أقلام ثقافية

الفُرْجَةُ فِي مِصْرَ.. شَوقٌ واِشْتِيَاقٌ ووَلَعٌ

بليغ حمدي اسماعيليخبرنا الكاتب الموسوعي أنيس محمد منصور في كتابه (غلطة عمري) بأنه حينما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، طلب القائد المهووس نابليون بونابرت من عدد من العلماء الشباب والكبار أيضا أن يكتبوا بأقلامهم بطاقة شخصية للقطر المصري، وفعلا قام هؤلاء العلماء بتكثيف جهودهم حتى أتموا إعداد موسوعة علمية واجتماعية وتاريخية وجغرافية عظيمة عرفت باسم (وصف مصر) . وفي هذا الكتاب الكبير نجد تسجيلا عظيما لتاريخ مصر الجيولوجي والجغرافي والسياسي أيضا، والمظاهر الدينية السائدة، وكل ما يتعلق بعلوم الحيوان والنبات حتى التقاليد الشعبية في القرى والنجوع المصرية الضاربة في البعد الجغرافي عن العاصمة .

كل هذا طبيعي جدا، وربما يعرفه القاصي والداني والمستقرئ لتاريخ مصر المحروسة، لكن الأمر الذي أثار دهشة العلماء الفرنسيين هو خرس وجه الفلاح المصري، أي حالات الصمت المطبق التي تعتري وجهه؛ فهو لا يبدي أي تعبير على وجهه وربما علماء وخبراء لغة الجسد اليوم يكتشفون فقر أدواتهم وبضاعتهم البحثية لأنهم لن يستطيعون أيضا قراءة وتفسير وجه الفلاح المصري.

وبعد رصد وتحليل وتفسير وتأويل علماء الحملة الفرنسية استنبطوا وفطنوا إلى حقيقة صمت هذا الوجه وخرس مشاعره الظاهرة؛ لأن الفلاح المصري بسبب القهر الطويل الذي تعرض له من قوات الاحتلال عصرا بعد عصر تعلم بسب هذا الخوف أن يخفي مشاعره وأن يتقبل المصائب والمباهج في صمت وسكوت.

فكما ينقل لنا الكاتب أنيس منصور أن الفلاح خائف إذا تألم أن يلقى عذابا أكثر، وخائف إذا تظاهر بعدم المبالاة أن يلقى عذابا أكثر .. فاستسلم وذاب كل ذلك في وجه لا معالم له، هو فقط اكتفى بالفرجة والاستمتاع بتحريك عينيه لمتابعة ما يحدث حوله في صمت .

ولعل هوس المصريين بمتابعة إحداثيات مشاهدهم المجتمعية اليومية يتم وفق آليات وتقنيات رصينة أي أنها ـ المشاهدة والمتابعة ـ تتم بصورة آلية متوارثة مفادها المشاهدة والفرجة بغير اكتراث أو مشاركة حقيقية سواء في التفاعل مع الحدث أو صناعته، وهذه السمة تعكس ثقافة شعبية لدى عموم المصريين الذين يروجون دائما لثقافة (سمعت ـ قالوا ـ يقولون ـ سوف يحدث) وكل هذه المفردات إنما هي حيلة نفسية دفاعية تشير إلى الهروب من تحمل المسئولية والتنصل من المشاركة الحقيقية في صناعة المشهد القائم، حدث هذا في مظاهر ومواقف شتى مثل تقاعس ملايين المصريين في الالتفاف حول الشرارة الأولى لاشتعال انتفاضة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وحدث أيضا في المتابعة الصامتة في صمت المصريين وولعهم بالفرجة والاكتفاء بنظرات غير معبرة سواء كان الحدث إنجازا كبيرا ووطنيا مثل قناة السويس الجديدة وزرع الصحراء وإنشاء محطة نووية، أو تقاعس حكومي في بعض المؤسسات أو حتى حوادث ومجريات اجتماعية عادية جدا .

