسفية، التي فتح الله عليهما فيها بما ينير بصيرتهما وبصيرة الكثيرين من بعدهما، ولنرى في حصيلتها هذا النوع من الرجال الذين يعدلون في ثقلهم المعرفي والروحي والأخلاقي الآلافَ من الذين خرجوا من بينهم، فأعانوهم أو وقفوا في وجوههم، ولكن ما أودعه الله فيهم من أدبٍ وسماحة خلق يقتضيهما الدينُ الحق، لا يجعلهم بعيدين عن أن يكونوا في الموضع الذي يكون فيه أيُّ واحد من أولئك الفقراء في المادة والروح من الذين خرجوا من بينهم، ولم يتسنَ لكثير منهم أن يقرأوا أو يسمعوا مثل هذا الصوت الذي يمكن ان يتسرب بيسر إلى أعماقهم.

وتلك، في تقديري المتواضع، هي القيمةُ الأساسية لخطاب الدكتور الرفاعي الروحي والأخلاقي، أعني سعة أفقه وانتشاره وقدرته على ملامسة جوانب حاضرة أو غائبة عن حياة كثير من الناس، بما في ذلك البسطاء منهم.

واللهَ تعالى نسألُ التوفيقَ والسداد.

***

الدكتور ضياء خضير

تورونتو/ كندا/٢٠٢٤

....................

* مقدمة لكتاب "الرؤية العرفانية والكلامية الجديدة: قراءة نقدية في مشروع عبد الجبار الرفاعي الديني"، تحت الطبع.

* ملاحظة: تنشر هذه المقالة بالتزامن مع نشرها في العدد الجديد من مجلة الأقلام "العدد الرابع، السنة الثامنة والخمسون، ٢٠٢٤"، التي تصدرها دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة ببغداد.

 

عرض: جيفري ب. ساكس**

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تُنسج التمثيلات الرقمية في أنشطة حياتنا اليومية، عندما نضغط على الأرقام الموجودة على هاتفنا لإجراء مكالمة، أو حل مسألة حسابية، أو تفسير رسم بياني، فإننا نفكر من خلال تمثيلات الأرقام. في كتابه "الأرقام وتكويننا"، يقدم كاليب إيفريت، وهو عالم لغوي معرفي من خلال التدريب، بحثًا مكثفًا في جذور تفكيرنا العددي، حيث يجمع بين الأبحاث من علم الآثار والأنثروبولوجيا الثقافية واللغويات وعلم الأعصاب الإدراكي وعلم النفس التنموي. وهو ينظم البحث من خلال حجة رئيسية: الأرقام، كما يؤكد، هي اختراع بشري، وفي استخدامنا لهذا الاختراع وتطويرنا له، قمنا بتحويل عوالمنا وتفكيرنا ونستمر في تحويلها.

في الجزء الأول من كتابه المكون من ثلاثة أجزاء، يرسم إيفريت تمثيلات للأرقام التي اخترعتها المجموعات الثقافية. ويستعرض التمثيلات في مجتمعات اليوم وكذلك تلك الموجودة في العصور القديمة وعصور ما قبل التاريخ. ما يثير اهتمام إيفريت بشكل خاص هو التنوع المذهل في أشكال ووظائف الأعداد. وهو يأخذ في الاعتبار القطع الأثرية القديمة من العصر الحجري القديم التي تحمل علامات إحصاء، مثل قرن الوعل مع شقوق منقوشة بشريًا في أمريكا الشمالية، أو علامات إحصاء في لوحات الكهوف، ويستمد أمثلته من مناطق متباعدة جغرافيًا في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. ويتكهن بأن علامات الإحصاء، سواء على القرون أو لوحات الكهوف، تم اختراعها لتسجيل انتظام عوالمنا، مثل مرور الوقت. يستعرض إيفريت أيضًا الظهور التاريخي لأنظمة تقليدية متنوعة للتمثيل العددي، بما في ذلك نظام القيمة المكانية عند حضارة المايا القديمة، ونظام عقد الكيبو عند الإنكا، والسجلات المسمارية لبلاد ما بين النهرين القديمة. بالانتقال إلى الحياة المعاصرة، يصف إيفريت التباين المذهل بين أنظمة الأعداد الحديثة، مشيرًا إلى مجموعات حية مثل موندوروكو الذين لديهم كلمات لنقل تمثيلات 1 و 2 ولكن فقط إشارة غير دقيقة إلى كميات أكبر. وبشكل عام، فهو يرى أن الأشكال التمثيلية التي اخترعها البشر تتجسد في بناء العوالم الثقافية/المادية المتنوعة للحياة اليومية.

