أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: الفيلسوف وتاريخ الفلسفة

علي رسول الربيعيإذا كان من المهم التمييز بين تاريخ الفلسفة (ما فعله الفلاسفة) من تأريخ الفلسفة (ما يفعله مؤرخو الفلسفة) في سياق مناقشة قضية التفلسف وعلاقة الفلسفة مع تاريخها، فإنه من المهم بداية تقديم نظرة تصنيفية لتاريخ الفلسفة. هناك نظرتان مختلفتان لتاريخ. لدى مايكل فريد، في مقدمة مقالاته في الفلسفة القديمة، رواية توضح الطريقة التي دخلت بها دراسة الفلاسفة العظماء في الماضي في المناهج الفلسفية العامة في نهاية القرن الثامن عشر. وقال إن ذلك يعتمد على مفهوم تاريخ الفلسفة: حيث يتم عرض وفهم بعض الأسئلة التي تحدد المشروع الفلسفي بشكل أكثر وضوحا حتى تصبح إجابات هذه الأسئلة أكثر وضوحا، والتي ربما يكون من المفترض حتى أن هناك بعض من الآليات التي تضمن نوع من التقدم في تاريخ الفلسفة، لكي تكون مفهومة. أنظر:

Michael Frede, Essays in Ancient Philosophy (Oxford: Clarendon Press, 1987), p. XXV.

يقول فريد للأسف لا يزا، هذا المفهوم مؤثراً في بعض الأوساط ولا يزال الأعتقاد الخاطئ سارياً، وهو أنً الطريقة الصحيحة لفهم وتفسير فكر أرسطو كانت وستكون بمثابة خطوة حاسمة بأتجاه فهم الكانطية، أو أي نظام فلسفي لاحق قد نتبناه.

يمكن للمرء أن يستفيد من دراسة الفلاسفة العظماء في الماضي كنماذج تاريخية. لكن، وكما يؤكد فريد، أنه يختلف تمامًا عن دراسة تاريخ النصوص الفلسفية الذي تم إجراؤه بالطريقة التي يجب أو من المفترض أن يتم بها.

هناك معاني عديدة للفلسفة بأختلاف السن المتحدثين عنها، وهذا يسري على تاريخ الفلسفة الذي له ايضاً معاني مختلفة تعتمد على مايعتبره مؤرخ معين ضرورياً للفلسفة. كان هذا صحيحًا بالنسبة لأرسطو، الذي كان أول مؤرخ للفلسفة، وأيضا لهيجل، الذي كان يأمل في أن يكون الأخير. وكان لكل منهما وجهة نظر مختلفة نوعا ما عن طبيعة الفلسفة. لكن كلاهما، عندما شرحا آراء الفلاسفة السابقين - أرسطو في الميتافيزيقا مقالة الـ "ألفا"، وهيجل في محاضراته حول تاريخ الفلسفة - نظر لهما بوصفهما يمثلون خطوات بأتجاه رؤية كانوا يعتبرونها كانت غير مكتملة ومتعثرة.

هناك رأي عكس ذلك تماما، يقول، لا تزال جميع المشكلات الفلسفية الرئيسية موضع جدال بعد قرون من النقاش، وهي ليست أقرب في هذه المرحلة إلى أي حل نهائي. وأي شخص ينظر إلى الوراء عبر التاريخ الطويل للفلسفة لا بد أن يتساءل: هل تصل الفلسفة إلى أي مكان؟ هل تعلم الفلاسفة، رغم كل جهودهم على مر القرون، أي شيء؟ قارن فولتير علماء الميتافيزيقا بالراقصة الصغيرة التي تتحرك عبر غرفة في موقف رائع ورقيق، بحركة دائرية دائمة دون التقدم خطوة واحدة، وأنهم ينتهون عند النقطة نفسها التي انطلقتوا منها.

كتب فيتجنشتاين، في زمننا هذا:

تسمع دائمًا أن الناس يقولون إن الفلسفة لا تحقق أي تقدم وأن المشكلات الفلسفية نفسها التي كانت تشغل اليونانيين ما زالت تثيرأهتمامنا اليوم. لكن الناس الذين يقولون ذلك لا يفهمون السبب وراء ذلك. والسبب هو أن لغتنا ظلت على حالها ودائمًا ما تقودنا الى الأسئلة نفسها.. لقد قرأت الفلاسفة وهم ليسوا أقرب إلى معنى "الواقع" مما كان عليه أفلاطون.

Kenny, The Wittgenstein Reader (Oxford: Blackwell, I994), p. 2.73.

الفرق بين هذين الموقفين حول اللتقدم في الفلسفة - قد نسميها الأرسطي والآخر لفيتجنشتاين - يعبران عن رأين مختلفين حول اللفلسفة نفسها. الفلسفة هي تخصص غير عادي للغاية، يصعب تصنيفه. قد ينظر إليه كعلم، أو كفن.

