أقلام فكرية

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (11): الحقوق والعدالة والقانون (2)

علي رسول الربيعيالبدء بالحقوق: بعد عامين من نشر جون رولز نظريته عن العدالة، قام أكاديمي آخر بجامعة هارفارد، هو روبرت نوزك (I938-2002)، بأصدار كتاب " الفوضى والدولة ويوتوبيا" (1974) تبنى فيه وجهة نظر مختلفة تمامًا حول العدالة عن نظرية راولز.

 ينطلق نوزك في حجته من وجهة النظر الكانطية القائلة: يجب أن يُعامل الناس كغايات في حد ذاتها دائمًا وليس كوسيلة لتحقيق الغايات. فبينما كانت تشير فكرة رولز للعدالة كأنصاف إلى أنه من الصواب إعادة توزيع الثروة من أجل فائدة الأقل حظاً في المجتمع، شعر نوزك بالقلق فقام بالدفاع عن فكرة حقوق كل شخص، بما في ذلك الحق في حيازة الممتلكات.

وقال إنه حتى لو حصل الجميع على حصة متساوية من البضائعنفأنه حالما يبدأون في التداول التجاري ينتهي البعض بأكثر حصص من الآخرين. لقد اكتسب الناس ما يطلق عليه "مقتنيات" وهم أحرار في تداولها كما يحلو لهم، لكن يعتمد هذا التداول على القبول و الموافقة. إنه يعترض على أي محاولة لتقويض هذا الحق الأساسي في الملكية، وينظر إلى الضرائب لغرض إعادة التوزيع كشكل من أشكال العبودية – لأنها تنتهك حقوق وممتلكات الأفراد (مما يجعلهمن في الواقعن "وسيلة" الى غاية وضعت سياسيا لمجتمع عادل). وبالتالين فإن مهمة الدولة هي ببساطة حماية الأفراد وممتلكاتهم. إن ما يفعلونه بأنفسهم وممتلكاتهم يعود لهمن وليس للدولة.

هذا هو موقف الليبرالية الجديدة الأساس، وكان نوزك قد حاول أن يخفف من آرائه في الأعمال اللاحقة، الاً أنه ظل يحاجج بقوة في الدفاع عن تلك الحقوق، وأنه لا ينبغي التفاوض على حقوق الأفراد أو مشاركتها على أساس النفعية، و الشرط الأساس أن تمكون محمية.

يرى رونالد دوركين لاسيما في كتابة " أخذ الحقوق على محمل الجد"، 1977 (وقد ترجم الى العربية مؤخرا) أن الحق يجب ألا يكون شيئًا لا يمكن أن يمارسه أي شخص إلا إذا كان ذلك يأتي لمصلحة الجميعن أو مبررًا على أساس النفعيةن أنه شيء يمكن المطالبة به حتى في أصعب الظروف.

قد تُعتبر I97os الأكثر إثارة أو إبداعًا لعقود من الزمن في الفلسفة السياسية. لاحظ تواريخ المنشورات الهامة:

 - Rawlsن I972 .؛ Nozickن I974 ؛ Dworkinن I977 ؛ Finnisن I979

الأعتراف

 أشار أشعيا برلين إلى أن الشعور بالأعتراف مهم عندما يتعلق الأمر بالفرد داخل المجتمع. يحتاج الناس إلى الشعور بأن تؤخذ آرائهم بعين الاعتبار. ويطالب الناس بالحقوق، في بعض الأحيانن ليس لأنهم يريدون ممارسة هذه الحقوق على الفور، أو لأنهم مُنعوا من فعل شيء يريدون القيام به، ولكن لأنهم يشعرون أن تلك الحقوق تعبير عن أعتراف بمكانتهم داخل المجتمع. لذلك من المحتمل أن يتعزز الاستقرار واحترام القانون في موقف يتم فيه الاعتراف بسلطة الحكم أو سن القانون من قبل الناس، بدلاً من فرضه عليهم. لذا فإن السؤال الرئيسي هو كيف ينشئ الناس السلطة السياسية ويبررونها.

