أقلام فكرية

نظرية الخطأ في الأخلاق وصلتها بنظرية الأوامر الألهية

علي رسول الربيعيدافع ج. ل. ماكي بشكل مشهور عن ما أسماه "الشكية الأخلاقية" في الميتا-أخلاق، ووصف وجهة نظره  أو سماها بـ "نظرية خطأ"، لأن "الإيمان بالقيم الموضوعية مبني على الفكر الأخلاقي واللغة العاديين."[1] ومن الأفضل اعتبار الأخلاق العادية كنوع من "النظرية الشعبية" التي تبين أنها خاطئة. إن القيم الأخلاقية – طبقاً لهذه النظرية- ليست في الحقيقة موضوعية، بل إبداعات ذاتية. على الرغم من أن مصطلح "نظرية الخطأ" يرتبط عادةً بـ ماكي، فمن المهم أن ندرك أن وجهة النظرهذه تصف بدقة موقف عدد من الفلاسفة أو وجهات نظرهم، كنيتشه مثلأً، الذين يعتقدون أن الأخلاق هي اختراع إنساني، لكنهم يسلمون بأن هذا ليس هو الكيفية التي تقدم فيها الأخلاق نفسها لمعظم الناس.

يقدم ماكي عددًا من الحجج  تأييدأ لوجة النظر هذه.[2] فيدعي:

أولاً: تظهر الأخلاق على أنها ذاتية  فتعطي تفسيراً جيداً للنسبية والتغيرات التي نراها في المعتقدات والممارسات الأخلاقية.

ثانياً: كما يقول- ستكون القيم الأخلاقية الموضوعية "غريبة  أو متفردة" بمعنى أن لها وجودها وأطوارها الخاصة ولاتشبه اي شئ موجود أخر، وليس لها  أساس في العالم كما هو موصوف من قبل العلم، ويزعم ماكي حتى لو كان لهم جذور في الحقائق العلمية، فأنه من الصعب أن نرى كيف يمكن لهذه الحقائق الموضوعية أن تكون محفزة بشكل جوهري.

ثالثًا: يعتقد ماكي أنه من الصعب أن نرى لماذا يجب أن تقع وتتبع القيم الأخلاقية كما في الخصائص الطبيعية للعالم.

رابعا: من الصعب معرفة كيف يمكن معرفة هذه القيم الموضوعية حتى لو كانت حقيقية. وأخيراً، يدعي ماكي أن التفسير المختزل للمعتقدات حول القيم يقوض أي ادعاء بالموضوعية؛ حتى إذا لم تكن هناك قيم موضوعية، فيمكننا سرد قصة مقنعة حول سبب اعتقاد الناس بوجودها، مما يجعل من غير المقبول فرض أي قيم موضوعية فعلية لتفسير مثل هذه المعتقدات.

كيف يستجيب المدافع عن نظرية الألهية لهذه الحجج؟ ألاحظ أن المدافع  عن نظرية الأوامر الالهية قد يرغب في التعاون مع المدافعين عن وجهات نظر أخرى، بما في ذلك وجهات النظر العلمانية، للرد على  بعض حجج ماكي. يمكن القول، على سبيل المثال، لا تقوض النسبية موضوعية الخير من خلال القول بأن النسبية ليست كاملة (وهناك أيضًا قدر جيد من التوافق بين الثقافات البشرية المتنوعة حول قيمة أشياء مثل الصدق، الصداقة، والضيافة، وما إلى ذلك)، وكذلك من خلال الجدل بأن "التنوع في المعتقدات الأخلاقية متوافق مع الموضوعية الأخلاقية، على حد سواء. لا يحتاج المرء إلى إنكار الحقيقة الأخلاقية الموضوعية "لمراعاة" التنوع الموجود، على اساس قد يكون لدى  بعض الثقافات فهم أفضل للحقيقة الأخلاقية من البعض الآخر، وقد يكون بعض البشر داخل ثقافات معينة في وضع أعلى من الآخرين في تلك الثقافات . فلا يجب أن تكون التبصرات أو الأفكار الأخلاقية موزعة بالتساوي تمامًا حتى تكون حقيقية. مثل هذه الحجج لموضوعية الخير ضد النسبية هي معروفة ومتداولة بين النفعيين (على الأقل بين أولئك الذين يرفضون وجهة نظرذاتية أو تفضيلية للخير)، و"العاطفيين"،وعلماء الطبيعة الأختزاليين، الكانطيين، ومنظري القانون الطبيعي، ويمكن أن ينظم المدافعين عن نظرية الأوامر الالهية الى هذا المجموعة.