اذا كان الفيلسوف، من ناحية، مثل العالم، هو بالتأكيد يسعى وراء الحقيقة. يبدو هناك اكتشافات تمت في سياق الفلسفة: أشياء معينة نفهمها لم يفهمها حتى أعظم فلاسفة الأجيال السابقة. وهكذا ينتمي الفيلسوف إلى عملية مستمرة، تعاونية، و تراكمية كما يفعل العالم؛ ويكون لدى الفيلسوف الطموح في أن يساهم في بناء صرح الفلسفة الكبير. وإذا كانت الفلسفة مثل العالم في هذا الصدد، فهناك التزام على الفيلسوف أن يستوفيه وهو القيام بمواكبة التفكير الجاري أو الحالي. وهذه مهمة ملحة، لأن مدة صلاحية مقال علمي تقدر بنحو خمس سنوات. وعليه تكون الفلسفة، من وجهة النظر هذه، مجال تراكمي يحل فيه العمل الحديث محل العمل السابق. لا شك أننا نقف على أكتاف الفلاسفة الآخرين والأكبر، لكننا نقف فوقهم.

يبدو للفلسفة، من ناحية أخرى، جاذبية الفنون والتخصصات الإنسانية. فبالتأكيد، الأعمال الفلسفية الكلاسيكية لا تنتهي بمرحلة تاريخية معينة، أنه تُقرأ مرة، ومثنى، وثلاث، ورباع،. بينما إذا كنا نريد أن نتعلم الفيزياء أو الكيمياء، فأننا لا نهتم لتاريخ هذا الحقل العلمي، إننا لا نقرأ هذه الأيام نيوتن أو فاراداي مثلا، في حين أننا في الأدب لانزال نقرأ هومر وشكسبير ليس فقط لمعرفة الأشياء الغريبة التي كانت في عقول الناس في تلك المناطق البعيدة وفي تلك الأيام . وينطبق الشيء نفسه على الفلسفة، فنحن نقرأ أفلاطون وأرسطو ليس فقط بروح من الفضول القديم كشئ أثري.

إن الفلسفة، من وجهة النظر هذه، هي أساسًا عبقرية، نتاج أفراد أستثنائين. فإذا رأى المرء أن الفلسفة في تاريخهاهي سلسلة من العقول الكبيرة، فليس هناك من معنى أن يحل كانط محل أفلاطون، أوأكثر يحل شكسبير محل هوميروس. يمكنك، طبقاً لهذا الرأي أن تدرس الفلسفة عن طريق قراءة ديموقريطس وكذلك عن طريق قراءة ديفدسون.

ليست الفلسفة علمًا، لأن التقدم في الفلسفة ليس مسألة توسيع المعرفة لاكتساب حقائق جديدة عن العالم. إنها مسألة فهم، بمعنى تنظيم ما هو معروف. نظرًا لأن الفلسفة مظلة شاملة لجميع المعارف، فهي كليًة في مجالها وتنظيم المعرفة التي يتطلبها هذا المجال أمر صعب للغاية لدرجة أن العبقري وحده هو الذي يستطيع القيام بذلك. لا يمكن إلا للعقل الاستثنائي أن يدرك تمامًا عواقب حجة أو استنتاج فلسفي أبسط. بالنسبة لنا جميعًا نحن المختصين والمهتمين في الفلسفة لسنا عباقرة، لذا فإن الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نأمل أن نتوصل بها إلى الأمساك بالفلسفة وفهمها هي الوصول إلى عقول بعض الفلاسفة العظماء في الماضي.

الفلسفة مثل العلوم الإنسانية، لها علاقة أساسية بالنصوص وأثار المؤلفين. ويتم تعريف الفلسفة كموضوع من قبل ممارسيها العظماء، لأنه لا يوجد لديها موضوع معين، ولكنها تمتلك الأساليب والمناهج المميزة. كان الناس الأولين الذين ندعوهم ونعترف بهم كفلاسفة، ما قبل سقراط، من العلماء، وكان العديد منهم أيضًا قادة دينيين. كان التمييز بين العلم والدين والفلسفة غير واضح في زمنهم، كما أصبح في القرون اللاحقة. كان هناك مرجل فكري، في القرن السادس، اختمرت فيه عناصر كل التخصصات المستقبلية. لقد نظر المؤمنون الدينيون والتلاميذ الفلسفيون وورثة العلم،في وقت لاحق، إلى هؤلاء المفكرين بوصفهم أسلاف لهم. لكن لم يفكر هؤلاء الفلاسفة في أنفسهم أنذاك على أنهم ينتمون إلى مهنة مشتركة يمكننا أن ندعي نحن الاستمرارية لها. كان أفلاطون هو الذي استخدم في كتاباته لأول مرة كلمة "فلسفة" في معنى قريب من معناه الحديث. يمكن لأولئك الذين نسميهم فلاسفة اليوم أن يدعوا بصدق أنهم ورثة أفلاطون وأرسطو. لكنهم يبقون مجموعة فرعية صغيرة من ورثتهم. أنهم ليس حاشية على أفلاطون. لكن كان أفلاطون الذي وضع جدول أعمالهم. ما يميزالفلاسفة في هذا الزمن عن الورثة الآخرين لليونانيين العظام، ومايخولهم استعمال اسمهم، على عكس الفيزيائيين والفلكيين والأطباء واللغويين، هو أنهم، أيً الفلاسفة، يتابعون أهداف أفلاطون وأرسطو بنفس المناهج التي كانت متاحة ومستعملة من قبل فلاسفة الأغريق هؤلاء بالفعل. وهذا هو السبب في أن التاريخ حميم للغاية مع الفلسفة، ولماذا الفلسفة مهمة جدا لمؤرخ الفلسفة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم