قضايا

من سمات التجربة الصوفية انها ذوقية فردية خالصة، لا يمكن نقلها إلى الآخرين بالشرح والتدريب والتعليم، فمن الصعوبة أن تتحدث عن طعم العسل لشخص ما دون أن يتذوقه بنفسه، هكذا هي بالضبط حالة التذوق الصوفي التي تتطلب استعداداً وموهبة في المريد لكي يكون قادراً على أداء مقامات التصوف وما تتطلبه من زهد وترويض للجسد، وتحمل الأحوال الوجدانية والنفسية المرافقة لتلك التجربة الروحية الفريدة. لذلك فإن الباحث المصري خالد محمد عبده يحاول أن يقدم في كتابه " معنى أن تكون صوفياً " مقالة دلالية باللغتين العربية والإنجليزية لمن يريد أن يسلك طريق التصوف، وهي واحدة من عشرين مقالاً ضمها الكتاب الذي بحث في معنى التصوف ومعنى الدرويش والشيخ والمريد والطريق إلى مقامات الأولياء، فضلاً عن تسليطه الضوء على شخصيات صوفية غربية، ومقالة عن مكانة الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال في الفكر الصوفي الإسلامي .

والمؤلِف ليس مجرد باحث نظري في التصوف ومدارسه ومعانيه وتاريخه واقطابه، إنما صاحب تجربة خاصة مع التصوف نتجت عن مخالطته ورؤيته لمشايخ الصوفية المعاصرين ورجالهم، وهو أيضاً مسؤول مركز "طواسين" وله العديد من المحاضرات عن التصوف الإسلامي في كل من مصر والمغرب والسنغال وعُمان والبحرين ولبنان وتركيا، كما انه محقق للتراث الكلامي والصوفي، ومنها تحقيقه لكتاب "روضةُ المريدين" وهو نص من مخطوط في جامعة برنستون لم تنشر من قبل لصوفي فارسي يدعى ابن يزدانيار الأرموي توصل اليها من خلال إشارة قدمها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، وفيها يكتب بن يزدانيار ان أحد الإخوان سأله أن يجمع له فصولاً في معنى آداب الصوفية وأحكامهم وطريقتهم وأحوالهم وأخلاقهم، فأجابه إلى ملتمسه، وأختصر له طرفاً مما سمعه من المشايخ، وجعله كتاباً موجزاً لطيفاً سماه "روضةُ المريدين" يتكون من ثلاثةٌ وأربعين باباً، وقد نشر الباحث الباب السابع منه والمعنون "ذاتية التصوف" ضمن صفحات كتابه الذي وضعه في مستويات ثلاث " الأول منها ما يتوجه إلى الخاصّة وأرباب التفكّر العميق الذين يدركون ما ترمز إليه الكتابات الصوفية من معانٍ جليلة، والثاني يخاطب ذوي التفكير المتوسط، والثالث يخاطب طبقة العوام الذين لا يعرفون إلا القليل عن هذا العلم وأفكاره ونظرياته ومسالكه ". يحكي عبده عن حضور التصوف في حياته، وكان ذلك في أول تعرفه على كلمات الرومي التي مر عليها مرور الكرام وهو يقرأ بعض ترجمات المستشرق الإنجليزي نيكلسون، مدونة في كتاب ترجمه تلميذه أستاذ الثورة الروحية في مصر أبو العلا عفيفي : " ولم يكن هناك فرق بين ما قاله الجنيد أو ما قاله ابن عربي أو الرومي أو البسطامي أو الحلاج، الكلُّ يقول كلاماً جميلاً أكتشفه للمرة الأولى، ولا يمكن في حال من الأحوال أن أدرك ما في باطنه أو ما وراءه من عوالم ".

معنى أن تكون صوفياً، أن تكون إنساناً أولاً وقبل كلَّ شيء، ان تحقق معنى" وفيك انطوى العالمُ الأكبر"، ثم يسترسل في ذكر عدد من الصفات آخرها: أن تكون صوفياً، لا تقلّك أي أرض ولا تظلك أي سماء!.

وينهي عبده ذكره لصفات المتصوف بالقول: أن تكون صوفياً.. ألا تذكر كلّ ما كتبته هنا!. وفي ذلك إشارة إلى خصوصية التجربة الصوفية الفردانية الذوقية التي لا يمكن نقلها إلى الآخرين .

***

د. طه جزّاع  - كاتب اكاديمي

في أبريل (نيسان) من العام الماضي 2023 نشرت قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية، صورة الجندية السعودية أمل العوفي وهي تحتضن طفلاً وصل للتوّ إلى ميناء جدة، مع أمه التي فرَّت به من الحرب الأهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: «أمن وأمان وحنان... مجندة سعودية تخطف القلوب». هذه الصورة جابت العالم شرقاً وغرباً، نشرها كثير من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت تعاطف الملايين من القراء، لما تُظهره من حنان ورحمة، يتمنى كل البشر أن تكون السائدة في علاقتهم بعضهم ببعض.

تخيَّلْ أنك مررت بهذا المشهد، فهل سترى فعل الجندية حسناً أم قبيحاً؟ ماذا لو مرَّ بها شخص مسيحيّ أو بوذيّ أو هندوسيّ أو وثنيّ أو ملحد، هل سيحبها أم يُبغضها؟

لننظر الآن في الوجه المعاكس... تخيلْ أن هذا الطفل كان غريباً جائعاً تائهاً عن أهله، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه، فكيف سيكون رد فعلك؟ كيف سيكون رد فعل أصحاب الأديان الأخرى والذين لا دين لهم؟ هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع، أم سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده؟

أضِف إلى هذا... هل سألت أنت عن دين الطفل الذي حملتْه الجندية أمل؟ هل سأل الذين شاهدوا صورته في أي صحيفة أخرى عن هذا، أم فرحوا بفعلها لأنه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الإنسان بصفته إنساناً، أياً كان دينه وعرقه وموطنه؟

ماذا عن الطفل الآخر؟ هل ستسأل عن دينه قبل أن تعطيه شربة ماء؟ هل سيسأل أتباع الأديان الأخرى عن ذلك؟

لقد اخترت هذين المثالين، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته الأسبوع الماضي، أي فعل الخير بوصفه جزءاً من علاقة البشر بعضهم ببعض، لا بوصفه جزءاً من أي شريعة أو قانون.

لكنْ لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلحّ عليه... ألا تأمر الأديان كافة بعمل الخير؟

الواقع أن الأديان –في عمومها– تأمر بفعل الخير لكل إنسان، وتعدّه صفة ملازمة للإيمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظّم سلوك الأفراد، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الإحسان للضعفاء، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها أحسنت إلى كلب، وأخرى دخلت النار لأنها حبست قطة حتى ماتت جوعاً... هذا في التوجيه العام، فماذا عن الأحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمَّن يتبع مذهباً أو ديناً مخالفاً، ويصنَّف عندهم كافراً أو مبتدعاً أو غير مؤمن. بل ثمة مَن يُفتي بعدم رد السلام عليهم، أو الأكل من طعامهم أو التبسم في وجوههم أو إفساح الطريق لهم أو مشاركتهم في الأعمال... إلخ.

لا ينبغي الظن أن هذا يقتصر على مذهب دون آخر، فهي آراء موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الإسلامية. وموجود مثلها وأكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان، على مستوى التنظير أو التوجيه. خذْ مثلاً تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689 - 1755) للرقّ، حيث يقول:

«لا يلقى في الذهن كون الخالق البالغ الحكمة قد وضع روحاً طيبة في جسمٍ تامّ السواد... مُحال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناساً، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى». مع العلم أن تعاليم السيد المسيح ترى أن بني آدم كافة إخوة أمام الخالق.

ألاحظ دائماً أن الناس يذكرون المبادئ العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم أن المبدأ العام يعبر عن الإيمان ويُنسب إلى الخالق، أما الفتوى فتعبّر عن هوية الجماعة - المذهب وتُنسب إلى الفقهاء أو الأئمة. لهذا أقول: إن الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الإيمان بالخالق، فيما الخير المخصَّص (وأحياناً الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة - المذهب.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في رحلة عبر اربع عقود، زينت مسيرتي المهنية كاستاذ وباحث بتجربة فريدة تمثلت في الاشراف على نخبة من طلاب الدكتوراه، كل منهم حمل شغفا فريدا ومهارات استثنائية. لقد حظيت بشرف مشاهدة بعضهم يبحرون في رحلة المعرفة حتى نالوا تميزا واضحا سطع نجمه في سماء العلم.

من رحم هذه التجربة الملهمة في الجامعات الغربية، اقدم لكم، طلاب الدراسات العليا في الجامعات العراقية، هذه الملاحظات المهمة. قد لا تنطبق جميعها بالكامل على البيئة الاكاديمية في جامعاتنا، لكنني اؤمن بانها ستشكل لكم بوصلة ترشدكم في رحلة البحث العلمي وتساعدكم على تحقيق تطلعاتكم.

فتعالوا معي نعزز خبراتنا ونثري معارفنا من خلال عدسة هذه الملاحظات.

يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بقدرة فائقة على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدقة، مدفوعين بفضول فكري عميق ورغبة جامحة في فهم العالم من حولهم. كما يظهرون مهارات تواصل قوية في الكتابة والعرض الشفهي، ويعرفون بشغفهم الحقيقي بمجال بحثهم، مما يدفعهم لبذل اقصى الجهود والمثابرة.

والى جانب ذلك، يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بانضباط ذاتي عال وقدرة على العمل بشكل مستقل، مع مهارات فائقة في تنظيم الوقت وادارة مشاريعهم البحثية بكفاءة. كما يظهرون مهارات متقدمة في حل المشكلات والتغلب على التحديات.

ولا ننسى اهمية روح التعاون التي تميز طلاب الدكتوراه المتميزين، حيث يسعون دائما الى تبادل الافكار مع زملائهم واساتذتهم، وخلق بيئة اكاديمية ايجابية تثري الجميع.

ولكن من المهم التاكيد على ان هذه الملاحظات هي تعميمات، وان هناك العديد من المهارات الاخرى للتميز في برنامج الدكتوراه. الاهم هو ان يكون لدى الطالب شغف حقيقي بمجال بحثه وان يكون على استعداد لبذل الجهد والمثابرة لتحقيق اهدافه.

في الواقع، لا تشبه رحلة الدكتوراه اي رحلة اخرى. تبنى هذه الرحلة الاستثنائية على صفتين اساسيتين:

اولا، القدرة على التعامل مع التحديات والاستجابة للنتائج غير المتوقعة. 

يواجه الطالب في دروب المعرفة عواصف من التحديات، بدءا من تعقيدات البحث العلمي الى صعوبة الحصول على البيانات، ومن ضغوطات الوقت الى لحظات الشك والياس. لكن لا ينسى المرء ان النجاح ليس غياب الفشل، بل القدرة على النهوض من بعده.

تذكر ان اعظم الاكتشافات العلمية ولدت من رحم الفشل والتحديات.

كن مستعدا للتعامل مع كل تحد بذكاء وحكمة، واجعل من كل فشل درسا يقويك وينعشك.

ثانيا، الحيوية وحب التعلم والاهتمام بالتحديات الجديدة والخبرات.

ان رحلة الدكتوراه ليست مجرد واجب او مهمة، بل هي شغف ينير دربك ويلهمك. فاحب ما تفعله، وكن متشوقا لمعرفة المزيد. لا تقيد نفسك بحدود، بل ابحث عن التحديات الجديدة والخبرات المثيرة.  فكل تجربة جديدة هي شعلة تنير دروب المعرفة.

تذكر ان رحلة الدكتوراه هي رحلة ملهمة تشبه رحلة البذرة التي تصبح شجرة باسقة.  فلا تستسلم، وكن مثابرا ونزيها، ولا تغرك الطرق القصيرة المشبوهة، واجعل من التحديات فرصا للنمو والتطور.

مع كل خطوة تخطوها، ستقترب من تحقيق حلمك وتنير دروب المعرفة.

رحلة الابداع والابتكار

لا تقتصر رحلة الدكتوراه على مجرد اكتساب المعرفة، بل هي رحلة للاضافة والالهام. فمن خلال بحثك الدؤوب، ستتمكن من اضافة لبنة جديدةٍ الى صرح المعرفة في مجال دراستك. وان هذه الاضافة لا تقتصر فقط على ما يتم نشره في المجلات العلمية، بل تشمل ايضا كل ما تقدمه من افكار جديدة وحلول ابداعية لمشكلات معاصرة. فكن مبتكرا، ولا تخشى الخروج من الصندوق، واجعل من بحثك رحلة ملهمة تثري حياتك وتساهم في بناء مستقبل افضل. ضع خطة منظمة لادارة وقتك، وحدد اهدافا قابلة للتحقيق، وكن ملتزما بتنفيذها. وتذكر ان رحلة الدكتوراه ليست رحلة وحيدة، بل هي رحلة جماعية تشارك فيها مع زملائك واساتذتك. فاستفد من خبراتهم وتجاربهم، وكن متعاونا ومشاركا في مجتمعك العلمي. فمعا، ستحققون انجازات عظيمة وتنيرون دروب المعرفة للاجيال القادمة.

رحلة البحث عن المعرفة العميقة

الغرض الاساسي من العمل على الدكتوراه هو تعميق وتوسيع المعرفة الانسانية. ونظراا لانك تعمل على مستوى متقدم من المعرفة، فان مادة البحث التي تعمل عليها يجب ان تكون صعبة وشاملة وغير مطروقة، لذلك يجب ان تكون قادراا على الاستيعاب وتحليل المادة بطريقة دقيقة (الذكاء والتفكير النقدي العاليين). ومع ذلك، لا يكفي فقط ان تكون ذكيا وتمتلك تفكيرا نقديا، بل يجب ان تكون مجتهدا وملتزما بالعمل الجاد، ويلاحظ ان بعض الطلاب الذين تلكاوا في دراستهم الاولية قد حصلوا على الدكتوراه بنجاح. لذلك، فان الذكاء وحده ليس كافيا في الحصول على الدكتوراه، ولكن يمكن ان يساعد في الحصول عليها بسلاسة، ولا يعني النجاح او الفشل في الدكتوراه.

ومن الصفات المهمة التي يجب توفرها للحصول على درجة دكتوراه متميزة هما الصبر والانضباط. بعض الطلاب يحبون طرح الاسئلة والتفكير في طرق للاجابة، لكنهم يفتقرون الى الصبر اللازم للعمل على ايجاد الجواب. بدلا من ذلك، يلجاون الى السوشيال ميديا او يزحفون الى فكرة اخرى. هناك حاجة للانضباط والصبر لايجاد الجواب وتجسيد الفكرة الابداعية. انت بحاجة الى وجهة نظر طويلة المدى حتى عندما لا تجد متعة في العمل (كالعصف الذهني وارضاء فضولك العلمي).

اذن، للوصول الى مرتبة الدكتوراه، يجب ان يتمتع الطالب بذكاء استثنائي وانضباط ذاتي وتخطيط دقيق وقدرة على التواصل الفعال مع المشرف، بالاضافة الى التعامل الايجابي مع التحديات. ولتحقيق ذلك، يجب ان يحيط نفسه باشخاص يتمتعون بنفس الصفات. فعلى الرغم من كفاءة الباحثين، الا انهم بحاجة الى مساعدة لزيادة الانتاجية. اما لكي يصبح "مدرسا جامعيا" متميزا، فيجب ان يمتلك جميع الصفات المذكورة اعلاه.

***

ا. د. محمد الربيعي

عالم احياء مهتم بزراعة الخلايا والانسجة وانتاج الادوية البيولوجية وهو استاذ متمرس في الكلية الجامعة دبلن (UCD)                

حدد الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) ماهية الصراخ أو الصخب في غياب اللغة، وما هذا الغياب إلّا اختفاء للمعنى، لأن الصوت عندما يمتد في صائت طويل يستدعي توقّف انسياب الجملة وتوقّف موسيقاها في آن واحد، لأن الصوت الصاخب يعطّل الكلام ويلغيه مؤقّتا حتى يتوقف الصراخ.

نحتاج في هذا السياق إلى الصراخ لأنه يعبّر عن بعض المعنى أكثر من تعبير اللغة. ولكننا لا نتصوّر متناً مصُوغاً بالصراخ أو بالصخب وحده، إذ لابد للغة أن تتجلّى، وفي تجلّيها قد تكون صاخبة وقد تكون هامسة.

نكاد نُجمعُ على أن الصخب حدد كثيراً من مقولاتنا ومن سلوكاتنا، وحتى كتاباتنا التي ينطوي بعضها على نزوع غير مفهوم لممارسة الصخب.

لقد وُلدنا في الصخب، وكان أول تحاور لنا مع الوجود صوتا صارِخا، واحتُفِل بعقيقتنا في الصّخب، وكان ختاننا بالصخب، وتمّ تزويجُنا في الصخب، وفي موتنا يكون الصخب سيد الموقف... بل كل طقوسنا الاحتفالية صاخبة.

فكيف لا تتأسى كتاباتنا بهذا الصخب، سواء في ظاهرها أو في باطنها؟ وكيف لا تستبطنه، وعياً وفي لا وعيٍ منها؟ وكيف لا يخالط شغاف قلبها فيحتل منها السويداء وأكثر؟ وكيف لها ولو حاولت أن تعيَ ذاتها خارج شرطه أن تتخلّص منه الخلاص المبين؟ وهل هو النسغُ يجري في عروقها أم هو القدر الغابر في تكوينها ؟...

أسئلة شتّى، تطرح ذاتها بإلحاح شديد، ولا تهمنا الإجابات مادامت متعددة ومختلفة من منظورات أكثر تعددا وأشد اختلافا، وهي القمينة بتقديم الإجابات الشافية الكافية مادامت تصدر من تجارب جواينة لا من اطّلاعات قشورية وبرّانية.

والمهم في هذا هو السؤال عن بديل الصخب، وهو بديل الهمس، الذي ينقص كتاباتنا بشكل ملفت. ويغيب عنها وهو القمين بتحويل مجرى ماء الكتابة تحويلات جذرية نافعة واعدة بالريّ والسقيا الحسنة.

 قريباً من  اجتهادات الناقد محمد مندور حول نظرية الهمس في الأدب، والتي تقوم على التعبير الصادق عن دواخل النفس البشرية عبر آليات  الطبيعة والأساطير وأحداث التاريخ... نقول إن كتابة الهمس – من منظورنا المتواضع – هي الكتابة التي تسعى باستمرار إلى التوغل في وجدان الآخر دون ضجيج:

- عنف التفوق: كتابة الهمس تلغي من اعتبارها الآخر كمنافس ينبغي التفوق عليه، إذ لا توجد في الإبداع كتابةٌ أولمبية تروم اعتلاء قمم المنصات، ومن ثمّة فكتابة التفوق هي كتابة مشروطة، وكل كتابة مشروطة يكون رصيدها من الحرية ناقصا، والحرية هي شرط الهمس كما هي شرط الصخب. إن اقوى منافس يمكن أن اتفوق عليه في الكتابة هو ذاتي نفسها، فالعدّاء الذي يريد تحطيم الرقم القياسي الموضوعي لا يريد في الحقيقة إلا تحطيم قياس قوّته ذاتها في ذاته  هو.. فينا  دائما شخص يركض أمامنا حتى ولو كنّا مصنّفين في العدو في الرتبات الأولى. أما أن أقيس كتاباتي بتفوّق غيري وأضعه نصب عينيّ معيارا للإبداع، فهذا ما اسميه عنف التفوّق الذي قد يؤدي بالكتابة إلى مزالق أخرى لا ترتبط بالإبداع البتّة.

الهمس هو أن أكتب خارج أي شرط من شروط العنف كيفما كان هذا العنف. وقد يقول قائل إن شرط الصراع مسألة إيجابية، أقول نعم، لكنّها نسبية. وهي لا تُفهم في سياق الصخب، فقد يكون هذا الصراع كامنا وهادئا وهامسا وناعما أيضا. وقد يكون مع الغير وقد يكون مع الآخر، وفي كلٍّ، هو صراع يقوم على الجدل الباني لفعل الكتابة لا المثبّط لانطلاقاتها الهامسة.

- حتمية الإقلاع:  كتابة الهمس هي إقلاعٌ بمفهومين، الأول ديني يفيد الإقلاع عن عاداتٍ تشدّ الكتابة إلى الأرض والحضيض والتكرار والشبه. وهذا لعمري ينتشر في أوساطنا المثقفة التي تحب أن تكرر ذواتٍ أخرى غير ذواتها الأصيلة، وأدلّ نموذج على هذا النوع هو الكتابات السارقةُ لا الكتابات المتناصّة... من هنا يفيدنا الهمس توبةً نصوحا من هذا المألوف الذي ليس لنا. والثاني إقلاع بمعنى الانطلاق والارتفاع معاً، في اتجاه سماوات الإدهاش. فكل كتابة ٍ هامسة هي ارتقاء بالمفردة وبالتركيب وبالمعنى وبالدلالة  وبالبعد وبالرمز وغير ذلك من مكونات الإبداع، إلى الأجود والأحسن والأدهش. القارئ اليوم مزورٌّ كثيرا عن قراءة المتشابه والمتكرر، لأنه يريد من المبدع أن يهمس في أذنه شيئا جديداً قادرا على زوبعة كيانه المريض بالفراغ والخواء وقادرا على أن يحدث بهمسه فيه تلك الرجّات المرجوّة والتي تعيد في المرء سؤال المساءلة وتعيد فيه رفض الماء الراكد. الهمسُ هو ذلك الحجر الصغير الذي تلقيه على صفحة النهر الراكدة فتحدث فيه دوائر صغرى تكبر وتكبر حتى نهاية مديات النهر. الكتابات الهامسة هي تلكم الحجرات الصغيرة التي في أيدينا والتي لا نعرف كيف نرمي بها، وأين نرمي بها، مع العلم أنها على ضآلة حجمها قادرة على تغيير وجه النهر.

- حتمية التغيير: من هنا تكون الكتابة الهامسة مشروع تغيير كبير، تستبطن قدرة على التأثير، وهنا أستحضر مثلا شعبيا مغربياً يقول (دُوز على الواد الهرهوري لا ادّوز على الواد السكّوتي) ومعناه (مُرَّ بالوادي الصاخب ولا تمُرَّ بالوادي الهادئ) وهو مثل يفيد قوة الصمت وقوة الهمس المبطنة بالمغامرة واختزان الخطورة. لم تكن كتابة الهمس في منظورنا بتاتا تفيد ضعفا أو تسليما أو خضوعا، إنها عكس ذلك تماما. ومادام عالم الكتابة يشبه ذلك السلم العالي والطويل فإن الركض فيه لبلوغ الأعالي وقمم الدرجات يكون فعلاً متهوّراً لا فعلاً سالكا، لكن التريت عبر الخطو الذكي والهامس يكون حريا بتقليب المدارج تبعا لإرادة الذات ورغبتها في الوصول. إن عمليات التغيير في مدارج السالكين في مجال الكتابة يبدأ من اعتبار المدرج الأول على بساطته وتفاهته، لأنه يعلمنا أن البدايات دروس قيّمة، وكل من يحرق البدايات بغية الوصول السريع يكون تغييره في حساسيات وجوده تغييرا مشوبا بالخطل والعطب في منهج التدرج.

و مادام هذا الماحول متناقضا ومفارقا وصادما وشرسا في الآن نفسه، فإن الكتابة الصاخبة لا تفيد في مقاومته، أو في تغييره، لأننا جربناها عبر أجيال وأجيال، وسواء تعلّق الأمر بالهمس في الكتابات الحالمة أو الهاربة أو المنزوية أو الرافضة أو المتمرّدة أو أي نوع آخر، ينبغي أن يكون رصيد الهمس فيها حاضرا لأنه أكثر تجذرا في نسغ الموضوع  وأكثر تأثيرا فيه وأكثر إحراجا له.

الكتابة الهامسة ليست هي الضوء الذي نراه، إنه نتيجة لها فقط، الكتابة الهامسة هي تلكم الأسلاك الكهربائية الخفية التي لا نراها ولكن نرى أثرها. من هنا أقول لك يا صديقي الكاتب، ويا صديقتي الكاتبة: اهمس في أذني ولا تصرخ ، فلن أسمع صخبك وسأكون سامعا شديدا لهمسك.

***

نور الدين حنيف أبوشامة \ المغرب

بقلم: كيفن بلانكينشيب

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

على الرغم  من أن هذه الحكايات يمكن أن تسمى بحق أدبًا عالميًا، إلا أن هوس الناس بمكانة العمل في الغرب يتجاهل تراثه في موطنه ويصرف الانتباه عن متعة القص نفسها.

***

في يوم من الأيام، كان هناك بدوي يمني اسمه أبو حسن، قرر ترك الحياة الصحراوية والانتقال إلى المدينة ليصبح تاجرًا. واستقر في مدينة كوكبان المحصنة، لكن زوجته الشابة ماتت بعد ذلك، مما جعله يائسًا ووحيدًا. وبعد مناشدات كثيرة، أقنعه أصدقاؤه بالزواج مرة أخرى.

وفي يوم الزفاف، أقام أبو حسن وليمة فخمة، ولكن ما إن سنحت له الفرصة، فقد مصداقيته في مرحلة حاسمة. "أخيرًا جاءت اللحظة التي تم فيها استدعاء أبو حسن إلى غرفة الزفاف،" يقول الراوي في ترجمة إن جي ديفيد الإنجليزية، "ولكن، بسبب رعبه من هول الموقف، وانتفاخه باللحم والشراب، أطلق ريحًا طويلًا ومدويًا." ثم هرب إلى الهند بعد أن شعر بالإذلال، لكنه لم يتوقف أبدًا عن الحنين إلى الوطن.

وبعد 10 سنوات طويلة، أراد أبو حسن رؤية اليمن مرة أخرى. واستقل سفينة إلى حضرموت ثم اتجه براً إلى كوكبان. وبعد ذلك، تنكر في زي درويش، وتجول في ضواحي المدينة قبل أن يجلس للراحة خارج كوخ، حيث سمع فتاة صغيرة تتحدث إلى والدتها.

قالت الفتاة:

- في أي يوم ولدت؟ أحد أصدقائي يريد أن يخبرني بثروتي .

قالت الأم:

- يا عزيزتي، لقد ولدت في نفس ليلة "ضرطة" أبو حسن.

بعد أن أدرك أبو حسن أن انتفاخ البطن سينتهي بالعار، عاد إلى الهند، حيث توفي في المنفى.

قصة "الضرطة التاريخية" لأبو حسن هي واحدة من الجواهر العديدة غير الملونة الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، لكنها على الأرجح لم تكن جزءًا من القصة الأصلية. ربما يكون المترجم الفيكتوري المغرور السير ريتشارد فرانسيس بيرتون قد أدخلها في القصة لمجرد أنها لامست عظمته المضحكة. ولم يذكر من أين حصل عليها، على الرغم من أن العلماء يتحققون من وجود أساطير مماثلة في رواية القصص العربية في القرن العشرين. ومع ذلك، وبقليل من الجهد، يستطيع أبو حسن المسكين وأبخرته أن يفعلوا شيئاً بشأن "الليالي"، أو على الأقل بشأن "الليالي" كما هي الحال في الشرق الأوسط.

حتى الآن، وبعد مرور ثلاثة قرون على قدومها إلى أوروبا، لم تعد "الليالي" مجرد عمل أدبي، بل في الواقع صناعة بأكملها. منذ أن زينت مختارات الليدي إيزابيل بيرتون الطاولات الفيكتورية بـ "ليالي" نظيفة ومهذبة، اكتشف الغرب حالة سيئة من هوس علاء الدين وعلي بابا. في الواقع، يبدو أن "الليالي" كما نراها في الغرب هي كل ما يتحدث عنه الغربيون. والأعمال القوطية والرومانسية مثل "فاثيك" لويليام بيكفورد أو "كوبلا خان" لصامويل تايلور كوليردج؛ موسيقى مثل "شهرزاد" لنيكولاي ريمسكي كورساكوف؛ والفنون البصرية مثل ورقة الرسام الحداثي هنري ماتيس “ألف ليلة وليلة”؛ وأفلام هوليوود مثل "لص بغداد" أو "علاء الدين" من إنتاج ديزني، كلها قطع شهيرة من الفن الغربي مستوحاة من "الليالي". إن الملحمة الدموية لترجمة "الليالي"، مع كل ماكبث جديد يذبح الملك الأخير دنكان، سوف تكون مألوفة من مقال خورخي لويس بورخيس "مترجمو ألف ليلة وليلة". يُظهر البحث فى جوجل عن "الليالي" مقالات حول القصص في ويسكونسن وبولندا ودلتا المسيسيبي وخارجها.

من المؤكد أن هذه الأمثلة تثبت أن "الليالي" هي تراث ثقافي عالمي. ولكن كما هو الحال في قصة "الضرطة التاريخية" لأبي حسن، فإن كل هذه الضجة حول رؤية الغرب لـ "الليالي" دفعت الطريقة التي يرى بها الشرق أوسطيون تلك القصص نفسها إلى المنفى. ولم تكن الحكايات الأكثر شهرة، والتي تصور علاء الدين والسندباد وعلي بابا، جزءًا من المجموعة الأصلية حتى القرن الثامن عشر، عندما أضافها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان ، وهو أول من نشر "الليالي" في أوروبا. مثل "حكايات جريمز الخيالية"، أعطت النسخ المعدلة من "الليالي" منذ فترة طويلة انطباعًا خاطئًا بأنها قصص أطفال. إن المعارك الصاخبة ذات الرائحة الكريهة حول التمييز الجنسي والاستشراق قد حجبت كيفية قراءة "الليالي" والاعتزاز بها وأدائها في العالم العربي منذ ألف عام. عندما نتجاهل كيف أن القصص في ذلك العالم هي بمثابة محك الطفولة، فإننا نفتقد متعة القراءة والاستمتاع بها من أجلها.

فهل سيتمسك الغربيون بكل هذا الهواء الساخن (الضراط) ، كما فعلت الأم في حكاية أبو حسن المأساوية، ويستمرون في نفي إرث "الليالي" في الشرق الأوسط؟ أم سيصفون الأجواء ويرون القصص بطريقة غير مهووسة بالغرب؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك سؤال آخر لا يمكن تجاهله. ما هي بالضبط "الليالي"؟ من أين أتت وكيف وصلت إلينا؟ إذا بدا لك أن طرح هذا السؤال لا معنى له (لا جدوى منه لأن الجميع يعرف الإجابة)، فتذكر تعريف مارك توين للكتاب الكلاسيكي: الكتاب الذي يرغب الجميع في قراءته ولكن لا أحد يرغب في قراءته.3657 الف ليلة وليلة

بهذا المقياس، "الليالي" أكثر من مؤهلة. حتى العرب في الشرق الأوسط عادة ما يكون لقاؤهم الأخير مع سندباد أو علي بابا في المدرسة الابتدائية، أو كما سنرى لاحقًا، في مطعم الدجاج المقلي المحلي. بالنسبة لهم، تتمتع "الليالي" بنفس المكانة التي يتمتع بها تشارلز ديكنز أو سانتا كلوز أو الدين في الغرب: تسلية للشباب، وربما حتى تدريب أخلاقي جيد، ولكنها شيء يجب التخلص منه من قبل البالغين الجادين. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يتجاهلون "الليالي" يفتقدون كنزًا غنيًا يفتح أبواب التاريخ والثقافة وأكثر من بضعة قلوب في الشرق الأوسط، حتى الآن.

في الواقع، هناك أسماء قليلة يمكن التعرف عليها اليوم مثل شهرزاد، الملقبة بشهرزاد، تلك المرأة الشجاعة والماكرة التي تمكنت من مقاومة غضب الطاغية باستخدام كلماتها فقط. في قصة "الليالي" المعتادة، تم خيانة شهريار، "ملك الهند والهند الصينية"، من قبل زوجته، التي قتلها بعد ذلك،وأقسم على جميع النساء بالانتقام بسبب غدرها، حيث كان يفتض عروسًا جديدة كل ليلة ثم يعدمها عند الفجر. شهرزاد، ابنة أحد وزراء شهريار، تعلم بهذه القسوة وتتدخل لإنقاذ جنسها. تزوجت من الملك، الذي وافق على طلبها، بعد أن شق طريقه مع شهرزاد، بأن تنضم إليهما أختها دينارزاد في غرفة النوم.

"أختي"، تقول دينارزاد بحزن، وربما ثمة دمعة في عينها. "أخبرنا بإحدى قصصك الجميلة لنقضي الليل، فأنا لا أعرف ماذا سيحدث لك في الصباح."

بهذه الكلمات، تروي شهرزاد حكاية ممتعة، تُركت غير مكتملة بحلول الصباح، مما دفع الملك إلى تأجيل وفاته حتى تتمكن شهرزاد من إكمالها في الليلة التالية. فقط لا ينتهي عند هذا الحد. تحتوي قصتها الأولى على شخصية تطلق قصتها الثانية، مدسوسة بشكل مريح وخفية داخل الأولى، ولا تنتهي أي منها قبل الفجر. ويستمر الأمر كل ليلة، قصة تتوالى تلو الأخرى، إلى أن يرق قلب شهريار أخيرًا ويتوقف عن سفك الدماء، على الأقل في النسخ الغربية التي يشوبها صبغة "السعادة الأبدية" للحكايات الخيالية الأوروبية. لا تذكر النصوص العربية الأقدم ما إذا كانت شهرزاد قد نجحت أم لا.

ليس هذا هو الفرق الوحيد بين القصص العربية الأصلية، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع، ونسخها الأوروبية التي أضيفت بعد ألف عام. كان التاجر المسيحي الماروني في القرن الثامن عشر حنا دياب -  الذي يظهر اسمه في مجلة غالاند كراوية أصلى- هو الذي قدم لنا القصص الأكثر شهرة، وهي السندباد، وعلاء الدين، وعلي بابا. لكن قبل ذلك، لم تكن موجودة في النص الأصلي.وقد سجلها المترجم الفرنسي غالان من رواية دياب الشفهية، لكل من القراء الأوروبيين والعرب على السواء الذين أصيبوا بحمى كل ما هو شرقي ومستشرق.

عرف العلماء عن دياب، التي تسمى أحيانًا ملهم غالاند، منذ القرن التاسع عشر. لكنهم لم يعثروا أيضًا على سيرته الذاتية إلا في تسعينيات القرن الماضي، وهي عبارة عن وصف لجوالاته عبر فرنسا وشمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط من عام 1707 إلى عام 1710. ونشرته جامعة نيويورك في عام 2015 باللغة الفرنسية، ومؤخرًا باللغة الإنجليزية في عام 2021. نشرت المكتبة الصحفية للأدب العربي، "كتاب الأسفار" لدياب باللغة العربية: ليس أكثر من مجرد سرد للرحلات. فهو يصف الأشخاص والأماكن، ويقارن بين المدن، ويكشف عن الحياة الداخلية للمؤلف.

تقول ياسمين سيل، وهي مترجمة لكتاب "الليالي": "أنت تقرأ قصة دياب الحقيقية بسبب آخرين اختلقهم". وعلى الرغم من أن العالم مدين له بتلك الحكايات المختلقة، إلا أنها لم تكن، كما ذكرنا سابقًا، جزءًا من "الليالي" طوال معظم تاريخها الممتد لألف عام حتى القرن الثامن عشر.

في الواقع، فإن القصص العربية الأقدم والأكثر "أصالة" غير معروفة في الغرب. أو، على الأقل، ليس لديهم ما يجذب دوجلاس فيربانكس أو ويل سميث للعب الدور الرئيسي. مثل علاء الدين والسندباد، يُطلق على البعض اسم أبطالهم: "معروف الإسكافي". "جولانار البحر" ؛ "الملك يونان ودوبان الحكيم"؛ "قمر الزمان والأميرة بدور." لكن في أغلب الأحيان، تحتوي العناوين على أنواع عامة - مثل "حكايات كانتربري" لجيفري تشوسر عن الفارس، والطحان، والريف، وما إلى ذلك - مثل "دورة الأحدب"، و"الوسيط المسيحي"، و"الصياد والشيطان". أو "الزوج والببغاء". وهناك «دورات»، أي مجموعات قصصية ذات شخصيات مشتركة، مثلاً «حكايات الدراويش» الأولى والثانية والثالثة؛ وهناك إعلانات قصيرة مثل "قصة ابن الملك والملك" شيطان." الأسواق المزدحمة، المحاكم الفخمة ووظائف الأبطال (التاجر هو الأكثر شيوعاً) تعطي النكهة الحضرية لـ "الليالي"، على النقيض من أقدم الأنواع العربية المحلية، وخاصة "قصيدة" العرب. الصحراء العالية، والتي تعني قصيدة من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.

عند الحديث عن الأنواع المحلية، تظهر "الليالي" ظلًا فارسيًا واضحًا، كما هو الحال في أسماء شهرزاد، "طفلة المدينة"؛ شهريار، "حارس المملكة" (أي صاحب السيادة)؛ شاه زمان، "سيد العصر"، وأكثر من ذلك. وهذا يخون المصدر المحتمل لـ "الليالي". وفقًا لبائع الكتب البغدادي ابن النديم والمؤرخ المسعودي، وكلاهما عاشا في القرن العاشر، فقد تمت ترجمة "الليالي" العربية من كتاب فارسي يسمى "هزار أفسان" ("ألف قصة"). حتى أن بعض العلماء يقترحون مصدرًا سنسكريتيًا أقدم: "بانتشاتانترا"، وهي مجموعة من الخرافات الحيوانية، على الرغم من عدم وجود أدلة كافية لدعم ذلك. على أية حال، فإن "الليالي" العربية وأسلافها الفارسية يشتركان في الكثير من نفس المادة، كما هو الحال مع مجموعات القصص العربية الأخرى في العصور الوسطى، مثل "حكايات العجائب وأخبار الغريب" المجهولة، والتي ترجمها مالكولم ليونز لـ بنجوين سلسلة الكلاسيكيات.

لا توجد ألف قصة وقصة في "ألف ليلة وليلة". يبلغ عدد ما ترجمه ريتشارد بيرتون حوالي 500 قصة، في حين أن المخطوطة العربية التي ترجمها جالان  في القرن الخامس عشر يبلغ عدد قصصها  35 فقط. وعادةً، تمتد كل قصة عدة ليالٍ، يتخللها الفجر وتنتقل إلى الليلة التالية. وقد شبه دانييل هيلر روزن هذه الحقيقة بالجمود، أي عندما ينتقل معنى بيت من الشعر من فاصل سطر إلى آخر. بالنسبة له، هذا يجعل "الليالي" لا حدود لها. يكتب: "يجب أن تكون الليلة الألف والأولى ليلة لا نهاية لها، ليلة لن يصل الفجر أبدًا - ليست "ليلة أخرى"، كما يمكن للمرء أن يؤكد، بقدر ما يمكن التأكيد على أنها شيء آخر غير أي ليلة على الإطلاق".

في بعض الليالي، يبدو المغزى من القصة واضحًا. إحداها هي "مدينة النحاس"، وهي قصة رجلين مكلفين بالعثور على زجاجات، وفقًا للأسطورة، لا تزال تحتوي على الجن المتمرد الذي أسره الملك سليمان. انطلق المستكشفون من دمشق باتجاه "الغرب الأقصى" (المغرب الحالي) لكنهم ضلوا طريقهم وصادفوا قلعة حجرية سوداء وفارسًا برونزيًا (أحد الروبوتات المسحورة العديدة في التاريخ) الذي بعد دعكه ، يشير نحو مدينة النحاس. وبعد التحدث مع شيطان حاصره سليمان في عمود من الحجر الأسود، وجد الرواد المدينة الفخرية، التي نحتت جدرانها تحذيرًا: "لو كان أي مخلوق يستطيع أن ينال الحياة الأبدية، لكان سليمان بن داود قد وصل إليها. ".

ومن تحصينات المدينة، تقوم مجموعة من النساء الجميلات بإغراء الرجال، حيث يحاول بعضهم التسلق ولكنهم يسقطون بعد ذلك ويموتون. النساء عبارة عن دمى متحركة، يتم صنعها بالسحر ويتم وضعها كطعم. يحذر القائد التقي للبعثة من بقي من هذه الحيلة ويدخلون المدينة حيث يجدون مشهدًا مروعًا. لقد مات جميع المواطنين، من المفترض بسبب المجاعة، لكن جثثهم محشوة ومدعومة في المكان الذي كانوا يعيشون فيه ذات يوم: نوع من متحف التحنيط الكئيب. يقول أندراس هاموري، الأستاذ الفخري في جامعة برينستون: "الموت هنا أصبح أبديا". حتى ملكة المدينة، تادومرا، هي عبارة عن محاكاة وهمية تهدف إلى خداع المتفرجين، حيث تمت إزالة مقلتيها وإعادة ربطهما بعد أن امتلأت تجاويفها بالزئبق.

وبطبيعة الحال، يحذر كتاب "مدينة النحاس" القراء من أنه لا يمكن لأحد أن يخدع الموت - ولكن أيضا من أن الموت يمكن أن يشبه الحياة إلى حد كبير. المظاهر قد تكون خادعة، ومن هنا ضرورة تمييز الحق من الباطل. والسبيل للقيام بذلك، كما تشير القصة، هي من خلال التقوى. تتناقض مدينة النحاس النابضة بالحياة مع مدينة أخرى، كركر، حيث يتوهج ضوء ساطع من البحر في المساء السابق ليوم الجمعة، وسكانها من أتباع الخضر (الرجل الأخضر)، الحكيم التقي والولى في التقاليد الإسلامية. حاكم كركر يعطي المستكشفين سمكة ليأكلوها (عكس المجاعة في مدينة النحاس) و12 زجاجة نحاسية تحتوي على الجن المتمردين. تعود المجموعة إلى دمشق وتحرر الجن وتقسم الكنز بين الناس.

على الرغم من تجاهلها إلى حد كبير في الغرب، إلا أن "مدينة النحاس" نالت نصيبها من المعجبين. كتب روديارد كيبلينج قصيدة تحمل نفس العنوان يشيد فيها بالقيم البريطانية التقليدية، تلك "الأسوار القديمة المنيعة"، وينتقد الضرائب المرتفعة التي فرضتها الحكومة الليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يعتقد أنها ستدمرها. في عام 2017، نشر إس إيه تشاكرابورتي رواية خيالية بعنوان "مدينة النحاس" تدور أحداثها حول فنانة محتالة من القاهرة تدعى نهري ومغامراتها الغريبة مع محارب من الجن يدعى دارا، في أرض بعيدة تسمى ديفاباد. جلبت هذه الأعمال وغيرها قصة مثيرة للاهتمام ولكنها غير معروفة للقراء، ولكنها، مثل "مدينة النحاس" الأصلية نفسها، تظل بعيدة عن المسار المطروق إلى حد كبير.

وعلى النقيض من ذلك، فإن "الليالي" العربية المبكرة الأخرى ليس لها أخلاقيات واضحة. على أية حال، فهي تقدم شيئا من مناهضة الأخلاق، ناهيك عن تلك القصص التي توجد فقط من أجل البهجة والمفاجأة. ولنتأمل هنا حالة "دورة الأحدب"، حيث تحكي أربع شخصيات (خياط، وطبيب، وكبير خدم، وسمسار) قصتهم بالترتيب الذي تظهر به. يحكي كبير الخدم عن تاجر أقمشة لم يأكل قط طبق زرباج، وهو طبق لحم أو دجاج فارسي حلو وحامض، حتى غسل يديه 40 مرة. في أحد الأيام، يقع هذا المتسكع في حب امرأة شابة، مضيفة السيدة زبيدة. لكن في حفل زفافه، ينسى العريس أن يغسل يديه ليحصل على الزرباج الذي أهداه إياه الطباخ بالخطأ.

ما سيحدث بعد ذلك يعتمد على نسخة القصة. في إحدى الروايات، من مجموعة الحكايات الورعة التي تعود إلى القرن العاشر بعنوان "الفرج بعد الشدة" للقاضي والأديب المحسن بن علي التنوخي، تتراجع عروس الوكيل الجديدة عن  شتم وتوبيخ زوجها على أخلاقه "المتدنية". يقسم أن يغسل يديه أربعين مرة قبل أن يأكل الزرباج منذ ذلك الحين وبعد ذلك يتصالحان. الدرس واضح: الفضيلة، بما في ذلك آداب المائدة الجيدة، هي مكافأة بحد ذاتها. لكن في نسخة "الليالي"، تعاني زوجة الوكيل مما يمكن أن نسميه بالصداع. تطالب بجلد زوجها وقطع إبهاميه، تماشيًا مع التشويه الذي شوهد في جميع قصص " دورة الأحدب "، وبعد ذلك - بشكل لا يصدق - يتم التصالح بينهما.

من الصعب معرفة كيفية اتخاذ هذا. تمول "الليالي" العنف سواء في رد فعل الزوجة أو في عقاب الزوج، مما يزيد من المبالغة في حد ذاته. وكما لاحظت الباحثة العربية سارة بن طاير، فإن هذا "يخلق المزيد من الجاذبية والفضول على مستوى سرد القصص، وهو أكثر تذكرًا من ’السلوك النموذجي‘" الذي ظهر في نسخة التنوخي المنقحة. وفي النهاية، قد لا تكون القصة أكثر من مجرد مشهد محض. ومع ذلك، إذا كان القارئ يتعلم أي شيء، متبعًا بن طير مرة أخرى، فيبدو أنه عكس حكاية التنوخي: هذا ما تحصل عليه مقابل السلوك السيئ.

"لقد كانت ترجمة غالان الفرنسية هي التي أنقذت "الليالي" من الغموض الذي وقع فيها في الأراضي العربية، وأكدت سمعتها الدائمة في جميع أنحاء العالم." ما الذي ينبغي للمرء أن يفهمه من هذا الادعاء الذي أطلقه الروائي روبرت إيروين، من مقدمة كتاب "حكايات العجائب وأخبار الغريب"؟ ادعاء تفوح منه رائحة الاستشراق الذي يدافع عنه إروين في مكان آخر، وبالتحديد في كتابه "المعرفة الخطرة"؟ ويبدو أن هذا يدعو إلى رفضه باعتباره هراء متمحورًا حول الغرب، مع استثناء واحد: إنه صحيح تمامًا.

في حين أن جوهر الحكايات لا يزال قائما مع مرور الوقت - وعلى الرغم من أن سجلات العصور الوسطى تؤكد تداولها، على سبيل المثال، في سجل القروض لبائعي الكتب اليهود القاهريين في القرن الثاني عشر أو في كتاب "كتاب الخطط" للمؤرخ المقريزي في القرن الخامس عشر. "، تاريخ معماري وسياسي للقاهرة في العصور الوسطى) - جميع نصوص "الليالي" التي ترجع إلى ما قبل القرن الثامن عشر هي عبارة عن مجموعة متنوعة من الإضافات والتلاعبات والزخارف. وهي تُظهر أن "المجموعة لم تكن ثابتة تمامًا سواء من حيث الحجم أو المحتوى"، كما كتب الباحث العربي دوايت رينولدز، "لكن بدلاً من ذلك، استمر منقحو العصور الوسطى في تجميع نسخهم". وقد يأتي هذا من الازدراء الطويل الأمد لـ "الليالي" بين النخب العربية. ومن المفارقات، ولأسباب مختلفة، أن النصين العربيين الأكثر شهرة في الغرب، وهما "الألف ليلة وليلة" والقرآن، ليسا ما يعتقده معظم القراء العرب، في معظم التاريخ العربي، على أنهما رسائل أدبية جميلة.

وفي حالة "الليالي"، نظر إليها القراء العرب على أنها فولكلور وليس كتابة رفيعة المستوى. حتى أن عالمًا مثل مفكر القرن العاشر أبو حيان التوحيدي يقتبس وجهة نظر مفادها أن "هزار أفسان"، المصدر الفارسي لـ "الليالي"، مليء بالخرافة. ناهيك عن المتشددون المسلمون مثل عالم القرن الثالث عشر ابن تيمية، الذي انتقد القصص الشعبية مثل "الليالي"؛ وقد وسم تلميذه ابن كثير أعمالاً مثل "حكاية الأميرة فاطمة، "المرأة المحاربة" ("سيرة ذات الهمة") بانها "كذب وزور وكتابات غبية وجهل تام وهراء فاحش لا يطلبه إلا السفهاء وأحط الجهال". وبدلاً من ذلك، كان القراء العرب في فترة ما قبل الحداثة يقدرون الشعر، وخاصة قصيدة “المديح” المستخدمة في مدح الحكام، والتباهي بالمآثر المجيدة، والإساءة إلى المنافسين. بالنسبة للنثر، كانوا يتطلعون إلى رسائل السفارة، أي المراسلات الحكومية الرسمية المكتوبة بنثر منمق. لا ينتشر أي من النوعين جيدًا في الغرب الحديث، ولهذا السبب لا يعرفهما معظم الغربيين.

على النقيض من ذلك، وصلت رواية الليالي إلى أرفف الكتب الأوروبية في الوقت الذي كانت فيه موجة جديدة من الحكايات الخيالية تجتاح القارة، ولهذا السبب انطلقت نسخة غالاند مثل النيزك، ولماذا، وفقًا لإيروين وآخرين، كانت شرارة غالاند هي التي أعادت إشعال الشغف بالقصص في الشرق الأوسط، تماماً كما فتنت الأوروبيين في البداية بتلك القصص. وكما ازدهرت التحليلات والترجمات والتعديلات الأوروبية لرواية "الليالي" مثل الطحالب في أعقاب غالاند، فقد وجد العرب وغيرهم في الشرق الأوسط طرقًا جديدة في القصص

كانت طبعة "الليالي" الصادرة عام 1835 من المعالم البارزة، والتي استندت إليها جميع الطبعات والترجمات الحديثة. هذا النص، كما كتب خبير "الليالي" أولريش مارزولف، هو الذي "وضع حداً لتطور النص العربي للعمل"، بعد أن ظل في حالة تغير مستمر لأكثر من ألف عام. وجدت دراسات "الليالي" الأكاديمية موطئ قدم لها مع أطروحة الدكتوراه التي قدمتها سهير قلماوي عام 1939، والتي أشرف عليها "عميد الأدب المصري" طه حسين. أثارت أعمال القلماوي الاهتمام برواية "الليالي" في مواجهة الرواية الحديثة، والتي شكلت موضوع مؤتمر عام 1979 في فاس بالمغرب. أعادت بعض الكاتبات العربية  صياغة القصص بعدسة نسوية، مثل ادعاء وداد السكاكيني في "إنصاف المرح" بأن أنوثة شهرزاد وسرد القصص كانا أسلحة لاحتواء النظام الأبوي. وفي عام 1989، خصصت مجلة التراث الشعبي العراقية عدداً كاملاً لـ«الليالي»، بينما نشرت المجلة الفصلية النقدية المصرية «فصول» في عام 1994 ثلاثة أعداد كاملة عن دراسة «الليالي».

لكن اهتمام الشرق الأوسط بـ"الليالي" لا يقتصر على البرج العاجي. كما أنها ألهمت الروائيين وصانعي الأفلام الذين أعادوا تفسير القصص في ضوء جديد. إحدى الحالات الشهيرة هي رواية “ليالي ألف ليلة” (“ليالي وأيام عربية”) التي كتبها الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ عام 1979، والذي اقتبس رواية "الليالي" كرمز للسياسة المصرية في السبعينيات؛ تمت مقارنة روايته بالواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية. أعادت هالة كمال والعديد من المؤلفين المشاركين تصور شهرزاد كبطلة نسوية في كتاب "قلعة الراوية" الصادر عام 1999.

يعتمد الكاتب المغربي الطاهر بن جلون على زخارف "الليالي" مثل الأحلام، والتغيير، والراوي الأعمى، والمخطوطة غير المكتملة في روايته ما بعد الاستعمارية "L’enfant de sable" (طفل الرمال) عام 1985. قال بن جلون عام 1992: "في المغرب، الواقع يتجاوز الخيال. لا يمكن للمرء أن يتخيل الواقع المجنون تمامًا لهذا البلد. "ألف ليلة وليلة" مجازية. إنه يحدث في عالم الخيال، لكنه لا يزال صحيحا ويعبر عن جزء من الواقع. لدى الشعب المغربي خيال استثنائي يتجاوز الواقع.

إن تأثير عروض "الليالي" في السينما والتلفزيون أقوى. وبينما كانت هوليوود تعيش ما يسمى بالعصر الذهبي مع أفلام مثل "لص بغداد" (1940، 1961) أو "رحلة السندباد الذهبية" (1973)، كان هناك أيضًا إبداع تحت عنوان "الليالى" في السينما العربية. صدرت أفلام مصرية بعنوان "أحد عشر ليلة وليلة" عام 1941 من إخراج توجو مزراحي، وعام 1964 من إخراج حسن الإمام. قام ببطولة الفيلم عام 1941 أسطورة المسرح الموسيقي علي الكسار، الذي اشتهر بدوره كعلي بابا في إنتاج آخر لمزراحي ، علي بابا والأربعين حرام (علي بابا والأربعين حرامي). ") فى عام 1942. تحمل هذه الأفلام طابعًا كوميديًا وموسيقيًا كان سائدًا في كل من هوليوود والثقافة المصرية في ذلك الوقت. تقول الباحثة ديبورا ستار إن عمل مزراحي على وجه الخصوص يستحضر القومية المصرية في القاهرة وعالميتها التعددية، باستخدام موضوعات التنكر والهوية الخاطئة لصياغة رؤية مفعمة بالأمل للمستقبل.