أرى أنه من المثير للاهتمام بدلاً من مجرد انتقاد موقف ماكي أن ننظر في حججه، المعاد وضعها في سياق، يمكن اعتبارها فيه تقدم دعماً لنظرية الأوامر الإلهية. حجة الغرابة أو الفرادة المذكرة سابقا، على سبيل المثال، يمكن أن ينظر إليها على أنها تقطع طريقتين. إذا اعتقد المرء، كما فعل ماكي ، أنه ينبغي فهم العالم بطريقة طبيعية، فإن القيم والخصائص الأخلاقية الأخرى قد تبدو أجنبية أو غريبة حقًا. فللتركيز على الخصائص الأخلاقية (أو المتعلقة بالواجب والالتزام كمفاهيم أخلاقية) التي هي شاغلي الرئيسي، كيف يمكن للمرء أن يعتقد أو يفسر وجود التزامات أخلاقية حقيقية إذا كان الكون يتكون من جسيمات دون ذرية مكونة بطرق مختلفة فقط ؟ بينما لا تبدو القيم أو الالتزامات غريبة في  الكون الالهي، ففي مثل هذا العالم أساس كل الواقع الملموس هو كائن أخلاقي خير محض، وبالتالي ليس من المستغرب أن يكون العالم الذي خلقه الله تكون فيه الخصائص الأخلاقية "عميقة" وليست مجرد ظواهر سطحية. ويمكن إبداء ملاحظات مماثلة حول الحجة الإبستيمولوجية (المعرفية) التي يطرحها ماكي. إذا اعتقدنا أن البشر هم نتاج عملية تطورية غير موجهة ليس لها غايات في أفق  الحياة والعالم، فمن المؤكد أنه قد يبدو من الغريب أن البشر لديهم قدرات إدراكية تتيح لهم معرفة وفهم الخير والشر، والصواب والخطأ.[3] ومع ذلك، حتى عندما يقبل المرء التفسير العلمي للبشر كنتاج لعملية تطورية، تبدو الأمور مختلفة في عالم ثيولوجي- ايماني. فمن المعقول في مثل هذا العالم، أن نفترض أن الله قد خلق البشر ومنحهم مهمة أخلاقية. أن تكون إنسانيًا هو أن تشارك في رحلة، والهدف من الرحلة يتطلب التحول الأخلاقي. إذا كان هذا صحيحًا، فليس من المستغرب أن يتطور البشر بطرق منحتهم القدرات على تمييز ما هو صالح وما هو شر. في الخلاصة، إن حجة الغرابة التي يتبناها ماكي فعالة ضد وجهات النظر الميتا-أخلاق الطبيعية فقط. إن كل من الخصائص المعيارية والقدرات المعرفية البشرية لفهم مثل هذه الخصائص أمر متوقع إذا كان الله قد خلق العالم وابقاه.