في الجزء الثاني، ينتقل إيفريت إلى ما نعرفه وما يمكن أن نتعلمه من الإدراك العددي في ثلاثة أنواع مختلفة من المجموعات السكانية: المجموعات الثقافية/ اللغوية التي تستخدم أنظمة عددية محدودة للغاية (مثل أنظمة موندوروكو المحدودة عدديًا)، والرئيسيات غير البشرية والأنواع الأخرى ، والرضع / الأطفال الصغار. ويبين من خلال مراجعته أن كل مجموعة من هذه المجموعات يمكنها في كثير من الأحيان التمييز بين عنصر واحد أو عنصرين أو ثلاثة عناصر، لكن التمييزات التي تنطوي على كميات أكبر من ثلاثة غالبًا ما تكون غير دقيقة. وهو يستخدم النتائج التي توصل إليها هؤلاء السكان لدعم الحجة القائلة بأن البشر، على مر التاريخ التطوري، قد وهبوا بشكل طبيعي قدرات محدودة ولكنها حاسمة للتمييز بين الكميات الصغيرة، وبالتالي فإننا نرى هذه القدرات في الأنواع غير البشرية، والأطفال الرضع، والمجموعات الثقافية. مع أنظمة أعداد محدودة، وبالنسبة للكميات الأكبر، يجب على الأفراد الاعتماد على اختراع أنظمة عد متطورة ثقافيًا، وبالتالي لا نجد مثل هذه القدرات إلا عند الأطفال الأكبر سنًا والبالغين في المجتمعات البشرية ذات أنظمة تمثيل الأعداد المتطورة.

في الجزء الثالث، يفكر إيفريت في أصول الأرقام والحساب في المجتمعات البشرية. ويوضح أفكاره بأن الكميات موجودة في العالم المادي، لكن الأرقام لا توجد في العالم المادي ولا هي أجزاء أصلية من أذهاننا. والواقع أن الأرقام بالنسبة لإيفريت «غير طبيعية». للتعمق أكثر في أصول الأعداد، يعتمد إيفريت على أعمال علماء بارزين مثل اللغويين المعرفيين جورج لاكوف ورافائيل نونيز (لاكوف ونونييز، 2000). يرى إيفريت أنه من خلال استخدام الأدوات الثقافية واللغوية مثل الاستعارة وغيرها من الاستعارات مثل الحركة الخيالية، يقوم الأفراد بتجسيد فئات أساسية ولكن مجردة من المعرفة.على سبيل المثال، يجادل بأن فئة مجردة مثل الوقت تصبح ملموسة وقابلة للقياس من خلال الاستعارات المكانية حيث يكون المستقبل "أمام" والماضي "خلف". ويشير إيفريت إلى أن مثل هذه الاستعارات قد تختلف باختلاف المجتمعات البشرية. على سبيل المثال، بالنسبة للأيمارا، المستقبل هو "خلف" (ما لا يمكن رؤيته) والماضي "أمام" (ما يمكن رؤيته). هدف إيفريت هو إيجاد طريقة لفهم كيفية فهم البشر للأرقام، ولكنه يوفر أيضًا نافذة على ظهور الاختلافات بين الثقافات في أنماط التفكير،وهي نسخة من النسبية اللغوية التي يؤيدها إيفريت.