وبطبيعة الحال، تعد "الليالي" أيضًا مادة لواحد من أعظم أشكال الفن في الشرق الأوسط: "المسلسل"، أو الدراما التلفزيونية. تتضمن هذه العروض مقطوعات تاريخية يتم عرضها خلال شهر رمضان المبارك وتشبه إلى حد كبير أفلام عيد الميلاد في الغرب، مما يوفر ذريعة للعائلة والأصدقاء للتجمع والدردشة والاستمتاع بتناول وجبة. منذ الثمانينيات على الأقل، أعادت الدراما التليفزيونية في جميع أنحاء العالم الإسلامي سرد قصص من "الليالي". وتشمل العروض الأخيرة الدراما الهندية 2007-2009 "علاء الدين"؛ والدراما التركية “Binbir Gece/ ألف ليلة وليلة” التي عُرضت خلال نفس الفترة؛ والمسلسل المصري ( ألف ليلة وليلة )  عام 2015 بطولة المغنية اللبنانية نيكول سابا في دور شهرزاد.

في الواقع، قد تكون الوظيفة الاجتماعية واللمسة الشخصية التي نراها في الدراما التلفزيونية العربية هي الإرث الأقوى والأكثر ديمومة لمسلسل "الليالي". يشاهد الأطفال في الشرق الأوسط الحكايات في المنزل ويقرؤونها في الفصل الدراسي. يسمعون تلميحات "الليالي" في الحديث اليومي وفي الشارع. يقول الروائي المصري الكندي عمر العقاد في مقابلة عبر البريد الإلكتروني، واصفًا كيف تخيم "الليالي" على كل شيء في مصر: "أثناء عودتك إلى المنزل من الحضانة، قد تمر بمطعم دجاج مقلي يستخدم علي بابا كشخصية لسبب غير مفهوم". تعويذة؛ أو قد يحول بعض البالغين إشارة سندباد إلى نكتة حول أحد أفراد الأسرة الذي يحاول الانتقال إلى الغرب.

هنا تناقض رئيسي بين "الليالي" في الشرق والغرب. وعلى الرغم من كونها محبوبة بالنسبة للأوروبيين والأميركيين الشماليين، إلا أن هؤلاء القراء لا يمكنهم أن يزعموا أن الحكايات تراث مباشر، وليس بالطريقة التي يمكن أن يفعلها، على سبيل المثال، متحدث عربي أصلي نشأ في الشرق الأوسط. ليس علاء الدين وسندباد، بل هرقل، كيوبيد، أوديب، ثور - شخصيات من الأساطير اليونانية واللاتينية والإسكندنافية - هم المحلول الملحي المرجعي الذي تغرق فيه الثقافة الغربية. وحتى منح علاء الدين والسندباد مكانهما، كما ذكرنا، ليست هذه هي الحكايات التي شكلت "الليالي" في معظم تاريخها.

يروي العقاد قصة "لياليه" الشخصية في مقدمة النسخة الإنجليزية الأحدث، التي ترجمتها ياسمين سيل ونشرتها دبليو دبليو نورتون عام 2021. يحمل الكتاب عنوانًا مزدوجًا "الليالي العربية المشروحة: حكايات من ألف ليلة و ليلة"، حيث يشير "ألف ليلة و ليلة" إلى الجوهر المبكر للحكايات العربية، بينما يشير "الليالي العربية" إلى القصص الفرنسية اللاحقة التي أضافها غالاند. يعد هذا التقسيم، بالإضافة إلى الحواشي الغنية والفنون البصرية التي تحيط به، إحدى الهدايا العظيمة للعمل. تدمج سيل والمحرر باولو هورتا وجهة النظر الأكاديمية للنص مع متعة سرد القصص، والتي تتتبع كيفية رؤية الناس في الشرق الأوسط لـ "الليالي".

يتذكر العقاد عبر البريد الإلكتروني: "حتى عندما كان أعمامي يروون لي قصصًا من الليالي، كانوا يبدؤون في كتابة تفاصيل مستقلة ( وهو أمر لم أدركه إلا بعد سنوات). لم يكن هناك عقيدة تقليدية حول هذا الموضوع، بل كان بمثابة مجموعة أدوات جماعية لسرد القصص، يمكنك أن تؤلف ما تريد من الحكايات.

لكن بالنسبة للعقاد، كان أهم متحدث هو والده، الذي كان يتسلل عندما كان صبيًا صغيرًا إلى مقهى الفيشاوي، في أعماق سوق خان الخليلي الذي يشبه المتاهة في القاهرة القديمة، ويستمع إلى قصص الشعراء والمغنين والرسامين وهم يتبادلون القصص والأبيات اللاذعة في وقت متأخر من الليل.هناك شيئان حول هذا المرق المسكر عالقان لدى العقاد على مر السنين. فمن ناحية، كان والده، الذي مات صغيراً، يبتهج وهو يتذكر تلك الصالونات المسكرة. ومن ناحية أخرى، لا توجد سجلات للاجتماعات سوى شهادة والده.

يقول العقاد: "لقد فكرت في هذا الأمر كثيرًا على مر السنين، لأنه ربما لم تكن القصة التي أخبرني بها والدي صحيحة. أو ربما قمت على مر السنين بتحويلها دون وعي إلى ما أريده، أو ربما كان هناك طفل آخر يجلس على أرضية المقهى خلال تلك الجلسات يتذكر ما حدث بشكل مختلف تمامًا. في بعض النواحي، تلك الخاصية الشفافة تخيفني. أريد اليقين، لكن لا أملكه. … نحن جميعًا أوعية للذاكرة، والفن هو السكب.

في النهاية، قد تكون الحرية المشتركة ورعب عدم اليقين هو ما ترمز إليه "الليالي" حقًا. تدعونا الذكريات الغامضة إلى ملء الفجوات، أو- كما في قصة انتفاخ بطن المسكين أبو حسن- إلى نقشها على الحجر بدقة المؤرخ. أيًا كان المسار الذي تسلكه، فكلاهما يعود إلى الماضي ويتجه نحو المعضلة القديمة المتمثلة في "كان ياما كان."

(تمت)

***

...............................

المؤلف: كيفن بلانكينشيب / Kevin Blankinship . يعمل كيفن بلانكينشيب محررا مساهما في مجلة نيو لاينزNew Lines magazine/  . وهو أستاذ مساعد للغة العربية في جامعة بريجهام يونج. ظهرت كتاباته في مجلة The Atlantic، ومجلة Los Angeles Review of Books، وThe Spectator، وThe Times Literary Supplement، وغيرها.

رابط المقال على  New Lines magazine بتاريخ 2 يوليو 2023:

https://newlinesmag.com/essays/the-forgotten-middle-east-legacy-of-1001-nights/

العدالة ممكنة من جهة الحق ومؤجلة من جهة الواقع وإن الانبثاق من صمت طويل للضحايا، يكون أكثر إيلامًا لأنه مدفون أو غير قابل للذكر أو منكر - الانتباه إلى شخصية الضحية التي هي حقيقة حديثة في التفكير في العادل. إشارة أيضًا إلى محاكمة هجمات 13 تشرين الثاني/نوفمبر، التي تغطيها الصحافة في الوقت الحالي، والتي تعطي صوتًا لصدمة الضحايا. يبدأ المتحدث مداخلته بالرفض المزدوج للخطب المهدئة و/أو الوصف المخيب للآمال للعدالة كمؤسسة. الخيارات المتناظرة للمثالية: التعامل مع العدالة باعتبارها فضيلة نقية لا يمكن الوصول إليها ــ و/أو الواقعية: العدالة "أدب القوة" (أناتول فرانس)، واللياقة، والبناء، والمسرح البسيط. إشارة إلى نقد أسلوب إيليتش: ما يشفي يتفاقم، وما يدعي القتال يزيد ويتضاعف. ان الحركة التي نجدها في بعض الفلسفة الفرنسية المعاصرة مع لهجات مقصورة على فئة معينة: دريدا، العدالة باعتبارها "تجربة المستحيل"، الالتباس، "التفكيك" في العمل: "القوة التي تطيح بكل الآخرين"؛ أو مرة أخرى، ليفيناس: العدالة الموضوعة في علاقة مع "الخير المطلق" وما لا يمكن إصلاحه. فساد العالم الذي ستكون النتائج الحقيقية الوحيدة منه هي الخلاصية أو الغنوص والهروب إلى الدين. وهذا البعد لا يغيب عن تفكير أنطوان جارابون بما يتوافق مع رسوخه في فكر ريكور الذي يستشهد منه برمزية الشر. لكنه اختار عمدا البدء من الفجوة التي هي في مركز مهمة القاضي. وبالتالي فإن المستحيل لا يشير هنا إلى العدالة نفسها، بل إلى ما يستحيل قبوله وواجب القيام بالمستحيل في رد الجميل لكل شخص "ما هو مستحق له". هناك نص بليغ من كامو يلهم المناقشة بأكملها:" نحن نعلم أننا في تناقض ولكن يجب علينا أن نرفض التناقض ونقوم بما هو ضروري للحد منه. مهمتنا كبشر هي العثور على الصيغ القليلة التي من شأنها تهدئة الألم اللامتناهي للنفوس الحرة. علينا أن نصلح ما تمزق، وأن نستعيد العدالة التي يمكن تصورها في عالم من الواضح أنه غير عادل، ويحقق سعادة ذات مغزى للشعوب التي سممت بمحنة هذا القرن. وبطبيعة الحال، هذه مهمة فوق طاقة البشر. ولكننا نطلق على المهام الخارقة التي تستغرق من الرجال وقتًا طويلاً لإنجازها، هذا كل ما في الأمر. [1] إن نقطة الانطلاق للتفكير إذن هي محنة العنف والشر التي تنشأ، أمام القاضي، في ومن خلال كلمات الضحية وكذلك المتهم. ويواجهها القاضي "وجهًا لوجه"، كإنسان أيضًا، وليس كقاضي فقط. ضحية اعتداء جنسي من قبل كاهن؛ تقول: "ما عشناه لا يمكن تصوره". تم استخدام صيغ مماثلة من قبل الناجين من المعسكر. ووفقا لصيغة بيغي، فالمسألة إذن هي مسألة "رؤية ما نرى". محاولة حل التشابك الذي لا ينفصم من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها. وستكون العدالة هي المورد الوحيد في مواجهة ما ينهار. في بعض الأحيان، يتعلق الأمر بالقوانين نفسها، من 33 إلى 45 في ألمانيا، و40 في بلدنا، وهناك حاجة إلى محكمة على مستوى أعلى كما هو الحال في نورمبرغ؛ وإلا، فإنه داخل الجسم الاجتماعي، مؤسسة (الكنيسة)، وليس مجرد شخص، ينهار شيء ما أو يصبح معقودًا، ويجب على العدالة أن تعيده أو تتفكك، بقدر ما تستطيع. إن التأمل الذي تم تطويره هنا، بعد آخر أعمال ريكور، متجذر في إطار عمل القاضي ومعناه. الإصرار على دور الإجراء والمحاكمة والجلسة والمحكمة وما هو على المحك هناك من خلال قوة الإطار وأشكاله. سيكون المؤتمر عبارة عن تعليق طويل على صيغة جستنيان المعروفة: " العدالة هي الإرادة المستمرة والدائمة لإعطاء كل ذي حق حقه ". الإرادة والجهد – الاتساق. فالعدالة إذن هي «فن عملي» (أرسطو). معادلة بادينتر: الجمهور "مثل البحر". لقد شرعنا هناك ونواجه لحظات العاصفة. العدالة كفضيلة و"فن قائد الدفة". أي الوقوف بثبات في مواقف المواجهة هذه، والوقوف بثبات في وجه الإفراط. هناك "ليتورجيا قانونية" وظيفتها السماح بـ "سرد" الكلمات المتناقضة و"عقد" المحاكمة. إشارة إلى مؤتمر ميشيل فوكو الذي عقد في يونيو/حزيران 1974 في ريو تحت عنوان الحقيقة والأشكال القانونية. يصر فوكو على فكرة علم آثار الحقيقة فيما يتعلق بتاريخ الإجراءات:أوديب الملك هو نوع من التلخيص لتاريخ القانون اليوناني. العديد من مسرحيات سوفوكليس، مثل أنتيجون وإليكترا، هي نوع من الطقوس المسرحية لتاريخ القانون. يقدم لنا هذا التمثيل الدرامي لتاريخ القانون اليوناني ملخصًا لتاريخ الفتوحات العظيمة للديمقراطية الأثينية: تاريخ العملية التي استولى فيها الشعب على حق القضاء، والحق في قول الحقيقة، ومعارضة الحقيقة. إلى سادته ليحكم على المتسلطين عليه[2].تفكير يتردد صداه مع أعمال جان بيير فيرنانت ولكنه يصر على أهمية "الخلاف" و"النزاع" ولكن بوساطة. «المظهر» يعلق أنطوان جارابون: «الظهور أمام» بعضنا البعض بمنظور «الطرف الثالث» (ريكور). واحد لن يكون موجودا دون الآخر. اربط الشخص الذي فشل بما يمكنه أن يصبح عليه مرة أخرى وبالدور الذي سيقع عليه. مرجع يسمح له باستعادة احترامه لذاته في عينيه. قطب الواجب الذي يأتي في المركز الثالث. وكذلك القانون كمؤسسة ثالثة فيما يتعلق بالحالة "السياسية" للإنسان. التوتر المؤسسي الذي ينبع من التناقض بين القيمة والحرية: وبقدر ما يتعلق الأمر بالكائنات العاقلة والحرة، تتطلب العدالة أن يكون النظام الذي تنشئه خاضعًا لموافقتهم، وأن يكون حتى، بمعنى ما، عملهم حصرًا[3]. "الآخر" إذن هو "كل" من "رد الجميل لكل واحد". هذا الذي ليس صديقاً ولا عدواً، بل هو عضو في المجتمع السياسي أو الإنساني. أمر القاضي بعدم الاستسلام للحب أو الكراهية. البقاء على "المسافة الصحيحة". التكنولوجيا الرقمية كخطر إزالة المكانية التي تذكر بالمكانة الهيكلية للفضاء في عمل العدالة: الفضاء العام، الفضاء بين بعضها البعض والذي يسمح بإجراء المحاكمة. "التسليح"، الاستخدام غير المقيد لـ "الآثار". في الفضاء الاجتماعي، "وجود الآخر يُلزم" (ليفيناس). وهنا على العكس من ذلك: الدعوة إلى الإعدام دون محاكمة، وإنكار قرينة البراءة. مطالبة مشتعلة بالعدالة وانعدام ثقة غير مسبوق في المؤسسات والتمثيل. ومن هنا التذكير بضرورة الفضاء كفاصل وكإمكان "للمشهد". المسرح التراجيدي هو مواجهة، ووسيلة لفك تشابك الخطأ الذي لا يتحمل البطل المسؤولية عنه بشكل كامل والذي يجب أن ينفصل عنه. سيكون استحالة العدالة، في نهاية المطاف، في "العقاب" الذي سيتعين عليها قياسه وإيقاعه: التكافؤ بين العقوبة والخطأ. تضاعف العنف الذي كان من الضروري القتال ضده؟ التوتر من العدالة / الانتقام، التعويض / القمع. ثم يصر أنطوان جارابون على "السرد القصصي" و"المشهد". كتب كامو: "اجعل الأمر قابلاً للتخيل". كذلك يقول ريكور: «الخلاص الجمالي من الشر من خلال المشهد التراجيدي». قد يساعد هذا في حل التوتر المبلغ عنه. دعونا نضيف إلى هذا البعد المكاني، المسح الزمني الذي يتضمنه ويسمح به: "نطق" الجملة، "تنفيذ" الجملة عكس "مسار الزمن". إنها تفتح إمكانية المغفرة وإعادة الاندماج وشكلًا معينًا من النسيان. ذلك الذي يعارضه فرويد بـ"القمع" الأول: هذا، من خلال الكلام، سيكون أو يمكن أن يكون "تجاوزه". فالعدالة إذن هي الجهد المستمر والعنيد لإعطاء كل فرد ما يستحقه.  لماذا يخفق الفاعل السياسي دوليا عندما يؤسس موقف نظام حكمه على منظومة العدالة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.................................

الاحالات والهوامش:

[1] Les Amandiers, en date de 1940 ; dans L’Été, 1954.

[2] Foucault, Dits et écrits, t. I, p. 1439.

[3] Gérard Potdevin, La justice, coll. Quintette.

Antoine Garapon, Bien juger, essai sur le rituel judiciaire, Odile Jacob.

Antoine Garapon, Jean Lassègue, Le droit sans l’espace, justice digitale II, Odile Jacob, sept 2021.

كانت المرحلة المكِّيَّة من عُمر الرسول، عليه الصَّلاة والتسليم، بعد البعثة - أي الثلاث عشرة سنة الأُولى - هي مرحلة العقيدة، كما يُمكِن أن تُسمَّى، على حين جاءت المرحلة التالية- مرحلة (المدينة المنوَّرة)، المتمثِّلة في العشر السنوات بعد الهجرة- لتكون مرحلة الشريعة. فكان طبيعيًّا، من الوجهة التاريخيَّة، أن تجيء فيها الأحكام والتشريعات، التي لم يكن لها ذِكر من قبل، لأسباب منهجيَّة وأسباب واقعيَّة. والمنهج والواقع كانا صِنوَين. فكيف يُشرَّع في (مكَّة) لِما لم يكن بعد؟ كيف يُشرَّع لدولةٍ لم تَقُم أُسُسُها، ولم تواجه مقتضياتها، ولمَّا تشرئب في وجهها التحدِّيات بعد، أو تنزل بساحتها النوازل التي تستدعي الأحكام التشريعيَّة، ولمَّا يحاصرها العدو من كُلِّ طَرَف، من أعرابٍ وثنيِّين ويهود؟!

هكذا استهلَّ (ذو القُروح) مرافعته في محكمة العدل التاريخيَّة أمام مدَّعي النصارى وأنصارهم من مدَّعي الليبراليَّة الحربائيَّة. فقلتُ:

- على أنَّ هؤلاء يتجاهلون، عمدًا- إلَّا إنْ افترضنا غباءهم المطبِق وجهلهم المطلَق- أنَّ مبدأ حُريَّة الدِّين بقي مكفولًا: «وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ؛ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»!

- لكن «مَن شاء» هذا عليه أن يحترم نفسه؛ فلا يقاتل المسلمين، ولا يتآمر عليهم. وفي (سُورة الزُّمَر): «قُلِ: اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي؛ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ.  قُلْ: إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ.» وفي (سُورة الجاثية): «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»  

- غير أنَّ هؤلاء يقولون: إمَّا أن يكون خِطاب الإسلام سِلميًّا دائمًا، أو حربيًّا دائمًا، وإلَّا فهذا تناقُض، أو مَكْرٌ بالناس.

- وربما استشهدوا بمرويَّات مُنْكَرة المتن، بمعايير «القرآن»، وإنْ صَحَّ سَندها. وهذا بلاءٌ عظيمٌ في الثقافة، من الانشغال بالأسانيد وصِحَّتها، وجعل المتون وما بينها من تباين مسألةً لاحقة، أو ثانوية. وزاد الطينة بِلَّة القول بالنَّسخ، أو بهيمنة المرويَّات على الكِتاب، الذي قال عن نفسه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، مُصَدِّقًا لِـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ؛ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ؛ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون.» [سُورة المائدة، ٤٨].

- وهكذا صار المهيمِن مهيمَنًا عليه!

- ومن هنا فإنَّ ذلك المنهاج المقلوب هو الذي يُزلِف بين يدَي العابثين كثيرًا من أدواتهم، ويقدِّم أمام الخِطابات المغرضة زادًا يكاد لا ينضب من مَداخل الادِّعاء.

- ثمَّ إنَّ هؤلاء يتجاهلون- عن تقصُّد، وكأنهم بعض كُفَّار (قريش)، أو يهود (خيبر)- مَن الذي كان المعتدي على الآخَر؟ ومَن كان الظالم؟ ومَن المعذِّب للمسلمين في (مَكَّة) لمجرَّد عدم عبادة الأصنام، أو تتويجها بعبارات التمجيد؟ ومَن المنكِّل بالعبيد والنساء والمستضعفين؟ ومَن المُلاحِق لمن قالوا ربنا الله وحده؟ ومَن المُخرِج لهم من ديارهم، تارةً فرارًا إلى (الحبشة) وأخرى هجرةً إلى (يثرب)؟ ومَن المتآمر لاجتثاث الفكرة الجديدة في حَدِّ ذاتها، بعد هجرة المسلمين إلى يثرب؟ مَن مقترف كلِّ ذلك الطغيان، والتصفيات؟ ومَن أرباب التحزُّبات، والاستبداد، والحصار؟ حتى جاء الإذن بالقتال للدِّفاع، بعد أن ضَجَّ المعذَّبون ممَّا حاق بهم من جبروت المشركين وتآمُر اليهود، وحتى أوشك بعضهم أن يُفتَن في دِينه، ويشكَّ فيما وعد الله ورسوله. و«القرآن» يَرُدُّ عن هذه المسألة في قوله من (سُورة الحَج)- وهي مَكِّيَّة، وإنْ قيل بأنَّ فيها آيات مَدَنيَّة(1)-: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا: رَبُّنَا اللهُ؛ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ، لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ؛ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.» كما يُجيب عن تَهَوُّكات أولاء الذين يلعبون على وَتَر المكِّي والمَدَني، ومعزوفة أنَّ الرسول والمسلمين قاتلوا المشركين واليهود، هكذا حُبًّا في القتال والعُدوان، غير محترِمٍ أولو الأهواء من هؤلاء الحقيقةَ التاريخيَّة، والأسبابَ الموضوعيَّة في ذلك القتال، مِن نَكْث الأيمان والمعاهدات، والإخراج من الدِّيار، والبَدْء أوَّل مرَّة بالعُدوان!

- كأنَّ هؤلاء من المثاليَّة الكاذبة بحيث يتصوَّرون بَشَرًا يتعرَّضون للأذى والتنكيل، وعليهم مع ذلك أن لا يحرِّكوا ساكنًا في مقاومة الأذى والتنكيل، والدفاع عن النفوس والجموع، وأنْ يبقَوا مسالمين، فإنْ همُ فعلوا غير هذا، رُموا بالدَّمَويَّة والخروج على السِّلم العام! فأي منطق هذا؟

- هو منطق اللا منطق لدَى الظالمين في كلِّ زمانٍ ومكان! منطق الغرب اليوم مع الفلسطينيِّين في مواجهة محتلِّي أرضهم وتاريخهم.

- ألا ترى أنَّه منطقٌ يتظاهر أحيانًا بالأخذ بمقولة مثاليَّة، غير واقعيَّة، وهي إلى ذلك متأوَّلةٌ  تأوُّلًا غير صحيح، تلك المقولة المنسوبة إلى (عيسى بن مريم): «أحبُّوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم!» وهي تدعو إلى حُبِّ الإنسان لإنسانيَّته، ولو كان عُدُوًّا. أي: حُبُّ الخير له.

- وما العداء في الله إلَّا من منطلَق هذا الحُبِّ لجماعة الإنسانيَّة؟! لكن قل لي: مَن ذا أحرق الأخضر واليابس في العالم، قديمًا وحديثًا، غير مدَّعي ذلك الحُبِّ للأعداء والمباركة للَّاعنين؟! فهم يروجون شِعار «أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم!» إذا تعلَّق الأمر بالآخَرين، أمَّا حين يتعلق الأمر بهم هُم، فشِعارهم الأبدي: «اكرهوا أحبابكم، والعنوا مباركيكم!» وأمَّا أن يُسقَط ذلك المعنى للقول بأنه يعني: اقبلوا الذِّلَّة والمسكنة أمام أعدائكم، فلعبةٌ مكشوفة، لا يقول بها عاقل، فضلًا عن أن يكون صاحب رسالة، تنطوي على ما لا يعمل به أحدٌ ولا يستطيع!

- ومن وجهٍ آخَر فإنَّ هذا المنطق يُمَجِّد الجلَّاد، ويعطيه الحصانة من العقاب، ويسلِّط اللوم على الضحيَّة، إنْ هي انتفضت في وجهه.

- إنَّه منطق الطغيان العالمي اليوم الذي يحتلُّ أرضك، ويستنزف ثرواتك، وينتهك حرماتك، ويسفك دمك، وينتظر منك أن تُحِبَّه، وتشكره، وتباركه! فإنْ أنت نهضت في وجهه، رماك بالإرهاب، وعَقَدَ التحالفات في حربك! وهو منطق الأنظمة الطغيانيَّة دائمًا، ومنطق من والاها، إنْ لأسبابٍ من المصالح أو لأسبابٍ من الأيديولوجيَّات. منطقٌ ليس منَّا ببعيد؛ فلقد بات جهاد الظُّلم والعسف والفساد سُبَّةً بعد الحادي عشر من سبتمبر 2000. ويأتي الحِلف عادةً بين السُّلطة الدِّينيَّة والسُّلطة الظالمة لترسيخ هذا المنطق الغريب في العقول والشرائع والمِلل، حتى لكأنَّ الظالم قد نُصِّب رَبًّا، لا يحقُّ للناس أن تسأله عمَّا يفعل وهم يُسألون؟ فإذا طالب الناس سِلميًّا بحقِّهم، قُتِلوا بدمٍ بارد، وإنْ اضطرهم الألم إلى التحوُّل من الكلمة والدعوة والسِّلميَّة إلى المدافعة والسعي إلى التغيير، أُطلِقت عليهم الألقاب! هذا ديدن الطواغيت السرمديُّ، وهكذا يأتي الخِطاب القرآني لتقويم ذاك المنطق الأعوج في الرؤوس. وما نشبت محاربة رسالة (محمَّد) لأنَّ القوم كانوا يكذِّبونه بالضرورة، بمقدار ما كانت من أجل المحافظة على حاكميَّة (النظام القرشي السابق) أصلًا، الدِّينيَّة والسياسيَّة: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟! أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ، إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.» [سُورة التوبة]. وذلك بعد الآية «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُمُ، فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَـهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.» وليست الآية هنا أمرًا بقتلهم هكذا ضربةَ لازب، وبلا مناسبة، وبلا سبب، كما يفهم من لا يفهم الخِطاب، أو لا يحبُّ أن يفهم، فيجتزئ ما يريد لما يريد، وإنَّما هي لبيان أنَّ ذلك مأذونٌ به، إذا انتهت الأشهر الحُرم. غير أنه بشروطه، لا عُدوانًا ولا همجيَّةً، وأوَّل تلك الشروط أن يقع العُدوان: «وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة.» بَيْدَ أنَّ ذوي الأغراض، أو حتى ذوي الجهالة القرائيَّة، يفهمون النصَّ على أنَّه أمرٌ بإطلاق اليَد بالقتل بمجرد انسلاخ الأشهر الحُرم: اقتلوا، واسلخوا، واستأصلوا شأفة المشركين!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1) تُنظَر في هذا دراسة: الجابري، محمَّد عابد، (2006)، مدخل إلى القرآن الكريم، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العَرَبيَّة)، 1: 246.

 

يثيرني ان اقارن بين تصورين الاول ان الله سبحانه يدير ويدبر اعقد المسائل بما فيها الوجود الفيزيقي والروحاني والنفسي والكوني بطريقة متعالية، متجبرة، رحيمة، اما الثاني فهو عدم تعالي الله، عن الاهتمام بطلب او دعاء او حاجة امراة فقيرة في مدينة فقيرة، ومن المهم مقارنة الصورتين، بين المتكبر والرحيم، وبين البعيد والقريب، او بين اللامتناهي وبين معالجته  للمتناهي .

‏لا شك لدي من وحدانية الله وهو واحد بالذات والصفات، والقول بالواحد ليس ليس معناه أنه عدد كباقي الأعداد بل المقصود أنه لا ثاني له .

‏و دار في ذهني وأنا انظر إلى الاكتشافات الجديدة في الكون بواسطة المناظير الحديثة، ‏دار في ذهني المقارنة بين مفهوم الله الذي نعرفه والذي هو أقرب من حبل الوريد وبين مفهوم الله الذي هو الخالق  للمليارات من المجرات التي تبدو بأنها لا متناهية.

‏إن هذه التوسعة في الكون والتي تقترب من مفهوم والسماء بنيها بايد وإنا لموسعون، وهو النص القرآني، تلك التوسعة في الجانب اللامتناهي يخلخل في ذهني التصور النظري او الايماني، فالله الذي يبدو لي أقرب من حبل الوريد، والذي اعرفه بكونه أحد مفاهيمي أو تصوراتي أو عقائدي ‏أو ولي امر وجودي، وبإمكاني التعامل معه على أنه قوة قادرة يمكنني أن أطلب مساعدتها في كل وقت، ‏ويمكن التحدث معها يوميا خمس مرات أو أكثر في الصلوات وغيرها، واتواصل معها في شهور فرضتها هذه الذات مثل رمضان أو الأعياد أو الحج أو الشعائر، ‏إن مثل هذا التواصل القريب بصفه يمثل ‏العلاقة الحقيقية بين العبد والرب،  يختلف عن ذلك التصور الذي ينظر بنظرة شمولية ‏إلى الوجود اللامتناهي في مساحات لا يمكن للذهن ان يحدها بتصوراته البسيطة .

‏ويكون السؤال المعرفي هل أن الله الذي اعرفه واسأله دائما وهو قريب مني (الله المحلي في تصوري) هو ذاته الله الذي خلق هذه المساحات اللا متناهية من الأكوان والمجرات (الله الكوني).

‏والجواب هو ذاته الله القادر لكن ما يختلف هو القدرة على فهم النظر الشمولية لمخلوقات الله المختلفة اللا متناهية.

ففي تصوري للجانب المحلي اجد بان الله ملامس للواقع، قريب من الجزيئات، حاضر في منظومة الجانب الانساني، فهو يدبر انسنتنا بصورة مكثفة، نلجا اليه وفق كون موضوعه ضمن ذواتنا، فهو قريب منا لان ذواتنا تطلبه، ولان دائرة حضوره عند حاجتنا نشعر بها على انها ملامسة لخارطة ادراكنا، فنحن من نطلبه وهو قريب منا لانه يحيط بكل الاشياء ومن ضمنها نحن .

والمحلية هنا ‏لا تعني بأنها محدودة وغير شاملة أو أنها غير محيطة بالأشياء، بل تعني أنها وجود الخارق وتدبيره للأشياء القريبة منا، أو التي نحتاجها، أو الأشياء التي نعرفها وندركها ضمن  منظومة تصوراتنا، والمحلية قد تعني الرجوع للذهن في فهم الله، ‏والرجوع للقواعد المعرفية لفهم الخالق، ‏ومن ضمنها الصفات خاصة به، ‏وهذا فهم نظري، تفكيري، ‏يبنى على قواعد منطقية، ‏أو قوانين تعارفنا عليها، لكن الجانب الكوني يمثل الجانب التطبيقي لمعرفة عظمة الله وفهم عظمة الآيات سيما الآيات ذات الحجم اللامتناهي وسوف يقودونا ذلك ‏إلا هوة، او ‏ فراغ سيكون بين تفكيرنا النظري وبين الواقع اللامتناهي من عظمة هذا الكون المتسع وحجمه المخيف .

لهذا فان مفهوم الله الكوني هو نوع من انواع الادلة التوحيدية التي تقرب لنا منظومة خلق الله اللامتناهية في السموات العديدة، وتدمجها في تصوراتنا التي كانت مقتصرة على الفهم النظري العقائدي الايماني لله، والذي يشير الى تنميتنا لمفهوم الله النظري وتاكيده حتى اصبح عقيدة راسخة لوجود اله واحد لا اخر له، اما جانبه الاخر وهو التطبيقي فيشير الى توسعة مفهوم الخالق باذهاننا وعدم الاكتفاء بالتصور او النظر الى الايات المنطقية السببية، بل التصديق بذلك الوجود على انه ليس الاله الذي نحاول تصوره باذهاننا، والذي نسمع وفق النص الديني  بانه عادل وقوي ومتكبر وصانع ولانهاية له …الخ، بل من خلال التصديق  ب لا نهائيته وبما خلق من خلق

‏إذا بين المحلي والعالمي أو الكوني، ‏يقف تصور كل فرد لما هية كل من ‏المحلي أو الكوني، ‏ربما برزت بعض الأسئلة التي توضح هذه القضية ويمكن السؤال إن هذه السعة.

‏المكانية المليارات النجوم المجرات هل تشغل الله عن العلم بالجزئيات، أيضا كيف يمكن للرب الذي خلق هذا الكون الشاسع أن يعطي اهتماما إلى الإنسان العاصي أو غير العاصي، وهل يستحق هذا الإنسان أن يعطى الاهتمام، وكيف نفرق بين فعل الله في اعقد مسائل الكون، وفعله مع ابسط فهوم وسلوكيات وشخصيات الناس البسيطة، حتى يصل الامر انه يوصف بسريع الرضا .

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

2022-2031

انقضت صلاحية الاستراتيجية السابقة المرسومة للاعوام 2011-2022 من دون ان تحقق ما كان مخططا لها من تطبيق، وقد يعود ذلك لعدة اسباب منها تعاقب الوزراء والتغيير المستمر للقيادات العليا في الوزارتين وانعدام الاستقرار والتمويل وتغيير التشريعات والتعليمات المنظمة لقطاع التعليم، واهمال التركيز على الصورة الكبيرة والأهداف الاستراتيجية والرؤية المستقبلية والتخطيط والتحليل والتقييم للأداء والنتائج، والاقتصار على التركيز على أمور ثانوية أو غير مهمة والتحكم في العمليات الروتينية واحكام القبضة على الجامعات بشكل مباشر مما ادى الى فقدان المرونة والقدرة على التكيف مع التغيرات واضاعة فرص التطوير والاصلاح . وبررت الستراتيجية الجديدة هذا التلكؤ في التنفيذ الى:  "الظروف الامنية والمالية التي تعرضت لها البلاد في عام 2014 ". ومع ذلك، وضعت فصلا خاصا بعنوان "تقييم وتجاوز التحديات" عددت فيه منجزات ومبادرات وزارتي التربية والتعليم العالي معتبرة اياها جزءا من برامج الستراتيجية .

الستراتيجية الراهنة تشكل فرصة جديدة وهامة لإصلاح قطاع التعليم في العراق، خصوصا انه يواجه تحديات كبيرة نتيجة لسنوات من الصراعات والأزمات. كما تستجيب للاحتياجات المتغيرة لسوق العمل والمجتمع المدني في ظل الثورة الصناعية الرابعة. لكن تحقيق أهداف الاستراتيجية يتطلب التزاما سياسيا قويا من جانب الحكومة، وشراكة فاعلة مع جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المعلمين والتدريسيين والطلاب، ودعم مستمر من المانحين والشركاء الدوليين.

تتميز الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق للفترة من 2022 إلى 2031 عن سابقتها بكونها خطة طموحة لحلول وخطط وبرامج اكثر سعة ونطاق تسعى إلى رفع مستوى الجودة والكفاءة والشمول في نظام التعليم العراقي، وتزويد الشباب بالمهارات والمعارف التي تمكنهم من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، وتحسين المهارات التطبيقية للخريجين، وضمان نموذج تمويل مستدام للجامعات. وهذا، بقدر ما هو يمثل اهداف سامية، يثير القلق والشك في قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه، فهي تسعى إلى تحقيق مستوى لا يتناسب مع حالة الأمور المتردية التي يعيشها التعليم.

وعلى الرغم من طموح وشمولية الاستراتيجية، الا أنها واجهت بعض الثغرات ونقاط الضعف، والتي يمكن تلخيصها كالتالي:

1- الستراتيجية لاتبدو شاملة للعراق باكمله لانها كما يظهر لا تشمل العراق عامة بمدارسه وجامعاته في كردستان العراق. انها استراتيجية للتربية والتعليم في الجنوب والوسط تتضمن "التعاون مع الحكومة الإقليمية في كردستان والجهات المانحة والشركاء الدوليين لتحسين جودة التعليم في الإقليم". ولا افهم كيف انها تهدف إلى "توحيد المناهج والمقاييس والشهادات في جميع أنحاء البلاد" بينما تهمل معايير ومؤشرات التربية والتعليم في جزء من البلاد.

2- تتميز الستراتيجية بضعف المعلومات او الاحصائيات عن المدارس والكليات والجامعات الاهلية ومن النادر ان نجد معلومات كافية عن دور المدارس الجامعات والكليات الاهلية ولا نتعرف عن حقيقة الارقام وهل هي تمثل التعليم الحكومي ام مجمل التعليم العام. لذلك، لا يمكن اعتبار هذه الستراتيجية كاملة وتهتم بالتعليم في البلد كله، بل تحتاج إلى مراجعة وتحديث لتشمل القطاع الأهلي والأجنبي في خططها وبرامجها وسياساتها.

3- بالرغم من الاستراتيجية هدفت إلى توفير فرص التعليم العالي اعتماداً على متطلبات سوق العمل، وللارتقاء بجودة مكونات نظام التعليم العالي بضمن العديد من الاهداف، الا اني لم أجد أي ذكر للكفاءات والخبرات والعقول البشرية في الخارج كجزء من هذه الاستراتيجية. ربما يكون هذا نقصاً في الاستراتيجية، لأن هذه الفئة من الموارد البشرية يمكن أن تساهم في تطوير التعليم في العراق من خلال نقل المعرفة والخبرة والابتكارات التي اكتسبوها في بلدان أخرى. كما يمكن أن تساعد في تحسين سمعة الجامعات العراقية على المستوى الدولي، وتشجيع التعاون الأكاديمي والبحثي مع مؤسسات عالمية. إذن، يبدو أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في هذه الاستراتيجية لإدراج هذه الفئة كشريك مهم في تطوير التعليم في العراق.

4- لم تبدي الستراتيجية اي اهمية او خطة او اشارة الى اهمية الاعتماد الاكاديمي الدولي للجامعات ومؤسسات التعليم العالي في تطوير التعليم وضمان الجودة ولا على اهمية المشاركة في برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA) مما يدل على قصر نظر واضعي الستراتيجية وعدم إدراكهم للفوائد الجمة التي توفرها محركات التعلم هذه. اما عدم الاهتمام بالتصنيفات الجامعية الدولية ولا الى المشاركة فيها فانه يدل على اختلاف واضح مع سياسة التعليم العالي الحالية وعلى قناعة واضعي الستراتيجية بعدم جدوى هذه التصنيفات في تطوير التعليم العالي ولربما ايضا الى قناعاتهم (وقناعتنا ايضا) بانها بالواقع تعرقل تطوير الجامعات.

5- تخلو الإستراتيجية من التحديات أو الثغرات أو المجالات المحتاجة إلى تطويرالتعليم فقد اشار بعض المحللين إلى أن الإستراتيجية كانت ضعيفة في مجالات مثل دور المجتمع المدني في التربية والتعليم، أو احتواء التطورات التكنولوجية، أو مواءمة المخططات التشغيلية مع المخططات الإستراتيجية. كذلك، قد يكون هناك بعض الصعوبات في تنفيذ الإستراتيجية ومتابعتها وتقييمها ورصدها، خاصة في ظل الظروف الأمنية والمالية والسياسية المتغيرة في العراق

كما يمكن أن نشير إلى بعض المجالات التي اهملتها الاستراتيجية، مثل:

1- التكافؤ: حيث لم تركز الاستراتيجية بشكل كاف على معالجة التفاوت في فرص التعليم بين المناطق والفئات المختلفة، وخاصة في ظل تأثير الصراع وانعدام الأمن على بعض المجتمعات.

2- التطوير: حيث لم تشمل الاستراتيجية بشكل واضح خططا لتطوير المناهج والبرامج التعليمية، ورفع كفاءة ومهارات المعلمين والأساتذة، وإدخال التقانات الحديثة وتدريب المهارات في عملية التدريس والتعلم.

3- التشارك: حيث لم تستفد الاستراتيجية بشكل كاف من مشاركة أصحاب المصلحة في قطاع التعليم، مثل الطلاب واهاليهم والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في صياغة الأهداف والسياسات والبرامج

4- الفساد الاداري والمالي: حيث يمكنه من عرقلة او افساد اي مشروع تضمنته الستراتيجية وهو بذلك اصبح عائقا رئيسيا امام اصلاح او تطوير التربية والتعليم في العراق.

5- الاخلاق الاكاديمية: تعتبر ظاهرة الغش والانتحال والسرقات العلمية السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد.

6- الحريات الاكاديمية: بدون الحرية الفكرية وبدون الانفتاح واحترام الرأي الاخر ونبذ الاقصاء وبدون تربية العقل النقدي وتحفيز العطاء والابداع وتقديم البراهين وطرح البدائل والتي تساهم جميعها في الخروج من اطار الافكار الجاهزة والقناعات النمطية والتفكير الشمولي، فأن المؤسسات التعليمية تتحول الى مجرد مكان لتلقين المعارف الجاهزة ومعقلا لركود الفكر ولمقاومة التغيير وتحديث المجتمع.

هذا وعانت الاستراتيجية  من بعض الضعف في مجالات مثل:

1- التمويل: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى كلفة تقدر بـ 140 ترليون دينار خلال السنوات العشر المقبلة، وهو مبلغ كبير يتطلب زيادة حصة التعليم من الموازنة العامة والإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي. ولتغطية هذه الكلفة، تضمنت الاستراتيجية ثلاثة معايير رئيسية  لزيادة التمويل لقطاع التعليم، وهي:

- زيادة حصة قطاع التعليم من النفقات الحكومية من 10% في عام 2021 إلى 16% في عام 2031.

- زيادة الإنفاق على التعليم من 11 ترليون دينار في عام 2019 إلى 29 ترليون دينار في عام 2031 وهو ما يعادل 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

- استحداث بند خاص في الموازنة العامة للدولة لتمويل مشاريع برنامج “تطوير وتأهيل مشاريع تحويل التعليم”، والذي يشمل بناء وتأهيل المدارس والجامعات والمختبرات والمكتبات والورش والملاعب وغيرها من المرافق التعليمية

ندرك أهمية الزيادة الهائلة في حصة التعليم لتنفيذ الستراتيجية، لكن هل ستكون قابلة للتحقيق؟

2- التنفيذ: حيث تعتمد الاستراتيجية على فرضيات وتوقعات للتحسن التدريجي لمؤشرات التعليم، إلا أنها تتوقف على الاصلاحات المذكورة بها، والتي تحتاج إلى تنسيق متقن وتكامل محكم بين مختلف الجهات المعنية.

3- التقييم والمتابعة: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى آليات وأدوات فعالة لقياس مدى تحقيق الأهداف والأولويات المحددة، وتحديد نقاط القوة والضعف في عملية التطبيق، وإجراء التعديلات والتحسينات اللازمة. في هذا الصدد، فأن تشكيل لجنة عليا من وزراء للاشراف على تنفيذ الاستراتيجية سيقوض عملها بسبب احتمالية التناقض الكبير بين الأهداف السياسية للوزراء والأهداف التربوية للاستراتيجية.

هل من اختلاف عن استراتيجيات الدول المتقدمة؟

بالرغم من توافق الستراتيجية العام مع استراتيجيات الدول المتقدمة للتربية والتعليم الا انها اختلفت عنها بعدة نواح، منها:

1- درجة التنفيذ والإشراف: فالدول المتقدمة تتمتع بإطار قانوني وإداري وفني يضمن تطبيق استراتيجياتها بشكل فعال وشفاف، وتحقق مؤشرات محددة وقابلة للقياس، بالاضافة إلى مشاركة جميع الشركاء المعنيين في عملية التخطيط والتقويم. أما في العراق، فإن هناك عوائق كثيرة تحول دون تحقيق رؤية الاستراتيجية، مثل ضعف البنية التحتية والإمكانات المادية والبشرية، وانعدام الأمن والاستقرار، والتأثيرات السياسية والدينية، وغياب ثقافة احترام المؤسسات التعليمية والمركزية الشديدة في صنع القرار.

2- محتوى التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تسعى إلى تطوير مناهج تعليمية مبتكرة ومتكاملة، تركز على تنمية المهارات الأساسية للقرن الحادي والعشرين، مثل التفكير الناقد والإبداع والتواصل والتعاون، وتستخدم استراتيجيات تدريس متقدمة تشجع على التعلم الذاتي والنشط والاستكشافي، كما تستفيد من التكنولوجيا الحديثة في إثراء بيئات التعلم. أما في العراق، فأن محتوى التعليم والتعلم يعاني من الجمود والتقليدية، ويتركز على حفظ المعلومات وإعادة إنتاجها، دون تطبيقها أو تحليلها أو ربطها بالواقع، كما تستخدم استراتيجيات تدريس تقليدية تعتمد على الشرح والمحاضرة، دون تفاعل أو تشارك بين المعلم والطالب، كما تكاد تغيب التكنولوجيا عن معظم المؤسسات التعليمية.

3- نتائج التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تحقق نتائج متميزة في مجال التعليم والتعلم، تظهر في ارتفاع مستوى الأداء الأكاديمي لطلابها في الاختبارات الدولية، مثل برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA)، وارتفاع مستوى الإنجاز والابتكار في مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وارتفاع مستوى التوظيف والإنتاجية لخريجيها في سوق العمل. أما في العراق، فإن نتائج التعليم والتعلم تبقى دون المستوى المطلوب، حيث يحتل العراق مراتب متأخرة في التصنيفات الدولية لجودة التعليم، ويشهد نقصاً في الكفاءات العلمية والابداعية، ويواجه صعوبات في توفير فرص عمل مناسبة لخريجيه.

واخيرا، وباختصار، الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق 2022-2031 خطة طموحة تهدف إلى تحسين جودة وفعالية وشمولية النظام التعليمي في العراق، وتعزيز دوره في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد. تقييمي للاستراتيجية هو أنها خطوة إيجابية نحو رفع مستوى التعليم في العراق، لكنها تحتاج إلى تدارك النواقص والثغرات ونقاط الضعف المذكورة اعلاه، والى التزام حكومي وشراكة مجتمعية لتنفيذها بنجاح.

***

ا. د. محمد الربيعي

تعرف النفس تمامًا ما تم اخفاءه، ولا تريد أن تعرف، لا تريد المواجهة، لأن المواجهة مؤلمة، يهرب الإنسان من عالمه الخارجي، لأنه هرب من نفسه، كلنا نحمل في دواخلنا أضدادنا، لا نتقرب لهذا الضد الذي كَونَ هذا الذي يضايقنا، ليس لدينا القدرة على مواجهته، رغم أننا نعرفه تمامًا، كما هو في حالة الوسواسي، يعرف أنه يقوم بفعل غير صحيح، ولكنه يصر على القيام به، ما هذا الصراع المحتدم في النفس؟ تقول "هيلين دويتش" فالذي يجعل الصراع الفعلي المرتهن بالواقع، صراعًا عصابيًا هو العجز الذاتي عن حله. وتضيف " دويتش" ان كل إنسان يَكون في حقيقة الأمر في حالة مستمرة من الصراع الكامن، مع العلم الواقعي من جانب، ومع قواه الذاتية الداخلية من جانب آخر، وتضيف "دويتش" ان الحل المنسجم لهذه الصراعات الداخلية والخارجية أمر يتعلق بشخصيته ولكل فرد أسلوبه الشخصي المميز في مواجهة الاحباط السوي .

انها النفس في رحلة البحث عن البناء وتكوين اسس الشخصية التي نستدل على مكوناتها من خلال ما يصدر عنها من سلوك، حيث قال علماء النفس أن السلوك هو تكوين فرضي، بمعنى أننا نستدل على ما هو متكون في دواخلنا من أبنية نفسية وفكرية ومعنوية، نلمسه في سلوكنا بعد أن تحول إلى واقع، أو قصيدة شعر، هفوة وفي ذلك يقول استاذ الأجيال العلامة "مصطفى زيور" إن الإنسان فيما يبدو لنا منه لا ينطبق على نفسه، فهو ليس هو، وهو ليس ما هو "مصطفى زيور – في النفس، ص 403"

سنحاول في السطور القادمة كيف تم بناء - بنية هذا التكوين، أقصد به التكوين النفسي، أو التكوين الفكري، أو التكوين المعنوي، الذي ينتج لنا الأدلة من خلال السلوك الصريح، أو الإيماءات، حركة الجسد بالرفض والقبول من خلال العيون، أو الهفوات وزلات اللسان والقلم، أو كما يقول سيجموند فرويد عملاق النفس البشرية مؤسس التحليل النفسي : بأن الهفوة تنطوي على قصد، وهي أن القصد في بعضها يُستبدل به قصد آخر استبدالًا كليًا، كما هي الحال حين ينطق الفرد بعكس ما يريد.

ما أعجب لهذه النفس مما تحمله من تلاعب ليس في الألفاظ فحسب، بل في ما يصدر عنها والأمر سيان بينهما . وقول فرويد " أن فلتات اللسان تنجم في كثير من الاحيان عن قصد مشين يلبس لبوس الاسم المحرف.

يرى فرويد من خلال عمق دراسته لما يدور في النفس بهذا الجزء قوله : فليست الهفوات وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، فضلا عن ذلك بأن الكثير منا ينسى، يتناسى، أو لا يريد أن يتذكر، بل أن نفسه ترفض استدعاء ما طلب منه تنفيذه، نتسائل هل هذا شيء عفوي؟ هل هذا شيء مقصود؟ هل هذه رغبة لاشعورية في عدم فعل هذا الأمر؟ ويقدم لنا فرويد الدليل بقوله : إن نسيان تنفيذ القرارات والمشروعات يمكن أن يعزى بوجه عام إلى دافع مضاد يتعارض مع تنفيذ القرار، ونقول لا رغبة له في ذلك، أو رفض لما يصدر له من أمر، وهذا له دلالة ومعنى !! فالرجل الذي ينسى يوم موعد زواجه، أو ينسى ما تطلبه زوجته من مشتريات كلفته بها قبل عودته للبيت، لم يكن أمر عفوي، أو عشوائي، أو غير ذو معنى، لابد أن يكون خلفه دافع، والله أعلم ما هذا الدافع؟ ولكن المشتغلين في التحليل النفسي يعرفون تمام المعرفة هذه الظواهر في النفس وما يصدر عنها!! هو يعرفه تمامًا مثل الشخص الوسواسي الذي يعرف ما يقوم به، وقبل أن يفعل، من فعل سخيف، لكنه يصر على القيام بفعله هذا. وتقول "نيفين زيور" أننا نجد لدى الأسوياء صراعات عصابية، تعبر عن نفسها بأشكال جدً متنوعة، وتضيف " نيفين زيور " قولها إن هناك تكوينات عرضية تشبه العصاب النفسي " الاضطراب النفسي " للدفاع من وجهة النظر الوصفية البحتة، دون أن تحمل الميكانيزمات " الآليات" نفسها، فالحصر الهائم والهيبوكوندريا "توهم المرض" والوهن ذو الأسباب النفسية، والاكتئاب العصابي يمكن أن يقترب في بعض سماته من العصاب النفسي للدفاع، حيث الوعي نفسه بالحالة المرضية بجانب الاستمرارية نفسها فيما بين الاضطراب والشخصية قبل المرضية، والمتصل نفسه بين السواء والمرض " وللاستزادة يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتورة نيفين زيور – في التحليل النفسي "

إذا ضاقت النفس بما في داخلها ولم تستطع تحويله إلى سلوك مقبول إجتماعيًا، أسريًا، مهنيًا، لأنه غير مقبول، مستهجن، مرفوض، واستطاعت النفس أن تهرب من نفسها، فتلجأ إلى التخفي والتحايل على الرقيب، ويكون الحلم هو موطأ الأسرار بلا قيود ولا رقابه، فيتقيأ الإنسان ما ضايقته تلك الأفكار، وما يحمل من تأوهات كادت أن تخنقه في حالة الوعي – الشعور، فهرب بها إلى اللاشعور – اللاوعي، ظهر لنا الحلم كرغبة في قول لا يريد قوله بالعلن، عبر عن نفسه في الطريق الذهبي – الملكي إلى اللاشعور، فالحلم رغبة، لكنها في الواقع مقموعه، وفي اللاشعور كبت لما يرغب، وقول " جاك لاكان" مجدد فكر التحليل النفسي الفرويدي : الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعه إلى اللاشعور – اللاوعي.

يرفدنا العلامة "مصطفى زيور" بفكرة رائعة قوله : يطلق سراح اللاشعور إذا ما تدثر بالجمال، ونقول بالشعر، والأدب، والرواية، والقصة، والمسرح، والخطاب المؤثر بالنثر والتأليف بأنواعه وغيرها . 