ومن المثير للاهتمام أن ماكي نفسه يقدم رسمًا تخطيطيًا للدور الذي قد يلعبه الله في الأخلاق والذي يوازي بشكل وثيق  للتفسير الذي قدمنا عن نظرية الأوامر الالهية.[4] وقد كنا ناقشنا في  دراسة سابقة ( منشور في  صحيفة المثقف)  اعتراض أيوثيفرو القياسي على نظريات الأخلاق التي  تربط جذر الأخلاق بالله، يقترح ماكي  في هذا السياق أنه يمكن حل المعضلة التي يطرحها هذا الاعتراض إذا "فككنا أوفصًلنا" الصفات الأخلاقية ورأيناها مرتبطة بالله بطرق مختلفة.  يقول ماكي، قد نعتقد أن الله قد خلق البشر بطريقة تشير الى أن "هناك نوعًا واحدًا من الحياة هي الأنسب لهم، وأنها وحدها ستنمي قدراتهم الطبيعية ومن خلالها فقط يمكن أن يجدوا الرضا الكامل والأعمق".[5] تعني مثل هذه الحقائق و المواقف المتعلقة بالازدهار البشري ضمناً أن "قواعد  معينة من السلوك والتصرفات هي الأنسب والأكثر ملاءمة للحياة البشرية. ويبدو أن ماكي يأخذ في ألأعتبار نظرية القانون الطبيعي التي توفر سندا لنظرية الأوامر الالهية.[6]

ثم يواصل ماكي في الإشارة إلى أن أوامر الله قد تضيف بُعدًا جديدًا مهمًا لهذه الصورة: قد يطلب الله من البشر أن يعيشوا بهذه الطريقة المناسبة، وقد يفرض عليهم الطاعة للقواعد ذات الصلة. وهذا من شأنه أن يضيف عنصرًا أرشاديا موضوعيًا إلى الحقائق  في الواقع بطريقة غير غامضة تمامًا، وهي أوامرً صادرًاةعن سلطة محددة بالمعنى  الحرفي.[7]

بالطبع كان ماكي نفسه ملحدًا ولم يعتقد أن هذا التفسير صحيح، لأنه بالنسبة له ليس هناك إله يخلق نظاماً يرتيب وينمي الخير أو يقدم الأوامر التي توفر قوة ممهدة  لقواعد حول كيفية عيش متأصل فيه الخير. ومع ذلك، من المهم، كما أعتقد، أنه يعترف بأن مثل الرأي الذي يقول بوجود اله وأحكام الهية هو راي متماسك، وأن يصادق على أنه إذا كان هذا صحيحًا، فإن "المعضلة التي يمثلها اعتراض إيثيفرو سوف تنهار.[1] أيً يمكن للمرء أن يقول إن ماكي يقدم حجة مفادها أنه إذا كان هناك إله فإن نظرية الأوامر الالهية ستكون وجهة نظر قوية ومعقولة.

يمكن للمرء أن يرى أيضًا الطريقة التي توفر بها نظرية الخطأ نوعًا من الدعم غير المباشر لـنظرية الأوامر الالهية من خلال النظر في آراء نيتشه. أعلن نيتشه "موت الله"، وبالتالي قد يبدو حليفا للمدافع عن نظرية الأوامر الإلهية للألتزام الأخلاقي وذلك لأن نقد نيتشه للفلسفة الحديثة يأتي ، وخاصة الفلسفة الأخلاقية الحديثة من اقتناعه بأن النظام الأخلاقي الموضوعي، ولا سيما النظام الذي يعطينا التزامات لإظهار التعاطف مع الآخرين، سوف يتطلب وجود الله كأساس له معبرا عن ذلك في رايه :

تمتد كذبة "النظام الأخلاقي العالمي" عبر تطور الفلسفة بالكامل، وحتى الفلسفة الحديثة. وجواب السؤال ما معنى "النظام الأخلاقي العالمي"؟ هو أن هناك إرادة واحدة لله وثابته الى الأبد  فيما يتعلق بما يفعله البشر ومالا يفعلونه؛ ويمكن أن تقاس قيمة الفرد اي فرد من الناس بالمقدار الذي يطيع به الله.[8]