السلطة السياسية

رأى هوبز بوضوح، في ليفياثان (r65I)نأن الخطر هو حالة غياب القانون. فبدون الأمن، لن يكون هناك مجال للتجارة أو النشاط التعاوني، وستنزل الحياة إلى حالة من الفوضى وينتهي بها الأمر إلى حياة " أنعزال، فقر، سيئة، وحشية وقصيرة". لذلك أراد من الناس أن يقبلوا سلطة الحاكمن وأن يلتزموا بقبول تلك السلطة حتى لو لم يكن لهم دور في تشكيلها.

  أن موقف هوبز هذا يتطلب منا أن نضع وجهات نظره في سياق الحرب الأهلية الإنجليزية. حيث تم قطع رأس الملك الذي ادعى الحق الإلهي في الحكم خلال هذه الفترة، وتم إنشاء الكومنولث فقط ليحل محله نظام ملكي أعيد بناؤه، كان المجتمع مهددًا بالتغيير و وتحيط به الشك تجاه مايجري، حيث كانت تسفك الدماء نتيجة الصدام القوي بين وجهات النظر حول طبيعة السلطة. أصر هوبز على حكومة قوية. لكن آخرين، بما في ذلك جون لوك، أرادوا ضمان سيطرة الناس على الحكومة، بدلاً من فرض حكومة غير قابلة للتحدي عليهم.

اعتقد هوبز أنه بمجرد إنشاء حكومة يقودها شخص واحد يجب على الجميع قبول سلطة ذلك الحاكم. وبدون ذلك لا يمكن ضمان الأمن. يجب على الجميع التخلي عن إرادتهم الفردية بشرط أن يتخلى جميع الآخرين عن إرادتهم أيضًا، وبالتالي فإنهم جميعًا متساوون في الثقة في الحكومة التي تم تشكيلها. ومع ذلك، كان لدى هوبز فقرة واحدة تبرر الخروج على الحاكم ورفضن قبول سلطته وهي الحالة التي تكون  فيها حياة المرء مهددة، وهذا يعتبر "حق" أساسي وحاسم.

على النقيض من ذلك، قدم لوك مبدأ أن الحكومة يجب أن تخضع للمساءلة من قبل الشعب. وأن يستخم الناس الحكومة بوصفها وكيل لسلطتهم الخاصة. اي تفعل الحكومة مايرده الناس؛ وإذا لم يكن كذلك، يستبدلونها.

أوضح إعلان الاستقلال الأمريكي (وفقًا للمبادئ التي حددها لوك) أن الحكومة تستمد سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين، وأن للناس الحق في تغيير تلك الحكومة وتشكيل حكومة أخرى. كان هذا هو الهدف من الإعلانن لأن المستعمرات السابقة كانت تشكو من الحكم البريطاني قبل أن تنفصل عنه لاحقاً.

وبالطبعن فإن مقاربة لوك للوكالة تجاه الحكومة أصبحت هي القاعدة لتبرير الديمقراطيات.

يعتمد الحكم الرشيد في أي نظام سياسي على قبول السلطة. يتطلب النظام الديمقراطي بوصفه حكما رشيدا، أن يتم الوثوق بالممثلين لتنفيذ إرادة من يمثلونهم. وتتطلب السلطة السياسية الحقيقية موافقة الشعب، وتلك الأنظمة التي تبقى في السلطة فقط بالقوة تكون بطبيعتها عرضة للإسقاط.

إن الأسئلة الرئيسية هنا هي :

- هل يجب أن يكون الناس قادرين على التصويت مرة واحدة كل بضع سنوات في الانتخابات العامة؟

- هل يجب أن يكونوا قادرين على صرف واستبدال ممثليهم المختارين؟

- ما مدى مساءلة السلطة التنفيذية للممثلين المنتخبين، وكم مرة يكون هؤلاء الممثلون مسؤولين أمام الأشخاص الذين انتخبوهم؟

 طبقاً لراي جون لوك، يتعين على كل فرد قبول قرار الأغلبية، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول على عمل موحد، ويمنح الناس الحكومة سلطة التصرف نيابة عنهم. وبالطريقة نفسها، يتفق الناس، من خلال عقد اجتماعي، يؤكد على حق الحكومة في بعض الأجراءات. ولكن مرة أخرى، هناك حد لذلك. يرى لوك أنه لا ينبغي إلزام المرء بقبول أي موقف يكون فيه تهديد مباشر لحياته أو ممتلكاته- وهو نفس الشرط الذي أكد عليه هوبز.

