أقلام ثقافية

محمد حسين النجفي: المثقف إنساناً.. الدكتور محمد عبد الرضا شياع أنموذجاً

كلنا بشر مهما كان ديننا أو لوننا أو عرقنا أو ثقافتنا. كلنا بشر سواء كنا أطباء او مهندسين أو عمال في مصانع الحديد. لكن كلمة إنسان وإنسانية تتطلبُ قيمةً إضافية كي يتحول البشر إلى إنسان بمعنى الكلمة. أما الثقافة فهي من حيث الأساس معلومات، تتحول إلى ثقافة حين يضاف لها قيمة إنسانية حضارية. وأنا سعيد الحظ لأنني تعرفتُ وإن كان في خريف حياتي على ذلك النوع من البشر: إنسان يمتلك معلومات ثقافية يوظفها في خدمة الإنسانية، وبالتالي فهو الإنسان المثقف الأمثل. ولست مُبالغاً فيما أقولُ قولي هذا، وليس من باب الصداقة، وليس تحزباً أو مناصرةً طائفية أو عنصريةً أو مناطقيةً، لأنها جميعاً غير متوافرة هنا. ولكن الذي اوصلني لهذا التقدير هو تجربتي القصيرة، بل القصيرة جداً في عمر الزمن. فلقد تعرفتُ على الدكتور محمد عبد الرضا شياع، وهكذا يفضل أن يُنادى باسمه الكامل على ما أعتقد، تعرفتُ عليه يوم 6 أيلول من عام 2020، الموافق 18 من شهر محرم الحرام عام 1442 هجري، حينما قدمتُ بحثي الموسوم " الدور السياسي والوطني للمواكب الحسينية" في منصة "الصالون العراقي- لوس انجلس". كان الدكتور محمد عبد الرضا شياع أول المعقبين، وقدم مداخلته ولم يكن لي معرفة مسبقة به. وكما هو متوقع في معظم المنصات الحوارية، يجتهد بعض المحاورين للبحث عن النقاط السلبية أو يطرحون أسئلةً لأحراج المتحدث. على العكس من ذلك كان الدكتور شياع. لم يكن تقييمه للبحث إيجاباً فقط، وإنما أبدى إعجاباً بحماس، داعياً منصة الصالون العراقي لنشر هذا البحث على أوسع نطاق، لأنه بحث يُسلط الأضواء على الدور الإيجابي للمواكب الحسينية. بطبيعة الحال تقييمه أبهرني وأسعدني وشجعني، لأن البحث لم يكن سرداً لما هو مألوف عن واقعة الطف ومراسيم إحياء ذكراها، خاصة إن البحث مُقدم من قبلِ شخصٍ علماني يساري. بعد ذلك بحوالي أربعين يوماً قدّم الدكتور محمد عبد الرضا شياع، وعلى منصة الصالون العراقي، بحثه الموسوم "تداخل الأنواع الإبداعية وتشكيل النص: بابلو رويث بيكاسو وعبد الوهاب البياتي أنموذجاً". وكنت أحد المشاركين في اللقاء. بدأ الدكتور بالحديث بلغته العربية الفصحى، والتي كانت فوق المستوى اللغوي لمعظم الحاضرين وأنا واحداً منهم. كلماته ليست من مفرداتنا اليومية، بل حتى ليست مفردات عربية مألوفة في لغتنا العربية او أي مؤلف باللغة العربية. كانت لغته أقرب إلى اللغة الشعرية للعصر الجاهلي أو مفردات لا يستعملها سوى كبار الأدباء أمثال المتنبي والجواهري. أحسَ الجميع من ان المتحدث فوق مستوانا ليس بقليل، وانما بفارق شاسع. لم يتجرأ أحد أن يكتب تعقيباً في الدردشةِ أو يرفع يده لطلب المداخلة. أمر غير مُعتاد ومخجل وربما سوف لن يحاور أحد ضيف البرنامج. قبل انتهاء الدكتور من محاضرته، وصلتني رسالة على الخاص من أحد مديري الصالون طالباً النجدة، بقوله: "اترجاك أبو عامر حضر سؤال أو سؤالين، وإلا