ولعل اكتفاء المصريين بالفرجة بل وولعهم بها يأتي من التفسيرات المتباينة لظاهرة الحرج والارتباك التي يعاني منها الكثيرون، وهي ظاهرة نفسية تجبر المرء على الجنوح بعيدا عن المشاركة الحقيقية في الحدث، ولعل هذه النظرية هي التي دفعتني للتنقيب عن كتاب يتناول ولع المصريين بالفرجة وسلبيتهم التي تقتصر على مشاهدة الأحداث واليوميات المصرية بغير تفاعل سوى بالتصفيق أو التطبيل دون حراك حقيقي، ورغم هذه السلبية لا يمكن الغفلة عن الإحداثيات المصرية التاريخية التي شارك فيها المصريون بقوة بل وبشراسة أيضا، من مثل هذه الإحداثيات الثورة الشعبية ضد الحملة الفرنسية على مصر المحروسة، والثورة العرابية بقيادة الزعيم التاريخي البطل أحمد عرابي .

وما قام به المصريون عقب نفي الزعيم المصري السياسي سعد زغلول، مرورا بإحداثيات سياسية وعسكرية شائكة سواء على مستوى تحليل الحدث أو طبيعة المشاركة الشعبية مثل ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952، أو من خلال مواجهة العدوان الثلاثي على مصر والتصدي له، انتهاء بانتفاضة الثوار ضد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك وسعيه المستدام لتكريس نظرية التوريث الفرعونية والتي أعادتها فترة الحكم العثماني على مصر، وثورة الثلاثين من يونيو التي هبت من خلالها ملايين المصريين ضد الممارسات الإقصائية والاستلابية لحكم جماعة حسن البنا المحظورة وانتهت بالعزل الشعبي لمحمد مرسي بوصف الأخير كان ممثل الجماعة في حكم مصر.

وفي خلال هذه الرحلة الاستكشافية بحثا عن كتاب يسرد وقائع ولع المصريين بالمشاهدة والفرجة لأحداث المحروسة، سقط بين يدي من على أعلى نقطة بشجرة المعرفة كتاب ماتع ورائع يحكي عن مصر وأحوالها ومقاماتها الهادئة والمضطربة والساكنة والمائجة هو كتاب ولع الفرجة فقر التاريخ للكاتب أحمد عبد العال، وهو كتاب كبير الحجم بصفحاته وأكبر بمعلوماته وبياناته التي تروي قصة شعب اتسم بولع دائم للفرجة .

ويخبرنا الكاتب في مفتتح الكتاب بأن ولع المصريين المستدام بالفرجة يعد مفتاحا سحريا للمعرفة أكثر من كونه التفافا إلى الماضي، لاسيما وإن كان هذا الماضي لايزال ممتدا حتى وقتنا الراهن ويمتد بجذوره الطويلة والعميقة إلى تفاصيل إحداثياتنا المعاصرة التي تبدو أكثر اضطرابا.

وهذا الولع المصري بالفرجة على أحداث المحروسة نفسها هو محاولة حقيقية لفك شفرة هذا الوطن الساحر، خصوصا وأن المصريين على امتداد تاريخهم الطويل الضارب في القدم والأصالة على موعد دائم وثابت مع عشق الفرجة على أحداثهم السياسية والاجتماعية والدينية، فنرى على سبيل المثال وليس الحصر من يخرج للفرجة على مشاهد الاحتفال بالمولد النبوي، وبمناسبات مثل شم النسيم، ومولد السيدة العذراء وغيرها من المناسبات والاحتفاءات شديدة المصرية.

ويؤكد المؤلف في كتابه الذي يستحق القراءة والتأويل أن الفرجة والولع بها تشكل عند المصريين تراثا مستمدا من احتفالاتهم وطقوسهم الاجتماعية وكذا طرقهم وأساليبهم في التعبير عن حياتهم وأعيادهم ومعتقداتهم الدينية والدنيوية على حد سواء . فضلا عن أن الفرجة ذاتها سواء كانت بدافع المشاهدة أو حب الاستطلاع نشاطا إنسانيا يقبل عليه الناس ويمارسونه في كل زمان ومكان، وتشكل هذه الفرجة بدورها صورا وأشكالا من الحيل والابتكارات والمستحدثات القادرة على إشباع الحاجة إلى التسلية والترفيه.

