أقلام ثقافية

الفصحى تسكن "القصور"

عبد السلام فاروقثمة خوف وقلق لدى كافة المهتمين بالفصحى أن العامية لها اليد العليا اليوم.. سيل عارم من الإنتاج الثقافى العامى المسموع والمرئي والمقروء تَفجَر فى وجوهنا واستمر فى اندفاعته تلك منذ عدة سنوات مضت وما يزال ينهمر.

نقطة ضوء وحيدة ما تزال تصر على الوميض مهما كان خافتاً واهناً. لكنه فى خفوته وضعفه يصر على الحياة والبقاء. فبين عناوين تنافسَت فى الغرابة والإسفاف والتحايل على عين القراء، ظلت هيئة قصور الثقافة تحافظ على رصانتها وصيانتها للفصحى وللثقافة الرفيعة من خلال إصدارات عميقة الفحوى والتأثير. والدليل معارض الكتاب، حيث يعزف جمهور القراء عن العناوين البراقة والطباعة الفخمة لمتون متوسطة القيمة على أكثر تقدير، ويقبل الناس على إصدارات هيئة الكتاب وقصور الثقافة الأكثر جدية وعمقاً والأقل تكلفةً وسعراً.

فى باب النقد الأدبى مثلاً، ثمة ثلاثة كتب تتبارى فيما بينها من حيث روعة المبنى وشمول المعنى وحصافة المغزى والجوهر. أول هذه الكتب بعنوان : (الواقعية فى الفلسفة والأدب والفن) للسيناريست الشهير مصطفى محرم، وهو كتاب رغم جديته وعمقه استطاع استدراج القارئ غير المتخصص إلى دائرة الاهتمام من أول سطر فيه، حيث يبتدرنا مصطفى محرم فى مقدمته : ( أذكر أنه فى أواخر الخمسينات، ومعظم سنوات الستينيات من القرن الماضى قد كثر الكلام عن المذهب الواقعى خاصةً فى مجال الأدب، وذلك من جانب بعض النقاد وبعض من توهموا أنهم مبدعين فى الرواية والقصة القصيرة. وأغرق هؤلاء المدَّعون الصحف والمجلات بأعمالهم تحت شعار الواقعية. وللأسف فقد صدقهم البعض وتحمسوا لهم من منطلق حماسهم للماركسية والاشتراكية. ولكن أنكرهم بعض ممن كانوا يعرفون حقيقة هؤلاء المدعين. ولم يصمد أمام قوى الزمن التى تطيح بمن لا يقدر على التصدى لها إلا المبدع الحقيقي فى مجال الرواية والقصة القصيرة وعاشت أعماله حتى وقتنا هذا ). إنه يشتبك مع طائفة من الرواة والأدباء من اللحظة الأولى لكتابه مما يحمل فى طياته روح الأكشن التى تلازمه ككاتب سيناريو مقتدر.. ولا تكاد تشعر إلا وقد قطعت نصف الكتاب لتكتشف أنك كنت تقرأ عن أمثال (جورج باركلى) و(أوجست كونت) و(جوستاف فلوبير) حول المذهب الواقعى فى الفلسفة والنقد الأدبى كلاماً على قدر من العمق والتخصص إلا أن سحر الطريقة السلسة السهلة التى يكتب بها مصطفى محرم تسحب عينيك واهتمامك إلى نهاية الكتاب حيث ينتقل إلى الواقعية فى المسرح والسينما بنفس طريقة العرض الشيقة الناضجة.

كتاب آخر يحمل عنوان : ( الرواية فى زمن مضطرب) للدكتور فهمى عبد السلام وهو كتاب مثير للفضول والتساؤل من أول عبارة فيه، بل من عنوانه. ضم بين دفتيه عدداً من الدراسات النقدية للمؤلف نشرتها مجلة الهلال فى فترات متباينة.

ما يميز هذا الكتاب القيم ليس فقط أنه يتناول نقد روايات عظيمة لأدباء عظماء أمثال نجيب محفوظ وفتحى غانم ويوسف إدريس ولويس عوض ومحمود السعدنى، بل لأنه يتجاوز النقد إلى الغوص فى أعماق أسرار إنسانية تتعلق بهؤلاء الأدباء وبغيرهم فى منطقة يتقاطع فيها العمل النقدى بالتراجم والسِيَر والتأريخ. والأجمل أنك تقرأ العمل بسهولة ويسر واستمتاع بفضل لغته الأنيقة وأسلوبه الرشيق.

كتاب نقدى ثالث كان من بين الأعمال الفائزة بالمسابقة الأدبية لهيئة قصور الثقافة للعام قبل الماضى لمؤلفه الشاعر (أشرف البولاقى) تحت عنوان (تجليات استلهام التراث – قراءة نقدية فى إبداعات معاصرة).. وأشد ما يلفت انتباهك للكتاب الاهتمام العظيم الذى يوليه المؤلف للفصحى ضبطاً وبناءً وتنميقاً وصياغة. رغم أن بعض النصوص التى تناولها بالنقد هى نصوص عامية، لكن حرصه على الفصحى فى كتابته كان جلياً واضحاً أشد الوضوح. الأمر الثانى مما يشد الانتباه نحو الكتاب هو المنهج النقدى الذى اتخذه المؤلف والذى استطاع من خلاله النفاذ إلى العمق ليس فى مجال القراءة النقدية فحسب، وإنما فى الرؤية الأعمق تجاه ربط الأعمال الأدبية معاً فى سياق أشمل يضع للعمل الأدبى تصنيفاً وموقعاً فى سلاسل التراث الأدبى والإنسانى.