كما قد يتوقع المرء عند قراءة معالجة طموحة لأقل من 300 صفحة، هناك إغفالات في كتاب إيفريت، وقد تكون بعض الإغفالات ملفتة للنظر لقراء التنمية البشرية. حجة إيفريت بأن العدد هو اختراع بشري تحاكي نظرية بياجيه وأبحاثه حول أصول العدد الأصلي والترتيبي وكذلك انتقادات بياجيه للتفسيرات الوطنية والتجريبية لأصول الأعداد (بياجيه، 1952)، لكن إيفريت لم يشر إلى بياجيه. الحجة الأساسية وكيف تختلف عن حجته. إن حجة إيفريت بأن ظهور الوظائف المعرفية العليا مثل الأعداد له جذور في الأنظمة اللغوية الخاصة بالثقافة والتي يعيد الأطفال بناؤها لتنظيم عوالمهم وأنفسهم تعكس معالجة فيجوتسكي التنموية الأساسية (فيجوتسكي، 1986)، لكن إيفريت لم يتصالح مع الطريقة التي قد تكون الحجج متوافقة مع أو تتعارض مع حجج فيجوتسكي، أو وجهات النظر التي بذرتها كتابات فيجوتسكي. أخيرًا، تعكس حجة إيفريت بأن الأرقام تنشأ من خلال استخدام الأفراد لأشكال لغوية محددة ثقافيًا جوانب تحليل فيرنر وكابلان (1963) لنشاط التخطيط في تشكيل الرمز، وهي عملية تأخذ فيها المركبات التمثيلية المدروسة ثقافيًا معنى شخصيًا للأفراد. ولكن لا يُبذل أي جهد لإشراك وجهة نظر فيرنر وكابلان التنموية المهمة.

على الرغم من إغفال الدراسات التنموية الرئيسية، فقد وجدت أن كتاب إيفريت عبارة عن وصف متعدد التخصصات مكتوب بشكل جيد لمجال معرفي رائع. وكان ما يثير اهتمامي بشكل خاص في قراءتي تركيز إيفريت على جذور الفهم الإنساني في كل من الأنشطة البناءة للأفراد والتاريخ الثقافي الذي يشاركون فيه. في هذه الأنشطة، يقوم الأفراد في الوقت نفسه بإعادة إنتاج وتغيير الأنظمة التمثيلية للعدد، وهو منظور تاريخي تنموي معقد قمت بتفصيله في عملي الخاص (ساكس، 2012).

***

......................

المراجع:

1- إيفريت، سي. (2017). الأرقام وصنعنا: العد ومسار الثقافات الإنسانية. كامبريدج، ماجستير: مطبعة جامعة هارفارد.

2- لاكوف، ج.، ونونييز، ر. (2000). من أين تأتي الرياضيات. نيويورك، نيويورك: الكتب الأساسية.

3- بياجيه، ج. (1952). مفهوم العدد عند الطفل. نيويورك، نيويورك: نورتون.

4- ساكس، جي بي (2012). التنمية الثقافية للأفكار الرياضية: دراسات بابوا غينيا الجديدة. كامبريدج، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة كامبريدج. https://doi.org/10.1017/CBO9781139045360

5- فيجوتسكي، إل إس (1986). الفكر واللغة. كامبريدج،ماساتشوستس: مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

6- فيرنر، إتش، وكابلان، بي. (1963). تكوين الرمز: نهج عضوي تنموي للغة والتعبير عن الفكر. نيويورك، نيويورك: وايلي.

* كالب إيفرت: عالم لغوي أنثروبولوجي. وقد نشر العديد من المقالات البحثية حول مجموعة متنوعة من المواضيع، بالإضافة إلى ثلاثة كتب: الأرقام وتكويننا (هارفارد، 2017) والنسبية اللغوية (دي غرويتر، 2013). وعدد لا يحصى من اللغات ( هارفارد 2023 ) وهو يدرس في جامعة ميامي منذ حصوله على درجة الدكتوراه في اللغويات..