لنا رحلة نفسية في البحث والبناء عما يدور في النفس وحناياها من ديالكتيك غير منتهِ، متجدد لأن النفس متجددة – ديناميكية – لا تتوقف لحظة عن التفكير، والتفكير هو الذي يسبب لنا دائمًا الاضطراب النفسي، وأوله القلق – الحصر بأنواعه، القلق الدافع، القلق الهائم، ومن ثم القلق المرضي، أم في حالة القلق كموقف ينتهي بإنتهاء الموضوع الذي سبب التفكير الزائد ومن ثم القلق به .. لنا رحلة مع النفس لا تنتهي .

***

د. اسعد الامارة

 

مقدمة: الهجرة السكانية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، وهي تحدث استجابة لأسباب متعددة، مثل البحث عن موارد معيشية وحدوث الكوارث الطبيعية، والتغيرات المناخية، والحروب، والاضطهاد الإثني والديني والمذهبي. واستجابة لدوافع اقتصادية مثل البطالة والبحث عن عمل وحياة أفضل. ولأسباب سياسية خصوصا التعرض للقمع السياسي والفكري ومصادرة الحريات في ظل النظم المستبدة وغيرها. لكن الانتقال من المرحلة الاقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا على وجه الخصوص والتوسع الرأسمالي العالمي خصوصا الاستعماري منه زاد من أعداد المهاجرين على نحو كبير، سواء على صعيد الهجرة الداخلية مثل الهجرة الريفية - الحضرية أو الهجرة الحضرية - الحضرية أو على صعيد الهجرة الدولية. كذلك تنوعت أنماط الهجرات واتجاهاتها وتعقدت تأثيراتها المتبادلة الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والثقافية سواء في البلدان المرسلة للمهاجرين أو المستقبلة لهم.

 ارتبط ظهور الرأسمالية وخاصة في مرحلتها التجارية بالاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، وما نتج عن هذه الاكتشافات من هجرات ضخمة من أوروبا نحو ما سُمي بالعالم الجديد، الأمريكيتين وأستراليا ونيوزلندا. واستمرت هذه الهجرات في مرحلة الرأسمالية الصناعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر نتيجة الثورة الصناعية في بريطانيا. لكن بعد النمو الاقتصادي الذي شهدته بلدان أوروبا الغربية في ستينيات القرن العشرين تباطأت الهجرة من أوروبا إلى العالم الجديد، بل أصبحت مقصدا رئيسا للمهاجرين القادمين خصوصا من البلدان النامية نتيجة تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة.

 سنركز في هذا المقالة على فحص العلاقة البنيوية بين الرأسمالية كنظام وبين الهجرة خصوصا الدولية منها وآليات عملها. وكيف أن الرأسمالية تخلق شروط الهجرة وتديمها وكيف تُسهم الأخيرة في إدامة الرأسمالية. وسنتناول الجانب النظري الذي يمهد لتفسير هذه العلاقة وفهمها، ونبحث في الهجرة القسرية: تجارة الرقيق، والحرب والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا، وأخيرا تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة.

 الجانب النظري

 اشار كارل ماركس في القرن التاسع عشر إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص الفائض من البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام(1). وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع، عن طريق استعمار البلدان الأوروبية المباشر لكثير من البلدان، خصوصا النامية منها.

 كذلك ذكر ماركس بأنه في مجرى عملية تراكم رأس المال فإن مشكلة تقييم العمل لها علاقة بالتغير التقني الذي يخلق "جيشا احتياطيا" من العمالة العاطلة عن العمل أو "سكان فائضين نسبيا" ويزيد من الصراع الطبقي. لذلك، من الممكن المناقشة بأن التغير التقني هو متغير حاسم في خلق شروط الهجرة في ظل الرأسمالية من خلال خلق العمل الفائض. هذا هو السبب في أن كتلة كبيرة من العمالة المهاجرة المحلية والدولية تكون عمالة فائضة تبحث عن عمل وظروف حياة أفضل في بلدان المقصد.

 في عملية الإنتاج الرأسمالي تخلق القوى العاملة المزيد من القيمة التي تستخدم في استبدال القوى العاملة في دائرة دائمة التوسع من الإنتاج السلعي. ويعتبر ماركس التراكم الرأسمالي، من خلال السعي لإنتاج فائض القيمة وتوسيعه، القوة الدافعة للرأسمالية. لذلك، فإن هجرة العمالة من وجهة نظر ماركسية هي عامل ضمني في عملية الإنتاج السلعي الرأسمالي، وهي تلعب دورا مركزيا في التراكم الرأسمالي وفي النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. وبقدر ما تساهم العمالة المهاجرة والأنشطة الاقتصادية التي تنطوي عليها عمليات الهجرة في تراكم رأس المال، بقدر ما تصبح الهجرة جزءا حيويا من القوة الدافعة للرأسمالية(2). وهكذا يتضح الترابط البنيوي بين الرأسمالية والهجرة الدولية .

 يترافق توسع رأس المال عالميا مع هجرة كل من العمالة الماهرة والعمالة غير الماهرة كي يؤدي دوره في انتاج القيمة في النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. لذلك، يطوف رأس المال العالم للبحث عن فرص الاستثمار ويتحرك العمال للبحث عن عمل أفضل وتحسين ظروف معيشتهم. ومع ذلك، يواجه العمال معوقات أكثر في حركتهم من رأس المال. لا يذهب رأس المال فقط إلى العمالة في البلدان الأجنبية فهو يجند أيضا العمالة من البلدان الأجنبية، وبهذه الطريقة يديم بروليتاريا العمالة والصراع الطبقي على الصعيد العالمي(3).

 كان مفهوم "الدفع – الجذب" غالبا ما يستخدم في تعليل أسباب الهجرة والذي يخص الهجرة الداخلية والدولية في المجتمعات الصناعية والريفية. وعلى قاعدة هذا المفهوم يهاجر الأشخاص إلى المناطق التي تتوفر فيها فرص عمل أفضل من أماكن إقامتهم. وفي برنامج بحث لجنة "التغيير العالمي وحركية السكان"، عُدّ هذا المفهوم قديما من بعض النواحي وبسيط جدا في هذه الأيام لتفسير الهجرة التي لها علاقة بالشرط المالي وبالنشاطات الإنتاجية. فقد نشأت أيضا حركية السكان في السنوات القليلة الماضية من الاستهلاك والترفيه والسياحة والبحث عن أسلوب حياة جديد(4)، حتى خارج البلدان المتقدمة، وهذا يمكن أن ينطبق على ما يُسمى بهجرة المتقاعدين خصوصا إلى البلدان الأوروبية المتوسطية والتي تكون في كثير من الأحيان موسمية.

 تتضمن الهجرات عملية مزدوجة من التحويلات الاقتصادية. فمن ناحية، فهي تمثّل نقلا للعمالة من مجتمعات الأصل إلى الاقتصاديات المتطورة. ومن ناحية أخرى، تشكل التحويلات والسلع والخدمات التي يرسلها المهاجرون نقلا معاكسا يُسهم بإعادة الإنتاج الاجتماعي للمهاجرين وعائلاتهم ومجتمعاتهم. ويربط هذا النظام المزدوج للتحويلات الاقتصادية إعادة إنتاج قوى العمالة المهاجرة في أماكن الأصل مع إعادة إنتاج رأس المال والاقتصاد في مجتمعات المقصد، لذلك، يُسهم في إعادة إنتاج الرأسمالية كنظام اقتصادي منتج وعالمي.

 في الحالة الأولى، عندما تشترك العمالة المهاجرة في العملية الإنتاجية فإنها تُصبح جزءا من عولمتها. وهنا تقع أهميتها بأنها تمثّل قوى عاملة تتجلى مساهمتها على حد سواء في آليات سوق العمل وفي الإنتاج والنمو الاقتصادي في المجتمعات المتقدمة، وتُسهم في توليد الفائض الاقتصادي اللازم للحفاظ على إعادة إنتاج رأس المال المتوسع. وفي الحالة الثانية، فإن التحويلات المالية هي صندوق للأجور وظيفته إعادة إنتاج القوى العاملة الضرورية والمتاحة لنمو رأس المال وتراكمه(5). هذه القوى العاملة تكون في البلدان المرسلة للمهاجرين خصوصا النامية منها.

 كذلك تُسهم الهجرة في خفض تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، خصوصا، الشبكات الاجتماعية التي تديم الهجرة في اتجاه واحد، فإنها من ناحية أخرى تُسهم بجزء من تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة من خلال التحويلات إلى العائلات ومجتمعات الأصل(6)، وهذا ما نلاحظه في مجتمعات البلدان المرسلة الرئيسة للعمالة مثل مصر والمغرب وتونس وغيرها.

الهجرة القسرية

 1- تجارة الرقيق

 الاتجار بالبشر ظاهرة لا إنسانية قديمة اقترنت بالانقسام الذي حدث في المجتمعات إلى فئات مالكة وأخرى غير مالكة أو معدمة. وكانت معروفة من قبل عدة شعوب أوروبية، مثل الرومان وآسيوية مثل العرب والأتراك والفرس والهنود. وهناك من يرى بأن العبودية وتجارة الرقيق تمثل الجذور التاريخية للاتجار بالبشر الذي يمارس حالياً.

 يُعدّ كارل ماركس وفردريك أنجلز من أبرز من أهتموا بدراسة نظام الرق في المجتمعات القديمة، حيث بيّنا أن الحضارة الإنسانية اعتمدت في مرحلة من مراحلها على العمل العبودي لتجاوز معالم المشاعية البدائية المتميزة بغياب الملكية الخاصة(7).

 تحفزت وتيرة تجارة الرقيق إلى حد كبير في العصر الحديث، وخاصة من غرب أفريقيا إلى الأمريكيتين ومنطقة الكاريبي، بعد أن بدأ المستعمرون البرتغاليون والإسبان السيطرة على أغنى الموارد الطبيعية في أمريكا. وعلى الرغم من وجود عدم اتفاق حول حجم هذه التجارة، لكن التقديرات الأكثر شهرة تذكر بأن حوالي ألفين من الرقيق كانوا يُنقلون سنويا بالسفن إلى أمريكا في القرن السادس عشر. وقد قفز هذا الرقم كثيرا إلى عشرين ألفا في السنة في القرن السابع عشر، حيث اكتسبت مزارع السكر في البرازيل ومنطقة الكاريبي زخما. وقد ثبت أن القرن الثامن عشر كان علامة فارقة في الاستعباد، حيث ارتفعت الأرقام السنوية إلى 55000 في بداية القرن وإلى 88000 في نهايته. وبعد أن انتهت تجارة الرقيق عبر الأطلسي في القرن التاسع عشر، فإن ما بين 10-12 مليون أفريقي استعبدوا في المزارع والمناجم الأمريكية(8). وهناك من قدر بأن ما بين 15-20 مليون أفريقي نقلوا عبر المحيط الأطلسي. وترفع تقديرات أخرى العدد إلى 50 مليونا(9). على الرغم من أن هذا العدد قد يكون مبالغا فيه، إذا أخذنا في الاعتبار البطء الشديد لنمو السكان خلال تلك الفترة.

إضافة إلى ذلك، ربما وقع ضحية تجارة الرقيق ما يصل إلى عشرة ملايين في شمال إفريقيا وغربها، حيث استمرت هذه التجارة بالرغم من عدم شرعيتها إلى القرن العشرين(10)، علما أن هذه المناطق كانت خاضعة للاستعمار الأوروبي.

 وطيلة ثلاثة قرون، كان الرقيق يمثل أهم صادرات أفريقيا، والتي مارسها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والسويديون والدنماركيون. وفي القرن السابع عشر، أصبحت التجارة بالإنسان الأسود أمراً معترفاً به، ونوعاً من النشاط التجاري. وهذا واضح من تصريح دار تماوث وزير المستعمرات البريطانية عام 1775، الذي قال فيه "إننا لا نستطيع أن نسمح للمستعمرات أن توقف أو تقاوم- إلى أي حد- تجارة مربحة لهذه الدرجة لشعبنا"(11). ورغم تحريم بريطانيا لتجارة الرقيق فيما بعد طبقاً لقانون 1807، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً، فقد اندفعت دول أخرى لهذه التجارة.

 لقد تعرض السود إلى أسوأ ما يمكن أن يعامل به بنو الإنسان، حتى في المناطق التي نقلوا لها قسراً، حيث كانوا يعاملون بالقسوة والتمييز العنصري، ويعتبر وضعهم في أمريكا الجنوبية أكثر حظاً، حيث اختلطوا بالسكان، لكن في أمريكا الشمالية، لم يحدث هذا وكانوا يباعون ويشترون مع الأرض. ففي عام 1705، صدر قانون امتلاك السود واعتبارهم جزءا من الممتلكات الشخصية، إلى أن الغي قانون الرق عام 1865، بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في أمريكا(12) لكن مع ذلك استمر التمييز العنصري ضدهم على أشده إلى أن بدأ يخف نسبيا في العقود الأخيرة نتيجة النضالات التي خاضها السكان السود للمطالبة بالمساواة، ودعم القوى التقدمية على المستوى الداخلي والعالمي لهذه المطالب العادلة.

 وحاليا يُقدر تقرير مؤشر الرق العالمي لعام 2023 عدد الأشخاص الذين عانوا الرق المعاصر بخمسين مليون إنسان خلال عام 2021. وبيّن أن الفئات الأكثر تعرضا للرق المعاصر، جاء على رأسها النساء والأطفال والمهاجرون. ويؤكد التقرير أن العمالة المهاجرة باتت أكثر عرضة للعمل الإجباري بمقدار ثلاثة أضعاف بالمقارنة بالعمالة غير المهاجرة. ومن أسباب الرق المعاصر بحسب التقرير ارتفاع معدلات الفقر المدقع والهجرة القسرية، وبيّن أن هذين الأمرين ساهما معا بنصيف وافر في زيادة المخاطر المتصلة بالرق المعاصر. وكذلك سياسات الهجرة الصارمة للدول، وخاصة الأوروبية منها، التي أفضت إلى تعريض المهاجرين والنازحين لمزيد من مخاطر الاستغلال. وتؤدي ممارسات الشراء التي تتبعها الحكومات والشركات الغنية إلى تفاقم الاستغلال في البلدان المنخفضة الدخل التي تُمثّل الخطوط الأمامية لسلاسل التوريد العالمية. ويشدد التقرير على "تغلغل الرق المعاصر في الصناعات التي تعمل في القطاع غير الرسمي، والتي توُظّف أعدادا أكبر من العمالة المهاجرة وتوجد في مناطق تتسم بمحدودية الرقابة الحكومية"(13). وهكذا نرى بعد تحريم الرق في أشكاله التقليدية، انبثقت أشكال أخرى من الرق في مجرى النظام الرأسمالية وآليات عمله.

2- الحرب والهجرة

 بما أن الحروب هي وسيلة من وسائل النظام الرأسمالي للسيطرة السياسية والاقتصادية وتوسيع نفوذه واسواقه على المستوى العالمي، فلا بد من أن تكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهجرة العمالة وتدفق اللاجئين. وهناك أمثلة كثيرة يمكن إيرادها لتأكيد هذه الفكرة.

 لم يسبق لمجموعة مهاجرة في التاريخ الأمريكي أن أكدت أو كانت قادرة على أن تؤكد مطلبا تاريخيا بمنطقة أمريكية مثل ما يستطيع المكسيكيون والمكسيكيون – الأمريكيون تأكيده. كانت تكساس ونيومكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا ونيفادا ويوتاه جميعها تقريبا جزءا من المكسيك إلى أن خسرتها نتيجة حرب تكساس 1835- 1836 والحرب الأمريكية - المكسيكية 1846- 1848. وقد دخلت القوات الأمريكية المكسيك وعاصمتها، والحقت نصف أراضيها بالولايات المتحدة. لذلك لا ينسى المكسيكيون هذه الأحداث. ومن المفهوم تماما، أن يشعروا أن لديهم حقوقا خاصة في هذه المناطق خلافا للمهاجرين الآخرين(14). لذلك وصلت أعداد المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة إلى الملايين سواء المهاجرين بطريقة نظامية أو غير نظامية. ويمكن أن يكون هذا الحيف أحد الأسباب لضعف اندماجهم في المجتمع الأمريكي.

 كانت إحدى الأفكار المطروحة بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص إيطاليا هي التقليل من السكان المسببين للفوضى، أي المطالبين بحقوقهم في العمل عبر تشجيع الهجرة. فقد استخدمت أموال خطة مارشال الأمريكية في إعادة بناء البحرية التجارية الإيطالية "لمضاعفة أعداد المهاجرين الإيطاليين الممكن نقلهم لما وراء البحار سنويا"، واستخدمت الأموال أيضا في إعادة تدريب العمال الإيطاليين "بحيث يصبحون أكثر قبولا في البلدان الأخرى". لذلك أقر الكونغرس الأمريكي مخططات "بهدف نقل المهاجرين من إيطاليا لأماكن في العالم غير الولايات المتحدة". واختارت بعثة مشروع مارشال أمريكا الجنوبية ذات "المناطق الأقل تطورا نسبيا"، وكانت البرازيل من أوائل المتلقين لهذه المساعدات عام 1950(15).

 ونتيجة الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، والتدخل العسكري الأمريكي والأوروبي المباشر في الحرب في سوريا، أسفر ذلك عن هجرة قسرية ضخمة في المنطقة لا مثيل لها في تاريخها الحديث، حيث تدفق الملايين من اللاجئين داخل المنطقة وخارجها. مما أحدث تغيرات كبيرة في البنية الديمغرافية والاقتصادية - الاجتماعية لبلدان المنطقة.

 لذلك لا غرابة أن تشهد المنطقة العربية مستويات غير مسبوقة من الهجرة الدولية. ففي عام 2021 استضافت البلدان العربية أكثر من 41 مليون مهاجر ولاجئ. وخلال الفترة نفسها، بلغ عدد المهاجرين من الدول العربية نحو 33 مليونا، 44 في المائة منهم يقيمون في المنطقة العربية(16).

الليبرالية الجديدة والهجرة

 استتبعت الليبرالية الجديدة الكثير من "التدمير الخلاّق"، ليس فقد للأطر المؤسساتية السابقة (إذ تحدت حتى الأشكال التقليدية لسيادة الدولة)، بل أيضا لتقسيمات العمل، والعلاقات الاجتماعية، وخدمات الرعاية الاجتماعية، والتركيبات التكنولوجية المختلفة، وطرق الحياة، والتفكير والتكاثر، والارتباط بالأرض والعادات الشعورية والوجدانية(17)، لا غرابة في ذلك، لأنها أيديولوجية تهدف إلى تشكيل العالم وفق منظورها وربطه بالمتروبول.

 تعاني الليبرالية الجديدة من إشكالات في موقفها من الهجرة، إذ يذكر دينيس كانتربري "تتميز الرأسمالية النيوليبرالية بنزعتين متناقضتين تجاه الهجرة الوافدة – هما زيادة الهجرة وفي الوقت نفسه تقييدها. الأمثلة التي تُبرز هذا التناقض هي أعمال إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في تقييد الهجرة الوافدة، مستهدفة على نحو محدد بلدانا فقيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. والدعوة في الوقت نفسه إلى زيادة الهجرة المنظمة". ويضيف "هناك بُعد آخر للتناقض وهو أن الرأسمالية النيوليبرالية تعزز الهجرة المنظمة بحيث يجري تفضيل فقط المهاجرين الذين يتوفرون على المال والمهارات العالية للقبول في البلدان الغنية"(18). ويشير نعوم تشومسكي إلى أن أنبياء الليبرالية الاقتصادية لم يفكروا بالسماح "بالانتقال الحر لقوة العمل... من مكان لآخر"، والذي هو أحد أسس حرية التجارة التي أكد عليها آدم سميث(19). ويقول صموئيل هنتنغتون: في عالمنا المعاصر، يأتي التهديد الأكبر لأمن الأمم المجتمعي من الهجرة. وتستطيع البلدان أن تواجه ذلك التهديد بإحدى طرق ثلاث أو توليفة منها. وهي: هجرة ضئيلة أو لا هجرة، هجرة دون اندماج، أو هجرة مع الاندماج(20). علما أن هذه الطرق الثلاث قد جربت، لكن نتائجها لم تكن دائما تتوافق مع ما تخطط له البلدان المتقدمة. 

 وهناك دليل آخر على تناقض الليبرالية الجديدة تجاه الهجرة، فقد "تمثّل خط الصدع الرئيسي في قضية الهجرة بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009، وفي النقاش حول الاتجاهات الجديدة والتفكير بشأن التأثير التنموي للهجرة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية... لقد اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات منحطة لبناء جدران عازلة لمنع دخول العمالة المهاجرة الفلسطينية والإفريقية والمكسيكية، على التوالي، في حين استثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروات في ليبيا، كي يراقب هذا البلد البحر المتوسط لإبعاد العمالة المهاجرة الأفريقية عن الاتحاد الأوروبي"(21).

 ويذكر كانتربري "أجبرت سياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالية البلدان النامية على الانخراط في ما يسمى بـ"ترشيد" مؤسسات الدولة لتقليل تكاليف تشغيلها. وباتت سياسة الهجرة الآن شكلا من أشكال "الترشيد" ولكن تشمل البلد بأكمله بدلا من أن تشمل مؤسسة معينة مملوكة للدولة"(22). وهذا دليل على عمق اختراق سياسات الليبرالية الجديدة لسيادة البلدان.

 واكتشفت المؤسسات الرأسمالية أن الحراك العالمي لرأس المال يتطلب بالمثل حراكا عالميا للعمالة كي يستطيع توظيفها أينما ذهب؛ إذ يتحدث البنك الدولي عن الفقراء، ويقول إن حل مشاكلهم هو الدخول في السوق العالمية في حين أنه يهدف في الحقيقة لمساعدة الحراك العالمي لرأس المال على خلق حراك عالمي مثيل في صورة عمالة دولية رخيصة سهلة التحرك من مكان إلى آخر يستطيع رأس المال جلبها معه أينما ذهب. إذا حدث ما يأمل فيه البنك الدولي، فإنه يكون بذلك قد ساعد على تكوين بروليتاريا عالمية(23). وهذا هو ما يحدث على أرض الواقع.

 يمكن أن تستمر في السنوات القادمة حركية السكان بسبب توسع الفجوة في معدل النمو السكاني بين الدول المتقدمة والدول النامية. يحدث هذا خصوصا مع ظهور فكرة "بدون حدود" العائدة للعولمة التي خلقت عدم توازن جديد بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وبالإضافة إلى عدم التوازن القديم والجديد في الثروة انبثق عدم توازن ديموغرافي. ينتج عن هذا الوضع عدم توازن في سوق العمل في اتجاه معاكس، حيث يكون الطلب في قطاعات معينة أعلى على نحو مهم من العرض(24)، وهذا ما تشهده العديد من البلدان خصوصا في أوروبا الغربية، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها.

 تشكلت مع العولمة أشكال جديدة من التفاوت الاجتماعي التي لا تتوافق مع كلا من الاشكال التقليدية للاستبعاد الاجتماعي أو على الأقل استمرار البنى الاجتماعية التقليدية أو ما قبل الحديثة. ففي العولمة، يتشكل الفقر والعمالة غير المستقرة، في هذه الحالة فإن المهاجرين، هو ليسوا نتيجة استبعادهم من سوق العمل (البطالة والجيش الاحتياطي الصناعي الخ)، لكن على العكس هم نتيجة الطريقة التي جرى بها ضمهم ودمجهم في عالم العمل، على وجه التحديد كعمالة مهاجرة. المسألة هي انهم عمالة ضعيفة أو عالية التأثر جرى دمجها بالقطاعات الاقتصادية الديناميكية. وبالمعنى الدقيق للكلمة، هذه عملية متناقضة فهي تحفز على الدمج والاستبعاد الاجتماعي في الوقت نفسه. في المجتمع الدولي، لم يُعدّ يُشكل وضع الأقلية الاجتماعية (حالة المهاجرين) خطر استبعادهم الاقتصادي المحتمل، بل أصبح الشرط الضروري لاندماجهم الجزئي والهش. إذ يجري في النظام الاقتصادي العالمي، وبهذه الطريقة، إعادة انتاج رأس المال، والتراكم والنمو الاقتصادي على قاعدة إعادة انتاج حالة التفاوت الاجتماعي اللانهائية والذي هو في هذه الحالة أيضا أساس استغلال العمالة المهاجرة(25)، والعامل على خلق ديمومتها.

 وفي هذا الاطار من المفيد الإشارة إلى أن انهيار الاتحاد السوفيتي قدم وسائل جديدة لتعميق انقسام الشمال - الجنوب داخل المجتمعات الغنية على نحو أشد. فخلال إضراب عمال الاشغال العامة في ألمانيا في أيار 1992، حذر رئيس شركة ديملر – بنز من أن رد الشركة على الإضراب قد يتمثّل بنقل مصانع سيارات مرسيدس إلى أماكن أخرى، ربما إلى روسيا نظرا لتوفرها على العمال المدربين المتعلمين الأصحاء والمطيعين(26). وهذا يمثّل عملية استغلال جلية من خلال دفع أجور أقل لهم مقارنة بنظرائهم في ألمانيا.

الليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا

 ولدت مبادئ الليبرالية الجديد التي فرضت قسرا على البلدان النامية نتائج كارثية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي. وتمثل أحد التداعيات في تنامي تيارات الهجرة الداخلية خصوصا الهجرة الريفية - الحضرية والهجرة الخارجية، وأبرز مثل على ذلك في المنطقة العربية يتمثّل في مصر كونها أكبر بلد عربي مرسل للعمالة المهاجرة سواء على المستوى العربي أو الدولي.

 فقد تلقت البلدان العربية 57,9 مليار دولار من تحويلات مهاجريها عام 2020، أي بنسـبة 8 فـي المائـة مـن تدفقـات التحويلات العالميـة(27). واحتلت مصر المرتبة الأولى عربيا؛ إذ تلقت 29,6 مليار دولار من التحويلات في هذا العام(28).

 إن المصاعب الاقتصادية التي جلبتها الليبرالية الجديدة واشتراطاتها الاقتصادية الهادفة إلى تحجيم وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية أدت بدورها إلى مزيد من التحولات الطبقية في التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية، الأمر الذي أفضى إلى تزايد الهجرات الجماعية القسرية لأسباب اقتصادية - سياسية أمنية(29). وهذه الحالة تنطبق على البلدان العربية التي اتبعت هذا النهج ومنها مصر.

 توفر مصر مثالا نموذجيا لفحص العلاقة بين تبني الليبرالية الجديدة والهجرة. فقد كانت نموذجا إقليميا للإصلاح القائم على الليبرالية الجديدة، وفي الواقع، تم إدراج الحكومة المصرية في زمن الرئيس حسني مبارك باعتبارها واحدة من أفضل عشر حكومات في العالم في مجال تنفيذ الإصلاحات، وذلك من قبل البنك الدولي. ومن السبعينيات فصاعدا، أنتج التحرير الاقتصادي ضغطا مستمرا على معظم المصرين، مع تفاوت في تأثيراته استنادا إلى الحالة الاجتماعية-الاقتصادية. وكانت إحدى نتائج هذه السياسة ارتفاعا كبيرا في مستوى الهجرة الداخلية والدولية(30).

 فقد أدى الضغط الشديد على سكان الريف الناتج من الإصلاح النيوليبرالي إلى المساهمة بشكل حاسم في حركات السكان هذه. وتؤكد دراسة هجرة الأطفال غير الموثقة من منطقة الدلتا في مصر من جانب منظمة إنقاذ الأطفال في المملكة المتحدة في عام 2012 هذه العلاقة. وقد ركز مشروع الدراسة على القرى التي ينطلق منها عدد متزايد من القاصرين غير المصحوبين بوالديهم والذين حاولوا عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا أو إلى بلدان أوروبية أخرى. وسجل الباحثون شهادات قرويين في العيون في محافظة البحيرة. وقد اكتشفوا بأن إيجار الفدان الواحد ارتفع إلى 6000 جنيها مصريا بعد أن كان في السابق مستقرا نسبيا عند 500 جنيه مصري. وارتفعت أثمان الأسمدة بشكل حاد أيضا، في حين انخفضت أسعار المنتجات المصرية الموجهة إلى التصدير بشدة. النتيجة، هو أن الشباب تركوا العمل الزراعي بصفة متزايدة وتوجهوا إلى السفر إلى الخارج. وباتت التنمية يُنظر لها بشكل سلبي من قبل السكان المحليين. وقد لاحظت المنظمة أن الأراضي المتاحة للزراعة تقل بطراد مما يدفع بالمزيد من الشباب إلى الهجرة إلى الخارج وتحفيز المزيد من البناء على الأراضي الزراعية(31)، ومن ثم تراجع الإنتاج الزراعي. 

تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة

 باتت الهجرة الدولية جزءا مهما من المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في البلدان المتقدمة المستقبلة للمهاجرين، لذلك لا بدّ أن تنتج عنها تأثيرات عميقة الأثر في بنية مجتمعات هذه البلدان على مستويات عدة.

 توضح المعطيات الآتية أطروحة الدور المركزي الذي تبدأ الهجرة الدولية في توليه في هيكلة المجتمعات المتقدمة. إذ تُظهر ديموغرافية هذه المجتمعات الفشل البنيوي الواضح في توليد العمالة المنوط بها ملء الوظائف التي يحتاجها النمو الاقتصادي الديناميكي لهذه المجتمعات على نحو يومي. وفي مواجهة عدم التوازن البنيوي بين الآليات الديموغرافية الداخلية والنمو الاقتصادي، كان الحل يتمثّل في اللجوء إلى هجرة العمالة الوافدة بأعداد كبيرة، في المقام الأول، من البلدان النامية التي تعيش وضعا ديموغرافيا مختلفا.

 ستحدث منافذ مختلفة في سوق العمل في سياق استقطاب المهن متأت من العولمة الاقتصادية في المجتمعات المتقدمة والتي يُفضل في الغالب إدخال العمالة المهاجرة فيها، والتي تكون في كثير من الحالات غير موثقة، فهي لا تتوافر على أدوات اجتماعية وسياسية ضرورية للمواجهة وإعادة التفاوض بشأن شروط انعدام أمن العمل وثباته، والتي تسود في هذه الأقسام من سوق العمل(32).

 يعزز النمو الاقتصادي استهلاكا جديدا وأنماطا أخرى من أساليب الحياة. وتؤثر النزعة الفردية وعمليات التغيير في الأدوار المنزلية والعائلية، جنبا إلى جنب مع زيادة دمج المرأة في الحياة العامة والعمل، وتتضمن تحررا وانعتاقا مؤكدين من السلاسل القديمة التي ربطت النساء بالعمل المنزلي.

 تفتح هذه التغيرات الاجتماعية أيضا المجال لزيادة اندماج العمالة المهاجرة، رجالا ونساء، في هذه الأنشطة المتنوعة المرتبطة بإعادة الإنتاج الاجتماعي للسكان الأصليين. من هذا المنظور، تساعد أيضا الهجرة الدولية على إدامة التغيرات الاجتماعية والثقافية والديموغرافية التي تميز المجتمعات المتقدمة الحالية. فعلى سبيل المثال، تتوقف رعاية الأطفال وكبار السن، كخدمات منزلية بحد ذاتها، عن كونها مهمة المرأة المحلية، وتصبح عملا سلعيا يقوم به المهاجرون، لكن وفقا للشروط التي تمليها مرونة العمل وإلغاء القيود التنظيمية التعاقدية في المجتمعات ما بعد الصناعية(33). ونحن نعرف أن هذه البلدان تعاني نقصا كبيرا في العمالة في هذه المجال، وكذلك في مجال الخدمات الصحية، ومجالات أخرى مثل التكنولوجيا، مما تطلب في بعض البلدان مثل ألمانيا وفرنسا إقرار سياسات لقبول العمالة المهاجرة ومنحها إقامات لفترات طويلة. ففي الأولى يتقاعد سنويا مئات الآلاف. وإذا لم يتغير شيء، تتوقع وزارة العمل الألمانية نقصا قدره 7 ملايين عامل بحلول عام 2035. سيكون نقص الموظفين على حساب الرفاهية وقدرة الصناعة الألمانية التنافسية. ولتعويض هذا النقص، تريد ألمانيا جذب 400 ألف عامل إضافي سنويا من الخارج(34).

 إذن، لا مفرّ من الاستعانة بالهجرة الوافدة خصوصا من البلدان النامية التي تشهد فيضا في القوى العاملة، نتيجة لضعف اقتصاداتها، لكن المشكلة تتمثل في صعوبة الاتفاق على سياسات موحدة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فمع صعود اليمين المتطرف والذي يتخذ من الهجرة والأجانب ورقة انتخابية رابحة، تتردد بعض الحكومات الأوروبية في تبني سياسة هجرة واضحة وتتبنى إجراءات خجولة في هذا الجانب.

 من جانب آخر، تشدد الرؤى النظرية الفردية ما بعد الصناعية، على سيولة الهويات الاجتماعية - الثقافية، وتقترح أبعادا متعددة للمؤشرات الاجتماعية – الثقافية، وأنواعًا أخرى من الاندماج، فالمجتمعات المتقدمة لا تتطلب، وعلى نحو متزايد، هويات عرقية معينة، أو توجهات جنسية، أو حالات زوجية، أو أفضليات دينية أو سلوكيات عائلية تكون على صلة وثيقة بعضها ببعض. وفي الواقع، تشدد هذه المقاربات، في كثير من الأمثلة، على أنّ ثمة تيارًا واحدًا سائدًا (أو حتى تياريْن أو ثلاثة تيارات محددة)، وتعبّر، على نحو أقل بكثير، عن السمات المعتادة لكثير من البلدان الغربية(35). وتعكس هذه المقاربة واقع الحال في كثير من البلدان الأوروبية، خصوصًا الغربية منها، حيث يزداد التنوع الاجتماعي والثقافي بفعل مكون الهجرة الوافدة المستمر.

 وأخيرا، ثمة دليل قوي على العلاقة البنيوية بين النظم الرأسمالية والهجرة الدولية، فقد ارتبطت فكرة إرجاع عدد من العمال المهاجرين إلى بلدهم الأصلي، بإعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي. وهي فكرة ليست جديدة بل تناولتها كثير من الدراسات وذلك قبل الوقف الرسمي للهجرة في معظم بلدان أوروبا الغربية بعد عام 1974، ففي تقرير قدم للمجلس الأوروبي في كانون الأول/ ديسمبر 1973 يرد ما يأتي: "إن الصناعات في البلدان المتقدمة، خصوصا الصناعات التي تستخدم عددا كبيرا من العمال المهاجرين، ملزمة بمحاولة إقامة مصانع في الدول المصدرة لليد العاملة على أساس أن لا يكون إنتاج هذه المصانع مرتبطا بيد عاملة متخصصة جدا. فنظرا لكون مستوى الأجور في هذه الدول أقل ارتفاعا مما هو عليه في بلداننا، نظن أن المخطط المقترح يمكن تحقيقه بالنسبة لبعض الصناعات دون أن تتعرض هذه الأخيرة لأية خسارة"(36). لكن هذه الفكرة لم تتطور، إلا ابتداء من عام 1974 نتيجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البلدان المتقدمة خصوصا في أوروبا الغربية، ومحاولتها إيجاد مخارج لهذه الأزمة من خلال إعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي.

 ***

 د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

1- ورويك موراي، جغرافيات العولمة: قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ترجمة سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة 397، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013، ص 42.

2- Dennis C. Canterbury, Capital Accumulation and Migration, Leiden: Brill, 2012, pp. 30-32.

3- Ibid, pp. 30-32.

4- مجموعة من الباحثين، دراسات اجتماعية – اقتصادية معاصرة، ترجمة هاشم نعمة فياض، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 249.

5- Alejandro I. Canales, Migration, Reproduction and Society: Economic and Demographic Dilemmas in Global Capitalism, Leiden: Brill, 2020, 135-136.

6- p. 164.

7- الحسين بو لقطيب، "أوضاع الرقيق في المجتمع العربي الوسيط"، النهج، العدد 32، السنة 1990، ص 140.

8- Charles H. Parker, Global Interactions in Early Modern Age, 1400-1800, Cambridge: Cambridge University Press, 2020, p. 115.

9- هاشم نعمة فياض، أفريقيا: دراسة في حركات الهجرة السكانية، سبها ـ ليبيا: مركز البحوث والدراسات الأفريقية، 1992، ص 21-24.

10- Parker, p. 115.

11- فياض، أفريقيا، ص 21-24.

12- المصدر نفسه، ص 21-24.

13- هيئة التحرير، "مؤشر الرّق العالمي 2023"، حكامة، العدد 7، المجلد الرابع، خريف 2023، ص 236-239.

14- صموئيل ب. هنتنغتون، من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية، ترجمة حسام الدين خضور، دمشق: دار الرأي للنشر، 2005، ص 235.

15- نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر، ترجمة مي النبهان، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996 ص 75.

16- الإسكوا، الأمم المتحدة، الاستعراض السادس للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 35.

17- ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)، ترجمة مجاب الإمام، السعودية: مكتبة العبيكان، 2008، ص 15-16.

18- Canterbury, p. 173.

19- تشومسكي، ص 22.

20- هنتنغتون، ص 187.

21- Canterbury, p. 175.

22- Canterbury, p. 174.

23- أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2008، ص 336-337.

24- مجموعة من المؤلفين، ص 252-253.

25- Canales, p. 1

26- تشومسكي، ص 100.

27- الإسكوا، الأمم المتحدة، معالجة قضايا الهجرة في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 4.

28- ESCWA, Situation Report on International Migration 2021 Building forward better for migrants and refugees in the Arab region, UN, 2022, p. 148.

29- لطفي حاتم، المنافسة الرأسمالية وسمات بنيتها الأيديولوجية، القاهرة: دار الحكمة، 2017، ص 126.

30- هاشم نعمة فياض، العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية من منظور البلدان المرسلة للمهاجرين، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 103-104.

31- المصدر نفسه، ص 105-106.

32- Canales, pp. 205-206.

33- Canales, p. 207.

34- هاشم نعمة فياض، موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق، بغداد: دار أهوار للنشر والتوزيع، 2024، ص 128.

35- Caroline B. Brettell & James F. Hollifield (eds.), Migration Theory: Talking Across Disciplines, London: Routledge, 2015, 80.

36- عزيز صدقي، "حول إشكالية عودة وإعادة دمج العمال المغاربة المهاجرين في الاقتصاد الوطني المغربي"، النهج، العدد 16، لسنة 1987، ص 114.

* نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024.

 

بقلم: ديفيد يادن

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

بدلاً من تشاؤم فرويد أو حماسة يونج، نحتاج إلى نهج استقصائي في التعامل مع الأشكال غير العادية من الوعي.

في عام 1901، وقف ويليام جيمس على المنصة في قاعة المحاضرات بجامعة إدنبره وألقى أول سلسلة من 20 محاضرة يفترض أنها عن اللاهوت. لقد دُعي لإلقاء محاضرات جيفورد المرموقة حول الدين الطبيعي في إحدى الجامعات الاسكتلندية، لكنه قدم نفسه على أنه عالم وعالم نفس، وليس لاهوتيًا. وكتب لاحقًا أنه اختار "أن لا يأخذ في الاعتبار اللاهوت أو الكنيسة على الإطلاق". وبدلاً من مناقشة العقيدة الدينية، ركز على حالات الوعي المتغيرة التي أبلغ عنها أشخاص مختلفون عبر الزمن. وتحدث عن رؤى وأحلام وهلوسة بوذا وعيسى ومحمد والقديس فرنسيس وزعماء الطوائف المسيحية والملحدين والكفار، بالإضافة إلى شخصيات تاريخية أخرى وحتى الأشخاص الذين يعيشون في عصره. بالنسبة للكثيرين، كانت هذه التجارب عبارة عن لقاءات شخصية غير عادية وعميقة مع "الإلهي"، لكن محتويات هذه التجارب كانت متنوعة. وصف جيمس هذه الأنواع من التجارب بأنها "دينية" أو "صوفية" أو "أشكال من الوعي"، لكنه أصر على أن التسمية الدقيقة لا تهم حقًا. وكانت أسبابهم وفيرة. وقال إن البعض بدأ بتعاطي المخدرات.

كان من المقرر أن تكون سلسلة غير عادية من المحاضرات، والتي من شأنها أن تغير مسار علم النفس في القرن العشرين. ولعل الأغرب من ذلك كله هو أن جيمس، طوال محاضراته في جيفورد، التي استمرت على مدى عامين، لم يستنكر هذه التجارب باعتبارها أوهام جنونية ولم يشجع على استخدامها كإجابة ثورية للمشاكل الشخصية أو علل المجتمع. لقد سعى ببساطة إلى فهمها بشكل منهجي، وأعرب عن أمله في أن تفعل التخصصات العلمية المستقبلية الشيء نفسه. كتب جيمس لاحقًا: «السؤال هو كيف ننظر إليهم، لأنهم منفصلون تمامًا عن الوعي العادي». لكن سؤاله أصبح الآن في طي النسيان. وبدلاً من السعي إلى فهم هذا النوع من التجارب، فإننا نتجه نحو مشكلة مختلفة: ما مدى فائدتها؟

أرى التوتر بين الفهم والاستخدام - بين الوصف والوصفة الطبية - في عملي كباحث في علم النفس يدرس تجارب مثل تلك التي وصفها جيمس، بما في ذلك التجارب الناجمة عن المخدرات. لقد صادفت العديد من الأشخاص الذين يفترضون أن علماء النفس الأكاديميين  يجب أن يروجوا أو يدينوا شيئًا ما، سواء كان ذلك عقارًا، أو علاجًا، أو نهجًا، أو تقنية، أو سلوكًا، أو عملية عقلية، أو حالة متغيرة. يخلق هذا النوع من الافتراض توقعًا بأن العلماء يجب أن يكونوا دائمًا "مع" أو "ضد" هذا النوع من التجارب الفريدة التي أثارت اهتمام جيمس. يجب أن يعتقد هؤلاء الباحثون، أو هكذا تقول الحجة، أن مثل هذه التجارب هي إما اكتشافات شفاء لقوى خارقة للطبيعة أو رؤى وأوهام غير مفيدة ناجمة عن التغيرات الكيميائية في الدماغ.

هذا النوع من التفكير المفرط في التبسيط منتشر على نطاق واسع.عندما أتحدث إلى الجمهور حول موضوع التجربة الروحية، أفاجأ بعدد الأشخاص الذين يقبلون بالكاد أن دوافعي قد تكون أشبه بدوافع جيمس: الفضول البسيط. كمجتمع، يبدو أننا نميل إلى الشك في أن العلماء يروجون لوجهة نظر معينة، وعلى الرغم من وجود أسباب وجيهة لذلك، إلا أن هناك أيضًا فوائد حقيقية لمجرد الفضول واتخاذ نهج وصفي، وليس توجيهي. من الصعب أن نكون "مع" أو "ضد" ما يسمى بالتجارب الروحية، أو أن نقترح أنها "تثبت" أو "تدحض" شيئًا ما عندما نعلم أن الملحدين يفسرونها بمصطلحات غير خارقة للطبيعة بينما لا يزالون يستفيدون منها، أو أن المتدينين يمكن أن يكون لديهم تجارب تتماشى مع تقاليدهم الدينية وما زالوا يعانون منها بشكل هائل، أو أن جميع أنواع التجارب يمكن أن تخلق نتائج مربكة ومختلطة تتحدى التفسير السهل. هذا التعقيد في المحتوى والتفسير والنتائج هو ما أراد جيمس إظهاره.

ادّعى فرويد أنه لم يكن لديه مثل هذا "الشعور المحيطي".

لم يكن اللغز بالنسبة لجيمس هو ما إذا كانت هذه التجارب "جيدة" أو "سيئة" أو كيف ينبغي استخدامها على الفور، ولكن بدلاً من ذلك، كيفية فهمها. اليوم، لدى مجال أبحاث المخدر الكثير ليتعلمه من الدروس التي قدمها جيمس منذ أكثر من قرن من الزمان. لفهم دافعنا الحالي بشكل كامل لتصنيف شيء ما على أنه "جيد" أو "سيئ" (سواء كان مفيدًا أم لا)، يجب أن ننظر إلى أصول علم النفس الحديث، بدءًا من القرن الحادي والعشرين إلى الوقت الذي ألقى فيه جيمس محاضرات جيفورد. في مطلع القرن، نجد عالمين نفسيين مختلفين تمامًا، تناولا قيمة الحالات المتغيرة و"التجارب الروحية" كما نميل إلى القيام بها اليوم: سيغموند فرويد وكارل يونغ.

في كتابه "الحضارة وسخطها" (1930)، كتب فرويد عن تجارب شخصية عميقة كانت مصحوبة بـ "شعور محيطي" بالوحدة. خلال هذه التجارب القوية (التي كان جيمس سيسميها «دينية» أو «صوفية») كان الشخص يصف «كونه واحدًا مع الكون». ادعى فرويد أنه لم يكن لديه قط أي «مشاعر محيطية» كهذه، وأن أوصافها بدت غريبة بالنسبة له - على الأقل عندما حدثت خارج سياق الحب الرومانسي والجنسي. في الواقع، بناءً على افتقاره إلى الخبرة الشخصية، اعتبر مثل هذه التجارب مرضًا نفسيًا واعتقد أن العالم الذي كشفت عنه لم يكن أكثر من مجرد وهم. وهو يحث القارئ، بشكل توجيهي، على تجنب مثل هذه الأعماق من الخبرة. وبدلا من استكشاف هذه التجارب العميقة، يقتبس فرويد من الشاعر فريدريش شيلر: "فليبتهج من يتنفس هنا في ضوء وردي!" وهكذا، يتخذ فرويد في نهاية المطاف موقفا "ضد" هذه التجارب المعقدة.

وجهة نظر يونج هي تقريبًا عكس وجهة نظر معلمه السابق. ويصف هذه التجارب بأنها "روحية"، أو يشير إليها أحيانًا باسم "الموت النفسي" (والذي أصبح يُعرف فيما بعد باسم "موت الأنا"). كما اتسمت هذه التجارب بمشاعر الرهبة والوحدة الروحية، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على حياة الشخص. على عكس فرويد، كان يونغ على دراية بتجارب من هذا النوع، ووضعها في نهاية المطاف في مركز نظام العلاج النفسي الخاص به، معتقدًا أنها تكشف عن بُعد روحي خفي للواقع. وفي رسالة إلى أحد زملائه في عام 1945، أكد يونج على مدى أهميتها لنظام العلاج النفسي الخاص به: "لكن الحقيقة هي أن النهج إلى الروحي هو العلاج الحقيقي وبقدر ما تصل إلى التجارب الروحية فإنك تتحرر من اللعنة". "علم الأمراض." كان يونغ، بكل معنى الكلمة، "يصف" مثل هذه التجارب لمرضاه بسبب إيمانه بقدرتهم على الشفاء وقدرتهم على الكشف عن حقائق معينة حول الواقع.

واليوم، يبدو أن الغلبة لنهجى فرويد ويونغ. إن التجارب "الروحية" المعقدة والغريبة - سواء كانت "روحية" أو "محيطية" - غالبًا ما يتم اختزالها إلى قيمتها الاستخدامية باعتبارها شيئًا جيدًا أو سيئًا. أرى هذا في سياق المناقشات حول التجارب المخدرة بين "المتحمسين للغاية" و"المتشككين للغاية" الذين يتخذون مواقف إيجابية أو سلبية بشكل مفرط تتجاوز الأدلة. ويتجلى هذا الاختزال إلى الخير أو الشر بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتم مكافأة المواقف المتطرفة خوارزميًا، ويصبح انتقاء الحكايات المذهلة أو المرعبة أمرًا طبيعيًا.أتساءل: هل يمكن للعودة إلى نهج جيمس الفضولي أن تجعل وجهات نظرنا الجماعية أكثر توافقًا مع البيانات المتاحة؟.

ولد جيمس، "أبو علم النفس الأمريكي"، في عام 1842، أي قبل فرويد بأكثر من عقد من الزمن وقبل يونغ بثلاثة عقود. ظهر نهج جيمس الفريد تجاه التجارب المعقدة والغريبة خلال دراسته في أوروبا، حيث تعلم الجمع بين تقنيات المختبرات الألمانية وفلسفة التجريبية البريطانية. دُرّب كطبيب، وكتب الكتاب المدرسي التأسيسي لعلم النفس، وساعد في تأسيس المدرسة الفلسفية للبراغماتية. كما أنه ينحدر من إحدى العائلات الأدبية الأكثر نفوذاً في البلاد - كان شقيقه الروائي هنري جيمس وشقيقته كاتبة اليوميات النسوية المؤثرة أليس جيمس. وعندما توفي بسبب قصور في القلب عام 1910، اعتبر الفيلسوف برتراند راسل جيمس هو الأكاديمي الأكثر شهرة في العالم. لكن اسمه اليوم أقل شهرة من اسم فرويد أو يونج.

لعب جيمس دورًا حاسمًا في تطبيع هذه اللحظات المكثفة، والتي غالبًا ما تكون ذات أهمية كبيرة في الحياة العقلية الداخلية.

ومع ذلك، كان لجيمس وجهة نظر أكثر دقة ومتعددة الأوجه من أي من هؤلاء المفكرين الآخرين. في كتابه الأكثر شهرة، أصناف الخبرة الدينية: دراسة في الطبيعة البشرية (1902)، استنادا إلى محاضرات جيفورد، يتضمن جيمس روايات عن عشرات التجارب. ويصفها بعدة طرق في جميع أنحاء الكتاب، باستخدام عبارات مثل "أشكال الوعي"، أو "التجربة الدينية" أو "التجارب الصوفية". لقد اتخذ وجهة نظر ملحدة بشأن العناية الإلهية، ووضع الأسئلة الفلسفية واللاهوتية جانبًا للتركيز بدلاً من ذلك على ما يقوله الناس عن هذه التجارب وما إذا كانت تؤثر على حياتهم، للخير أو للشر. يناقش جيمس التجارب التلقائية، تلك الناجمة عن الممارسات التأملية، وكذلك تلك الناجمة عن المواد ذات التأثير النفساني مثل أكسيد النيتروز. يتضمن تجارب كانت مصحوبة بالفرح، ولكن أيضًا باليأس. وهو يتضمن التجارب التي أدت إلى تحولات إيجابية دائمة بينما يناقش أيضًا حقيقة أن مثل هذه التجارب يمكن أن تؤدي إلى أمراض نفسية ومعاناة أو ترتبط بها. يتناقض هذا الاعتراف مع نظرية فرويد المرضية الانعكاسية وحماس يونغ المفرط أحيانًا. علاوة على ذلك، وعلى النقيض من يقين فرويد بأن هذه التجارب ليست سوى أوهام ويقين يونغ بأنها وحي، يعترف جيمس بأن الدراسة العلمية لهذه التجارب لا يمكن أن تخبرنا ما إذا كانت تمثل حقيقة خارقة للطبيعة أم لا: "بصدق حزين أعتقد أننا "يجب أن نستنتج أن محاولة إثبات حقيقة خلاصات التجربة الدينية المباشرة من خلال العمليات الفكرية البحتة هي محاولة ميؤوس منها تمامًا." وأخيرًا، لا يقدم جيمس أي وصفة للبحث عن مثل هذه التجارب أو تجنبها - وهو نهج وصفي أجده منعشًا

ولكن قد تتساءل ما الفائدة من مجرد وصف هذه التجارب الشخصية الغريبة؟ تأتي قيمة منهج جيمس عندما ندرك مدى ندرة مناقشة الناس لهذه التجارب بعد أن مروا بها. حتى اليوم، لا يزال هناك من المحرمات مناقشة التجارب الروحية بجدية. ربما لعب جيمس دورًا حاسمًا في البدء في تطبيع هذه اللحظات المكثفة والتي غالبًا ما تكون ذات معنى عميق في الحياة العقلية الداخلية. أعلم أنه فعل من أجلي. وتتمثل قيمة منصبه أيضًا في السماح باتباع نهج معتدل في التعامل مع مجموعة معقدة للغاية من التجارب الشخصية.

ومن المؤسف أن جيمس هو الآن الأقل شهرة بين هؤلاء علماء النفس الثلاثة. اليوم، مع دخول التجارب المخدرة في النقاش السائد (تجارب تشبه أحيانًا تلك التي وصفها جيمس)، أصبح منهجه في علم النفس ضروريًا أكثر من أي وقت مضى. هل يمكننا أن نتعلم تقييم النهج الوصفي القائم على الاستقصاء دون دعوة مقابلة للعمل أو دافع غريزي لإصدار حكم حول قيمة استخدام شيء ما؟ وهذا لا يعني أننا ينبغي لنا أن نتجاهل التطبيقات المفيدة: فقد أراد جيمس أن يضع الأفكار الجيدة موضع التنفيذ، حتى ولو شمل ذلك استخدام المواد ذات التأثير النفساني التي قد تكون مفيدة، ولكن ليس على حساب الفهم أو دون الاعتراف بالمخاطر. ليس من الضروري أن تصبح كل تجربة جديدة، وكل تحقيق جديد، على الفور طريقة جديدة لتحسين أنفسنا في شكل حل سريع.

