أقلام ثقافية

استقراء الواقع في رواية الهذلي عن شعر جرير والفرزدق

حسن الحضريتأويل النص يحتاج إلى أن تسبقه عملية استقراء صحيحة، لِما يتعلق بمضونه؛ منعًا للَّبس والخلط والأخطاء الناتجة عن التحريف والتصحيف وغير ذلك مما يخلُّ بالمعنى، وكثيرًا ما تختلط بعض المعاني على الرُّواة والنُّقَّاد، فيحملون الألفاظ على غير محملها، ويجتهدون فيضيفون إلى مجملها ما يفصِّله، ثم تجري به المتابعات فيصبح تأصيلًا لأمرٍ ما.

ومما عبث به التحريف وسوء الفهم؛ ما رُوِي عن شيخٍ هذليٍّ كان خالًا للفرزدق؛ أنه قال: "جئت الفرزدق ودخلت على رواته، فوجدتهم يعدِّلون ما انحرف من شعره، ثم أتيت جريرًا، وجئت رواته وهم يقوِّمون ما انحرف من شعره".

فهذا الكلام يوهم أن جريرًا والفرزدق كانا يقعان في عيوب الشعر، وبكثرةٍ، وأن رُواتهما هم الذين كانوا يقوِّمون شعرهما وينقحونه، وكأنَّهما لا يحسنان الشعر!!، وفي كلام بعض النقاد ما يدل على وقوعهم في هذا الوهَم، حيث يبدو في كلامهم تأصيله باعتباره حقيقة؛ ومن ذلك قول الدكتور شوقي ضيف: "ولم يكونوا يروون شعرهما فحسب؛ بل كانوا ينقحونه ويهذبونه".

وعند استقراء الواقع يتبين أن كلام الهذلي، معناه أن الرواة كانوا يقُومون بفصل كل قصيدة أو مقطوعة عن غيرها مما قاله الشاعر في مجلسٍ واحدٍ، أو في مجالس متقاربة الزمان والمكان؛ ومن لديه علمٌ بصناعة الشعر يعلم أن الشاعر ربما قال في مناسبة بعينها بيتًا أو أبياتًا، ثم عدل إلى قافية أخرى، أو رويٍّ آخر، أو وزنٍ آخر، فكان الرواة ينظِّمون ذلك في أثناء جمعهم، وهذا ليس معناه أن الشاعر أخطأ؛ بل الشاعر قال قصائد ومقطوعاتٍ وأبياتًا متفرقة، جمعها الرواة كما تجمعها صفحات الكتب الآن؛ كل قصيدة أو مقطوعة قائمة بذاتها تحت عنوان واحد.

وأغلب الظن أن كلام الهذلي تم تحريفه، ولعلَّ من حرَّفه كان يقصد شرحه بناءً على فهمِه، وحيث إنه قد أساء فهمَه؛ خرج الشرح مخرج التحريف؛ وثمة احتمالات أخرى واردة، وكلها تدور حول اللَّبس والتحريف، وما يعنينا أن هذا المعنى الذي وصل إلينا في رواية الهذلي بهذه الألفاظ؛ لا يمكن أن يقع في عصرٍ أدركه كثيرٌ من الصحابة -رضي الله عنهم- الذين نزل فيهم القرآن الكريم متحدِّيًا فصاحتهم وبلاغتهم.

وهذا ليس معناه عدم وقوع شيء من تلك الأخطاء عند القدماء؛ فقد ورد شيء يسيرٌ جدًّا من ذلك، عن النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم، لا يمكن اعتباره ظاهرة؛ بل هو من قبيل السهو، وعدم ترديد الشاعر لِما ينْظمه قبل أن ينشده؛ والدليل أن النابغة فطن لذلك حين غنَّوه بشعره، وكذلك بشر بن أبي خازم حين نبَّهه أخوه.

إن الحكم على مسألة بعينها، في عصرٍ بعينه؛ يتطلب الإلمام بتفاصيل تلك المسألة، وطبيعة ذلك العصر، والأشخاص الذين تتعلق بهم المسألة؛ لأن ذلك كله يساعد في إصدار الحكم الصحيح.

 

حسن الحضري

عضو اتحاد كتاب مصر

 

في المثقف اليوم