**جيفري بي. ساكس: أستاذ في كلية الدراسات العليا للتعليم بجامعة كاليفورنيا، بيركلي (UCB). منذ حصوله على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة كاليفورنيا في عام 1975، شغل مناصب ما بعد الدكتوراه وأعضاء هيئة التدريس في مستشفى الأطفال/كلية الطب بجامعة هارفارد (1976-1977)، ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك (1977-1981)، والجامعة. كاليفورنيا، لوس أنجلوس (1981-1997). له منشورات واسعة النطاق في مجالات الثقافة والتنمية المعرفية. تم وضع أبحاثه في سياقات متنوعة، بما في ذلك الفصول الدراسية والمنازل في الولايات المتحدة، والمناطق النائية في بابوا غينيا الجديدة، والمناطق الحضرية والريفية في البرازيل. وقد عمل في العديد من اللجان الدائمة وفرق العمل ولجان المراجعة للمؤسسات الخاصة والعامة، بما في ذلك مؤسسة ماك آرثر، ومؤسسة سبنسر، والمؤسسة الوطنية للعلوم، ومكتب البحث والتحسين التربوي، والمعاهد الوطنية للصحة العقلية. وهو رئيس التحرير السابق لمجلة التنمية البشرية وعمل في مجالس التحرير لمجلات مختلفة، بما في ذلك الإدراك والتعليم، والتنمية المعرفية، ومجلة علم النفس التنموي التطبيقي. كان زميلًا في الفترة 2003-2004 في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد، وهو زميل سابق في برنامج فولبرايت في جامعة بيرنامبوكو الفيدرالية بالبرازيل. وهو عضو في المجلس الاستشاري لمركز جلين لين للرياضيات العرقية بجامعة جوروكا في بابوا غينيا الجديدة. تشمل كتبه ودراساته العمليات الاجتماعية في تطوير الأعداد المبكرة (مع ستيفن ر. جوبرمان وماريل جيرهارت)، والثقافة والتنمية المعرفية: دراسات في الفهم الرياضي، والتنمية الثقافية للأفكار الرياضية: دراسات بابوا غينيا الجديدة (مع جوائز الكتب من الجمعية الأمريكية الجمعية الأنثروبولوجية، والجمعية النفسية الأمريكية، وجمعية التنمية المعرفية.)

تعليق:

الأرقام محفورة في ماضينا، ومنسوجة في حاضرنا، وتشكل تصوراتنا للعالم ولأنفسنا أكثر بكثير مما نعتقد عادة. الأرقام وتكويننا هو وصف شامل لكيفية تعزيز الأرقام بشكل جذري للقدرات المعرفية لجنسنا البشري وأثارت ثورة في الثقافة الإنسانية. يقدم كاليب إيفريت رؤى جديدة في علم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الرئيسيات، واللغويات، وغيرها من التخصصات التي يمكن استخدامها في تفسير عدد لا يحصى من السلوكيات البشرية وأنماط التفكير التي أصبحت ممكنة، بدءًا من تمكيننا من تصور الوقت بطرق جديدة إلى تسهيل تطور الكتابة. والزراعة وغيرها من التطورات الحضارية.

إن مفاهيم الأعداد هي اختراع بشري، وهي أداة تشبه إلى حد كبير العجلة، تم تطويرها وتحسينها على مدى آلاف السنين. تسمح لنا الأرقام بفهم الكميات بدقة، لكنها ليست فطرية. تؤكد الأبحاث الحديثة أن معظم الكميات المحددة لا يمكن إدراكها في غياب نظام الأرقام. في الواقع، بدون استخدام الأرقام، لا يمكننا أن ندرك بدقة الكميات الأكبر من ثلاثة؛ لا يمكن لعقولنا أن تقدر إلا ما يتجاوز هذا الحد الضئيل بشكل مدهش.

يدرس إيفريت الأنواع المختلفة من الأرقام التي تطورت في مجتمعات مختلفة، موضحًا كيف أن معظم أنظمة الأعداد مستمدة من عوامل تشريحية مثل عدد الأصابع في كل يد. وهو يعرض تفاصيل عمل رائع مع سكان الأمازون الأصليين الذين أثبتوا أن الأرقام، على عكس اللغة، ليست هبة إنسانية عالمية. ولكن بدون الأرقام، فإن العالم كما نعرفه لن يكون موجودا.