سوف نشعر بالخجل مع الدكتور". حقيقة الأمر إن الدكتور في الجزء الأول من بحثه عرض صوراً لبيكاسو وفي الجزء الثاني قرأ نماذج شعرية وأحداثاً ومفارقات استأنس لها الحضور. لحسن الحظ أني مُطلع على بعضٍ من شعر عبد الوهاب البياتي خاصة ترجمته لشعر الشاعر التركي ناظم حكمت، وبعض أعمال بيكاسو خاصة الرسوم التكعيبية منها. لم افتعل الحوار لأني فعلاً وجدتها فرصة لا غنى عنها كي استفيد من معلومات ثقافية، هي ليست معلومات مجردة.  لأن المحاضر يُحللها ويقارنها ويقيمها ويمنحها قيمة ثقافية في الميزان العام للثقافة. بدأت كلامي من أن هذه المحاضرة قد حققت طفرة ثقافية في مستوى المحاضرات والبحوث التي تُقدم في الصالون العراقي، ورجوته أن يزيدنا مستقبلاً منها. كنت صادقاً في ذلك لأنني شعرت من إضافة المحاضرة لي معلومات جديدة، وتعرفت على مصطلحات لم تكن لها سابقة في قراءاتي. طرحت عليه أربعة تساؤلات، أجاب عليها بكل سلاسة ووضوح وكان متفقاً مع معظم تساؤلاتي بدلاً من أن يكون مناهضاً لها، وهذا ما شجع الآخرون للمشاركة في العديد من المداخلات. كان لهذين الحدثين وقعاً مؤثراً في نمو العلاقة الثقافية بيننا، والتي تحولت إلى علاقة صداقة شخصية وعائلية أعتز وأفتخر بها.  دعاني أبا إيناس لزيارته في سانت دياغو وكانت دعوة كريمة التقينا فيها العائلتين مع الأستاذ عقيل العبود وعائلته ومجموعة أخرى من العوائل الكريمة. كانت نزهة على الشاطئ الذهبي لجنوب كاليفورنيا، تمتعنا بالسمك المسكوف الذي أشرفت عليه إيناس البنت البكر للدكتور. كذلك تعرفنا على أبنائه مهند ومرتضى وابنته الصغرى فاطمة. عائلة يصعب وصفها. الأبناء والبنات يدورن حول أبيهم ويحضنون الضيوف بقلوب صادقة وبنية صافية تتحسسّها من أول لحظة. ثم جاءت المفاجئة الكبرى حينما أعلن الدكتور شياع المباشرة بإنشاء منصة "مجموعة زينب كحل الفردوس الثقافية". اعتقد انني كنت من الأوائل الذين اطلعوا على هذا الأمر، وتمنيتُ مخلصاً النجاح لهذه المنصة الثقافية والتي كنت متأكداً من إنها ستكون مصدر إشعاع ثقافي وعلمي نحن بأمس الحاجة إليه. وهذا ليس كل ما في الموضوع. إذ يبرز دور الدكتور شياع كونه مخلصاً ووفياً لزوجته التي رحلت ليس بالأمد البعيد، حين سمى المنصة باسمها وباسم مشروع كتاب كان يعمل معها لإنجازه. إلا أنها رحلت بأمان الله، فشيد لها زوجها الوفي حسنةً جاريةً تستمر مادام هناك أثير في الكون. والدكتور محمد عبد الرضا شياع لا يشبه   معظم المثقفين والأدباء والشعراء الذين انفردت أو انعكفوا على ذواتهم ولحالهم في صومعة مغلقة على أنفسهم. كلاً فإنه من اليوم الأول قدم مشروع زينب كحل الفردوس على إنه مشروع عائلي يُساهم فيه أبنائه الأربعة إيناس ومهند ومرتضى وفاطمة. كل واحد منهم له دوره في البحث والأعداد والتنسيق وتقنية الزوم ومصاعب العالم الرقمي في النشر والتوزيع. يا لها من عائلة مباركة متعاضدة مُتآزرة لإنجاح مشروع ثقافي حيوي. ومع ذلك يبقى الفضل الأكبر لربان السفينة التي آمن من إن مرساها