أقلام ثقافية

محمد سعد: نهاية زمن نظيف والموت العاري

عندما ماتت "أمي" لم أبكي، كان الحزن أكبر من تصريفه عبر الدموع، فثمة أحزان لا تبكي حتى وإن بكيناها لا نبكيها كما تستحق. ثمة خسارات ونكبات في حياتنا لو أردنا أن نبكيها كما يليق بها لبكيناها دَمًا لَا دُموعًا. ثمة خيبات لا شيئ قادر على أعادة الثقة الينا بعدها. ثمة إنكسارات تعجز الدنيا كلها عن ترميمها،، في لحظة صفاء مع النفس والتأمل وذاكرة قطعت المسافات بسرعة البرق ونحن اطفال وبين الحقول، والغربة،والقراءة والأدب والفلسفة والجغرافيا والتاريخ ودولة ما بعد حرب اكتوبر والحداثة، والعولمة وعري الشوارع والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية والرواية الجديدة وجسور الآنهار في اوروبا، وقطارات وصالات وأندية أوروبا، لتعود في النهاية الى زمن (الطفولة) في قريتنا، اكتشفت وانا أقرأ للكاتب والفيلسوف { ميلان كونديرا} وهو يتحدث عن الموت بلا شهود ولا استعراض هو موت ورقي مارسه (الشيخ محمد) من قريتنا وهو لا يقرأ ولا يكتب..؟ عندما شعر بدنو الأجل ذهب الى الحقل كي يموت في عزلة، عاش سنوات وسط الحقول في إنتظار موت لا يأتي. لم يكن يخاف من الموت بل من الضعف. كان يخجل ان يراه احد مُنهكًا أمام الموت. الحياء من قدر كوني كبير. الحياء من أن يُرى.مكشُوفًا لذلك ذهب الى الموت كما لو كان علي موعد مع الموت بلا شهود ولا استعراض.، كيف انتهيت بعد طواف ورحلة في دول الى" صومعة الشيخ محمد" وكوخه في (الجرن) وفي الحقل وليالي الضباع والصلاة النقية في الحقل عند الدخول والخروج منها؟

عندما تهاوى كثيرون أمام إغواء الغرب، عدت أنت للجذور ليس بدافع الحنين وحده، بل بدافع الاكتشاف وغواية النقاء البري..؟

لم يكن "الشيخ محمد " شخصاً فحسب، كان زمناً ومجتمعاً ومبادئ حياة، حيث الطبيعة هي الأصل والثقافة ثانوية، كان الضمير هو القانون. يكفي ان تترك أبواب المنزل بدون اقفال وتسافر. حتى لصوص ذلك الزمان كانت لهم مبادئ وقواعد شرف: لا تسرق مال يتيم او أرملة أو غريب . ليس من الرجولة، ولا يُختزل به الشيخ محمد بل هو كل الزمن المنقرض خارج نجاسات العهر السياسي والاجتماعي وعصر الوحوش من رأس المال،

يوم كان الحلف (بالماء والملح وربعت الشيخ صيام) هو القانون،يوم كانت المصافحة وعد ووفاء والضحكة قسماً.

ورغيف الخبز المتبادل عهد شرف والكلمة وثيقة شرف. يوم كانت صحون الطعام تدور في المساء للمحتاجين تحت جنح الظلام للعفة، يوم كان المناخل والغرابيل على الحائط هو صمام أمان ودستوراً، يوم كان اللص يبكي من السرقة ولعنة العوز.

كان زمن "الشيخ محمد" خارج كل نظم الحكم، زمن مرجعية تتداخل فيها الطبيعة مع العرف تداخل سبيكة الذهب، لم يكن سلطة ولا يفرق بين ملك ورئيس، لا بين جمهورية ولا ملكية، لكنه يعرف موسم الأمطار وزهور الربيع، والغيوم البيض علامة الخريف:

ظلال شهر اكتوبر علامة نهاية الصيف، وسخونة تراب شهر مايو وبزوغ نجمة الفجر،لماذا أتذكر [الشيخ محمد] في زمن الموت العاري، وخيبة البشر بنظام العالم، زمن صارت فيه الشطارة ثقافة والحيلة ذكاءً، والخيانة وجهة نظر..؟ آنا من عشاق فن المطربة (فيروز) احتفظت علي صفحتها بهذا التعليق علقت قارئة بذكاء على أغنية لفيروز، قائلة إن فيروز ليست مغنية فحسب بل هي مؤرخ لزمن الحارة وشادي والثلج ومواسم العنب والعصافير وفوانيس الشوارع، وشايف البحر شو كبير وقهوة الصباح وطير الوروار، وجايبلي سلام من عصفور ينفض جناحه عند شباك الدار، وأين ذهب شادي الذي كان يأتي من الأحراش ونلعب أنا وياه..؟ احتفظت في مذكراتي عن تعليق يحكي حقبة تاريخية، ابحث مع فيروز عن شخصية شادي هذا العصر اين ذهب ..؟