***

 

جناية السياسة على الدكتور الترابي وفكره.. عرف الدكتور الترابي العمل السياسي وسما إليه منذ أن انخرط في صفوف الحركة الإسلامية التي تدرج فيها تدرجاً سريعاً حتى صار عماد حزبه، وقريع رهطه،  وقد عرفت الحركة الإسلامية الدكتور الترابي عن قرب “قائداً حزبياً ومنظراً سياسياً ومعارضاً شرساً، إضافة إلى توليه لعدد من المناصب السياسية، وأتاح له تخصصه في الحقوق، وخبرته في الفقه الدستوري المشاركةَ في كتابة بعض الدساتير في عدد من الدول العربية، وتأليفه لعدد من الكتب في مجال السياسة ومنها كتاب “السياسة والحكم” وهو من الكتب التي ألفها في السجن، ويعد خلاصة لتجربته السياسية والفكرية معاً، إضافة إلى ذلك شارك الترابي في تقنيين أحكام الشريعة الإسلامية، واستطاع نقل ما يدور في أدبيات الحركات الإسلامية عن تحكيم الشريعة إلى واقع عملي”. كل هذه المزايا والمناقب يردها الباحث للصفات التي توفرت في الترابي، منها إغراقه في العلم، وإسرافه في الاختلاط بالناس، وقد يكون حرصه على السود باعثاً له على الإيغال لوجود حلول تستبدل أرضهم الجرداء رغم خصوبتها بأرض أخرى، وواقعهم المجدب بواقع آخر، وتورط الدكتور الترابي في انقلاب رغم مناداته بالديمقراطية ربما تكون هذه مدعاته، خوفه على أهله بعث في نفسه آمالا لم يصرح بها، بل سعى لكتمها حتى تتمخض في انبلاج فجر جديد، والسود لم يفرغوا لفن السياسة كما فرغ له الدكتور الترابي، وقد تدرج في فصوله من انتصار أو اندحار، ونحن نستطيع أن نفهم حنق الدكتور الترابي على تلاميذه وابتئاسه منهم، فقد أجهضوا حلمه الجميل الذي حلم به وسعى إليه، ونقدر هذا الانفعال النبيل، ونرصد دقة الحس، وصدق العاطفة، لقد أحسن الترابي احتمال المحنة التي فرضت نفسها عليه فرضاً، فالإنقاذ صنيعة الدكتور الترابي التي سعت إلى الترف وظفرت به، كان الترابي هو من يحد من آفاقها، وينكر عليها هذا الاعوجاج، هي تريد منه أن يتركها، ولكن كيف يتركها وهو الذي يتحمل أوزارها ومساوئها، كانت هذه المحنة قد أفادت الشيخ وأضفت عليه شيء غير قليل من الرصانة والرزانة، وأفاضت على شخصه تعاطف بعض السود الذين كانوا أقرب إلى السخط منهم إلى الرضا تجاهه.

 ولكن بالمقابل كانت هناك فئة تحمل الشيخ تبعة كل الإخفاقات التي حاقت بالإنقاذ، وغيرت من مسيرتها التي كانت خليقة بالإعجاب عند البعض، هذه الفئة الثائرة الهائجة حينما تخلو إلى نفسها لا تفكر إلا في الترابي، وتستشعر عظمة ما اقترفه من جرم، حينما أصر أن يرد الإنقاذ إلى الطاعة، ويقهرها على الإذعان، ومن هنا نحس بالجور والشطط الذي وقع على الدكتور الترابي، فحقائق الأمور لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس، وبعض الساسة والأعلام ليس لهم القدرة على التغلغل في هذه الطبقات حتى يتسنى لهم معرفة الحقيقة كاملة ناصعة، من هؤلاء الأستاذ حسام تمام رحمه الله الباحث في الحركات الإسلامية، فقد ذهب إلى أن الفرصة كانت مواتية للدكتور الترابي بأن يصون ثورته التي ترعرعت على ساعديه ويكتفي بدور المفكر، إلاّ أن غروره وصلفه منعه من ذلك، يقول الأستاذ تمام:” غير أن الترابي لم يقنع بدور المفكر الذي يفكر وينظر ويجتهد، ولم يقنع أيضا أن تقوم على أفكاره دولة (كما فعلت ثورة الإنقاذ)، ولم يقبل بدور المرشد والموجه والمنظر الذي يعلو على السياسة وإن احتفظ بدور فاعل فيها، كما فعل آية الله الخوميني -مثلا- الذي ظل حاكما للعبة السياسية برمتها في إيران حتى وفاته دون أن يتورط كمرجع ومرشد ديني في صراع الفرقاء السياسيين، بل أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر “الحر” ليلعب دور مفكر “تحت الطلب” يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسياً حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية”.