وقبيل سرد بعضا من حكايا المصريين المولعين بالفرجة، يرصد لنا الكاتب ثمة بواعث تدفع المصريين إلى حد الهوس بالفرجة على الأحداث والمناسبات سواء كانت الاستثنائية أو الاعتيادية المكرورة، وهذه البواعث على الفرجة فردا كانت أم جماعة تتباين دوافعها وأهدافها واتجاهاتها أيضا، كما تتعدد أيضا مستويات الفرجة فيما تفترضه من وعي واختيار، ويؤكد أحمد عبد العالي في ثنايا كتابه أن الفرجة تصبح فعلا غريزيا معتادا، ويذكر الكاتب أن الباعث على الفرجة ضمن مستوياتها المتعددة إعمال العقل في الكون والملكوت، وقد يكون الهدف من ورائها إشغال النفس عن النفس لسبب أو آخر، وقد يكون الهدف هو إشباع حاجة أو تحقيق انتفاع.

والحق أن الفرجة في حياة المصريين كما يشير المؤلف إلى تلك الظاهرة المستمرة كانت نتاجا حقيقيا لواقع لم يسمح لهم بالمشاركة في السلطة أو الثروة ولا بدور يمنحهم صفة الشريك أو حتى الرقيب، فكان المصريون وقتئذ متفرجين مثاليين وليسوا شهودا على تاريخهم.

ومن الحكايا السريعة عن مصر المحروسة أن امرأة عينة شيخة على زاوية السلطان قايتباي بالمرج، ذلك بعد أن مات زوجها الشيخ الكبير قلج الرومي الأدهمي وكان تقوم بالوعظ في النساء، ورغم أننا اليوم لانزال نبحث عن مشروعية عمل المرأة واشتغالها وخروجها للشارع الذي بالضرورة موصوف بالشر والفتنة والأخطار نجد في مصر المملوكية ست الخطباء بنت القاضي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي التي اشتغلت بالوعظ والإرشاد في مصر والشام وكان لها مجلس وعظ يعقد للنساء.

ومن حكايات النساء أيضا في مصر قديما عادة النياحة على المتوفي، واللطم على الخدود والصدور، ودهن الوجوه بالسواد، فلم يكن يتم دفن الميت قبل أن تفعل بعضا من أعمال النساء في الجاهلية من اللطم وشق الجيوب، والأهم من ذلك كله أن هذه المظاهر تحولت بعد فترة قصيرة زمنيا إلى مهنة وحرفة احترفتها نساء هذا العصر واستعن فيها بالنقر على الدفوف والطارات.

ومن عجائب الحكايا في مصر الفاطمية وكما يذكر أحمد عبد العالي في كتابه الماتع ولع الفرجة فقر التاريخ، أن بعض سلاطين المحروسة فضل الانغماس في اللذات وانغمس في حياة المجون والمحرمات، ومن هؤلاء المظفر حاجي الذي بلغ شغفه بالنساء أن قيمة عصبة الرأس لمحظيته قدرت بمائة ألف دينار، أما السلطان إسماعيل بن الناصر فقد اعتاد عند ركوبه إلى سرياقوس للرياضة أن يصحب معه ضمن ركابه مائتي امرأة في ثياب أطلس ملون، وعلى رؤوسهن الطراطير من الجلد المرصع بالذهب والجواهر النفيسة.

في حين أن ذاكرتي تفرض علي التنويه عن ذكر الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي امتلك  عقدة خفية صوب النساء، هذه العقدة تمثلت في نهي المرأة عن الخروج إلى الشارع مطلقا وفرض قوانين وقيودا رادعة على النساء في عصره فقد عمد إلى حظر ظهور النساء في النوافذ، ومنعهن من ارتياد أسطح منازلهن أيضا، وبلغ به حد الحظر إلى منع الأساكفة (صناع الأحذية) من صناعة أحذية النساء .