إذًا، ما الذي يمكن أن يقوله فرويد ويونج وجيمس عن هذا العصر الجديد من تجارب المخدر؟ خلال حياة فرويد، لم يكن لديه ما يقوله عن المخدر؛ ربما شعر بالانزعاج الشديد بسبب حماسته المحرجة للكوكايين "الطبي" في وقت مبكر من حياته المهنية لدرجة أنه ابتعد عن الادعاءات الثورية حول علم الأدوية النفسية. ومن ناحية أخرى، انضم يونج إلى قائمة طويلة من الرجعيين، المتدينين غالبًا، الذين لم يروا أي قيمة في التجارب التي تجلبها المواد ذات التأثير النفساني.وجيمس؟ وبدلاً من ذلك، كان مفتونًا بالتشابه الظاهري بين التجارب الناجمة عن المواد ذات التأثير النفساني وتلك الناشئة عن محفزات أخرى (أو حتى تحدث بشكل عفوي).وقد شجع على إجراء المزيد من الأبحاث حول كل هذه الأمور، بقطع النظر عن السبب.

في عام 1902، أنهى جيمس آخر محاضراته في جيفورد في إدنبرة بدعوة لمزيد من البحث العلمي الوصفي حول هذه التجارب وغيرها. اليوم، في وقت حيث يتم الترويج لتجارب المخدر بشكل مسعور باعتبارها علاجًا قويًا (أو يتم التنديد بها باعتبارها خطيرة للغاية)، يمكننا أن نفعل ذلك بجرعة من انفتاح عقلية جيمس واندفاعه لجمع الأدلة بعناية. إن موجة جديدة من أبحاث المخدر تقدم فرصاً جديدة لمتابعة المشكلة التي وصفها جيمس قبل قرن من الزمان: "السؤال المطروح هو كيف ننظر إليها، لأنها منقطعة تماماً عن الوعي العادي". وبدلاً من التهكم الفرويدي أو الحماس اليونجي، ربما يكون ما نفكر فيه: استدعاء الاستقصاء الجيمسانى ( نسبة إلى ويليام جيمس).

المؤلف: ديفيد يادن/ David Yaden   أستاذ مساعد في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز ويعمل في مركز أبحاث الوعي والمخدرات. ينصب تركيز بحثه على علم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي، وعلم الأدوية النفسية للتجارب الروحية، والمتسامية ذاتيًا، والتحويلية الإيجابية الناجمة عن المواد المخدرة ومن خلال وسائل أخرى. على وجه التحديد، فهو مهتم بفهم كيف يمكن أن تؤدي هذه التجارب إلى تغييرات طويلة المدى في الرفاهية وكيف تغير بشكل مؤقت القدرات الأساسية للوعي مثل الإحساس بالزمان والمكان والذات. وهو محرر الطقوس والممارسات في أديان العالم: منحة دراسية عبر الثقافات لإعلام البحوث والسياقات السريرية.. كتبت مراجعات عن أعماله العلمية والأكاديمية في صحيفة نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، وواشنطن بوست، ومجلة نيويورك، والإذاعة الوطنية العامة. وهو مؤلف كتاب أصناف الخبرة الروحية: أبحاث ووجهات نظر القرن الحادي والعشرين (OUP، 2022).

***

................................

رابط المقالة على سايكى:

https://psyche.co/ideas/william-james-was-right-about-our-strange-inner-experiences

إذا أطلق لفظة الإمام فى الإسلام على الإطلاق فلا ينصرف الذهن مباشرة إلا إلى واحد أوحد هو أبو الأئمة حقيقة، وسيدهم غير منازع، إمام الأولياء، هو بلا شك الإمام عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه؛ فهو بحق الإمام الذى لا يتخطاه الذهن البصير من حيث كون الإمامة لا تكتسب بالدُّرْبَة والمران والتحصيل؛ بل توهب توفيقاً من عطايا الفضل الإلهى، ولا تقوم بالحيلة ولا بالوسيلة، بل بالجعل الإلهى تحقيقاً كما فى قوله تعالى: (إنى جاعلك للناس إماماً).

ولا ينقض هذا وجود أناس من بين الأئمة من ينتزع مثل هذا الفضل انتزاعاً لنفسه، فيجريه اكتساباً على حياته بالقدوة والمثل الأعلى وسياسة النفس بالحيلة كما جرى فى حياة النوادر بالموهبة المُفَاضة والاصطفاء المخصوص.

والفارقُ بين عطاء الفضل الإلهى وكسب المنزع البشري، هو فارقٌ بين الحقيقة والمجاز، حتى إذا أطلقنا الإمامة على الإمام عليّ ابن أبى طالب أطلقناها حقيقةً ولم نجاوز الحقيقة فى شيء ولا فى صورة ولا فى ملمح من ملامح حياته الظاهرة أو خصاله الباطنة، فهو إمامٌ على الحقيقة وله بالإمامة أصالة الشرف، وعراقة النسب، ونقاء الحسب، وطلاقة الروح، ومواهب التفوق فيها ومواهب الامتياز.

أمّا إذا نحن أطلقناها على غيره، فربما نطلقها ونحن فى حاجة ماسّة إلى سدّ الفجوات التى يُحدثها فعل النسبة البشرية المكتسبة بإزاء مقرّرات التفوق والامتياز فى المواهب المُفاضة لا فى الجهد البشرى المحدود، فلا يوجد عظيم من العظماء إلا ومعه لُمَّة النقص الذى يصاحب الطبيعة البشريّة فى صورة من صورها أو فى نحو من أنحائها، ومع ذلك فهو بالمقياس الإنسانى عظيم، ولا يتجرّد من مقياس العظمة إذا نقص فى صفة من الصفات، أو إذا بهت ظل من ظلال الصورة التى تكوّنت عنه بعد بحث واطلاع.

والإمام على رضوان الله عليه، كامل فى معدن الإمامة، بمقدار ما هو كامل فى الفضل، كامل فى الدين، كامل فى العلم، كماله فى حربه وسلمه، وفى شجاعته وتقواه، ولا يوجد كامل فى تلك الجهات العلويّة، ويكون النقص حليفه فى الملكات الباطنة أو فى مواهب التفوق والامتياز، فهو الكرار فارس الهيجاء عليٌّ، الفتى الغالب، الشجاع المغوار الذى تعجز عن ضربات حُسامه شجاعة الشجعان، وهو الذى نسجت الشجاعة على منواله واستنت بسننه واهتدت بدرْبه، وهو الذى تلاقت فيه القوتان، قوة البدن وقوة الجنان، ولا عمل أقوى ولا أكثر امتيازاً من قوة الروح الباقية وفضائلها التى تستخف بكل ما هو زائل دُوُنٍ فى عالم الأطماع والشهوات.

هذه القوة الروحيّة العالية هى التى أنشأت الفضل المسبوق على التحقيق فى كل علم وفى كل فضل فى الإسلام وفى الحضارة الإسلاميّة، تماماً كما أرست قواعد الغلبة والانتصار إبّان ظهور الإسلام ومهده الأول ثم توالى عليها تبعات النهوض بالدعوة والجهاد، وملاك الأمر كله فى الكرار يومئذ ارتقاء الروح، والزهادة فى الدنيا، والاستخفاف بالدُّون والأطماع، ونصرة الحق على الباطل، وموالاة الله ورسوله على الحقيقة التى تشع وتسطع كأنها  الشمس فى ضحاها.

ولد رضوان الله عليه فى جوف الكعبة، ونشأ وعاش وهو ربيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصيه، لا تغرّه الدنيا بل يطويها تحت قدميه، كأنها خرقة بالية، ممتثلاً قول النبيّ عليه السلام : لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، إلى أن آخى النبيُّ فى دار الهجرة بينه وبينه.

ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يكتم حبّه لعلي، ولا تقديره لشجاعته، ولا دفاعه عنه فى موضع الغيرة العارضة أو موطن البغض الذى يشوب النفوس من جرَّاء الحسد والضغينة؛ بل كان معه، ومن ورائه، معيّة الأب لأبنه، يؤثره بالعطف المشمول والشفقة الرحيمة كما تجلّت فى قلب أعظم نبيّ، وليس بالقليل أن يزوجه كريمته فاطمة الزهراء أحبَّ الناس إليه وسر أبيها وبضعته، وقد تقدّم لخطبتها قبله أبو بكر وعمر فردّهما رداً جميلاً مؤثراً عليَّاً الفقير التقيّ النَّقى العالم الزاهد الورع صاحب السبق فى الإسلام، رغم فقره وقلة يده من وفرة الحطام، وهو عليه السلام يقول (فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأولهم سلماً).

وكان الصحابة يعرفون مأثرة النبيّ لعليّ، كما يُكاشفون بمحبته له، وهو أول من تحدى صناديد الكفر فنام بفراشه ليلة الهجرة وهو يعلم نواياهم المعقودة على قتل النبى إذ ذاك، فلم يبال بقتل نفسه إذا أنقضت قريش مترقبة ثائرة.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

 

ليست بي حاجة لإحاطة القارئ اللبيب باستشراء ظواهر أضحت فاقعة وضاجّة في واقعنا الراهن تشي طبيعتها بان مجتمعنا العراقي المتخم بالمشاكل والفائض بالإشكاليات بات من غزارة المعطيات الغريبة والسلوكيات العجيبة، ما يستوجب على الباحثين في شتى الاختصاصات العلمية والمجالات الإنسانية ليس فقط متابعة رصدها وتحليلها كما تتبدى في وعينا وعلاقاتنا وسلوكياتنا، ومن ثم الوقوف على مصادر صيرورتها وديناميات تحولها ومآل مصيرها فحسب، وإنما لقدح زناد الفكر وشحذ أزاميل التحليل لإيجاد المفاهيم المناسبة والمصطلحات الملائمة التي من شأنها تأطير المعاني واستخلاص الدلالات القارة فيها والمعبرة عنها  .

ومن هذا المنطلق، فقد اجتهدنا لاقتراح مصطلح (الإقطاع السياسي) كنموذج تحليلي نصف من خلاله نمط من أنماط التضامنيات الاجتماعية والتوافقات السياسية القائمة بين مكونات المجتمع الأهلي (القبائل والطوائف) المدججة بالسلاح، على أساس (المحاصصات) الإقطاعية التي تمخضت عن تجربة النظام السياسي لما بعد سقوط بغداد عام 2003، حيث تعكس ليس فقط ما يحتدم بين تلك الجماعات من ضراوة (التكالب) على تجاوز خطوط الصدع الفاصلة بين جغرافيات كل منها، لحيازة أكبر قدر ممكن من عناصر السيطرة السياسية والهيمنة الإيديولوجية داخل كيان المجتمع المتفكك بنيويا"والمتشظي سوسيولوجيا"فحسب، وإنما (لضمان) الفوز بأهم المواقع المؤثرة داخل الحقل السياسي المتمثل بسلطة (الدولة) ومؤسساتها، استنادا"الى ما تتوفر عليه من قدرات عسكرية وإمكانيات اقتصادية .

وكما هو الحال في نموذج (الإقطاع الاقتصادي) الذي كان سائدا"في ربوع هذه الديار، حيث التنافس والصراع كان على أشده بين كبار (الملاك) و(الإقطاعيين) لضمان الاستحواذ على أكثر ما يمكن الحصول عليه من (الأراضي) الزراعية التي كان استثمارها (مشاع) بين فلاحي العشائر والقبائل سابقا"، والتي كان لاعتبارات (سعة) المساحة و(خصوبة) الغلة دورا"أساسيا"لا في حجم العوائد الاقتصادية (المالية) التي كان يجنيها المالك - الإقطاعي فحسب، بل وكذلك في تراكم المردود الاعتباري المتمثل بمظاهر (الهيبة) و(النفوذ) اللتان تسبغان عليه هالة من السلطان (الكاريزمي) المفتعل بين أتباعه وأشياعه، سواء أكانوا من أهل الريف أو من أهل المدينة . إذ بدلا"من سعي المتنافسين لحيازة (الأرض) التي يتمحور حولها نمط (الإقطاع الاقتصادي) ومن ثم التصرف بعوائدها، تستحيل (الدولة) في نمط (الإقطاع السياسي) هي الهدف المركزي الذي تشرأب نحوه أطماع الأطراف السياسية المتكالبة على بلوغ مأربه وتقاسم مغانمه، كل بحسب ترتيبه من تسلسل القدرات والإمكانيات التي بحوزته وتحت تصرفه، والتي غالبا"ما يكون مصدرها إقليمي أو دولي من خارج الحدود . 

والجدير بالذكر ان هذا النمط من (الإقطاع) المقترح لا يوجد إلاّ في حالة واحدة ؛ تتمثل باقترانه عضويا"مع استشراء مظاهر تراجع سلطة (الدولة)، وتراخي قبضتها الرادعة، وانكفاء هيبة القانون، إزاء حالات الانفلات الأمني وطغيان الفوضى في المجتمع المضطرب والمحتقن على إيقاع الأزمات والتوترات . الأمر يعطي الإشارة للجماعات العابثة والمتربصة بالتحرك للتسلل الى داخل الحقل السياسي للانقضاض على أهم المواقع المؤثرة في مدماك الدولة لاغتصاب سلطتها واقتسام مؤسساتها وتوزيع أسلابها، وثم تجريدها من سيادتها والسطو على شرعيتها . قد يبدو في بعض الأحيان ان تلك الجماعات الخارجة عن القانون تنشط بموازاة سلطة (الدولة) الضعيفة، وتتجنب الإفصاح عن رغبتها في العمل خارج إطار تلك السلطة المتراخية ان لم يكن ضدها . ولكن هذا الأمر لا يعدو أن يكون ذرا"للرماد في العيون لخلق الانطباع بأنها لا تزال تعمل وفقا"لشروط الدولة وتحت وصايتها من جهة، وانتظار اللحظة الحاسمة التي لم يعد فيها المواطن المجرد من كل أنواع الحماية والأمان يثق بالدولة ولا يحترم قوانينها، بحيث تكون (الطائفة) و(القبيلة) و(الاثنية) هي منقذه الوحيد وملاذه الأخير من جهة أخرى .

وأخيرا"، إذا صح قول الاقتصادي العراقي المعروف (عصام الخفاجي) الذي أشار فيه الى أن (تفتيت السيادة كان عنصرا"مكونا"لمجمل نمط الإنتاج الإقطاعي) بمفهومه الاقتصادي، فان ما يصح أكثر هو القول ؛ ان (الإقطاع السياسي) لن يعمل على تفتيت (السيادة) التي هي عنصر أساسي من عناصر كينونة (الدولة) فحسب، وإنما – وهنا الطامة الكبرى -  سيكون بمثابة معول هدم قادر على أن يضع الدولة ذاتها تحت طائلة التشظي والتذرر الى كانتونات – إقطاعيات متناحرة تتصارع فيما بينها على نهب البلاد واسترقاق العباد ! .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

منذ عام 2003، خضعت ساعات الدوام في الكليات العراقية لتغيرات جذرية، بدافع الاوضاع الامنية المضطربة، حيث تم تقليصها لعدة ساعات وانتهائا في افضل الاحوال بالساعة الثانية ظهرا. مثلت هذه التغيرات تتويجا لتدهور أوضاع التعليم العالي الذي بدأ بتسيس التعليم في السبعينيات وبلغ ذروته بالانهيار في التسعينات. نتيجة لذلك، فقدت ساعات الدراسة مرونتها، وباتت الجامعات تعاني من قيود كبيرة في إدارة العملية التعليمية.

مع مرور الوقت، ساد تيار بما يعرف بالدراسات المسائية، وتم تخصيص نفس مرافق الدراسة الصباحية لها، مما ادى الى تحويل الجامعات الى نموذج يشبه المدارس الابتدائية والثانوية المزدوجة او الدوام الجزئي. فباتت الدراسات المسائية تشارك نفس المباني مع الدراسات الصباحية وتدرس نفس الاختصاصات وتمنح نفس الشهادات، وتبدا في الساعة 2 ظهرا بدلا من السادسة مساء كما كانت عليه سابقا، لتنتهي في الساعة 5 او 6 مساء. مع ملاحظة انه حديثا تم تغيير موعد بداية الدراسات المسائية الى الساعة الرابعة لربما لمنح وقت اطول للدراسات الصباحية.

وبالرغم من اننا ناقشنا هذا الموضوع واعترضنا على نظام الدوام المزدوج في عدد من الكتابات واللقاءات منذ 2003 الا انه لم يحضى بالاهتمام اللازم بسبب الضغوط السياسية والامنية ولتفضيل التدريسيين والموظفين لساعات العمل القصيرة، بالرغم من كونه يحمل في طياته مخاطر جمة، خاصة على صعيد جودة التعليم، حيث يعد من اهم واخطر المشاكل التي تواجه هذا القطاع، ويتعارض مع متطلبات الجودة والاعتماد. كما ان تأثيراته السلبية تمتد الى الدراسات العليا والتي تتطلب قضاء اوقات طويلة في المختبر والمكتبة وهو ما دفع كثير من الطلبة الى شراء خدمات المختبرات والمكاتب الاهلية. 

ويزيد من الطين بله صدور قرار مجلس الوزراء ببدء دوام الكليات في الساعة 10 صباحا حيث انه من المؤكد انه سيفاقم المشكلة، وسيوسع الفجوة بين الجامعات العراقية ونظيراتها العالمية، ويؤثر سلبا على مستوى التعليم العالي في البلاد خصوصا بعد تحديد نهاية الدوام بالساعة الرابعة.

يعتبر عدد ساعات الدوام الدراسي في الجامعات العراقية منخفضا للغاية مقارنة بالجامعات العالمية. بدون ادنى شك تمنع قصر هذه المدة الطلاب من فترات الدراسة اللاصفية داخل الجامعة، وتشكل عائقاً رئيسياً أمام تحقيق التميز على المستوى العالمي، حيث لا يتيح للطلاب الحصول على المعرفة والمهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل.

ولعلّ الحل الامثل لمواجهة هذه التحديات، يكمن في اعادة ساعات فتح الجامعات الى ما كانت عليه سابقا، اي من 8 صباحا الى 6 او الى 9 مساء، وهو ما سيمنح الدراسات الاكاديمية خصوصا العلمية مزيدا من المرونة في جدولة ساعات التدريس والتدريب، بما يتناسب مع خيارات الاقسام والاساتذة ومحتوى المنهج من ساعات نظرية وعملية ومكتبية ومشاريع تطبيقية بالاضافة الى النشاطات اللاصفية والتي لا يتضمنها المنهج.

ولكن تطبيق هذا الحل يتطلب اتخاذ خطوات حاسمة، اهمها التوقف عن اعتماد نظام الشهادات المزدوجة، وعودة اوقات الدراسة الى حالتها الطبيعية، واعادة النظر في نظام الدراسات المسائية، اما من خلال عودتها الى ما بعد الساعة السادسة مساءً، او استخدامها لمباني اخرى، او حتى فصلها تماما وتأسيس جامعات مسائية مستقلة.

من خلال هذه الاجراءات، ستتمكن الجامعات من تحقيق الاستفادة القصوى من مرافقها، وتقديم المزيد من الخيارات للطلاب، وتحسين جودة التعليم العالي في العراق، ليواكب التطورات العالمية في هذا المجال.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

أكتب هذه السطورَ تأييداً لرؤية د. رضوان السيد، في مقاله المنشور بهذه الصحيفة نهاية الأسبوع الماضي. كان د. رضوان يعقّبُ على نقاشات «المؤتمر الدولي: بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» الذي استضافته مكة المكرمة في الأسبوع المنصرم. وزبدة رأيِه أنَّ على الهيئات الدينية ورجالِ الدين، أن يتبنُّوا مفهوماً محدداً لتجديد الفكر الديني، محوره فهم «المعروف في إطار عالمي». وينادي د.رضوان بإطلاق مبادرات مشتركة تجمعُ النخبَ الدينية الإسلامية مع نظرائها في المجتمعات الأخرى، هدفُها تعزيزُ المفاهيمِ والأعمال التي يتَّفق فيها أهلُ الأديان وتخدم البشرية بشكل عام. ويضرب مثالاً على هذا بالمبادراتِ الرامية إلى إغناءِ الحياة الروحية، وحياة الأسرة وتطوير التعليم، وحقوق المرأة والطفل.

على السطح تبدو هذه المهمة سهلة المنال، فهي طموحٌ مشتركٌ لجميع محبّي الخير في العالم، من أتباع الأديان وغيرهم. لكنَّ الشيطانَ يكمن في التفاصيل كما يقول الإنجليز. التعاون يحتاج –كما نعلم– إلى تعارف، يتلوه اعترافٌ متبادلٌ بحقّ كلِّ طرفٍ في اختيار طريقة عيشه في الدنيا وسبيلِ نجاته في الآخرة. هذا يعني بصورة محددة القبولَ العلني بتعددية الفهم الديني، أو –على وجه الدقة– الفصل بين المصدر الأصلي للدين، أي القرآن الكريم، وبين المعارفِ والشروحِ والتفسيرات التي قامت حوله، والتي نسمّيها معارفَ دينية أو تراثاً دينياً.

نعلم أنه لا خلافَ على القرآن ولا مكانته. لكنْ ثمة خلافٌ عريضٌ حول ما يأتي من بعده، لا سيما المعارف التي أنتجها العلماءُ طوالَ القرون السالفة، حتى اليوم. وشهدتِ السنواتُ الأخيرة جدلاً حول مكانة السنة النبوية، لا سيما كونها حاكمة على فهمنا للقرآن، وكونها مصدراً مستقلاً للتشريع، عابراً للزمان والمكان. وهو نقاش له مبرراته ما دام بقي في الإطار المدرسي- العلمي البحت. وأشير هنا إلى أنَّ المعارضين لاعتبار السنة وحياً ثانياً، كما عند الإمام الشافعي، يستندون إلى مبررات علمية متينة. والعام الماضي تابعتُ حلقة دراسية تجاوزت مدتها 40 ساعة، حول هذا الموضوع بالذات، فوجدتُ أنَّ أدلة هذا الفريق ليست هيّنة.

ما سبق بيانُه يتعلَّق بتعددية المعرفة الدينية والتفسير، أي تعددية الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية. وقبوله يعني –بالضرورة– قبول تعدد المذاهب والآراء مهما بعدت عن قناعاتنا الراهنة. لكنّ دعوة د.رضوان تذهب مسافة أبعدَ مما ذكرنا. فهي تعني –إنْ أردنا تفسيرها– تحريرَ «الخير» من الهوية الدينية – المذهبية، وجعله مشتركاً إنسانياً، يشارك فيه المؤمنُ انطلاقاً من إيمانه، من دون أن يحصرَ ثمارَ عملِه في إطار الجماعة التي تحمل هُويتَه وتشاركُه قناعاتِه.

أعتقد أنَّ تطوراً كهذا سوف يعيد هيكلة الفهم الديني، ليس على مستوى العلاقة مع غير المسلمين فقط، بل حتى على المستوى النظري، أي فهم النص الديني والاجتهاد في إطار الشريعة. وفي أوقاتٍ سابقة، تحدَّثَ عددٌ من كبار الفقهاء والمفكرين عمَّا عدّوه انفصالاً بين الفكر الديني والواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان المعاصر، سواء في المجتمعات المسلمة أو خارجها. وأرى أنَّ أوضحَ وجوهِ الانفصالِ المدَّعَى هو رفض «مبدأ الحسن والقبح العقليين». وفقاً لهذا المبدأ فإنَّ كلَّ فعلٍ بشري ينطوي –في جوهره– على حسنٍ أو قُبح، يدركه عامة العقلاء، بغضّ النَّظرِ عن أديانهم، وأنَّ قدرة العقل على إدراك حسنِ الفعل وقبحِه كافية لتحديد قيمته الأخلاقية، أي اعتبار الحسنِ موجباً لمدح فاعله واعتبار القبحِ موجباً لذمّه، سواء ورد فيه نصٌّ ديني أم لا.

أمَّا الوجهُ الثاني الذي يكشف الانفصالَ بين الشريعة والواقع، فهو الفصل التعسفي بين الأحكام الشرعية ومقاصدها، أو تحديد المقاصد فيما ذكره الأسلاف، من دون الأخذ بعينِ الاعتبار حقيقة كونِها اجتهادية وأنها قابلة للانكماش والتوسعِ أو حتى الاستبدال.

هذه إذن لمحة سريعة، وجدتها ضرورية لوضع رؤية د.رضوان في السياق الذي أراه مناسباً، وأحسب أنّي قد أوضحت الفكرة بما لا يحتاج إلى مزيدِ بيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نوعية الأسئلة التي يطرحها العقل الجمعي تُخبرك أين نقف، وإلى أين نسير؟ في أعقاب إقدام أحد الشباب المصري على الانتحار من أعلى بُرج القاهرة، لم يكن السؤال المطروح: كيف تحوّل "الانتحار" إلى ظاهرة اجتماعية، تحتل مصر فيها المرتبة الأولى بين الدول العربية، والمرتبة السادسة عشرة عالمياً حيث تمّ تسجيل ٤٢٥٠ حالة انتحار العام الماضي؟

فتركنا سؤال الحاضر، وهو كيف نُواجه تلك الظاهرة؟ وعدنا إلى أسئلة الماضي التي نتجادل حولها منذ أكثر من ألف عام، فسيطر على وسائل التواصل الاجتماعي جدل حول: ما حكم مرتكب الكبيرة؟ هل المنتحر مُخلّد في النار لارتكابه كبيرة "قتل النفس" أم في منزلة بين المنزلتين أم مُعذّب إلى أجلٍ؟ هل هو كافر أم أمره إلى الله تعالى؟ متجاهلين أنّ تكليف الله تعالى للإنسان منوط بالعقل، فمتى اختلت السلامة العقلية بما في ذلك النفسية تعطّل التكليف المستوجب للحساب الذي هو في حقيقته عملية غيبية تتم من الله تعالى للمُكلَّف، ولا يملك إنسان أو ملاك أو شيطان أن يحسم هل ستخضع عملية المحاسبة لقواعد العدل أم لعوامل العفو الإلهي، أضف إلى ذلك أنّه ليس في مقدورنا أن نقطع بتحقق العقوبة الأخروية على ذنب مهما كانت بشاعته؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأتيه الوحي قالها بوضوح: "أمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه".

وسورة "البروج" تحكي لنا جريمة بشعة في حقّ أطفال ونساء وشيوخ أُلقوا أحياء في حفرة طولية (أخدود) من النيران، ورغم أنّ الله تعالى توعّد الجُناة بالعذاب إلا أنّه استثنى منهم التائبين بقوله عزّ وجلّ: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ"، والأخبار في ذلك كثيرة. فإذا كان ما بعد الموت منطقة غيبية نعجز عن القطع بمصائر الراحلين إليها، فلماذا تأخذ هذا الحيز الجدلي في حياتنا!

انشغلنا بمحاكمة الموتى عن مساءلة الواقع، واكتفينا في تناول الظاهرة بالخطب والكلمات الرنانة، وانتظرنا من الفكر الديني بنبرته الوعظية وصوته المرتفع أن يقوم بمهمة البحث العلمي في قضايا ذات طبيعة اجتماعية نفسية معقّدة، تحتاج إلى عقلانية هادئة، وبحوث ميدانية تتعاطي من خلال بيانات ومؤشّرات إحصائية مع العوامل الواقعية التي تقف خلف الظاهرة. فإيجاد مشروع حضاري متوازن ومتكامل يحتاج إلى هياكل جادة للبحث العلمي في مختلف مجالات الدراسات الإنسانية، تحْظى بتمويل وتشجيع حكومي، والتزام مؤسسي بالعمل بنتائجها وتوصياتها؛ لإيجاد حلول ناجعة للمشاكل والهموم الاجتماعية.

لن نخترع العجلة من جديد؛ فالأعمال السوسيولوجيّة المتراكمة والمتتابعة تُمثّل مدخلاً نظرياً ومنهجياً مهماً في دراسة تلك الظاهرة التي شغلت عدداً من الباحثين بداية من "موريس هالبواش" ومروراً بـ "إميل دوركايم" صاحب كتاب "الانتحار"، وصولاً إلى الباحث المصري "مكرم سمعان" صاحب كتاب "مشكلة الانتحار" وغيرهم من الباحثين الذين رأوا الانتحار آفة تفتك بالأفراد، وتنخر في المجتمعات.

ويُعرف الانتحار بأنّه كلّ فعل يحدث بواسطة الضحية نفسها ويُؤدي إلى الموت بصفة مباشرة، مثل الارتماء تحت عجلات المترو، أو بصفة غير مباشرة مثل أن يُهمل الإنسان حالته الصحيّة، ويتعمد عدم معالجة مرض خطير يُؤدي تطوّره إلى الموت.

وقد استبعدت الدراسات المعاصرة أن يكون العامل الوراثي والأصل العنصري مسؤولاً عن تفسير تلك الظاهرة، فـ"الانتحار لا يُورث، ولا يتبع الخصائص الجينية للإنسان، وإنما ما يُورّث أو يُورَث هو بعض حالات الأمراض العقلية، وهي لا تُؤدي بالضرورة إلى الانتحار".

فالانتحار كغيره من الظواهر الاجتماعية تفسّره مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية والمعطيات الثقافية المتداخلة، ففي دراسة مكرم سمعان الميدانية على الانتحار في المجتمع المصري، انتهى بعد قياس معدلات الظاهرة ومقارنة الإحصائيات إلى أنّ هناك عدّة عوامل تتدرج في مدى تأثيرها، وتُسهم في حدوث الانتحار، أولها، ويكاد أن يكون القاسم المشترك في حالات الانتحار والشروع فيها، "الشعور بالعزلة والاغتراب"، فهو العامل الأساسي الذي يعمل على تنمية الدوافع والميول الانتحارية، لما لهذا الشعور من آثار على اختلال الأنا وتدهور الشخصية بكاملها، والدخول في اضطرابات نفسية وعقلية، وهو ما أطلق عليه "دوركايم" اسم "الانتحار الأناني"، فنسب الانتحار ترتفع لدى الأفراد الذين لهم نزعة فردية مفرطة، مثل مَن تضعهم الظروف الاجتماعية في حالة انفصام للرابطة الأسرية بالطلاق أو الترمّل، فالمتزوجون من منظور "دوركايم" أقلّ انتحاراً من العزّاب، والأسرة التي فيها أبناء أقل انتحاراً من الأسرة التي لم تُنجب.. والأسرة الأكبر والأكثر عدداً أقلّ انتحاراً من غيرها الأصغر والأقل عدداً.

ويأتي في المرتبة الثانية بفارق طفيف الصراعات الاجتماعية التي منها الصراع بين الزوجين أو مع الرؤساء أو مع الوالدين، وما يُصاحب ذلك من توبيخ شديد، وشعور أحياناً بالدونية، وفي المرتبة الثالثة جاءت الصعوبات المعيشية بسبب البطالة وتراكم الديون بكثرة، وتدهور الدّخل بصورة عامة، وهذا النوع من الانتحار يُسميه "دوركايم" باللامعياري، ويرتبط بالأزمات الاقتصادية حيث ينعدم التوازن بين الطموحات والإمكانيات، فالإنسان لا يستطيع العيش والبقاء على قيد الحياة بشكل سليم ومقبول إلا عندما يكون هناك توافق بين الضرورات أو الحاجيات من ناحية والإمكانيات أو الوسائل من ناحية أخرى.

وانتهى سمعان في دراسته إلى أنّ العلاج النافع الواقي من ارتفاع نسب الانتحار في المجتمعات المعاصرة يأتي من خلال دمج الأفراد في العمل والجماعات المهنية، فالاندماج في الحياة الاجتماعية من العوامل الأساسية التي تحمى الأفراد من الأمراض الاجتماعية والأزمات، كما أنّه يُساهم في إرساء تماسك وترابط اجتماعي مبني على الأخلاق والقيم الجماعية، فانخراط الفرد في جماعة العمل المهنية يُحقق ذاته، ويقوّى شعوره بالانتماء، ويدعم ويوسع روابطه الاجتماعية؛ فالانعزال أو ضعف الاندماج في الجماعة يجعل الفرد ضعيفاً، وغير قادر على التّغلب بمفرده على المشاكل التي قد تعترضه أثناء مباشرته لتكاليف ومشاغل الحياة.

أخيراً الحياة السويّة قائمة على الانتظام والانخراط في الجماعات المجتمعية من أسرة وجامعة وجماعة العمل وحراك مجتمعي مع مختلف المؤسسات التي تعمل في إطار المجتمع المدني كالجمعيات العلمية منها والحقوقية والإنسانية والخيرية والثقافية والأدبية.. فإضعاف الدولة لدور تلك المؤسسات الاجتماعية وتهميشها من جانب، وخوف الأسر على أبنائها من الاندماج في المجتمع الخارجي والعمل على عزله، وخوْض غمار الحياة نيابةً عنه، من جانب آخر، هو المسؤولٌ عن الضعف النفسي والاجتماعي الذي يعيشه البعض والذي قد يُؤدي بهم إلى الانتحار.

***

د. عبد الباسط هيكل – مصر

بقلم: ألكسندر تي إنجلرت

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عالم المنطق العبقرى كورت جودل يؤمن بالحياة الآخرة. وفي أربع رسائل صادقة إلى والدته شرح السبب، باعتباره أعظم منطقي في القرن العشرين، يشتهر كورت جودل* بمبرهنتيّ عدم الاكتمال ومساهماته في نظرية المجموعات، التي غيرت منشوراته مسار الرياضيات والمنطق وعلوم الكمبيوتر. عندما حصل على جائزة ألبرت أينشتاين تقديرًا لهذه الإنجازات في عام 1951، ألقى عالم الرياضيات جون فون نيومان خطابًا وصف فيه إنجازات جودل في المنطق والرياضيات بأنها مهمة للغاية لدرجة أنها"ستظل مرئية بعيدًا في المكان والزمان". وعلى النقيض من ذلك، تظل وجهات نظره الفلسفية والدينية مخفية عن الأنظار. كان جودل يتحدث عن هذه الأمور بشكل خاص، ولم ينشر شيئًا عن هذا الموضوع خلال حياته. وبينما كان العلماء يتصارعون مع دليله الوجودي على وجود الله، والذي وزعه بين أصدقائه في نهاية حياته، فإن المبادئ الأخرى لنظام معتقداته لم تحظ بأي نقاش مهم. أحد هذه الاعتقادات هو اعتقاد جودل بأننا ننجو من الموت.

لماذا كان يؤمن بالحياة الآخرة؟ ما هي الحجة التي وجدها مقنعة؟ اتضح أن الإجابة الكاملة تقريبا على هذه الأسئلة مدفونة في أربع رسائل طويلة كتبها إلى والدته، ماريان جودل، في عام 1961، والتي ذكر لها أنه من المقدر لهما أن يلتقيا مرة أخرى في الحياة الآخرة.3609 كورت

كورت وماريان جودل في الصورة معًا عام 1964. حقوق الصورة لمكتبة مدينة فيينا.

قبل استكشاف آراء جودل حول الحياة الآخرة، أريد أن أتعرف على والدته باعتبارها البطلة الصامتة في القصة. على الرغم من أن معظم رسائل جودل متاحة للجمهور عبر الأرشيف الرقمي لـ Wienbibliothek im Rathaus (مكتبة مدينة فيينا)،، إلا أنه من غير المعروف أن أيًا من رسائل والدته قد بقيت. ولا نملك سوى طرف حواره من محادثتهما، ومن ثم لم يبق لنا سوى استنتاج ما قالته من ردوده. وهذا يخلق غموضًا عند قراءة رسائله، كما لو أن المرء قد حصل على حوار أفلاطوني مع إزالة جميع السطور، باستثناء تلك التي نطق بها سقراط.على الرغم من أننا نفتقر إلى كلماتها الخاصة، إلا أننا ندين بالامتنان لماريان جودل. لأنه لولا فضولها واستقلاليتها في الفكر، لكان لدينا مورد واحد قليل وضعيف لفهم فلسفة ابنها الشهير.

بفضل سؤال ماريان المباشر حول إيمان جودل بالحياة الآخرة، حصلنا على وجهات نظره الناضجة حول هذه المسألة. طلبت منه ذلك في عام 1961، عندما كان في أعلى مستوياته الفكرية ويفكر بشكل موسع في الموضوعات الفلسفية في معهد الدراسات المتقدمة (IAS) في برينستون، نيوجيرسي، حيث كان أستاذًا متفرغًا منذ عام 1953 وعضو دائم منذ عام 1946. لقد أجبرت طبيعة التبادل جودل على تقديم وجهات نظره بالتفصيل بطريقة شاملة وسهلة المنال. ونتيجة لذلك، أصبح لدينا (مع بعض المكملات) ما يعادل حجة جودل الكاملة للإيمان بالحياة الآخرة، والتي تهدف عمدا إلى الإجابة بشكل شامل على أسئلة والدته، والتي تظهر في سلسلة الرسائل إلى ماريان من يوليو إلى أكتوبر 1961. في حين أن دفاتر ملاحظات جودل الفلسفية غير المنشورة تمثل مساحة قام فيها بتطوير وجهات نظره واختبارها من خلال الأمثال والتعليقات المختصرة في كثير من الأحيان، أراد جودل أن تكون هذه الرسائل مفهومة وتوفر إجابة محددة للبحث الجاد. ولأن المراسلات كانت خاصة، فإنه لم يشعر بالحاجة إلى إخفاء آرائه الحقيقية، وهو ما كان من الممكن أن يفعله في الأوساط الأكاديمية رسمية وبين زملائه في الأكاديمية الدولية للعلوم.3610 كورت

تم تصوير ألبرت أينشتاين وكورت جودل في IAS من قبل الاقتصادي أوسكار مورجنسترن في عام 1948.

وروى مورجنسترن كيف أسر أينشتاين بأن «عمله الخاص لم يعد يعني الكثير، وأنه جاء إلى المعهد فقط... ليحظى بشرف العودة إلى المنزل مع جودل». الصورة مقدمة من مركز أرشيفات شيلبي وايت وليون ليفي، IAS، برينستون، نيوجيرسي، الولايات المتحدة الأمريكية.

في رسالة بتاريخ 23 يوليو 1961، كتب جودل: "في رسالتك السابقة، طرحت السؤال الصعب حول ما إذا كنت أؤمن بـ Wiedersehen". كلمة Wiedersehen تعني "أن أرى مرة أخرى". وبدلاً من المصطلحات الرسمية الفلسفية مثل «الخلود» أو «الحياة الآخرة»، يضفي هذا المصطلح على التبادل صفة حميمة. بعد هجرته من النمسا إلى الولايات المتحدة في عام 1940، لم يعد جودل أبدًا إلى أوروبا، مما اضطر والدته وشقيقه إلى أخذ زمام المبادرة لزيارته، وهو ما فعلاه لأول مرة في عام 1958. ونتيجة لذلك، يمكن للمرء أن يشعر هنا بما كان يجب أن يكون شوقًا عميقًا إلى لم شمل دائم من جانب والدته، ويتساءل عما إذا كانت ستقضي قدرًا كبيرًا من الوقت مع ابنها مرة أخرى. وكانت إجابة جودل على سؤالها إيجابية بشكل لا يتزعزع. وحجته في الإيمان بالآخرة هي:

إذا كان العالم منظمًا بشكل عقلاني ومنطقي، فيجب أن يكون كذلك. لأنه ما هو المعنى الذي قد ينشأ من ولادة كائن (الإنسان) يتمتع بهذا المجال الواسع من إمكانيات التطوير الشخصي والعلاقات مع الآخرين، عندها فقط نسمح له بتحقيق ما لا يقل عن 1/1000 منها؟

ويعمق السؤال البلاغي في النهاية باستعارة من يضع حجر الأساس لبيت ثم يبتعد عن المشروع ويضيعه. يعتقد جودل أن مثل هذا التبذير مستحيل لأن العالم، كما يصر، يعطينا سببًا وجيهًا لاعتباره منظمًا وذا معنى. ومن ثم، فإن الإنسان الذي لا يستطيع تحقيق سوى إنجاز جزئي في حياته، يجب أن يسعى إلى التحقق العقلاني من هذا النقص في عالم المستقبل، عالم تتجلى فيه إمكاناتنا.

آراؤه مستنيرة وانتقادية، وإن كانت مشبعة بالتفاؤل.

قبل المضي قدمًا، من الجيد أن نتوقف مؤقتًا ونلخص حجة جودل باختصار. بافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني، فإن الحياة البشرية – كما هي جزء لا يتجزأ من العالم – يجب أن تمتلك نفس البنية العقلانية. لدينا أسباب لافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني. ومع ذلك، فإن حياة الإنسان منظمة بشكل غير عقلاني. إنها مكونة من إمكانات كبيرة ولكنها لا تعبر أبدًا عن هذه الإمكانات بشكل كامل في الحياة. ومن ثم، يجب على كل واحد منا أن يحقق إمكاناته الكاملة في عالم المستقبل. السبب يتطلب ذلك.

دعونا نتوقف أولاً عند الفرضية الأساسية للحجة، وهي الادعاء بأن العالم والحياة البشرية، كجزء منه، يُظهران نظامًا عقلانيًا. على الرغم من أنه ليس موقفًا غير معتاد في تاريخ الفلسفة، إلا أنه قد يبدو من الصعب في كثير من الأحيان التوافق مع ما نلاحظه. وحتى لو كنا كائنات عقلانية، فإن التاريخ البشري كثيرًا ما يُكذب هذه الحقيقة. كان النصف الأول من عام 1961 - الذي تخلل خلفية وعي جودل - مليئًا بتوترات الحرب الباردة المتزايدة، والعنف الذي استهدف المتظاهرين السلميين خلال حركة الحقوق المدنية،والمعاناة من أحداث عشوائية مثل فقدان فريق التزلج على الجليد الأمريكي بأكمله في حادث تحطم طائرة. ويبدو أن الحماقة واللاعقلانية في الشؤون الإنسانية هي القاعدة التاريخية وليست الاستثناءوكما يقول الملك لير فى مسرحية شكسبير لجلوسيستر عندما يشرح "كيف يسير هذا العالم"، يبدو أن الاستنتاج هو: "عندما نولد، نبكي لأننا وصلنا إلى هذه المرحلة العظيمة من الحمقى".

ومع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن جودل كان ساذجًا في إصراره على أن العالم عقلاني. وفي نهاية رسالة مؤرخة في 16 يناير 1956، أكد أن "هذا عالم غريب". وتظهر مناقشاته في مراسلاته مع والدته أنه كان على اطلاع دائم بالموضوعات السياسية والأحداث العالمية. في رسائله، كانت آراؤه مستنيرة ونقدية، وإن ظلت مشبعة بالتفاؤل.

الأمر المثير، وربما الفريد، في حجته بشأن الحياة الآخرة هو حقيقة أنها تعتمد في الواقع على اللاعقلانية الحتمية للحياة البشرية في عالم مشبع بالعقل. إن انتشار المعاناة الإنسانية في كل مكان وإخفاقاتنا الحتمية هو على وجه التحديد هو ما أعطى جودل يقينه بأن هذا العالم لا يمكن أن يكون نهايتنا. كما لخص بدقة في الرسالة الرابعة إلى والدته:

ما أسميه رؤية لاهوتية للعالم هو وجهة النظر القائلة بأن العالم وكل شيء فيه له معنى وعقل، وهو في الواقع معنى جيد لا يقبل الشك. ويترتب على ذلك على الفور أن وجودنا الأرضي – بما أن له في حد ذاته معنى مشكوكًا فيه على الأكثر – يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق غاية لوجود آخر.

ولأن حياتنا على وجه التحديد تتكون من إمكانات غير غير محققة أو متساهلة، فهو مقتنع بأن هذه الحياة ليست سوى مرحلة لأشياء قادمة. لكن مرة أخرى، لن يكون هذا ممكنًا إلا إذا تم تنظيم العالم بشكل عقلاني.

إذا كانت البشرية وتاريخها لا يظهران نظامًا عقلانيًا، فلماذا نعتقد أن العالم عقلاني؟ تُظهر الأسباب التي قدمها لوالدته في الرسائل ميوله العقلانية واعتقاده بأن العلوم الطبيعية تفترض مسبقًا أن الوضوح أمر أساسي للواقع. كما كتب في رسالته المؤرخة في 23 يوليو 1961:

هل لدى المرء سبب للاعتقاد بأن العالم منظم بشكل عقلاني؟ أعتقد ذلك. لأنه ليس فوضويًا واعتباطيًا على الإطلاق، بل – كما يوضح العلم الطبيعي – يسود في كل شيء أعظم قدر من الانتظام والنظام. النظام هو في الواقع شكل من أشكال العقلانية.

يعتقد جودل أن العقلانية واضحة في العالم من خلال البنية العميقة للواقع. يوضح العلم كمنهج ذلك من خلال افتراضه المصدق بأن النظام الواضح يمكن اكتشافه في العالم، ويمكن التحقق من الحقائق من خلال تجارب قابلة للتكرار، ويتم الحصول على النظريات في مجالاتها الخاصة بغض النظر عن مكان وزمان اختبارها.

هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره

في الرسالة المؤرخة في 6 أكتوبر 1961، يشرح جودل موقفه: "إن فكرة أن كل شيء في العالم له معنى هي بالمناسبة التماثل الدقيق للمبدأ القائل بأن كل شيء له سبب يرتكز عليه العلم بأكمله." كان جودل - تمامًا مثل جوتفريد فيلهلم لايبنتز، الذي كان يقدسه - يعتقد أن كل شيء في العالم له سبب لكونه كذلك وليس غير ذلك. (في المصطلحات الفلسفية: يتوافق مع مبدأ العقل الكافي). وكما عبر عن ذلك لايبنتز شعرياً في كتابه مبادئ الطبيعة والنعمة، استناداً إلى العقل (1714): الحاضر حامل بالمستقبل؛ يمكن قراءة المستقبل في الماضي؛ يتم التعبير عن البعيد بالقريب. » من خلال البحث عن المعنى نجد أن العالم قابل للقراءة بالنسبة لنا. ومن خلال الاهتمام نجد أنماطًا من الانتظام تسمح لنا بالتنبؤ بالمستقبل. بالنسبة لجودل، كان العقل واضحًا في العالم لأن هذا النظام قابل للاكتشاف.

على الرغم من عدم ذكره، إلا أن إيمانه بالحياة الآخرة متشابك أيضًا مع نتائج نظريات عدم الاكتمال والأفكار ذات الصلة بأسس الرياضيات. اعتقد جودل أن البنية العميقة والعقلانية للعالم ووجود الروح بعد الوفاة يعتمدان على زيف المادية، وجهة النظر الفلسفية القائلة بأن كل الحقيقة تتحدد بالضرورة من خلال الحقائق المادية. في ورقة بحثية غير منشورة تعود إلى عام 1961 تقريبًا، أكد جودل أن "المادية تميل إلى اعتبار العالم كومة من الذرات غير منظمة، وبالتالي لا معنى لها". ويترتب على ذلك أيضًا من المادية أن أي شيء لا يرتكز على الحقائق الفيزيائية يجب أن يكون بلا معنى وواقع. ومن ثم، فإن الروح غير المادية لا يمكن اعتبارها تمتلك أي معنى حقيقي. يتابع جودل: "بالإضافة إلى ذلك، يبدو الموت بالنسبة [للمادية] بمثابة الفناء النهائي والكامل." لذا فإن المادية تتناقض مع حقيقة أن الواقع يتكون من نظام شامل للمعنى، بالإضافة إلى وجود روح غير قابلة للاختزال في المادة المادية. على الرغم من العيش في العصر المادي، كان جودل مقتنعًا بأن المادية زائفة، واعتقد كذلك أن نظرياته حول عدم الاكتمال أظهرت أنها غير محتملة إلى حد كبير.

أثبتت نظريات عدم الاكتمال (بشكل عام) أنه بالنسبة لأي نظام رسمي ثابت (على سبيل المثال، رياضي ومنطقي)، ستكون هناك حقائق لا يمكن إثباتها داخل النظام من خلال البديهيات وقواعد الاستدلال الخاصة به ومن ثم فإن أي نظام ثابت سيكون حتماً غير مكتمل. سوف تكون هناك دائماً حقائق معينة في النظام والتي تتطلب، على حد تعبير جودل، "بعض أساليب الإثبات التي تتجاوز النظام". ومن خلال برهانه، أثبت بمعايير رياضية لا تقبل الشك أن الرياضيات في حد ذاتها لا حصر لها وأن الاكتشافات الجديدة ستكون ممكنة دائماً. . هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره.

وبضربة واحدة، أنهى هذا الهدف هدفًا رئيسيًا للعديد من علماء الرياضيات في القرن العشرين، مستلهمين ديفيد هيلبرت، الذي سعى إلى إثبات اتساق كل حقيقة رياضية من خلال نظام محدود من الإثبات. أظهر جودل أنه لا يوجد نظام رياضي رسمي يمكنه أن يفعل ذلك أو يثبت بشكل قاطع بمعاييره الخاصة أنه خالٍ من التناقض. والرؤى حول هذه الأنظمة - على سبيل المثال، أن بعض المشاكل فيها غير قابلة للاكتشاف حقًا - تصبح واضحة لنا من خلال التفكير المنطقي. ومن هذا المنطلق، استنتج جودل أن العقل البشري يتجاوز أي نظام رسمي محدود من البديهيات وقواعد الاستدلال.

فيما يتعلق بالآثار الفلسفية لنظريات عدم الاكتمال، اعتقد جودل أن النتائج تمثل معضلة إما/أو (تم توضيحها في محاضرة جيبس عام 1951). إما أن يقبل أحدهما أن "العقل البشري (حتى في عالم الرياضيات البحتة) يتفوق بلا حدود على قوى أي آلة محدودة"، ويترتب على ذلك أن العقل البشري غير قابل للاختزال في الدماغ، الذي "يبدو في كل المظاهر آلة محدودة". مع عدد محدود من الأجزاء، وهي الخلايا العصبية واتصالاتها. أو يفترض المرء أن هناك مشكلات رياضية معينة من النوع المستخدم في نظرياته، وهي "غير قابلة للحل على الإطلاق". إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن "دحض وجهة النظر القائلة بأن الرياضيات هي من صنعنا فقط. وبالتالي، فإن الأشياء الرياضية لها واقع موضوعي خاص بها، مستقل عن عالم الحقائق الفيزيائية، “التي لا يمكننا خلقها أو تغييرها، ولكننا فقط ندركها ونصفها”. وهذا ما يسمى الأفلاطونية حول حقيقة الحقائق الرياضية. ومما يثير استياء الماديين أن كلا التبعات المترتبة على المعضلة "تتعارض تمامًا مع الفلسفة المادية". والأسوأ من ذلك بالنسبة للمادي هو أن جودل يشير إلى أن الانفصال ليس حاسما . ومن الممكن أن تكون كلتا النتيجتين صحيحين في ذات الوقت .

كيف يرتبط هذا بوجهة نظر جودل بأن العالم عقلاني وأن الروح تنجو من الموت؟ إن نظريات عدم الاكتمال ومضامينها الفلسفية لا تثبت أو تبين بأي حال من الأحوال أن النفس تنجو من الموت مباشرة. ومع ذلك، اعتقد جودل أن نتائج النظرية وجهت ضربة قوية للنظرة المادية للعالم. إذا كان العقل غير قابل للاختزال إلى الأجزاء المادية من الدماغ، والرياضيات تكشف عن بنية يمكن الوصول إليها عقلانيا تتجاوز الظواهر الفيزيائية، فلابد من البحث عن رؤية عالمية بديلة أكثر عقلانية وانفتاحا على الحقائق التي لا يمكن تجربتها بالحواس. مثل هذا المنظور يمكن أن يدعم عالمًا منظمًا عقلانيًا ويكون منفتحًا على إمكانية الحياة بعد الموت.

لنفترض أننا - المتشائمون والجميع كذلك- نقبل أن العالم، بهذا المعنى العميق، عقلاني. لماذا نفترض أن البشر يستحقون أي شيء يتجاوز ما يحصلون عليه في هذه الحياة؟يمكننا أن نخمن أن شيئًا مشابهًا أزعج والدته. يقول جودل في الجزء اللاهوتي من رسالته التالية: "عندما تكتبين أنك تصلين إلى الخليقة، فربما تقصدين أن العالم جميل في كل مكان حيث لا يستطيع البشر الوصول إليه، وما إلى ذلك." هنا،ربما تكون ماريان قد وافقت هنا على أن الكثير في الخليقة يبدو منظمًا، لكنها تحدت الافتراض القائل بأن الواقع برمته منظم على هذا النحو، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالبشر. هل يجب على العالم كله أن يكون عقلانيا؟ أو ربما يكون البشر مجرد انحرافات غير عقلانية عن نظام عقلاني آخر؟

يكشف رد جودل عن فروق دقيقة إضافية في موقفه. في رسالته الأولى، أشار جودل بشكل فضفاض إلى "مجال واسع من الإمكانيات" الذي كان لا يزال غير متطور ولكنه يحتاج إلى الكمال. وفي رسائله اللاحقة يشرح بالتفصيل ما الذي يتطلب استمرار وجود الإنسانية، أي ما هو ضروري للإنسانية.

من المهم أولًا أن نشرح ما يعنيه جودل بخاصية «جوهرية». لدينا، بالطبع، العديد من الخصائص. لدي القدرة، على سبيل المثال،أن أحدد هويتى (أنا لست أنت)، وأن أكون مواطنًا أمريكيًا، وأن أستمتع بنوع الرعب. على الرغم من عدم وجود إجماع حول كيفية فهم استخدام جودل لكلمة "جوهري"، إلا أن برهانه الوجودي لوجود الله يتضمن تعريفًا لما يعنيه بخاصية جوهرية. ووفقا لهذا التعريف، تكون الخاصية ضرورية لشيء ما إذا كانت مرتبطة بالضرورة ببقية خصائصه، بحيث إذا امتلك الشخص هذه الخاصية، فإنه بالضرورة يمتلك جميع خصائصه الأخرى. ويترتب على ذلك أن كل فرد لديه جوهر متفرد، أو كما يشير جودل في مسودة الإثبات المكتوبة بخط اليد: "أي جوهرين لـ X لا يمكن تحديدهما". [كذا] مكافئ.‘ اعتقد جودل، مثل لايبنتز، أن كل فرد يمتلك جوهرًا فريدًا يمكن تحديده.

إنها قدرة الإنسان على التعلم من أخطائه بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر

في الوقت نفسه، حتى لو تم تعريف الجوهر في الدليل على أنه خاص بالفرد، فهناك دليل على أن جودل يعتقد أن الجواهر يمكن أيضًا أن تكون خاصة بالنوع. كان يعتقد أن جميع البشر مقدر لهم الحياة الآخرة لأنهم جميعًا يشتركون في الخصائص بحكم كونهم بشرًا. هناك مجموعات من الخصائص الضرورية التي ترتبط ببعضها البعض وتعتمد على بعضها البعض، بحيث أن امتلاك هذه المجموعة يعني أن شيئًا ما هو نوع الشيء الذي هو عليه. في برهانه الوجودي، على سبيل المثال، يعرّف الكائن "الشبيه بالله" بأنه كائن يجب أن يمتلك كل خاصية إيجابية. أما بالنسبة للبشر، فأنا إنسان بحكم امتلاكي مجموعة محددة من الخصائص التي يمتلكها جميع البشر بالضرورة، والتي على الأقل بعضها فريد تمامًا بالنسبة لنا (تمامًا كما أن كائنًا شبيهًا بالله هو وحده الذي يمكن أن يمتلك خاصية امتلاك كل خاصية إيجابية).

في رسالة جودل بتاريخ 12 أغسطس 1961، يشير إلى السؤال الحاسم، الذي غالبًا ما يتم التغاضي عنه: "نحن لا نعرف فقط من أين ولماذا نحن هنا، ولكننا أيضًا لا نعرف من نحن (أي في الجوهر وكيف نرى من الداخل) ثم يشير جودل إلى أنه إذا كنا قادرين على التمييز باستخدام «الطرق العلمية للملاحظة الذاتية»، فسوف نكتشف أن كل واحد منا لديه «خصائص محددة تمامًا». يشير جودل مازحًا في نفس الرسالة إلى أن معظم الأفراد يعتقدون عكس ذلك: "وفقًا للمفهوم الشائع، سيتم الرد على سؤال "من أنا" بحيث أكون شيئًا ليس له أي خصائص على الإطلاق في حد ذاته، شيء على غرار رف المعاطف الذي يمكن للمرء أن يعلق عليه أي شيء يريده." أي أن معظم الناس يفترضون أنه لا يوجد شيء أساسي في الإنسان، وأنه يمكن للمرء أن ينسب إلى الإنسانية أي صفة اعتباطية. ومع ذلك، بالنسبة لجودل، فإن مثل هذا المفهوم يقدم صورة مشوهة للواقع - لأنه إذا لم تكن لدينا خصائص أساسية محددة للنوع، فعلى أي أساس يمكن أن يبدأ تصنيف وتحديد شيء ما باعتباره شيئًا؟

إذن، ما هي الخاصية الإنسانية التي تشير بشكل أساسي إلى مصير يتجاوز هذا العالم؟ إجابة جودل: قدرة الإنسان على التعلم، وعلى وجه التحديد القدرة على التعلم من أخطائنا بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر. بالنسبة لجودل، هذه الخاصية ترتبط بالضرورة مع خاصية العقلانية. وبينما يعترف بأن الحيوانات والنباتات يمكن أن تتعلم من خلال التجربة والخطأ لاكتشاف وسائل أفضل لتحقيق غاية ما، إلا أن هناك فرقًا نوعيًا بين الحيوانات والبشر الذين يمكن للتعلم بالنسبة لهم أن يرفع المرء إلى مستوى أعلى من الفهم. هذا هو جوهر منطق جودل في نسبة الخلود إلى البشر. في رسالة 14 أغسطس 1961، كتب جودل:

الإنسان وحده هو الذي يمكنه الوصول إلى حياة أفضل من خلال التعلم، أي إعطاء حياته معنى أكبر.إن الطريقة الوحيدة للتعلم، وغالبًا ما تكون الطريقة الوحيدة، هي القيام بشيء خاطئ في المرة الأولى. وبالطبع يحدث ذلك بكثرة في هذا العالم.

إن حماقة البشر المذكورة أعلاه تتوافق تمامًا مع الإيمان بعقلانية العالم. في الواقع، يوفر حماقة العالم المزعومة بيئة مثالية لتعلم وتطوير عقلنا من خلال التأمل في عيوبنا، ولحظات معاناتنا،وميلنا البشري الشديد إلى الاستسلام لميولنا الأكثر دناءة. إن التعلم وفق مفهوم جودل لا يتعلق بقدرتنا على تحسين الوسائل التقنية لتحقيق غايات معينة. بل إن هذا المفهوم المميز للتعلم هو قدرة البشرية على أن تصبح أكثر حكمة. ربما أتعلم، على سبيل المثال، أن أكون صديقًا أفضل بعد خسارة صديق ما بسبب سلوك أناني، وقد أتعلم تقنيات التفكير الإبداعي في النهج النظري بعد نكسات تجريبية متعددة. وبعبارة أخرى، فإن السمة الأساسية لكوننا بشرًا هي أننا نميل إلى تطوير عقولنا من خلال التعلم المناسب. نحن لا نتعلم طرقًا جديدة للقيام بالأشياء فحسب، بل نكتسب المزيد من المعنى لحياتنا في نفس الوقت من خلال التفكير في دروس أعمق تم اكتشافها عبر ارتكاب الأخطاء.

كل هذا قد يقود المرء إلى استنتاج أن جودل يؤمن بتناسخ الأرواح. لكن هذا سيكون أمرا متسرعا، على الأقل وفقا لمفاهيم معيارية معينة عنه. إحدى السمات المثيرة للاهتمام في رؤية جودل اللاهوتية للعالم هي اعتقاده بأن نمونا إلى كائنات عقلانية تمامًا لا يحدث كتجسيدات جديدة في هذا العالم، بل في عالم مستقبلي متميز:

على وجه الخصوص، يجب على المرء أن يتخيل أن "التعلم" يحدث في جزء كبير منه أولاً في العالم الالآتى، أي أننا نتذكر تجاربنا من هذا العالم ونتوصل إلى فهمها حقًا لأول مرة، بحيث تكون تجاربنا الدنيوية هي – إذا جاز التعبير – فقط المادة الخام للتعلم.

ويشرح أكثر:

علاوة على ذلك، يجب على المرء بالطبع أن يفترض أن فهمنا سيكون أفضل بكثير هناك منه هنا، حتى نتمكن من التعرف على أي شيء مهم بنفس اليقين المعصوم من الخطأ مثل 2 × 2 = 4، حيث يكون الخداع مستحيلًا موضوعيًا.

ولذلك يجب أن يكون العالم الآتي هو الذي يحررنا من حدودنا الأرضية الحالية. بدلًا من العودة إلى جسد أرضي آخر، يجب أن نصبح كائنات لديها القدرة على التعلم من الذكريات التي نحملها معنا سرًا إلى مستقبلنا، إلى حالة أعلى من الوجود.

إن الاعتقاد بأن جوهرنا هو أن نصبح شيئًا أكثر مما نحن عليه هنا يفسر سبب انجذاب جودل إلى فقرة معينة في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، والتي اكتشفتها عندما كنت أتصفح مكتبته الشخصية في أرشيفات الجمعية الدولية للعلوم.في طبعة لاتينية بحجم الجيب للعهد الجديد، كتب جودل في أعلى صفحة العنوان بقلم رصاص خفيف: "ص. 374. بعد هذه الإشارة، ننتقل إلى الفصل 15 من رسالة القديس بولس حيث وضع جودل الآيات من 33 إلى 49 بين قوسين مربعين ورسم سهمًا إلى آية واحدة على وجه الخصوص. في الآيات التي بين قوسين يصف القديس بولس قيامتنا الجسدية. باستخدام استعارة المحاصيل،، يقول القديس بولس أنه يجب تدمير البذور المزروعة لكي تنمو لتصبح النباتات التي من طبيعتها أن تصبح نباتات. ويشير إلى أن الأمر سيكون هو نفسه معنا.إن حياتنا وأجسادنا في هذه الحياة ليست سوى بذور، تنتظر تدميرها، وبعد ذلك سننمو إلى حالتنا النهائية من الوجود. رسم جودل سهمًا يشير إلى الآية 44 لتسليط الضوء عليها: "يُزرع في الضعف ويُقام في القوة". "يُزرع جسدًا ماديًا، ويُقام جسدًا روحانيًا." بالنسبة لجودل، من الواضح أن القديس بولس قد وصل إلى النتيجة الصحيحة، وإن كان ذلك من خلال الرؤية النبوية بدلاً من التفكير العقلاني.

لقد تركنا إلى حد كبير لنتساءل عن رد فعل ماريان على آراء ابنها حول الآخرة، رغم أنه من المؤكد أنها كانت في حيرة. في الرسالة المؤرخة في 12 سبتمبر 1961، أكد جودل لوالدته أن ارتباكها بشأن منصبه لا علاقة له بعمرها بل يتعلق أكثر بتفسيراته الموجزة. وفي الرسالة الأخيرة، بتاريخ 6 أكتوبر 1961، اعترض جودل على الادعاء بأن آرائه تشبه "السحر والتنجيم". فهو يصر، على العكس من ذلك، على أن وجهات نظره لا علاقة لها بأولئك الذين يستشهدون فقط بالقديس بولس أو يستمدون الرسائل مباشرة من الملائكة. وهو يعترف بالطبع بأن وجهات نظره قد تبدو "غير محتملة" للوهلة الأولى، لكنه يصر على أنها "ممكنة وعقلانية" للغاية. في الواقع، لقد وصل إلى موقفه من خلال الاستدلال وحده، ويعتقد أن قناعاته ستظهر في النهاية أنها "متوافقة تمامًا مع جميع الحقائق المعروفة".وفي هذا السياق يقدم أيضًا دفاعًا عن الدين، معترفًا بالجوهر العقلاني له، والذي يدعي أنه كثيرًا ما يسيء إليه الفلاسفة وتقوضه المؤسسات الدينية السيئة:

ملحوظة: لا يساعد منهج الفلسفة الحالي كثيرًا في فهم مثل هذه الأسئلة حيث أن 90% من الفلاسفة المعاصرين يرون أن هدفهم الأساسي هو إخراج الدين من رؤوس الناس، وبالتالي يعملون مثل الكنائس السيئة.

سواء أقنع هذا ماريان أم لا، لا يسعنا إلا أن نخمن.

بالنسبة لأولئك منا الذين ما زالوا على قيد الحياة في هذا العالم، فإن حجة جودل تعطينا رؤية رائعة حول السبب الذي قد يجعلنا نستمر في الوجود بعد التخلص من هذا الملف الفاني. وفي الواقع، فإن خطابه يتوهج بالتفاؤل بأن حياتنا المستقبلية، إذا أردنا إرضاء العقل، يجب أن تكون حياة نعظم فيها بعض الصفات الإنسانية الأساسية التي لا تزال في حالة هشة هنا. سيكون مستقبلنا أكثر ذكاءً وقدرة بطريقة أو بأخرى على فهم المادة الخام للمعاناة التي نعيشها في هذه الحياة. هل يمكننا أن نفترض أن كورت وماريان قد تم لم شملهما الآن؟ لنأمل ذلك.

(انتهى)

***

...........................

* ألكسندر تي إنجلرت/ Alexander T. Englert: باحث مشارك في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيوجيرسي. وهو يبحث في كانط وهيجل والتقاليد المثالية الألمانية، وكذلك الأخلاق ونظرية المعرفة والدين.

* كورت جودل: (28 أبريل 1906 - 14 يناير 1978) منطقي ورياضياتي وفيلسوف. ولد في برون في مورافيا في ما كان يعرف باسم نمسا-المجر. بعد تفكُك تلك المملكة أصبح غودل تشيكيا في عمر 12، ثم أصبح نمساوياً في عمر 23 وبدخول هتلر إلى النمسا وضمها إلى ألمانيا أصبح غودل مواطِناً ألمانيا في عمر 32. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر غودل إلى الولايات المتحدة حيث أصبح مواطِناً أمريكياً وعمرهُ اثنان وأربعون عاماً. من أهم إنجازاته مبرهنات عدم الاكتمال.

سألني أحد طلبة الإعلام يوماً: هل يمكنكَ مساعدتي على كتابة مقال صحفي؟ فأجبته بلطف معتذراً لن أتمكن من ذلك!. والحق أنني لم أكن أقصد القساوة في رده، أو البخل في تعليمه، أو بث اليأس في نفسه، إنما هذه هي الحقيقة التي اردت من خلالها أفهامه أن فن المقال لا يشبه بقية الفنون الصحفية التي تتحصل بالتعليم النظري والتطبيق العملي، ذلك لأنه مرتبط بالموهبة أولاً، وبثقافة الكاتب المتأتية من قراءاته المتنوعة ومطالعاته في شتى أنواع المعارف والعلوم والآداب ثانياً، والأهم من ذلك كله المثابرة التي تحافظ على الموهبة وتنميها، والصبر على طول التجارب حتى يتبلور الأسلوب الذي يمنح كل كاتب ملامحه وبصمته وهويته.

حكى لي أحد الزملاء ممن ترأسوا قسماً للإعلام في احدى الكليات الأهلية، أنه أراد أن يختبر طلبته في أولى محاضراته، وأن يتعرف على مستوياتهم الثقافية التي دفعتهم للتقديم إلى هذا القسم دون غيره، قياساً على ما كان عليه هو وأقرانه من الطلبة قبل خمسين عاماً، فسألهم عن دوستويفسكي هل سمعوا به؟ فلم يجبه أحداً منهم، فتنازل قليلاً، ليسألهم من هو نجيب محفوظ ؟، فحاروا جواباً، ثم تنازل أكثر ليسألهم، ماذا تعرفون عن جواد سليم؟ فتلاقت الأعين بالأعين والآذان بالآذان بحثاً عن الجواب المفقود!. كان هذا الزميل يقيس الأمور على مقاييس زمانه، يوم كان المتقدم لدراسة الإعلام مؤهلاً للخضوع إلى اختبار معلوماتي وثقافي يفتح له باب القبول في هذا التخصص الذي من أولى متطلباته أن يكون المتقدم له قد قرأ كثيراً وطالع مطالعات خارجية في المرحلتين المتوسطة والإعدادية وربما حتى في الإبتدائية، وعندما تقدم هو لدراسة الإعلام كان قد ختم القرآن الكريم مرات عديدة فتمكن من اللغة والبلاغة وحسن التعبير، واكتسب خيالاً واسعاً من قراءة القصص والروايات العربية والعالمية، وتعرف على خبايا الخير والشر في النفس البشرية من شخصيات الروائيين الروس العظام أمثال نيكولاي غوغول وتورجينيف وتولستوي ودوستويفسكي وشولوخوف، وعرف اعمال سارتر وكامو، وعاش مع رعب كافكا في صرصاره وقلعته، ومع فيكتور هيجو في أحدب نوتردام، ومع همنغواي في الشيخ والبحر، ولمن تقرع الأجراس، وقرأ  أيام طه حسين، وعبقريات العقاد، وحمير توفيق الحكيم، وتماهى مع شخصيات نجيب محفوظ في ثرثرة على النيل، والكرنك، وأولاد حارتنا، وسي السيد في ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وقرأ كلاً أو بعضاً من أشعار الرصافي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر، وقصص وروايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وموسى كريدي وعبد الرحمن مجيد الربيعي. وبمثل هذه العدة الثقافية، تقدم هو وغيره من أبناء زمانه للدراسة الجامعية، ولدراسة الإعلام على وجه التحديد الذي قد يُعلِم صناعة الخبر والتقرير الخبري والريبورتاج واللقاء والتحقيق الاستقصائي، لكنه لا يُعلِم كتابة المقال الصحفي، إلا للموهوبين الذين اكتشفوا مبكراً مواهبهم في كتابة مادة الإنشاء أو التعبير خلال مراحلهم الدراسية الأولية، فعززوها بالقراءة وسعة المعرفة والثقافة الموسوعية التي تمكنهم من كتابة المقال الصحفي بأساليبهم المتعددة في الكتابة، وبمعلوماتهم وثقافتهم التي تمنح المقال قيمة وجوهراً وغاية.

أذكر أنني حضرت قبل مدة مدعواً مع عددٍ من الزملاء الصحفيين إلى مهرجان إعلامي طلابي بصفتنا مُحَّكمِين على نتاجات الطلبة، ومنها نتاجاتهم في المقالات الصحفية، وعندما عُرضت علينا بعض المقالات، فوجئنا بأسلوبها وحرفيتها، فساورنا الشك فيها، بالأخص وأنها تبدو ليست جديدة على ذاكرتنا، فعدنا إلى محرك البحث في الإنترنت لنكتشف أن كل ما عمله الطلبة أنهم اقتطعوها ولصقوها " كوبي بيست" وحذفوا إسم الكُتّاب المعروفين، ووضعوا أسمائهم عليها بغية الحصول على جائزة المقال الصحفي!. قد لا يكون الطالب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن هذه "السرقة" الصحفية، إذ انه قد يتوهم بأن المطلوب أن يختار مقالاً صحفياً من الإنترنت ويضع عليه اسمه، نعم قد يكون بعض الطلبة بمثل هذا المستوى من الإدراك والفهم، لكن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر هو التدريسي الذي يُفترض أن لا تمر عليه مثل هذه المقالات المسروقة، مثلما يُفترض أن يوجه الطلبة توجيهاً صحيحاً بالاعتماد على أنفسهم، وعلى مواهبهم في الكتابة إن وجدت، وأن يعمل على تنميتها وتحفيزها وتشجيعها في المسابقات والجوائز والدعم المعنوي.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

يُعامل الإنسان الساهي بمرونة في العديد من الحالات لأن السهو لا يعتبر جريمة. ومع ذلك، نجد في القرآن آيات تتوعد الساهين عن صلاتهم بـ"الويل"، وهي كلمة تشير إلى شدة العقاب. هذا يثير الدهشة لدى البعض.

في الحقيقة الوعيد بالويل للساهين عن صلاتهم لم يأت في آية واحدة، بل آية تتوعد المصلين بالويل واخرى تذكر انهم ساهون عن صلاتهم، فالموضوع جاء في آيتين مجتمعتين مع اضافة صغيرة ولكنها هي المهمة هنا. فالنص هو: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)" بما أن الجملة تبدأ بحرف "فاء"، فهي بذلك ترتبط بما سبقها، مما يتطلب الرجوع إلى النص السابق لفهم السياق الكامل. عند التدبّر في الآيات ككل، نجد أن السورة تشكل وحدة متكاملة تناولت مجموعة معينة من الأشخاص. وهي كما يلي: (سورة الماعون) "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون(7)"

حرف الفاء في كلمة "فويل" يُستخدم كفاء عطف، وهو يعمل على التعقيب والربط بين الأحداث أو الأوامر والتوجيهات المذكورة في الآيات. بالتالي، هذا الاستخدام لحرف الفاء يسهم في توضيح العواقب أو النتائج التي تنجم عن سلوكيات أو حالات محددة، معززًا الصلة المعنوية والسببية بين الأفعال وتبعاتها ضمن النص القرآني. الآيات الثلاث الأولى والثلاث الأخيرة تصف صفات وسلوكيات فئة من الناس و هم الذين: يكذّبون بالدين، يدعّون اليتيم، لا يحضّون على طعام المسكين، ساهون عن الصلاة، مراءون ويمنعون تقديم اي معونة. الآية الوسطى تبين عقابهم المتمثل في "الويل". فالمصلي المذكور في هذا السياق هو نفسه المذكور بالصفات السلبية الستة الاخرى. 

عند التمعّن في وصف الأفعال، نجد أنها تتوافق بشكل واضح مع سلوك المنافقين أكثر من أي فئة أخرى. الاستخدام المتعمد لحرف "الفاء" يهدف إلى ربط أفعال الشخص المذكورة بالويل - الذي يرمز إلى الهلاك أو الشقاء الشديد - إشارة إلى أن الويل هو جزاء لمجموعة من الصفات والأفعال المذكورة، وليس للسهو عن الصلاة فقط. والمقصود بالسهو هنا ليس مجرد إغفال وقت الصلاة كما تشير إليه اغلب التفاسير، بل الإغفال عن جوهر العبادة ومعنى الصلاة نفسها. وقد ورد عن ابن عباس (رضوان الله تعالى عليه) في شأن نزولها: "هم المنافقون، يتركون الصلاة في السر و يصلون في العلانية" (وردت بصيغ مختلفة لكن بمضمون واحد). إذًا، الصلاة بالنسبة لهؤلاء تمثل أداة من أدوات النفاق. لذا، الويل موجه للمصلين الذين يؤدون صلاتهم برياء ونفاق، ساهون عن جوهرها وحقيقتها.

اضافة لأمر الرياء والنفاق، قضية إطعام المسكين مرتبطة بالايمان والصلاة ومن مقتضياتهما في القرآن. نرى أنّ آية عدم الحضّ على طعام المسكين، جاءت في سورة الحاقّة ايضا. حيث يقول النص: "إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (34)" فمرّة يذكره بأنه يكذّب بيوم الدين واخرى يصفه "لا يؤمن بالله" وهذا يدل على خطورة وأهمية هذا الفعل من المنظور القرآني.

الصلاة كما وردت في القرآن، تتضمن بعدًا اجتماعيًا، خاصةً عندما تُؤدى جماعيًا. كما أنها ترتبط بفعل الإنفاق في سبيل الله كوسيلة لتهذيب النفس وترويضها. لذلك، في بداية سورة البقرة، نقرأ: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)"، التي تذكر خصال المتقين: الإيمان بالرسالات والآخرة والغيب، إقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق. إن الإنفاق في سبيل الله، خصوصًا على اليتيم والمسكين، يعتبر من مقتضيات الصلاة، وعدم السهو عن الصلاة يتطلب عدم السهو عن مقتضياتها. فمن ترك مقتضياتها في الحقيقة لم يقمها.

بعض المفسرين المعاصرين سعوا للتمييز بين مفهومي الصلاة كذكر عام لله وإقامة الصلاة كعبادة محددة، لكن في هذا السياق، لا تبدو هناك حاجة لمثل هذا التفكيك؛ الأمر واضح بما فيه الكفاية. كذلك، أشار أحد المستشرقين إلى أن العبارة الأصلية كانت "فويل للمضلّين" ولكنها تحولت بسبب سقوط نقطة، مما يثير تساؤلاً: إذا كان الأمر كذلك، فكيف لم ينتبه لهذا الخطأ أي من القرّاء و رواتهم، خاصة وأن هذا الشأن كان موضوع تساؤل واستفسار منذ العصور الأولى للإسلام، حتى إن الصحابي ابن عباس نفسه سُئل عن هذه الآية. فكيف لم يخطر ببال أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء في احتمال سقوط نقطة، خاصة وأن الكتابة في ذلك الوقت غالبًا ما كانت بدون تنقيط (وان كان التنقيط موجودا من قبل الاسلام)، وكان من الممكن أن تُقرأ على أنها "ص" أو "ض" لأنها في الغالب تكتب بنفس الصورة. مع ذلك، الجميع قرأها "فويل للمصلين"، وهذا يدل على أنهم سمعوها بهذه القراءة.

***

مشتاق عبد مناف الحلو

هذه القاعدة تعد من كبريات القواعد الفقهية، لارتباطها بأبواب مهمة في الفقه، كالقضاء والحدود، ومعنى القاعدة: أن الأصل في ذمم الناس فراغها، لأن المرء يولد دون أن يكون محملاً بالتزام، وأن ما يتحمله من التزامات، ويتعلق به من مسؤوليات، إنما هى أمور طارئة»، «فيستصحب الأصل المتيقن به وهو فراغ الذمة، إلى أن يثبت العكس». أي «تستمر هذه البراءة لذمة الإنسانية طالما لم يطرأ ما يزيل هذه البراءة، ويشغلها بحق للغير بناء على بينة أو إقرار أو يمين».

فإذا ادعى شخص على آخر بقرض والمدعى عليه أنكر ذلك القرض، «فالقول للمدعي عليه مع اليمين والمدعي مكلّف بإثبات خلاف الأصل، أي إثبات شغل ذمة المدعى عليه، فإذا أقام المدعي البينة، فيكون قد وجد دليلاً على خلاف الأصل، فيحكم حيئنذ بالبينة»، وبعبارة أخرى، «إذا ادعى أحد شيئاً في ذمة آخر، وجب عليه إثباته، لأن المدعي عليه يعتبر بريء الذمة في الأصل، ومنها إذا أتلف رجل مال آخر واختلفا في مقداره، يكون القول للمتلف، والبينة على صاحب المال لإثبات الزيادة»، ويتفرع عن هذه القاعدة قاعدة أخرى وهي: «الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين»، كمن شك في أداء دينه فإن انشغال الذمة به متيقن، ولن يكون في حِل منه بمجرد الشك، بل لا بد من برد اليقين. وقاعدة «الأصل براءة الذمة» تقررها النظم الجنائية الحديثة، التي تجعل «الأصل في الإنسان البراءة» وذلك باعتبار الجريمة صورة من صور السلوك الشاذ الخارج عن المألوف، ومن ثم يجب الاحتياط في نسبتها إلى شخص معين، وذلك بافتراض براءته حتى يثبت بدليل قاطع عكس ذلك.

ومن أمثلة الدساتير التي تنص على هذا المبدأ: الدستور السوداني الصادر في سنة 1973، حيث تنص المادة 69على أن «أي شخص يلقى القبض عليه متهماً في جريمة ما، يجب ألا تفترض إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه، بل المتهم بريء إلي أن تثبت إدانته دونما شك معقول»، وكذلك القانون المصري الصادر سنة 1971م الذي قضت مادته 67 بأن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» ومن المواثيق ذات الصبغة الدولية التي حفلت بالنص على مبدأ افتراض براءة المتهم إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الصادر غداة الثورة الفرنسية سنة 1789 والذي نص في مادته التاسعة على أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تتقرر إدانته.

وإذا كان المجال الذي تعمل فيه قاعدة افتراض البراءة في النظم القانونية المعاصرة هو المجال الجنائي فحسب، حفاظاً على حريات الأفراد من أن يتهددها التعسف الإجرائي، أو يعصف بها الظلم الموضوعي، فإن قاعدة «الأصل براءة الذمة» المقررة في الفقه الإسلامي تعمل في نطاق أوسع من النطاق الجنائي، إذ نجد الفقه الإسلامي يعمل هذه القاعدة في كل فروع القانون، بل في كل صور الواجبات والتكليفات حتى الدينية البحتة، أو التعبدية المحضة، وإذا كانت القاعدة الفقهية الإسلامية أوسع نطاقاً في تطبيقها من القاعدة القانونية، إلا أنهما تلتقيان في المجال الجنائي، حيث تفترضان أو تتطلبان إدانة المتهم على دليل جازم يثبت التهمة، ويرفع ما ثبت له أصلاً في افتراض البراءة، ومتى افتقرت الدعوى الجنائية إلى مثل هذا الدليل فإنه يتعين الحكم بتبرئة المتهم».

***

د.الطيب النقر

 

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن (مغالطة رجُل القَشِّ)، أو ما يُسمَّى بلهجتنا الدارجة (التَّهْيابَة)، وهو ما يُسمَّى في استعمالات أخرى (الفزَّاعة). ومن ذلك تَهْيابَة الأعراب للمسلمين حين اتَّهموهم بالحَسَد لمنعهم إيَّاهم من اتِّباعهم في القتال: «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ، قُلْ: لَن تَتَّبِعُونَا. كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا. بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.»‏ غير أنَّهم سيُدعَون إلى قتال قومٍ آخَرين، وهم: «أُولو بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليسوا بمسالمين، أو غير معتَدِين. بمعنى آخَر: هم عدوٌّ، وهم عُدوانيُّون. ومقتضى «ستُدعَون» أنَّ هناك داعيًا للقتال، وليست بدعوةٍ مجَّانيَّة، رغبةً في القتال أو المغانم التي يسعى إليها أولئك المخلَّفون من الأعراب. وداعي القتال معروفٌ في «القرآن»، ليس بداعي العُدوان، بل بداعي الدِّفاع؛ لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.» فالقتال في سبيل الله، لا في سبيل المغانم. والعُدوان ممنوع، حتى ضِدَّ من يقاتلونكم. ولم يقل: «تُقَاتِلُونَهُمْ حتى يُسْلِمُوا»، أو «تُقَاتِلُونَهُمْ، فإمَّا أن تُفنوهم، أَوْ يُسْلِمُوا»، بل قال: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون». من حيث هي ليست بثنائيَّة خياريَّة: الموت أو الإسلام؛ فهذا فهمٌ ساذج، ومتعارض مع الآيات الأخرى.

- لماذا لا يلتفت هؤلاء، هاهنا بالذات، إلى التعارض؟

- لأنه يبطل دعواهم. وإنَّما «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون» خيارٌ واحد؛ ذلك أنهم إنْ أسلموا، عصموا دماءهم، وإنْ استسلموا، انتهى الموضوع، وإنْ لم يُسلِموا ولم يستسلموا، وظلُّوا أُولي بأسٍ شديدٍ على المسلمين، فالقتال لا بُدَّ أن يستمرَّ بالضرورة.

- كيف؟

- ليس الهدف من القتال إرغامهم على الإسلام؛ لأنَّ الآية الأخرى تقول: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ». فلا إكراه في الدِّين، والآيات بيِّنةٌ في النهي عن إجبار الناس عليه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين؟!» لكنَّ هؤلاء، من مدَّعي التناقض، تناقضهم في رؤوسهم. وهم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِين»، أي مجزَّءًا، ليقولوا ما يشاؤون. متعاملين مع النصوص بانتقائيَّة، بعضهم عن جهل، ومعظمهم ينتقون عن مغالطاتٍ، ولأغراض لا تخفى.

- لذا، إذن، لا يسوقون النصوص، كما هي، بتمامها دون اجتزاء أو قفز؟

- نعم. لأنهم لو فعلوا، فعرضوا الآيات بتمامها، لبارت سلعتهم، ولسقطت مصاديقهم، ولخسروا حُججهم؛ لأنه سيتبيَّن أنَّ قتل نفسٍ بغير نفس، أو الفساد في الأرض، هو كقتل الناس جميعًا. والقتال لا يكون إلَّا في سبيل الله، وفي سبيل الحق، لا في سبيل الغزو، ولا المال، ولا المغانم، ولا السبي، ولا السلب، ولا النهب، ولا احتلال الأوطان؛ فليس ذلك كله من سبيل الله في شيء، بل في سبيل الشيطان. وسيتبيَّن، ثانيًا، أنه قتالٌ «للذين يقاتلونكم»، أي دفاعًا. وسيتبيَّن أنَّ الأمر الشديد، والتحذير من الخروج عن محبَّة الله، والسقوط في سخطه، يتمثَّل في الآية: «وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.»

- ومن طرائف هؤلاء أن يقولوا بتناقض آخَر، في الآية القرآنية: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.» قائلين: كيف يأمر بما لا يحب؟!

- الإشكال هنا من أربعة أوجه:

1- حديث من لا يعرف اللُّغة أصلًا في نصوص اللُّغة.

2- حديث من لا يفقه أساليب البلاغة في البلاغة.

3- النظر إلى لغة القرن السادس الميلادي حسب الدارج من لغة القرن الحادي والعشرين الإعلاميَّة، أو حتى العاميَّة.

4- وقبل ذلك وبعده: المكابرة. فترى أحد هؤلاء يتلوَّى لا بحثًا عن الإجابات، ولا عن الحق، ولكن بحثًا عما يؤيِّد توجَّهه الرغبوي. ومثل هذا لا جدوى في محاجَّته. بأن يقال مثلًا: العدوان: لفظ مشتق من العَدْو. عَدَا الرجل والفرسُ وغيرهما يعدو عدْوًا، وعُدُوًّا، وعَدَوانًا، وتَعْداءً. ويقال في الظُّلْم كذلك: قد عَدَا فلان عَدْوًا، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعَدَاءً. ومن هذه المادة جاء عَدَا فلان على فلان عَدْوًا، وعَدَاءً، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعِدْوانًا، وتَعَدَّى، واعْتَدَى. فالمهاجمة والمدافعة كلاهما وسيلتهما العَدْو، بصورةٍ أو بأخرى. فمن هاجم آخَر فقد عدا عليه واعتدى، ومن ردَّ ذلك الاعتداء، فسيردُّه باعتداءٍ مقابل. حتى إنَّ العامَّة يدركون هذا، فيقولون في مثل هذه الحال: «البادئ أظلم.»

أمَّا الجانب البلاغي في هذا التعبير، فمشهورٌ في سياق التعبيرات المجازيَّة. وأمثلة هذا كثيرةٌ في العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة. ألم يقل (عمرو بن كلثوم) في معلَّقته:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا ::: فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

فقوله «فنجهل فوق جهل الجاهلين» إنَّما هو مجازٌ مُرْسَل- كما يقول البلاغيُّون- لعلاقة السببيَّة بين الفعل وردِّ الفعل؛ فالجهل الأوَّل حقيقيٌّ والآخَر مجازي. وقد جاء مثلًا، في الآية: «وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا». مع أنَّ الجزاء ليس بسيِّئة. وهكذا سَمَّى ردَّ الاعتداء اعتداءً، مع أنَّه ليس باعتداءٍ على الحقيقة. كما قال: «إِن تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ.» وعليه قول (أبي تمَّام):

لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فَإِنَّني ::: صَبٌّ قَد استَعذَبتُ ماءَ بُكائي

وهكذا، فكم بين (الحقيقة) و(المَجاز)، بخاصَّة، وبينها و(اللُّغة الوظيفيَّة)، بعامَّة، من مَزالق دلاليَّةٍ على غير البصير بأساليب التعبير؛ فتراه متخبِّطًا في دماء الكلام، أو آخِذًا إيَّاه على ظاهر معناه! ومن جانبٍ آخَر، فقد تأتي في الأسلوب المَجازيِّ- من حيث عِلم البديع المعنوي- (مشاكلةٌ) لفظيَّة، وهو فنٌّ أسلوبيٌّ معروفٌ في بلاغة العَرَب. ومن شواهد البلاغيِّين عليه قول (ابن الرقعمق الأنطاكي، -399هـ= 1009م)(1):

قالوا: اقتَرِحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طَبْخَهُ ::: قُلتُ: اطبَخوا لي جُبَّةً وقَميصا

أفكان الرَّجُل مجنونًا ليقترح عليهم أن «يَطبخوا له جُبَّةً وقَميصًا»؟! كلَّا، بَيْدَ أنَّ مَن لا يعرف البلاغة- التي تعتمد فنون المَجاز، لا الحقيقة، وأساليب اللُّغة الوظيفيَّة، لا اللُّغة المعجميَّة، وطرائق التصوير والتخييل والبديع، لا نَقْل الواقع كما هو، لوضْع الألفاظ في مواضعها الأصليَّة- مَن لا يعرف ذٰلك كلَّه سيَعُدُّ أساليب البلاغة كَذِبًا، أو جنونًا.

- هم سيحتجُّون عليك أيضًا بحكاية المَكِّي والمَدَني، في (مَكَّة) كانت المسالمة وفي (المدينة) المحاربة!

- وهنا- مجاراةً لمغالطات الثنائيَّة (مَكِّي-مَدَني)- نكرِّر القول: إن الآيات المتعلِّقة باختلاف البشر، وكراهة العدوان عليهم، وأنَّ الله لا يُحِبُّ المعتدين، واردةٌ في سورتَين مدنيَّتين لا مكِّيَّتين، هما: (سُورة البقرة)، و(سُورة المائدة). وفي الأخيرة، إلى ذلك، الآية: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئُونَ، وَالنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.» فأيُّ مَكِيٍّ وأيُّ مَدَنيٍّ تَباينَ فيه الخِطاب القرآني في هذا الشأن؟!

- ومن هؤلاء جهلاء من المسلمين أيضًا. وبمثل هذا يبرِّرون الإرهاب، أو «الغزو» كما يُسمُّونه.

- وهم يجدون الذرائع لدَى حمقَى الغرب، في المقابل. فالحقُّ أنَّ (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)، مثلًا، تبدو، في سياستها، كولاية تابعة لحكومةٍ مركزيةٍ عاصمتها في (تَلِّ عفيف/ تل أبيب). ولذلك تجد اهتمام الإدارة الأميركيَّة الأكبر والدائم بالمواطن الصهيوني في الكيان المحتل، أكثر بكثير من اهتمامها بالمواطن الأميركي المحتل في بلاد الهنود الحمر. وحرصها على إرضاء المحتلِّ في الشرق الأوسط يسبق حرصها على إرضاء المحتلِّ في مستعمرات العم سام. هذا لا ينكره إلَّا عميل أو منافق. بل إنه ليضجُّ منه بعض عقلاء الأميركان أنفسهم وعُدَلائهم. أمَّا القول: إذن، كما يعتدي علينا هؤلاء فلنعتد عليهم، بمثل ما اعتدوا علينا، بالجُملة أو بالمفرَّق، فاستدلالٌ تُرتكَب به حماقتان استدلاليتان: الأولى، أنَّ قائليه يبترون النصَّ من سياقه؛ لأنَّ سياقه لا يخدم غرضهم: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم»، ويقفون! لا يكملون الآية، ولا يوردون ما قبلها، حيث: «فَإِنِ انتَهَوْا، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين»، الدالَّة على أنَّه قتالٌ لدفع صائل، وقتالٌ للظالم نفسه، المحارب، لا للأبرياء، والمدنيِّين الآمنين، وإنْ كانوا من ذوي الظالم؛ فلا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى. أمَّا الحماقة الثانية، فبلاغيَّة؛ من حيث هم- كما سبق- لا يفهمون شيئًا اسمه «مشاكَلة» في الأسلوب، ولا «مجاز مُرسَل»؛ «فاعتَدُوا» لديهم يعني: «اعتَدُوا»، بالفعل، وبكلِّ ما يعنيه العُدوان من معنى! فهَيَّا بنا إلى التفخيخ على هذا التفسير!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) هو: (أبو حامد أحمد بن محمَّد الأنطاكي). وبعض المراجع يكنِّيه بـ(أبي الرقعمق). وإليه نُسِب البيت في بعض كتب التراث. على حين نَسَبَه بعضها إلى (جَحْظة الأنطاكي، -324هـ= 935م).

 

بقلم: إنريكو جناولاتي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يتطلب الحفاظ على علاقة طويلة وسعيدة مجموعة مهارات محددة. تعلم الضحك على نفسك ومعًا هو الحل

من منظور تطوري، نحن غير مجهزين للتعامل مع نوع العلاقات الحميمة طويلة الأمد للغاية التي يطمح إليها الكثير من الناس اليوم.

في الوقت الحاضر، يبلغ متوسط سن الزواج الأول في العديد من دول العالم حوالي 20 عامًا. بافتراض أن هؤلاء المتزوجين الجدد يعيشون إلى السبعينيات أو الثمانينات من العمر (بفضل التقدم في الطب الحديث) ويرغبون في التزام مدى الحياة، فإن هذا من شأنه أن يضع مدة زواجهما المقدرة في نطاق 60 عامًا - وهي أطول بكثير من العلاقات التي عاشها غالبية البشر عبر التاريخ.

وقد عبرت الممثلة الكوميدية واندا سايكس/ Wanda Sykes  عن الأمر بطريقة أقل أكاديمية:

حتى يفرقكم الموت. تلك هي أوقات الكتاب المقدس. كتب موسى ذلك. هذا هو العهد القديم. لم تكن لديهم مشكلة في قول "حتى يفرقنا الموت" في ذلك الوقت لأنهم لم يعيشوا طويلاً. لقد كانت لديهم أوبئة جيدة. بمجرد أن يثير أعصابك هذا الرجل، يأتي بعض الكركند ليأكل مؤخرته من أجلك.

في أيامنا هذه، لكي يتعايش الأزواج المتحابون تحت سقف واحد لمثل هذه الفترات الطويلة، يتعين عليهم ــ بين ضغوط أخرى ــ أن يخضعوا لعملية تدجين صعبة: معرفة ما إذا كان ينبغي ترك مقعد المرحاض لأعلى أو لأسفل؛ البريد المتبقي معلقًا أو مفتوحًا على الفور؛وضع رقائق الألومنيوم في سلة المهملات  الخاصة أو سلة المهملات العادية؛ الأطباق المتسخة التي تُركت في الحوض طوال الليل، أو تم تنظيفها وتكديسها في غسالة الأطباق قبل النوم؛ استخدام أو عدم استخدام الترجمات أثناء البث التلفزيوني. القائمة لا نهاية لها. وبالنسبة للعديد من العلاقات، هذا يكفي لقلبها رأسًا على عقب.

يعد الملل العلائقي تحديًا آخر - يحدث هذا عندما تمر الحالة الزوجية أو المعاشرة لشخص ما بمراحل أطول من المتوقع حيث تكون غير مثيرة ورتيبة، بينما تبدو أيضًا غير مريحة للغاية ومرهقة حتى تنتهي. إن مقاومة الخوف من الضياع، والهروب، والتفكير المهووس في إعادة اختراع الذات، والذهاب في رحلة طويلة للعثور على رفيقة الروح الحقيقية هي طرق كلاسيكية يستجيب بها الأشخاص الضعفاء للملل العلائقي العادي. بقطع النظر عن الأشخاص ذوي التفكير الواقعي، وذوي الضمير الحي، والمحبين لا يتنازلون بشكل متهور عن روابطهم الحميمة. من الضروري أن يكون لدينا أدوات نفسية لإيجاد طريقة لقبول الجوانب الرتيبة للحياة المنزلية مع الآخرين والتكيف معها.

عندما لا يتمكن شقيق زوجى من العثور على أدوات المطبخ حيث تركها، سيقول أشياء مثل: "لو كنت ملعقة، أين ستكون؟"

ما الأداة الأكثر أهمية في هذا الصندوق؟ غالبًا ما يتجاهل علماء الزواج الفكاهة والسخرية وتقدير العبثية باعتبارها عقليات تؤدي إلى النجاح في الحب. ومع ذلك، أعتقد أنها توفر أفضل طريقة للأزواج الحميمين للتكيف مع جميع المتاعب الدنيوية التي تأتي مع الزواج والعلاقات الرومانسية الطويلة للغاية .

بالنسبة للمبتدئين، يعد الاستخدام السلس للفكاهة طريقة ممتازة لتفادي ملاحظة مزعجة، وعدم أخذ النبرة القاسية لشخص عزيز على محمل شخصي، وتجنب الجدال. وعلى هذا المنوال، أخبرتني إحدى العميلات مؤخرًا قصة عن تفاعلها مع زوجها، الذي يميل إلى التشكيك في عادات الإنفاق الخاصة بها. اشترت بعض السلال الكبيرة للفناء الخلفي. وبلهجة انتقادية، سألها عن الاستخدامات التي يمكن أن تقدمها لهما. ردت بلهجة مازحة، واقترحت بسخافة أن تجلس فيها، وتظاهرت بذلك. كلاهما انفجرا بالضحك وكانت تلك نهاية الأمر.

يمكن أيضًا التعامل مع الإزعاجات البسيطة ببراعة وخفة قلب. عندما لا يتمكن شقيق زوجى من العثور على أدوات المطبخ حيث تركها آخر مرة، فإنه يحب أن يقول لأخت زوجي أشياء مثل: "لو كنت ملعقة، أين ستكون؟" عتادت زوجة أحد أصدقائي المقربين أن تخاطب فضوله بتعليقات مثل: "هل تقصد ترك الموقد مشتعلاً؟"عادةً ما يطعم الصديق الذي يكثر الحديث تعبيراته الطويلة بتعليقات مضحكة مثل: "لجعل القصة الطويلة أطول..." وهو يستهل مازحًا طرح أفكاره الجديدة بعبارة تبدو جريئة، ولكن ليس بسبب لهجته المبهجة - "العودة إليّ" - والتي تجعل الاستماع إليه لفترة أطول أسهل بكثير.

ثم هناك "الثناء كنقد" - وهو شكل شائع من السخرية، والذي عند استخدامه بطريقة لطيفة، يمكن أن يكون طريقة ذكية ودقيقة للإشارة بأدب إلى الشريك أن الحياة ستكون أسهل للجميع، إذا تخلى للتو عن ذلك. في ما يتعلق بهذا، أتذكر بوضوح تعليقًا أدلى به أحد الجيران في إشارة إلى صديقه: "جوليان لديه دائمًا طعام على وجهه". بخلاف ذلك، فهو مثالي!

وفقًا للعلماء، تنقسم هذه الأشكال المختلفة من الفكاهة إلى فئتين: المتعاطفة/ affiliative وتعزيز الذات/ self-enhancing ، وكلاهما يمكن أن يساهم في إطالة عمر العلاقة. الأولى تتضمن الترفيه عن الآخرين لإبقاء الأمور إيجابية وحيوية بطريقة تحافظ على الروابط العلائقية وتثريها. أما الثانية فتعكس  القدرة على السخرية من نفسه بطريقة جيدة أو رؤية الفكاهة في أحداث الحياة غير المواتية. وفقا لدراسة بلجيكية، قارنت بين العشرات من الرجال والنساء المتزوجين والمطلقين، فإن الطريقة المؤكدة للشعور بالرضا في علاقتك وتقليل خطر الطلاق هي الانغماس بسخاء في الميل إلى استخدام الفكاهة المتعاطفة والمعززة للذات.

يعتمد الأزواج الأكبر سنًا - المتزوجون منذ 35 عامًا على الأقل - بشكل أكبر على الفكاهة للتعبير عن الحنان وتقليل الاحتكاك

يعد الكثير من الضحك المشترك بمثابة مؤشر على مدى تشابه الشركاء ومدى قربهم من بعضهم البعض. وفي تلخيص بعض نتائج الأبحاث حول هذا الموضوع، خلصت سارة ألغوي / Sara Algoe من جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل إلى أن: "الأشخاص الذين أمضوا وقتًا أطول في الضحك مع شركائهم شعروا أنهم أكثر شبهاً بشريكهم". "كان لديهم هذا الشعور المتداخل بالذات مع الشخص الآخر. "كان بحث ألغو، مع لورا كورتز، مقتصرًا على الأشخاص في العشرينات والثلاثينات من العمر الذين ارتبطوا عاطفيًا لمدة تزيد قليلاً عن أربع سنوات في المتوسط، لكنني أتخيل أن نفس القاعدة  تنطبق على الأزواج الأكبر سنا في علاقات أطول. وتشهد دراسات أخرى أجريت على الأزواج الأصغر سنا على أهمية الفكاهة والضحك لنجاح العلاقة. فقد وجد استطلاع أجرته شبكة سي بي إس نيوز عام 2010 أن الفكاهة كانت أكثر أهمية بخمس مرات من الجنس عندما يتعلق الأمر ببناء زواج ناجح. وجدت دراسة أجريت عام 2018 من رومانيا، والتي شملت شبابًا مرتبطين عاطفيًا لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، أن حس الفكاهة يتفوق على الجاذبية الجسدية والطموح وإمكانات الكسب والشخصية المثيرة عند تقييم الشريك.

على مدى فترة طويلة من العلاقة، تكتسب التبادلات الفكاهية والضحك المشترك أهمية إضافية. وقد تبين أنه، مقارنة بالأزواج في منتصف العمر الذين تزوجوا لمدة لا تقل عن 15 عاما، فإن الأزواج الأكبر سنا - المتزوجين لمدة 35 عاما على الأقل - يعتمدون بشكل أكبر على الفكاهة للتعبير عن الحنان وتقليل الاحتكاك. دفع هذا الأمر إلى نشر مقال في Science Daily  فى عام 2018 لتشجيع الأزواج على مواصلة المسار:

هل انتهى شهر العسل منذ فترة طويلة؟ أصبر. أظهرت دراسة جديدة من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أن الخلافات الشائكة التي يمكن أن تميز السنوات الأولى والمتوسطة من الزواج تهدأ مع تقدم العمر، حيث يفسح الصراع المجال للفكاهة والقبول.

مع تقدم الأزواج في السن، غالبًا ما يحل الضحك محل الجدال والمشاحنة في الشراكة لجعل سنوات المرء المتضائلة أقل احتكاكًا وأكثر متعة.

وهذا صحيح بالتأكيد، في زواجي. في أحد الأيام أثناء تناول الإفطار، ذكرت زوجتي جانيت بحذر أنها لم تنم جيدًا أثناء الليل بسبب شخيري. وأنها باتت مستيقظة ومنزعجة للغاية، وقد سجلت شخيري على هاتفها الذكي كدليل لا يقبل الجدل. وأنا أستمع إليها معًا على مائدة الإفطار، قلت مازحًا: "واو، هذا موسيقى للغاية.  كيف يمكننا أن نعرف بأي قدر من اليقين أن هذا أنا؟" عند ذلك  تبادلنا الضحك وتحدثت جانيت بلطف وطلبت مني أن أعود للشطف بمحلول ملحي قبل النوم للحد من الشخير. قبل عقد من الزمن، كانت محادثة كهذه ستسير بشكل آخر، حيث كنت سأشير بشكل دفاعي إلى شخيرها.

كان الممثل الكوميدي سندباد أقل تفاؤلاً في مسرحيته الهزلية عن الشخير. أثناء مزاحه مع امرأة من الجمهور اشتكت من شخير زوجها (الذي أصرّت أنه لم يكن موجوداً قبل زواجهما)، انطلق سندباد في خطبة صاخبة: "لقد امتصت حياته منه. ليس لديه هواء... إنه يحاول فقط البقاء على قيد الحياة طوال الليل. إنه لا يشخر، إنه يموت. قليلا قيلا كل ليلة.. أنتم جميعا تسمونه انقطاع التنفس أثناء النوم، ونحن نسميه الزواج " .

من أجل البقاء على قيد الحياة في الزواج أو أي شراكة تمتد لعقود من الزمن، من الضروري أن يتكيف كل عضو في الزوجين مع ما يمكن الحصول عليه بشكل واقعي من الآخر. عندها فقط يمكن أن تزدهر رابطة المحبة مع مرور الوقت. وكما يقول أندريه، إحدى شخصيات رواية تاياري جونز "زواج أمريكي" (2018): "عليك أيضًا أن تعمل مع الحب الذي يُمنح لك، مع كل التعقيدات التي تتدلى خلفه مثل علب الصفيح المربوطة بسيارة سيدان لحفلات الزفاف". عندما تلبي العلاقة احتياجاتنا الأساسية بكثرة وتكون جيدة في الغالب، فإن ما يجعلها متواصلة، بدلاً من الاستمرار في الانهيار، هو عقلية القبول المرح  لسمات الشريك السلبية. يجب أن تكون منفتحًا على التجاهل الفكاهي لعدد لا يحصى من المصادر التي لا مفر منها للتهيج المحتمل والتي تشكل جزءًا من مشاركة الحياة مع إنسان غير كامل. عليك أن تجد منفذا للضحك، لا للجدال.

(تمت)

***

.........................