ويمضي الأستاذ تمام رحمه الله في كيل اتهاماته، فهو بعد أن اتهم الدكتور الترابي بأنه السبب الأساسي في تقهقر مسيرة الإنقاذ وترديها، وبأنه كالحائك الذي يفصل ثيابه حسب تفاصيل جسد الزبون، تأتي أفكار الشيخ واجتهاداته متناغمة حسب المناخ السياسي الذي يعيشه، وخلاصة ما ذهب إليه مقال الأستاذ تمام أن الترابي اشتد فتكه بالإنقاذ، وأصبح خطره شنيعاً، الأمر الذي قاد في النهاية لإزاحته دون أن تحتفظ الإنقاذ لشيخها بالمودة الخالصة، حتماً الأستاذ تمام يجهل أن الدكتور الترابي قد سعى أن يمنع الإنقاذ من الانغماس في الترف واللذة، فهو لا يرى هذا، كل ما يراه أن الترابي قد سعى أن يزاوج بين الفكر والسياسة ولكنه أخفق في ذلك إخفاقا شديداً، يقول الأستاذ تمام رحمه الله:” وعبثاً حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر والسياسي، فيحفظ لنفسه مكانة متميزة بين أقرانه من المفكرين والسياسيين على السواء، فهو يتميز عن المفكرين بالسلطة التي هم على بعد مسافة منها إن لم يطلهم أذاها، ويفوق السياسيين بالفكر الذين هم أبعد الناس عنه، لكنه لم ينجح في هذه اللعبة طويلا، وغلب السياسي فيه على المفكر في آخر المطاف، وبدا للناس في الوجه الذي قد يقبلون به، ولكنهم لا يحبونه؛ فهو المناور الذي لا يستقر على رأي، ولا يلتزم بموقف، والثعلب المراوغ القادر على التلون باللون الذي يوصله لمراده، والانتهازي الذي يقتنص كل الفرص ويوظفها لمصلحته الشخصية، والبراجماتي الذي لا يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل التي تحقق له غايته، والميكيافيللي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة… فوقع في التناقضات وأضر -من حيث لا يدري- بأفكاره، وبدا أن هناك بوناً شاسعاً بين السياسي والمفكر في شخصية الترابي”. الباحث لا يتفق مع حديث الأستاذ تمام إلا في تمكن السياسة من الدكتور الترابي ومحاصرة المفكر في نفسه، فهي لا تسمح له بالظهور، وقد خضع الدكتور الترابي لنكر السياسة، واصطلى بنارها، ولعل أيسر ما تفرضه علينا مخايل الدقة، أن نقول أن الفكر لم يكن يتربع المشهد إلا عندما تتوارى السياسة عن الدكتور الترابي، فيغدو أرفع بياناً، وأمضى حجة، وأعظم منزلة، وهذا لم يتحقق إلا حينما يقاوم الدكتور الترابي الطغيان والاستبداد، وتنتهي هذه المقاومة بالزج به في غياهب السجون، حينها يجد من يشقي أنظمة الجور بشدة صرامته، وعظمة استبساله، يهرع إلى لون من ألوان البحث الذي يفرغ له طوال مكوثه في السجن، ويلتزم بدقائق المنهج، وصدق الحقائق، وحسن الترتيب، ليخرج لنا في نهاية المطاف مؤلف متين الرصف، محكم القواعد، عظيم الفائدة، لطيف الإشارات.

***

د. الطيب النقر

في المثقف اليوم