لا أحد يعرف أين راح، في جبهة ممزقة من ميلشيات أم في قوارب الموت في البحر، أم صار زعيماً في حزب او عصابة؟من يوم مات الشيخ محمد وإختفى شادي، اختفى الجانب النظيف وانطفأت فوانيس القرية والكفر والعزبة والنجع والضيعة، ونحن ننطر عالطريق، ماذا ننطر..؟

لا أحد يخرج من هذه الصحراء الميتة، صحراء الداخل والخارج، ولا خيار لنا أمام جنون العالم غير الجلوس "وانتظار أحد ما يأتي من مكان" أغنية ميج جيفر: الأ غنية الأخيرة التي سمعها الفيلسوف والآديب { صموئيل بيكيت } في انتظار جودو وحامل جائزة نوبل في دار المسنين في سريره الأخير وطلب من الفريق الطبي مغادرة الغرفة وعندما عادوا وجدوا كل شيء انتهى.

لم يشارك في جنازته سوى الفريق الطبي ونزلاء دار المسنين. لم يَأْتِ أَحَد. لم يذهب أحد. هذا فظيع كما قال يوماً.

عندما شعر الشيخ محمد راعي الأغنام بقرب الأجل قال لزوجته:

" أنا ذاهب للحقل لكي أموت إياك أن تخبري أحداً".

إرتدى أفضل ملابسة واخذ حمام دش في حمام المسجد، وقال لها:

"هذا الخاتم لك".

كل ما يملك وغادر المنزل بعصاه التي ما فارقته يوماً. ذاهب للموت كما لو الى حفل وعلى موعد، تابعته زوجته في الشارع في المساء حتى إختفي.عندما أقارن بين شخصية هاري في رواية "ثلوج كليمنجارو" للروائي (همنجواي) الذي يصاب برحلة بغرغرينا فوق الجبل الأفريقي ويهذي عن ماضيه ويشرب بإفراط، أجد أن "الشيخ محمد" أعظم من :

هاري يستسلم هو الآخر للموت حتى لا ينتظر طائرة الإنقاذ لكنه يحكي بصدق وفي واحدة من هذياناته يقول لزوجته: أنا لا أحبك، وتصاب بالذعر.

لكن الشيخ قال لها:

" كسرت ظهري. ستبقين وحيدة".

كان هاري المستلقي تحت شجرة ميموزا فوق سرير من الحبال فوق قمة جبل كليمنجارو الأفريقي يرنو الى السهل في الأسفل: السهل ضاج بالحياة ومتوهج. طيور كاسرة. ظلال متحركة. عشب حي. كل ما يتنافر مع رجل يموت. هاري يتكلم مع زوجته.

سلطة اللغة في مواجهة سلطة الموت. هو الآخر يعرف كل شيء إنتهى ولا ينتظر أحداً.الشيخ محمد أعزل ووحيد في عتمة الحقول لا يتكلم مع أحد، هو من قبل لا يتكلم مع أحد إلا في حالات نادرة، سيد الحقل والبراري، مروره في المكان يعطره من الدنس لكن فاطمة قالت لي بعد سنوات:

" مرة واحدة سمعته في الفجر يتكلم، وإختبأت في الجرن، وكان يردد مع نفسه:

" كلمات لم اسمعها من قبل وهو رافع وجهه الي السماء . في العتمة الفجرية هو في انتظار موت لا يأتي. في عزلة باردة وموت متردد، كان يتفسخ حياً في المرة الأخيرة التي زارته فيها فاطمة، لم يأت الموت وعندما يأتي سيرى عينيه في عتمة الحقل.لكنها لم تتحمل في ظهيرة ربيعية دافئة ومشرقة، فجاءت هلعة للحقل لتقول الحقيقة للرجال:

" تعالوا، الشيخ محمد يتعفن".هرع الجميع نحو تلك البقعة المنزوية في الحقل. نظرة عتاب محرقة نحو زوجته، كانت كافية لجعلها تتداعى.

المرة الأخيرة التي زرتها فيها بعد غياب فترة في الغربة " وقد هرمت وتعيش وحيدة قالت لي:

" لم أخنه يوماً إلا تلك المرة يوم فضحت سره، ونظرة عتابه القاسية لم تغب أبداً".مرة واحدة فقط، فاطمة، خنته بكشف سر موته..؟ من حسن حظ فاطمة انها ماتت قبل قدوم زمن مختلف. وداعًا

زمن سنقول عنه يوماً:

نحن سعداء لأننا عشنا في زمن يسمى زمن الشيخ محمد وفاطمة.

***

التوقيع الأخير لزمن نظيف من يوميات كاتب في الأرياف ..!!

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

في المثقف اليوم