ومجراها لا يعتمد فقط على الربان وانما كذلك على سواعد وهمة الكادر المرافق له. ولم يكتفِ هذا المثقف الأنسان بذلك، حيث ان مشروعه كان ليس ندوة أو محاضرة وسؤال وجواب، انما جاءنا بمفهوم جديد، ففي كل جلسة تحتفل المجموعة بالمحاضر، تبرز أعماله ونشاطاته وإنجازاته الأدبية والفكرية. حيث يقدم الدكتور شياع دراسة موثقة عن المحاضر تتضمن معلومات واسعة ومنظمة عما قدمه المحاضر من استحقاقات إسهامات تحسب له في مجال المعرفة والثقافة. وهذا جهد مُضنٍ ومتعب إلا أنه مُجدٍ يقدمه الدكتور لنا لا عن نفسه وإنجازاته التي ليست بالقليلة، إنما عن الآخرين الذين يستحقون التقدير والذين تقديمهم من على منصة مجموعة زينب كحل الفردوس فيه مساهمة وخدمة للمثقفين والثقافة عموماً. وأنا لا أنكر بهذا الصدد كم استفدتُ من هذه اللقاءات وكم تعرفت على أشخاص ومفاهيم لا يخلو قسماً منها من الغرابة والاندهاش في بعض الأحيان بالنسبة لي على أقل تقدير. والمفهوم الآخر الذي اجتهد في تنميته الدكتور شياع هو عدم اقتصار المشاركين على النخبة الثقافية العراقية في المهجر. إذ انه ربط ربطاً جدلياً بين النخبة داخل الوطن والعراقيين في المهجر. هذا من جهة ومن جهة أخرى فتح وباعتزاز واضح باب منصته على مصراعيها للنخب الثقافية ليس في المشرق العربي متمثلاً بمصر وسوريا والأردن وفلسطين فقط، وإنما في المغرب العربي لمفكرين من تونس ومصر والمغرب والجزائر. أليس هذا ما يسمى بالوحدة العربية!!! نعم إنه تطبيق حي للمفهوم الوحدوي العربي عن طريق الثقافة ولم الشمل إنسانياً وليس قسرياً كما تُفرض من قبل السياسيين. وللدكتور محمد عبد الرضا شياع فضل عليّ شخصياً. أولها إنه وعائلته منحوني وزوجتي صداقة لا مثيل لها، وكأننا نعرف بعضنا من عشرات السنين. صداقة يصعب تقييمها، أستطيع القول من أنها صداقة لا أستطيع الاستغناء عنها. وثانيهما إنه شجعني بحرارة على استكمال ونشر كتاباتي، حيث ساعدني في تقديم الكتابين "المناضل الصغير" و "شموع لا تُطفئها الرياح"، وفي تصميم الغلافين، وكثير من الإرشادات التي لا يراها إلا ناقداً متمرساً وصديقاً مهتماً بإنجازٍ لصديق له. وثالثها إنه مكنني ولا زال من ان أثقف نفسي أكثر واتعرف على نخبة أدبية ومفكرين مبدعين من خلال منصته ذات الاعتبار، منصة "مجموعة زينب كحل الفردوس الثقافية" التي أرى انها تسير باتجاه ان تكون أكاديمية ثقافية عُليا عبر الأثير بجميع أشكال وأنماط وسائل التواصل الاجتماعي. كما إنني أتمنى أن تجد هذه المحاضرات طريقها للنشر على شكل مطبوعات لتكون مصدراً مهماً للباحثين وطلاب الدراسات العليا. الأستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شياع إنساناً متميزاً وقامةً أدبيةً لأنه يمثل صورة المثقف الأنسان بأبهى صورها، لما يملكه من نكران للذات وحبه المتناهي للغير وليس للأنا. إنه منار وقدوة لمن يريد المسير في هذا المشوار الثقافي الإنساني.

***

 محمد حسين النجفي

رئيس تحرير موقع أفكار حُرة

4 آذار 2023

في المثقف اليوم