إن الأعتقاد بأن الله اساس الأخلاق (كما تم تصوره في الغرب)، ادى الى أن يقدم نيتشه نقدا قاسياً للأخلاقيين العلمانيين في عصره، الذين يعتقدون أنهم يستطيعون التمسك بأخلاق موضوعية بدون الله. والملاحظة التالية حول النفعية هي نموذجية في هذا السياق: تنقد النفعية أصل التقييمات الأخلاقية، لكنها تصدقها مثلما يفعل المسيحيون. كما لو أن الأخلاق يمكن أن تنجو عندما يكون الله الذي يفرضها غير موجود، أن الله  ضروري للغاية إذا كان الإيمان بالأخلاق هو الأساس.[9] يؤكد نيتشه هذه النقطة مشيرا الى أنه : "عندما تتخلى عن الإيمان المسيحي، فإنك تسحب البساط من تحت حقك في الأخلاق المسيحية أيضًا. [10]  لايعني نيتشه بالأخلاق المسيحية مجرد الأخلاق التي يدافع عنها المسيحيون، فمن وجهة نظره، إن الآراء الأخلاقية التي دافع عنها الأخلاقيون العلمانيون الأوروبيون في عصره ، بما في ذلك الماركسيون، هي في الأساس أشكال من الأخلاق المسيحية.

من الواضح أن نيتشه، مثل ماكي، كان ملحدًا وكان مجرد صديق لنظرية الأوامر الإلهية للأخلاق. فمن وجهة نظره، جذور معتقداتنا حول التزاماتنا الأخلاقية هي أوهام، أنها كاذبة تماماً. ومع ذلك، بالنسبة لأولئك غير القادرين أو غير الراغبين في التخلي عن الإيمان بالالتزامات الأخلاقية الموضوعية والراغبين في أخذ إمكانية وجود الله بجدية، يقدم نيتشه شهادة "شهادة غير ودية" تتطلب الألتزامات الأخلاقية الموضوعية الله ولا يكون لها معنى إلا إذا كان الله موجودًا. هنا أود فقط أن أشير إلى أن نيتشه يبدو مؤكدا  للأدعاء الشرطي القائل: لا يمكننا أن نفهم مثل هذه الالتزامات إلا إذا وجد الله.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.................................

[*] كنا قدمنا عرضا لهذا في مقال في صحيفة المثق وكذلك في دراستنا:  الربيعي، علي رسول، كيف يضمن الله الأخلاق،  مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، العدد69-70، 2018، 140- 158.

[1] Mackie, J. L., Ethics: Inventing Right and Wrong (London: Penguin Books,1977), pp. 48-9.

[2] للأطلاع على حجج ماكيMacki ، انظر الفصل الأول ، والملخص الذي يقدمه في الصفحة. 49.

[3] قدمت  Sharon Street حجة متطورة مفادها: يتعارض التفسير التطوري للنشوء البشري مع الواقعية الأخلاقية.  أنظر: "معضلة الداروينية لنظريات القيمة الواقعية".

Street, Sharon, "A Darwinian Dilemma for Realist Theories of Value," Philosophical Studies 127 (2006), 109--66.

وقدم David Enoch ردًا على Street من منظور طبيعي. أرى ربما يجعل السياق الإيماني رد اينوك اقوى بكثير.

Enoch, David, Taking Morality Seriously: A Defense of Robust Realism (Oxford: Oxford University Press, 201I).

[4]   د. الربيعي، علي رسول، كيف يضمن الله الأخلاق،  مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، العدد69-70، 2018، 140- 158.

د. الربيعي، علي رسول،الأوامر الالهية والقانون الطبيعي والفضيلة الأخلاقية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد، 71-72، 2020، 170-191.

[5] Mackie, J. L., Ethics: Inventing Right and Wrong,  pp. 230-2.

[6] د. الربيعي، علي رسول،الأوامر الالهية والقانون الطبيعي والفضيلة الأخلاقية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد، 71-72، 2020، 170-191.

[7] Mackie, J. L., Ethics: Inventing Right and Wrong,  p.231.

[8] Friedrich Nietzsche, The Anti-Christ (published with Twilight of the Idols), ed. Michael Tanner (London: Penguin Books, 1990), section 26.

[9] Friedrich Nietzsche,The Will to Power, trans. Walter Kaufmann and R. J.Hollingdale (New York; Random House,1968), p.147. Passage is from Book II, part II, section 253.

[10] Friedrich Nietzsche,The Antichrist, section l O.

 

في المثقف اليوم