الكاتب: إنريكو جناولاتي/Enrico Gnaulati: عالم نفس إكلينيكي مقيم في باسادينا، كاليفورنيا، وأستاذ منتسب في علم النفس بجامعة سياتل. وهو مصلح إنساني لممارسات وسياسات الصحة العقلية، وقد ألف أربعة كتب بالإضافة إلى العديد من المقالات في المجلات الأكاديمية والمجلات الشعبية، مثل The Atlantic وSalon. أحدث كتاب له هو الحب المزدهر: دليل علماني للعلاقات الحميمة الدائمة (2023).

رابط المقال على سايكى / PSYCHE بتاريخ 16 يناير 2024 :

https://psyche.co/ideas/why-it-takes-humour-to-sustain-a-long-term-relationship

بسط العدل وإقراره هو أهم الدعائم الأساسية التي يقوم عليها صرح الدين الإسلامي، فالعدل أساس الحكم، والنبي الخاتم عليه الصلاة والسلام تحرى القسط والسويَّة في كل معاملاته، وفي شتى ضروب حياته، وبتتبع سيرته الزاخرة بالعظا والعطاء نجده قد دعا إلي العدل في الحكومة، وحَسَم مادة الخصومة، وآثر الإنصاف، ولزم حلسه، ونزع الخلاف، واتقى الجور والشطط، والعدل هو قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية فالله سبحانه وتعالى يقول: ( َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). الحديد:20. وقال عز من قائل ِ: (إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). النمل:9.

والعقوبة هى «عبارة عن ردة فعل المجتمع تجاه العدوان الذي وقع عليه أو وقع على بعض أفراده، بدون وجه حق، والعدوان في مواجهة العدوان يعتبر عدلاً، لأنه قضاء على أسباب هذا العدوان ومنع انتشاره في ربوع المجتمع وإنقاذ سفينته من أن تهوي في أعماق البحار».فالعقوبة إذن من شأنها أن تعيد العدل والحق إلي نصابه كقيمة ثابتة يفنى المجتمع ويتناحر دونها، ويعتدي القوى منهم على الضعيف المهيض الجناح، وتجعل قانون الغاب هو السائد على ظهر البسيطة، وإضافة إلي ذلك فإن الجريمة «تثير شعور هذه الانفعالات الجماعية بإنزال العقاب على كل من يعتدي على قيم المجتمع، وإلا اتخذت هذه الانفعالات الجماعية شكل الانتقام من الجاني أو ذويه».

ومن شعائر العدل المساواة في الشريعة الإسلامية أنها عامة تشمل جميع شرائح المجتمع شريفهم ووضيعهم، أميرهم وخادمهم، دون النظر إلي شرف المذنب الأثيل، ومجده الأصيل، أو علمه الغزير، بل نجدها تطبق على كل من اجترح ذنباً، أو اكتسب إثماً، ضاربة بهيبته ومكانته الاجتماعية عرض الحائط »، حتى إن الدية المقدرة في الشريعة الإسلامية حقاً للمجني عليه أو ولي دمه في جرائم القتل والجروح، وإتلاف الأطراف تساوي بين الناس أياً كان المركز الاجتماعي للمجني عليه، فهي لا تزيد ولا تنقص بزيادة أو نقص قدره».

ومبدأ المساواة في العقوبة لم يكن في شريعة الإسلام مجرد نظريات تحفل بها طيات الكتب، وثنايا الفكر، وخطفات الأحاديث، بل كان واقعاً ملموساً عاشته البشرية على أوسع نطاق في عهود الإسلام الزاهرة، فالسيرة العطرة لخير البرية عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، وخلفائه البررة الميامين، وصحابته الأجلاء عليهم رضوان الله ورحمته، تخبرنا عن أبواب الجور التى كانت موصدة، ونيران الحيف التى كانت خامدة، وسيول العسف التى كانت هامدة، تلك الحمم والنيران التي لم تستعر وتفدح كاهل الأنام في شتى أرجاء المعمورة بالمؤن المجحفة، والأجعال الثقيلة، والعدوان الموبق، إلا بعد أن طوى الزمان خيرة القرون الثلاثة،  فهناك الكثير من الأحداث والوقائع التي سجلها التاريخ بكل فخر وإعزاز، تروي عظمة هذا الدين وسعيه الدؤوب لتطبيق دعائم العدل والإنصاف، ويكفي أن القرآن الكريم ذلك الكتاب المحكم السبك، الدقيق العبارة، الذي يأخذ بعضه برقاب بعض، قد حوى بين دفتيه على أعظم برهان يدعو للعدل ويطبقه بتجرد ضارباً بالسخائم والأحقاد عرض الحائط، يتجلى فى قوله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). المائدة:8.

أما السنة فهي حافلة بالأمثلة التى تدعو إلي نهج الهدى وسواء السبيل  «فعن عائشة رضى الله عنها أنّ قريشاً أهَمّهُمْ شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله،  فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام فاختطب فقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها). وفى رواية: (فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتشفع فى حد من حدود الله؟) قال أسامة: استغفر لي يارسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة، فقُطِعت يدها). وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام فى حجة الوداع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ولا فضل لعربى على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ فليبلغ الشاهد الغائب)، إن هذا المبدأ السامى الذي وضعه نبى الإسلام هو الذى جعل وفود الناس تترى طائعة مختارة لحمى الدين الخاتم، لائذة به من مرائر العنت والجور، ففي ذلك العهد مات ضمير الإنسان، وتأسنت روحه وسادت معالم الظلم والشطط على قيم العدالة والإخاء، في تلك الحقبة تغول الجبابرة ووجهاء القوم على مهيضي الجناح ممن لم يرزقوا منعة القبيلة، أو عزوة الحسب والمال، فسلبوهم حريتهم وسخروهم لإرضاء نزواتهم وشهواتهم، وقيض الله لهم الحرية على يد هذا الدين العظيم الذي أبان فيه نبيه المعصوم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أن أساس التفاضل ليس النسب الرفيع أو المال الوفير، أو نفوذ القبيلة وسطوتها بين القبائل، وإنما أساس التفاضل قيمة سامية هي التي تحدد مكانة الشخص ورتبته عند الخالق عزوجل وعند عباده، فالتقوى والورع هو الذي يقود العبد إلي مقامات رفعية، وفضاءات لا يحلق معها جاه عريض، أو شرف تليد.

والمساواة هي أهم عامل جذب أولئك القوم لاعتناق الإسلام، والذود عن حياضه، بعد أن لاح لهم أن الناس كافة شريفهم ووضيعهم أمام الشرع سواء، وأن الدين الخاتم لا يكترث لتلك التقاليد الممجوجة التي كانت سائدة قبل فترة وجيزة فيفضل عرقًا على عرق، ويعضد لونًا على لون، بل الناس جميعهم باختلاف مشاربهم وسحناتهم سواء، «لا فضل لعربى على عجمي إلا بالتقوى» ففي هذا الحديث نستشف حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توطيد مبدأ المساواة، ومحاربة عادات تغلغت في الصدور، ورسخت فى الأفهام، وصارت سجية يزاولها الناس دون اكتراث أو استهجان، وهي قضية التباهي بالأنساب وتصنيف الخلق إلي طائفتين الأولى ذات شرف باذخ، وعزوة تناطح النجوم، وتزاحم موكب الجوزاء، وأخرى وضيعة النسب، موصومة الحسب، ينظر لها ذوو السيادة ومن ينزعون إلي عرق كريم، كما ينظر الرجل إلى قلامة ظفره، لقد كانت هذه الفوارق غائرة في أعماق المجتمعات، ولعلها ما زالت و لا يحطمها إلا تقرير هذا المبدأ السامى الذى يرد الناس جميعهم باختلاف مشاربهم وسحناتهم إلي رب ذرأهم من عدم، وأنشأهم من فراغ، ولهذه الأحاديث صور تفوق الإحصاء.

ولقد سعت التشريعات الحديثة أن تقتفى أثر الإسلام في هذا التطبيق من حيث المبدأ، لكنها «لم تبلغ ما بلغه الإسلام من الكمال في التطبيق حتى في أرقى الدول المتقدمة وأشدها حرصاً على الديمقراطية، فالتعويض عن المجنى عليه يتفاوت بتفاوت الوضع الاجتماعى للمجنى عليه، وللعقوبة حد أدنى وأعلى كما للقاضى سلطة تقديرية فى أن يختار منها مايراه تبعاً لمصلحة الجانى أو مراعاة الصالح العام».

إن الحكم الإسلامى يلزم الراعي والرعية على حد سواء بحقوق وواجبات، يخضع لها الأقوياء فضلاً عن الضعفاء، وتسرى أطرها على الناس قاطبة تدفع عنهم شراً، وتورد عليهم سروراً بقدر متساو، ولا تكون حكرًا على عرق دون عرق، ولا على طائفة دون أخرى، فالجميع أمام شرع الله سواء.

ومن أوجه العدالة، في عقوبات الحدود والقصاص والتعازير، أن العقوبة تتناسب مع الجريمة تناسبًا تاماً، فلم يشرع سبحانه وتعالى كما يقول ابن قيم الجوزية في «الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا فى السرقة اعدام النفس، وأن ما شرع لهم فى ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه واحسانه وعدله، ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح الحاقها فى العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالزنا والقدح فى الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم».

وينبغي أن نلاحظ أن الشريعة الإسلامية الغراء لم تكفل العدالة للمعتدى عليه فحسب، بل شملت المتهم والجاني أيضاً، فلقد وضعت ضوابط ومعايير حتى لا يعاقب الشخص بدون جريرة أو دليل دامغ، فالأصل براءة الذمة والحدود تُدرأ بالشبهات، كما وضعت أحكاماً خاصة فى طرق إثبات الجناية.

***

د. الطيب النقر

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

هل يمكن أن تكون تلك الرعشة في أسفل العمود الفقري وسيلة لإعادة اكتشاف المرح؟

في بحث جديد، بحث العلماء في الفوائد المحتملة لمنح الأشخاص المصابين بالاكتئاب قشعريرة جمالية.

في إعلان تلفزيوني تايلاندي من عام 2013، يُقبض على صبي صغير وهو يسرق الدواء لأمه المريضة. يتدخل بائع حساء محلي ليدفع للصبي وجبة مجانية من حساء الخضار. بعد سنوات، عندما يمرض بائع الحساء وتتلقى ابنته فاتورة طبية كبيرة، ثم تكتشف أن الطبيب الذي يعالجه قد تنازل عن الرسوم: لقد كبر الصبي، وهو يرد لطف والدها. وفي التعليقات المنشورة على الفيديو، يصف الأشخاص كيف أثارت القصة مشاعر قوية. كتب أحدهم: "هل يشعر أحد بقشعريرة؟"

في الواقع، من المعروف أن هذا الفيديو يسبب البرد بشكل خاص: فهو واحد من 10 إدخالات في ChillsDB، وهي قاعدة بيانات للمحتوى الذي يرسل الرعشات إلى أسفل العمود الفقري للأشخاص أو يمنحهم صرخة الرعب/ goosebumps. تُعرف أيضًا باسم الارتعاشات أو هزات الجماع الجلدية أو القشعريرة الجمالية، فهي تثير إحساسًا مشابهًا جسديًا عندما نكون باردين جسديًا، ولكنها تحدث استجابةً لمواجهة مقطوعة موسيقية أو فيلم أو فن أو خطاب ملفت للنظر.

بشكل عام، عندما يختبر الناس هذا النوع من القشعريرة الجمالية، يكون الأمر ممتعًا ذاتيًا، بل ومبهجًا أيضًا. ماذا لو كان من الممكن تحفيزها عمدًا، على سبيل المثال لأغراض علاجية؟ هذا ما بحثه فيليكس شولر من معهد دراسات الوعي المتقدم وزملاؤه في دراستهم الأخيرة في مجلة BMC* للطب النفسي.

ركزت الكثير من الأبحاث السابقة حول القشعريرة الجمالية على القشعريرة التي تسببها الموسيقى. لكن شولر كان يعمل في صناعة السينما، وكان يعلم جيدًا أن الأفلام والفيديو يمكن أن تسبب القشعريرة أيضًا. أنشأ مع معاونيه قاعدة بيانات القشعريرة في عام 2023. وهي تحتوي على 204 مقاطع فيديو تحفز القشعريرة من YouTube وReddit، تم جمعها بواسطة خوارزمية قامت بفرز آلاف التعليقات بحثًا عن الأشخاص الذين يقولون إنهم شعروا بالقشعريرة أو الأحاسيس الجسدية المشابهة، مثل الرعشات وصرخة الهلع.

في دراستهم الجديدة، عرض الفريق اثنين من مقاطع الفيديو الحقيقية الموثقة للغاية التي تسبب البرد لـ 96 شخصًا تم تشخيص إصابتهم باضطراب اكتئابي كبير: الإعلان التايلاندي أو مجموعة فيديو من الخطب التحفيزية لأشخاص مثل ليس براون وإريك توماس وويل سميث، مصاحبة   بالموسيقى الملهمة.

تعد القشعريرة هدية للجميع، ولكنها قد تكون مفيدة بشكل خاص للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الوصول إلى هذا الشعور.

بشكل عام، قال 50 من المشاركين إنهم عانوا من القشعريرة (31 منهم بعد مشاهدة الفيديو التايلاندي، و19 بعد مشاهدة الخطابات المتنوعة). سجل هؤلاء المشاركون الذين أصيبوا بالقشعريرة أيضًا درجات أعلى في استبيان الاختراق العاطفي (EBI) الذي أكملوه بعد ذلك، وهو مقياس يطرح أسئلة حول قدرة الشخص على استكشاف المشاعر الصعبة، أو تجربة "التحرر العاطفي" و"حل الصراع". وفي دراسات أخرى، تم استخدام مؤشر EBI لتقييم شعور الناس بعد تناول العقاقير المخدرة، مثل السيلوسيبين، وارتبطت الدرجات الأعلى بزيادة في الرفاهية.

يبدو أيضًا أن القشعريرة تساعد الأشخاص الذين يعانون من أعراض الاكتئاب على التفكير بشكل أقل سلبية تجاه أنفسهم. بعد مشاهدة الخطب التحفيزية التي ركزت على موضوع الفشل الشخصي، وافق المشاركون الذين عانوا من القشعريرة بقوة أكبر على بنود الاستبيان مثل "أنا أستحق الحب والاهتمام والاحترام من الآخرين" و"أنا عادة أثق في الآخرين". سوف يعاملني الناس بشكل عادل مقارنة بالمشاركين الذين لم يصابوا بالقشعريرة.

ومع نهاية الدراسة، كان لدى الأشخاص الذين شعروا بالقشعريرة ردود فعل عاطفية أقوى تجاه مقاطع الفيديو، وانتهى بهم الأمر بمستويات أعلى من قبول الذات، وخجل أقل، مقارنة بالأشخاص الذين لم يشعروا بالقشعريرة. يقول شولر: "يبدو أن القشعريرة جزء مهم من القصة".

بالطبع، تسلط الدراسة الضوء أيضًا على أحد قيود استخدام القشعريرة علاجيًا، حيث لم يتعرض لها العديد من المشاركين. وهذا يتناسب مع الأبحاث السابقة؛ على الرغم من أن القشعريرة تبدو محسوسة عالميًا في جميع الثقافات، إلا أنه لا يشعر الجميع بالقشعريرة في كثير من الأحيان، أو استجابة لنفس المحتوى. يقول شولر:"يشعر الجميع بالقشعريرة، ولكن لا يصاب الجميع بالقشعريرة من نفس المحتوى، أو في نفس الحالة، أو في نفس اللحظة". لاستخدام القشعريرة كتدخل علاجي، من الأفضل أن يكون الشخص متناغمًا مع الموسيقى أو الفن الذي يمنحه قشعريرة.

لا يعتقد شولر أن القشعريرة ستحل محل العلاجات الأخرى، ومن غير المعروف إلى متى قد تستمر هذه التأثيرات، أو مدى عمق التأثير الذي يمكن أن تحدثه على الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الشديد. لكنه يرى أن القشعريرة هي أداة يمكن أن يستخدمها المعالجون في المستقبل كوسيلة للتحفيز. قد يبدو هذا كأنك تعرض مقاطع فيديو للأشخاص أو تجعلهم يستمعون إلى الموسيقى في الجلسات، أو في المنزل بمفردهم. يقول شولر إن ذلك يمكن أن يساعد الناس على "العثور على الطاقة للقيام بالأشياء والاستيقاظ في الصباح". ومقارنة بإحداث اختراقات عاطفية من خلال مواد مثل السيلوسيبين، فإن إعطاء شخص ما قشعريرة أمر ميسور التكلفة وخال من المخاطر بشكل أساسي.

لقد شعرت بالقشعريرة مؤخرًا أثناء الاستماع إلى كونشيرتو البيانو لأحد الأصدقاء في قاعة كارنيجي. في جزء من الأداء، مد يده إلى البيانو وأمسك بالأوتار - مما أحدث صوتًا مكتومًا ومؤرقًا، كما لو أن اللحن كان يحاول الهروب من قوة غاشمة تعيقه. عندما انتهت الأغنية، شعرت بموجة من الخفة والعجب (ورعشة في العمود الفقري).

تعتبر القشعريرة هدية لأي شخص، لكنها قد تكون مفيدة بشكل خاص للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الوصول إلى هذا الشعو. يقول شولر: " لدينا أداة لمنح (المصابين بالاكتئاب) إحساسًا بما تشعر به عند تجربة المتعة مرة أخرى.ومن هنا يمكن أن تبدأ دوامة إيجابية نحو التفاعل مع البيئة ونهاية العزلة الاجتماعية وإمكانية العثور على المتعة والأمل من جديد ".

***

.....................

* BMC Psychiatry  مجلة علمية واسعة الانتشار وتغطي مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك علم الأدوية النفسية والعلاج النفسي والأساليب النفسية الاجتماعية للاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى أبحاث علم الوراثة والفيزيولوجيا المرضية وعلم الأوبئة. ترحب المجلة بالمقالات العلمية الأساسية والتطبيقية، والأبحاث التي تستكشف العلاجات المبتكرة، وطرق تقديم الخدمات، والطب النفسي الاجتماعي.

المؤلفة: شايلا لاف/ Shayla Love كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى.

والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني. وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا.

ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ. وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته.

ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند (1885_1972) الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته " الأرض الخراب" (أشهر قصيدة في القرن العِشرين) باعتباره مُعَلِّمًا له، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال: (إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر).

وُلِدَ عِزرا باوند في ولاية آيداهو في المنطقة الشمالية الغربية من الولايات المتحدة. وكان طِفلاً وحيدًا لعائلته، وكان والده يَعمل مُسَجِّلًا في مكتب الأراضي العامة.

دَرَسَ الأدبَ المُقَارَن في جامعة بِنسلفانيا في الفترة (1900_ 1905)، ولكنَّه غادرَ أمريكا إلى أوروبا عام 1908، لأنَّه كان عاجزًا عن التأقلم معَ المجتمع الأمريكي.

تزوَّجَ عِزرا باوند مِن دورثي شكسبير ابنة العشيقة السابقة للشاعر الأيرلندي وليام بتلر ييتس (1865 _ 1939) الفائز بجائزة نوبل للآداب (1923). وقد أسهمَ ييتس وباوند في بدايات الحداثة الإنجليزية، وانخرطا في حركات عديدة أثَّرَتْ في مُستقبَل الشِّعْر الإنجليزي.

تَرَكَ عِزرا باوند إنجلترا مع بداية الحرب العالمية الأُولَى. وبِحُلول عام 1924 كان قَد استقرَّ بصفة دائمة في إيطاليا مع عائلته. وخلال الحرب العالمية الثانية، كان أحد أشهر مُؤيِّدي نِظام مُوسوليني، بَلْ وكانَ مُنَظِّرًا لِدُوَلِ المِحْوَر (ألمانيا، إيطاليا، اليابان). لذلك لَمْ يَكُن غريبًا أن تُلْصَق بِه تُهمة الخِيانة لبلده الأُمِّ أمريكا بسبب كتاباته وخِطاباته الإذاعية.

وفي نِهاية المَطَاف، قَبَضَتْ عَلَيه قُوَّات إيطالية مُسانِدة للحُلَفَاء، وتَمَّ تَسليمُه إلى أمريكا التي حاكمته بِتُهمة الخِيانة، لكنَّ المحكمة قَضَتْ بأنَّه غَيْرُ مُذنِب لأنَّه مجنون. وعِندها، عارضَ الكثيرون هذه الفِكرة، وأُعِيدَ النظر في قضيته، وحُكِمَ عليه بالسجن 12 عامًا في مُستشفى إليزابيث للأمراض العقلية. وبعد إطلاق سَرَاحِه بِضُغوطات مِن كُتَّاب العَالَمِ، عادَ إلى إيطاليا، حيث عاش حتى وفاته عام 1972.

كانَ عِزرا باوند يَبحث عن البِدائية والعَفْوِيَّة والبراءة والصِّدْق في شِعْر الأُمَم التي لَمْ تُفْسِدْها الحَداثة الصناعية والتكنولوجيا الماديَّة، كما حَدَثَ لِمُجتمعاتِ أوروبا وأمريكا. والفكرة الأساسية لديه هي أنَّ العلاقات الكائنة بين الأشياء أهَمُّ مِن هذه الأشياء ذاتها، ولكن ليس كل الناس يَرَوْنَها. وَحْدَه الشاعر الكبير يَرَاها.

يُعْتَبَر عِزرا باوند من أعظم شُعَراء الحداثة في تاريخ الأدب الإنجليزي، ولا يُمكِن إنكار تأثيره على الشِّعْر. وكان مِن أوائل مَن استخدموا الشِّعْرَ الحُر، كما لَعِبَ دَوْرًا عظيمًا في اندلاع الثَّورة الشِّعْرية الحديثة التي أثَّرَتْ على الأدبِ الإنجليزي كُلِّه في القرن العشرين.

وتَمَرُّدُه الشِّعْرِي كانَ مُتوازيًا معَ تَمَرُّدِه النَّفْسِيِّ والشَّخْصِيِّ، فقد اشْتُهِرَ باحتقاره للعاداتِ والتقاليدِ السائدة في المُجتمع، ومَيْله إلى الاستفزاز والخُروج على المألوف. وكانَ مِن أتباع الفَيْلَسُوف الصيني كونفوشيوس، وكان يَعتقد أنَّ الدولة الفَاشِيَّة التي أسَّسها مُوسوليني في إيطاليا هي تجسيد للدَّولة المدنية التي حَلُمَ بها كونفوشيوس.

لَقَد ارتكبَ عِزرا باوند خطيئةَ حياته بِدَعْمِه المُطْلَقِ للفَاشِيَّةِ، ومُساندته العلنية لِمُوسوليني، حَيث سَخَّرَ مَوْهبته الشِّعْرية ومكانته الأدبية لدعمِ العُنْفِ والإرهابِ، وإيجادَ مُبَرِّر أخلاقي لهما. وهكذا يَتَّضِح التناقضُ الصارخُ بَين الحالةِ الإبداعية والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ، ويَظْهَر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوب دموية عبثية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ومنها الحيوان، ومنها الطيور، ومنها الصقور، ومنها الشاهين.. نبدأ بالرؤية الإسلامية في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) سورة الإسراء، الآية 70.

وهي الرؤيا التي يبنيها التصور العقدي الإسلامي القائم على التفضيل والسخرة المشروعة والشرعية التي يقدمها النص الديني مفعمة بالحلال. قال تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) سورة الأعراف، الآية 32

أما بخصوص مسألة الصيد أو البيزرة أو القنص أو ماشابه ذلك فنستند إلى قوله تعالى (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) سورة المائدة، الآية 4

قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عديّ بن حاتم وزيد المهلهل الطائيين، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير.. قال يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت الآية.

في سفر التكوين تظهر ظهورا جليا صدارة الإنسان على الحيوان (وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض) الآية 26 الفصل الأول

و منذ ذلك الحين دأب الإنسان على إخضاع الطبيعة وكائناتها لإرادته عبر سلطان العقل والعلم والتقنية. وكان هذا الدّأب محتشما في بدايات الانفتاح على عوالم الطبيعة انطلاقا من الخوف منها حتى تغوّل إلى التحكم فيها والسيطرة عليها، سيطرة لم تكتف باستهلاكها بل صنعت المسافة السحيقة بين الإنسان والحيوان. وهي المسافة المفارقة التي تحدث عنها الفيلسوف البريطاني توماس هاكسلي (أنا من أشد المقتنعين بالهوة العميقة التي تفصل بين الإنسان العاقل المتحضر والبهيمة الحمقاء الهوجاء الرعناء)

واليوم، يمسك الإنسان بالطبيعة ويدخلها مختبراته العلمية كي يحكم قبضته عليها. ومن هذه الطبيعة أمسك بالحيوان وطوّعه وروّضه.. في حين كان بالأمس يتعامل مع الطبيعة من زاوية نفسية يؤسسها الخوف ويؤطرها. ومن ثمة كان الإنسان القديم عندما يحمل عليه النهر أو البركان أو يهجم عليه الحيوان يتخذها آلهة له ويقدم لها القرابين.. هكذا تحولت العلاقة بين الإنسان والطبيعة من حالة اللاثقافة إلى حالة الثقافة، أي من حالة الخرافة إلى حالة العلم.3595 صقر

وعندما أقارب علاقة الإنسان بالشاهين  أنطلق من ملاحظاتي لأصدقائي البيازرة وهم يتعاملون مع صقورهم داخل حميميتهم في بيوتهم أو في الميدان، ومن خلال معاناتهم في تربية وترويض شواهينهم. وأتساءل: ما الضامن لرجوع الشاهين إلى كف صاحبه عندما يرسله إلى الفضاء؟ وهو الطائر الموسوم بالسماوي وبالشمسي والأسرع؟ ما الضامن لعودته إلى الأسر؟ إن هذه العلاقة غير القابلة للقبض ولا للقياس ولا للتفسير هي ما أوحى لي بالاشتغال على هذه الورقة المتواضعة في الكشف عن بعض رمزية هذا الكائن الجارح والطائر المتميز، الشاهين.

في كتابه (قاموس الرموز الإنسانية) يقول مالك شبال:

(الصقر حيوان أليف في فضاءات القصور الملكية، وهو طائر مفعم بالكرامة وذكي وقناص ماهر وهو رمز شمسي وهو حاضر في كثير من الهدايا المتبادلة بين الملوك والسفراء عبر التاريخ القديم)

والشاهين أو الصقر الجوال يطلق عليه في المصادر التوثيقية الغربية ب le faucon peregrinus  أي الجارح الذي ينزح من جميع الأماكن إلا القطبية منها. لهذا نعتوه بالجوال. والشاهين كلمة فارسية تعني الميزان وتفيد الملكي  أيضا في تفكيكها إلى (شاه) و(ين) الأولى تعني الملك والثانية تفيد علاقة التخصيص.

في مصر القديمة كان الصقر بحكم انسيابية جماله يرمز للمبدأ السماوي. وكانوا يشخصون (حوريس) إله الفضاءات العلوية على شكل إنسان برأس صقر، متأثرين في ذلك بنظرة الصقر المتميزة باعتباره يرى كل شيء حسب منظورهم. من هنا تطورت عين الإله (حوريس) في منظورهم الخرافي حتى تجاوزت الرؤية الشاملة إلى الرؤية الخصيبة.

وأما الأسطورة الجرمانية السكندنافية فقد أوْلَتْ للصقر أهمية كبيرة، فربطته بمقولة الخصب والعطاء كما جعلته شارة للفرسان تيمنا به باعتباره رمزا إلهيا ضد كل ما هو شيطاني. وقد اعتبره الفيلسوف (بورفيري) شخصية تتقمص معنى الرسالة السماوية لأن الطائر الجارح يمتلك القدرة على قراءة المستقبل. من هنا جاء اعتقادهم أن ظهور هذا الطائر فأل خير ومن هنا نفهم أيضا تطيّر أهل الجاهلية قبل أن يصحح عقيدَتهم النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه (.. إذا تطيرتَ فامض..)

تقدم بعض الدراسات الميتولوجية الصقر في ثقافات العصور الوسطى وهو يقطع أوصال الأرانب. وهو مشهد طبيعي إذا قسناه بمقولة التوازن الطبيعي. لكن تفكير أهل هذا العصر يمضي به إلى اعتبار هذه العلاقة علاقة تطهيرية لأنهم فسروا الأرانب في رمزية الفسق في حين فسروا الصقور في رمزية النقاء. الصقر في هذه الميتولوجيا ينتصر ضد الشهوة وهو في نظرهم انتصار للذكورية النهارية على المبدأ الأنثوي الليلي.

في حضارة الأنكا بالبيرو قديما، اعتقد أهلها أن زعيم هذه السلالة (مانكو كاباك) كان له أخ أو معادل روحي أو ملك حارس. وتمثلوه على شكل صقر.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الميتولوجيا قدرت في مشهد الصقر غير ذلك، أي أنها ربطته بالطاقة السلبية كما كان أهل (بورنيو) جنوب أسيا يعتقدورن. فبحارتهم كانوا إذا سمعوا صوت الصقر غيروا وجهة قواربهم.

أعتبر الصقر والشاهين تحديدا طائرا جارحا إشكاليا لا بالمفهوم المشكلة وإنما بمفهوم التركيب. ذلك لأن الشاهين يختزن في عمقه الوجودي كثيرا من الأسرار أو بعبارة أقرب كثيرا من الدلالات.

نذكر منها وهي المستعصية على الحصر دلالتين فقط هما: الرؤية والمعرفة في بعدها الغريزي.

و نحن في هذا الصدد نلوذ بالتأويل لسلوكات الشاهين التي قرأها المتخصصون في عالم البيزرة. وهو تأويل مشروط بنتائج بحوثهم العلمية ولا يشط بعيدا خلف بريق القراءات المجانية. قال فرانز بوس وهو عالم أنتربولوجيا (الصقر هو البصيرة والرؤية اللتان نتمكن عبرهما من رؤية العالم) ونحن نرى العالم في عين الشاهين وفي معرفته الخارقة لما حوله. نرى فيه قوة البصر والبصيرة وقوة المباغتة وقوة الانقضاض والسرعة الخيالية والكرامة والنبل والقدرة على التكيف والقدرة على تحقيق التوازن وغيرها من الدلالات التي لا يتسع لها المقام هنا.

وسنضرب مثلا واحدا يكفينا طائلة السرد، ويتعلق بالمصور الأمريكي كاستر الذي اجتهد وجاهد كثيرا حتى تمكن من التقاط صورة للشاهين في حالة هبوط مثالي تجاوز فيه 360 كم في الساعة. وهنا نطرح السؤال: لِمَ لم تتبخر رئتا الشاهين وهو يهبط بهذه السرعة الخيالية؟ إن منطق الأشياء يقول إن العلاقة الفيزيائية بين جسم الطائر والفضاء تقوم على الخوف من شرط الضغط الجوي الذي يساوي موت الطائر في هذه الحالة التي يتعرض فيها لا محالة لتكسير جهازه التنفسي بالكامل، والموت طبعا.

لقد زوّد الله الشاهين بعظْمة في أنفه (العظمة الدرنية) وهي تعمل على إبطاء دخول الهواء إلى الرئتين مما يؤدي إلى تخفيف الضغط على الرئتين. كما تعمل هذه العظْمة على تغيير تحقيق توازن الطائر فور تغيير سرعته والانتقال من قوة إلى قوة أخرى دون أن يتأثر الشاهين بهذا التغيير المفاجئ.

هذا مثال من أمثلة من فيض لا متناهٍ لهذا الطائر المختلف. والشاهين مجال إنساني خصب يعكس المعاني والمفاهيم الإنسانية التي اشتغل عليها النقاد المحدثون وخرجوا منها بنتائج مبهرة بشأن هذا الكائن. فهو طائر مختلف واختلافه لا يتأتى من صورته على جذع شجرة أو فوق نتوء صخري بمنكبيه العريضين وبجلسته النبيلة ونظرته الثاقبة في صمت خرافي أو في تحليقه الساحر أو في انقضاضه على فريسته.. الشاهين طائر مختلف لأنه طائر نبيل.

قال عالم الطبيعيات كينيت ريتشموند (عند مقارنتنا نحن البشر بالصقور نبدو مخلوقات أقل درجة، لأن الصقور تمتاز بالقوة والجرأة والجمال والدم الساخن الذي يجعل منها مخلوقات نبيلة)

من هنا نفهم دعوة بعض التيارات الفكرية إلى تجاوز التصور الطبيعاني في علاقتنا بالحيوان وبعلاقتنا بالصقور والتي هي نظرة تفصل بين الطبيعة والثقافة.. إلى تبني التصور الإحيائي الذي ينسب للحيوان ما هو إنساني. وهكذا نحول الشاهين من مجرد طائر جارح قابل للتدريب إلى كائن منخرط في العلاقة الإنسانية التفاعلية.

***

نورالدين حنيف أبوشامة – المغرب

...............

* مداخلة على هامش المهرجان الوطني الأول للبيزرة المغربية الذي نظمته الجمعية الوطنية لصقارة القواسم بتاريخ 03 يونيو 2023 بمدينة المحمدية \ المغرب

بقلم: دين بورنيت

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

إن المتعة والسعادة مهمتان للغاية بالنسبة لصحتنا العقلية بحيث لا يمكن اختزالها في مادة الدوبامين الكيميائية الوحيدة في الدماغ.

إذا كنت عالم أعصاب لمدة عقدين من الزمن وما زال العدد في ازدياد، فسوف تلاحظ عندما يبدأ مجالك في الظهور في الخطاب السائد. في حين أن هذا عادة ما يكون أمرًا جيدًا (فهو مفيد بشكل خاص عندما يحظى مجال ما باهتمام الجمهور)، فإنه يمكن أيضًا أن يذهب بعيدًا، مما يؤدي إلى الارتباك وسوء الفهم في قضية معقدة بالفعل.

مثال على ذلك: الدوبامين، وهو واحد من العديد من المواد الكيميائية (وتسمى أيضًا الناقلات العصبية) الموجودة في الدماغ البشري، حيث يلعب العديد من الأدوار. ومع ذلك، إذا كنت ستتبع فقط السياق الذي يُذكر فيه الدوبامين في الكثير من الثقافة الحديثة، فقد تستنتج أن لديه وظيفة أساسية واحدة فقط ومحددة للغاية في الدماغ البشري، وهي إنتاج السعادة والمتعة.

"إليك كيفية تعزيز مستويات الدوبامين لديك"؛ "نصائح بسيطة لتحفيز تدفق الدوبامين"؛ "الاتجاه الجديد لصيام الدوبامين"؛ "هذا [موقع الويب/التطبيق/الجهاز/النشاط] مقنع لأنه يتلاعب بنظام الدوبامين لديك": هذه مجرد أمثلة قليلة من القصص الإخبارية والمدونات عبر الإنترنت، من بين عشرات الآلاف. الرسالة الشاملة من مثل هذه المقالات متسقة وواضحة: كلما زاد عدد الدوبامين في دماغك، زادت المتعة التي تشعر بها، وأصبحت أكثر سعادة.

لكي نكون منصفين، ليس أمرًا سيئًا بأي حال من الأحوال أن يكون الناس أكثر وعيًا بالعمل البيولوجي لأدمغتهم، والدوبامين هو بالفعل عنصر أساسي في علم الأعصاب لكيفية شعورنا بالسعادة.

إن قدرتنا على تجربة المتعة، كما هو الحال في الإحساس الأساسي بشيء ممتع أو "لطيف"، هي نتاج ما يعرف باسم "مسار المكافأة"، وهو دائرة صغيرة ولكنها مهمة توجد في أعماق الدماغ. كما قد تظن، فإن الدوبامين هو الناقل العصبي الرئيسي المشارك في وظيفة مسار المكافأة. ولهذا السبب يطلق عليه غالبًا مسار مكافأة الدوبامين. لذا، إذا كان نشاط الدوبامين في الدماغ يساهم بشكل حيوي في الإحساس بالمتعة، والمتعة هي جانب رئيسي من جوانب السعادة، فمن المنطقي أن تعزيز مستويات الدوبامين لديك سيجعلك أكثر سعادة، أليس كذلك؟

هناك منطق سطحي لهذه النظرة للأشياء. ولسوء الحظ، فإن المنطق لا يصمد في ظل التعقيد المرعب والترابط بين أدمغتنا. هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن مجرد "زيادة الدوبامين" لا يؤدي تلقائيًا إلى السعادة. ويأتي ذلك مع أبحاث مرض باركنسون.3597 GettyI

مرض باركنسون هو مرض تنكس عصبي يحدث عندما تبدأ المادة السوداء، وهي منطقة من الدماغ المتوسط تشارك في تنسيق الحركة (من بين أمور أخرى)، في الموت. على غرار مسار المكافأة، يلعب الدوبامين أيضًا دورًا مهمًا في وظيفة المادة السوداء. العلاج المفضل لمرض باركنسون هو عقار ليفودوبا، الذي يخفي أعراض مرض باركنسون عن طريق زيادة توافر الدوبامين في الدماغ، وبالتالي تعويض فقدان المادة السوداء.

في الأساس، يزيد الليفودوبا بشكل مباشر من مستويات الدوبامين. إذا كانت زيادة مستويات الدوبامين في الدماغ تؤدي تلقائيًا إلى المتعة والسعادة، فقد يكون ليفودوبا أحد أكثر الأدوية الترفيهية شعبية في التاريخ. ولكن هذا ليس هو الحال على الإطلاق. إن تناول الليفودوبا أمر غير سار في الواقع، ولهذا السبب لا ترى مرضى باركنسون في حالة من النشوة المستمرة

ومن الواضح أن الزيادة العامة في مستويات الدوبامين لا تؤدي إلى زيادة مقابلة في السعادة. إذا كان هناك أي شيء، فإنه يجعلك تشعر بالسوء. هذا لا يعني أن الدوبامين لا يقدم مساهمة بيولوجية مهمة في قدرتنا على الشعور بالسعادة؛ لأن هناك ما هو أكثر من ذلك .  يمكنك القول إن الدوبامين يمثل السعادة مثل البنزين بالنسبة للسيارة؛ إنه جزء لا يتجزأ من إنجاح الأمر،ولكن إذا قمت بملء سيارتك بالبنزين حرفيًا، إلى الحد الذي يتسرب منه من النوافذ، فلن يساعد ذلك أحداً.

الحقيقة هي أن عمل مسار المكافأة، وبالتالي تجربتنا للسعادة والمتعة، يتم تحديده من خلال عوامل عديدة  أكثر من مجرد مقدار الدوبامين الذي يتدفق في أدمغتنا. نعم، الدوبامين ضروري لعمل مسار المكافأة، ولكن الكثير من المواد الكيميائية الأخرى تشارك بطرق مختلفة.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الإندورفين، المواد الأفيونية الطبيعية في الدماغ. تتفاعل فئة الأدوية الأفيونية (الهيروين والمورفين وما إلى ذلك) مع المستقبلات الأفيونية في الدماغ والجهاز العصبي التي يرتبط بها الإندورفين. يعمل كل من الإندورفين والأدوية المرتبطة به التي تحاكيه، على تحفيز النشاط في مسار المكافأة، مما يؤدي إلى الشعور بالنشوة. وهذا هو السبب في أن الأدوية التي تحاكي الإندورفين هي مخدرات قوية. مرة أخرى، القصة معقدة. بدلًا من إحداث المتعة أو "جعلنا سعداء"، يبدو أن الدور البيولوجي الأساسي للإندورفين (والمخدرات الأفيونية) يتعلق أكثر بمنع الألم أو السيطرة عليه.

الأوكسيتوسين، وهو ببتيد عصبي، مادة كيميائية أخرى في الدماغ تُذكر غالبًا في سياق السعادة. يُعرف الأوكسيتوسين باسم "هرمون الاحتضان" أو "هرمون الحب"، ويحظى بالاهتمام للدور القوي الذي يلعبه في العلاقات الشخصية والترابط البشري. يتم إطلاقه استجابة للتجارب الاجتماعية الإيجابية ويعمل مباشرة على الخلايا العصبية في مسار المكافأة، مما يساهم في شعورنا بالرضا تجاه التفاعل مع الآخرين بطرق مفيدة. تكون مستويات الأوكسيتوسين مرتفعة بشكل خاص أثناء النشاط الجنسي أو الإنجابي، مما يساعد على تفسير لماذا يمكن أن يكون عشاقنا وذريتنا مصدرًا قويًا للسعادة.

ومع ذلك، فإن الأوكسيتوسين لا يزيد فقط من اللقاءات العاطفية الإيجابية. يبدو أنه يضخم كل اللقاءات العاطفية، حتى السلبية منها. وهنا أيضاً يتطلب الأمر فارقاً بسيطاً، ومن الواضح أن مصطلح "المادة الكيميائية المنتجة للسعادة" ليس الحقيقة كاملة.

السيروتونين هو مادة كيميائية أخرى في الدماغ تشارك في السعادة. وهو الناقل العصبي الذي تستهدفه مضادات الاكتئاب الحديثة الأكثر شيوعًا. فهل من المؤكد أنها تلعب دورًا مهمًا في جعلنا أكثر سعادة؟ ليس تماما. إنه أكثر من مجرد مُعدِّل للمزاج والعاطفة. ويعني وجوده أن الأجهزة العصبية التي تتحكم في الحالة المزاجية يمكنها القيام بعملها بشكل أفضل.إنه يسهل على أدمغتنا تجربة السعادة والمتعة. إذا كان تحقيق السعادة هو هدف لعبة فيديو، فلن يكون السيروتونين هو البطل، بل سيكون الرجل العجوز الذليل الذي يوزع جرعات الشفاء وشكا من القوة. مفيدة بالتأكيد، ولكن بشكل غير مباشر.

هناك المزيد من المواد الكيميائية في الدماغ، الأقل شهرة (ولكنها أكثر أهمية من الناحية الفنية في الدماغ)، والتي تلعب أيضًا دورًا مهمًا في تجربتنا للسعادة.على سبيل المثال، نادرًا ما يتم ذكر الغلوتامات في المقالات الصحية العصرية، على الرغم من أنها الناقل العصبي الأكثر وفرة وأهمية في دماغ الثدييات. ربما هذا هو السبب في أنها لا تحظى باهتمام كبير من وسائل الإعلام - فهي تفعل الكثير بحيث لا يتم تكليفها بوظيفة محددة. ومع ذلك، إحدى هذه الوظائف هي تنشيط مسار المكافأة. في الواقع، يحفز عقار الكيتامين أجزاء من نظام الغلوتامات، وهو ما قد يفسر سبب فعاليته الشديدة ومخدر آخر شائع. يدرس الباحثون أيضًا إمكانات الكيتامين كمضاد للاكتئاب ويشيرون إلى دور الغلوتامات في السعادة.

أخيرًا وليس آخرًا، ضع في اعتبارك الدور المهم في السعادة الذي يلعبه GABA (حمض جاما أمينوبوتيريك)، وهو الناقل العصبي المثبط الأكثر شيوعًا وفعالية في الدماغ البشري. في حين أن غالبية الناقلات العصبية الأخرى مثيرة، مما يعني أنها تسبب المزيد من النشاط في الخلايا العصبية التي تتفاعل معها، فإن GABA يفعل العكس - فهو يثبط أو يوقف النشاط في الخلايا العصبية التي يتلامس معها. GABA يشبه إشارة المرور الحمراء. إذا كان هناك أي شيء، فهذا يجعل الأمر أكثر أهمية؛ تخيل نظام المرور في المدينة الذي يحتوي على أضواء خضراء فقط.

لقد اقترحت حتى الآن أن المتعة، من خلال تنشيط مسار المكافأة، هي جزء أساسي من السعادة، لذلك قد يبدو غريبًا أن تلعب مادة GABA، وهي مادة كيميائية مثبطة، دورًا. لكن ضع في اعتبارك أن السعادة يمكن أن تكون ناجمة عن غياب التوتر، أو المشاعر السلبية الأخرى، مما يجعلنا أكثر سعادة بشكل افتراضي. في الواقع، من بين العديد من المناطق العصبية التي "يغلقها" GABA هي تلك المرتبطة بالتوتر والمشاعر السلبية. علاوة على ذلك، يُعتقد أن فقدان نشاط GABA من مناطق الدماغ المرتبطة بالعاطفة، مثل اللوزة الدماغية، يساهم في عدد من اضطرابات القلق. تعمل البنزوديازيبينات، مثل الديازيبام (التي يتم تسويقها في الأصل باسم الفاليوم)، في المقام الأول عن طريق تحفيز نشاط GABA. وينطبق الشيء نفسه على أسلافهما المتشابهين كيميائيًا، ولكن الأكثر فعالية، الباربيتورات. حقيقة أن كل من البنزوديازيبينات والباربيتورات تجعلنا نشعر بالمتعة وتسبب الإدمان بشدة (خاصة الأخير) تشير بقوة إلى أن GABA، على الرغم من إغلاق الأشياء، يمكنه بسهولة زيادة سعادتنا.

أنا لا أدعى أن هذه المواد الكيميائية المختلفة في الدماغ، وخاصة الدوبامين، لا تلعب أدوارًا مهمة، أو حتى حاسمة، في تجربتنا للسعادة. من الواضح أنها تفعل ذلك. وربما يكون من الجيد أن تصبح رؤيتنا الثقافية للسعادة والرفاهية تدريجيًا أكثر علمية بطبيعتها، وليست روحانية أو أيديولوجية أو أي شيء آخر أقل واقعية، وبالتالي أكثر انفتاحًا على التفسير (والمعالجة المفيدة).

ولكن هناك أيضًا الحكمة القديمة القائلة بأن القليل من المعرفة أمر خطير. ما يقلقني ليس عدد الأشخاص الذين يصرون على أن الدوبامين عامل مهم في كيفية عمل السعادة في أدمغتنا. ما يقلقني أكثر هو الإيحاء المتكرر، بدرجات متفاوتة من الحدة، بأنه العامل الوحيد المعني؛ إن الدوبامين بالنسبة للسعادة هو بمثابة تدفق الماء الساخن للاستحمام.

وكما آمل أن أكون قد أوضحت، فإن هذا ليس هو الحال ببساطة. والإصرار على خلاف ذلك، سواء بقصد أو بغير قصد، لا طائل منه. والأمر هو أنه حتى كل ما قلته هنا، على الرغم من تعقيده وارتباكه كما قد يبدو في بعض الأحيان، هو مجرد جانب واحد من صورة أكبر بكثير. من المفيد أكثر أن ننظر إلى النظام بأكمله، بغض النظر عن مدى رغبتنا في تقسيمه إلى مكونات فردية.

ما أقصده هو أن تجربة السعادة هي جزء لا يتجزأ من صحتنا العقلية ورفاهيتنا، واختزالها في مسألة مواد كيميائية أساسية - وخاصة مادة واحدة فقط - هو أمر غير دقيق ومفرط في الاختزال. كما أنه يخاطر بتطبيق نفس المنطق على جوانب أخرى من النفس البشرية. عندما ننظر إلى الظروف المعقدة من حيث التفاعلات الكيميائية الأساسية، فإننا نجازف بتجاهل العوامل النفسية والاجتماعية المعقدة التي تحدد رفاهية الشخص.

لقد بُذل الكثير من الوقت والجهد للابتعاد عن هذا النهج الاختزالي في التعامل مع الصحة العقلية. إذا عدنا إليها، فلن يكون أحد سعيدًا. بغض النظر عن كمية الدوبامين الموجودة في دماغهم.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: دين بورنيت/ Dean Burnett : عالم أعصاب ومؤلف. تشمل كتبه "الدماغ الأبله" (2016)، و"الدماغ السعيد" (2018)، و"المنطق النفسي: لماذا تسوء الصحة العقلية، وكيف نفهمها" (2021). يعيش في كارديف، ويلز.

سألني أحد الأصدقاء، ما هي أهم وأبرز سمات وخصائص الدولة الشموليّة؟. ومن خلال متابعتنا لسياسات الدولة الشموليّة/ الكليانيّة في دول الاستبداد التي سادت في أوربا، والتي مثل نهجها الشمولي/ الكلياني الملك "لويس الخامس عشر" في فرنسا بمقولته الشهيرة سيئة الصيت: (أنا الدولة والدولة أنا)، أو متابعتنا في دول العالم الثالث التي سارت على هذا النهج، ولم تزل قائمة في العديد من دولها، تبين معنا أن أهم السمات والخائص التي تمتاز بها هذه الدولة المستبدة القهريّة هي التالي:

أولاً: هي دولة جاءت من خارج إرادة الشعب، أي لم يشكلها الشعب بعقد اجتماعي، وبالتالي هي دولة في سياساتها وآليّة عملها غير شرعيّة، فالشعب ليس له أي دور في اختيار قادتها وتحديد طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي. وبالتالي، هي دولة جاءت الطبقة الحاكمة إلى سدّة الحكم فيها بالقوة، أو بالغلبة، وهذه القوى الحاكمة غير الشرعيّة الخارجة عن إرادة الشعب وعقده الاجتماعي، هي من يحدد سياسات الدولة وشكل حكمها وآليّة الحكم فيها أيضاً.

ثانياً: هي دولة غالباً ما يسيطر على دفة الحكم فيها، قوى اجتماعيّة لها مرجعيات تقليديّة، عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة، وبعضها لا يمتلك أي دستور ينظم حياة المجتمع داخل الدولة، وبعضها لها دساتير مشبعة بمفردات الحريّة والعدالة والمساوة، ولكن في الواقع كل ما يرد في هذه الدساتير ليس أكثر من شعارات لذر الرماد في العيون، فالدولة هنا لا تعمل في سياقها العام لمصلحة الشعب بقدر ما تعمل لمصلحة القوى الحاكمة وحاشيتها وأسرها ومرجعياتها التقليديّة. وإن عملت للشعب، فهي تعمل من منطلق شعبوي، أي تريد من عملها إرضاء الناس للبقاء في السلطة، وليس من منطلق المسؤوليّة  المنطلقة من المبادئ القانونيّة والدستوريّة.

ثالثاً: هي دولة غالباً ما تحتمي فيها القوى الحاكمة ذات المرجعيات التقليديّة بحزب حاكم، يطرح شعارات فضفاضة في الحريّة والعدالة والمساواة والوطنيّة والقوميّة، لا ترتكز على بنية أيديولوجية ثوريّة ومنهج فكري عقلاني نقدي في التفكير والممارسة، لذلك تتخذ هذه القوى الحاكمة هذه  الشعارات الثوريّة ذات الطابع والوطني أو القومي واجهة لسياسات براغماتيّة، وعندما تجد أي معارضة لسياساتها من قبل الشعب، أو حتى من  ينتقد سياسات الدولة الداخليّة والخارجية البعيدة كل البعد عن جوهر وروح هذه الشعارات، نجدها تعمل على مواجهة وقمع كل من يعارضها تحت ذريعة عدم إيمان هذه المعارضة بهذه الشعارات والعمل على عرقلة تطبيقها،. هذا في الوقت الذي تُحوّل فيه القوى الحاكمة ذات الطبيعة الحزبيّة أحزابها ومنظماتها إلى حزام ناقل للسلطة لا أكثر، أي العمل على تنفيذ ما تريده منهم القوى الحاكمة حتى لو تعارض ذلك مع مبادئ وشعارات هذه الأحزاب والمنظمات أو الاتحادات. وبناءً على ذلك تفقد الأحزاب التي يحكم باسمها دورها الحقيقي في قيادة الدولة والمجتمع.

رابعاً: هي دولة يدعي قادتها الحقيقيون أو المهيمنون على السلطة بالقوة، أنها دولة قانون ومؤسسات ومواطنة. ولكن في التطبيق العملي هي بعيد كل البعد عن هذه الادعاءات، فالدولة تحكم في الواقع من قبل الطبقة الحاكمة ومن يواليها من مرجعياتها التقليديّة، ومن الانتهازيين والمصفقين الذين يخدمونها خدمة لمصالحهم الأنانيّة الضيقة أيضاً، فالقانون بكل مستوياته يخرق دائما من قبل القوى الحاكمة، والاقتصاد يصبح بيد القوى الحاكمة وحاشيتها، والسياسة تصب دائما في كيفيّة حفاظ القوى الحاكمة على السلطة بيدها، وفي الثقافة تعمل القوى الحاكمة على إقصاء المثقفين العقلانيين التنويرين وكل ما يساعد على خلق بنية فكريّة عقلانيّة تنويريّة بين مكونات الدولة والمجتمع، في الوقت الذي تدفع فيه إلى الواجهة رجال دين ممن يشتغلون على الفكر الغيبي الامتثالي الذي يبارك للسلطة حكمها وظلمها وتجهيلها وقهرها للرعيّة، يساندها شرائع من مدعي الثقافة المطبلين والمزمرين للسلطان، الذين يعملون بدورهم على تبرير كل ما يصدر عن الحاكم لإقناع الشعب بما يُطرح والأخذ به كحقائق لا يأتيها الباطل، والهدف طبعاً هو  تهجين الشعب ومسح عقول أبنائه وإقناعهم بأن كل ما يصدر عن السلطة الحاكمة، من سياسات وتشريعات وغيرها هي عقلانيّة وهدفها مصلحة الشعب.

