أقلام حرة

محمد سعد عبد اللطيف: العرضحالجي وعصر الاضمحلال!

كان في الماضي القريب يوجد شخصية الكاتب العمومي، أو ما يعرف بالعرضحال، يملك أسرار القرية أو الحي في المدينة، وكان يعرف أسرار القرية حتى القاع الخفي ويعرف أقنعة الناس جِيدًا. فكان العرضحال له صور كثيرة في المصالح الحكومية فيجلس أمام هذه المصالح، ويكتب لمن لا يجيد القراءة والكتابة من الأوراق المطلوبة لهم للجهة الحكومية، مقابل أجر رمزي، وخاصتَا

أمام الشهر العقاري والسجل المدني، والمحاكم وأقسام الشرطة، وجوازات السفر، فكان "الكاتب أو العرضحال" في القرية له دور كبير حيث كانت الغالبية من السكان من (الأميين) لا يجيدون القراءة والكتابة، فمنهم من كان يعمل في مواسم الحصاد بأجر رمزي، للكتابة علي أكياس القطن وعبوات الأرز والقمح قبل وزنها، وكانوا عبارة عن مساعدين للكاتب العمومي في الجمعيات الزراعية،، في هذه المواسم،، وكان هناك أشخاص متخصصون في كتابة عقود الشراء. والشراء والشراكة علي تربية الحيوانات.

وكتابة قائمة عفش الزواج. حتي الآن مقابل أجر رمزي، وهناك متخصصين في كتابة الشكاوى والبلاغات والتظلمات، كما كنا نسمي البعض' بأن قلمه يدخل السجن"، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود كان يجلس أمام الشهر العقاري في مدينتي المنصورة "العرضحالجي" ويضع وردة فوق قميصه ومجموعة من الأقلام من الحبر في الجيب العلوي، وبدأت تتلاشى هذه المهنة رغم أن مهنة الكاتب من المهن المهمة في العصر الفرعوني، فكان الكاتب في (المرتبة الرابعة) بعد فرعون، ومع نهاية القرن الماضي أصبح لمهنة المحاماة بدِيلًا عن الكاتب العمومي في كتابة العقود والشراكة حتى التظلمات والبلاغات بالطرق القانونية، ومع دخول ثورة المعلومات والاتصالات والتعاملات عن طريق شبكات الإنترنت، كشفت عن الأمية الجديدة من الطبقات المتعلمة، في عدم إمكانياتهم في التعامل مع الحداثة الجديدة، وقد استغل ذلك بعض المكاتب جهل العوام حتى من الطبقة المتعلمة. وقد ظهر ذلك بوضوح في حجز مواعيد للتطعيم ضد وباء كوفيدا 19، وفي جميع بعض المصالح التي طبقت الحجز والمواعيد عبر شبكات الإنترنت، ظهر العرضحالجي الجديد في صورة مودرن، في فتح مكاتب للحجز حتى وصل سعر تقديم خدمة الحجز أكثر من/ "10 الألف جنيه/ في حجز مواعيد لتقديم أوراق عقود العمل في قنصلية دولة مثل إيطاليا، حيث تم توظيف بعض الشباب لمراقبة روابط السفارات في فتح ساعات للحجز، وفي الوقت الحالي يستغلون جهل البعض من لديهم رعايا من العالقين في قطاع غزة بتقديم أوراق لرعايهم مقابل 60 ألف جنيه. علمًا أن وزارة الخارجية تتلاقي الطلبات مجّانًا في" إدارة شئون القنصليات وخدمة المواطنين علي مدار ال24 ساعة" تحت رعاية (السفير إسماعيل خيرت)، لقد كشفت هذه المشكلة عن تدني الوعي لدي طبقة عريضة عن الأحداث الجارية بالنسبة للعالقين على معبر رفح من الرعاية المصريين. حيث لا تستطيع مصر بفتح المعبر إلا بموافقة الجانب الإسرائيلي بعد تلقي أسماء العالقين من القنصلية المصرية في" رام الله" وابلغها للجانب الإسرائيلي بعد مراجعه الأسماء قبل الموافقة، وكان تصريح من النائب/سمير غطاس عضو مجلس الشيوخ المصري في لقاء متلفز منذ اسابيع. ومنذ يوم 7 /من أكتوبر حتى الآن لم يتم السماح لهم بالعودة، فكيف لنصاب أن يستغل جهل البعض على أنه يقوم بتسهيل المهمة وكأنه دولة داخل دوله...؟!

وفي نفس السياق كشفت هذه الأشياء من وجود طوابير أمام مكاتب للإنترنت في مدينتي المنصورة إمام مستشفيات جامعة المنصورة،، لحجز مواعيد للكشف الطبي عن ظاهرة انتشار الأمية في جميع المهن والتخصصات من حملة مؤهلات عليا، لقد كشف دور العرضحالجي الجديد سوء عورات كثيرة داخل المجتمع. ومع الاحترام لحفنة مثقفين، فالمثقف منتج معرفة ومشروع بديل، وليس عنصر سكون أو ولاء لغير الحقيقة، أن يشير إليها نحن بلد لا نفرق بين المتعلم وبين المثقف .وبين الاختصاصي وبين المفكر، ونسمي كل من يضع وردة فوق قميصه او بادج وقلم حبر في الجيب العلوي وحذاء يلمع وكتاب تحت الإبط، نسميه مُثقفًا، كما كنا نسمي العرضحالجي بأن قلمه يذبح الطير، مع أن العرضحالجي، أو الكاتب العمومي، كان رجُلًا بَسِيطًا لا يعرف الجشع ولا يستغل أمية البعض، ويقوم بدور جليل

وخدمي في بعض الأمور، نحن ثقافة مجترة بلا إنتاج معرفة،، وسياسة بلا ثقافة.

عندنا الكثير من العرضحا لجية والقليل جِدًّا من المثقفين، وفي زمن التفاهات والفرجة والتهريج، يختفي المثقف ليتصدر المشهد الجاهل النصاب وعندما تنهار الدول يكثر المنجمون والشحاذون والمنافقون والمدعون والكتبة والقوالون والمغنون النشازون والشعراء الناظمون. والمتصعلكون وضارب الودع والفنجان والمندل، وقارعوا الطبول والمتفقهين ، وقارئي الكف والطالع والنازل والمتسيسون والمداحون والهجاءون،، وعابرو السبيل والانتهازيين.

تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل. ليكشف لنا من يقوم بدور العرضحالجي في عصرنا عن تدني مستوى التعليم والثقافة،، وانتشار الأمية الثقافية السطحية حَقًا إن أخطر من الجهل الادعاء بالمعرفة.

***

محمد سعد عبد اللطيف

 كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

في المثقف اليوم