ولكن تبرز هنا مشكلة الأً وهي: كيف يمكن أن يكون المجتمع مستقراً إذا كان للأفراد الحق في رفض الحكام الذين يختارونهم في كل مرة يتعرض فيها موقفهم الخاص للتهديد من خلال إجراء يتخذ نيابة عن الأغلبية؟

يمكنك تعيين شخص ما للعمل نيابة عنك. إذا كان هذا الشخص محاسبًا أو محامًان فلن تستخدمه إلا بقدر ما يضع رغباتك الخاصة موضع التنفيذ. بينما في السياسة، يتم تعيين الوكيل أو الممثل لصالح الأغلبية؛ لذلك سيكون هناك دائمًا أقلية تخضع لحكومة لا تعكس رغباتها.

وستكون هناك دائمًا مواقف ايضاً، حتى في ظل الديمقراطية، حيث يتم فرض القوانين أو قيود الحرية على الناس ضد إرادتهم، ذلك لأن الأغلبية قد وافقت على أن هذا أو ذاك السياسي أو الحكومة سوف تتصرف نيابة عنها.

بالطبع، إن مشكلة التعامل مع الأقليات هي نقطة ضعف النهج النفعي أو الفلسفة النفعية في الحياة السياسية. يجب أن يكون هناك بعض الاتفاق على العدالة أو الحقوق الأساسية التي لا تعتمد على تقييم ومبدأ الفلسفة النفعية أكبر فائدة لأكبر عدد - وإلا فإن الأقليات تخسر في كل مرة.

ولكن في أي نقطة يجب أن تمرد ضد حكومة أو قانون معين؟ بالنسبة لهوبز، هذه هي النقطة التي تهدد بها حياتك. أما بالنسبة الى لوك فيمتد هذا التهديد إلى ممتلكاتك. يمكن القول أيضًا أنه في ظل الديمقراطيةن حيث يمكن للرأي العام تغيير الحكومةن تسمح حقوق حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات للناس بالتظاهر وإبداء اعتراضاتهم. وبالتالين كلما زادت الحقوق التي يمكن أن يمارسها الناسن أصبح من الممكن لهم المشاركة في العملية السياسية والتأثير عليها.

فوضى سياسية

البديل المنطقي لقبول السلطة السياسية هي الفوضوية( الأناركية ANARCHY) – أنها الرأي القائل بأن يجب أن يتمتع كل فرد يجب بالأستقلالية والحكم الذاتي، وأنه من الخطأ وغير الضروري إنشاء سلطة خارجية للسيطرة على الأفراد في المجتمع. بمعنى آخر، الفوضى هي الرأي القائل بأنه ينبغي ترك الناس ينظمون حياتهم بطرقهم الخاصة.

أن الفوضى يمكن أن تعمل داخل مجتمعات صغيرة، حيث يعرف الناس بعضهم البعض، لأنه يمكن عقد اتفاقات غير رسمية بين الأعضاء من أجل تنظيم كيفية إنجاز الأمور. إن العقوبة الوحيدة للشخص الذي لا يتلاءم مع تلك الاتفاقات غير الرسمية ستكون الاستبعاد من المجتمع أو،على الأقل، رفض أعضاء المجتمع له ونبذه. تعمل منظمات الفوضوين، التي تربط العلاقات بين أعضاء المجتمع من أسفل إلى أعلى، بدلاً من السلطة السياسية المعتادة التي تفرض من قبل حكومة قائمة بالفعل.

لذلك، يمكن رؤية الفوضى بجوانب إيجابية أو سلبية. تنطلق الايجابية من الرأي القائل بان يترك للناس حرية استعمال وسائلهم الخاصة والتي يكونون قادرين من خلالها على التعاون مع بعضهم البعض والحصول على الدعم المتبادل، دون الحاجة إلى قواعد مفروضة. أما السلبي فيمكن وصفه بالموقف الذي يكون فيه الجميع، من دون قواعد، وهذه الفوضى هي الحالة نفسها التي أراد هوبز تجنبها.

الفوضية ليست مجرد مصطلح آخر للفوضى، إنها رؤية جادة وتستحق النقاش. يوافق الجميع تقريبًا على قدر من الفوضوية.

 

الدّكتور علي رسول الرّبيعي

 

في المثقف اليوم