خامسا: هي دولة في الحقيقة يعيش حكامها بواد وشعبها بواد، بل هي قوى حاكمة نتيجة فسادها وقمعها وظلمها للشعب، راحت تعيش حالة خوف من الشعب، وتعمل على الاكثار من الأجهزة الأمنيّة، هذا الأجهزة التي تحولت إلى فزاعة بل أداة قمع بيد السلطة الحاكمة، تسخرها لقمع كل من تسوّل له نفسه انتقاد السلطة وقياداتها وعملها وحتى فسادها، ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأجهزة الأمنيّة التي سبب قيامها كما تدعي القوى الحاكمة هي حماية الشعب من أعداء الداخل والخارج، هي ذاتها تخاف من الشعب كثيراً، وتقوم بوضع التحصينات والأسيجة والحراسة المشدّدة حول مقراتها. وعلى هذا يتحول دورها من أم المواطن إلى  نتشر سياسة الخوف والرعب والقمع، وهي السياسة الأكثر تأثيراً على الفرد والمجتمع فكراً وممارسة، وفي مثل هذه الحالة تغيب الحريات وكل ما يرافقها من إبداع، فالفن والأدب لم يعودا بخدمة الشعب بل بخدمة السلطة الحاكمة. والفكر الفلسفي والتفكير الحر، لم يعد له مكانه كفر يساهم في توعية الشعب والرقي به، بل هي تعمل على تسييد الفكر الجبري الاستسلامي، وكل فكر يغيب العقل والإرادة الإنسانيّة دينيّاً كان أم وضعيّاً.

سادساً: هي دولة نجد فيها من يساهم في إدارتها شخصيات من خارج مؤسسات الدولة، أي ليس لها أي صفة قانونيّة مكلفة بها بشكل رسمي وفق الدستور وأنظمة الدولة، وترى أن هذه الشخصيات من داخل البيت الحاكم أو من يواليه تصول وتجول في سياسات الدولة، حيث تقوم بتعين فلان في هذا الموقع، أو تخرج فلان منه، وتجتمع بهذه الشريحة الاجتماعيّة أو تلك وتعطي توجيهاتها وفق ما تريده هي تحت الادعاء بأن ما تقوم به هذه الشخصيات (غير الشرعيّة) هو لمصلحة الدولة والمجتمع. وهذا في الحقيقة ما يدل على غياب ما يسمى دولة المؤسسات والقانون والمواطنة، وفرض دولة الوصاية والمحسوبيات والزعامات والكينتونات السلطويّة.

سابعاً: هي دولة غنيمة في الحقيقة، حيث تجد أن أكبر المؤسسات الاقتصاديّة وذات الربحيّةّ العالية، بيد الطبقة الحاكمة وحاشيتها، أو من يمثلها في المواقع الاقتصاديّة داخل الدولة، وهذا ما يساهم في نهب ثروات البلاد وتحويلها إلى أرصدة في بنوك الخارج وحرمان الشعب منها، وزيادة إفقاره وتجويعه. وخلق حالة من التفاوت الطبقي الحاد والمخيف ما بين طبقة قليلة العدد من المسؤولين والموالين للبيت الحاكم، تملك حصة الفطير الكبرى من حيث مواقع المسؤوليّة والبعثات التعليميّة والسيطرة على المواقع الاقتصادية، وامتلاك القصور والسيارات الفارهة.. وغير ذلك، وطبقة هي الأوسع تعيش حالات من الفقر والجوع والحرمان وفقدان تكافؤ الفرص والكفاءة والجهل والتخلف والمرض.

ثامناً: هي دولة غائبة الوضوح عموماً في توجهات خطها السياسي والثقافي والاقتصادي، فهي لا تمثل لا الليبراليّة ولا الاشتراكيّة ولا أي خط سياسي أو اقتصادي أو ثقافية واضح المعالم، وهذا الشكل من عدم الوضوح يرافقه سياسات براغماتيّة، وأهم وسيلة لتبرير هذه السياسات والتغطية عليها، هي قيام القوى الحاكمة بتجهيل الشعب عن طريق المؤسسات الثقافيّة والتعليميّة والاعلاميّة والدينيّة، بحيث يعيش الشعب بكل مكوناته في حالة من الضياع لا يعرف ماذا يجري في بلاده وكيف تدار أمور هذه البلاد. أو بتعبير آخر هي دولة عصابة بعيد كل البعد في الواقع العملي عن مفهوم دولة القانون والمواطنة والمؤسسات.

تاسعاً: هي دولة عسكرة، أي يسيطر عليها العسكر، وأكثر من نصف ميزانيّة الدولة تذهب للعسكرة ودعمها، وخاصة الوحدات العسكريّة المكلفة بحماية القوى الحاكمة، أو الرجل الحاكم ذاته.

عاشراً: هي دولة تشتغل على عبادة الفرد (اللدنيّة)، حيث يحول هذا الفرد الحاكم إلى شخصيّة (صمدانيّة) هي الآمرة والناهية، وهي من يشكل الحكومة، ويقود الجيش والدولة والحزب أو العشيرة والقبيلة والطائفة، وكل من يأتي لمناصب الدولة والحزب يجب أن يكون مطلق الولاء للقائد، ويُسبح دائماً بحمده ويواليه ويخضع لإرادته، وعلى هذا الأساس يقوم هؤلاء الموالون المطيعون (المؤدبون جداً) بتبرير سياساته كلها دون اعتراض، وليس عندهم مشكلة أن يحولوا كل زوايا شوارع المدن وساحاتها وواجهات دوائرها ومؤسساتها وغرف المكاتب والقاعات العامة، إلى قاعات عرض لصور القائد (الصمداني) وبكل الأوضاع التي يظهر فيها أمام شعبه الذي يحبه بدوره ويضحي من أجله إذا اقتضت الحاجة. وعلى هذا التوجه نحو عبادة الفرد القائد، يظهر زيف كل من يقول أن هذه الدولة هي دولة مؤسسات، وقانون، ومواطنة، وتعدديّة، وتداول سلطة، فلا ديمقراطيّة ولا حريّة ولا عدالة ولا مساواة ولا دولة مواطنة.. وكل هذه ليست أكثر من شعارات تحددها الدساتير الموضوعة على الرف، والتي لم تعد تنطلي على الشعب، وكل من يدعي بها في الدولة الشموليّة هو يكذب على نفسه وعلى الشعب، بل لنقل هو يستغبي الشعب ويتاجر باسمه.

إن عبادة الفرد (اللدنيّة) أوصلت قادة هذه الدول إلى مرحلة راح يعمل فيها الحاكم الفرد وفق عقليّة الملك "لويس الخامس عشر" في فرنسا عندما خاطب البرلمان الفرنسي عام  1766  قائلاً: (في شخصي فقط تكمن السلطة العليا، ومن شخصي بالذات تستمد مجالسي وجودها وسلطتها، وإليّ فقط تعود السلطة التشريعيّة بلا شريك أو رقيب، وعني ينبثق النظام برمته.). وأمام هذه السلطة الشموليّة/ الكليانيّة، تفقد كل سلطات الدولة التي حددها الدستور دورها، فلم يعد للدستور والقانون هيبته، وعلى هذا الأساس تفقد الدولة أيضاً قدرتها على محاسبة الفاسد والمخرب، وهنا يعم الفساد ويستشري في كل مسامات حياة الدولة والمجتمع.. ولنقل هنا يفسد الملح وتضيع (الطاسة). وأمام فساد الملح وضيعان (الطاسة) ترتفع الأصوات تطالب القائد الفرد وحده أن يحل أمر هذه المفسدة التي لم تعد الدولة الشموليّة أن تستمر أصلاً بدونها.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة.

(كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية).. ايتيان دولا بويسي - كتاب مقالة في العبودية الطوعية

تعد ممارسات وتوجهات الخوف والخنوع والخضوع والطاعة العمياء المبنية على الخوف لدى الجماهير مسارات حالكة تؤدي الى قبو العبودية المظلم، وهي جسور لعبور الطغاة نحو قلعة العبودية، وركائز أساسية لبناء الدكتاتوريات التي تتسلط على الشعوب الخانعة والخاضعة والطّيعة، ليوغل الطغاة في استعبادها بشتى أنواع الظلم والجور والتعسف.

يرى الفيلسوف سقراط (469-399  ق.م)  في الخوف بأنه يخلق الطاعة العمياء في نفوس الجماهير ومن ثم تسهل قيادتها وعبوديتها، في حين يقول ايتيان دولا بويسي ( 1530-1563م) الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير في مقالة له صدرت لاحقاً في كتاب حمل عنوان (العبودية الطوعية): " كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية ". كتب "لا بويسي" هذه المقالة، في وقت كانت فيه فرنسا تمر بمرحلة عصيبة تميزت بالظلم والإستبداد، هاجم "لا بويسي" في هذه المقالة النظام الملكي المطلق والطغيان بوجهٍ عام، حيث أكّد أن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاهم إياها، وقد تم التخلي عن الحرية لأول مرة من قبل الشعب وبقيت بعد ذلك مُتخلى عنها، ففضل الشعب الرق على الحرية، والرضوخ إلى الهيمنة والإنصياع. (إيتيان دو لا بويسي. ويكيبيديا)

ولعل الشعوب الخائفة تبقى أسيرة في ظل العبودية يعيش أبنائها كالرقيق ونسائها كالإماء، تجلدهم سياط الطغاة والمستبدين، لتُركن تلك الشعوب في ما بعد على هامش التأريخ.

الخوف هو منبع العبوديّة لدى هيجل، في حين يراه نيتشه أساس أخلاق العبيد، وهو أم الرذائل عند أغلب فلاسفة اليونان، وكانت غاية المعرفة عند أبيقور تحرير النفس من الخوف، وهي نفس المفهوم لدى سبينوزا في حكم الدولة، وبشكل عام،انتقد اغلب الفلسفة والمفكرين الخوف واعتبروه عدواً رئيسياً، بدءاً من سقراط، وأبيقور، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وإميل شارتييه وغيرهم،إذ وجدوا أن الخوف يعيق العقل، ويقّيد الإرادة، ويقتل الحرية، بل ويثلم الإنسانية، وهكذا فإنّ الخوف والعبودية متلازمان يكمل أحدهما الآخر، فإذا لم تغادر الشعوب الخوف فإنها ستدخل لا محالة في قبو العبودية المظلم.

كثيرون يقللون من أهمية "الكلمة" التي تعّبر عن التجرد من الخوف، رغم أن لها تأثير كبير في توعية الجمهور وتنظيم إعدادات المجتمع من أجل تقويم مسار بوصلته نحو الاتجاهات الصحيحة، فقد كان وقعها عظيما على مّر العصور، فمنذ أن خرج الإمام الحسين(ع) ليقول كلمة الحق بوجه طغاة بني أمية، أصبحت مقولته" إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة …" ترددها الملايين وتعتبرها نهجهاً سليماً لمبادئ الحرية والتحرر من الخوف ومن ثم عدم الرضوخ للعبودية.

في عصرنا الحديث، كان تأثير روبسبير المحامي وخطيب الثورة الفرنسية كبيراً في تأجيج روح الثورة الفرنسية من خلال الخطب التي غّيرت المسارات في فرنسا، فضلاً عن دول كبرى نحو الحرية والتحرر من الظلم والعبودية، وفي فترة لاحقة، ومع بداية النزعة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لم تكن مصادفة أن تتفق بدايات نهاية العبودية الغربية زمنياً مع مؤتمر برلين 1885م، الذي أقر القضاء على تجارة الرقيق والعبودية. مع ذلك، فقد تّحولت الحركة المناهضة للعبودية إلى أداة لتبرير الهيمنة وظهور النزعة الإمبريالية الجديدة.

انتقل المجتمع في العراق مباشرةً من العيش في ظل جمهورية الخوف الأولى (1968-2003)، التي كتب عنها كنعان مكية كتابه الشهير "جمهورية الخوف" عام 1989، إلى جمهورية الخوف الثانية (2003- ؟؟؟)، بعد أن عاش فترات زمنية طويلة تحت نير العبودية والخوف إبان نحو أربعة قرون من الحكم العثماني وما أعقبه من إحتلال بريطاني. ولم يقم بثورة سوى ثورة العشرين ضد الانكليز، وكانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف التي سبقتها إنتفاضة عام 2018، وفي عام 1991 حصلت انتفاضة شعبية بعد حرب الكويت، أما بقية التغييرات في أنظمة الحكم منذ 1958-2003، فقد كانت عبارة عن انقلابات داخلية أو خارجية ولا يمكن تسميتها ثورات لأن رجالات من العسكر هم من نفذها دون مشاركة شعبية من الجماهير المضطهدة (1958-1963-1968). أما تغيير النظام عام 2003، فقد نفذته الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها،عندما كان العراقيون ينتظرون المُخّلص، ويمكن تسميته بـــ "الانقلاب الخارجي".

ولابد من الإشارة إلى احتجاجات وتظاهرات 2019 الشعبية، رغم أنها لم تحدث تغييرات سياسية كبيرة شاملة، سوى تحقيقها لمطالب ليست ذات شأنٍ كبير، مع أن أكثر من 800 متظاهراً ومحتجاً قُتلوا فيها.

لذا نجد أن متلازمة الخوف والعبودية طاغية في أغلب فئات المجتمع العراقي، فهي تمتلك طاعة عمياء لمن يمسك بالسلطة وتعده قائداً أوحداً، ولكن ما تلبث أن تتخلى عنه حال سقوطه بل وتشارك في قتله والتمثيل بجثته إن وقع بين أيديها (كما حدث مع الملك وعائلته عام 1958، وعبد الكريم قاسم عام 1963).      

خلاصة القول : رغم أن هنالك مقولة تشير إلى " أن العبيد يتلذذون بطعم العبودية كما يتلذذ الأحرار بطعم الحرية" !! ولكن متى ما تخلص المجتمع - الذي جثمت على صدره صخرة العبودية - من الخوف والخنوع والخضوع لمن يمسك بزمام السلطة من الحكام الطغاة، حينها تستطيع أن ترتقي قمم الجبال وتهجر الوديان لتخرج من أنفاق الظلام الحالك الى فضاءات شمس الحرية المشرقة فتنعم بالسلام والأمان والكرامة المنشودة.

***

د. وليد كاصد الزيدي

 

جلست امام حاسوبي، اصغي باهتمام الى حوارية على الزووم بعنوان “ستراتيجيات الجهل والتجهيل” التي قدمها الدكتور نجم حيدر والدكتور حميد الخاقاني على منبر حوار التنوير. كل كلمة القيت اثارت فيّ شعلة من التساؤل حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل. كيف يمكن لمؤسسة تعد من اهم ركائز تقدم المجتمع ونشر المعرفة ان تصبح اداةً لنشر الظلام؟

من خلال الحوار، اصبح واضحا ان التاثيرات التاريخية والسياسية للتحكم في الافكار قد اسهمت في بناء استراتيجيات محكمة للحفاظ على سلطة الانظمة القمعية والفكر المنغلق. منذ بزوغ الحضارة وحتى يومنا هذا، نجحت هذه الانظمة في نشر الجهل وترسيخه، مما جعلها تتمكن من السيطرة على عقول الناس وتشكيل تفكيرهم. ومع مرور الوقت، تحول الجهل والتجهيل الى "علم" استغل لتحويل سلوكيات الافراد والجماعات. هذا الامر اثر سلبا على التفكير الحر والتقدم العلمي والحضاري، وادى الى خمول وانكسار في المجتمعات التي تحكمها تلك الانظمة المستبدة.

تجربتي الشخصية في التعليم اكدت صحة ما يقال: مناهج دراسية قديمة، تركيز على الحفظ والتلقين، بيئة لا تشجع على التفكير الحر… كلها عوامل تساهم في نشر الجهل والتجهيل. مع كلّ فكرة جديدة طرحت في الحوارية، ازدادت رغبتي في الغوص في هذا الموضوع المثير. ساقتني رغبة غامضة لاكتشاف خبايا عتمة الجهل ولافهم كيف يتم استغلال التعليم لخدمة أهداف سياسية أو دينية ضيقة وجعله أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ بدلاً من نشر المعرفة.

في هذه المقالة، ساشارككم بعضا مما توصلت اليه من معلومات وافكار حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل، وسأقدم بعض الحلول لتغيير هذا الواقع.

اضعاف التعليم

اضعاف التعليم هو مشكلة تواجه العديد من الدول، وتؤثر سلبا على مستوى التعليم وجودته. فالتعليم هو الاساس الذي يبنى عليه مستقبل الاجيال القادمة، ويمكنهم من المساهمة في بناء مجتمعات متقدمة ومزدهرة. لكن، للاسف، تعاني منظومة التعليم في عالمنا العربي بوجه الخصوص من ضعف وتراجع، بسبب عدة عوامل، منها:

اولا: تسييس التعليم: يعد التعليم وسيلة لنشر المعرفة والثقافة والقيم بين الاجيال، ولتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، ولتعزيز التواصل والتفاهم بين الشعوب. لكن، للاسف، تستغل منظومة التعليم في العديد من الدول العربية لنشر افكار وايديولوجيات معينة، وتساهم في تعزيز التعصب الديني والطائفي وتقويض قيم التسامح والقبول بالآخر، وخلق جيل مغلق على نفسه، غير قادر على التفكير النقدي وتقييم المعلومات، مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي ويغذي الصراعات والتوترات، ولتخدم مصالح الحاكمين او الجماعات المتطرفة، بدلا من ان تخدم مصالح المجتمع. فمن خلال التلاعب بالمناهج التعليمية، وتلقين أفكار محددة دون تفكير نقدي، وتكميم حرية التعبير، وتحويل المعلمين إلى دعاة لأيديولوجية معينة، يمكن تحويل التعليم إلى أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ. ويصبح التعليم حينها بمثابة سكين في يد المتطرفين، تستخدم لبث الكراهية والانقسام، وتعزيز التعصب، وخلق جيل مغلق على نفسه يعاني من حصارا ذاتيا، غير قادر على التفكير بحرية وتقييم المعلومات بشكل موضوعي.

وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان الدول العربية وبدرجات مختلفة تفرض قيودا على حرية التعليم، وتمنع تدريس بعض المواضيع او الاراء التي تتعارض مع النظام السياسي او الديني السائد. هذا التسييس ينعكس على واقع التعليم، حيث نجد ان العديد من المناهج التعليمية تفتقر الى الحيادية والتنوع، وان العديد من المواد الدراسية المهمة، مثل العلوم الانسانية والفلسفة، تُهمش او تُحرف، وان العديد من الطلاب يتعرضون للغسيل العقلي او الارهاب الفكري.

ثانيا: اهمال تمويل التعليم: يعد التمويل احد العناصر الاساسية لضمان جودة التعليم، فهو يمّكن من توفير البنية التحتية اللازمة للمدارس والجامعات، وتجهيزها بالادوات والمواد التعليمية الحديثة، وتحسين ظروف العمل والتعلم للمعلمين والطلاب. لكن، للاسف، تخصص العديد من الحكومات العربية نسبة ضئيلة من موازناتها للتعليم، مقارنة بالدول الاخرى. هذا الانفاق الضعيف ينعكس على واقع التعليم في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من المدارس والجامعات تفتقر الى البنية التحتية الكافية، وان العديد من المعلمين والاساتذة يعانون من رواتب متدنية، والعديد من الطلاب يفتقرون الى المواد والمصادر التعليمية الكافية. ولعل اهم مظاهر افتقار الطلاب الى المواد والمصادر التعليمية هي نقص الكتب والمصادر وتهالك المباني المدرسية ونقص الوصول الى الانترنت ونقص المهارات الرقمية وضعف استخدام التكنولوجيا وعدم وجود برامج تعليمية تفاعلية.

ثالثا: تركيز التعليم على الحفظ والتلقين: يُعد التعليم وسيلة لتنمية مهارات التفكير والتحليل والحلول لدى الطلاب، ولتمكينهم من مواكبة التطورات المتسارعة في العالم. لكن، للاسف، تركز العديد من انظمة التعليم العربية على الحفظ والتلقين بدلا من تنمية هذه المهارات. معظم الدول العربية تستخدم طرق تعليمية تقليدية، تعتمد على الحفظ والاملاء والاختبارات الموحدة، بينما تستخدم قسم قليل منها فقط طرق تعليمية حديثة، تعتمد على التفاعل والتعلم النشط والتقييم المستمر. هذا التركيز على الحفظ ينعكس على واقع التعليم ، حيث نجد ان العديد من الطلاب يفتقرون الى القدرة على التفكير والتحليل، وان العديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات اللازمة لسوق العمل. ومن المظاهر التي تدل على توجه التعليم نحو الحفظ والتلقين التركيز على المعلم كمصدر اساسي للمعلومات، والاعتماد على الامتحانات كأداة رئيسية للتقييم، وقلة التركيز على مهارات التواصل والتفكير النقدي والتعلم التفاعلي، والتركيز على المناهج الدراسية التقليدية، وقلة استخدام التكنولوجيا في التعليم.

رابعا: التضيق على حرية البحث العلمي: يُعد التضييق على حرية البحث العلمي ظاهرة مقلقة تهدد تقدم المجتمعات العربية، وتعيق مسيرتها نحو التطور والازدهار. وتتخذ هذه الظاهرة اشكالا مختلفة، مثل ملاحقة الباحثين، واغلاق مراكز البحث العلمي، ومنع نشر الابحاث العلمية، والتضييق على تمويلها، وفرض رقابة عليها. وتؤدي هذه الممارسات الى نتائج كارثية، منها اعاقة تقدم العلم والمعرفة، وهجرة العقول، وخلق جو من الخوف والرهبة بين الباحثين، وانتشار الفساد في مجال البحث العلمي. وتؤدي هذه النتائج بدورها الى تفاقم مشكلات المجتمع، وتعيق قدرته على التطور والازدهار.

الاثار السلبية لاضعاف التعليم

يؤدي اضعاف التعليم الى العديد من الاثار السلبية على المجتمع، منها:

* ارتفاع معدلات الامية والامية المقنعة والجهل: مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي في المجتمع. فالعديد من الناس لا يحصلون على التعليم الاساسي او العالي، مما يجعلهم غير قادرين على قراءة وكتابة وحساب، او على اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة للتعامل مع العالم الحديث. وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان متوسط معدل الامية في الدول العربية هو 25.6%، بينما هو 6.2% في الدول الاوروبية. هذا الارتفاع في الامية والجهل ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الفقر والمرض والاستغلال. اما الامية المقنعة فهي خطر كبير يهدد التطور والنمو لما تمثله من عدم القدرة على استخدام المهارات الأساسية للقراءة والكتابة والرياضيات بشكل فعّال في الحياة اليومية. هناك انواع كثيرة من الامية منها الثقافية والمالية والعددية والاحصائية والوظيفية والعقلية والجدلية. لكن الامية المقنعة تمثل أخطر أنواع الأمية وأكثرها تدميرا. لان الامي المقنع بالرغم من كونه "متعلم"، لا يعرف أنه لا يعرف. إنها وباء متنام، تتكاثر في مجتمعنا.

* انتشار البطالة: بسبب عدم تاهيل خريجي التعليم لسوق العمل. فالعديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات العملية والتقنية واللغوية التي تتطلبها الوظائف المتاحة، مما يجعلهم عاطلين عن العمل او يضطرون الى العمل في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم. يبلغ متوسط معدل البطالة في الدول العربية في يومنا هذا 15.6%، مقارنة ب 5.4% في الدول الاوروبية.

* تراجع الاخلاق والقيم: بسبب غياب التنشئة السليمة للطلاب. فالتعليم ليس مجرد نقل المعرفة والمهارات، بل هو ايضا تربية الطلاب على الاخلاق والقيم الانسانية، مثل العدل والحرية والمساواة والتسامح والتعاون والنزاهة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من المناهج التعليمية في العالم العربي الى هذا الجانب التربوي، مما يجعل الطلاب ينشئون على قيم سلبية، مثل الطائفية والتعصب والعنف والفساد. يبدو ان 42% من الدول العربية تفتقر الى تعليم للمواطنة والحقوق الانسانية، بينما تفتقر 58% الى تعليم للتنوع الثقافي والحوار بين الحضارات. هذا التراجع في الاخلاق والقيم ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الانقسام والصراع والفساد.

* انتشار التطرف والعنف: بسبب غياب الفكر النقدي لدى الشباب. فالتعليم هو وسيلة لتنمية الفكر النقدي والمنطقي لدى الطلاب، ولتمكينهم من التمييز بين الحق والباطل، وبين الواقع والخيال، وبين العلم والخرافة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من انظمة التعليم العربية الى هذا الجانب التفكيري، مما يجعل الطلاب يقبلون على الافكار والايديولوجيات المتطرفة والعنيفة، التي تستغل جهلهم وضعفهم وغضبهم. وينعكس انتشار التطرف والعنف على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من البلدان تعاني من الحروب والنزاعات والتدخلات الخارجية.

* انتشار الخرافات والشعوذة: تنتشر ثقافة الخرافات والشعوذة من خلال قنوات متعددة، تشمل البرامج التلفزيونية التي تقدم محتوى مضللا يروج للافكار غير العلمية، وربط الاحداث الطبيعية بظواهر غيبية. كما تنتشر على الانترنت مواقع الكترونية تروج للافكار غير العلمية وتقدم معلومات مضللة حول مواضيع مثل الطب البديل والتنجيم وقراءة الطالع والسحر والشعوذة وتفسير الاحلام وقراءة الكف. ويروج بعض رجال الدين لافكار متطرفة ويحرّمون التفكير النقدي ويشجعون على الاعتماد على الخرافات والشعوذة بدلا من العلم. ثقافة الخرافات والشعوذة تعيق التقدم العلمي وتؤدي الى انتشار الافكار المتطرفة وتهدد استقرار المجتمعات. كما تضعف التفكير النقدي وتؤدي الى الاعتماد على الافكار المسبقة وتعيق قدرة الانسان على تحليل المعلومات بشكل عقلاني.

اخيرا، في هذه المقالة اظهرنا أن التعليم، بينما يفترض به ان يكون شعلة تنير دروب الجهل، يمكن ن يتحول الى سلاح يستخدم لنشر الظلام والتجهيل. فضعف منظومة التعليم في العديد من دول العالم العربي، الناتج عن عوامل سياسية واقتصادية وثقافية، ادى إلى تفاقم مشكلات الجهل والأمية والبطالة والتطرف.

ولكن، لا يزال الأمل قائماً

مع تضافر الجهود من الجميع لتحقيق الأهداف العليا، يمكننا إعادة بناء منظومة تعليمية قوية قائمة على العلم والمعرفة والتفكير النقدي، تساهم في نهضة المجتمع وتعزز قدرته على مواجهة تحديات المستقبل.

حان الوقت لجعل التعليم سلاحا لتحرير العقول ونشر النور بدلا من كونه أداة لنشر الجهل والتجهيل.

***

ا. د. محمد الربيعي

قلت في الأسبوع الماضي إنَّ كتابَ الأستاذ إياد مدني «حكاية سعودية» ليس سيرةً ذاتيةً بالمعنى الدقيق، وإن بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ: إن لم يكن سيرةً ذاتية، فما موضوعه إذن، ما الذي يقوله الكتاب وما الذي أراده الكاتب؟

بالنسبة لي فالكتاب أقربُ إلى دراسة في «تاريخ الأفكار». وهذا - للمناسبة - حقلٌ علميٌّ لم ينل حظَّه من الاهتمام حتى اليوم. وأذكر مثلاً أنَّ أعمالَ الفيلسوف البريطاني ايزايا برلين (1909-1997) تصنَّف عادة ضمن هذا الحقل. لعلَّ غيري من القرَّاء صنَّفه كدراسةٍ في تكوين الهُويّة. والحقُّ أنَّ هذا الوصفَ أقدرُ على الجمع بين فصول الكتاب.

المدينة المنورة التي انطلق منها الكاتبُ احتلَّت جانباً محدوداً من الفصل الأول. فقلت لنفسي: إنَّ سيرةَ الشخص هي - في جانب رئيسي - تاريخ المكان الاجتماعي الذي ينتمي إليه، فلماذا لا يبدو المكانُ بارزاً هنا؟ وضعت بعض الاحتمالات، لا أستطيع الجزمَ بأيّ منها. احتمالات من قبيل أنَّ المدينة منذ تلك الحقبة، أي ستينات القرن العشرين، لم تكن مجتمعاً مستقراً بل لعلَّ الوصفَ الأقربَ إليها أنَّها مجتمعٌ في حال سيولة، يكثر الآتون إليها ويكثر الخارجون منها. وبالنظر لخصوصية الوضع الديني - العلمي للمدينة، فهذه الحركة البشرية تجلب معها ثقافاتٍ متفاوتةً وأعراقاً مختلفة، تحتاج لوقتٍ طويل كي تندمجَ فتشكّل وحدةً اجتماعية. وهو وقتٌ لم يكن متاحاً في غالب الأحوال.

لكن لو اعتمدنا تفسيرَ الكاتب نفسه، فهو يأخذنا سريعاً إلى رحلته المصرية ثم الأميركية، وهما - فيما بدا لي - المرحلتان الأعمق إسهاماً في تكوين الأسئلة التي شغلت ذهنَه طيلةَ العقدين التاليين. المهم إذن هو ولادةُ الأسئلةِ التي ستحدّد مسارَ الحياة.

في الفصل الثاني سنفهم العلاقةَ بين نكبة حزيران 1967 واختياره الصحافةَ محوراً لحياته التالية. الواقع أنَّ معاناتَه كطالبٍ أجنبي في الولايات المتحدة في تلك السنوات، قد عمَّقت شعورَه بالحاجة لتصميم هوية «يختارها بنفسه» لا الهوية التي يفرضها المحيط.

خلال هذه المكابدة، كانَ قد لاحظ النقطةَ الغامضة التي نادراً ما التفت إليها أمثالنا، أي عملية القولبة أو التنميط التي يفرضها عليك المحيط، فتتقبلها بصورة عفوية لأنَّك لا تعرف بديلاً، أو تضطر لقبولها لأنك لا تحتمل كلفة البديل. في الفصل 12 يقدّم مدني معالجةً عميقةً ومفصلة إلى حدّ ما عن هذه القصة، ويذكرنا بمقولة شهيرة للمناضل الجنوب أفريقي ستيف بيكو «إن أقوى سلاح في يد الجبابرة هو عقل المقهورين».

لقد رسمت المجتمعات الغربية صورة للعالم الإسلامي، تجعله مستحقاً للقهر، لأنَّه عاجزٌ عن اكتشاف تخلّفه، وعاجزٌ في الوقت نفسه عن تجاوز تلك المحنة، أَّو ربَّما غير راغبٍ في التغيير. هذه الفكرة تقبلها كثيرٌ من المسلمين، وباتت - وهذا هو الجانب المؤلم في القصة - مبرراً للتعامل معهم تعاملاً فوقياً، أو حتى تبرير إذلالهم. وُضع العربُ والمسلمون في موقفِ من يتوجَّب عليه تبرير قناعاتِه وسلوكياته، والإجابة عن كلّ سؤالٍ يختاره الطرف الآخر. إنَّ تقبّل المسلم لهذا الموقف واعتياد الطرف الآخر عليه، أنشآ تعريفاتٍ ضيقةً لما هو صحيح وما هو خطأ، أي ما يسمح بقوله وما يجب السكوت عنه. وهذي هي المرحلة الحاسمة في توليف الهوية الفردية.

لم يقل إياد مدني صراحة إنَّه أراد إصدار صحيفة باللغة الإنجليزية، كي تساهمَ في تصحيح هذه الصورة البائسة، مع أنه أشار إلى أنَّ صحيفة كهذه، سوف تخبر العالمَ بأنَّ لدى هذه البلاد وأهلِها ما يستحقُّ أن يقال وما يجب الإصغاء إليه.

المرحلة الأخيرة في رحلة البحث عن الذات، هي العودة إلى المكان الذي خرج منه. المهمة الرئيسية الآن هي أن تختارَ هُويَّتَك بنفسك. ربما لا يرتاح الآخرون لرؤيتك على هذا النحو، لكن المهم أن تقتنعَ بها أنت، حينئذ سيعمل الزمن لصالحِك وسيضطر الآخر إلى قبولِها في نهاية المطاف. هذا هو ملخَّص الحكايةِ السعودية.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

لعل اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن علم مقارنة الأديان من العلوم التي وطّدَ أُسسها وقواعدها علماء المسلمين، فهم الذين وضعوا لبنات هذا العلم، وبيّنوا أصوله، فبعض العلماء الجهابذة على شاكلة المسعودي، والشهرستاني، والبيروني، قد جمعوا أشتات هذا العلم، واستقصوا أطرافه، وقد مرّ هذا الضرب من العلوم بعدة مراحل، حتى أصبح علماً له رواده ومناهجه وأهدافه ومصادره، ولعل من الأمثلة والشواهد التي تؤكد أن مقارنة الأديان لوناً أبتدعه المسلمون وليس المستشرقين كما رسخ في أذهان الكثير من الناس، أن علم مقارنة الأديان كما يذكر الدكتور أحمد شلبي في كتابه" سلسلة مقارنة الأديان" قد دُوّنَ في منتصف القرن الثاني الهجري، فعندما بدأ أكابر المُصنفين، وبُلغاء المنشئين، في تأليف الرسائل والمتون دون إعنات روية، ولا ارهاق خاطر، تلك الأسفار التي تناولت الفقه والتفسير والحديث، اتجهت جماعة منهم مُتبحّرة في ضروب الإنشاء، مُتبسّطة في فنون اليراع، للكتابة في مقارنة الأديان، فهو بذلك علم اسلامي كباقي العلوم الإسلامية التي ابتدعها الفحول الخناذيذ، ومن الشواهد أيضاً التي تؤكد أن هذا العلم اسلاميّ بحت، لم تعقد مقارنة قط بين دين وآخر قبل بزوغ فجر الإسلام، لعدم الإعتراف بين الأديان التي كانت سائدة في ذلك العصر، فالدين الإسلامي الخاتم الذي جاء عقب كل تلك الأديان، هو الدين الوحيد الذي اعترف بكل تلك الأديان نظرياً وواقعياً، فمن الناحية النظرية يعلن الإسلام في وضوح وجلاء أنه الدين الأخير من سلسلة الأديان التي استمدت وحيها من السماء، وهو في كنهه امتداد لتلك الأديان التي دعت لنبذ عبادة الأصنام والأفلاك والملوك لعبادة القاهر الدّيان، وبالتالي ورث الإسلام أهمّ ما في الأديان وأضاف إلي ذلك ما تحتاجه البشرية جمعاء في مسيرتها إلي يوم الدين، قال تعالى في محكم تنزيله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13.على ضوء ذلك صدح الإسلام بحقيقة مفادها أنه الدين الوحيد الذي لا دين سواه، قال عزّ من قائل: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمرن: 19. وقال جلّ وعلا: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) آل عمران: 85.

 أما من الناحية الواقعية، فإن الإسلام يعترف بالوجود الفعلي لقطاعات وكيانات غير مسلمة تعيش في كنفه، وترفل في نعيم عدله ورحمته، على شاكلة أهل الذمة والكتاب الذين رفدهم من صنوف بره، ومكّن لهم من الحقوق والكلاءة السابغة ما وقاهم جور الضنى، وطوارق الحدثان، ومن هذا الموقف انبثقت جذور علم مقارنة الأديان، ولعل مسلك الإسلام ازاء مخالفيه، يؤكد عظمة هذا الدين الذي نص كتابه على حرية الإعتقاد يقول تعالى في كتابه المحُكم السبك، الدقيق النسج، المُتناسق الأجزاء: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99. ــ ويقول الحق سبحانه وتعالى أيضاً: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256.ـ كما نجد أن المحجة البيضاء قد دعتنا لموادعة الملل الأخرى والإحسان إليهم، والعدل بينهم، عملاً بقول من تقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)الممتحنة: 8. ـــ

أما الأطر والثوابت التي وضعها الإسلام في كيفية تعامله مع الأديان المغايرة له، تتمثل في احترامه لكل الرسالات الإلهية التي سبقته، وإرساء مبدأ الجدال بالحسنى تصديقاً لقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46. كما يقول المولى عزّ وجلّ: (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمّا تعملون، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا وهو الفتّاح العليم) سبأ: 24-26.  ويرى الدكتور محمد سيد أحمد المسير مؤلف كتاب" المدخل لدراسة الأديان" أن هذا النص الكريم يقدم النزاهة والحيدة في موضوع الجدال، ويدفع بالخصم إلي التأمل الواعي، والتفكير المستنير، ويأخذه برفق وحلم وأناة، كي يستبين الحق ويدرك الحقيقة، ويؤكد أن البشر جميعاً سيقفون أمام الخالق الأعظم للحساب والجزاء وأن المسئولية الفردية تجعل كل انسان على حذر وحيطة في مجال العقائد".

أما من تعاورت سيرته العطرة الألسنة، وتداولت مناقبه القرائح، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان مطبوعاً على التسامح وحب السلام، وكان ديدنه في تبليغ رسالته التي انتشر شذاها في أعطاف الوجود، هو الحوار الهادئ العميق الذي تتثنى ألفاظه تثني الغصن الأملد، الحوار الذي يتحفك بمتانة تعابيره، وشدة أسره، وطلاوة تراكيبه، وصلابة حججه، فلا تملك أمامه إلا الإذعان والتسليم والإنبهار، فقد أورد لنا بن هشام كاتب السيرة، أن عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي كان معتنقاً للمسيحية قد خشعت أصواته، وسكنت حركاته، وهو يستمع لحديث أُفْرِغَ في قالب الفصاحة، ونُسِجَ على مِنْوال الكمال، حديث سلِسُ، رقيق، مأنوس، يضاهي في عذوبته مُناغاة الأطيار، أفضى بالطائي لإعتناق الإسلام وتبعه قومه في ذلك، كما نقلت لنا كتب السيرة والحديث تلك المجادلات الهادئة المتزنة التي جرت بين رسول البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود الذين سأل متحدثهم محسور بن سحبان خير من وطئت أقدامه الثرى عن الدليل الذي يثبت أن القرآن من عند الله؟ فجاء الوحي بالجواب الشافي: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) النساء: 82. كما انبرى النبي صلى الله عليه وسلم في مناقشات أخرى مع وفد نجران من النصارى، وعلى أثر هذه المناقشات المستفيضة التي استدل فيها المعصوم عليه الصلاة والسلام بحجج شبهاء، وبينات نواصع، وبراهين سواطع، أسلم نفر من قادة اليهود مثل عبدالله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأسد بن عبيد، كما دخل الكثير من نصارى نجران الإسلام، ويخبرنا الأستاذ محمد عقيل بن علي المهدلي في كتابه "مقدمة في علم مقارنة الأديان" أن من القضايا التي جرت عليها المجادلات والمناقشات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الأديان: قضية الألوهية، وقضية النبوة، وقضية الكتاب المقدس، ونجد أن علماء المسلمين قد لزموا غرس النبي صلى الله عليه وسلم، وسلكوا منهاجه في كيفية الحوار مع أصحاب الأديان الأخرى، فمناقشتهم مع أصحاب هذه الديانات لم تخلوا من عظة واعتبار، على شاكلة الحوار الذي جرى بين الإمام الباقلاني رحمه الله وأحد الرهبان بمعية الملك، فسأل الباقلاني الراهب عن أهله وأولاده، فقال الملك مندهشاً: أما علمت أن الراهب تنزهه عن هذا، فقال الإمام الباقلاني: "تنزهونه عن هذا ولا تنزهون الله عن الصاحبة والولد" فألقمهم حجرا.

***

د.الطيب النقر

 

ومناسبة الكلام بالطبع هو المسلسل الذي يتصدر الجدل الإعلامي في رمضان 1445، وهو حديث النقاد والمحللين والخبراء الإعلاميين، وهو يضيف للأسف وقوداً جديداً لمحرقة الكراهية بين السنة والشيعة التي باتت أكثر ما يواجهه المشرق العربي تحديداً من نار البغضاء.

بالطبع لن أتناول الأمر هنا من زاوية نقدية إعلامية، فلست من أهل الاختصاص، ولكنني سأتكلم في الأمر من زاوية تاريخية بحتة، وبمقارنة موضوعية وهدفي بالطبع هو التقليل من الآثار الضارة التي يلهبها في العادة هذا اللون من المسلسلات من الكراهية بين السنة وبين الشيعة.

والمقصود بالحشاشين أبناء المذهب الاسماعيلي الكرام، الذين يتوزعون في فرقتين كريمتين الأولى هي الداودية وتعرف أيضا بالبهرة المستعلية، والثانية هي الآغاخانية وتعرف بالنزارية.

والحشاشون كما يقدمهم المسلسل هم أسلاف الطائفة النزارية الآغاخانية الاسماعيلية، ولمن لا يعلم فالآغانية اليوم عدة ملايين ينتشرون بشكل أساسي في سوريا والعراق والهند وباكستان، ولهم وجود قوي في أوروبا حيث يقم رأس هذه الطائفة الكريمة الآغاخان كريم الدين، وهو زعيم عالمي نادر، أطلق أكبر وقفية تنموية غير حكومية في العالم باسم شبكة الآغا خان، وتقدر الإيرادات التي تحققها الشبكة لعام 2022 بمبلغ 4.5 مليار دولار تعمل في نحو عشرين بلداً نامياً، لتحسين حياة الأفراد في الأرياف خاصة.

أما ظهور الاسماعيلية في التاريخ فإن شيعة أهل البيت انقسموا بعد موت الإمام السادس جعفر الصادق 766م إلى فرقتين اتبعت الأولى موسى الكاظم والأئمة من بعده إلى الثاني عشر وهؤلاء هم الجعفرية الإمامية الاثني عشرية الذين يحكمون إيران اليوم، والثانية اتبعوا اسماعيل بن جعفر وهو الأخ الأكبر لموسى الكاظم، وقد واجهوا اضطهاداً عنيفاً، واعتصموا بالستر والتخفي نحو 150 عاماً حتى ظهر إمامهم عبيد الله المهدي معلناً قيام الخلافة الفاطمية 909م وهي الخلافة التي أنشأها الاسماعيليون وقادت الغرب الإسلامي في أفريقيا وكذلك الشام والحجاز واليمن لمدة 270 عاماً ونشرت الثقافة والعمران والفنون في مصر بشكل قوي ومتين.

وقد استمرت الاسماعيلية مذهباً واحداً إلى وفاة المستنصر الفاطمي 1029م حيث انقسمت إلى فرقتين النزارية والمستعلية، وهنا ظهر الحسن بن الصباح داعياً لنزار ومعارضاً للدولة الفاطمية، ورحل من مصر إلى العراق ومنها إلى جبال نهاوند حيث استولى على جملة قلاع سلجوقية أهمها قلعة آلموت المحصنة، ومنها قاد كفاحاً ضارياً لنشر المذهب الاسماعيلي، كما قاد في الوقت نفسه حركة متميزة لنشر الفلسفة والعلوم والحكمة.

وبعيداً عن طبيعة المسلسل، والصورة البشعة التي يقدمها للحسن بن الصباح تحت اسم مؤسس الحشاشين المتوفى 1127م، وهو رجل يحظى باحترام كبير لدى الطائفة الاسماعيلية، فإنني أريد تقديم عدد من الحقائق:

لم يذكر أي مؤرخ إسلامي على الإطلاق كلمة الحشاشين وصفاً للطائفة الاسماعيلية النزارية، ولا لجماعة الحسن بن الصباح، على الرغم من أن كثيراً من كتب التاريخ ترجمت للحسن بن الصباح بالتفصيل، ولكن مصطلح الحشاشين غير وارد على الإطلاق في اي من كتب التاريخ المعتمدة التي عاصرتهم، ولم يرد ذكر كلمة الحشاشين في الكتب التاريخية الرئيسية التي أرخت للاسماعيلية خاصة تاريخ ابن عساكر وتكملة الطبري والقلانسي وابن الأثير وابن كثير وابن الجوزي والبنداري وابن بشكوال وأبو شامة وابن خلدون، حتى الغزالي وابن تيمية في فتاويهم المتوحشة لإبادة الاسماعيلية فإنهما لم يذكرا مصطلح الحشاشين على الإطلاق، حيث كانا يفضلان صطلح الباطنية، وجميع هذه الكتب شرحت باستفاضة حركة الحسن بن الصباح وخلفائه ولكن لم يذكر أحداً على الإطلاق لفظة الحشاشين اسماً لهم.

والعجيب أن المحققين لهذه الكتب يذكرون في الحواشي دوماً أن المقصود هم الحشاشون مع أن هذه الكتب الأصلية لم تستخدم أبداً هذه اللفظة.

أول مرة وردت لفظة الحشاشين لوصف هذه الطائفة كانت في رحلة بنيامين التطيلي وهو حاخام يهودي كتب وصفاً لرحلته التي قام بها في الشرق الإسلامي لتقصي أحوال اليهود وذكر فيها أن أربعة آلاف يهودي كانوا يعيشون في جبال نهاوند ويطيعون شيخ الحشاشين، دون أن يذكر أي تفصيل عن شيخ الحشاشين ولم يأت بحرف للحديث عن الطائفة الاسماعيلية.(رحلة بنيامين التطيلي المتوفى 569ه) وقد طبعت الرسالة بتحقيق المجمع الثقافي بأبو ظبي.

ولو سألت أي مؤرخ مسلم إلى عام 1800 عن الحشاشين فسيكون جوابه لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولم يكتب عنهم بهذه الصفة أي مؤرخ على الرغم من أن كتابات كثيرة تولت الهجوم على الاسماعيلية وحركاتهم المناوئة للخلافة العباسية وللسلاجقة، فمن أين جاء اسم الحشاشين إذن، وكيف صار هذا الاسم اليوم شائعاً لوصف هذه الطائفة الإسلامية الكريمة؟

كتب الباحث سامي مبيض في مقال له بمجلة المجلة 19/3/2024: "أول من حاول تسليط الضوء على ظاهرة الحشاشين كان المستشرق الفرنسي دنيس ليبي دي باتيلي Denis Lebey de Batilly، الذي جاء على ذكرهم في 1603، لكنّ أول من ذكرهم في سياق المذهب الإسماعيلي كان المستشرق الفرنسي بارتليمي دي إربلو Barthalemy de'Herbelot في "الموسوعة الفرنسية المشرقية" عام 1697. وفي سنة 1809 كان البحث الأهم للمستشرق سلفستر دو ساسي Sylvester de Sacy الذي أكد أن كلمة "الحشاشين" انحدرت من العربية، وأنها استُخدمت للحطّ من شأن جماعة الصبّاح أكثر من كونها صفة حقيقية لأفعالهم".

ولكن الصورة الشائعة اليوم عن الحشاشين تعود بشكل أساسي إلى المؤرخ البريطاني ول ديورانت 1981م الذي جمع إلى هذه الأقوال تصورات منسوبة إلى الرحالة الإيطالي ماركوبولو المتوفى 1324م، الذي زار الصين وعدداً من بلاد الشرق الإسلامي، صرح فيها بأنه يروي حكايا سمعها من الناس عن قلعة آلموت وذكر الحسن بن الصباح ولكن لم يذكر كلمة الحشاشين، ولكنه ذكر أن الزعيم الاسماعيلي كان قد أعد حديقة في فناء القلعة كثيرة الخضرة والثمار وفيها من النساء الحسان والبيوت المطلية بالذهب، وكان يعد تلامذته بتدريب قاس، ثم يسقيهم شراباً مخدراً، ويدخلهم الحديقة فيظنون أنهم في الجنة، وينالون ما يريدون من الخمرة والنساء ثم يخرجهم منها قبل أن يفيقوا، وكان في ذلك يعدهم لمهام الاغتيال الانتحارية ويعدهم بالجنة، فإن قتلوا رفعوا إليها في السماء، وإن نجوا أخذهم إليها في الأرض، وذلك تفسير إقدامهم بقوة وشجاعة على العمل العنيف الانتحاري.

والواقع أن الكلمة التي نقلها سلفستر دي ساسي عن وصف الاسماعيلية النزارية بالحشاشين تأسيساً على عبارة assassins التي وصفهم بها باتيلي نقلاً عن العربية تحتمل ثلاثة معان، وهي إنكليزياً تعني الاغتياليين الذين يقومون بعمليات اغتيال لخصومهم، كما تحتمل عربياً معنى الحشاشين، كما تحتمل وصف الأساسيين الأصوليين، والاحتمالات واردة، ولو كان المراد الحشاشين بالفعل لاستعمله خصومهم خلال التاريخ الذين كتبوا بشدة في مهاجمتهم ولكن لم يصفهم أي مؤرخ مسلم بوصف الحشاشين.

قناعتي أن الثوار النزاريين في قلعة آلموت كانوا لوناً من اليسار الإسلامي الغاضب، وكانوا يحملون أفكاراً تحررية وثورية ناقمة، ويحملون تأويلاً باطنياً للقرآن الكريم، يتيح لمفكريهم أفقاً أوسع من الاجتهاد.

من المؤكد أني لا أريد رسم صورة وردية للثوار النزاريين، خاصة أنهم أولغوا في الدم، وذلك في سياق حروبهم مع خصومهم من السلاجقة تحديداً، ولا شك ان لديهم سجلاً من الاغتيالات أبرزها اغيال الوزير السلجوقي الأشهر نظام الملك عام 1092م وكذلك اغتيال القائد الصليبي كونراد بعد مائة عام 1192م، ووصولهم إلى خيمة صلاح الدين وزرع خنجر قرب رأسه كناية عن قدرتهم على اغتياله، ولكن يجب أن نفهم ذلك في سياق نزاع تاريخي وتطاحن سياسي وردود أفعال لا تنتهي.

الثوار النزاريون تمردوا على الحكم العباسي خاصة بعد دخوله في الكنف السلجوقي، وكانوا دوماً بمثابة اليسار المتطرف في مواجهة النظم السياسية في المنطقة، وعلى الرغم من نزاعهم مع العباسيين فإنهم كانوا يشكلون قوة مقاومة صلبة في وجه الصليبيين وكذلك في وجه المغول، والواقع أن كل جهود العباسيين والسلاجقة والأيوبين للقضاء على الجماعة النزارية باءت بالفشل حتى كانت النهاية على يد هولاكو الذي حاصر قلعة آلموت ثم اقتحمها ببطش شديد 1258م، وبعد سقوط آلموت بأشهر قليلة استطاع هولاكو سحق بغداد وارتكاب أكبر مجزرة في التاريخ الإنساني.

لا  أدري بالضبط كيف ستمضي حلقات هذا المسلسل الصاخب، وكل ما أرجوه أن لا يكون ذراعاً أسود لنزاعات الكراهية في المنطقة، وأن يقدم الصورة الممكنة من التاريخ، بحياد ودقة، وأن لا يحقق لدعاة الكراهية مزيداً من الحجج لصناعة البغضاء بين السنة والشيعة.

***

د. محمد حبش

 

تحديد مفاهيم: يتطلب هذا الموضوع الذي يخص أربعة أطراف اساسية: الحكومة، الشعب، الأحزاب والكتل السياسية، ومراكز البحوث العلمية.. تحديد معنى اربعة مفاهيم:الأمن المجتمعي، الأمن السياسي، الأمن الأقتصادي، ومشكلات الشباب، وبدونها يبقى الحال في العراق كما هو ولن تتحقق دولة المؤسسات المدنية. ولنبدأ بفهوم:

 الأمن المجتمعي

يقصد به ان يعيش الفرد حياة اجتماعية مطمئنة على نفسه ورزقه وبيته، ويتحقق من خلال الاجراءات والخطط التي تتخذها الدولة لحماية المجتمع من كل ما يحد من تقدمه وتحقيق الحياة الكريمة لجميع المواطنين.

ومؤخرا استخدمت مفوضية الامم المتحدة السامية لحقوق الانسان مفهوم الامن الانساني كمرادف لمفهوم الامن المجتمعي وعرّفته بأنه (حماية الحريات الحيوية، وحماية الناس من الاوضاع والاخطار الطارئة، وبناء قواهم وطموحاتهم، وخلق النظم السياسية والمجتمعية والبيئية والعسكرية والثقافية التي تمّكن الناس من العيش بكرامة).

ما يعني ان كلا المفهومين يؤكدان ان على الدولة تأمين (كرامة الأنسان) بكل ابعاد الكرامة.

ومع ان هنالك ستة مكونات للأمن المجتمعي، فاننا سنركز على اهم اثنين منها: الأمن السياسي والأمن الأقتصادي.

فما المقصود بالأمن السياسي؟

يقصد به قدرة الدولة على حماية نفسها من اي تهديد او عدوان او هجوم، والحفاظ على كيانها السياسي، وتحقيق اعلى درجات الاستقرار، وتحرر المواطن من الشعور بالخوف والحاجة، وحمايته من تهديدات القمع السياسي، وتأمين عدم تعرضه للصراعات والحروب واضطراره للهجرة، وضمان ممارسة حرية التعبير عن الرأي، والتعامل السلمي في الأختلاف والخلاف في الرأي والرأي الآخر.

اما الأمن الأقتصادي فيقصد به تأمين حاجات الفرد الاساسية (غذاء، سكن، ملابس، رعاية صحية، تعليم..)، رفع مستوى الخدمات، تحسين ظروف المعيشة، ايجاد فرص عمل للجميع، محاربة الفقر، تطوير القدرات والمهارات من خلال برامج تعليمية، مواكبة روح العصر ومتطابات الحياة الراهنة.. وتحقيق العدالة الأجتماعية، الذي كان غيابها احد أهم اسباب الحراك الأجتماعي الثوري الذي اطاح بانظمة حكم عربية (ليبيا، مصر، تونس).

والتساؤل هنا: ما شكل العلاقة بين الأمن السياسي والأمن المجتمعي؟

والأجابة ان كليهما (الأمن السياسيّ والأمن الاجتماعيّ) يعدّان أحد الحقوق التي تمنحها الدولة لمواطنيها، وبموجب ذلك، يتعين على الدولة حماية أفرادها من التعدي الذي قد تمارسه الحكومات أو المنظمات، أو الأفراد، فإن تحقق الأمن السياسيّ والاجتماعيّ، يصبح بمقدور الأفراد المشاركة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع والدولة دون تمييز أو قمع.

ونضيف نقطة مهمة تخص قادة العملية السياسية، أن من شأن الحفاظ على الأمن والاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ لأفراد الدولة أن يُكسب النخبة الحاكمة شرعية أكبر(أكرر.. شرعية اكبر)، ما يعني انه لا يمكن تحقيق الأمن الاجتماعيّ دون الحفاظ على الأمن السياسيّ.

فهل الأمنان السياسي والأقتصادي متحققان في عراق ما بعد 2003؟

الأحداث تؤكد انهما غير متحققين.. نكتفي بذكر ثلاثة فيما يخص الأمن السياسي:

الأول: الحرب الطائفية بين عامي (2006 و 2008) التي راح فيها آلآف الضحايا ولسبب في منتهى السخافة: ما اذا كان الآخر اسمه حيدر او عمر او رزكار!

والثاني: الحرب الداعشية

في ليلة 9 على 10 من حزيران (2014) سقطت مدينة الموصل في ساعات بيد مسلّحي الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) من غير ان تحصل معركة بينهم وبين قوات الجيش العراقي المسؤول عن حمايتها، فأصاب الناس ذهول ان تسقط ثاني اكبر مدينة عراقية محاطة باربع فرق عسكرية وبداخلها مائة الف شرطي ورجل امن.. في ساعات بين ليلة وفجرها.. بيد مسلحين لا يتجاوز عددهم عشر عدد الجيش النظامي المحيط بها وبداخلها!

والثالث: انتفاضة تشرين

في الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019 شهد العراق حدثا سياسيا وجماهيريا غير مسبوق في تاريخه السياسي، ففيه انطلقت في المحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى اليأس والعجز من اصلاح الحال. وفاجأت ايضا علماء النفس والأجتماع بما يدهشهم.. بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.. فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!.

وخلال خمسة أيام، بلغ عدد الضحايا 110 شهيدا، ليسجل الخميس (الثالث من الأيام الخمسة) اليوم الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الامنية ومتظاهرين يطالبون برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم واستخدامها قوة مفرطة، ادانها الرأي العام العالمي، وحملّت المرجعية الدينية على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019)، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم على قتل اكثر من ستمئة وجرح وتعويق اكثر من عشرين الفا اغلبهم شباب ومراهقين.

واذا اضفنا لها المواجهة التي حصلت في المنطقة الخضراء بين فصيلين شيعيين هما التيار الصدري ودولة القانون فأننا نصل الى حقيقة ان الأمن السياسي غير متحقق في العراق طوال عشرين سنة، وانه الآن مهدد ايضا من تدخلات اجنبية وعدم توافق سياسي داخلي.

ولكشف ما هو غير معلن، فان المطالب المعلنة للمتظاهرين تحددت بتوفير فرص عمل للشباب وحملة الشهادات العليا، وتأمين الخدمات وتحسين الوضع الأقتصادي، فيما كانت في حقيقتها السيكولوجية تعبيرا عن انتقام استهدف أحزاب الأسلام السياسي، عبروا عنه باحراقهم لمقرات هذه الأحزاب، لأنهم وجدوا ان من انتخبوهم قد خذلوهم، او بالتعبير العراقي (ضحكوا عليهم) والعراقي.. (ما يرحم اليضحك عليه).

وللتاريخ فأنني كنت الوسيط بين الحكومة والمتظاهرين. فحين وجدت المخابرات العراقية ان لي حضورا توعويا مع المتظاهرين في ساحة التحرير.. اتصل بي رئيسها السيد مصطفى الكاظمي طالبا الحضور الى مكتبه.. والتقينا، واتفقنا على مسائل مهمة، والتقيت بعدد من قيادات المتظاهرات وتم الآتفاق بتحديد مدة ستة اشهر على تطبيقها.. وبعد يومين نزل السيد الكاظمي الى ساحة التحرير دون حماية معلنة والتقى بالمتظاهرين.

مشكلات الشباب

يشكل الشباب ثلثي المجتمع العراقي، ولهم الدور الرئيس في المجالات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والعلمية، وعليهم يتوقف مستقبل العراق. ولدى متابعتنا لأوضاعهم بعد 2003، وجدنا انهم يعانون أربع مشكلات خطيرة:البطالة، المخدرات، الأنتحار، والأغتراب.

البطالة

وفقا لتقرير عالمي World of Statistics فان العراق حلّ ثالثا في العالم بنسبة بلغت 16% فيما ذكرت وزارة التخطيط العراقية ان نسب البطالة في البلاد تتجاوز ما ذكره التقرير لاسيما بين حملة الشهادات الجامعية. ويفيد تقرير بان نسبة البطالة في قطاع الشباب بلغت (27%)

وبحسب وزير التخطيط لجريدة الصباح فان نسبة الفقر في العراق 20 % لعام 2018، ترتفع بالمحافظات الجنوبية لتصل بمحافظة المثنى الى 52 %. ويفيد تقرير لوزارة التخطيط بأن عدد الذين هم تحت خط الفقر (13) مليون عراقي في سابقة ما حصلت بتاريخ العراق.

المخدرات

* وفقا لاحصاءات مجلس القضاء الاعلى في العراق لعام 2021 فان نسبة الادمان على المخدرات قد تصل الى 50 في المئة من فئة الشباب، وان تناولها وصل الى اطفال المدارس الأبتدائية!

* ووفقا لتقارير وزارة الصحة العراقية لعام 2017 فان هناك ثلاثة الى اربعة مدمنين من كل عشرة شبان بعمر 18-30.

ومع تعدد المصادر التي تؤكد ارتفاع تعاطي المخدرات في العراق، فان الحقيقة المؤكدة ان العراق يتصدر الدول العربية بتعاطي المخدرات في قطاع الشباب.

فما اسباب ذلك؟

أهم سببين:

* كانت الدولة قبل 2003:

- قوية في تطبيق القانون بعقوبات تصل حد الأعدام لمن يتاجر بالمخدرات.

- و تعاطي الكحول كان مباحا.. وبالصريح فأن الفضل يعود الى العرق العراقي.. لأن من يتعاطاه لا تكون لديه حاجة الى أي مخدر مهما كان قويا.

وأن الذي حصل بعد 2003:

* أن الدولة بمفهومها الأمني لم تعد موجودة،

- وان محلات بيع الكحول تم غلقها بمعظم المحافظات، فضلا عن دعوة ممثلي احزاب الاسلام السياسي في البرلمان العراقي بتحريم الكحول، وقيام بعض المليشيات بحرق عدد من محلات بيعها لاسيما في البصرة.

شهادات

+ يؤكد تجار ومهربون، تفاقم ظاهرة تهريب العرق والخمور المستوردة من العراق إلى إيران مقابل تهريب الحشيشة والحبوب المخدرة منها للعراق.

+ ويرى آخرون أن تخلخل الاستقرار السياسي دفع القوى السياسية الى ما هو مشروع وغير مشروع في تحصيل مكاسب من بينها سيطرتها على المنافذ الحدودية وممارستها الاستيراد والتصدير، وتوريط مسؤولين عراقيين باشراكهم واعطائهم نسبا من الارباح.. لهدف سياسي ايضا هو الهاء الشباب بالهلوسة وتخديرهم.

+ أعلن قائد الشرطة في البصرة الفريق رشيد فليح وجود متنفذين يوفرون الحماية لتجار المخدرات (20تموز 2019)

+ واعلن نائب برلماني من البصرة(السكيني) ان تجارة المخدرات في العراق اكثر من تجارة النفط والسلاح.

واصبح تجار المخدرات مافيات ومواجهات عنيفة مع القوات الامنية ادت الى استشهاد ضباط ومنتسبين.

* الأنتحــــــار

اعلنت فضائية (الشرقية نيوز) في حصادها ليلة (27/26 اكتوبر 2021) ان حالات الأنتحار قد زادت في عام 2020. وفي(31 كانون الثاني 2024 ) اعلنت نفس الفضائية ووسائل اعلام اخرى ان (هناك خمس حالات انتحار يوميا في العراق).

هذا يعني ان الحكومات العراقية واحزاب السلطة لم تعالج الأسباب التي تؤدي الى الأنتحار برغم ان علماء النفس والاجتماع ومثقفين كتبوا عشرات المقالات فيها معالجات علمية للحد من هذه الظاهرة.

نوعان من الأسباب:

الأول:اسباب تقليدية للانتحار، هي:

* البطالة في قطاع الشباب،

* تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية،

* عادات وتقاليد اجتماعية متخلفة.

والثاني:أسباب عراقية جديدة للأنتحار، نوجزها في الآتي:

* انشغال حكومات المحاصصة بمصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة،

* فشل العملية السياسية وانشغالها بالصراعات وانتاج الأزمات نجم عنها حالات اجتماعية سلبية تطورت لظواهر أخطرها: تضاعف حالات الطلاق والانتحار وتعاطي المخدرات،

* توالي الخيبات على الشباب.. نجم عنها شعورهم بالاكتئاب والضياع والخوف من المستقبل وانعدام المعنى من الحياة، ليشكّلا أهم سببين لتعاطيهم المخدرات والمؤثرات العقلية.

ابتكار عراقي لمعالجة انتحار الشباب!

* في 22نيسان 2019، أمر مجلس محافظة بغداد ببناء أسيجة للجسور لمنع الشباب من الانتحار، سخر منه العراقيون ووصفوه بأنه (ابتكار جديد يستحقون عليه براءة اختراع) وأن (رئيس مجلس محافظة بغداد اكتشف سرّا خطيرا لم تعرفه الانسانيه على مر العصور حين توصل الى ان طريقة الانتحار تتم بواسطة الجسور ووجد العلاج.. ببناء الأسيجه!)

الأغتراب

هذه الكلمة (الأغتراب) التي تبدو بسيطة، شغلت اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس والأجتماع وكتبوا عنها مجلدات وتوصلوا الى اكثر من عشر نظريات.. من ماركس الى هيجل، سارتر، كولن ولسن... اتفقت على ان له سببا محددا لكنها اختلفت في تحديد ماهية السبب.

ومن وجهة نظرنا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل ستة اسباب.. نختصرها بثلاثة:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجية اهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. الاغتراب النفسي: ويعد اصعب حالات الاغتراب تعريفا، ويمكن وصفه بشعور الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته (حين يقف أمام المرآة يسأل نفسه: آني منو!).

وتفيد الدراسات بان المغترب الذي يعاني من واحد او اكثر منها، مثل: (حين تكون علاقاته بالآخرين او السلطة مصدر شقاء له)، فأنه يشعر بعدم وجود معنى للحياة، فينعزل عن المجتمع، وقد ينقلب ضده.

وحين يصل حد الشعور بأن ذاته اصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها.. فينهيها بانتحار بطيء بالادمان على الكحول، او بانتحار سريع... بـــــطلقة!.. وقد فعلها كثيرون في العشرين سنة الأخيرة.

وللأمام علي (ع) مقولة سبق بها علماء النفس والأجتماع هي (الفقر في الوطن غربة) فكيف اذا كان هذا الوطن هو اغنى بلد في المنطقة وواحد من أغنى عشرة بلدان في العالم؟ّ.. دون ان تدرك السلطة ان الشباب يشكلون ثلثي المجتمع وانهم هم الذين سيحددون مستقبل العراق.

المعالجات

شرطان أساسيان لتحقيق الأمن المجتمعي في العراق، هما:

اولا: مكافحة الفساد

قالت منظمة الشفافية العالمية المعنية بالكشف عن الفساد حول العالم ان العراق يحتل المرتبة الثالثة في قائمة الدول الاكثر فسادا.

وصفت المرجعية الدينية في النجف الاشرف كبار الفاسدين في السلطة بانهم (حيتان)، و(بح صوتها) دون ان يستجاب لها بالحد من الفساد الذي افقر الملايين.

اعلنت هيئة النزاهة بانها تمكنت في 18-5- 2009 من تنفيذ اوامر قبض بحق 33 متهما بقضايا فساد لم تنفذها الحكومة.

كشف القاضي راضي الراضي الرئيس الاسبق لمفوضية النزاهة عن ان 31 من اعضاء الهيئة قتلوا.

رئيسان تناوبا على رئاسة دورة واحدة للبرلمان، اسلاميان.. يوعظان الناس بالزهد وبتطبيق الشريعة، يقولان بان الاسلام هو الحل.. يتقاضى الواحد منهما راتبا شهريا قدره 57 مليون دينارا عدا امتيازاته الخيالية!

المؤتمر الأول لمكافحة الفساد 2024

في (14 كانون الثاني 2024، )انعقد في بغداد اول مؤتمر لمكافحة الفساد برئاسة السيد محمد شياع السوداني مؤكدا ان الحكومة وضعت ملف مكافحة الفساد على رأس أولوياتها، وانها خاطبت الدول التي تتواجد فيها أموال الفساد، و اصدر سبع توصيات بدأها بـ(الإسراع في حسم وإنجاز الإخبارات والشكاوى والدعاوى الجزائية ضمن المدد المحددة قانوناً..)، وانهاها بـ(تشريع قانون لاستحداث هيئة الرقابة، استناداً إلى أحكام المادة 108 من الدستور...).

الفساد في العراق.. اكبر من سبع توصيات!

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد ثم اعترف علنا في(27 /11/ 2017) بأنه غير قادر، لأن الفساد (مافيا.. يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذي يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد)، ختمها رئيس هيئة النزاهة السيد حيدر حنون بتصريح في (3 /5 / 2023) بان الفاسدين (قادة، وجنود، ومشجعين يدافعون عنهم، وانهم يتسابقون على سرقة أموال الدولة)، ليؤكدوا حقيقة ان الفاسدين اصبحوا دولة داخل دولة.. تخيف أي رئيس وزراء يحاول التحرش بهم، وآخرهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي حصلت في زمانه سرقة القرن بمليارات الدولارات! وتكتم عن كشف الحقيقة كاملة.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار شجاع وحازم وذكي واستثنائي يعتمد استراتيجية علمية يضعها مختصون وخبراء مستقلون، يتحرر من مقولتنا قبل عشر سنين بأن، (سيكولوجيا السلطة في العراق علمت الحاكم ان يحيط نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه).

لنستفد من تجارب العالم

يعد كتاب: (الفساد.. مبادرات تحسين اﻟﻨـﺰاهة في البلدان النامية) الصادر عن الأمم المتحدة بعنوان (برنامح الأمم المتحدة الأنمائ ومركز التنمية الأقتصادي في منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية) افضل مصدر عن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد ومنها:الهند، المكسيك، الولايات المتحدة. ومع ان تجربة ماليزيا تعد الأنجح في (الدور التنموي للدولة في مكافحة الفساد)، فأن تجربة سنغافورة تعد الأنجح والأنسب للأستفادة منها في العراق، وكان أهم عوامل نجاحها هو:

- إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد،

- انشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" وقيامه بمهامه على الوجه الأمثل،

واتخاذ اجراءات ذكية لتنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد" اهمها:توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد، وتأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع، وتأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء، واشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي.

وكان اهم درس بتجربة سنغافورة، أنها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم. ولا يحق لأي مسئول بالدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات (Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والأجابة على اية اسئلة او استفسارات. مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا راتبه الشهري 500 دولارا ولديه سيارة BMW ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟. فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرته وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.

فهل تستطيع حكومة السيد السوداني محاسبة او مساءلة (36) ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وفقا لمركز البحوث الفرنسي؟

وهل يستطيع تنفيذ ما قاله في المؤتمربانه سيتم (تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة) ولو مساءلة رؤساء الوزراء السادة: نوري المالكي، حيدر العبادي، عادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، بوصفهم كانوا الرجل الأول في الدولة؟

ثانيا: اعادة النظر بامتيازات السلطات الثلاث والبرلمان

نورد هنا بالأرقام ميزانيات العراق في عدد من سنوات ما بعد 2003

بلغت ميزانية العراق عام 2003 بحدود 14 مليار دولار، ارتفعت عام 2004 إلى 18 مليار دولار، لتبلغ في 2005 بحدود 26 مليار دولار، ارتفعت في 2006 الى 34 مليار دولار، لتقفز في 2007 الى 42 مليار دولار، لتصل 70 مليار دولار في 2008، و 74 مليار دولار في 2009، و 84 مليار دولار في 2011، و 101 مليار دولار في 2012، و 120 مليار دولار في 2013، لتقفز في 2014 الى 150 مليار دولار.

والتساؤل هنا جاء على لسان المرجعية بصوت الشيخ احمد الصافي بخطبة جمعة (9 /8/ 2019) بقوله:(ارقام مرعبة من الأموال.. أين ذهبت؟ هل من مجيب؟!).. ولم يجبه احد أين ذهبت تلك الأموال الضخمة!

والجواب ان ما يقرب من ثلث هذه الميزانيات يذهب رواتب وامتيازات للسلطات الثلاث واعضاء البرلمان العراقي في سابقة ما حصلت بتاريخ العراق وتاريخ حكومات وبرلمانات العالم المعاصر.

ورغم اننا قدمنا مذكرات وقعها شخصيات وطنية من داخل العراق وخارجه، فأن من في السلطة لم تستجب. ومع ذلك فأننا اعددنا استراتيجية علمية لمعالجة اهم شرطين لتحقيق الأمن المجتمعي مقدمة من (المدى) الى مكتب السيد رئيس مجلس الوزراء.

وبالصريح فانه ما لم يتم معالجة هاتين الآفتين (الفساد والأمتيازات) فانه لن يتحقق الأمن المجتمعي ولا الأمن السياسي ولا الأمن الأقتصادي. ونحذر بأنه ما لم يحصل تغيير في الأنتخابات التشريعة القادمة تنقل العملية السياسية من سكة المحاصصة الى سكة بناء دولة مؤسسات مدنية فان العراق مقبل على حدث خطير سيندم عليه من توهم ان من استلم السلطة واستفرد بالثروة سيبقى يتنعم بهما الى يوم يخصه عزرائيل بالزيارة.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

..........................

(*) مقدم الى مؤتمر مركز البحوث النفسية (7-3/8 / 2024 كربلاء، تحت شعار: الأمن المجتمعي التحديات والمعالجات.

لستُ ممَن يظن أن كلَّ شيء يبدأ بأمة دون سواها، هي الأصول وغيرها الفروع. فإذا المعتزلة مثلوا سقوط الأجسام(العاشر الميلادي) بـ«التّفاحة»(النّيسابوريّ، المسائل في الخلاف)، ثم مثّل بها إسحق نيوتن(ت: 1726م) عملية الجاذبيّة، وشاعت له (السابع عشر والثامن عشر)، ليس معنى هذا أنه انتحل المعتزلة، إنما العقل قادرٌ على إنتاج العلم، وهو إنساني بطبيعته، فما فكر به المعتزلة فكر به نيوتن، لا وجود لمركزية ولا لاحتكار.

كذلك قرأت في كتاب «همس الدَّم.. قصص الثورات» لإيريك دورتشميد (المدى 2020)، كلمة رددها قائد الثَّورة الفرنسيّة، لجان جاك روسو(ت: 1778): «يولد الإنسان حراً، ولكنه في كلّ مكان يجر سلاسل الاستعباد». معلوم، أنَّ روسو صاحب «العقد الاجتماعيّ» الشّهير، عاش وقال مقولته في القرن الثّامن عشر، عصر النهوض الأوروبيّ، فهل اطلع روسو على عبارة عمر بن الخطاب(اغتيل: 23 هجرية)؟

لا نعتقد ذلك، فالرواية أول ما جاءت في «فتوح مصر والمغرب» لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257 هجرية): «مذ كم تعبّدتم النَّاس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً» (فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429 هجرية)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537 هجرية) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562 هجرية) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم، رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هجرية). هل تُرجمت مِن هذه الكتب في زمن روسو؟! مِن الصَّعب الإقرار بذلك، إنما الفكر الإنسانيّ، وكل مَن يفكر بمصالح النّاس، يرتقي إلى هذا الكلام، وليس هناك أرض عاجزة، ولا شعب عاجز من التقدم الإنسانيّ، خلاف ما يريده أصحاب المركزيات، فما نحته الأوروبيون مِن أفكار، نحته قبلهم غيرهم.

في مقابلة أخرى، بدأت إدانة العبوديّة تُعلن بكنائس بريطانيا، فصدرت وثيقة لندن الجماعية(1783م)، جاء فيها: «قضية رفاقنا في الخليقة: الأفارقة المقموعين»(ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث). إذا التقى روسو مع عمر بن الخطاب، فالإنجيليون التقوا مع علي بن أبي طالب(اغتيل: 40 هجريّة)، في كتاب تكليفه لمالك الأشتر(اغتيل: 38 هجريّة) والياً على مصر: «أَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَالرَّفْقَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ: إمَّا أخٌ لَكَ فَي الدَّيْنِ، أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ، وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ»(نهج البلاغة).

قد يقول بعضهم: هذا كلام الشَّريف الرَّضي(ت: 406 هجرية)، جامع ومحرر النّهج، وأنّ النص لم يأت عند الأقدمين، جاء عند المتأخرين على زمنه: ابن حمدون(ت: 562هـ) في (التّذكرة الحًمدونيّة، وبعده النّويريّ(ت: 733هـ) في (نهاية الأرب في فنون الأدب) ثم القلقشنديّ(ت: 821هـ) في كتابيه (مآثر الإناقة، وصبح الأعشى). لنعطي القائل الحقّ، ولكن ما هو البعد الزمني بين وثيقة الكنيسة، وما نفترض كتبه الشّريف الرّضي، أليس ثمانمائة عام؟ إذن هو وليد هذه المنطقة، وكذلك الحال مع مقولة عمر بن الخطاب.

إزاء ما تقدم سنواجه رأيين، مشرقاً ومغرباً لا يلتقيان: العادمون للتّاريخ، فما جاء في أمهات التاريخ الإسلاميّ مجرد نصوص مسرحيّة عندهم، وما التفوق في الماضي والحاضر إلا لأوروبا. الثّاني: العادمون لغيرهم: لا تاريخاً فكرياً لغيرنا، وما الحضارة الأوروبيّة وصناعتها إلا مِن إعجازنا! والاثنان يهربان مِن واقع أنّ الأمم حيّة كافة.

يُشار إلى قضية أخرى على هاش المقال، تلفت النّظر، ونحن نعيش الهجاء الطّائفي، النَّابع مِن ضمائر مشكوك بإنسانيتها، وعقول يابسة حواضن للجهل، هل يُعقل، أنَّ عمراً وعليّاً، صاحبي النَّصين الإنسانيين، وما يُلمس مِن رقي حضاري فيهما، يجري قحمهما كذباً وخداعاً، في الطَّائفيّة الرّخيصة، المشتعلة مِن على أعواد المنابر؟

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لا يكاد يخلو أدب الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، بمختلف أصنافه وتياراته، وتنوع اهتمامه وتوجهاته، وتعدد مصادره ومرجعياته؛ من الحديث عن (الطبقة) أو (الطبقات) الاجتماعية؛ إن لجهة تبلورها كمعطى سوسيولوجي يعي ذاته بالمغايرة مع وعي بقية المكونات الأخرى في المجتمع، أو لجهة تصنيفها بين ارستقراطية / عليا، وبرجوازية / وسطى، ودنيا / عاملة، أو لجهة علاقاتها البينية واستقطاباتها المتقابلة هل هي قائمة على أساس التفاعل والتواصل أو التصارع والتقاطع .

وعلى الرغم من كون النقاش حول مكانة (الطبقة) الاجتماعية وبيان دورها في سيرورات المجتمع، فضلا"عن وظيفتها في عمليات الإنتاج الاقتصادي والتبادل الثقافي والتداول القيمي، يمتد إلى حقب تاريخ ما قبل الميلاد، لاسيما ضمن أعمال الشهير للفيلسوف الإغريقي (أفلاطون) وخصوصا"كتابه المعروف (الجمهورية)، والذي اعتقد من خلاله إن سلامة المجتمع واستقراره يرتهن بضرورة تقسبمه إلى ثلاث طبقات؛ الذهبية والفضية والبرونزية، حيث لكل طبقة مكانتها ووظيفتها اللتان ينبغي المحافظة على الحدود بين طبيعة كل منها، مع مراعاة عدم التخالط فيما بين خصائصها النوعية . بيد أن من الإنصاف الإشارة إلى أن الفكر الماركسي كان من أبرز الأنظمة الفلسفية التي شيدت معمار مفهوم (الطبقة) ببعديها النظري والعملي على حدّ سواء، من منطلق إن كل من (الطبقة) وصراعها (الطبقي) هما الداينمو المحرك للجدلية الاجتماعية برمتها؛ سواء أكان في مجال التاريخ، أو في حقل الاجتماع، أو في مضمار الوعي، أو في إطار الدين، ومن ثم رصد أشكال التناضح بين الطبقات وتشخيص أنماط التلاقح بين الذهنيات .

وكغيره من الأنساق الفكرية الكبرى التي حاولت تغطية كل ما يتعلق؛ بأصل الكون / الوجود، وطبيعة الإنسان / المجتمع، وماهية الفكر / الوعي، بحيث تعطي الحلول لكل القضايا وتقدم الإجابات لجميع المسائل . فقد تعرض الفكر الماركسي للكثير من الإساءات النظرية والتشويهات المنهجية؛ ليس فقط من قبل خصومه ومناوئيه فحسب، وإنما كذلك من جانب المنتمين إليه والمحسوبين عليه – بل ربما تبدو إساءات الأولين أقل وطأة من تشويهات الآخرين –  وهو الأمر سمح لبعض الكتاب والباحثين (المتمركسين) التهاون – إن لم يكن التخلي – عن أهم المعايير الاجتماعية والضوابط المعرفية، التي أفضى إهمالها والتفريط بها إلى فقدانهم امتياز الرؤية الواضحة لتضاريس الواقع الاجتماعي، وحرمانهم فضيلة التفكير السليم بأواليات تفاعله واتجاهات حراكه .

وهكذا بقدر ما يكثر الأنصار ويزداد المشايعين لهذا الفكر أو ذاك، فضلا"عن تضاعف المفكرين والباحثين بين صفوفه، بقدر ما يتشظى إلى مدارس مختلفة إن لم تكن متعارضة، وينشطر إلى نظريات متنوعة إن لم تكن متناقضة . ومن المفيد التذكير هنا إن الطابع الموضوعي لصيرورات الظواهر الاجتماعية، فضلا"عن حتمية تفاعلها وتصادمها وتصارعها وبالتالي تطورها، لا يمنع عنها حالات الاستثناء التي قد تخل بآليات تلك السيرورات الجدلية، كما قد يحصل في حالات (الطفرات) المفاجئة و(الانحرافات) المباغتة و(الانقطاعات) الغامضة .

وعلى هذا الأساس، فإن توقعات حصول هذه الحالات وارتفاع معدلاتها ترتبط بطبيعة المجتمعات المدروسة وأنماط ثقافاتها وسياقات تاريخها، من حيث أنه كلما كان المجتمع المعنى أكثر تطورا"في مضامير التطور الاقتصادي والإبداع الثقافي والتقدم الحضاري، كلما كان الفرز (الطبقي) بين جماعاته ومكوناته أكثر تبلورا"وأشدّ وضوحا"، والعكس بالعكس . أي بمعنى ان التكوين (الطبقي) للمجتمع لا يرتبط بالشوط الزمني / التاريخي الذي قطعه ضمن مسار صيرورته الاجتماعية – كما يحاجج البعض عادة – وإنما يتحدد نمط ذلك التكوين بالقياس الى مدى انخراطه بالسيرورة الحضارية للعالم، مثلما في  حجم إسهامه في تجاوز أطوارها البدائية وتخطي مراحلها التقليدية، والانتقال بها، من ثم، الى أطوار الرقي والتحضر الإنساني .

وإذا ما وضعنا (الطبقة الوسطى) العراقية ضمن إطار هذه الشروط والمعايير، سنلاحظ أن عمليات تبلورها على الصعيدين النظري والواقعي قد أعيقت وأجهضت مرارا"وتكرارا"، نتيجة للظروف والأوضاع الشاذة التي لم يفتأ المجتمع العراقي من التعرض لها والانخراط في أتونها، بحيث لم يتسنى لمقومات صيرورة تلك الطبقة من التبلور والنضوج بالشكل والصيغة التي تمكنها، ليس فقط من حيازة وامتلاك تلك المقومات الأساسية فحسب، وإنما حالت دونها والقدرة على اكتساب (الوعي) بدورها التاريخي والتمكن من وظيفتها الحضارية . ولهذا فقد ساهمت تلك العوامل على وضع عناصر هذه (الطبقة) بين شقي رحى؛ تخلف الشروط والمعايير الموضوعية للواقع من جهة، وضعف القدرات والإمكانيات الذاتية (الوعي) من جهة أخرى . والى أن تتحقق تلك الشروط وتتوفر تلك العوامل ستبقى (الطبقة الوسطى) العراقية في حالة من الترجرج والهلامية على صعيد الوجود من جانب، والغموض والالتباس على صعيد الوعي بذلك الوجود من جانب ثان .

***

ثامرعباس

العلاقة بين الشعر والفلسفة تعتبر علاقة وثيقة، فالشعر والفلسفة هما من وسائل التعبير الإنساني التي تسعى إلى فهم الحياة والعالم من حولنا بشكل عميق. والشعر هو فن أدبي يتضمن استخدام الكلمات بشكل مبدع للتعبير عن المشاعر والأفكار والتجارب. أما الفلسفة فهي دراسة الأسئلة المتعلقة بالوجود، الحقيقة، القيم، العقل، الأخلاق.

والشعر هو شكل من أشكال الفن الأدبي مكوناته اللغة الأدبية، وهو يرمي إلى هدف معين وإيصال رسالة محددة. والشعر هو كلام موزون له بنوة لغوية منظمة ويتمتع بصوره جمالية غير موجودة في الكلام العادي. أما الفلسفة فهي ترتبط بماهية الإنسان لتجعله راغبا في المعرفة وهو معرفة الأشياء بحقائقها الكلية، والفلسفة تعني بالأشياء وتحفز العقل. والفيلسوف بحكم اهتمامه بالواقع ينصت إلى صوت الحقيقة.  يبني ما الشاعر بحكم اهتمامه بالجمال والمشاعر ينصت إلى روحه ووجدانه وخياله.

يعبر الشعر عن الأفكار والمشاعر بطريقه جمالية  ملهمة. بينما تعتمد الفلسفة على التحليل والمنطق لفهم وتفسير الوجود والحقيقة. وممكن للشعر أن يلقي الضوء على مواضيع فلسفيه مثل الحب والجمال. كما أن الشعر ممكن أن يساعد في توجيه الفلسفة نحو قضايا إنسانية أكثر عمق وتأمل هذا من جانب، من جانب آخر يقدم الشعر للفلسفة أساسا وقواعد للتفكير العميق والتأمل المنهجي مما يمكن الشعراء من بحث القضايا الفلسفة بشكل أعمق وأدق.

والشعر هو فن التعبير الأدبي الذي يمكن الشاعر من التعبير عن الحب والحزن والفرح والغضب وغيرها من المشاعر الإنسانية بطريقه مباشرة أو غير مباشرة. أما الفلسفة فهي دراسة الأسئلة الأساسية حول الحياة والوجود التي من خلالها يصل الفلاسفة إلى فهم جوهر الواقع وبناء نظريات تثري الفهم البشري وتحقيق التطور الفكري.

والربط بين الشعر والفلسفة يكمن في الطبيعة العميقة لكليهما كوسائط للتعبير الإنساني والتأمل الفكري، يحث يستخدم الشاعر اللغة الشعرية للتعبير عن الأفكار الفلسفية بشكل غنائي وجذاب. ليس اللغة فقط بل هناك علاقة معرفية فالذي تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصه ورواية والاختلاف بينهما يكمن في آلية تقديم كل منهما نفسه من خلال اللغة. والتعبير الفلسفي قريب من الواقع كونه يخاطب العقل الإنساني في بحثه عن الحقيقة. بينما التعبير الشعري مقترن بالأفاق الكونية في جوانبه المعرفية، وفي الخيال في جوانبه الإبداعية الهادفة إلى المتعة والجمال لكونه يخاطب الروح والوجدان في الإنسان. ويعتبر الشعر في بعض الأحيان وسيلة لنقل الحكم والفلسفات العميقة بطريقه تتجاوز الكلمات العادية، بالإضافة إلى ذاك ممكن للشعر أن يلهم الفلسفة والعكس صحيحا،، حيث يمكن للأفكار الفلسفية أن تلهم الشعراء في إبداع أعمال شعرية غنية بالروح الإبداعية. وعلى هذا الأساس يمكن دمج الشعر والفلسفة معا لإنتاج أعمال فنية غنية بالمعنى والعمق الفكري. والدوج بين الشعر والفلسفة ممكن أن يخلق تجربه فريدة تثري قلوب وعقول القراء والمستمعين، وممكن لهذا التلاقي أن يساهم في توسيع آفاق الفهم والإدراك، وممكن للأعمال التي تنبثق عن هذا التجانس أن تكون مصدرا للإلهام وإثراء للثقافة الإنسانية.

أضافه إلى ما سبق ممكن اعتبار الشعر نتاجا فلسفيا في بعض الحالات، فالشعر كوسيلة فنية للتعبير ممكن أن يحمل رسائل وأفكارا فلسفيه عميقة، وقد يقوم الشاعر بتناول قضايا فلسفيه مثل الحياة والموت، والوجود والغياب بطريقه تستدعي التأمل والتفكير العميق. وعند استخدام الشاعر لفة الشعر وأساليبها الفنية لتناول مواضيع فلسفيه ممكن أن يكون لشعره بعد فلسفي يدهش القارئ ويدفعه للتأمل في الخفايا والمعاني العميقة. والشعر الذي ينبثق من قلب فلسفي يمكنه أن يلقى قبولا كثيرا بين القراء والباحثين عن الجمال والحقيقة.

وكان الشعر في الفكر الإغريقي له أساسا جوهريا في الخطابة، حيث كان يتخذ هذا الفكر من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، وهناك نجد صاحب ملحمة الإلياذة هوميروس كتبا فلسفته بحروف من الشعر وأراد بذلك تأسيس عالم جديد وهو العالم الإغريقي الذي يكتشف مولد الفلسفة. وكذلك بارمنيدس في فلسفته عن الوجود الواحد عبر عنها على شكل شعر. وهيراقليطس عبر عن فلسفته في التحول والصراع الدائم في نثر شاعري غني بالصورة الأدبي. وبشكل عام فإن الشعر والفلسفة يمكن أن يتكامل كل منهما مع الآخر لإثراء التجربة الفكرية والإبداعية للإنسان، ويكملان بعضهما البعض، ولكل منهما دوره في الحياة ويخدمان الفكر البشري بطريقه مختلفة ولكن لأتعارض بينهما.

***

قائد عباس حمودي حميد

بدءا، على أصحاب الفكر والإبداع الثقافي أن لا يختزلون تحت أي ذريعة دور اللغة كأداة للتعبير، قول شيء يمس هموم الأمة، وان لا يكتفون فقط، باستعراض اللغة، مجرد وسيلة ملازمة للنصوص الأدبية كالشعر والقصة والرواية، وينسون فعل لغتهم في فضح مظالم ومعاناة شعوبهم، فتصبح اللغة وما تمتلكه في مجالها القيمي من مضامين سيميائية، لا معنى لها ولا تستطيع أن تجسد تلك القيم بشكل دقيق وملموس.. في إطار تعزيز تعدد اللغات والثقافات اعتمدت الأمم المتحدة في ديسمبر 1973 قرارا للاحتفال بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية الست في عمل الأمم المتحدة. لكن هل كان هذا القرار ينذر بانتهاء التمييز بين البشر وانتمائهم الثقافي والحضري، أو الاعتراف بحقوق الشعوب والأمم، وأهمها حق الحياة والاستقرار ومنع الحروب عليها؟.

يقول العراقيون: أنصت إلى لغة والديك تجد ما يقودك إلى الحقيقة.

اللغة، هي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي فن يعبر عن روح الإنسان وتاريخه، تنقلنا عبر الزمن وتفتح أبواب ثقافتنا بأسلوبها الفريد على مصراعيه. وإذ يقال عن العربية هي لغة الأدباء والشعراء المشعة بجمالياتها وعمقها في سماء الأدب اللامتناهي. فتراثنا الأدبي الحافل بأنسابه اللغوية القيمة والحكمة والجمال والدفء، يعكس أيضا، المشروع التنويري لنصرة الكادحين والطبقات المسحوقة التي نالها الظلم وعانت من الاضطهاد والحروب على مدى عصور. اليوم، حينما يتساقط الدم وتتعاظم عواصف الظلام والإرهاب، تبقى الكلمات وسيلة البقاء على قيد الحياة. وعلى اللغويين أن يتصدوا بأقلامهم الحرفية لمواجهة الذي يهدد معنى الإنسانية. وخطابهم الثقافي أن يتجاوز حدود الجمود، كالسيف يخترق دروب الجهل والتخلف والتستر على الحقيقة.

لا تقتصر اللغة العربية فقط على صورها والكلمات البليغة، بل تتعدى ذلك لتمتد إلى عمق الفهم والتفاعل التعبيري في مجاليه الأدبي والقيمي. تحمل في طياتها الدقة والغزارة، ما يجعلها أداة فعالة لنقل الأفكار والمشاعر بأبهى الأساليب والوضوح. وتتجلى أهمية اللغة العربية في قدرتها على حمل المعاني والتعابير العميقة. كما تمنح الكلمات حقها الكامل وتجسد الأفكار بشكل دقيق وملموس. ومن خلال تراثنا الأدبي الغني، فاللغة العربية تتمتع بأشكال وأساليب فنية وسيميائية مختلفة، أيضا، برؤية نوعية شاملة.

في خضم هذه الصفات البعيدة المدى، فاللغة العربية جسر يربط الماضي بالحاضر، بل، الشرق بالغرب. تلاحمها مع الزمن، يعكس تجدد عظمة تأصيلها ليتلاءم مع تطور العصر وتحدياته. وفي الوقت نفسه، كيف يجد الإنسان في اللغة العربية، ليس فقط وسيلة للتعبير، بل وصفحة مفتوحة على عالم المعتقد والفن والعلم، إنها كنز عديد الأغوار والاستكشافات. وفي جمالية اللغة العربية تكمن أيضا، عبقرية الشاعر الأبدية في كيفية توظيف مفرداتها ليس في الخطاب الأدبي فحسب، إنما الجري باتجاه الحياة السياسية ومعالجة المحيط الاجتماعي وتفكيك واقعه الموضوعي والطبقي.

ثقافات عالمية متنوعة في عصور عدة، نقل كتابها وأدباؤها ومفكروها الكثير عن إعجابهم باللغة العربية وقدرتها التعبيرية في مفاصل الحياة العامة... غوته، كان من أشهر الكتاب والمفكرين الألمان، أبدى إعجابه الكبير باللغة العربية إذ قال: "هناك شيء ملكوت في اللغة العربية، ولها قدرة على التعبير عن أفكار معقدة ببساطة فائقة"... فولتير، الفيلسوف الفرنسي الشهير أعرب عن إعجابه باللغة العربية قائلا: "اللغة العربية هي لغة العلم والفلسفة"... إيمرسون، الفيلسوف والشاعر الأمريكي قال: "اللغة العربية... تختصر المعاني بأقل الكلمات وأعظمها"... لورانس داريل، الروائي البريطاني أعرب عن تقديره للجماليات اللغوية في اللغة العربية، وكتب عنها بإعجاب في روايته "القاهرة الثلاثية".

أضيف إلى ذلك، أن اللغة العربية التي تعتبر لغة القرآن والشعر والأدب الكلاسيكي، ولها مكانة خاصة في قلوب الأدباء والكتاب العرب، قال فيها الكاتب والفيلسوف اللبناني الشهير: جبران خليل جبران: "العربية لغة جميلة، والكلمات فيها كالألحان"... أحلام مستغانم: الكاتبة الجزائرية الحائزة على جائزة نوبل للأدب قالت: "اللغة العربية هي حقل زهور لا يعد ولا يحصى".. نجيب محفوظ: الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل للأدب، والذي وصف اللغة العربية بأنها "أرق من العاج وأقوى من الصلب".. أديب الرفاعي: الشاعر السوري الكبير وصف اللغة العربية بأنها "لغة الطير ولحن الأمواج".. أحمد شوقي: الشاعر المصري وصف اللغة العربية بأنها "لغة الشعر الجميل والأدب العظيم".. إلا أن عالم الإجتماع العراقي علي الوردي، كان قد وجه عام 1951 نداء وهو بصدد مفهوم "لغة الكتابة ولغة الخطابة" قال فيه: تحدثوا كما تخطبون، واخطبوا كما تتحدثون. ما أعظم هذه الناصية الفلسفية في الحياة المجتمعية لهذا الانسان المفكر، وما أعظمه من خطاب يسابق الزمن ويتصدى للجمود.

لعلنا، ونحن نرتوي من جوانب الإعجاب باللغة العربية، سواء كانت تعبيرا عن روعة الألفاظ أو تقدير للتراث الأدبي الغني الذي قدمته اللغة العربية على مر العصور. وقد رأى الكتاب والأدباء للغة العربية لونا خاصا وصوتا جميلا يعكس تاريخا وحضارة لن تتوقف عند حدود أو أزمنة. نتساءل، ما قيمة لغة الأدب لدى بعض المثقفين المتباهين العرب، إذا لم يحسنو فعلها وفي الضفة الأخرى تقف، كل مآثر اللغة، أية لغة، عاجزة أمام وحشية الحروب وقتل الإنسان بهمجية مفرطة. ولم يبق إلا لغة الصمت، وهو "فعل" أقوى من اللغة ذاتها عندما يصبح النص الأدبي "مأساة" أمام آلة الحرب والقتل الهمجي، حيثما تندثر لغة الكلمات للتعبير عن قيم الحياة والإنسانية في زمن العقبات الظلامية والقتل والدمار.

ولعلي أختم بقول محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الراحل، الذي تنبثق كلماته في عمق لغتنا العربية كالنبع في صحراء العقول المحاصرة بالجفاف، تحمل في طياتها، قيما ووعيا ثقافيا يهزم التشويش ويعيد كالرياح العاتية للذاكرة أصل القضية: "اللغة العربية هي جوهر الهوية، ولون الأحلام، ورنين الحرية".

***

عصام الياسري

شهر رمضان هو شهر التفكير يوميا وبتمعن وعمق في علاقتنا بالله تبارك وتعالى وجرد دقيق لانحطاط منحنى صدقنا ووعينا لما بعد هذه الحياة وماهية وجودنا فيها وغايات ذلك، هناك تحليل بياني لما هي عليه برمجتنا الإسلامية واستعادة نقدية لمنعطفات ذاكرتنا العبادية على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية او لنقل السنة الفائتة وتحديد مستند الأعمال وماذا عن الذنوب المرتكبة عبرها او ضمنها او في سياقها ، حيث لا يمكن لمسلم رشيد وواع بماهية إسلامه في وجوده أن تغيب عن ذهنه تجديد برمجته الداخلية الفكرية والنفسية والعملية كونها ذات ارتباط مباشر بمصيره في الحياة الدنيا ويوم الحساب، مما يجعل الصيام لمدة شهر ليس روتينا عباديا وإنما دورة مستندية للنفس والفكر والعاطفة والموقف والتطلع ذات خريطة تتوزع معالمها في أعمق اعماق الذات الإنسانية والتي يمكن مقاربتها واستدراك تدقيقها من خلال العودة للقرآن الكريم عبر عملية تدبر وكذلك من خلال مقتضيات الدعاء ووعي فلسفة الصبر كمنهج تطور ورقي وليس تفريط او إفراط في قبال التحديات والصعاب والالتزامات..

 الدورة المستندية لآفاق الذات:

اقرب مثال هو رجل أعمال يمتلك مصنعا ينتج مواد مهمة إما غذائية او صناعية أو غير ذلك بلاشك يحتاج إلى دورة مستندية وفق خريطة محددة لمتابعة وتحليل وتدقيق البيانات وحركة الإنتاج والتخزين والتوزيع ومردوداتها المالية، وينطبق الأمر على بعدين الخسائر والأرباح حيث سيكون الانضباط والتخطيط والتنظيم والادارة المثلى دليل النجاح، بينما الإهمال وترك الرقابة وتأخر التنظيم وفقدان التخطيط، اساس سيناريو الخسارة الفادحة والافلاس، ولنطبق الأمر في وعينا بذات كل واحد منا في علاقته بالله عز وجل وما تعكسه من جودة في العطاء الفكري والنفسي والسلوكي والموقف الايماني والعمل الصالح فهي تجارة ناجحة وإما العكس تجارة فاسدة كاسدة خاسرة والذي يقرر صورتها وحقيقتها هو الإنسان نفسه بحسب ما كانت مستنداته الشخصية إما خير او شر، دون أن ننسى أنه هذه الدورة المستندية المحاسب فيها هو ذات الشخص ولا يمكنه تكليف أحدا غيره.

رمضان مستندية البرمجة الداخلية للإنسان المسلم وفرصة سانحة لمراجعة البيت النفسي والقمة الفكرية والعمق العاطفي والسلوك العملي عبر ترميم الخريطة المستندية وترتيب الأولويات وتحليل الخسائر واستثمار الأرباح كل ذلك في تجربة تأملية لعلاقتنا بالله تبارك وتعالى وبالآخرين وبالحياة كلها وذلك كله في رحاب القرآن الكريم، ولا ريب أن رمضان شهر تجديد نظام الصرف الأخلاقي عبر الصبر في هجران ذنوب ارتكبت وسودت القلب وشوهت الرؤية وأفسدت المسيرة نحو العيد الاكبر..

 كيف نصوم؟!

شهر رمضان دورة برمجة ذاتية ترنو إلى نيل عطاءات العفو والمغفرة والصفح والرحمة الإلهية والعتق من نيران الدنيا والآخرة، نعم إنه شهر الجرد العمري أو على الأقل السنوي والمنطلق لتربية الذات من خلال تنقية ملفاتها من أوساخ الغفلة والتكبر والعجب والنفاق والكذب والخيانة وتتبع عثرات المؤمنين وفتنتهم وكل المظالم والمفاسد في أعمارنا، دورة البرمجة الداخلية هي إرادة بناء نظام التوبة الحقيقية، نعمل من خلالها على تخطيط إيمان عميق وصادق، يكون ذا أثر عكسي على عداد الذنوب والمعاصي والمظالم لتتناقص تدريجيا في تفاصيل حياتنا المقبلة، وتأمين لمستندية الذات من الانزلاق نحو هاوية الغضب والطرد من رحمة الله- والعياذ بالله، فنتذكر جوع وعطش إخواننا بغزة الصامدة المرابطة ونزوحهم والطيبين باليمن والسودان وفي ذلك كله تذكر لجوع يوم القيامة وعطشه، ونتصدق على فقراء ومساكين فلسطين أولا واليمن والسودان والعالم كله، ولنعمل على تأمين مجتمعاتنا عبر توقير كبارنا، ورحمة صغارنا، وصلة أرحامنا، والأمثل ان نحفظ ألسنتنا، ونغض عما لا يحل النظر إليه أبصارنا، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعنا، ولا نغفل على أيتام الناس خاصة أيتام غزة الأبية وأولئك الذين صانوا كرامتنا بشهادتهم، حتى يتحنن على أيتامنا، هكذا واقعا تكون التوبة إلى الله من ذنوبنا، ولا ننسى أن نرفع إلى الله أيدينا بالدعاء في أوقات صلواتنا ، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده..

إرادة تجديد الوعي:

شهر رمضان من أفضل الفرص لتجاوز الملهيات ومظاهر العبث وسبل الإغواء والتخلص من حبائل المخططات الفتنوية للافراد والمجتمعات فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، إنه رحلة تجديد لماهية كرامة الإنسان في هذه الحياة ضمن أطر الإسلام الخالص، ومنها لكرامة المجتمع المسلم وبالتالي وعي ماهية الكرامة الإنسانية في الإسلام من أعماق الداخل نحو الخارج الواقع والمحيط بنا، إنها رحلة الصبر على الوعي السليم للحياة الإيمانية عبر إعمال الفكر الراقي وتهذيب النفس بالأخلاق الرفيعة والاسهام بالموقف الرشيد في مسارات العمل وآفاق التطلع.

الصبر سمة شاملة لدورة البرمجة الداخلية وتحليل وترشيد المستندية الذاتية لكل واحد منا، وقبل أن تكون عبادة فهي لطف إلهي بل جائزة إلهية لمن صام الشهر الفضيل بوعي بليغ وجد واجتهاد في بلوغ منتهى رضا الله، فإرادة الصوم الحقيقي هو وعي أهمية شهر رمضان وما فيه من عبقات الرحمة والمغفرة والعتق من النار، والإرادة الذكية هي أساس الصبر، عبر سؤال ربنا بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقنا لصيامه وتلاوة كتابه حتى نتوب بصدق وإخلاص ووعي وثقة بأن لنا رب غفور رحيم سميع مجيب، فلا ننام على الواجبات والفرائض ولا نفتح ملفات الجاهلية الأولى ولا نصب الزيت على نيران الفتن، بل لنصم عن كل الشرور التي تشوه إسلامنا في جميع ميادين واقعنا خصوصا في السياسة والإعلام ومنابر شياطين الظلم ولنصم ببصيرة ونصبر على تربية النفس ونهيها عن الهوى وتعويدها على الطاعات بحضور وخشوع، حتى نجعل فيه من أهل كرامة الله، فتكون أنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، وعملنا فيه مقبول، ودعاؤنا فيه مستجاب ..لعل وعسى ننال جنة المأوى..

الثقافة القرآنية وإدارة أزمنة الحياة:

في شهر رمضان السمة الأساسية او العادة المهمة هي ضرورة الانشغال بالذكر الحكيم من اول ليلة إلى آخر يوم وهذا ما يمكن التعبير عنه بأنه روح الدورة ولغة الخطاب التي تجعلنا نكتسب تعبيرات خاصة ومفاهيم استراتيجية في صياغة الرؤية ضمن ما يعبر عنه بالثقافة الإسلامية التي تتأسس على مفردات وتشريعات وآفاق الرؤية القرآنية والبرنامج التربوي والتأصيلي قرآنيا، لهذا كله كان رمضان شهر الصيام ربيع القرآن، أي حضور شبه شامل في تفاصيل الزمن الرمضاني للوحي الالهي المتمثل في بصائر القرآن ونوره المبارك الذي يسلط على الأعماق والواقع والأفكار والعواطف والعلاقات والتطلعات في استثمار امثل لأيام وليالي رمضان لاستيعاب وفهم ووعي وتدارس وتأمل وتدبر لآيات الذكر الحكيم مما يخلق داخل الذات ثورة إيمانية تربوية تدرك معالم الوجود الزمانية حيث رمضان الشهر ينبه مفهوم الزمن الذاتي لمسؤوليات الحياة ويضبط إدارة الفعل العبادي ضمن معادلة قرآنية استجمع وتستحضر وتؤلف بين عدة عبادات في وقفة مصيرية للذات في علاقاتها وتصوراتها وتطلعاتها، هنا في رحاب القرآن في شهر واحد من السنة تتجسد العبودية لله لتشرق على باقي السنة بروحية جديدة ملؤها الوعي القرآني لمقاصد الحياة ومسؤولياتها وآفاق كرامتها الحقيقية.. هكذا نصوم عن كل الثقافات النسبية لننفتح على الثقافة المطلقة في القرآن الكريم كمنهج تجديدي للذات في وعيها لماهية الإسلام والإيمان والإحسان والكرامة في رحاب شهر الله..

و الله من وراء القصد

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

في المثقف اليوم