وبرغم هذه الكراهية غير المبررة صوب النساء لجأ الحاكم بأمر الله الفاطمي إلى إعداد وتجهيز شرطة نسائية مشتملة على جملة من الجاسوسيات داخل تجمعات الحريم لجلب الأخبار والنوادر والحكايات. ومن الحكايا الطريفة في عهد الحاكم أن المصريين وضعوا مجسما ورقيا لامرأة بشكل ساخر في الطريق، الأمر الذي قابله الحاكم بنوع من القوة والتصرف الغاضب فقام بتمزيق المجسم.

وفي مصر الطولونية كان الولاة والسلاطين مولعين بالغناء والموسيقى إلى حد ليس حد الجنون بل حد المجنون نفسه، ومن ذلك بيت الذهب الذي شيده خمارويه بن أحمد بن طولون واتخذ على حوائطه صورا بارزة من الخشب تمثله مع مغنياته بأشكال خلابة بلغت بل وتجاوزت حقا حد البهاء ودقة الزخارف، ومن المدهش في اهتمامه بالغناء إلى شكل مبالغ فيه أن خمارويه إذا جلس يستمع للغناء من النسوة التي احترفن ذلك وسمع المؤذن أمر المغنيات على الفور بالتوقف عن الغناء.

ويشدد المؤلف على حقيقة تمتاز بها مصر عن غيرها من البلاد، وهي قدرتها الفائقة المدهشة على الجمع بين النقائض والمتناقضات جنبا إلى جنب دونما حرج أو مرارة، بمعنى أن كل شئ ونقيضه له موقعه ومكانه في مصر المحروسة، ومن هذا التناقض ما ذكره الجبرتي أن جماعة من الجند سطوا وهم سكارى على نسوة من نساء الأكابر كن يتنزهن في غيط الأعاجم عند قنطرة الدكة بالأزبكية فسلبوهن ثيابهن وحليهن، ثم جاء آخرون ومعهم كبير منهم فأكملوا سلبهن وعروهن من ثيابهن جميعا .

وكان مع إحداهن غلام سلبت من على رأسه طاقية فيها جواهر وذهب وسلب منها أيضا سروال شبيكة من الحرير الأصفر والقصب وفي كل عين من الشبيكة لؤلؤة . وفي ذات الوقت أيضا كان للوعظ والإرشاد مجالسه المنتشرة في شتى بقاع المحروسة وتعج بالناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم واتجاهاتهم وبلغ الحاضرون فيها بالآلاف، وكانت هذه المجالس تحض على التمسك بتعاليم الدين والحث على اتباع الأخلاق الحميدة والسلوكيات الحسنة.

أما عن العوام في مصر المملوكية فقد اكتظت المدن المصرية بالكثير من الباعة والسوقة والسقائين والمكاريين والمعدمين، وبالتالي المهمشين الذين لا ذكر لهم في كتب التاريخ ذائعة الانتشار، واتفق المؤرخون جميعا على وصف كل هؤلاء بالعوام وألحقت بهم طوائف أخرى مثل البلاصية والزعر والحرافيش والمشاعلية وكافة الأسماء السابقة تشير إلى معنى واحد ألا وهو المعدم .

والغريب أن الحرافيش يتم ذكرهم في كتب التاريخ على أنهم أهل صلابة وغلظة ودعارة ماجنة، ويذكر كتاب ولع الفرجة أن هؤلاء حبسوا محتسب القاهرة في مسكنه أياما طويلة لا يجرؤ عن مغادرته خوفا على نفسه من العوام والحرافيش، ويحكي الكتاب أن العوام قاموا في دمياط سنة 820 هجرية بحلق لحية الوالي وشهروه على جمل والمغنيات آنذاك تزفه، وفي المحلة سنة  854 هجم العوام على الوالي في منزله فأخرجوه وضربوه واستصحبوه إلى الجامع هناك وهو عريان حيث مات من شدة الضرب.

انتهت الحكايات، لكن لم تنته الروايات .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية المساعد.

ـ كلية التربية، جامعة المنيا.

 

في المثقف اليوم