ومن سلسلة روائع الأدب العربى لهيئة قصور الثقافة قرأت رواية متميزة للروائية (سلوى بكر) هى رواية (أدمانتيوس الألماسى) تلمس فيها جانباً جديداً من جوانب الاهتمام بالفصحى هو جانب انتقاء المفردات وهو ما تلمسه فى المقدمة التى اختارتها لتتصدر عملها الروائى المتميز واختارت لها عنوان : (عن الكتابة والإبداع)، إذ تكتب متسائلة : (من أين تسطع شمس الكتابة وتتشكل أزمنة بدءها؟ هل تسطع من أسئلة أغوار النفس العميقة ؟ أم من ذلك الامتداد السرمدى للوجود وتشابكاته ؟ أهو باثقها ذلك التمرد الغاضب على الإجابات العتيقة الميتة والسعى لدحضها بألف شكل وشكل؟... تتطلب الكتابة مشاهدات، ونظر ورؤية ورؤى، وإطلالات وشوف وتشوف إلى ما هو بالداخل والخارج، فبداخلنا أكوان، وبخارجنا عوالم ذات إشارات ورموز ودلالات وبراهين، فالكتابة تحتاج إلى ألف عين ترى ما لا يرى، تتحدى الظلمات لتكشف وتشف وتنتزع من أحشاء الأوهام يقين السؤال الذى لا ينتهى. الحواة ولاعبو الأكروبات والساقطون بالمظلات السريعة إلى أرض الكتابة السبخة لا يعمرون فيها طويلاً، فثمة ما هو أبعد من المهارة فى مجرة الكلمات التى تدور وتدور فى سرمدية الصدق والسعى إلى ما ينتسب للحق، ولكن أليس ذلك مما يحتاج الجلد والمثابرة والخوض فى دروب النار الحارقة ؟...إن سحر الكتابة ومفعولاتها، تمتحنه الأزمنة، ويزداد ألقه وتعتنقه بتراكمها المستديم، وربما يظل سؤالها الأبدى.. كيف تستمر فى التنفس دون أن تشيخ ملامحها الجميلة. تصنع الكتابة الحقة، دينها، قانونها، أخلاقها، ناموسها المحتكم إلى الضمير والعقل، عبر لذة الحرية بالخيال، الخيال الذى لا نهى عليه ولا أمر. الكتابة إغناء، والممتحَن بها هو فى مقام المستغنِى، الواقف على عتبات السمو والارتفاع، عبر إزاحة العالم بعيداً، والسباحة فى محيطات الخيال ).

اختارت المؤلفة مكاناً معاصراً فى زمن قديم، واختارت لحظة قديمة لها نكهة معاصرة، حيث الاضطهاد الرومانى للمسيحية الوليدة فى الإسكندرية القديمة، وحيث يتلاقَى ما هو دينى مع ما هو سياسي وعلمى وفلسفى فيما حول مكتبة السيرابيوم.. ثمة تفاصيل وألفاظ وأسماء ورؤى وقراءات يكتظ بها العمل الروائى الدسم الذى تقرؤه منبهراً بهذه الأجواء التاريخية المدهشة.

كتاب خامس قرأته من سلسلة العلوم الاجتماعية من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة هو: (تجديد النحو) للدكتور (شوقى ضيف) واندهشت عندما اكتشفت سعره الزهيد، وقارنت حينها بينه وبين كتب كثيرة على الأرفف لها أسعار ينكرها جيبي، وتعجبت من تلك المفارقة ومن التباين العظيم بين قيمة هذا الكتاب الرائع وغيره من الكتب الأخرى التى لا تطاوله. وبرغم أنه كتاب متخصص فى علم النحو غير أننى ألفيته عظيم القيمة بفضل شموله وإتقانه ورشاقته وتأسفت أننى لم أقتنيه فى وقت سابق، إذ اكتشفت أنه صادر من عام 2017، وأنه كُتِب فى ثمانينيات القرن الماضى.

كثيرون ممن يعملون فى حقول التأليف والكتابة الصحفية والأدبية يحتاجون لمثل هذا الكتاب وغيره من الإصدارات التى تتناول علوم اللغة كالبلاغة والصرف والعَروض، خاصةً عندما تتمتع بمثل هذا الشمول الذى يميز كتاب (تجديد النحو) لشوقى ضيف.

فى النهاية لا يسعنى إلا تقديم تحية متواضعة تستحقها هيئة قصور الثقافة المصرية على صيانتها للفصحى ممثلةً فى إصداراتها الهادفة الجديرة بالاقتناء والقراءة والاهتمام، والرحيمة بجيوب القراء.

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم